لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية للشيطان وَقالَ عطف على لعن أى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الدال على فرط عداوته للناس والتوصيف بهذا القول يدل على ان المراد بالشيطان إبليس فانه إذا أبى عن سجود آدم ولعنه الله قال وعزتك وجلالك لا أبرح اغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم كذا فى الصحيح من الحديث وهو المعنى من قوله تعالى لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) أى مقدرا قدر لى قال الحسن من كل الف تسعمائة وتسعا وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة قلت كذا ورد فى حديث بعث النار أو المعنى نصيبا مقطوعا عمن عداه يعنى جماعة أشقياء ممتازة من السعداء.
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم وتزيين الشهوات عندهم فنسبة الإضلال إليه انما هو بالمجاز عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يأتى الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربّك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته متفق عليه وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة ان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 239(1/1665)
لا بعث ولا عذاب وطول الحيوة وادراك الاخرة مع ارتكاب المعاصي عن انس قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم متفق عليه وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمة فاما لمة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحق وامّا لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من اللّه فليحمد الله ومن وجد الاخرى فليستعذ بالله من الشيطان الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ رواه الترمذي وقال حديث غريب وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ البتك القطع والشق والتبتيك للتكثير والتكرير أى ليقطعن ويشققن آذانَ الْأَنْعامِ وهى عبارة عما كانت تفعل بالبحائر قال قتادة والسدى كانوا يبتكون آذانها لطواغيتهم قال فى القاموس البحر الشق وشق الاذن ومنه البحيرة كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة ابطن بحروها أى شقوا اذنها وتركوها ترعى وحرموا لحمها إذا ماتت على نسائهم وأكلها الرجال وفيه اشارة إلى تحريم كل ما أحل الله وتنقيص كل ما خلق كاملا بالفعل أو بالقوة وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ عن وجهه صورة « 1 » أو صفة « 2 » ويندرج فيه فقوعين الحامى وخصاء العبيد والوشيم « 3 » والوشير « 4 » والمثلة واللواطة والسحق وعبادة الشمس والقمر والحجارة لانها ما وضعت لها واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا وتغيير فطرة الله التي هى الإسلام ، عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهود انه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء « 5 » هل تحسون فيها من جدعاء « 6 » ثم يقول فِطْرَتَ اللَّهِ
_________
((1/1666)
1) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعن اللّه الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلحات للحسن المغيرات خلق اللّه رواه احمد والشيخان عن ابن مسعود وروى احمد والشيخان عن ابن عمر عنه صلى اللّه عليه وسلم لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وروى احمد عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يلعن القاشرة والمقشورة والواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة منه رحمه الله
(2) عن ابن عمر ان عمر بن الخطاب كان ينهى عن اختصاء البهائم ويقول هل النماء الا فى الذكور وامّا خصاء البهائم فلا يأس به عند أبى حنيفة كذا فى الهداية كذا روى عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الحسن وروى ابن أبى شيبة وابن المنذر عن محمد بن سيرين والحسن لكن روى ابن أبى شيبة والبيهقي وابن المنذر ان عمر بن الخطاب كان ينهى عن خصاء البهائم وروى ابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صبر الروح واخصاء البهائم واخرج ابن أبى شيبة والبيهقي عن ابن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم وروى ابن أبى شيبة وغيره عن ابن عباس انه قال فيه نزلت وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس ولامرنهم ليغيرن خلق الله قال دين اللّه منه رحمه اللّه
(3) الوشم غرز الابرة فى البدن وذر النيلج عليه منه رح
(4) الوشر تحديد المرأة أسنانها وترقيقها منه رح
(5) جمعاء أى سليمة من العيوب مجتمعة الأعضاء كاملتها نهاية
(6) جدعاء أى مقطوعة الأطراف أو أحدها والجدع قطع الانف أو الاذن أو الشفة نهاية منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 240(1/1667)
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ متفق عليه يعنى لا تبدلوا خلق الله وجاز ان تكون هذه الجمل الخمس حكاية عمّا يأتيه الشيطان فعلا فحينئذ لا يختص هذا القول بإبليس ، برهن اللّه سبحانه على ان الشرك ضلال غاية الضلال بان ما تشركون به تعالى جمادات لا تضر ولا تنفع بل هى اسماء سميتموها بأسماء الإناث لا حقيقة لها وبان الإشراك طاعة للشيطان المريد المنهمك فى الشر والضلال لا يعلق بشىء من الخير والهدى وبانه ملعون لضلالته فلا يستجلب مطاوعته الا اللعن والضلال وبانه فى غاية العداوة للانسان والسعى فى إهلاكهم فموالات من هذا شأنه بعيد عن العقل ضلال غايته فضلا عن عبادته ثم حكم بما هو كالنتيجة لما سبق من البرهان فقال وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا ربّا يطيعه مِنْ دُونِ اللَّهِ بايثاره ما يدعوه إليه على ما امر اللّه تعالى فيه اشارة إلى ان عبادة اللّه بالاشراك غير مقبول عند اللّه تعالى بل هو عبادة لغير اللّه فقط ولا يجتمع عبادة اللّه مع عبادة غيره عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه وفى رواية فانا منه برئ وهو للذى عمله رواه مسلم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) حيث ضيع رأس ماله واشترى النار بالجنة.
يَعِدُهُمْ بالخواطر الفاسدة أو بلسان أولياءه ما لا ينجزه ويحتمل ان يتصور بصورة انسان ويعدهم كما فعل يوم بدر إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ(1/1668)
الاية وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الباطلة التي لا ينالونها من طول العمر ونيل الدنيا ونحو ذلك وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (120) باطلا وهو اظهار النفع فيما فيه الضرر واظهار الضرر فيما فيه النفع قال اللّه تعالى الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ يعنى بالإنفاق فى سبيل اللّه وصلة الرحم ويأمركم بالفحشاء.
أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) أى هربا أو مهربا فى القاموس حاص عنه يحيص حيصا وحيصة ومحيصا عدل وحاد وكلمة عنها حال منه وليس صلة لأنه اسم مكان أو مصدر فلا يعمل فيما قبله.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أى تحت قصورها وغرفها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 241
وعد الله وعدا وحق ذلك حقا فالمصدر الأول مؤكد لنفسه لان مضمون الجملة الاسمية وعد التي قبلها والثاني مؤكد لغيره ويجوز نصب الموصول بفعل يفسره ما بعده ووعد الله بقوله سندخلهم لأنه بمعنى نعدهم ادخالهم الجنة وعدا حقا على انه حال من المصدر وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) أى لا أحد جملة مؤكدة بليغة فى التأكيد والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه بوعد اللّه الصادق لاوليائه وجاز ان يكون جملة معترضة بالواو وفائدتها التأكيد أو معطوفة على محذوف أى صدق الله ومن اصدق من الله وجاز ان يكون عطفا على خالدين بتقدير القول أى وقائلين من اصدق واللّه اعلم أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قالت اليهود والنصارى لا يدخل الجنة غيرنا وقالت قريش انا لا نبعث فانزل اللّه تعالى.(1/1669)
لَيْسَ الأمر منوطا بِأَمانِيِّكُمْ يا أهل مكة حيث تقولون لا بعث ولا نشور وتقولون هؤلاء الأصنام شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ وتقولون ان كان الأمر كما يزعم اصحاب محمد لنكونن خيرا منهم واحسن حالا ويدل على كون الخطاب لاهل مكة سياق الآية وبه قال مجاهد وَلا الأمر منوطا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود والنصارى حيث يقولون نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ويقولون لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ، ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ بل امر النجاة والثواب وضدهما منوط بالايمان والأعمال الصالحة وضدّها ثم فصّل الجملة فقال مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً من الكفر والمعاصي يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يوصل إليه خيرا وَلا نَصِيراً (123) يدفع عنه شرا ، كلمة من عامة شاملة للمؤمن والكافر وان كان سبب النزول خاصا اعنى أماني الكفار من أهل مكة واهل الكتاب فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كذا ذكر البغوي قول ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهم ان الآية عامة فى حق كل عامل وقوله تعالى يجز به مقيد بعدم المغفرة كغيره من آيات الوعيد والجزاء يعم ما يصيبه فى الدنيا وما يصيبه فى الاخرة ان لم يغفر اللّه تعالى عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه بايعونى على ان لا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فاجره على الله ومن أصاب من ذلك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 242(1/1670)
شيئا فعوقب على ذلك فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه وقوله تعالى لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً لا يدل على ان هذا الحكم خاص بالكفار ولا يضر ذلك بالمؤمنين فان مولاهم الله تعالى كفى باللّه وليا وكفى باللّه نصيرا فيغفرهم اللّه تعالى ان شاء يشفع لهم الملائكة والأنبياء والصالحون بإذن اللّه تعالى ولا يطلبون من دون اللّه وليا ولا نصيرا وامّا الكفار فيطلبون الولاية والنصرة ممّا عبدوها دون اللّه تعالى فلا يجدونها لهم اولياء ولا أنصارا ويدل على عموم هذه الآية المؤمنين والكفار حديث أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزلت هذه الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أبا بكر الا اقرئك اية أنزلت عليّ قال قلت بلى قال فاقرانيها قال ولا اعلم انى وجدت انفصاما فى ظهرى حتى تمطيت لها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما لك ما لك يا أبا بكر فقلت يا رسول الله بابى أنت وامّى أينا لم يعمل سوءا وانا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما أنت وأصحابك المؤمنون فيجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا اللّه وليست لكم ذنوب وامّا الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا يوم القيامة رواه البغوي بسنده والترمذي وعبد ابن حميد وابن المنذر وأخرجه احمد وابن حبان والحاكم بلفظ قال أبو بكر فمن ينجو مع هذا فقال عليه السلام اما تحزن اما تمرض اما يصيبك البلاء قال بلى يا رسول الله قال هو ذلك وروى احمد والبخاري فى تاريخه وأبو يعلى والبيهقي نحوه عن عائشة وقال البغوي قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى اللّه عنهما لما نزلت هذه الآية شقت « 1 » على المسلمين وقالوا يا رسول اللّه وايّنا(1/1671)
لم يعمل سوءا غيرك فكيف الجزاء قال منه ما يكون فى الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوزى بالسيئة نقصت واحدة من عشر وبقيت له تسع حسنات فويل لمن غلبت احاده أعشاره وامّا ما كان جزاء فى الاخرة فيقابل من حسناته وسيئاته فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر فى الفضل فيعطى الجزاء فى الجنة فيؤتى كل ذى فضل
_________
(1) وعن محمد بن المنتشر قال قال عمر لبثنا حين نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ما ينفعنا طعام ولا شراب حتى انزل اللّه بعد ذلك ورخص وقال وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 243(1/1672)
فضله « 1 » واللّه اعلم قلت ما ذكرنا تخريج ابن أبى حاتم عن ابن عباس فى سبب نزول قوله تعالى ليس بامانيّكم هو الظاهر من حيث الرواية والدراية ولكن روى له سبب اخر أيضا أخرجه ابن جرير عن مسروق مرسلا ونحوه عن قتادة والضحاك والسدىّ وعن ابن عباس من طريق العوفى ان قوله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى تفاخر النصارى واهل الإسلام وفى لفظ تفاخر أهل الأديان جلس ناس من اليهود وناس من النصارى وناس من المسلمين فقال هؤلاء نحن أفضل وقال هؤلاء نحن أفضل قال البغوي قال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن اولى بالله منكم وقال المسلمون نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضى على الكتب وقد أمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن اولى وعلى هذا الخطاب فى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مع المؤمنين ولا خفاء حينئذ فى عموم قوله تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً - واخرج ابن جرير أيضا عن مسروق وكذا ذكر البغوي عن الأعمش عن ابن الضحى عنه انه قال لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت هذه الآية .
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعنى بعضها وشيئا منها بدليل قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى فى موضع الحال من المستكن فى يعمل ومن لتبيين الإبهام أو فى موضع الحال من الصّالحات أى كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء واو على التأويلين فيه تأكيد بشمول الحكم فى مَنْ يَعْمَلْ قال بعض الأفاضل فى تبيين العامل بالذكر والأنثى توبيخ للمشركين فى إهلاكهم إناثهم وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال من المستكن فى يعمل قيد جزاء الحسنات بشرط الايمان ولم يقيد جزاء السيئات بشرط الكفر لان كل سيئة صغيرة كانت أو كبيرة غير مرضية للّه منهية فاتيانها يقتضى العقاب ان لم يتداركه المغفرة(1/1673)
_________
(1) واخرج ابن أبى شيبة واحمد والبخاري ومسلم عن أبى هريرة وابى سعيد انهما سمعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم بهم الا كفر اللّه به من سيئاته وفى الصحيحين وغيرهما عن عائشة نحوه واخرج ابن إلى الدنيا والبيهقي عن بريدة الأسلمي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما أصاب رجلا من المسلمين نكبة فما فوقها حتى ذكر الشوكة الا لاحد خصلتين الا ليغفر اللّه من الذنوب ذنبا لم يكن يغفر له الا بمثل ذلك أو يبلغ به من الكرامة كرامة لم يبلغها الّا بمثل ذلك ، واخرج ابن سعد والبيهقي عن أبى فاطمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال والذي نفسى بيده ان الله ليبتلى المؤمن وما يبتليه الّا لكرامة عليه وان العبد لتكون له الدرجة فى الجنة لا يبلغها بشىء من عمله حتى يبتليه بالبلاء ليبلغ به تلك الدرجة وروى البيهقي عن أبى هريرة نحوه منه رحمه اللّه - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 244(1/1674)
و لذلك عمّ الوعيد على السيئات للفريقين المؤمنين والكفار وامّا الحسنات فلا يعتد بشىء منها ما لم يقترن بالايمان لان اعمال الكفار ليست خالصة للّه تعالى وما ليس بخالص له تعالى فهو شرك ومعصية وليست بحسنة فان قيل فعلى هذا لا حاجة إلى هذا القيد لان عنوانها بالصالحات يغنى عنه فان اعمال الكفار ليست من الصالحات فى شىء قلنا نعم لكن قيد بذلك للتصريح ودفع توهم الكفار ان من أعمالهم ما هو حسنة كالنفقات وصلة الأرحام ونحو ذلك فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وان كانوا فساقا ماتوا بلا توبة امّا بمغفرة ذنوبهم أو بعد جزاء سيئاتهم قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو عمرو وأبو بكر يدخلون بضم الياء وفتح الخاء على البناء للمفعول هاهنا وفى سورة مريم وحم المؤمن وزاد أبو عمرو يدخلونها فى سورة فاطر والباقون على البناء للفاعل ، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) أى مقدار النقير وهو النقرة التي تكون فى ظهر النواة وهذه الآية بعبارته تدل على عدم تنقيص ثواب المطيع وبالدلالة بالطريق الاولى على عدم الزيادة فى عذاب العاصي لان الأذى فى زيادة العذاب أشد منه فى تنقيص الثواب فإذا لم يرض ارحم الراحمين بهذا فكيف يرضى باشد منه وقال بعض الأفاضل لترك هذا القيد فى قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً(1/1675)
وجه « 1 » اخر وهو ان مقام تهديد الكافر لتنفيره عن الشرك يقتضى تركه هناك ومقام ترغيب المؤمن بالعمل الصالح والمواظبة على الانقياد يقتضى ذكره هاهنا قلت وعندى ان معنى قوله تعالى وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً انه لا ينقص أحد من ثواب طاعاته ولا يزاد أحد على عقاب سيئاته ولما كان قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ شاملا لجميع المؤمنين الصلحاء والفساق لان الفاسق أيضا لا يخلو عن إتيان عمل صالح أدناه شهادة ان لا اله الا اللّه وهو أعلى شعاب الايمان ففى هذه الآية بشارة للفريقين من المؤمنين المطيعين والعصاة بالأمرين حميعا عدم تنقيص الثواب وعدم زيادة العذاب وامّا قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
و ان كان شاملا للفريقين المؤمنين والكفار وكان الفساق من المؤمنين داخلين فى كلا الآيتين لكن لما كان جزاء سيئات الكفار غير متناه لعدم تناهى قبح الكفر باللّه فكان زيادة العذاب على سيئات الكفار غير متصور لاستحالة الزيادة على ما لا تناهى له أو يقال يجوز الزيادة فى عذاب الكفار على سيئاتهم قال اللّه تعالى زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ فلذلك لم يذكر هذه الجملة هناك كيلا
_________
(1) فى الأصل وجها اخر -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 245(1/1676)
يكون بشارة للكفار فان قيل الظلم قبيح وان كان فى حق الكفار واللّه سبحانه منزه عن القبائح فكيف يجوز الزيادة على عذاب الكافر قلنا الظلم عبارة عن التصرّف فى غير ملكه واللّه سبحانه مالك الملك يتصرّف فى ملكه كيف يشاء فلو عذب العالمين بغير جرم لا يكون منه تعالى ظلما وقوله تعالى لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً وأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ مبنى على التجوز معناه ان اللّه سبحانه لا يفعل بالمؤمنين ما لو فعله بهم غيره تعالى يعد ظلما واللّه اعلم ذكر البغوي عن مسروق انه قال لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ الآية قال أهل الكتاب نحن وأنتم سواء فنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ كما ذكر سابقا ونزلت ايضا.(1/1677)
وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعنى أخلص نفسه لله بحيث لا يكون لقلبه تعلقا علميا ولا حبيا بغيره تعالى ويكون نفسه وقلبه وقالبه منقادا لاوامره تعالى منتهيا عن مناهيه لا يثبت لنفسه ولا لغيره فى دائرة الإمكان لشىء من الأشياء وجودا متاصلا فضلا من اتخاذه معبودا أو محبوبا أو موجودا بوجود مستقل بنفسه وفى هذا الاستفهام اشارة إلى ان ذلك غاية مبلغ الكمال وَهُوَ مُحْسِنٌ ات بالحسنات تارك للسيئات متصف بدوام الحضور والإخلاص قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فى حديث سوال جبرئيل ما الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك متفق عليه من حديث عمر رضى الله عنه وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ خصّ ابراهيم عليه السّلام بالذكر مع ان دين الأنبياء كلهم واحد وهو صرف نفسه وأعضائه وقواه ظاهرا وباطنا فى مرضات اللّه تعالى مشتغلا به تعالى معرضا عن غيره تعالى لاتفاق جميع الأمم على كونه نبيا حقا حميدا فى كل دين ولكون دين الإسلام موافقا لشريعة ابراهيم عليه السلام فى كثير من فروع الأعمال كالصلوة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج والختان وحسن الضيافة وغير ذلك من كلمات ابتلاه اللّه تعالى بها فاتمهن حَنِيفاً حال من ابراهيم أو من الملة أو من المستكن فى واتبع يعنى مستقيما على الطريق الحق مائلا عن الطرق الباطلة وصف ابراهيم به لأنه استقام على الإسلام واعتزل عن عبادة الأصنام مع ما كان أبوه وقومه عاكفين على عبادتهن وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا (125) صديقا صافى المحبة والخلة مشتق من الخلال فانه ودّ يخلل النفس ويخالطها وقيل من الخلل فان كل واحد من الخليلين يسد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 246(1/1678)
خلل الاخر وقال الزجاج الخليل الذي ليس فى محبته خلل أو من الخل وهو الطريق فى الرمل فانهما يتوافقان فى الطريق أو من الخلة بمعنى الخصلة فانهما يتوافقان فى الخصال وقيل هو من الخلة بمعنى الحاجة فان كل واحد من الخليلين يحتاج إليه صاحبه قيل سمى ابراهيم خليلا أى فقيرا إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته الّا إلى « 1 » اللّه تعالى روى عنه عليه السّلام انه لما القى إلى النار جاءه جبرئيل فقال هل لك حاجة قال امّا إليك فلا فقال سل ربك قال حسبى عن سوالى عمله بحالي فان قيل لا يستقيم هذا المعنى فان قوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يقتضى الخلة من الجانبين ولا يتصور الحاجة من الجانبين قلنا قد عرفت فى مبدا الكتاب ان اسماء اللّه تعالى وصفاته يؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي فانه تعالى رحمن رحيم وهما مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضى للتفضل والإحسان فاطلاقهما عليه سبحانه باعتبار التفضل والإحسان لا باعتبار رقة القلب إذ هو منزه عن القلب ورقته فكذا اطلاق الخلة عليه سبحانه باعتبار صفاء المحبة المبنى على الحاجة فى غيره تعالى لا باعتبار الحاجة تعالى عن ذلك علوّا كبيرا وقوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة معترضة لا محل لها من الاعراب وفائدتها التأكيد فى وجوب اتباع ملته لان من بلغ من اللّه منزلة اتخذه اللّه خليلا كان جديرا بالاتباع قال المجدّد رضى اللّه عنه الخليل هو النديم الذي يعرض المرء عليه اسرار محبّه ومحبوبه أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم فى تفاسيرهم عن زيد بن اسلم قال ان اوّل جبار كان فى الأرض نمرود وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام فخرج ابراهيم عليه السلام يمتار مع من يمتار فإذا مرّ به ناس قال من ربّكم قالوا أنت حتى مرّ ابراهيم فقال من ربّك قال رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ(1/1679)
أُمِيتُ قالَ ... فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فرده بغير طعام فرجع ابراهيم
_________
(1) فكان يعطى ولا يأخذ ولا يتوجه إلى أحد غيره تعالى أخرج البيهقي فى الشعب عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا جبرئيل لم اتخذ اللّه ابراهيم خليلا قال لا طعامه الطعام يا محمد واخرج ابن المنذر عن ابن أبزى انه سال ابراهيم ملك الموت باىّ شىء اتخذني ربى خليلا قال بانك تحب ان تعطى ولا تأخذ واخرج الديلمي عن أبى هريرة نحوه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وسنده واه وعن زبير بن بكار قال اوحى اللّه إلى ابراهيم أ تدري لم اتخذتك خليلا قال لا يا رب قال لانى اطلعت على قلبك فوجدتك تحبّ ان ترزا ولا ترزا يعنى تعطى ولا تعطى منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 247(1/1680)
الى اهله فمرّ على كثيب من رمل اعفر فقال الا أخذ من هذا فاتى به أهلي تطيب نفوسهم حين ادخل عليهم فاخذ منه فاتى اهله فوضع أشياءه ثم نام فقامت امرأته ففتحته فإذا هى بأجود طعام راه أحد فصنعت له منه فقربته إليه وكان عهده باهله انه ليس عندهم طعام فقال من اين هذا قالت من الطعام الذي جئت به فعرف ان اللّه رزقه فحمد الله واخرج ابن أبى شيبة فى المصنف عن أبى صالح قال انطلق ابراهيم عليه السّلام يمتار فلم يقدر على الطعام فمر بسهلة حمراء و « 1 » أخذ منها ثم رجع إلى اهله فقالوا ما هذا قال حنطة حمراء ففتحوها فوجدوها حنطة حمراء فكان إذا زرع منها شىء خرج سنبلة من أصلها إلى فرعها متراكما وذكر البغوي انه قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس كان ابراهيم عليه السلام أبا الضيفان وكان منزله على ظهر الطريق يضيف من مر به من الناس فاصاب الناس سنة فحشروا إلى باب ابراهيم عليه السلام يطلبون الطعام وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي بمصر فقال خليله لغلمانه لو كان ابراهيم انما يريده لنفسه لاحتملنا ذلك له فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة فرجع رسل ابراهيم عليه السّلام فمروا ببطحاء فقالوا لو انا حملنا من هذه البطحاء لبزى الناس انا قد جئنا بميرة فانا نستحيى ان نمر بهم وإبلنا فارغة فملئوا تلك الغرائر سهلة ثم أتوا ابراهيم فاعلموه وسارة نائمة فاهتم ابراهيم لمكان الناس ببابه فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار فقالت سبحان الله ما جاء الغلمان قالوا بلى قالت فما جاءوا بشىء قالوا بلى فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود خوارى تكون فامرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ ابراهيم عليه السلام فوجد ريح الطعام فقال يا سارة من اين هذا قالت من عند خليلك المصري فقال هذا من عند خليلى الله قال فيومئذ اتخذ اللّه ابراهيم - (فائدة : ) ولما كان نبينا سيد(1/1681)
الأنبياء صلى الله عليه وسلم ارفع درجة من مقام الخلة حيث كان مستقرا فى مقام المحبوبية الصرفة وكان مروره صلى اللّه عليه وسلم على مقام الخلة كعابر سبيل سمى نفسه لذلك العبور والمرور خليلا حيث قال لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكنه أخي وصاحبى وقد اتخذ اللّه صاحبكم خليلا رواه مسلم من حديث ابن مسعود
_________
(1) فى الأصل إذا أخذ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 248(1/1682)
و قال لو كنت متخذا خليلا غير ربى لاتخذت أبا بكر خليلا متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري وقال الا وصاحبكم خليل اللّه رواه الترمذي عن أبى هريرة واخرج الحاكم وصححه عن جندب انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول قبل ان يتوفى ان الله اتخذني خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا واخرج الطبراني عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه اتخذ ابراهيم خليلا وان صاحبكم خليل اللّه وان محمّدا سيد بنى آدم يوم القيامة ثم قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً « 1 » لكن لاجل غدم استقراره فى هذا المقام لعلو شأنه وعدم اقتضاء المحبوبية بعد ما ارتفع عن هذا المقام غير انه كان طالبا لحصول ذلك المقام بالتفصيل لبعض اتباعه حتى يكون ذلك التفصيل معدودا فى كماله بناء على ان كمالات الاتباع بنذ من كمال المتبوع قال العلماء من أهل السنة بالإجماع فى كتب اصول الدين كرامات الأولياء معجزات لنبيه وقال عليه السلام من سنّ سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء وقال عليه الصلاة والسلام الدال على الخير كفاعله ويرشدك ما روينا ان اعمال الامة وكمالاتهم داخلة فى اعمال النبي صلى اللّه عليه وسلم وكماله ولطلب ذلك التفصيل له ولاتباعه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الصلاة المأثورة اللهم صل على محمّد وال محمّد كما صليت على ابراهيم وعلى ال ابراهيم فاستجاب اللّه تعالى هذا الدعاء واعطى بعد الف سنة ذلك للمجدد رضى اللّه عنه فاستقر فى مقام الخلة واتصف بتفصيله ولم يتيسر ذلك قبله رضى الله عنه لاحد اما لرفعة شأن بعض السّابقين من أكابر الصحابة وائمة أهل البيت الذين رسخوا فى مقام المحبوبية الصرفة بتبعية النبي صلى اللّه عليه وسلم واما لعدم وصولهم إلى تلك المقام ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال رسول اللّه(1/1683)
صلى اللّه عليه وسلم مثل أمتي كمثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره أو كحديقة اطعم فوجا منها عاما وفوجا منها عاما لعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا رواه رزين
_________
(1) أخرج الترمذي وابن مردوية عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه وسلم قال ابراهيم خليل اللّه وهو كذلك الأواني حبيب الله ولا فخر وانى اوّل شافع واوّل مشفّع ولا فخر وانا اوّل من يحرك حلق الجنة فيفتحها اللّه فيدخلنيها ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر وانا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر واخرج ابن جرير والطبراني عن ابن عباس قال ان اللّه اصطفى ابراهيم بالخلة واصطفى موسى بالكلام واصطفى محمّدا بالرؤية منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 249(1/1684)
من حديث جعفر بن محمّد وهذا امر ثبت بالكشف الصحيح ولا علينا لو أنكره أحد وانما كلامنا مع من يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ « 1 » وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وانما ذكرت هذا الكلام لان بعض قاصرى الافهام كانوا يعترضون على كلام المجدد رضى اللّه عنه فى هذا المقال ويزعمونه مستحيلا وكفرا والإنسان عدو لما جهل وبما ذكرنا لك اتضح ان هذا القول دعوى امر ممكن يقتضى الحسن الظنّ بالاكابر قبوله أو السكوت عنه وكان من الناس من يقول لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ فقال الله تعالى أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ وكان من الناس من يقول ا انزل « 2 » عليه الذّكر مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ قال اللّه تعالى سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ولا يلزم من رسوخ بعض أكابر الصحابة وائمة أهل البيت فى مقام المحبوبية الصرفة فضلهم على ابراهيم عليه السلام لان وصول الصحابة والائمة إلى مقام المحبوبية كان بالتبعية والوراثة وما كان لابراهيم عليه السلام كان بالاصالة وشتان ما بينهما وما ذكرنا من استقرار المجدد رضى اللّه عنه فى مقام الخلة لا ينافى ترقياته « 3 » من ذلك المقام وسيره وعبوره بالتبعية والوراثة إلى مقام المحبوبية الصّرفة فان السير والعبور غير الاستقرار والمقام والله اعلم.(1/1685)
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا تقديم الظرف لقصد الحصر يعنى ليس لاحد غيره تعالى دخل فى خلق شىء من الممكنات وملكه وانما خص ذكر ما فى السموات وما فى الأرض لظهورهما وهذه الجملة متصلة بقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ تعليل له يعنى إذا كان جميع الأشياء خالصا للّه تعالى فالواجب على كل أحد تخليص وجهه لله تعالى أو هى متصلة بقوله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا يعنى انه له تعالى ما فى السموات وما فى الأرض يختار منها ما يشاء ومن يشاء أو هى متصلة بذكر الأعمال مقرر بوجوب طاعته على أهل السموات والأرض وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126) احاطة لا كيف لها يعنى ليس شىء من الأشياء مستقلا بنفسه بل كل شىء موجود بوجوده محتاج إليه فى ذاته
_________
(1) فى الأصل هدى الله.
(2) وفى القرآن أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ إلخ فى سورة القمر.
(3) ومى تواند كه گفته شود كه ترقى در مقام خلّت كه حاصل بود خواسته باشند پس فرمودند طلب صلوة رحمت وخلت كه حضرت ابراهيم عليه السلام بان امتياز دارند بخواهيد وامة مامور شده بدعاء ترقى در مرتبه خلت وظاهر است كه حصول آن از بعضى كم هست از بعضى زياده وپيداست كه درجات قرب حضرت حق سبحانه يا بجذب فضل أو سبحانه هست يا باعمال مرضيه خودشان يا باعمال مرضيه صالحان امت است الدال على الخير كفاعله وگفته اند كه بعضى معانى بر دلهاء عارفان مى آيند ألفاظ وعبارت از ان قاصر مى بود پس سكوت اولى منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 250(1/1686)
و صفاته وأفعاله مشمول بعواطفه وافضاله فلا يجوز لاحد الا ان يسلم وجهه خالصا له وقيل محيط احاطة علم وقدرة فيجازيهم على حسب أعمالهم ان خيرا فخيرا وان شرّا فشرّا واللّه اعلم أخرج الحاكم فى المستدرك عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود حتى يكبر ولا يورثون المرأة فلما كان الإسلام قال الله تعالى.(1/1687)
وَ يَسْتَفْتُونَكَ أى يستخبرونك فى الصحاح الفتوى الجواب عما يشكل من الاحكام فِي النِّساءِ أخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال كان الرجل الذي قد بلغ لا يورث الصغير ولا المرأة شيئا فلما نزلت المواريث فى سورة النساء شق ذلك على الناس وقالوا يرث الصغير والمرأة كما يرث الرجل فسالوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية وكذا أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد وقال البغوي قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية فى بنات أم كحة وميراثهن عن ابيهن وقد مضت القصة فى اوّل السورة « 1 » وروى البخاري عن عائشة فى هذه الآية قال هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها قد شركته فى ماله فيعضلها قال البغوي فيرغب عنها ان يتزوجها لدمامتها ويكره ان يزوج غيره فيدخل عليه فى ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها فنهاهم اللّه عن ذلك وفى رواية عنها قالت هى اليتيمة فى حجر الرجل وهو وليها فيرغب فى نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال باقل من سنة صداقها وإذا كانت مرغوبا عنها فى قلة المال والجمال تركها قُلِ يا محمد اللَّهُ يُفْتِيكُمْ يبيّن لكم حكمه فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الموصول معطوف على اسم الله أو ضميره المستكن فى يفتيكم وجاز للفصل يعنى يفتيكم اللّه فيهن ويفتيكم فيهن كتابه « 2 » يعنى اية الميراث أو قوله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ونحو ذلك وجاز ان يكون الجملة معترضة لتعظيم المتلوّ عليهم على ان الموصول مبتدا وفى الكتاب خبره والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ ويجوز ان ينصب الموصول بفعل محذوف على معنى ويبيّن لكم ما يتلى عليكم أو يخفض على القسم كأنَّه قيل واقسم بما يتلى عليكم فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق بيتلى ان عطف الموصول على ما قبله أو كان الموصول منصوبا أو مجرورا أى يتلى عليكم
_________
((1/1688)
1) أخرج القاضي إسماعيل فى احكام القرآن عن عبد الملك بن محمد بن حزم ان عمرة بنت حزم كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها بأحد وكانت له منها ابنة فانت النبي صلى اللّه عليه وسلم تطلب ميراث أبيها ففيها نزلت ويستفتونك فى النّساء منه رحمه اللّه
(2) وروى البخاري ومسلم عن عائشة انها قالت الذي ذكر اللّه اية يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ الآية الاولى التي قال اللّه وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الآية منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 251(1/1689)
فى شأنهن والا فبدل من فيهن أو صلة اخرى ليفتيكم على معنى يفتيكم فيهن بسبب يتامى النساء كما فى قوله عليه السلام « 1 » دخلت امراة النار فى هرة والاضافة بيانية لان المضاف إليه جنس المضاف اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أى ما فرض من الميراث والصداق وغير ذلك من الحقوق وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعنى فى ان تنكحوهن إذا كن جميلات أو عن ان تنكحوهن إذا كن دميمات روى ابن المنذر عن الحسن وابن سيرين فى هذه الآية قال أحدهما ان ترغبوا فيهن وقال الاخر ان ترغبوا عنهن واخرج ابن أبى شيبة عن الحسن ان ترغبوا عنهن والواو اما للعطف أو للحال وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء فانهم كانوا لا يورثونهم كما ذكرنا ويأكلون أموالهم أى ما يتلى عليكم فى اليتامى وذلك قوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ - وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ بالعدل فى ميراثهم وأموالهم أيضا عطف على يتامى النساء يعنى يتلى عليكم فى ان تقوموا لليتامى بالقسط هذا إذا جعل فى يتامى النساء متعلقا بيتلى وان جعلته بدلا فالوجه نصبها عطفا على موضع فيهن ويجوز نصب ان تقوموا بإضمار فعل أى ويأمركم أيها الائمة أو أيها الأولياء ان تقوموا لليتامى بالعدل والانصاف وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فى حق النساء واليتامى وغير ذلك فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) فيثيبكم عليه روى البخاري وأبو داود والحاكم عن عائشة والترمذي مثله عن ابن عباس انه توقعت سودة ان يفارقها النبي صلى اللّه عليه وسلم فسالت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسنت فقالت يومى لعائشة فانزل اللّه تعالى.(1/1690)
وَ إِنِ امْرَأَةٌ مرفوع بفعل مضمر يفسّره ما بعده أى خافَتْ وجاز ان يكون خافت صفة والمقدر كانت تقديره وان كانت امراة خافت يعنى توقعت مِنْ بَعْلِها مكروها يعنى نُشُوزاً أى ترفعا عن صحبتها كراهة لها يعنى خافت ان يطلقها لما ظهر لها ذلك بالأمارات أَوْ إِعْراضاً بوجهه عنها بان يقل مجالستها ومحادثتها ويمنعها عن حقوقها وهى تريد ان لا يطلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا أصله ان يتصالحا أبدلت التاء صادا وأدغمت كذا قرأ أكثرهم وقرا الكوفيون يصلحا بضم الياء وسكون الصاد من أصلح بَيْنَهُما بان تحطّ المرأة بعض المهر أو كله أو النفقة أو نصيبها من القسم أو تهب له شيئا
_________
(1) فى الأصل وفى النقول كما فى قوله تعالى دخلت امراة إلخ وهو وهم لعله من الناسخ 2 بو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 252(1/1691)
تستميله به إليها قال البغوي يقول الزوج انك قد دخلت فى السن وانى أريد ان أتزوج امراة شابة جميلة اوثرها عليك فى القسم ليلا ونهارا فان رضيت بهذا فاقيمى وان كرهت خلّيت سبيلك فان رضيت كانت هى المحسنة ولا تجبر على ذلك وان لم ترض بدون حقها كان على الزوج ان يوفيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان فان أمسكها ووفاها حقها مع كراهة فهو المحسن وقال مقاتل بن حبان هو ان الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة فيقول للكبيرة أعطيك من مالى نصيبا على ان اقسم لهذه الشابة اكثر مما اقسم لك فترضى بما اصطلحا عليه فان أبت ان ترضى فعليه ان يعدل بينهما فى القسم وعن على رضى اللّه عنه فى هذه الآية قال تكون المرأة عند الرجل فتبنو عينه عنها من دمامة أو كبر فتكره المرأة فرقته فان أعطته من مالها فهو له حل وان « 1 » أعطته من أيامها فهو حل له وفى كلمة بينهما اشارة إلى ان الأحب ان يتصالحا من غير مدخلية ثالث لئلا يطلع غيرهما على ما بينهما ممّا يعاب صُلْحاً منصوب على المصدرية والمفعول به بينهما أو هو محذوف قيل انما يتم نصبه على المصدرية لو جاء الصلح بمعنى الإصلاح والتصالح قلنا كون الصلح فردا للاصلاح يكفى فى جعله مصدرا على انه جاز ان يكون المصدر من غير بابه كما فى قوله تعالى أنبته « 2 » اللّه نباتا وعلى القراءة الثانية جاز ان ينتصب صلحا على المفعول به على ارادة ان يوقعا بينهما صلحا خاليا عن الفساد ويستفاد من هذه الآية بالدلالة انه لو خاف الرجل نشوز المرأة لا جناح عليهما فى الإصلاح أيضا ويحتمل ان يجعل هذا الحكم تحت قوله تعالى وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من الخصومة أو من سوء المعاشرة أو المعنى الصلح خير من الخيرات يعنى من جملتها كما ان الخصومة شر من جملة الشرور وهذه الجملة معترضة لدفع توهم الكراهة التي تستفاد من قوله لا جناح فانه لنفى الإثم ولان إعطاء المرأة شيئا من حقها تشابه(1/1692)
الرشوة وهذه الآية وان كانت واردة فى المصالحة بين الزوجين لدفع الخصومة الواقعة لحقوق النكاح لكن اللفظ عام يشتمل كل صلح واقع بعد دعوى صحيح وذلك على ثلاثة اضرب صلح مع اقرار وصلح مع سكوت وصلح مع انكار وكل ذلك جائز عند الائمة الثلاثة لاطلاق هذه الآية وقال الشافعي لا يجوز الصلح مع انكار وسكوت لقوله صلى اللّه عليه وسلم كل صلح جائز بين المسلمين الا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا والمسلمون على شروطهم الا شرطا حرم حلالا رواه الحاكم عن كثير بن عبد الله بن عوف
_________
(1) ليس فى الأصل وان أعطته من أيامها فهو حل له -
(2) وفى القرآن وأنبتها نباتا حسنا -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 253(1/1693)
عن أبيه عن جده وجه الاستدلال ان البدل كان حلالا على الدافع حراما على الاخذ فينقلب الأمر ولان المدعى عليه يدفع المال لقطع الخصومة وهذا رشوة قال الائمة الثلاثة هذا الحديث حجة لنا لا علينا لاطلاق قوله صلى اللّه عليه وسلم كل صلح جائز ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم الا صلحا أحل حراما بعينه كالخمر أو حرم حلالا بعينه كما ان يصالح امرأته على ان لا يطأ ضرتها ا لا ترى ان الرجل إذا أراد ان يطلق امرأته والمرأة صالحته على ان لا يطلقها وتترك قسمها لضرتها جاز اجماعا حيث أسقطت حقها مع ان ترجيح بعض النساء فى القسم كان حراما ثم صار حلالا بعد رضائها والصلح بعد السكوت أو الإنكار صلح بعد دعوى صحيح فيقتضى بجوازه لان المدعى يأخذ عوضا عن حقه فى زعمه وهذا مشروع والمدعى عليه يدفع لدفع الخصومة عن نفسه وهذا مشروع أيضا إذ المال وقاية للانفس ودفع الرشوة لدفع الظلم امر جائز غير ان من علم ان عليه حقا للمدعى ولم يقر له فعجز المدعى عن اثبات حقه فصالح على بعض حقه لا يحل للمدعى عليه ذلك عند الله تعالى اجماعا لأنه هضم الحق وامّا إذا لم يعلم ذلك وادعى عليه فالصلح جائز عند الثلاثة ومنعه الشافعي - مسئلة : - فان وقع الصلح عن اقرار اعتبر فيه ما يعتبر فى البياعات ان وقع عن مال بمال فيجرى فيه الشفعة ويردّ بالعيب ويثبت فيه خيار الروية والشرط ويفسده جهالة البدل لا جهالة المصالح عنه لأنه يسقط فلا يفضى إلى المنازعة ويشترط القدرة على تسليم البدل وان وقع عن مال بمنافع يعتبر بالاجارة فيشترط التوقيت فيها ويبطل الصلح بموت أحدهما فى المدة ، مسئلة والصلح عن السكوت والإنكار فى حق المدعى عليه لافتداء اليمين وفى حق المدعى بمعنى المعاوضة فان صالح عن دار لا يجب فيه الشفعة بخلاف ما إذا صالح على دار مسئلة ولو ادعى دارا فصالح على قطعة منها لم يصح الصلح لان ما قبضه من عين حقه وهو على دعواه فى الباقي الّا ان يزيد(1/1694)
درهما فى بدل الصلح أو يلحق به ذكر البراءة عن دعوى الباقي مسئلة : - ويصح الصلح عن جناية العمد والخطأ لأنه حق من الحقوق وقد قال اللّه تعالى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ، وعن دعوى النكاح من الرجل فكان دفع المال من جانبها بمنزلة الخلع وعن دعوى الرق وكان بمنزلة الاعتاق على مال مسئلة : - وإذا وقع الصلح عن دين يحمل
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 254
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 254(1/1695)
على انه استوفى بعض حقه وأسقط باقيه فمن صالح عن الف جياد حال على خمسمائة زيوف مؤجل جاز لأنه أسقط بعض حقه قدرا ووصفا واجّل الباقي وعن الف زيوف على خمسمائة جياد لم يجز لان الجياد غير مستحق له وهى زائد وصفا فصار معاوضة الف بخمسمائة وزيادة وصف وهو ربوا ولو صالح عن الدراهم بالدنانير يشترط قبض الدنانير قبل الافتراق لأنه صرف واللّه اعلم واخرج سعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب ان ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها امرا امّا كبرا أو غيره فاراد طلاقها فقالت لا تطلقنى واقسم لى ما بدأ لك فانزل اللّه تعالى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ الآية وله شواهد موصول أخرجه الحاكم من طريق سعيد بن المسيّب عن رافع بن خديج قال البغوي نزلت فى غمرة ، ويقال خويلة ابنة محمد بن مسلمة وفى زوجها اسعد بن الربيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهى شابة فلما علا الكبر تزوج عليها امراة شابة واثر عليها وجفا ابنة محمد بن مسلمة فاتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشكت إليه فنزلت هذه الآية واخرج الحاكم عن عائشة قالت نزلت هذه الآية والصلح خير فى رجل كانت تحته امراة قد ولدت أولادا فاراد ان يستبدلها فراضته على ان تقر عنده ولا يقسم لها وقال البغوي قال سعيد بن جبير كان رجل له امراة قد كبرت وله أولاد فاراد ان يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقنى ودعنى على ولدي واقسم لى فى كل شهرين ان شئت وان شئت فلا تقسم لى ، فقال ان كان تصلح على ذلك فهو احبّ الىّ فاتى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فذكر له ذلك فانزل الله تعالى وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ و(1/1696)
اخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال جاءت المرأة حين أنزلت هذه الآية وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فقالت انى أريد ان تقسم لى من نفقتك وقد كانت رضيت ان تدعها فلا يطلقها ولا يأتيها فانزل الله تعالى وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ أى جعل الشح حاضرا لها مطبوعة عليها « 1 » لا يغيب عنها ابدا ، والشح البخل مع الحرص كذا فى الصحاح والقاموس يعنى الشح لا يذهب عن أحد غالبا فلا تكاد المرأة ان تسمح بالاعراض عنها والتقصير فى حقها ولا الرجل يسمح بان يمسكها ويقوم بحقها على ما ينبغى إذا كرهها أو احبّ غيرها وهذه الجملة أيضا معترضة كانت الجملة الاولى للترغيب فى المصالحة وهذه الجملة لتمهيد العذر فى المماكسة ولكونهما معترضتين اغتقر عدم
_________
(1) فى الأصل عليه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 255
مجانستهما فان الاولى اسمية والثانية فعلية وَإِنْ تُحْسِنُوا فى المعاشرة أى يحسن الأزواج بأداء حقوق الزوجات والاقامة معهن بالعدل ولو مع الكراهة وتحسن الزوجات بأداء حقوق الأزواج ولو على خلاف ما تشتهى انفسهن وَتَتَّقُوا النشوز والاعراض وتنفيص الحق فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والإضرار خَبِيراً (128) فيجازيكم عليه اقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إياهم عليها الذي هو جواب الشرط حقيقة اقامة السبب مقام المسبب - .(1/1697)
وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أيها الناس أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ يعنى العدل بين النساء وعدم الميل إلى واحدة منهن بوجه من الوجوه مع كونها محبوبة إليه متعذر « 1 » جدّا وتمام العدل ان يسوى بينهن فى القسم والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة وغيرها وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهم هذه قسمى فيما املك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا املك يعنى المحبة أخرجه احمد والاربعة وابن حبان والحاكم وصححه من حديث أبى هريرة ورواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي عن عائشة وَلَوْ حَرَصْتُمْ أى بالغتم فى تحرى ذلك فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ يعنى فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فى القسم والنفقة أى لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فَتَذَرُوها أى المرغوبة عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهى التي ليست بمطلقة ولا ذات بعل عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كانت له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من امورهن - وَتَتَّقُوا فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) يغفر لكم ما مضى من ميلكم.
وَإِنْ يَتَفَرَّقا أى الزوج والزوجة بالطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا أى كل واحد منهما عن الاخر مِنْ سَعَتِهِ من غناه وقدرته المرأة بزوج اخر والزوج بامراة اخرى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً مقتدرا على كل شىء أو واسع الفضل والرحمة أو واسعا وسعة لا كيف لها كل خير ووجود ظل لوسعة خيراته ووجوده حَكِيماً (130) متقنا فى أفعاله وأحكامه
_________
(1) قال ابن مسعود يعنى فى الجماع رواه ابن المنذر وعن مجاهد وعبيدة يعنى فى الحب رواه البيهقي وغيره منه رحمه اللّه [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 256
((1/1698)
مسئلة : ) بمقتضى هذه الآية والسنة يجب على الزوج التسوية بين نسائه فى القسم فان ترك التسوية بينهن فى فعل القسم عصى اللّه تعالى وعليه قضاؤه للمظلومة والتسوية شرط فى البيتوتة دون الجماع لأنه يدور على النشاط وليس ذلك فى وسعه ولو كانت فى نكاحه حرة وامة فللحرة الثلثان من القسم وللامة الثلث بذلك ورد الأثر قال ابن همام قضى به أبو بكر وعلى رضى اللّه عنهما وبالقضاء عن على احتج احمد وتضعيف ابن حزم إياه بالمنهال ابن عمر وبابن أبى ليلى ليس بشىء لانهما ثقتان حافظان وإذا تزوج جديدة على قديمات فالقديمة والجديدة فى القسم سواء عند أبى حنيفة رحمه الله لاطلاق الحديث المذكور وعند الائمة الثلاثة يبيت عند الجديدة سبع ليال على التوالي ان كانت بكرا وان كانت ثيبا فثلاث ليال ثم يسوى بعد ذلك بين الكل - ولا يجب قضاء هذه الليالى للقديمات لحديث أبى قلابة عن انس رضى اللّه عنه قال من السنة إذا تزوج البكر على الثيب اقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب اقام عندها ثلاثا ثم قسم قال أبو قلابة لو شئت لقلت ان أنسا رفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم متفق عليه وإذا أراد الرجل السفر فعند أبى حنيفة رحمه اللّه لا حق لهن فى القسم حالة السفر يسافر بمن شاء منهن والاولى ان يقرع بينهن فيسافر بمن خرجت قرعتها وعند الشافعي واحمد لا يجوز له الخروج بإحداهن الا برضائهن أو بالقرعة وعن مالك روايتان كالمذهبين فان سافر من غير قرعة ولا تراض وجب عليه القضاء لهن عند الشافعي واحمد وعند أبى حنيفة ومالك لا يجب احتج الشافعي واحمد بحديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد سفرا اقرع بين نسائه فايتهن خرج سهمها خرج بها متفق عليه قال أبو حنيفة كان هذا من رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لتطيّب قلوبهن فكان مستحبا ولم يكن واجبا لأنه لا حق للمرءة عند مسافرة الزوج الا ترى ان له ان لا يستصحب واحدة(1/1699)
منهنّ اجماعا فكذا له ان يسافر بواحدة منهن ويرد عليه ان تركهن كلهن لا يستوجب الغيرة والإيذاء بخلاف إيثار إحداهن على سائرهن وان رضيت احدى الزوجات بترك قسمها لصاحبتها جاز لحديث عائشة ان سودة لما كبرت قالت يا رسول الله قد جعلت يومى منك لعائشة فكان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 257
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة متفق عليه ولها ان ترجع فى ذلك لانها أسقطت حقا لم يجب بعد فلا يسقط قال البغوي قال سليمان بن يسار عن ابن عباس فى قوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما انه قال فان صالحته عن بعض حقّها من القسم ، أو النفقة فذلك جائز ما رضيت وان أنكرت بعد الصلح فذلك لها ولها حقها (مسئلة) ولا يجوز ترك القسم لاجل المرض الا برضائهن لحديث عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يسئل فى مرضه الذي مات فيه اين انا غدا يريد يوم عائشة فاذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان فى بيت عائشة حتى مات عندها رواه البخاري - .(1/1700)
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا تنبيه على كمال وسعته وقدرته وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم والكتاب للجنس مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بوصينا أو باوتوا وَإِيَّاكُمْ عطف على الذين أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ان مفسرة لوصينا فانه بمعنى القول وجاز ان يكون مصدرية بحذف حرف الجرّ والمراد بالتقوى التقوى عن الشرك بدليل قوله تعالى وَإِنْ تَكْفُرُوا وجاز ان يكون التقوى عبارة عن ترك المعاصي وبالكفر الكفران بترك طاعته وعدم امتثال أوامره أو التقوى عبارة عن وقاية قلبه عن الاشتغال بغير اللّه والكفر الاشتغال بغيره وقوله وان تكفروا عطف على وصينا بتقدير القول يعنى وقلنا لهم ولكم ان تكفروا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فهو قادر على عقوبتكم بما يشاء لا منجى عن عقوبته لكم أو يقال فان لله ملائكة السّموات والأرض وهم أطوع له منكم أو يقال معناه انه تعالى غنى عنكم لا ينتفع بعبادتكم ولا يتضرر بكفركم والنفع والضرر انما يعود إليكم بما يأمركم وينهاكم تفضلا عليكم وعلى هذا فقوله تعالى وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا يعنى عن الخلق وطاعتهم كأنَّه بيان وتأكيد لما سبق حَمِيداً (131) فى ذاته حمده الخلق ا ولم يحمد.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كرره ثالثا للدلالة على كونه مستأهلا لان يتوكل عليه فهو تمهيد لقوله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) جاز ان يكون هذا راجعا إلى قوله يغنى اللّه كلّا من سعته فان ذلك القول يدل على انه تعالى توكل بكفايتهما وكفى به وكيلا.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 258(1/1701)
إِنْ يَشَأْ اذهابكم يُذْهِبْكُمْ أى يفنيكم يا أَيُّهَا النَّاسُ فان مجرد مشيته تعالى كافية فى اعدامكم وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أى يوجد قوما آخرين أطوع منكم مكانكم أو خلقا اخر مكان الانس وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ الاعدام والإيجاد قَدِيراً (133) كامل القدرة لا يعجزه شىء هذه الآية أيضا تقرير لغنائه وقدرته وتهديد لمن كفر به وخالف امره ، أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبى حاتم من حديث أبى هريرة انه لما نزلت هذه الآية ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده على ظهر سلمان وقال انهم قوم هذا فهذه الآية حينئذ بمعنى قوله تعالى إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ الآية وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال كنا جلوسا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فلما نزلت وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قيل من هؤلاء يا رسول الله وضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده على سلمان ثم قال لو كان الايمان عند الثريا لنا له رجال من هؤلاء وعنه عند الترمذي انه صلى اللّه عليه وسلم تلا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ قالوا من هؤلاء يا رسول الله فضرب على فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه ولو كان الدين « 1 » عند الثريا لتناوله رجال من الفرس وعنه عند الترمذي قال ذكرت الأعاجم عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لانابهم أو ببعضهم أوثق منى بكم أو ببعضكم قلت لعل فى هذه الأحاديث اشارة إلى مشائخ ما وراء النهر بهاء الدين النقشبندي وأمثاله فان هؤلاء الكرام من الأعاجم توطنا وان كان أكثرهم من ال النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه نسبا قد أحيوا سنة النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ما أميتت وما رضوا بالبدعة وان كانت حسنة ولنعم ما قال الجامى شعر سكة كه در يثرب وبطحا زدند نوبت آخر ببخارا(1/1702)
زدند - وأيضا إلى علماء ماوراء النهر مثل أبى عبد الله البخاري وأمثاله من المحدثين والفقهاء واللّه اعلم.
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمرائى بالأعمال والمجاهد لاجل الملك أو الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تقديره فقد خسروا خطأ فى الطلب إذ عند الله ثواب الدارين فليطلبهما وليقل رَبَّنا
_________
(1) قال الشيخ محمد بن يوسف الصالحي انه قال الشيخ يعنى جلال الدين السيوطي رحمه اللّه ان المراد بهذا الحديث أبو حنيفة وأصحابه رحمهم الله لا شك فيه لأنه لم يبلغ من أبناء فارس فى العلم مبلغه ولا مبلغ أصحابه وانه كان جد الامام أبى حنيفة منهم منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 259
آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً أو ليطلب الأشرف منهما فان من جاهد خالصا للّه لم يخطئه الغنيمة وله فى الاخرة ما هى فى جنبه كالعدم وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) عارفا بالأغراض فيجازى كلا على حسب نيته قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امراة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه واللّه اعلم أخرج ابن أبى حاتم عن السدى قال اختصم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلان غنى وفقير فكان ضلعه مع الفقير يرى ان الفقير لا يظلم الغنى فانزل اللّه تعالى.(1/1703)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ بالغين فى بذل الجهد فى اقامة العدل مواظبين على القيام به فالواجب على القاضي التسوية بين الخصمين فى الجلوس والإقبال عن أم سلمة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ابتلى أحدكم بالقضاء فليساو بينهم فى المجلس والاشارة والنظر ولا يرفع صوته على أحد الخصمين اكثر من الاخر رواه إسحاق ابن راهويه فى مسنده والدارقطني نحوه شُهَداءَ خبر بعد خبر أو حال لِلَّهِ تقيمون شهاداتكم خالصا لوجه اللّه وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أى ولو كانت الشهادة على نفسه وهو الإقرار على نفسه أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ يعنى ولو كانت الشهادة على والديكم وأقربيكم فلا تكتموها وقولوا الحق ولا تحابوا غنيا لغناه ولا ترحموا فقيرا لفقره كذا أخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تمتنعوا عن الشهادة ولا تجوروا فيها ميلا أو ترحما فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما منكم فلو لم يكن الشهادة عليهما أو لهما صلاحا لما شرعت أقيمت علة الجواب مقامه وكان حقه اولى به لان المذكور أحد الامرين من الغنى والفقير بكلمة أو لكن ثنى الضمير نظرا إلى ان المرجع ما دل عليه المذكور وهو جنس الغنى والفقير والوجه للعدول عن الظاهر تعميم الاولوية ودفع توهم الاختصاص بأحدهما كذا ذكر التفتازانيّ ويرد عليه ان الواحد غير متعين فلا توهم قال الرضى الضمير الراجع إلى المذكور الذي عطف بعضه على بعض يجوز فيه ان يوحد الضمير وان يطابق المتعدد وذلك يدور على القصد قلت جاز ان يكون مرجع الضمير المشهود له والمشهود عليه الذين دل عليهما الكلام
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 260(1/1704)
يعنى مشروعية الشهادة مصلحة لكليهما للمشهود له مصلحة عاجلة وللمشهور عليه مصلحة اجلة كى تفرغ ذمته عن حقوق الناس وجاز ان يكون معنى الآية كونوا شهداء للّه تشهدون بوحدانيته وصفات كماله وحقيّة كتبه ورسله وأحكامه ولو كانت الشهادة مضرة على أنفسكم أو والديكم وأقاربكم بان تقتلوا ويسلب أموالكم ان يكن الشاهد غنيا يضر تلك الشهادة غناه أو فقيرا يسدّ شهادته دفع حاجته فاللّه اولى بهما من أنفسهما فينبغى ان يرجحا اللّه على أنفسهما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا أى لان تعدلوا عن الحق أو كراهة ان تعدلوا عن العدل أو المعنى لا تتبعوا الهوى لتكونوا عادلين وَإِنْ تَلْوُوا قرأ ابن عامر وحمزة وان تلوا بضم اللام واسكان الواو يعنى تلوا القيام بأداء الشهادة من الولاية وقيل أصله تلووا كما قرأ الجمهور حذفت أحد الواوين تخفيفا وألقيت حركتها على اللام يعنى ان تحرفوا الشهادة وتلووا السنتكم عن شهادة الحق وقيل معناه تدافعوا فى أداء الشهادة إلى غيركم ، وقيل هذا خطاب مع الحكام من لهم الأشداق أى ان تميلوا إلى أحد الخصمين أَوْ تُعْرِضُوا عن شهادة الحق وحكومة العدل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) فيجازيكم عليه.(1/1705)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ حقيقة الايمان وكمال الايمان ان يعرف ببصيرته انه تعالى هو المتأصل فى الوجود خالقا لكل شىء من الاعراض والجواهر نافعا ضارا وليس شىء ممّا سواه موصوفا بحسن وكمال الا مستعارا منه تعالى فلا يبقى لقلبه علاقة علمى ولا حبى الا به تعالى ويكون نفسه بعلاقة الحبّ به تعالى مجبولا على إتيان ما امره الله وانتهاء ما نهى عنه حتى يكره صدور المعصية منه أشدّ ممّا يكره ان يقع فى النار قال البغوي قال أبو العالية وجماعة هذا خطاب للمؤمنين فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا أى اقيموا واثبتوا على الايمان ومرجع هذا التفسير إلى ما قلت ان شاء اللّه تعالى وقال الضحاك أراد بالخطاب اليهود والنصارى يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى وعيسى آمَنُوا بمحمد والقران وقال مجاهد أراد به المنافقين يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان آمَنُوا بالقلب وقيل المراد به أهل الشرك يعنى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى آمَنُوا بالله ورسوله وهذه الأقوال واهية إذ الكفار اليهود والنصارى والمشركون لا يخاطبون بعنوان الذين أمنوا وكذا المنافقون فان الايمان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 261(1/1706)
ليس من صفات اللسان الا مجازا والحمل على الحقيقة ما أمكن اولى - وقال البغوي قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس وكذا أخرج الثعلبي عنه انه قال نزلت هذه الآية فى عبد اللّه بن سلام واسد وأسيدا بنى كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن اخت عبد اللّه بن سلام وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مؤمنوا أهل الكتاب أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا انا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتورية وعزير ونكفر بمن سواه من الكتب والرسل فقال اللّه تعالى أمنوا باللّه ورسوله يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعنى القرآن وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أى قبل القرآن من التورية والإنجيل والزبور وسائر الكتب والصحف قال ابن عباس فامنوا بكلّهم قرأ الكوفيون ونافع الفعلين بفتح النون والهمزة والزاء على البناء للفاعل والباقون الفعلين بضم النون والهمزة وكسر الزاء على البناء للمفعول وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى بشىء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً (136) من المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقة الصواب فان الايمان بكل واحد منها ملازم للاخر فالكفر بواحد منها بعد من اللّه وضل « 1 » عن سواء السبيل وبالكفر بجميع ذلك بالطريق الاولى - قلت بل بالكفر بشىء من صفاته كما ان المعتزلة كفروا بكونه تعالى متكلما أو خالقا لافعال العباد وبقولهم انه تعالى يريد شيئا ولا يوجد ذلك الشيء يلزم عجزه تعالى عن إتيان مراده فيلزمهم الكفر بالله تعالى بما هو عليه قال بعض الأكابر المعتزلة يقولون بان العباد خالقون لافعالهم واللّه تعالى خالق للعباد فينسبون خلق افعال العباد إلى اللّه تعالى بالواسطة وامّا العوام فهم أسوأ حالا من المعتزلة لغفلتهم عن نسبة الافعال إلى اللّه تعالى مطلقا لا يزعمون النفع و(1/1707)
الضرر الا عن السلاطين أو اللصوص أو السموم أو الترياقات فلا بد لقطع مادة الغفلة من التشبث « 2 » بأذيال الصوفية حتى يسقط عن البصائر كل ما عدا اللّه تعالى.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال قتادة هم اليهود أمنوا بموسى ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل ثم أمنوا بالتورية ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى اللّه تعالى وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء وقيل هم جميع أهل الكتاب
_________
(1) فى الأصل وضل سواء السبيل -
(2) فى الأصل التشبث
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 262
أمنوا بنبيهم ثم كفروا به وأمنوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به وكفرهم تركهم العمل عليه ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وقيل هذا فى قوم مرتدين أمنوا ثم ارتدوا ثم أمنوا ثم ارتدوا ثم أمنوا ثم ارتدوا - حكى عن على رضى اللّه عنه انه لا يقبل توبة مثل هذا لقوله تعالى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لكن الإجماع انعقد على قبول توبته قال مجاهد معنى قوله تعالى ثم ازدادوا كفرا أى ماتوا عليه وقيل معنى قوله تعالى لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) انه يستبعد منهم ان يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الايمان فانه ران على قلوبهم بكفرهم وعميت أبصارهم عن الحق واللام فى ليغفر لهم وليهديهم للجحود أى لتأكيد النفي والفعل بتأويل المصدر بان المصدرية المقدرة بمعنى الفاعل يعنى لم يكن اللّه غافرا لهم ولا هاديهم سبيلا وقيل خبر كان محذوف تعلق به اللام يعنى لم يكن اللّه مريدا ليغفر لهم واللّه اعلم - ويؤيد قول من قال الآية السابقة فى المرتدين تعقيب تلك الآية بقوله تعالى.(1/1708)
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ الذين يؤمنون فى الظاهر كلما لقوك أو لقوا أحدا من المخلصين وكفروا فى السرّ كلّما خلوا إلى شياطينهم ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق والعزم على الإفساد ووضع بشّر مكان انذرتهكما بهم كذا قال الزجاج وقيل البشارة كل خبر يتغير بشرة الوجه سارا كان أو غير سار بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138).
الَّذِينَ منصوب أو مرفوع على الذم بمعنى أريد الذين أو هم الذين أو بدل أو نعت للمنافقين يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ يعنى اليهود أَوْلِياءَ أنصارا و؟؟؟ لما يتوهمون فيهم القوة مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ يطلبون عِنْدَهُمُ عند الكفار الْعِزَّةَ القوة والغلبة على محمد صلى اللّه عليه وسلم بمعونتهم وموالاتهم والاستفهام للانكار أو التهكم أو التعجب ووجه الإنكار وأخويه قوله تعالى فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) لا يتعزز الّا من أعزه الله وقد كتب العزة لاوليائه فقال وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ - .
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أى فى القرآن - قرأ عاصم بفتح النون والزاء على البناء للفاعل يعنى قد نزل اللّه عليكم والباقون بضم النون وكسر الزاء على البناء للمفعول والقائم مقام الفاعل أَنْ مخفة من المثقلة يعنى انه إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 263
بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها(1/1709)
حالان من الآيات جىء بهما لتقييد النهى عن المجالسة فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ أى مع الذين يكفرون ويستهزءون حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أى غير الاستهزاء فحينئذ لا بأس بمجالستهم لضرورة دعت ومن غير ضرورة يكره مجالستهم مطلقا وقال الحسن لا يجوز مجالستهم وان خاضوا فى حديث غيره وفى هذه الآية اشارة إلى ما نزل سابقا بمكة فى سورة الانعام وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ - قال الضحاك عن ابن عباس دخل فى هذه الآية كل محدث فى الدين وكل متبدع إلى يوم القيامة إِنَّكُمْ أيها المؤمنون إِذا يعنى إذا قعدتم عند من يكفرون ويستهزءون بالآيات ورضيتم به كفار مِثْلُهُمْ غير ان الرضاء بالكفر من غير تفوه نفاق أفرد كلمة مثل لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالاضافة إلى الجمع إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ القاعدين عند الكفار الراضين بالكفر والاستهزاء وَالْكافِرِينَ المستهزئين الخائضين فى القرآن فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) كما اجتمعوا فى الدنيا على الكفر والمجالسة.(1/1710)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ الدوائر والأحداث بدل من الذين يتخذون أو ذم منصوب أو مرفوع أو مبتدا خبره فَإِنْ كانَ لَكُمْ أيها المؤمنون فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعنى ظفرا « 1 » وغنيمة قالُوا لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دينكم وفى الجهاد فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ من الحرب وظهور على المسلمين قالُوا للكافرين أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ الاستيلاء يعنى الم نغلبكم مع المؤمنين قبل ذلك فابقيناكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أى ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إياكم اخبارهم وأمورهم وقال المبرد معناه الم نغلبكم على رأيكم ونمنعكم من المؤمنين أى عن الدخول فى جملتهم فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وبين المنافقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل المؤمنين الجنة والمنافقين النار ، روى الشيخان فى الصحيحين والحاكم فى حديث طويل عن أبى سعيد الخدري إذا كان يوم القيامة ينادى مناد ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون الحديث فيقول اللّه تعالى أيها الناس لحقت كل أمة بما يعبد وبقيتم فيقولون نحن ننتظر ربنا فيكشف عن ساق فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد له رياء وسمعة فيذهب
_________
(1) فى الأصل ظفر وغنيمة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 264(1/1711)
كما يسجد فيعود ظهره طبقا واحدا - زاد الحاكم كلما أراد ان يسجد خرّ على قفاه الحديث بطوله وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) قال علىّ فى الاخرة رواه ابن جرير وكذا روى عن ابن عباس وهو الظاهر وقال عكرمة عن ابن عباس أى حجة كذا روى ابن جرير وعبد بن حميد عن السدى وقيل ظهورا على اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وامّا ظهور الكافرين على المؤمنين فى هذا الزمان فلضعف ايمانهم وكثرة عصيانهم وقيل يعنى سبيلا إلى استيصالهم احتج الشافعي بهذه الآية على فساد اشتراء الكافر العبد المسلم ، وقال أبو حنيفة الشراء صحيح لصدور العقد من اهله مضافا إلى محله لكن يجبر الكافر ان يبيع العبد بحكم هذه الآية نظرا للجانبين واحتج أبو حنيفة بهذه الآية على حصول البينونة بنفس الارتداد إذا كانت تحته مسلمة واللّه اعلم - .
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
سبق الكلام فيه فى أوّل سورة البقرة وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ
مع المؤمنين قامُوا كُسالى
متثاقلين كالمكره كراهة على الفعل لا يرجون بها ثوابا ولا يخافون على تركها عذابا بل يُراؤُنَ النَّاسَ
صلاتهم ليخالوهم مؤمنين وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
(142) يعنى ذكرا قليلا أو فى زمان قليل والمراد بالذكر الصلاة ووجه التقليل ان المرائى لا يفعل الا بحضرة من يراه « 1 » وهو اقل أحواله وجملة يراءون حال من فاعل قاموا كقوله كسالى ولا يذكرون اللّه معطوف على يراءون أو حال من فاعل يراءون.(1/1712)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل لا يذكرون أو من فاعل يراءون أى يراءونهم غير ذاكرين أو منهما على سبيل التنازع أو منصوب على الذم والمعنى مترددين بين الايمان والكفر مشتق من الذبذبة بمعنى جعل الشيء مضطربا واصله الذب بمعنى الطرد والدفع والمذبذب الذي يدفع من كلا الجانبين فلا يتقرر فى جانب واحد لا مستقرين مطمئنين إِلى هؤُلاءِ المؤمنين ظاهرا وباطنا حتى يؤفى معهم أجورهم فى الاخرة وَلا إِلى هؤُلاءِ الكفار بالكلية حتى يعامل بهم فى الدنيا ما يعامل بالكافرين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ إياه عن طريق الحق فَلَنْ تَجِدَ أيها المخاطب لَهُ سَبِيلًا (143)
_________
(1) أخرج أبو يعلى عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حسن الصلاة حين يراه الناس وأساءها حيث لم يرها فتلك استهانة استهان بها ربّه منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 265
الى الحق والصواب نظيره قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ - عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة والى هذه اخرى رواه مسلم ، .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فان موالاتهم أهلك المنافقين وصيرهم إلى النفاق فاحذروهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا بموالاتهم لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (143) حجة « 1 » بنية فى تعذيبكم.(1/1713)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ قرأ أهل الكوفة الدّرك بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان - قال السيوطي الدركات الطبقات والمنازل ويختص بما يستافل ويقال فيما علا درجات الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أخرج ابن المبارك عن ابن مسعود فى هذه الآية قال توابيت من حديد تضمت عليهم أسفل النار وذكر البغوي بلفظ فى توابيت من حديد مقفلة فى النار وقال البغوي قال أبو هريرة توابيت يقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم واخرج ابن وهب عن كعب الاخبار قال ان فى النار لبيرا لما فتحت ابوابها بعد مغلقها ما جاء على جهنم يوم منذ خلقها اللّه تعالى الّا يستعيذ باللّه من حرّها وهى الدرك الأسفل من النار وانما استحق المنافقون الدرك الأسفل من النار لانهم أخبث الكفرة حيث ضمّوا إلى الكفر الاستهزاء باللّه والرسول والإسلام والخداع للمسلمين ولانهم أمنوا من السيف والجزية فى الدنيا فاستحقوا الدرك الأسفل تعديلا وَلَنْ تَجِدَ أيها المخاطب لَهُمْ نَصِيراً (145) يخرجهم من النار ويمنعهم من عذاب الله.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من النفاق وأمنوا وَأَصْلَحُوا أعمالهم وَاعْتَصَمُوا وثقوا بِاللَّهِ وتمسّكوا بدينه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ من الرياء - لا يريدون بالايمان والأعمال الا وجه اللّه تعالى خالصا ، أخرج ابن عساكر عن أبى إدريس قال ما يبلغ عند حقيقة الإخلاص حتى لا يجب ان يحمده أحد على شىء من عمل عمل للّه عزّ وجلّ وروى ابن أبى شيبة واحمد عن أبى ثمامة قال قال الحواريون لعيسى عليه السلام يا روح اللّه من المخلص لله قال الذي يعمل لله لا يحب ان يحمده الناس عليه واخرج الحكيم الترمذي فى نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال لا اله الا اللّه
_________
((1/1714)
1) روى ابن أبى حاتم وابن مردوية وغيرهما عن ابن عباس قال كل سلطان فى القرآن فهو حجة منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 266
مخلصا دخل الجنة قيل يا رسول اللّه ما إخلاصها قال ان تحجزه عن المحارم واخرج الحاكم وصححه والبيهقي فى الشعب عن معاذ بن جبل انه قال لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن أوصني قال أخلص دينك يكفيك القليل من العمل واخرج ابن أبى الدنيا فى الإخلاص والبيهقي فى الشعب عن ثوبان قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول طوبى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى ينجلى عنهم كل فتنة ظلماء فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين الذين سبقوهم بالايمان والإخلاص فى الجنة قال الفراء أى من المؤمنين وَسَوْفَ يُؤْتِ حذفت الياء فى الخط تبعا للفظ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين فى الاخرة أَجْراً عَظِيماً (146) الجنة ورضوان الله ومراتب القرب.(1/1715)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعمة الله وَآمَنْتُمْ به استفهام للانكار والتقرير معناه انه تعالى لا يعذب المؤمن الشاكر لان تعذيبه عباده لا يزيد فى ملكه وتركه عقابهم لا ينقص من سلطانه وليس تعذيبه تعالى لاستجلاب نفع أو دفع ضرر عنه وهو الغنى المتعالي عن النفع والضرر وانما يعذب العباد جريا على عادته فى ترتيب المسبب العادي على السبب العادي كسوء مزاج يؤدى إلى المرض فإذا زال مرضه القلبي من الكفر والنفاق فى الدنيا بالايمان والشكر ونقّى نفسه عنه يخلص من تبعته قال البغوي فى الآية تقديم وتأخير تقديره ان أمنتم وشكرتم قلت لا حاجة إلى هذا القول فان الواو للجمع المطلق دون الترتيب وقيل انما قدم الشكر لان الناظر يدرك النعمة اوّلا فيشكر شكرا مبهما ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به قلت لعل المراد بالشكر ضد الكفر اعنى الايمان المجازى العامي وبالايمان الايمان الحقيقي وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا على الشكر يقبل اليسير ويعطى الجزيل عَلِيماً (147) بحقيقة ايمانكم.
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ يعنى يبغض الجهر بالسوء وغير الجهر أيضا لكن الجهر افحش وانما حصّ الجهر بالذكر لمطابقة الحادثة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ « 1 » الّا جهر من
_________
((1/1716)
1) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال كان أبى يقرا لا يحبّ اللّه الجهر بالسّوء الّا من ظلم قال ابن زيد يقول من حلم على جملك النوق فجهر له بالسوء حتى ينزع واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال لا يحبّ الله ان يدعو أحد على أحد الّا ان يكون مظلوما فانه رخص له ان يدعو على من ظلمه وان يصبر فهو خير له واخرج ابن أبى شيبة والترمذي عن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من دعا على من ظلمه فقد انتصف واخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسين قال الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ولكن ليقل اللهم اعنى عليه اللهم استخرج لى حقى وحل بينه وبين ما يريد ونحو هذا منه رحمه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 267(1/1717)
ظلم بالدعاء على الظالم والتظلم منه وقيل الجهر بالسوء من القول هو الشتم الّا من ظلم فانه ان ردّ عليه مثله فلا حرج عليه لقوله تعالى وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ الآية عن انس وابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال المستبان ما قالا فعلى البادي ما لم يعتد المظلوم رواه مسلم وقال البغوي قال مجاهد هدا فى الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله ان يشكو ويذكر ما صنع به أخرج هناد فى كتاب الزهد عن مجاهد ان رجلا أضاف بالمدينة فاساءه قراه فتحول عنه فجعل ثينى عليه بما أولاه فرخص له ان يثنى عليه بما أولاه ونزلت هذه الآية وكذا أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه ان رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوقب عليه فنزلت هذه الآية وعن عقبة بن عامر انه قال قلنا يا رسول اللّه انك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى فقال لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان نزلتم بقوم فامروا لكم بما ينبغى للضيف فاقبلوا فان لم يأمروا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم متفق عليه وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لشكوى المظلوم ودعائه عَلِيماً (148) بما فعل الظالم.(1/1718)
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعنى طاعة وبرّا وقيل معناه تبدوا خيرا بالظالم مكان الجهر بالسوء فتمحوا السيئة بالحسنة أَوْ تُخْفُوهُ أى تفعلوا ذلك الخير سرا وقيل المراد بالخير المال يعنى ان تبدوا صدقة أو تخفوها أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ يعنى عن مظلمة وتمحوه عن قلوبكم وان لم تفعلوا بالظالم خيرا قال البيضاوي وغيره والعفو عن المظلوم هو المقصود وذكر إبداء الخير وإخفاءه توطية وتمهيدا بدليل قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) أى يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فانتم اولى بذلك لأنه تجارة فى حقكم فهذه الآية حث المظلوم على العفو بعد ما رخص له فى الانتصار حملا على مكارم الأخلاق - عن ابن عمر انه سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كم اعفوا عن الخادم قال كل يوم سبعين مرة رواه أبو داود والترمذي وأبو يعلى والله اعلم.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قال البغوي نزلت فى اليهود فانهم لما كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران وبعيسى والإنجيل فكانهم كفروا بجميع الأنبياء لان بعضهم مصدق لبعض وكفروا باللّه حيث جحدوا باياته وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 268
وَ رُسُلِهِ
بان يؤمنوا بالله دون الرسل كاهل الشرك وكاليهود حيث أمنوا باللّه وبموسى على زعمهم وكفروا بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وعليهم وغيرهما من الرسل والقران والإنجيل وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ من الأنبياء وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ منهم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أى بين الايمان والكفر سَبِيلًا (150) دينا وطريقا.(1/1719)
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ الكاملون فى الكفر إذ لا واسطة بين الايمان والكفر فان الايمان بالله انما يتم بالايمان برسله أجمعين وتصديقهم فيما بلغوا عنه اجمالا وتفصيلا والحق واحد مشترك بين أديان الأنبياء كلهم فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ حَقًّا مصدر مؤكد بغيره أى حق ذلك الأمر حقا أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى هم الذين كفروا كفرا حقّا أى يقينا محققا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أجمعين ومنهم اليهود عَذاباً مُهِيناً (151).
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ كلهم أجمعين وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ الموصول مبتدا والظاهر ان خبره أولئك سنؤتيهم أجورهم « 1 » وقيل خبره محذوف تقديره أولئك هم المؤمنون حقا أو تقديره أضدادهم ومقابلوهم ووجه هذا القول ان يكون هذه الآية على وتيرة ما سبق وانما دخل بين على أحد مع اقتضائه المتعدد لعمومه من حيث انه وقع فى سياق النفي أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم أُجُورَهُمْ الموعود لهم وتصديرهم بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على انه كائن لا محالة وان تأخر وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً (152) عليهم يضاعف حسناتهم أخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظي قال جاء ناس من اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ان موسى جاءنا بالالواح من عند اللّه فأتنا بالالواح حتى نصدّقك ، وسمى البغوي ذلك اليهود كعب بن الأشرف وفخاص بن عازورا فقالا ذلك فانزل اللّه تعالى.(1/1720)
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ وكان هذا السؤال منهم سوال تحكم واقتراح لا سوال الانقياد واللّه تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي انه لما نزل قوله تعالى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ إلى قوله بُهْتاناً عَظِيماً جثا رجل من اليهود فقال ما انزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى
_________
(1) والصحيح سوف يؤتيهم أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 269(1/1721)
و لا على أحد شيئا فانزل الله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ فَقَدْ سَأَلُوا الضمير عائد إلى أهل الكتاب أضاف الحكم إليهم باعتبار ان السؤال صدر عن بعضهم وهم السبعون الذين خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل والفاء للسببية والتقدير لا تستكبر منهم هذا السؤال لانهم قد سالوا الآية وقيل الفاء جواب شرط مقدر أى ان استكبرت ما سال هؤلاء عنك فقد سال أسلافهم مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ يعنى ما اقترحوا عليك ليس باول جهالاتهم فَقالُوا تفسير للسوال أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أى اراءة جهرة أو رؤية جهرة على انه مصدر من غير لفظه يعنى عيانا أو مجاهرين يعنى معاينين له وقال أبو عبيدة معناه قالوا جهرة أرنا الله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أى أهلكتهم نار جاءت من السماء بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم على أنفسهم وهو تعنتهم وسوالهم بما كان خلاف العادة والحكمة وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الها هذه جناية اخرى ارتكبها اوائلهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعنى المعجزات الواضحات فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ ولم نستأصلهم هذا استدعاء إلى التوبة يعنى عفونا عن اوائلكم حين تابوا فتوبوا أنتم حتى نعفو عنكم وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) أى تسلّطا ظاهرا حتى أمرهم بان يقتلوا أنفسهم أو حجة ظاهرة وهى الآيات التسع على من خالفه.(1/1722)
وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أى بسبب ميثاقهم حتى يقبلوه وَقُلْنا لَهُمُ على لسان موسى والطور مظل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ يعنى باب ايليا سُجَّداً مطاطئين رءوسكم وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داؤد ، ويحتمل ان يكون هذا القول أيضا على لسان موسى حين ظلل عليهم الجبل فانه شرع السبت لكن الاعتداء والمسخ كان فى زمن داؤد عليه السلام لا تَعْدُوا قرأ ورش بفتح العين وتشديد الدال وقالون بإخفاء حركة العين وتشديد الدال أصله تعتدوا أدغمت التاء فى الدال والنص عن قالون بالإسكان والباقون بإسكان العين وتخفيف الدال يعنى لا تظلموا أنفسكم بقتل الحيتان فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) على قبول حكم التورية وعدم الاعتداء فى السبت حتى قالوا سمعنا واطعنا.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما زائدة لتأكيد مضمون الكلام والباء متعلق بمحذوف تقديره
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 270(1/1723)
فخالفوا حكم التورية ونقضوا الميثاق ففعلنابهم ما فعلنا ولعناهم بسبب نقضهم ويجوز ان يكون متعلقا بحرّمنا عليهم طيّبت احلّت لهم وقوله فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا بدل من قوله فَبِما نَقْضِهِمْ لكن يلزم حينئذ تكرار الفاء وجاز ان يكون الفاء للعطف فحينئذ لم يحتج إلى جعله بدلا ، ويمكن ان يقال قوله فبما نقضهم ظرف مستقر خبر للمبتدا المحذوف والباء بمعنى فى تقديره فهم فى نقضهم مِيثاقَهُمْ الذي واثقوا بموسى عليه السلام وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ الواردة فى التورية فى نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقران والإنجيل وغيرهما وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ للنبى صلى اللّه عليه وسلم قُلُوبُنا غُلْفٌ اوعية للعلوم أو فى اكنة مما تدعونا إليه وليس الأمر كذلك بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها أى ختم على قلوبهم بِكُفْرِهِمْ فجعلها محجوبة عن العلم أو خذلها ومنعها التوفيق للتدبر فى الآيات فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) أى ايمانا قليلا لا يعتد به وهو الايمان ببعض الكتب وبعض الرسل أو الا قليلا منهم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وقيل معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا وَبِكُفْرِهِمْ ثانيا بعيسى وهو معطوف على بكفرهم وكرر الباء للفصل بينه وبين ما عطف عليه والكفر المطلق من اسباب الطبع كالكفر بعيسى وليس هذا من قبيل عطف الشيء على نفسه للعموم والخصوص أو يقال عطف مجموع الكفر وما عطف عليه على الكفر كما يقال قال الامام وسائر الناس أو هو معطوف على قوله فَبِما نَقْضِهِمْ ويكون تكرير ذكر الكفر إيذانا لتكرر كفرهم ، فانهم كفروا بموسى ثم بعيسى وداود وسليمان ثم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين ، أو يقال مجموع هذا مع ما عطف عليه معطوف على مجموع قبله فلا تكرار.
وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) يعنى نسبتها إلى الزنى.(1/1724)
وَ قَوْلِهِمْ مفتخرين إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أى بزعمه ويحتمل انهم قالوا ذلك استهزاء - وجاز ان يكون رسول الله منصوبا على المدح استينافا من الله تعالى أو وضع اللّه سبحانه الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح حتى يستحق القائلون الذم وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ روى ان رهطا من اليهود سبوه وامه فدعا عليهم فمسخهم اللّه قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فاخبره الله بانه يرفعه إلى السماء كما مر القصة فى ال عمران ووقع فى بعض الروايات انه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 271(1/1725)
قال عيسى لاصحابه أيكم يرضى ان يلقى عليه شبهى فيقتل ويصلب ويدخل الجنة فقام رجل منهم فالقى الله عليه شبهه فقتل وصلب كذا أخرج النسائي عن ابن عباس - وفى رواية ذكره البغوي ان الله تعالى القى شبه عيسى عليه السلام على الذي دل اليهود عليه وذكرنا فى سورة ال عمران من رواية الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس انه امر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطانوس ان يدخل بيتا كان عيسى فيه ليقتله فرفعه اللّه إلى السماء والقى اللّه شبهه على طيطانوس فلما خرج ظنوا انه عيسى فاخذ وصلب وقيل انهم حبسوا عيسى عليه السلام فى بيت وجعلوا عليه رقيبا فالقى اللّه شبهه على الرقيب فقتلوه واللّه اعلم ، وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أى فى قتله لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أى تردد من قتله قال الكلبي اختلافهم فيه هو ان اليهود قالت نحن قتلناه وقالت طائفة من النصارى نحن قتلناه ، وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه وقيل كان الله القى شبه عيسى عليه السلام على وجه طيطانوس ولم يلقه على جسده فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى فان الوجه وجه عيسى وقال بعضهم لم نقتله لان جسده ليس بجسد عيسى وقال السدى اختلافهم من حيث انهم قالوا ان كان هذا عيسى فاين صاحبنا وان كان صاحبنا فاين عيسى وقيل الضمير فى قوله الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ راجع إلى عيسى اختلفوا فى شأن عيسى فقال بعضهم انه كان كاذبا فقتلناه حقّا وتردد آخرون وقال من سمع منه ان اللّه يرفعنى إلى السماء انه رفع إلى السماء ما لَهُمْ بِهِ أى بقتله مِنْ عِلْمٍ انه قتل أو لم يقتل إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ استثناء منقطع أى ولكنهم يتبعون الظن فى قولهم انا قتلنا وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) يعنى ما قتلوا عيسى متيقن هذا الأمر يقينا وقيل معناه ما قتلوا عيسى قتلا يقينا عندهم كما زعموه انا قتلنا المسيح أو ما قتلوه(1/1726)
متيقنين انه عيسى كذا قال الفراء.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ رد وانكار لقتله واثبات لرفعه وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً منيعا بالنقمة على اليهود ولا يغلبه أحد على ما يريده حَكِيماً (158) حكم باللعنة والغضب على اليهود فسلط عليهم صطيونس بن استسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة أو حكيما فيما دبر بعيسى عليه السلام - .
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 272(1/1727)
وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أحد إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ يعنى الا من ليؤمنن جملة خبرية مؤكدة لجمله انشائية قسمية صفة لمستثنى مفرغ مقدر بِهِ أى بعيسى عليه السلام كذا قال اكثر المفسرين وعامة أهل العلم وروى عن عكرمة ان الهاء كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هى راجعة إلى اللّه عز وجل والمال واحد فان الايمان باللّه لا يعتد ما لم يؤمن بجميع رسله والايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم يستلزم الايمان بعيسى عليه السلام وبالعكس ، قَبْلَ مَوْتِهِ أى قبل موت ذلك الأحد من أهل الكتاب عند معانية ملائكة العذاب عند الموت حين لا ينفعه إيمانه - هذا رواية على بن طلحة عن ابن عبّاس رضى الله عنهما قال فقيل لابن عباس ارايت ان خرمن فوق بيت قال يتكلم به فى الهواء فقيل ارايت ان ضرب عنقه قال تلجلج لسانه والحاصل انه لا يموت كتابىّ حتى يؤمن باللّه عز وجل وحده لا شريك له وان محمدا صلى اللّه عليه وسلم عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله قيل يؤمن الكتابي فى حين من الأحيان ولو عند معاينة العذاب قلت لعل ذلك لان الكتابي يعرف نبوة موسى والتورية وكلاهما ناطق بحقية عيسى والإنجيل وداود وزبور ومحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران وانما يكفر عنادا وتعصّبا فقد ينصف فيعتقد فى نفسه ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم حق شهد به موسى والتورية من قبل ولو لم يخطر ذلك الخطرة فى باله فلا شك انه حين يرى ملائكة العذاب يزعم حينئذ ان ما كان يقول محمد صلى اللّه عليه وسلم كان حقّا فهذه الآية كالوعيد والتحريض على معاجلة الايمان به قبل ان يضطروا إليه ولا ينفعهم ايمانهم وقيل الضميران لعيسى والمعنى انه إذا نزل عيسى من السماء أمن به أهل الملل أجمعون ولا يبقى أحد من أهل الأديان الا يؤمن به حتى يكون الملة واحدة ملة الإسلام وهذا التأويل مروى عن أبى هريرة رضى الله عنه روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبي(1/1728)
صلى اللّه عليه وسلم قال والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها قال أبو هريرة فاقرءوا ان شئتم وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أى قبل موت عيسى بن مريم وفى بعض الروايات كان أبو هريرة يعيدها ثلاثة مرات وعنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 273
عن النبي صلى الله عليه وسلم فى نزول عيسى قال ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام الحديث روى ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفا فلا يبقى أحد من أهل الكتاب الا يؤمن به قلت نزول عيسى قبل يوم القيامة حق وان يهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام حق ثابت بالصحاح من الأحاديث المرفوعة لكن كونه مستفادا من هذه الآية وتأويل الآية بإرجاع الضمير الثاني إلى عيسى ممنوع انما هو زعم من أبى هريرة ليس ذلك فى شىء من الأحاديث المرفوعة وكيف يصح هذا التأويل مع ان كلمة ان من أهل الكتب شامل للموجودين فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم البتة سواء كان هذا الحكم خاصا بهم اولا فان حقيقة الكلام للحال ولا وجه لان يراد به فريق من أهل الكتاب يوجدون حين نزول عيسى عليه السلام فالتأويل الصحيح هو الأول ويؤيده قراءة أبيّ بن كعب أخرج ابن المنذر عن أبى هاشم وعروة قالا فى مصحف أبى بن كعب وان من أهل الكتب الّا ليؤمننّ به قبل موتهم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عيسى أو محمد صلى اللّه عليهما وسلم أو اللّه عز وجل على حسب إرجاع الضمير فى ليؤمننّ به عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فان اللّه سبحانه يشهد على عباده وكفى باللّه شهيدا والأنبياء يشهدون على أممهم ومحمد صلى اللّه عليه وسلم يكون عليهم شهيدا - .(1/1729)
فَبِظُلْمٍ عظيم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بايات الله وقتلهم الأنبياء وبهتانهم على مريم وقولهم تفاخرا قتلنا المسيح حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ قبل ذلك وهى ما ذكر فى سورة الانعام وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ إلى قوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ويحتمل ان يراد طيبات الجنة ويلائم هذا قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ الآية ويحتمل ان يراد الأرزاق الطيبة فى الدنيا والمراد بالتحريم جعلهم محرومين مصروفين عنها بالأمر التكويني يعنى انهم مع كثرة الرزق الحلال الطيب فى الدنيا جعلهم الله تعالى محرومين عنها فلا يأكلون الا رزقا حراما خبيثا حتى تكون النار اولى بهم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل لحم نبت من الحرام فالنار اولى به وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الايمان والاتباع لمحمد صلى اللّه عليه وسلم كَثِيراً (160) أى كثيرا من الناس أو صدا كثيرا.
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 274
قَدْ نُهُوا عَنْهُ فى التورية وفيه دليل على ان النهى يوجب التحريم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة والخداع والغصب وغير ذلك من الوجوه المحرمة قوله بصدّهم مع ما عطف عليه معطوف على بظلمهم متعلق بقوله حرّمنا ومعطوف على قوله حرّمنا قوله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) فى نار جهنم ثم لما كان الكلام السابق منشأ لتوهم شمول الحكم لجميع أهل الكتاب استدرك وقال.
لكِنِ « 1 » الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ(1/1730)
اى من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه مؤمنى أهل الكتاب الثابتون على ما هو مقتضى العلم بالكتاب وَالْمُؤْمِنُونَ يعنى اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من المهاجرين والأنصار أو المعنى والمؤمنون منهم والمراد بهم وبالراسخون واحد والراسخون مبتدأ خبره يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أى القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعنى سائر الكتب المنزلة على الرسل وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال البغوي حكى عن عائشة وابان بن عثمان انه غلط من الكاتب ينبغى ان يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله تعالى فى سورة المائدة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وقوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ قالوا ذلك خطأ من الكاتب وقال عثمان ان فى المصحف لحنا سيقيمه العرب بألسنتها فقيل له الا تغيره فقال دعوه فانه لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ، والصحيح انّ هذا القول سهو من القائلين عفا اللّه تعالى عنهم وانعقد الإجماع على انه هو الحق الصحيح فاختلفوا فى توجيهه فقيل هو نصب على المدح لبيان فضل الصلاة تقديره امدح المقيمين وقيل منصوب بتقدير اعنى المقيمين الصلاة - وهم المؤتون الزكوة وقيل انه منصوب على التوهم لان السابق كان مقام لكن المثقلة وضع موضعه المخففة وقيل موضعه خفض معطوف على ما انزل إليك معناه يؤمنون بما انزل إليك وبالمقيمين الصلاة يعنى الأنبياء وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ عطف على الراسخون أو مبتدا خبره أولئك وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ عطف على المؤتون قدم عليه الايمان بالأنبياء
_________
(1) أخرج ابن إسحاق والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال نزلت فى عبد الله بن سلام وأسيد بن شعبة وثعلبة بن شعبة حين فارقوا يهودا واسلموا منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 275(1/1731)
و الكتب وما يصدقه من الصلاة والزكوة لأنه المقصود بسوق الآية فان أهل الكتاب كانوا يؤمنون بالله واليوم الاخر فى زعمهم وانما المقصود هاهنا تحريضهم على ما ليس لهم من الايمان وهو الايمان بالأنبياء والكتب كلهم وجاز ان يكون المراد بالأول الايمان المجازى وبالثاني الايمان الحقيقي المترتب عليه وعلى إتيان الشرائع أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) قرأ حمزة سيؤتيهم يعنى الله تعالى بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم - روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال عدى بن زيد ما نعلم ان الله انزل على بشر من شىء من بعد موسى فانزل اللّه تعالى.(1/1732)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ بدا بذكره عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم قال الله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ولانه أول نبى من أنبياء الشريعة وأول نذير على الشرك وأول من عذبت أمته لردهم دعوته وأهلك أهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرا وجعل معجزته فى نفسه فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً ولم يسقط له سن ولم يشب له شعر ولم ينقص له قوة وصبر على أذى قومه على طول عمره وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إدريس وهود وصالح وشعيب وغيرهم وَكما أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب اما ابناؤه اثنا عشر أو أنبياء بنى إسرائيل من ذريتهم - وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ خص هؤلاء من الأسباط لمزيد الفضل وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) عطف على أوحينا قرأ الأعمش وحمزة زبورا بضم الزاء وهو اسم للكتاب الذي انزل عليه قال البغوي كان فيه التحميد والتمجيد والثناء على اللّه عز وجل وكان داود يخرج إلى البرية فيقوم ويقرا الزبور ويقوم معه علماء بنى إسرائيل فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الانس الأعظم فالاعظم ويجىء الدواب التي فى الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه والطير ترفرف « 1 » على رءوسهم عن أبى موسى الأشعري قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو رايتنى البارحة وانا اسمع لقراءتك لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود قال اما واللّه يا رسول اللّه لو علمت
_________
(1) يقال رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط إلى شىء يحوم عليه ليقع فوقه - نهايه منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 276(1/1733)
انك تسمع لحبرّته « 1 » تحبيرا وكان عمر رضى اللّه عنه إذ أراه يقول ذكرنا يا أبا موسى فيقرا عنده.
وَرُسُلًا منصوب بمضمر دلّ عليه أوحينا تقديره وأرسلنا رسلا ، قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هذا اليوم مثل آدم عليه السلام وشيث وإدريس وزكريا ويحيى وذا الكفل وغيرهم وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ عن أبى ذرّ قال قلت يا رسول الله أى الأنبياء كان اوّل قال آدم قلت ونبى كان قال نعم نبى مكلم قلت يا رسول الله كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا وعن أبى امامة عنه صلى اللّه عليه وسلم قال قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدة الأنبياء قال مائة الف واربعة وعشرون الفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا رواه احمد وابن أبى حاتم وروى الحاكم بسند ضعيف وأبو يعلى وأبو نعيم فى الحلية عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه تعالى بعث ثمانية آلاف نبى اربعة آلاف من بنى إسرائيل واربعة آلاف من سائر « 2 » الناس وهذه الآية تدل على ان معرفة الأنبياء بأعيانهم لا يشترط لصحة الايمان بل من شرطه ان يؤمن بهم جميعا ولو كان معرفة كل شرطا لقصّ الله علينا جميعهم وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) وهو منتهى مراتب الوحى خص به موسى عليه السلام من بينهم وقد فضل الله محمدا صلى الله عليه وسلم ورفعه درجات. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ... « 3 » وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى وأعطاه مثل ما اعطى كل واحد من الأنبياء مع مزيد فضل قال الفراء العرب تسمى ما يوصل إلى الإنسان كلاما باىّ طريق وصل ولكن لا يحققه بالمصدر فإذا حقق بالمصدر لم يكن الا حقيقة الكلام يقال على سبيل المجاز أراد الجدار ان ينقض ولا يقال أراد الجدار ارادة(1/1734)
_________
(1) يقال حبرت الشيء تحبيرا إذا احسنته نهاية منه رحمه الله -
(2) روى ابن حبان فى صحيحه والحاكم وابن عساكر والحكيم الترمذي فى نوادر الأصول وعبد بن حميد عن أبى ذرّ قال قلت يا رسول اللّه كم الأنبياء قال مائة الف نبى واربعة وعشرون الفا قلت يا رسول اللّه كم الرسل منهم قال ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا ثم قال يا أبا ذرّ اربعة بانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو اوّل من خط بالقلم واربعة من العرب هود وصالح وشعيب ونبيك واوّل نبىّ من بنى إسرائيل موسى وآخرهم عيسى واوّل نبىّ آدم وآخرهم نبيّك منه رحمه اللّه
(3) وبين هذين الآيتين فى القرآن أ فتمارونه على ما يرى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 277
رُسُلًا منصوب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال ويكون رسلا هذا تمهيدا لقوله.(1/1735)
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا اللام متعلق بأرسلنا أو بقوله مبشرين ومنذرين ، يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ إرسال الرُّسُلِ إليهم حجة اسم كان وخبره للناس أو على اللّه والاخر حال ولا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر وبعد ظرف لها أو صفة حجة يعنى لئلا يقول الناس رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فنتبعه ، عن المغيرة قال قال سعد ابن عبادة لو رايت رجلا مع امراتى لضربته بالسيف غير مصفح « 1 » فبلغ ذلك رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم فقال تعجبون من غيرة سعد والله لانا أغير منه والله أغير منى ومن أجل غيرة اللّه حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين ولا أحد أحب إليه المدحة من اللّه تعالى ومن أجل ذلك وعد الله الجنة رواه البخاري وغيره قال البغوي فى هذه الآية دليل على ان اللّه تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثة الرسل كما قال اللّه تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وقالت الحنفية لا يعذب اللّه على الشرائع من المأمورات والمنهيات الّا بعد بعثة الرسل وامّا وجوب نفس التوحيد فغير متوقف عليه لدلالة الآيات الآفاقية والانفسية عليه وكفاية ادراك العقل فيه واللّه اعلم وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريد حَكِيماً (165) فيما دبر من امر النبوة وخصّ كل نبى بنوع من الوحى والاعجاز والفضل واعطى خاتم النبيين لاجل بعثته إلى كافة الخلق الموجودين إلى يوم القيامة ما اعطى كل نبى - روى ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم واللّه انكم تعلمون انى رسول اللّه فقالوا ما نعلم ذلك ، وقال البغوي ان رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد انا سالنا عنك اليهود وعن صفتك فى كتابهم فزعموا انهم لا يعرفونك(1/1736)
فانزل اللّه تعالى.
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ على نبوتك بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز بالنظم والمعنى الدال على نبوتك أَنْزَلَهُ متلبسا « 2 » بِعِلْمِهِ الخاص به تعالى وهو العلم بالمغيبات الماضية والمستقبلة والعلم بتأليفه بحيث يعجز عن إتيان مثل اقصر سورة منه غيره أو العلم بمن هو أهل للنبوة ونزول
_________
(1) قال فى النهاية يقال اصفحه بالسيف إذا ضربه بعرضه دون حده وهو مصفّح والسيف مصفح - منه رح [.....]
(2) فى الأصل ملتبسا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 278
الكتاب عليه وبعلمه الذي يحتاج إليه الناس فى إصلاح معاشهم ومعادهم ، فالجار والمجرور على الاوّلين حال عن الفاعل وعلى الثالث عن المفعول وجاز ان يكون مفعولا مطلقا أى انزالا متلبسا « 1 » بعلمه والجملة كالتفسير لما قبلها وَالْمَلائِكَةُ أيضا يَشْهَدُونَ على نبوتك حيث يأتونك لا عانتك فى القتال ظاهرين كما كان فى غزوة بدر وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) يعنى كفى بما اقام من الحجج على نبوتك عن الاستشهاد بغيره أو يقال جزاء المؤمنين والكافرين فى الاخرة بيد الله تعالى فكفى به شهيدا إذ الحاكم بالعدل إذا كان عالما شهيدا لا يحتاج إلى شهادة غيره ..
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الايمان بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بكتمان ما ورد نعته فى التورية وتحريفه ومنع الناس عن اتباعه وهم اليهود قَدْ ضَلُّوا عن الحق ضَلالًا بَعِيداً (167) لانهم جمعوا بين الضلال والإضلال.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسله وَظَلَمُوا محمّدا صلى اللّه عليه وسلم بانكار نبوته بعد العلم بها أو ظلموا الناس بصدهم عما فيه صلاحهم يعنى اليهود لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ فى الاخرة طَرِيقاً (168).(1/1737)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ أى الطريق المؤدى إليها خالِدِينَ فِيها أَبَداً أى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها حال مقدرة وَكانَ ذلِكَ أى ادخالهم النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) لا يصعب عليه شىء هذه الآية فى حق من سبق حكمه فيهم انهم يموتون على الكفر والله اعلم ولما قرر اللّه سبحانه امر النبوة وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ووعيد من أنكرها خاطب الناس بالدعوة عامة فقال.
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه وسلم بِالْحَقِّ بالقران والدين الحق مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا به خَيْراً لَكُمْ أى ايمانا خيرا لكم أو وائتوا امرا خيرا لكم ممّا أنتم عليه وقال البغوي تقديره يكن الايمان خيرا لكم ومنعه البصريون قالوا كان لا يحذف مع اسمه الا فيما لا بد منه ولانه يؤدى إلى حذف الشرط وجوابه ويرد على عدم تجويز حذف كان مع اسمه قولهم الناس مجزيون بأعمالهم « 2 » ان خيرا فخيرا وَإِنْ تَكْفُرُوا فاللّه غنى عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بايمانكم وانما يعود نفع ايمانكم وضرر كفركم إليكم ،
_________
(1) فى الأصل ملتبسا -
(2) فى الأصل بأعمالكم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 279
و نبه على غنائه تعالى بقوله فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بمن يؤمن ومن لا يؤمن حَكِيماً (170) لا يسوى بينهما فى الجزاء - .(1/1738)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قيل الخطاب للفريقين اليهود والنصارى فاليهود غلت فى تنقيص عيسى حتى كذبوه وسبوا امه والنصارى فى رفعه حتى اتخذوه الها واصل الغلو مجاوزة الحد وقال البغوي نزلت فى النصارى وهم اصناف اربعة اليعقوبية والملكائية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية والملكائية ان عيسى هو الله وقالت النسطورية عيسى ابن الله وقالت المرقوسية ثالث ثلاثة ويقال الملكائية يقولون عيسى هو الله واليعقوبية يقولون ابن الله والنسطورية يقولون ثالث ثلاثة علمهم رجل من اليهود يقال له بولس سيأتى فى سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ يعنى نزهوه عن الشريك والصاحبة والولد وكونه جسما محتاجا إلى الاكل وغير ذلك إِنَّمَا الْمَسِيحُ مبتدا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عطف بيان من المسيح رَسُولُ اللَّهِ خبر مبتدا يعنى ليس كما قالت النصارى انه ابن الله ولا كما قالت اليهود انه كذاب بل هو رسول الله وَكَلِمَتُهُ يعنى اثر قوله كن فكان بشرا من غير اب أَلْقاها حال بتقدير قد يعنى أوصلها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ عطف على الخبر أى ذو روح صادر منه تعالى بخلقه كسائر الحيوانات لا يمكن ان يكون الها واستد إلى نفسه تشريفا وقيل سمى روحا لأنه كان يحيى الموتى أو القلوب الميتة وقيل الروح هو النفخ الذي نفخه جبرئيل فى درع مريم فحملت بإذن اللّه سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح واضافه إليه تعالى لأنه كان بامره من غير مادة وقيل وروح منه يعنى رحمة منه وقد كان رحمة لمن اتبعه وأمن به وقيل الروح الوحى إلى مريم بالبشارة والى جبرئيل بالنفخ والى عيسى ان كن فكان وقيل أراد بالروح جبرئيل وهو معطوف على الضمير المستتر فى القاها ويجوز العطف للفصل يعنى القاها الله سبحانه إلى مريم وألقاه جبرئيل بامره ، أسند الإلقاء إلى اللّه سبحانه لكونه امرا(1/1739)
و إلى جبرئيل لكونه فاعلا أو إلى اللّه لكونه خالقا والى جبرئيل لكونه كاسبا ، عن عبادة رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من شهد ان لا اله الا اللّه وان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 280
محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد اللّه ورسوله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق ادخله الجنة على ما كان من عمل متفق عليه فَآمِنُوا بِاللَّهِ كما يليق بتنزيهاته وَرُسُلِهِ ومنهم عيسى وَلا تَقُولُوا الالهة ثَلاثَةٌ الله والمسيح ومريم كما يدل عليه قوله تعالى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقيل كانوا يقولون بالأقانيم الثلاثة الله وعيسى وجبرئيل ويسمونهم بالأب والابن وروح القدس قالوا كانت ذات لها العلم والحيوة فانتقلت صفة العلم واستعلت وصارت جسما وسميت بعيسى وصفة الحيوة فسميت جبرئيل انْتَهُوا عن التثليث وائتوا امرا خَيْراً لَكُمْ مما أنتم عليه أو انتهاء خيرا لكم أو يكن الانتهاء خيرا لكم إِنَّمَا اللَّهُ مبتدا إِلهٌ خبره واحِدٌ صفة للتأكيد يعنى لا تعدّد فيه بوجه ما سُبْحانَهُ أى أسبحه سبحانا من أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ فانه انما يكون لمن يتصور له مثل ويتطرق إليه فناء ولذلك سمى الله سبحانه ذلك القول شتما فى حقه ، عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الله تعالى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له ذلك وامّا تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون عليّ من إعادته وامّا شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد وفى رواية ابن عباس فقوله لى ولد وسبحانى ان اتخذ صاحبة أو ولدا رواه البخاري لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعنى جميع من عداه ملكا وخلقا فمن يماثله حتى يتصور كونه ولدا له فهذه(1/1740)
الجملة كأنَّه تعليل لما سبق وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) حافظا ومدبرا لكل من سواه فهو تعالى غنى عن الولد فان الحاجة إلى الولد ليكون وكيلا لابيه قائما مقامه واللّه اعلم ، - قال البغوي (و عزاه الواحدي فى اسباب النزول إلى الكلبي) انه قال وفد نجران يا محمد انك تعيب صاحبنا قال واىّ شىء أقول قال تقول انه عبد الله و
رسوله قال انه ليس بعار لعيسى ان يكون عبد اللّه فنزلت.
ْ يَسْتَنْكِفَ
اى لن يأنف ولن يتعظم الاستنكاف التكبر مع الانفة من نكفت الدمع إذا نحيّته بإصبعك كيلا يرى اثره عليك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 281
ْمَسِيحُ
من نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
فان عبوديته تعالى شرف وكمال يباهى به فانه اصل كل كمال فان الممكن لا يوجد ولا يتصف بشىء من الكمالات ما لم ينتسب إلى اللّه تعالى ولا نسبة له إليه تعالى الا بالعبودية وانما المذلة والاستنكاف من عبودية غيره تعالى فانه ممكن مثله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ(1/1741)
عطف على المسيح يعنى ولا يستنكف الملائكة المقربون من ان يكونوا عبيدا لله تعالى احتج بالآية من زعم بتفضيل الملائكة على البشر لان الترقي يكون من الأدنى إلى الأعلى يقال فلان لا يستنكف من هذا ولا من هو أعلى منه ولا يقال لا يستنكف منه زيد ولا عبده وأجيب بانه تعالى لم يقل ذلك للترقى من الأدنى إلى الأعلى رفعا لمنزلتهم بل ردّا على عبدة الملائكة كما هو رد على عبدة المسيح أو يقال لعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون اعتبار التكبير كقولك أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس قال البيضاوي وان أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش أو من هو أعلى منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الاخر مطلقا والنزاع فيه وقال بعض الأفاضل ان الأظهر فى الدفع ان الترقي بنفي استنكاف الملائكة لانهم اولى بالاستنكاف لا لفضلهم بمعنى كثرة الثواب بل لانهم لا يرون فيما بينهم عبادا بخلاف البشر فان فى بنى نوعهم كثرة العبودية وشيوع الرقية قلت والاولى عندى ان يقال ان الترقي ليس لفضل الملائكة على الأنبياء فضلا كليا بل لشرفهم من وجه وفضلهم فضلا جزئيا ولا نزاع فيه والمعنى ان البشر مع احتياجه لبقاء شخصه ونوعه إلى الاكل والشرب والجماع وغير ذلك وقرب زمان حدوثه وقصر عمره وقرب فنائه كيف يستنكف عن عبودية الله ومخلوقيته وكيف يدعى الالوهية لنفسه مع ان الملائكة مع تجردهم وعدم احتياجهم وطول أعمارهم وشدة بطشهم وعدم ابتلائهم بالامراض والمصائب والشدائد لا يدعون الالوهية ولا يستنكفون عن عبادة اللّه واللّه اعلم وأيضا ان النصارى افرطوا فى شأن عيسى عليه السلام وبرءوه من العبودية لما راوا انه ولد بغير اب وانه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى ، وكان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم فيقال لهم هذه الأوصاف(1/1742)
فى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 282
الملائكة أتم منها فى عيسى وهم لا يستكبرون عن العبودية وأيضا الاشارة إلى افضلية الملائكة على عيسى ولو من وجه خرج مخرج جواب النصارى حين افرطوا فى شأن عيسى حتى أنزلوه منزلة لم تكن له كما ان اللّه تعالى اعتبر فضل خضر على موسى حين سئل هل أحد اعلم منك فقال لا فقال اللّه تعالى بلى عبدنا الخضر حتى قال موسى لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً وقال له هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً - مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
الاستكبار دون الاستنكاف ولذلك عطف عليه وانما يستعمل الاستكبار حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فانه قد يكون باستحقاق سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
(172) فيجازيهم - .(1/1743)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كالمسيح والملائكة والمؤمنين فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ على حسب وعده إياهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما شاء من التضعيفات والمعاملات فى مقام القرب والروية ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر ببال أحد واخرج الطبراني وغيره بسند ضعيف عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف فى الدنيا وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) فان قلت التفصيل غير مطابق للاجمال فان الضمير المنصوب فى قوله تعالى فسيحشرهم عائد إلى من يستنكف فالمجمل كان ذكر المستنكفين وفى التفصيل ذكر الفريقين وأجيب بانه ليس هذا تفصيلا للمنطوق بل لما دل عليه فحوى الكلام كأنَّه قال فسيحشر المستنكفين إليه جميعا فيجازيهم يوم يحشر العباد كلهم للجزاء فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أو يقال جزاء مقابليهم بالإحسان تعذيب لهم بالغم والحسرة فكانّه فصل تعذيبهم بوجهين ، قال التفتازانيّ هذا الجواب ليس بمستقيم لدخول امّا على الفريقين لا على الجزاء للمستنكفين وقدر صاحب الكشاف فى المجمل فسيحشرهم والمؤمنين لاقتضاء التفصيل ذلك ، أو لان أحد المتقابلين يدل على ذكر الاخر قلت بل ذكر الفريقين فيما سبق غير المستنكفين فى ضمن قوله تعالى نْ يَسْتَنْكِفَ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 283
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
و المستنكفون فى ضمن قوله تعالى مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
فبين اللّه جزاء الفريقين - .(1/1744)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى المعجزات الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم أو المعنى قد جاءكم حجة عليكم من ربكم وهو النبي صلى الله عليه وسلم وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) يعنى القرآن فانه ينكشف به الحق كما ينكشف الأشياء بالنور.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعنى جنة وثوابا قدر له بإزاء إيمانه وعمله رحمة منه تعالى لا قضاء لحق وجب عليه خلافا للمعتزلة وَفَضْلٍ احسان زائد على ما وعد له فى الرؤية ودرجات القرب وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أى إلى صراط اللّه سبحانه الموصل إلى الذات البحت المتعالي عن الشيون والاعتبارات صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) وهو الإسلام والطاعة وسلوك طريق الصوفية فى الدنيا وطريق الجنة ومقام الرؤية والقرب فى الاخرة وصراطا حال من المضاف المحذوف فى إليه أو يقال تقديره يهديهم مقربين إليه أو مقربا إياهم إليه فهو حال من الفاعل أو المفعول وصراطا مفعول ثان أو يقال صراطا مستقيما بدل من إليه واللّه اعلم - أخرج ابن مردوية عن عمر انه سال النبي صلى اللّه عليه وسلم كيف يورث الكلالة فانزل اللّه تعالى.(1/1745)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ومر معنى الكلالة فى اوّل السورة وروى النسائي من طريق أبى الزبير عن جابر قال اشتكيت فدخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه اوصى لاخواتى بالثلث قال احسن قلت بالشطر قال احسن - ثم خرج ثم دخل علىّ فقال لا أراك تموت فى وجعك هذا ان الله انزل وبين ما لاخواتك وهو الثلثان فكان جابر يقول نزلت هذه الآية فىّ قال الحافظ ابن حجر العسقلاني هذه قصّة اخرى لجابر غير التي تقدمت فى اوّل السورة - فائدة : - اجمع العلماء على ان هذه الآية فى بيان ميراث الاخوة والأخوات لاب وأم كما ذكرنا فى اوّل السورة عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه وقيس عليهم بالإجماع الاخوة والأخوات لاب
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 284(1/1746)
عند فقد بنى الأعيان إِنِ امْرُؤٌ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صفة لامرئ أو حال من المستكن فى هلك والولد يعم الذكر والأنثى يعنى ليس له ولد ذكر ولا أنثى وَلَهُ أُخْتٌ واحدة لاب وأم يحتمل العطف والحال فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ أى المرء يَرِثُها أى يرث جميع مال أخته ان هلكت عن أخ لها لاب وأم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها أى للمتوفاة وَلَدٌ ذكر ولا أنثى وعدم كون الأب والجد للميت مفهوم من الكلالة فَإِنْ كانَتَا أى من ترث بالاختية اثْنَتَيْنِ فصاعدا بدون الذكر ، اجمعوا على ان حكم الزائد على اثنتين حكم الثنتين فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الأخ وَإِنْ كانُوا أى من يرث بالاخوة إِخْوَةً أى جماعة وحكم الاثنين فى الباب حكم الجماعة بالإجماع رِجالًا وَنِساءً مختلطين كان حق الكلام وان كانوا اخوة وأخوات رجالا ونساء لكن غلّب المذكر فَلِلذَّكَرِ أى فالواجب للذكر منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى ان كان مع الأنثيين أو اكثر ذكر واحد أو اكثر يعطى لكل واحد منهم مثل ما يعطى للانثيين ويعلم بدلالة النص انه ان كان ذكر واحد أو اكثر مع أنثى واحدة يعطى للانثى نصف ما يعطى لذكر واحد منهم والحاصل انه يجعل لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم - (مسئلة) اجمعوا على انه كما يشترط عدم الولد لكون نصيب الاخت النصف ونصيب الأختين فصاعدا الثلثين « 1 » كذلك يشترط لذلك الحكم عدم ولد الابن وان سفل وعلى انه لا نصيب للاخوة والأخوات أصلا مع ذكر من الأولاد أو أولاد الابن وان كان واحدا ومع أنثى واحدة أو اكثر منهم للاخوة والأخوات ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو اكثر الباقي بعد فرض الإناث من الأولاد وأولاد الابن اعنى بعد النصف للواحدة والثلثين للاكثر منهن اما للاخوة فلقوله صلى اللّه عليه وسلم الحقوا الفرائض باهلها وما أبقت فلاولى رجل ذكر متفق عليه من حديث ابن عباس - وكذا(1/1747)
للاخت واحدة كانت أو اكثر مع البنت واحدة كانت أو اكثر لقوله صلى الله عليه وسلم اجعلوا الأخوات مع البنات عصبة ولحديث الهذيل عن شرحبيل قال جاء رجل إلى أبى موسى وسليمان بن ربيعة فسالهما عن رجل مات عن ابنة وابنة ابن واخت لاب
_________
(1) فى الأصل الثلثان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 285(1/1748)
و أم فقالا للبنت النصف وللاخت النصف وائت ابن مسعود فانه سيتا بعنا فاتى ابن مسعود فقال ل قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ساقضى بما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللاخت « 1 » رواه البخاري - (مسئلة) واجمعوا على انه لا يرث الاخوة والأخوات لاب مع أخ واحد ذكر لاب وأم لحديث على رضى اللّه عنه ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال اعيان بنى الام يتوارثون دون بنى العلات يرث الرجل اخوه لابيه وامه دون أخيه لابيه رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث الحرث عن على والحرث ضعيف وقد قال الترمذي لا يعرف الا من حديثه لكن العمل عليه وكان عالما بالفرائض وقد قال النسائي لا بأس به وقول الترمذي العمل عليه حكاية عن الإجماع (مسئلة) واجمعوا على ان للاخت لاب واحدة كانت أو اكثر مع اخت واحدة لاب وأم السدس تكملة للثلثين قياسا على بنت الابن واحدة كانت أو اكثر مع بنت واحدة صلبية ولا يرثن مع الثنتين من الأخوات لاب وأم لاحرازهما تمام الثلثين الا ان يكون معهن ذكر فيعصبهن فيقسم الثلث الباقي بعد حظ الأختين لاب وأم أو النصف الباقي بعد حظ اخت واحدة من الأعيان بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين (مسئلة : ) واجمعوا على ان بنى العلات لهم حكم بنى الأعيان عند عدم واحد منهم امّا لهذه الآية ان قيل ان لفظ الأخ والاخت يشملهم وترجيح بنى الأعيان على بنى العلات بالسنة لكن يلزم على هذا الجمع بين معينى المشترك ، واما بالنقل المستفيض فلاخت واحدة منهم النصف وللثنتين فصاعدا الثلثان ويجوز الذكر منفردا جميع المال وعند الاختلاط للذكر مثل حظ الأنثيين ويحجبهم الابن وابن الابن والأب والجد ولهم مع الإناث من الأولاد مثل ما لبنى الأعيان معهن والله اعلم يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أى يبين الله لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم و(1/1749)
طباعكم لتحترزوا عنه وتتخيروا خلافه أو يبين لكم الحق والصواب كراهة ان تضلوا
_________
(1) وكان ابن عباس يقول ليس للاخت شىء مع البنت ما بقي فللعصبة ويقول لا تجدونه فى كتاب اللّه وفى قضاء رسول الله وقال الله تعالى إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ لكن ما قلنا ثبت بالسنة وعليه انعقد الإجماع منه رحمه الله -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 286(1/1750)
و قال الكوفيون لئلا تضلوا فحذف لا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176) فهو يعلم مصالح العباد فى المحيا والممات والله اعلم - عن البراء بن عازب قال اخر سورة نزلت كاملة براءة واخر اية نزلت خاتمة سورة النساء يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ متفق عليه وقال البغوي عن ابن عباس اخر اية نزلت اية الربوا واخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وروى عنه ان اخر اية نزلت قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ويروى انه بعد ما نزلت سورة النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عامّا ونزلت بعدها سورة براءة وهى اخر سورة نزلت كاملة فعاش بعدها ستة أشهر ثم نزلت فى طريق حجة الوداع يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ فسميت اية الصيف ثم نزلت بعدها وهو واقف بعرفة الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فعاش بعدها أحدا وثمانين يوما ثم نزلت اية الربوا ثم نزلت وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ فعاش بعدها أحد « 1 » أو عشرين يوما والله اعلم - وفى قوله وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد سورة براءة سنة أشهر نظر لانها نزلت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه أميرا للحج سنة تسع من الهجرة بعد خروج أبى بكر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليّا رضى الله عنه بأربعين اية من اوّل سورة براءة يقرا على الناس فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزوله خمسة عشر شهرا وأياما فلعل الراوي قال ستة عشر تكميلا للايام شهرا فسقط لفظ عشر وكذا فى قوله بعد ما نزلت النصر عاش النبي صلى الله عليه وسلم عاما نظر فان النبي صلى اللّه عليه وسلم حين دخل مكة عام الفتح كان يقرا سورة النصر كما ذكر فى تفسير سورة النصر وكان الفتح قبل موته صلى اللّه عليه وسلم بثلثين شهرا واللّه اعلم « 2 » - تمّ تفسير سورة النساء من(1/1751)
تفسير المظهرى حادى عشر شهر رجب سنة الف ومائة وثمان وتسعين من الهجرة على صاحبها صلى اللّه عليه وسلم بتصحيح : مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى
_________
(1) فى الأصل أحد
(2) عن عمر بن الخطاب قال من قرأ البقرة والنساء وال عمران كتب عند اللّه من الحكماء منه رحمه الله
.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 287
فهرست سورة النساء(1/1752)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى منه النّساء تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء اللّه العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه الله فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة أو قبله بسنة أو سنتين بفانى فت ونشابها فحفظ القرآن وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل إلى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ اللّه المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه - وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع إلى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها إلى الله وازديادا مجتهدا فى الخيرات إلى ان أدركته المنية فتوفى فى غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود كوئه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 288
((1/1753)
فهرس للتفسير المظهرى سورة النساء) مضمون/ صفحه سورة النساء - 2 حديث استوصوا بالنساء خيرا فانها خلقت من ضلع آدم - 2 ما ورد فى صلة الرحم وقطعه - 3 حديث لا يتم بعد الاحتلام 4 مسئلة للخاطب ان ينظر إلى وجه المخطوبة - 6 مسئلة لا يجوز التزوج ما فوق الأربع من النساء 7 مسئلة إذا اسلم وتحته اكثر من اربع نسوة أو أختين - 8 مسئلة لا يجوز للعبد اكثر من امرأتين 9 الأفضل كثرة النكاح وفرضيته على التائق - 9 مسئلة نكاح الشغار باطل - 11 مسئلة لا يجوز دفع ماله إلى امرأته ونبيه 12 فيحتاج إليهم - مسئلة بلوغ الغلام والجارية - 13 مسئلة حجر السفيه - 14 مسئلة الرشيد صار سفيها - 15 مسئلة الحجر للدين - 15 مسئلة المفلس المديون هل يجوز إجارته 16 لقضاء الدين - مسئلة هل يجوز للولى الاكل من مال اليتيم - 17 وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى الآية 20 ما ورد فى حرمة أكل مال اليتيم 21 مسائل الفرائض 23 حكم الأولاد وأولاد الابن - 24 حكم الوالدين - مسئلة الاخوة يحجبن الام من الثلث 26 مسئلة الجد الصحيح مع الاخوة - 26 مسئلة الجدة الصحيحة - 28 مسئلة ترتيب الحقوق يتعلق بالتركة - 30 مسئلة تنفيذ الوصايا من الثلث 30 حديث إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه 30 وزوجته وولده - حديث لا وصية لوارث - 31 حكم الأزواج والزوجات وحكم امرأة الفار - 31 حكم أولاد الام - 33 ما ورد فى المقدار فى الوصية وقطع ميراث الورثة - 35 فصل اقسام الوصية - 35 مسئلة العول - 36 مسئلة العصبات بنفسه وبغيره ومولى العتاقة 37 مسئلة الرد - 38 مسئلة إذا اجتمع جهتى فرض وتعصيب - 39 مسئلة ميراث ذوى الأرحام - 39 مسئلة اصناف ذوى الأرحام - 41 مسئلة القتل مانع من الإرث - 42 مسئلة المسلم لا يرث الكافر وبالعكس - 43 مسئلة يرث النصرانىّ اليهودىّ وبالعكس - 43 مسئلة الأنبياء لا يورثون - 43 مسئلة اللواطة وما يجب فيه - 45 أحاديث قبول توبة العبد ما لم يغرغوا وتطلع الشمس من مغربها 48 ما(1/1754)
ورد فى مغالات المهر ومقدار مهر بنات النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه - 51
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 289
مسئلة هل يستقر المهر بالوطى أو بالخلوة الصحيحة 52 مسئلة حرمة منكوحات الآباء - 53 مسئلة حرمة المصاهرة بالزنى وبالمس بشهوة 55 أو النظر إلى فرجها - مسائل المحرمات بالنسب وبالرضاع - 56 مسئلة الرضاع وان قلّ يحرّم 57 مسئلة الرضاع بعد مدة الرضاع لا يحرم - 58 مسئلة مدة الرضاع سنتان - 59 مسئلة المحرمات بالمصاهرة - 60 مسئلة الجمع بين الأختين ونحوهما 62 حديث إكرام المرضعة وحرمة قطع وصلة الرضاع 63 مسئلة وقوع الفرقة بين الزوجين بالسبي أو باختلاف الدارين حقيقة أو حكما - 65 مسئلة المهر من لوازم النكاح وليس من 67 شرائطه ذكره - مسئلة إذا تزوج بشرط ان لا مهر لها - 67 مسائل ما يصلح مهرا وما لا يصلح 68 مسئلة تقدير اقل المهر - 72 مسئلة المتعة حرام - 75 مسئلة هل يستحق المرأة المهر بالعقد أو بالدخول 78 مسئلة الزيادة فى المهر والحط عنه يلحق بأصل العقد 79 مسئلة هل يجوز للحر نكاح الامة عند طول الحرة 80 وهل يجوز للحر المسلم نكاح الامة الكتابية وكراهة نكاح الإماء - مسئلة نكاح الرقيق بغير اذن السيد - 81 مسئلة هل يجوز النكاح مع الزانية - 82 مسئلة حد الزنى فى الحر والرقيق - 83 مسئلة نكاح الإماء ضرورى فهل يجوز فوق الواحدة أو يجوز مطلقا 85 مسئلة لا يجوز نكاح الامة فوق الحرة - 85 حديث اىّ الكسب أطيب(1/1755)
87 مسئلة خيار المجلس فى البيع - 88 مسئلة قتل الرجل نفسه أو غيره وقوله تعالى ولا تقتلوا 89 أنفسكم - مسئلة بيان الكبائر من الذنوب ومراتبها - 90 فائدة مبالغة النبي صلى الله عليه وسلم فى التهديد 92 فى الكذب - فائدة أساس المعاصي قساوة القلب - 94 فائدة تأويل ما قيل ان العبد يبلغ درجة لا يضره ذنب عمله 94 مسئلة ارث مولى الموالاة - 97 مسئلة للاسفل ان يسقط ولاءه عن الأعلى وللاعلى التبري عنه - 97 ما ورد فى المرأة الصالحة - 98 مسئلة جواز ضرب المرأة الناشزة 100 مسئلة حقوق المرأة على زوجها - 100 حديث خيركم خيركم لاهله - 100 مسئلة بعث الحكمين للاصلاح بين الزوجين 101 وما يجوز للحكمين - مسئلة عبادة الله وعدم الإشراك - 102 مسئلة الإحسان بالوالدين والأقربين 103 واليتامى والمساكين والجار والمصاحب وابن السبيل والمملوك - ما ورد فى التواضع والنهى عن التكبر والعقوق 105 وقطع الرحم - ما ورد فى السخاء والبخل - 105 ما ورد فى الرياء - 106
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 290(1/1756)
حديث لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق فى الدنيا ويجزى بها فى الاخرة - واما الكافر فيطعم فى الدنيا ولم تكن له حسنة فى الاخرة - أحاديث شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض وسعة رحمة اللّه - 108 حديث مؤاخذة حقوق الناس وتضعيف الحسنات 109 حديث ليس من يوم الا وتعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وسعية - 110 حديث سمع النبي صلى الله عليه وسلم سورة النساء 110 حتى بلغ فكيف إذا جئنا من كلّ امّة بشهيد وجئنا بك الآية فقال حسبك فإذا عيناه تذرفان - 110 مسئلة النهى عن السكر عند الصلاة - 112 حديث إذا نعس أحدكم فى الصلاة فليرقد 112 مسئلة وجوب الغسل بالجماع وان لم ينزل 113 وبالمنى - وروية المستيقظ المنى أو المذي - مسئلة التيمم لا يرفع الحدث بل يستر - 115 مسئلة هل يجوز المرور فى المسجد للجنب - 116 مسئلة لا يجوز المكث فى المسجد للجنب - 116 مسئلة لا يجوز للجنب الطواف ولا قراءة القرآن ولا مسه - 116 مسئلة من لم يجد الماء وهو صحيح مقيم يتمم وهل يعيد الصلاة ان كان بموضع لا يعدم فيها الماء غالبا - 117 مسائل نواقض الوضوء - الخارج من السبيلين ومس المرأة والنوم والإغماء والجنون والقهقهة فى الصلاة وأكل دم الجزور ومس الذكر 118 مسئلة ما يشترط للتيمم عدم القدوة على استعمال الماء باى سبب كان 125 مسئلة هل يشترط للمسافر طلب الماء من رفيقه أو رحله 126 مسئلة يشترط النية فى التيمم - 126 مسئلة الصعيد اسم لوجه الأرض - 126 مسئلة الطهارة فى الصعيد شرط - 127 مسئلة الواجب فى التيمم المسح إلى المرفقين - 129 ما ورد فى كيفية التيمم - 129 مسئلة هل يجوز التيمم لخوف فوت العيد والجنازة أو لخوف فوت الوقت أو الجمعة وهل يجب الاعادة - 130 مسئلة إذا وجد الماء بعد الصلاة بالتيمم فى الوقت هل يعيد - 131 مسئلة من كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا 131 مسئلة هل يجوز بالتيمم صلوات كثيرة ما لم يحدث 131 أو يجد الماء - مسئلة فاقد(1/1757)
الطهورين - 132 مسئلة بطلان مذهب المرجئة فى القطع بالمغفرة 138 ومذهب الخوارج بتكفير المذنب - حديث ثنتان موجبتان - 139 حديث من قال لا اله الا الله دخل الجنة - 139 مسئلة لا يجوز تزكية نفسه ولا الحكم على الغير 140 بالطهارة قطعا الا على حسن الظن - مسئلة يجوز بيان فضل نفسه بالوحى أو الإلهام 140 بشرط عدم البطر والتكبر - قصة خروج كعب بن الأشرف إلى مكة لجمع الأحزاب ناقضا لعهد كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده للصنم وقوله للمشركين هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا - 141 حديث هدم خالد العزى وخروج الشيطانة منها 143
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 291
ما ورد فى قوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ وما ورد فى عظم جثة الكافر فى النار 145 قصة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة من عثمان ثم إعطائه إياه بامر الله تعالى - 146 ما ورد فى أداء الامانة - 147 فائدة ومن أداء الامانة الفناء والبقاء 149 المصطلح المستلزمان لتزكية النفس من تزكيتها - الامارة والقضاء امانة وما ورد فى التجنب عنهما - 150 ما ورد فى إطاعة اولى الأمر من امام العامة 151 والزوج والسيد والوالد والعلماء والمشائخ - مسئلة وجوب إطاعة الأمير مقيد بما لم يخالف امره الشرع - 152 مسئلة إذا قال القاضي قضيت بالرجم على وسعك ان تفعل - 152 مسئلة إذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه 153 مسئلة إذا افتى المجتهد وظهر ان فتواه مخالف للكتاب أو السنة - 153 قصة مخاصمة اليهودي والمنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم رضاء المنافق بقضائه صلى الله عليه وسلم ورفعهما الأمر إلى عمر وقتل عمر المنافق و(1/1758)
تسميته بالفاروق - 154 حديث من اتى كاهنا فصدقه أو اتى امرأت حائضا أو فى دبرها فقد برئ مما نزل على محمد - 155 قوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ - 158 الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ اربعة اصناف ويلحق بهم من يحبهم - 161 حديث المرء مع من أحب - 162 حديث لا ينجو أحد منكم بعمله ولا انا الا ان يتغمدنى الله برحمته - 162 ما ورد فى المجاهدين فى سبيل اللّه - 164 ما ورد فى انه ما من مصيبة أصاب المسلم الا بذنبه ويكفر بها عنه خطاياه - 168 حديث وزيراى فى الأرض أبو بكر وعمر - 170 حديث اقتدوا بالذين من بعدي - 170 حديث اشفعوا تؤجروا - 172 مسئلة ومن الشفاعة الحسنة الدعاء لمسلم والإصلاح بين الناس - 172 حديث من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة - 172 مسائل وجوب رد السلام وكونه على الكفاية وما يتعلق بذلك - 173 ما ورد فى تشميت العاطس والعيادة والمصافحة وغير ذلك - 176 قصة قتل عياش بن ربيعة الحارث بن زيد خطأ 181 مسئلة هل يجب الكفارة فى القتل عمدا - 183 انواع القتل خطأ وحكمها - 183 مسئلة لا كفارة فى شبه العمد فى رواية لابى حنيفة عاقلا بالغا - 185 مسئلة ما يشترط لجواز العتق من الكفارة - 185 مسائل الدية ومن يجب عليه - 185 فصل فى مقدارها فى النفس وما دونها - 187 مسئلة دية المرأة والرقيق - 190 مسئلة جناية العبد - 191 حديث كل معروف صدقة - 192
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 292(1/1759)
مسئلة دية مسلم لم يهاجر ومسلم ليس له وارث مسلم - 192 مسئلة مقدار دية الكافر - 193 مسئلة الكفارة بالصوم - 195 مسئلة شبه العمد فى الإثم كالعمد 196 مسئلة هل تقبل توبة القاتل عمدا - 196 مسئلة مرتكب الكبيرة ليس بكافر ولا مخلد فى النار 197 فصل فيما ورد فى القاتل عمدا - 198 قوله تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا 199 مسئلة المجتهد قد يخطئ وخطاؤه مغفور ويجب عليه التثبت والتبيين - 201 مسئلة إذا راى الغزاة فى قرية شعار الإسلام كفوا عنه - 201 ما ورد فى فضل المجاهدين على القاعدين من غير عذر والقاعدين بعذر - 202 قد يبلغ القاعد بعذر درجة المجاهد - 202 مسئلة حرمة الفرار عند التقاء الصفين - 204 مسئلة يشترط للجهاد الزاد والراحلة - 204 مسئلة إذا هجم العدو يكون الجهاد فرض عين - 204 حديث حضور ملائكة الرحمة للمؤمن وملائكة العذاب للكافر عند الموت - 206 مسئلة الهجرة من دار الكفر على من قدر عليها فريضة محكمة 207 مسئلة يجب الهجرة على العبد بغير اذن سيده - 209 حديث من خرج إلينا من العبيد فهو حر - 209 مسائل قصر الصلاة فى السفر من غير خوف مسائل صلوة الخوف وانحائها - 218 مسئلة الواجب التشبث بالأسباب والمحافظة على التيقظ والتدبر فى الجهاد مع التوكل على اللّه تعالى 224 حديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل احيانه والظاهر ان المراد به دوام الحضور - 224 مسئلة اوقات الصلاة - 225 قصة سرقة طعمة بن أبيرق من مشربة رفاعة بن زيد - 229 مسئلة حجية الإجماع وحرمة مخالفته - 236 حديث الدعاء هو العبادة - 237 ما ورد فى الوسوسة وان الشيطان يجرى من الإنسان مجرى الدم - وفى لمة الشيطان ولمة الملك - 238 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة 239 حديث قدسى انا اغنى الشركاء من الشرك - 240 حديث بايعونى على ان لا تشركوا باللّه شيئا ولا تزنوا إلخ - 241 ما ورد فى ان المؤمنين يجزون فى الدنيا بذنوبهم حتى(1/1760)
يلاقوا الله وليس لهم ذنوب والكفار يجزون بذلك يوم القيامة 242 حديث من يعمل حسنة فله عشر حسنات ومن جوى بالسيئة نقصت واحدة من عشر - 242 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه - 245 حديث لما القى ابراهيم فى النار قال له جبرئيل 246 هل لك حاجة قال اما إليك فلا إلخ - تحقيق مقام الخلة وإعطاء ذلك المقام للمجدد بعد الف سنة لدعائه صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى ال محمد كما صليت على ابراهيم - 248 حديث مثل أمتي كمثل المطر - 248
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 293
حديث جعلت سودة يومها من النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - 251 مسئلة الصلح بين الزوجين - 252 مسائل الصلح عن اقرار وسكوت وانكار وما يتعلق به 253 حديث من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما - 255 مسئلة القسم بين الأزواج الجديدة والقديمة والحرة والامة فى الحضر وحكم السفر - 257 مسئلة ترك احدى الزوجات قسمها لضرتها كما فعلت سودة وجواز الرجوع فى القسم ولا يجوز ترك القسم للمرض - 257 ما ورد فى فضل أهل الفارس وقوله صلى الله عليه وسلم لو كان الدين عند الثريا لنا له رجال من الفرس قلت لعل هذا فى مشائخ ما وراء النهر مثل بهاء الدين النقشبندي - 258 حديث من كانت هجرته إلى دنيا إلخ 259 مسئلة الواجب على القاضي التسوية بين الخصمين 259 مسئلة وجوب كمال(1/1761)
الايمان وهو الايمان الحقيقي بعد ايمان المجازى - 260 حديث الفصل بين المؤمن والمنافق يوم القيامة - 263 مسئلة هل يجوز اشتراء الكافر عبدا مسلما - 264 مسئلة المرتد تبين امرأته المسلمة بنفس الارتداد 264 حديث مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين - 265 ما ورد فى انّ المنفقين فى الدّرك الأسفل من النّار - 265 حديث المستبان ما قالا فعلى البادي منهما ما لم يعتد المظلوم - 267 حديث قيل كم أعفو عن الخادم قال صلى الله عليه وسلم كل يوم سبعين مرة - 267 قصة رفع عيسى عليه السلام إلى السماء واشتباه ذلك على اليهود واختلافهم - 271 قوله تعالى وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ - 272 ما ورد فى نزول عيسى عليه السلام - 273 كان داود يخرج إلى البرية فيقوم ويقرا الزبور - 275 قوله عليه السلام لابى موسى الأشعري لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود - 275 ما ورد فى عدد الأنبياء عليهم السلام 276 مسئلة معرفة الأنبياء بأعيانهم لا يشترط لصحة الايمان 276 حديث من أجل غيرة الله حرم الفواحش ولا أحد أحب إليه العذر من الله ولا أحد أحب إليه المدحة من الله إلخ 276 مسئلة هل يعذب الخلق قبل بعثة الرسل - 276 حديث من شهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وان عيسى عبد الله ورسوله - 280 حديث قدسى كذبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى - 280 مسئلة ميراث الاخوة والأخوات لاب وأم - أو لاب عند عدم الولد - وما لهم مع البنات - الاختلاف فى اخر سورة نزلت - واخر اية نزلت 286 تمت فهرس سورة النساء.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 3
الجزء الثالث
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فهرس التّفسير المظهرى
فهرس تفسير سورة المائدة من التّفسير المظهرى(1/1762)
مضمون صفحه قوله تعالى أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وحديث من 13 آيات المنافق إذا عاهد غدر 14 مسئله حل أكل الجنين إذا خرج ميتابعه زكاة أمه - 15 مسئله الاشعار فى الهدايا سنة 17 مسئله يكره ان يذكر مع اسم اللّه تعالى عند الذبح شيئا غيره موصولا لا معطوفا واما معطوفا فيحرم الذبيحة 20 مسئله إذا جرح السبع وأدركته حيا فذبحته يحل أكله 21 مسئله يجوز الذبح بكل ما ينهر الدم 21 مسئله يستحب للذابح ان يحد شفرته 22 مسئله لو رمى إلى صيد فى الهواء فسقط ومات 22 مسئله ان كسر الكلب عضو صيد هل يوكل 27 حديث ما أصاب بعرضه فقتله فلا تأكل وغير ذلك من مسائل الصيد 27 مسئله ترك التسمية عند الذبح والرمي وإرسال الكلب 30 مسائل ما يحل أكله من الحيوانات وما يحرم 32 فائدة أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجاج والجنادى 238 مضمون صفحه مسئله ذبيحة الكافر 38 مسئله ذبيحة اليهودي على اسم عزير ع 39 مسئله نكاح الكتابيات والمشركات والصابيات 41 مسائل الوضوء 43 مسائل الغسل 57 مسئلة التيمم 60 ما ورد فى الطهارة عن الذنوب بالوضوء 61 وحديث يدعون أمتي غرا محجلين - 61 قصة بعث المنذر بن عمرو الساعدي 63 ثلثين ركبا إلى بنى عامر وغدد بنى عامر وشهادة المنذر ومن معه الا ثلاثة نفر أحدهم عمرو بن امية الضمري وقتل عمرو بن امية رجلين من بنى عامر وبين قومهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم موادعة وذهاب النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بنى النضير ليستعين فى الدية وغدرهم به عن ابن مسعود الرجل ينسى العلم بالخطيئة 66 العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن غيره 67 حديث انا اولى الناس بعيسى 71 الأنبياء اخوة من علات - 71
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 4(1/1763)
قصة مسير موسى مع بنى إسرائيل لقتال 72 الجبارين وبعثه اثنتي عشر نقيبا - وقصة عوج بن عنق - 73 ومعصية بنى إسرائيل وقعودهم عن الحرب 73 قصة مبعث يوشع وقتاله مع الجبابرة ورد الشمس عليه - 75 حديث ان الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع وذكر موت يوشع - 75 قصة احتباس بنى إسرائيل فى التيه - 76 قصة وفات هارون ع - 76 قصة وفات موسى ع - 77 قصة هابيل وقابيل - 78 ان الطاعة انما يتقبل من مؤمن متقى - 79 حديث كن عبد اللّه المقتول ولا تكن عبد اللّه القاتل - 80 حديث أن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتى قد شتم هذا وأكل ما لهذا الحديث - 80 حديث لا يقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل 83 ما ورد فى قتل مؤمن بغير حق - 84 قوله تعالى انما جزاء الذين يحاربون اللّه - 85 وقصة العرنيّين - 85 وقصة هلال بن عويمر - 286 مسائل قطاع الطريق - 86 مسئله الوسيلة درجة مختصة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم جاز حصولها لبعض الكمل من افراد أمته 92 مسئلة الترقي إلى الوسيلة منوط بالمحبة وهى 92 مرتبة اللاتعين على اصطلاح المجددية - المحبة ثمرة اتباع السنة - 92 حديث يقول اللّه لا هون أهل النار عذابا لوان 93 لك ما فى الأرض من شيء أ كنت تفتدى به - مسائل السرقة - 93 مسائل الرشوة وحرمتها على الاخذ وما يحل منها للمعطى وما لا يحل - 113 مسئله إذا ترافع الكفار من أهل الحرب أو الذمة قضية إلى القاضي هل يجوز له الاعراض عن الحكم 115 وإذا ترافع أهل الإسلام أو الكفر إلى رجل من عوام المسلمين ليحكم بينهم - 116 ما ورد فى فضل الحكم بالعدل - 116 مسئله يجب علينا العمل بشرائع من قبلنا ما لم يظهر نسخه - 117 حديث انا اولى الناس بعيسى - 117 مسائل القصاص فى الأطراف والجروح وما لا قصاص فيه - 119 قصة إعطاء علىّ كرم اللّه وجهه خاتمه فى الصلاة للفقير - 132 مسئله العمل القليل فى الصلاة لا يبطلها - 132(1/1764)
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 5
مسئله صدقة التطوع تسمى زكاة - 132 استدلال الروافض على انحصار الخلافة فى علىّ رضى اللّه عنه وابطال قولهم - 134 مسئله صرف الحواس والعقل ليست علة موجبة للعلم كما زعمت الفلاسفة - 137 حديث ان الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة والحج - 142 حديث والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودى ولا نصرانى ثم يموت ولم يومن الحديث 142 حديث ان الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه الحديث 150 حديث كان فيمن قبلكم إذا عمل عامل خطيئه ونهاه فإذا كانوا من الغد جالسه وأكله فجعلهم اللّه قردة وخنازير ولعنهم الحديث - 151 قصة هجرة الصحابة إلى الحبشة واسلام النجاشي ومن اسلم من الحبشة - 153 قصة نكاح أم المؤمنين أم حبيبة - 154 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه - 156 قصة اتفاق بعض الصحابة وعزمهم على الترحب ومنعه(1/1765)
صلى اللّه عليه وسلم إياهم عنه - 157 ما ورد فى النهى عن التشدد على أنفسهم وقوله عليه السلام من رغب عن سنتى فليس منى - 158 حديث كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلو والعسل - 2159 حديث الطاعم الشاكر كالصائم الصابر 160 مسائل اليمين المنعقدة وكفارته 160 حديث من قال انى برئ من الإسلام ان كان كذا فان كان كاذبا فهو كما قال الحديث - 161 فصل فى النذر وما يجب فيه الكفارة من النذر 170 مسئله الاستثناء بعد الحلف - 170 حديث شارب الخمر كعابد الوثن - 172 ما ورد فى ان الصلاة فارق بين الايمان والكفر 173 ما ورد فى حرمة الخمر ووعيد شاربها - 173 ما ورد فى النهى عن قتل الصيد للمحرم وما يحل له قتله - 175 مسئله يحرم على المحرم الاشارة إلى الصيد 177 والدلالة عليه لمن يصيد - 177 مسئلة ما صاد المحرم فهو ميتة 177 مسئلة ما صاد الحلال بامر المحرم أو إشارته أو دلالته يحرم على المحرم فقط - 177 مسائل جزاء الصيد على المحرم - 178 وقصة ما اهدى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من حمار الوحش وهو محرم - 186 مسئلة ما اصطاد الحلال لاجل المحرم 187 حديث من تصدق بعدل تمرة ولا يقبل اللّه الا الطيب - 190 حديث هذا « 1 » خير من ملأ الأرض مثل هذا « 2 » 191
_________
(1) يعنى المؤمن الفقير 12.
(2) يعنى الكافر الخبيث 12.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 6(1/1766)
مسئله الأمر المطلق لا يقتضى التكرار 191 حديث انما شفاء العي السؤال 192 حديث الولاء لمن أعتق 194 حديث رايت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ 194 قصبه فى النار كان أول من سيب السوائب حديث إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعقاب الحديث ونحوه - 196 قال ابن عباس مروا بالمعروف وانهوا عن 196 المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم أنفسكم تاويل قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم - 196 حديث ايتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر 196 حتى إذا رأيت شحا مطاعا وديتا موثرة الحديث إلى قوله فعليك نفسك فان ورائكم ايام الصبر الحديث - حديث ليردنّ علىّ ناس من أصحابي على الحوض حتى 202 عرفتهم اختلجوا دونى فاقول أصيحابي الحديث قصة سوال عيسى عليه السلام المائدة - 204 قصة نزول المائدة 205 حديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلى قوله تعالى فى ابراهيم رب انهن اضللن كثيرا من الناس الآية وفى عيسى ان تعذبهم فانهم عبادك الآية فقال اللّهم أمتي أمتي وبكى فقال اللّه تعالى انا سنرضيك فى أمتك - 210 تمّ فهرس تفسير سورة المائدة.
فهرس تفسير سورة الانعام من التفسير المظهرى
حديث خطلنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا الحديث - 213 حديث ان اللّه خلق الخلق فى ظلمة فالقى عليهم من نوره الحديث - 213 حديث خلق اللّه آدم من تواب وجعله طينا الحديث - 2218 حديث ان اللّه خلق آدم من قبضة إلخ 214 حديث ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة إلخ 214 حديث ستة لعنتهم ولعنهم اللّه إلخ 215 مسئله الرسول برزخ لا بد له من المناسبة بين الخلائق وبين الخالق وذكر مبادى تعينات 218
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 7(1/1767)
الرسل عليهم السّلام حديث قدسى رحمتى سبقت غضبى إلخ 219 حديث ان للّه مائة رحمة انزل منها واحدة 219 حديث قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سبى فإذا امرأت وجدت صبيا فالصقته ببطنها وارضعته فقال عليه السلام هل ترون هذه طارحة ولدها فى النار للّه ارحم من هذه بولدها إلخ 219 حديث احفظ اللّه يحفظك وفيه لو جهد الخلائق ان ينفعوك أو يضروك بما لم يقضه اللّه ما قدروا عليه إلخ 224 نزول قوله تعالى قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ - 224 حديث بلغوا عنى ولو اية إلخ 224 حديث من حدث عنى بحديث وهو يرى انه كذب إلخ 224 حديث نصر اللّه عبد اسمع مقالتى فحفظها وأذاها إلخ 224 حديث ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار - 225 حديث كيف بكم إذ جمعكم اللّه كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر إليكم إلخ 226 حديث ليعذرن اللّه إلى آدم يوم القيمة ثلث معاذير إلخ 229 حديث قدسى انا عند ظن عبدى بي إلخ 230 من مات فقد قامت قيامته - 231 حديث والمؤمن إذا خرج من قبره استقبله 231 عمله فى احسن صورة وفيه يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا والكافر إذا خرج من قبره استقبله عمله فى أقبح صورة وفيه ويحملون أوزارهم على ظهورهم حديث لا الفين أحدكم يوم القيمة على رقبته بعير بقر شاة وصامت إلخ 231 حديث من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يجمل على عاتقه - 241 حديث من ظلم قيد شبر أرضا طوق إلخ 241 أحاديث القصاص بين البهائم - 245 حديث إذا رايت يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يحب فانما هو استدراج 236 الذين نزل فيهم لا تطرد الذين يدعون ربهم الآية مسئله الاستعداد يسبق الوجود - 241 الذين نزل فيهم إذا جاءك الذين يومنون باياتنا فقل سلام عليكم الآية 242 حديث مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا اللّه إلخ 245 قوله تعالى توفته رسلنا وما ورد فى ملك 246 الموت وأعوانه وملئكة الرحمة والعذاب(1/1768)
حديث صعود روح المؤمن والكافر إلى السماء وفتح باب السماء للمومن دون الكافر - 247 أحاديث تعوذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نزول العذاب من الفوق ومن التحت وقال ان يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض هذا أهون - 251 حديث سال اللّه ثلثة فاعطاه اثنين ومنعه واحدة - 251 أحاديث الصور وملك الصور ذكرا زر 254
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 8(1/1769)
و هل كان هو عم ابراهيم أو أبوه - حديث يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيمة إلخ 256 ما ورد فى روية ابراهيم ملكوت السموات والأرض - 257 استدلال ابراهيم بالكوكب والقمر والشمس لالزام الكفار - 258 وقصة نمرود 258 وقصة ولادة ابراهيم وبلوغه إلى الرشد 259 حديث الظلم انما هو الشرك - 263 حديث الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه إلخ 264 قوله تعالى فبهداهم اقتده - 265 مسئلة التعبد بالشرائع السابقة - 266 مسئله لا يجوز أخذ الاجرة على القرآن والفقه - 266 ذكر مسيلمة الكذاب واسود العنسي - 268 بحث روية اللّه تعالى فى الجنة وجواب استدلال المعتزلة بقوله تعالى لا تدركه الابصار 273 مسئلة الكفر والايمان كل منهما بارادة اللّه تعالى ومراده تعالى واجب وقوعه - 276 الأصلح ليس بواجب - 277 حديث شياطين الانس شر من شياطين الجنّ - 279 مسئله متروك التسمية عند الذبح عامدا أو ناسيا - 2282 مسئله تحقيق مبادى تعينات الأنبياء والملئكة وغيرهم وافضلية ولاية الملئكة على ولاية الأنبياء وفضلهم بالنبوة 286 مسئله شرح الصدر وامارته 286 ذكر الرسل من الجن وذكر مذهب أهل الهند - 289 مسئله هل فى الزرع حق للّه تعالى سوى زكوة الزرع - 294 حديث نفى الوجوب فى المال سوى الزكوة 294 حديث ان فى المال حقا سوى الزكوة 295 مسئله الإسراف ما هو - 295 الأحاديث الواردة فى الانفاق فى سبيل اللّه وعدم الإمساك شيئا - 296 قوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الىّ إلخ 298 مسئله هل ينحصر التحريم فى الثلاثة اولا - 298 حديث تحريم بيع الخمر والميتة ونحو ذلك 301 حديث لعن اللّه اليهود لما حرم عليهم 301 الشحوم جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه حديث لا تشرك باللّه شيئا وان قتلت ولا تعقن والديك إلخ 303 حديث
اى الذنب اكبر - 304 حديث لا يحل دم امرأ مسلم الا بإحدى ثلث - 304 ما ورد من الأحاديث فى إعطاء من له الحق اكثر من حقه - 305
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 9(1/1770)
حديث رحم اللّه رجلا سمحا إلخ 306 حديث عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه - 306 حديث القضاة ثلث واحد في الجنة إلخ حديث الحلال بين والحرام بين إلخ - 306 حديث خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا إلخ 307 حديث لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواة تبعا لما جئت به - 307 فصل فى اشراط الساعة الدجال وغيره 310 فصل فى المهدى - 312 الأحاديث الواردة فى عدم قبول ايمان الكافر وتوبة الفاسق بعد مشاهدة اشراط الساعة - 313 حديث ينزل عيسى عليه السّلام فيتزوج ويولد له ويمكث إلخ - 314 الأحاديث الواردة فى تفرق الامة إلى ثلث وسبعين فرقة وفى أهل البدع والأهواء والمنع عن البدعة وإيجاب اتباع السنة والجماعة وانه لا يجتمع الامة على الضلال يد اللّه على الجماعة - 314 وذكر منشأ الأهواء الباطلة - 316 حديث فى القدرية والمرجئة - 316 حديث ستة لعنتهم ولعنهم اللّه إلخ 316 ذم الروافض وما ورد من الأحاديث فى الروافض - 317 ما ورد فى ان الحسنة تضاعف ثوابها إلى عشرة أمثالها وما فوق ذلك - 318 وتحقيق هذا التضعيف فى الصدقات وغيرها - 318 ولا تضاعف فى السيئات - 318 حديث عملت اليهود إلى نصف النهار والنصارى إلى العصر كل على قيراط والمسلمون إلى المغرب على قيراطين - 319 حديث كل تسبيحة صدقة إلخ 320 حديث الا أخبركم بخير أعمالكم يعنى ذكر اللّه - 320 ما ورد فى نزول سورة الانعام جملة وفضلها - 322 تمّ فهرس تفسير سورة الانعام من التّفسير المظهرى.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 10
فهرس تفسير سورة الأعراف من التفسير المظهرى(1/1771)
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ما ورد فى السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم 325 ما ورد فى الميزان وكيفية وزن الأعمال 326 قصة خلق آدم وإبليس وامره بالسجود 331 ما ورد فى التكبر - 333 اجابة الدعاء قد يكون استدراجا - 334 مسئلة إذا حضرت الصلاة وأنتم عند 339 مسجد فصلوا فيه ولا تقولوا صلى فى مسجدى ما ورد فى ان الناس يبعثون من قبورهم 340 حفاة عراة وما ورد فى انهم يبعثون فى ثيابهم مسئلة الجهل ليس بعذر - 341 خذوا زينتكم عند كل مسجد - 341 مسئلة اشتراط ستر العورة فى الصلاة - 343 مسئلة عورة الرجل - 343 مسئلة الركبة عورة 345 مسئلة عورة الحرة 345 مسئلة نغمة المرأة عورة فإذا جهرت القراءة فسدت صلوتها - 345 مسئلة عورة الامة 345 مسئلة يجب عند احمد ستر المنكبين فى الفرض - 346 مسئلة يستحب ان يصلى الرجل فى ثياب الزينة - 2346 حديث كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطأتك خصلتان سرف ومخيلة 347 مسئلة الأصل فى المطاعم والمشارب الحل - 347 حديث لا أحدا غير من اللّه الحديث - 348 حديث قبض روح الكافر - 350 حديث يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة فيقتص لبعضهم من بعض مظالم - 351 واختلف فى القنطرة 352 نزع الغل من الصدور قد يكون بغير قصاص - 352 حديث ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقموا ابدا إلخ 353 حديث ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار - 353 ما ورد فى الأعراف وأصحابه - 354 حديث التأنى من الرحمن والعجلة من الشيطان - 359 بحث الاستواء على العرش 359 ما ورد فى ذكر الجهر والخفي - 361 فصل فى اقسام الذكر - 362
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 11(1/1772)
ما ورد فى الاعتداء فى الدعاء 363 ما ورد فى ما يمنع من اجابة الدعاء 364 ما ورد فى ما بين النفختين 365 قصة نوح عليه السلام ونسبه ووجه تسميته 366 حديث اوحى اللّه لنبى قل لاهل طاعتى لا يتكلوا على اعماله ولاهل معصيتى لا تقنطوا - 368 ذكر هود عليه السلام - ونسبه 369 قصة عاد - 371 ذكر صالح عليه السلام - 374 حديث أشقى الأولين عاقر ناقة صالح ع وأشقى الآخرين قاتل على رض - 376 قصة ثمود - 376 حديث نزوله صلى اللّه عليه واله وسلم الحجر فى غزوة تبوك وذكر أبى رغال - 381 قصة لوط عليه السلام - 381 قصة مدين وشعيب عليه السلام - 383 حديث ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه الكتاب إلخ 385 حديث قلوب بنى آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن - 385 قصة موسى عليه السلام وفرعون - 389 قصة نزول الآيات من الطوفان وغيره - 396 ما ورد فى الطاعون - 399 قصة إتيان موسى عليه السلام على 2401 قوم يعكفون على أصنام وقول بنى إسرائيل اجعل لنا الها - حديث قول بعض الصحابة فى غزوة حنين اجعل لنا ذات أنواط - 402 قصة ميعاد موسى ثلثين ليلة وإتمامها 402 قصة تكليم موسى عليه السلام وطلبه الروية - 403 قوله تعالى تجلى ربه للجبل - 406 معنى التجلي عند الصوفية - 406 فى القصة ان موسى بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد ان ينظر إليه لما غشى وجهه النور - 407 ما روى البخاري عن كعب الأحبار فى فضائل أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم وقول موسى يا ليتنى من اصحاب محمد صلى اللّه عليه واله وسلم - 407 ما ورد فى كتابة التورية - 408 قصة اتخاذ بنى إسرائيل العجل - 410 قصة غضب موسى على عبادة العجل والقائه التورية - 411 حديث ليس الخبر كالمعاينة - 412 حديث كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبى 415 حديث انا أمة امية - 416 حديث انا اكثر الأنبياء تبعا - 416
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 12(1/1773)
ما ورد فى نعوت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى التورية - حديث فضلت على الأنبياء بست - قصة من اعتدى فى السبت فصاروا قردا 424 قصة إخراج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم 427 قصة بلعم بن باعور - 430 قصة ملك بلقاء وبلعام - 432 قصة امية بن أبى الصلت الثقفي 432 قصة بسوس رجل من بنى إسرائيل - 433 حب الدنيا راس كل خطيئة 434 ما ورد فى ان اللّه تعالى خلق خلقا للجنة وخلقا للنار - 435 اسماء اللّه الحسنى وانها توقيفية - 436 حديث لا يزال من أمتي أمة قائمة بامر اللّه إلخ 439 ما ورد فى إتيان القيامة بغتة - 440 ما ورد فى فضيلة العفو - 445 ما ورد فى ان يصل من قطعه ويعطى من حرمه ويعفو عمن ظلمه - 445 ما ورد فى الأمر بالمعروف - 446 ما ورد فى مكارم الأخلاق - 446 بحث الكلام فى الصلاة واختلافهم فى الكلام ساهيا أو جاهلا أو مكرها أو ناسيا - 448 مسئلة الإنصات لاستماع الخطبة واستماع كل واعظ - 2450 ما ورد فى رفع الصوت خلف الامام وفى القراءة مطلقا خلقه 450 مسئلة استماع التلميذ وإنصاته عند قراءة المقري 450 فصل اختلف العلماء فى وجوب الاستماع والإنصات على من هو خارج الصلاة يبلغه صوت من(1/1774)
يقرأ فى الصلاة أو خارجها 451 مسئلة هل يأثم من يقرأ جمرا وبجنبه نائم أو رجل يكتب الفقه ولا يمكنه الاستماع - 451 أحاديث كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم 451 يصلى بالليل فيسمع قراءته من وراء الحجرة وكانت الصحابة يقرءون رافعى أصواتهم فصل لا يجوز الدعاء والتعوذ للسامع إذا 452 قرأ القاري فى القرآن ذكر الجنة والنار الامام والمنفرد لا يشتغل بغير القراءة فى الفرض وفى النفل يسأل الجنة ويتعوذ من النار - 452 فصل كيف يستحب القراءة فى الصلاة ليلا وخارج الصلاة جهرا أو سرا - 452 ما ورد فى تحسين الصوت والتغني بالقران 453 مسئلة التفرع والاستكانة وترك رفع الصوت بالدعاء - 454 ما ورد فى فضائل السجود وفى سجدة التلاوة 456 تمّ فهرس سورة الأعراف.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 13
سورة المائدة
« 1 » مدنيّة وهى مائة وعشرون اية وستّ عشر ركوعا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ العقد العهد الموثق وأصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال قال الزجاج هو أوكد العهود والوقاع والإيفاء القيام بمقتضى العهد وفى الإيفاء مبالغة ليس فى الوفاء كذا قال التفتازانيّ والحكم عام يشتمل العقود التي عقدها الله تعالى على عباده عامة من يوم الميثاق إلى يومنا هذا من التكاليف وتحليل حلاله وتحريم حرامه وما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتب فى الايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبيان نعته وما يعقد الناس بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها
_________
((1/1775)
1) عن عائشة رض قالت المائدة اخر القرآن نزولا فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه رواه احمد والنسائي وغيرهما وعن عبد اللّه بن عمر قال اخر سورة المائدة والفتح رواه احمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه واخرج أبو عبد عن محمد بن كعب القرظي قال نزلت سورة المائدة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته تصدعت كتفها فنزل عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذا أخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس وعطية بن قيس قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المائدة من اخر القرآن تنزيلا فاحلوا حلالها وحرموا حرامها واخرج أبو داود والنحاس عن أبى ميسرة عن عمرو بن شرحبيل واخرج أبو داود فى ناسخه وابن المنذر عن الحسن انه لم ينسخ من المائدة شىء واخرج عبد بن حميد وأبو داود فى ناسخه عن الشعبي قال لم ينسخ من المائدة الا هذه الآية يا أيها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد - بقية بر ص 14.(1/1776)
و أخرج أبو داود فى ناسخه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال نسخ من هذه السورة آيتان اية القلائد وقوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم أخرج البيهقي فى شعب الايمان عن مقاتل بن حبان قال بلغنا فى قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود يعنى العهد الذي كان عهدهم فى القرآن فيما أمرهم من طاعته ان يعملوا بها ونهيه الذي نهاهم عنه بالعهد الذي بينهم وبين المشركين وفيما يكون من العهود بين الناس 12 منه وبهذه الآية استدلت الحنفية على ان البيع إذا تم بالإيجاب والقبول ليس لاحد من المتعاقدين حق الفسخ إلا بخيار شرط أو روية أو عيب وبه قال مالك وقال الشافعي رحمه اللّه تعالى المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون البيع خيارا لما روى البخاري هذا اللفظ بعينه من حديث ابن عمر رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وكذا من حديث حكيم بن حزام وإذا ثبت خيار المجلس بالحديث الصحيح قالوا تمام العقد قبل التفرق وبطلان الخيار ممنوع كما ان عند اشتراط الخيار لا يتم العقد قبل انقضاء مدة الخيار واللّه اعلم 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 14(1/1777)
مما يجب الوفاء به وقد ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من آيات المنافق إذا عاهد غدر متفق عليه من حديث عبد اللّه بن عمرو ولما كان مما عقد اللّه سبحانه تحليل حلاله وتحريم حرامه عقبه بقوله عز وجل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والبهيمة كل حى لا يميز والانعام ذات القوائم الأربع وقيل البهيمة ذات اربع قوائم والانعام الإبل والبقر والغنم والاضافة على التقديرين اضافة العام المطلق إلى الخاص وهذه الاضافة عند النحويين بمعنى اللام وانما جعلوا الاضافة بمعنى من إذا كان المضاف إليه جنس المضاف وفسروا الجنس بما يكون بينه وبين المضاف عموم من وجه نحو خاتم فضة وكلام البيضاوي والكشاف يشعران هذه الاضافة بمعنى من والله اعلم ومقتضى هذين التأويلين انه تعالى أراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الانعام كالبحيرة والسائبة وقال الكلبي بهيمة الانعام وحشيتها كالظباء وبقر الوحش ونحوهما مما يماثل الانعام فى اجترار العلف من الكرش إلى الفم وعدم الأنياب والاضافة حينئذ إلى الانعام لملابسة الشبه من قبيل سجين الماء قال البغوي وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال بهيمة الانعام الاجنة ومثله عن الشعبي فالآية على هذا التأويل يدل على حل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد زكوة امه وقد تم خلقه وبه قال الشافعي رح واحمد رح وأبو يوسف رح ومحمد رح وشرط مالك الاشعار قال البغوي قال ابن عمر زكوة ما فى بطنها فى زكوتها إذا تم خلقه ونبت شعره ومثله عن سعيد بن المسيب وقال أبو حنيفة رح لا يحل أكل الجنين من غير ذبح مستقل أشعر أو لم يشعر احتج
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 15(1/1778)
الشافعي رح ومن معه بحديث أبى سعيد الخدري قال قلنا يا رسول اللّه ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد فى بطنها الجنين أ نلقيه أم ناكله فقال كلوه ان شئتم فان زكوته زكوة امه رواه احمد وأبو داود وعن جابر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال زكوة الجنين زكوة امه رواه أبو داود والدارمي وروى الدار قطنى عن ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فى الجنين زكوته زكوة امه أشعر أو لم يشعر قال الدار قطنى الصواب انه من قول ابن عمر وقال الشافعي رح ومن معه ان الجنين جزء من الام حقيقة لأنه متصل بها حتى يفصل بالمقراض وقد يتغذى بغذائها ويتنفس بنفسها فإذا كان جزأ منها فالجرح فى الام زكوة له عند العجز عن زكوته كالصيد وقال أبو حنيفة رح الجنين مستقل فى الحيوة يتصور حيوته بعد موتها وهو حيوان دموى وما هو المقصود من الزكوة وهو الميز بين الدم واللحم لا يحصل بجرح الام فيه إذ هو ليس بسبب لخروج الدم من الجنين أصلا بخلاف الجرح فى الصيد لأنه سبب لخروج الدم ناقصا فيقام مقام الكامل عند التعذر وإذا لم يحصل الميز فالجنين ميتة وقد ثبت حرمة الميتة بدليل قطعى من الكتاب فلا يثبت حله بحديث الآحاد وتاويل بهيمة الانعام فى هذه الآية بالجنين غير ظاهر ولا يلائمه الاستثناء بقوله تعالى إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ المراد بالموصول الميتة وما أهل لغير اللّه به وما ذبح على النصب والمنخنقة والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وهذه الأشياء كانت داخلة فى بهيمة الانعام والتحريم لما عرض من الموت حتف انفه ونحو ذلك من العوارض فالاستثناء متصل وقيل المراد بهيمة الانعام المذكورة والاستثناء منقطع واسناد التلاوة إلى الميتة وأخواتها مجازى أو بتقدير المضاف أى يتلى عليكم اية تحريمه فالمجاز حينئذ فى الظرف وجازان يراد بالموصول الآية ويقدر المضاف على الموصول يعنى الّا محرم ما يتلى عليكم غَيْرَ مُحِلِّي(1/1779)
الصَّيْدِ الصيد يحتمل المصدر والمفعول وغير حال من الضمير فى لكم أى أحلت لكم بهيمة الانعام حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى حالة الإحرام ولما كان تقئيد إحلال الانعام بحال عدم اعتقاد حل الصيد غير ظاهر قال صاحب الكشاف غير محلى الصيد عبارة عن الامتناع عن الصيد كأنَّه قال أحلت لكم بعض الانعام فى حال امتناعكم عن الصيد لئلا يضيق عليكم الأمر ويرد عليه ان حل الانعام غير مقيد بحالة الإحرام حالة الامتناع عن الصيد بل هى حلال فى جميع الأحوال فهذا التقييد انما يصح
لو جعل بهيمة الانعام ما يعم الوحشي والأهلي وهو التأويل الاوّل أو يخص بالوحشى وهو التأويل الثالث فجعل حل الصيد مقيدا بحالة عدم الإحرام والتقدير أحلت لكم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 16(1/1780)
بهيمة الانعام كلها وحشيا كان أو أهليا الا ما يتلى عليكم من الميتة وأخواتها حال كونكم غير معتقدين حل الصيد فى الإحرام يعنى ما أحلت لكم الصيد فى الإحرام حتى تعتقد وأحلها وجاز ان يكون فاعل غير محلى الصيد الشارع جلّ وعلى والجمع للتعظيم كأنَّه قال أحللنا لكم بهيمة الانعام حال كوننا غير محلى الصيد لكم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ الحرم جمع حرام والجملة حال من المستكن فى محلى الصيد ان كان المستكن ضمير المخاطبين وكذا ان كان المستكن فيه ضمير الشارع المتكلم ويكفى للجملة الحالية الواو ولا يجب الضمير أو من الضمير المحذوف اعنى لكم على تقدير كون المستكن ضمير الشارع فقط إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (ط) فى التحليل والتحريم وغير ذلك لا اعتراض عليه أخرج ابن جرير عن عكرمة وعن السدى نحوه انه قدم الحكم بن هند البكري المدينة فى عير له يحمل طعاما فباعه ثم دخل على النّبى صلى اللّه عليه وسلم فبايعه واسلم فلما ولى خارجا نظر إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لمن عنده لقد دخل علىّ بوجه فاجر وولى بقضاء غادر فلما قدم اليمامة ارتد عن الإسلام وخرج فى عير له يحمل الطعام فى ذى القعدة يريد مكة فلما سمع به اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم تهيأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقطعوه فى عيره فانزل اللّه تعالى.(1/1781)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الآية فانتهى القوم وقال البغوي نزلت فى الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري اتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة وحده على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له إلى ما تدعو الناس فقال إلى شهادة ان لا اله الا الله وانا محمد رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة فقال حسن الا ان لى أمراء لا اقطع امرا دونهم ولعلى اسلم واتى بهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ثم خرج شريح من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد دخل بوجه كافر وخرج بقناء غادر ومر الرجل فمر بسرح « 1 » المدينة فاستاقه وانطلق فتبعوه فلم يدركوه فلما كان العام المقبل خرج حاجا فى حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلد الهدى فقال المسلمون للنبى صلى الله عليه وسلم هذا الحطم خرج حاجا فخل بيننا وبينه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قد قلد الهدى فقالوا يا رسول اللّه هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية فابى النبي صلى اللّه عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية
_________
(1) شرح اسم جمع وليس بتكسير سارح الماشية 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 17(1/1782)
و ذكر الواحدي اتى الحطم النبي صلى اللّه عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فعرض عليه الإسلام فلم يقبل فلما خرج مر بسرح المدينة فاستاقها فلما خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم عام القضية سمع تلبيته بحجاج اليمامة فقال لاصحابه هذا الحطم وأصحابه وقد كان قلد ما نهب من السرح وأهداه إلى الكعبة فانزل اللّه تعالى هذه الآية قال ابن عباس رض ومجاهد المراد بشعائر اللّه مناسك الحج ومواقفه من المطاف والمسعى والموقف بعرفة والمزدلفة والرمي للجمار والافعال التي تعرف بها الحاج من الإحرام والطواف والحلق والنحر وغيرها وإحلالها التهاون بحرمتها وان يحال بينها وبين المتناسكين بها كان المشركون يحجون ويهدون فاراد المسلمون ان يغيروا عليهم فنهاهم اللّه عن ذلك والشعائر جمع شعيرة وهى فى الأصل اسم لما أشعر به انما سمى اعمال الحج ومواقفه شعائر لانها علامات الحج واعلام النسك وقال أبو عبيدة شعائر اللّه هى الهدايا والاشعار من الشعار أى العلامة والاشعار ان يطعن فى صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم فيكون ذلك علامة انه هدى - قلت وعلى هذا يلزم التكرار بذكر الهدايا والقلائد - (مسئلة : ) الاشعار فى الهدايا سنة إذا كانت الهدى من الإبل عند الائمة الثلاثة وبه قال أبو يوسف ومحمد رح وقال أبو حنيفة رح مكروه والحجة للجمهور ما فى الصحيحين من حديث عائشة رض قالت فتلت قلائد بدن النبي صلى اللّه عليه وسلم بيدي ثم قلدها وأشعرها واهديها فما حرم عليه شىء كان أحل له وقال عطية عن ابن عباس لا تحلوا شعائر اللّه هى ان تصيد وأنت محرم بدليل قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قلت لعل المراد من قول ابن عباس هذا والذي ذكرنا عنه سابقا واحدا - فان الاجتناب عن الاصطياد فى الإحرام داخل فى الاجتناب عن إحلال مناسك الحج وقيل المراد من قوله لا تحلوا شعائر اللّه النهى عن القتل فى الحرم وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ و(1/1783)
إحلال القتال فيه وقال ابن زيد هو النسى وذلك انهم كانوا يحلونه عاما ويحرمونه عاما وَلَا الْهَدْيَ جمع هداية وهى ما يهدى به إلى الكعبة من الإبل والبقر والغنم ذكر البخاري عن ابن عباس انه سئل عن الهدى فقال فيها جزورا وبقرا وشاة وانما ذكر الهدى مع انه من الشعائر تخصيصا بعد تعميم لان المنع عن تحليله أهم لان فيه إتلاف حق الفقراء ولانه اقرب بان يقع الناس فيه لان فيه أخذ مال جبل الطبائع على حبها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهى ما قلد به الهدى من نعل أو لحاء شجرا وغيرهما ليعلم به
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 18(1/1784)
انه هدى فلا يتعرض له والمراد به الهدايا المقلدة وعطفها على الهدى للاختصاص فانه اشرف الهدى وقال عطاء أراد اصحاب القلائد وذلك انهم كانوا فى الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشئ من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم وقال مطرف بن الشخير هى القلائد أنفسها وذلك ان المشركين كانوا يأخذون لحاء من شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها وقيل النهى عن إحلال القلائد مبالغة فى النهى عن التعرض للهدى نظيره قوله تعالى ولا يبدين زينتهن وإحلال الهدى والقلائد أخذها أو منعها عن البلوغ إلى الحرم وَلَا آمِّينَ قاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ لزيارته واحلالهم التعرض لهم بالقتل والنهب يَبْتَغُونَ يطلبون فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ فى الدنيا بالرزق فى التجارة وفى الاخرة بالثواب وَرِضْواناً يرضى عنهم والجملة فى موضع الحال من المستكن فى أمين أو صفة موصوفة المقدر تقديره ولا قوما آمّين البيت الحرام يبتغون ولا يجوز ان يكون صفة لآمين لأنه عامل والمختار ان اسم الفاعل الموصوف لا يكون عاملا وفائدة هذا التقييد استنكارا حلال من هذا شأنه والتنبيه على المانع وكلمة أمين البيت الحرام يعم المؤمنين والمشركين من حيث الصيغة ومن حيث سوق الكلام فان الآية نزلت فى عام القضاء وسيق الكلام للنهى عن تعرض البكري وهداياه وأمثاله فالآية منسوخة باعتبار قصر حكمها بالمؤمنين بقوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يجوزان يحج مشرك ولا يأمن كافر بالهدى والقلائد وابتغاء الفضل والرضوان فى المشركين قيل مبنى على(1/1785)
زعمهم لان الكافر لا نصيب له فى الرضوان وقال قتادة هو ان يصلح اللّه معايشهم فى الدنيا وان لا يعجل لهم العقوبة فيها وقيل ابتغاء الفضل أى الرزق بالتجارة عام للمؤمنين والمشركين وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا اذن فى الاصطياد بعد تحريمه بقوله تعالى لا تحلوا شعائر اللّه فان الصيد فى الإحرام تحليل للشعائر وقيل بعد المنهي لقوله تعالى غير محلى الصيد وهذا بعيد وهذا الأمر للاباحة بقرينة الإجماع كما فى قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا ولا دليل فيه على ان الأمر بعد الحظر يكون للاباحة مطلقا فان مقتضى الأمر المطلق الخالي عن القرائن هو الإيجاب كما برهن عليه فى الأصول قال اللّه تعالى فليحذر الذين يخالفون عن امره ان تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب اليم وقال اللّه تعالى ما منعك ان تسجد إذ امرتك واخرج ابن أبى حاتم عن زيد بن اسلم قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 19(1/1786)
عن البيت وقد اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نصد هؤلاء كما صدنا أصحابنا فانزل اللّه تعالى وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ قال البغوي قال ابن عباس وقتادة لا يحملنكم وقال الفراء لا يكسبنكم شنأن قوم أى قومكم من أهل مكة والشنآن مصدر بمعنى شدة البغض والعداوة أضيف إلى المفعول أو الفاعل قرأ ابن عامر وأبو بكر بسكون النون الاولى والآخرون بفتحها وهما لغتان فى المصدر وجاز ان يكون نعتا على تقدير سكون النون بمعنى بغيض قوم فان المصادر أكثرها فعلان بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان وبالسكون فى النعت اكثر مثل السكران والندمان والرحمن أَنْ صَدُّوكُمْ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على انه شرط معترض اغنى عن جوابه لا يجر منكم والباقون بفتح الهمزة بتقدير اللام أى لان صدوكم عن البيت عام الحديبية متعلق بشنأن قال البغوي قال محمد بن جرير هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية وكان الصدقة قد تقدم عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا عليهم بالقتال وأخذ الأموال وهذا ثانى مفعولى يجر منكم فانه يتعدى إلى واحد والى اثنين ككسب وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ أى على امتثال امر اللّه تعالى وَالتَّقْوى أى الانتهاء عما نهى عنه كى يتقى نفسه عن عذاب اللّه وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعنى لا تعاونوا على ارتكاب المنهيات ولا على الظلم لتشفى صدوركم بالانتقام عن النواس بن سمعان الأنصاري قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البر والإثم قال البر حسن الخلق والإثم ما حاك فى نفسك وكرهت ان يطلع عليه الناس رواه مسلم فى صحيحه والبخاري فى الأدب والترمذي وعن أبى ثعلب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب وان أفتاك المفتون رواه احمد قلت هذا الحديث خطاب(1/1787)
لارباب النفوس المطمئنة والقلوب الزاكية وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد وخوف.
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ هذا بيان لما يتلى عليكم والميتة ما فارقه الروح على حتف انفه أخرج ابن مندة فى كتاب الصحابة من طريق عبد اللّه بن جبلة بن حيان بن ابجر عن أبيه عن جده حيان بن الجر قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة فانزل اللّه تحريم الميتة فاكفأت القدر قلت انما ذكرت هذا الحديث فى هذا المقام تبعا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 20(1/1788)
الباب « 1 » النقول فى اسباب النزول والصحيح ان كون هذه القصة عند نزول هذه الآية اية المائدة محال لان هذه الآية اخر اية الاحكام نزولا كما سنذكر وحرمة الميتة كانت قبل الهجرة نزلت بمكة فى سورة الانعام فلا يمكن من الصحابي طبخ لحم الميتة بعد ذلك فالظاهر ان القصّة عند نزول اية التحريم فى الانعام قل لا أجد فيما اوحى إلى واللّه اعلم وَالدَّمُ أى المسفوح منه بالإجماع وهو السائل وكان أهل الجاهلية يصيونها فى الأمعاء ويشربونها وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ انما خص اللّحم بالذكر مع كونه نجسا بجميع اجزائه بالنص والإجماع لأنه معظم المقصود من الحيوان وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والإهلال رفع الصوت وهو قولهم عند الذبح باسم اللّات والعزّى عن أبى الطفيل قال سئل على رضى اللّه عنه هل خصكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشئ قال ما خصنا بشئ لم يعم به الناس الا ما فى قراب « 2 » سيفى هذا فاخرج صحيفة فيها لعن اللّه من ذبح لغير اللّه ولعن اللّه من سرق « 3 » منار الأرض وفى رواية بلفظ من غيّر منار الأرض ولعن الله من لعن والده ولعن اللّه من آوى محدثا رواه مسلم (مسئلة : ) يكره ان يذكر مع اسم اللّه عند الذبح شيئا غيره موصولا لا معطوفا مثل ان يقول عند الذبح بسم اللّه اللهم تقبل من فلان لكن لا يحرم ونظيره بسم اللّه محمد رسول اللّه بالرفع وان ذكر موصولا على وجه العطف والشركة نحو ان يقول بسم اللّه واسم فلان أو بسم اللّه ومحمد رسول اللّه بالجرّ يحرم الذبيحة لأنه أهل بها لغير اللّه ولا بأس بان يقول قبل التسمية قبل ان يضجع الذبيحة أو بعد الذبح كما روى انه صلى اللّه عليه وسلم قال بعد الذبح اللهم تقبل هذا عن أمة محمّد عليه السلام ممن شهد لك بالوحدانية ولى بالبلاغ قد ذكر حرمة هذا الاربعة وما يتصل بها من المسائل فى سورة البقرة وَالْمُنْخَنِقَةُ التي ماتت بالخنق وَالْمَوْقُوذَةُ الوقذ الضرب الشديد و(1/1789)
كانوا فى الجاهلية يقتلون البهيمة ضربا بعصا أو حجر وَالْمُتَرَدِّيَةُ التي تردت أى سقطت من علو أو فى بير فماتت بلا ذبح وَالنَّطِيحَةُ وهى التي نطحتها اخرى أى أصابتها بقرنها فماتت والتاء فيها للنقل من الوصفية إلى الاسمية وَما أَكَلَ السَّبُعُ يعنى ما بقي « 4 » من أكل السبع وماتت باكله بعضها وهذا يدل
_________
(1) اسم كتاب فى اسباب النزول 12
(2) القراب شبه الجواب يطرح فيه الراكب سيفه بغمده وسوطه وقد يطرح فيه زاده من تمر وغيره 12 نهايه
(3) المنار جمع منارة وهى العلامة 12 نهايه [.....]
(4) ويمكن ان يقال ان ما أكله السبع المعلم الذي ذكر اسم اللّه عند إرساله فهو داخل فى المستثنى لأنه ذكوة ضرورى 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 21(1/1790)
على ان جوارح الصيد كالكلب والفهد والباز والصقر إذا أكلت مما اصطادته لا يحل أكله إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعنى ما أدركتم ذكوته من هذه الأشياء واصل التذكية الإتمام يقال ذكت النار إذا تمت اشتعالها والمراد هاهنا الذبح فانه إتمام للحيوة قال فى الصحاح ذكيت الشاة أى ذبحتها وحقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية لكن خصّ فى الشرع بابطال الحيوة على وجه دون وجه انتهى كلامه قلت يعنى ابطال الحيوة بالذبح أو النحر فى الخلق واللبة فى حالة الاختيار مع ذكر اسم الله تعالى وحده عليه عن أبى هريرة قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نوفل بن ورقا الخزاعي على جمل أورق يصيح فى فجاج منى الا ان الذكوة فى الحلق واللبة رواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني - (مسئلة : ) فإذا جرح السبع أو أكل شيئا منه وأدركته حيا فذبحته يحل أكله وهو المراد بقوله تعالى الا ما ذكيتم واماما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو فى حكم الميتة فلا يكون حلالا وان ذبحته وكذلك المتردية والنطيحة والموقوذة إذا أدركتها حية قبل ان يصير إلى حالة المذبوح فذبحتها يكون حلالا والاستثناء إذا وقع بعد امور متعاطفة يرجع إلى الاخيرة فقط عند أبى حنيفة رح وانما عرف حكم ما أدركته حيا بعد الخنق والوقذ والنطح والتردي وذبحته بالمقايسة ولا يمكن إرجاع الاستثناء إلى الجميع لان المنخنقة اسم لما مات بالخنق وكذا أخواتها فلا يشتمل ذلك ما أدركته حيا وذبحته فلا يجوز الاستثناء - (مسئلة : ) عروق الذبح الحلقوم اعنى مجرى النفس والمري اعنى مجرى العلف والماء والودجان وهما مجرى الدم فقال مالك رح يجب قطع هذه الاربعة وهو أحد قولى احمد رح وقال الشافعي رح واحمد رح يجزى فى الذكوة قطع الحلقوم والمري وقال أبو حنيفة رح ان قطع ثلثا منها أى ثلث كان يحل الاكل وبه كان يقول أبو يوسف رح اولا ثم رجع فقال لا بد من قطع الحلقوم والمري واحد الودجين وبه قال(1/1791)
محمد رح فى رواية وعنه انه يعتبر اكثر كل من الأربع وهو رواية عن أبى حنيفة رح لان كل فرد منها اصل بنفسه وللاكثر حكم الكل ولابى يوسف رح ان المقصود من قطع الودجين انهار الدم فينوب أحدهما عن الاخر واما الحلقوم فيخالف المري فلابد من قطعهما وقال أبو حنيفة رح الأكثر يقوم مقام الكل فى كثير من الاحكام واى ثلث قطع فقد قطع الأكثر منها وحصل ما هو المقصود وهو انهار الدم المسفوح - (مسئلة : ) يجوز الذبح بكل ما ينهر الدم ويحصل القطع من زجاج أو حجر أو قصب أو
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 22(1/1792)
غير ذلك إذا كان له حدة وكذا يجوز بالسن والظفر والقرن إذا كان منزوعا ذى حدة عند أبى حنيفة رح الا انه يكره كذا فى الهداية وقالت الأئمة الثلاثة لا يجوز بالسنّ والظفر والقرن ويكون ميتة عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا لاقوا العدو غدا وليست معنا مدى افنذبح بالقصب قال ما انهر الدم وذكر اسم اللّه فكل ليس السن والظفر وساحدثك عنه اما السن فعظم واما الظفر فمدى الحبشة متفق عليه وعن كعب بن مالك انه كانت لنا غنم يرعى بسلع فابصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها فسال النبي صلى اللّه عليه وسلم فامره بأكلها رواه البخاري وعن عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارايت أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أ يذبح بالمروة « 1 » وشقة العصى قال امرر الدم بما شئت واذكر اسم اللّه رواه أبو داود والنسائي وعن عطاء بن يسار عن رجل من بنى حارثة انه كان يرعى لقحه بشعب من شعاب أحد فراى بها الموت فلم يجد ما ينحرها به فاخذ وتدا فوجأ به من لبتها حتى اهراق دمها ثم اخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فامره بأكلها رواه أبو داود ومالك وفى رواية فذكاها بشظاظ « 2 » احتج أبو حنيفة رح فى الخلافية بعموم قوله صلى اللّه عليه وسلم ما انهر فكل وقوله صلى اللّه عليه وسلم امرر الدم بما شئت واحتج الائمة الثلاثة بقوله صلى اللّه عليه وسلم ليس السن والظفر حيث استثنى مما انهر الدم(1/1793)
و أجاب أبو حنيفة رح بانه محمول على غير المنزوع فان الحبشة كانوا يذبحون بظفر غير منزوع والظاهر ان المراد بالسن فى الاستثناء ما ليس فيه حدة يدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم اما السن فعظم ولا يجوز بسن وظفر غير منزوعين اجماعا لأنه يقتل بالثقل فيكون فى معنى المنخنقة - (مسئلة : ) يستحب للذابح ان يحد شفرته لقوله صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته رواه مسلم عن شداد بن أوس - (مسئلة : ) لو رمى إلى صيد فى الهواء فاصابه فسقط على الأرض ومات كان حلالا لان الوقوع على الأرض من ضرورته وان سقط فى الماء أو على جبل أو شجر ثم تردى منه فمات لا يحل أكله وهو من المتردية والذي مات بالغرق الا ان يكون السهم أصاب مذبحه
_________
(1) الشظاظ خشبة محددة الطرف تدخل فى عروقى الجو القين لتجمع بينهما عند حملها على البعير 12
(2) بالمروة الحجر الأبيض والمراد هاهنا كل حجر له حد 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 23(1/1794)
فى الهواء فيحل كيف ما وقع لان الذبح قد حصل بأصابة السهم المذبح وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قيل النصب جمع واحدها نصاب ككتب وكتاب وقيل هو واحد وجمعها أنصاب كعنق وأعناق وهو الشيء المنصوب قال مجاهد وقتادة كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون بها وليست هى بأصنام انما الأصنام هى الصورة المنقوشة وقال الآخرون هى الأصنام المنصوبة وقال قطرب على بمعنى اللام ومعناه ما ذبح لاجل النصب وقال ابن زيد ما ذبح على النصب وما أهل لغير اللّه به واحد قلت العطف يقتضى التغاير فالظاهر ما قيل انها كانت حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة وحرم عليكم وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أى الاستسقام أى طلب معرفة ما قسم لهم مما لم يقسم لهم بالأزلام وهى القداح التي لا ريش لها ولا نصل واحدها زلم بفتح الزاء وضمها وكانت ازلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط تكون عند « 1 » سادن الكعبة مكتوب على واحد منها نعم وعلى واحد لا وعلى واحد منكم وعلى واحد من غيركم وعلى واحد ملصق وعلى واحد العقل وواحد غفل ليس عليه شىء فكانوا إذا أرادوا امرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره أو اختلفوا فى نسب أو اختلفوا فى تحمل عقل جاؤا إلى هبل وكانت أعظم أصنام قريش بمكة وجاؤا بمائة درهم أعطوها صاحب القداح حتى يحيل القداح وو يقولون يا الهنا انا أردنا كذا كذا فان خرج نعم فعلوا وان خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية وإذا جالوا على نسب فان خرج منكم كان وسيطا منهم وان خرج من غيركم كان حليفا وان خرج ملصق كان على منزلة لا نسب له ولا حلف وإذا اختلفوا فى عقل فمن خرج قدح العقل حمله وان خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج مكتوب فنهى الله عن ذلك وحرمه وقال ذلِكُمْ فِسْقٌ قال سعيد بن جبير الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها وقال مجاهد كعاب(1/1795)
فارس والروم التي يتقامرون بها وقال الشعبي وغيره الأزلام للعرب والكعاب للعجم وقال سفيان بن وكيع هى الشطرنج قلت وكل شىء يطلب به علم الغيب على نحو هذا الطريق كعلم الرمل بضرب الكعاب واستخراج إشكال النقاط وما يقال بالفارسية فال نامه وكل ما يقامر بها فهو داخل فى الاستقسام بالأزلام عبارة أو دلالة جلية أو خفية واللّه اعلم وعن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تكهن او
_________
(1) أى خادم الكعبة ومتولى أمرها من فتح الباب والاغلاق 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 24(1/1796)
استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيمة رواه البغوي وعن قبيصة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « 1 » العيافة والطيرة « 2 » والطرق من الجبت رواه أبو داود بسند صحيح والطرق الضرب بالحصى الْيَوْمَ لم يرد يوما بعينه وانما أراد الحاضر وما يتصل به من الازمنة الآتية وقيل أراد يوم نزولها يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ان يبطلوه أو ان يغلبوا على اهله أو ان يرجع عنه اهله بتحليل الخبائث وغيرها فَلا تَخْشَوْهُمْ ان يظهروا عليكم ويبطلوا دينكم وَاخْشَوْنِ اثبت الياء فى الوصل خاصة أبو عمرو وحذفها الباقون فى الحالين يعنى أخلصوا الخشية لى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على اصول الشرائع من الفرائض والواجبات والسنن والآداب والحلال والحرام والمكروه وموجبات الفساد لما له وجود شرعى كالصلوة والصوم والبيع ونحوها وقوانين الاجتهاد فيما لا نص فيه وجاز ان يكون المراد بإكمال الدّين بلوغه صلى الله عليه وسلم فى معارج القرب إلى مرتبة يغبطه الأولون والآخرون حتى غفر لكمال محبوبيته جميع ذنوب أمته حتى الدماء والمظالم عن عباس بن مرداس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا لامته عشية عرفة بالمغفرة فاجيب انى قد غفرت لهم ما خلا المظالم فانى أخذ للمظلوم منه قال أى رب ان شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشيته فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فاجيب إلى ما سأل قال فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو قال تبسم فقال أبو بكر وعمران هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي اضحكك اضحك اللّه سنّك قال ان عدو اللّه إبليس لما علم ان اللّه قد استجاب دعائى وغفر لامتى أخذ التراب فجعل يحثوه على راسه ويدعو بالويل والثبور فاضحكنى ما رأيت من جزعه رواه ابن ماجة والبيهقي فى كتاب البعث قال ابن(1/1797)
عباس لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شىء من الفرائض والسنن والحدود والاحكام فان قيل يروى عن ابن عباس ان آية الربوا نزلت بعدها قلنا ان صح هذا فالمراد ان قوله تعالى فى اخر البقرة الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلى قوله تعالى يايها الذين أمنوا اتقوا اللّه وذروا ما بقي من الربوا الآية نزلت بعد ذلك ولا شك ان حرمة الربوا كانت قبل نزول تلك الآية
_________
(1) العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها ومهرها 12 نهاية
(2) الطيرة التشاؤم بالشيء 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 25(1/1798)
و انما نزلت تلك الآية للتوبيخ وقد ورد فى حديث جابر عند مسلم فى قصة حجة الوداع قوله صلى اللّه عليه وسلم وربوا الجاهلية موضوع وأول ربوا أضع من ربانا ربوا عباس بن عبد المطلب فانه موضوع كله وقال سعيد بن جبير وقتادة أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك وقيل أظهرت دينكم على الأديان كلها وامنتكم من الأعداء - (فائدة) نزلت هذه الآية يوم الجمعة عرفة بعد العصر فى حجة الوداع والنبي صلى اللّه عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء فكادت عضد الناقة تندقّ من ثقلها فنزلت روى الشيخان فى الصحيحين عن عمر بن الخطاب ان رجلا من اليهود قال له يا امير المؤمنين اية فى كتابكم تقرءونها لو نزلت علينا معشر اليهود ما نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال ايّة اية قال اليوم أكملت لكم دينكم الآية قال عمر قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة أشار عمر إلى ان ذلك اليوم كان عيد النابل عيدين الجمعة وعرفة قال البغوي روى هارون بن عنترة عن أبيه قال لما نزلت هذه الآية بكى عمر فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يبكيك يا عمر قال أبكاني انا كنا فى زيادة من ديننا فاما إذ أكمل فانه لم يكمل شىء الا نقص قال صدقت وكان هذه الآية نعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعاش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعدها أحد وثمانين يوما ومات يوم الاثنين بعد ما زاغت الشمس لليتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة أحد عشر وكانت هجرته فى الثاني عشر منه وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعنى أنجزت وعدي بقولي ولاتم نعمتى عليكم وإتمام النعمة بالهداية والتوفيق وإكمال الدين وفتح مكة وهدم منار الجاهلية حتى حجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين وَرَضِيتُ أى اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ من بين الأديان دِيناً وهو الدين الصحيح عند اللّه لا غير روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد(1/1799)
اللّه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال جبرئيل قال اللّه تعالى هذا دين ارتضيه لنفسى ولن يصلحه الا السخاء وحسن الخلق فاكرموه بهما ما صحبتموه واللّه اعلم فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض بما يوجب التجنب عنها من تعظيم الدين وذكر المنة على المؤمنين باكماله وكون ارتكابها فسقا يعنى من اضطر إلى أكل شىء مما ذكر فِي مَخْمَصَةٍ وهى خلو البطن من الغذاء يقال رجل خميص البطن أى جائع غَيْرَ مُتَجانِفٍ أى مائل لِإِثْمٍ أى إلى اثم بان يأكلها تلذذا أو عجاوزا عن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 26
حد الرخصة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقديره فاكله فان اللّه غفور رحيم يغفره قد ذكرنا هذا البحث وما يناسبه فى سورة البقرة روى البغوي بسنده عن أبى واقد الليثي ان رجلا قال يا رسول اللّه انا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى يحل لنا الميتة فقال ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفؤا بها بقلا فشانكم بها الغبوق شراب اخر النهار مقابل الصبوح كذا فى النهاية واحتفى البقل اقتلعه من الأرض كذا فى القاموس واللّه اعلم روى الطبراني والحاكم والبيهقي وغيرهم عن أبى رافع قال جاء جبرئيل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستاذن عليه فاذن له فابطأ فاخذ ردائه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال قد اذنّا لك فقال أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا فى بعض بيوتهم جرؤا فأمر أبا رافع لا يدع كلبا بالمدينة الا قتله فاتاه ناس فقالوا يا رسول اللّه ما ذا يحل لنا من هذه الامّة التي أمرت بقتلها فنزلت.(1/1800)
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة وروى ابن جرير عن عكرمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث أبا رافع فى قتل الكلاب حتى بلغ العوالي فدخل عاصم بن عدى وسعد بن حتم وعويمر بن ساعدة فقالوا ما ذا أحل لنا يا رسول اللّه فنزلت هذه الآية واخرج عن محمد بن كعب القرظي قال امر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقتل الكلاب فقالوا يا رسول اللّه ماذا يحل لنا من هذه الامّة فنزلت واخرج من طريق الشعبي ان عدى بن حاتم الطائي قال اتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب فلم يدرعا يقول حتى نزلت هذه الآية واخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير ان عدى بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين سألا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا انا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وان كلاب آل دريح تصيد البقر والحمير والظباء وقد حرم اللّه الميتة فما ذا يحل لنا منها فنزلت يسالونك ما ذا أحل لهم يعنى من الانتفاع بالكلاب ومن الصيد الذي تصيدها الكلاب قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هذا زائد على قدر الجواب وسنذكر شرحه فيما بعد إنشاء اللّه تعالى والجواب قوله تعالى وَما عَلَّمْتُمْ عطف على الطيبات ان كانت ما موصولة والعائد محذوف والتقدير أحل لكم صيد ما علمتموه والجملة شرطية ان كانت ما شرطية وجواب الشرط فيما سيأتى اعنى فكلوا مِنَ الْجَوارِحِ بيان لما والمراد بها السباع من البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر وغيرها والبازي والصقر والشاهين وغيرها والجرح اما من الكسب يقال فلان جارحة اهله أى كاسبهم ومنه يقال للاعضاء الجوارح لانها
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 27(1/1801)
كاسبة للافعال وهذه السباع كاسبة لاربابها أقواتهم من الصيد واما من الجراحة فانها تجرح فى الصيد وبناء على هذا التأويل قال أبو حنيفة رح واحمد رح واكثر العلماء رح لا بد فى الصيد من الجرح فلو قتل الكلب الصيد من غير جرح بان صدمه أو خنقه فمات لا يحل أكله وقال الشافعي رح فى أحد قوليه يحل ولا يشترط الجرح نظرا إلى التأويل الاوّل قال صاحب الهداية لا تنافى بين التأويلين فى الآية وفى الجمع بين التأويلين أخذ باليقين فلا بد من اشتراط الجرح وفى الكفاية النهى إذا ورد فيه اختلاف المعاني فانكان بينهما تناف يثبت أحدهما بدليل توجب ترجيحه وان لم يكن بينهما تتاف يثبت الجميع أخذا باليقين كذا ذكر فخر الإسلام فان قيل فعلى هذا يلزم القول بعموم المشترك وهو خلاف مذهب أبى حنيفة رح قلنا عموم المشترك ان يريد المتكلم من لفظ مشترك كلا المعنيين جميعا كما يراد بالعام وان يحكم السامع بشمول الحكم لكلا المعنيين جميعا كما فى العام وهاهنا ليس كذلك بل نقول ان المراد عند اللّه تعالى من الجوارح أحدهما لكن لما لم يقم دليل قاطع على تعيين أحدهما ولا منافاة بينهما أخذنا بهما احتياطا واحتج الحنفية أيضا على اشتراط الجرح انه لا بد من الذكوة والذكوة الاضطراري الجرح فى أى موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال وان كسر عضوا فقتله ففى رواية عن أبى حنيفة رح انه لا بأس باكله لأنه جراحة باطنة فهى كالجراحة الظاهرة والصحيح من مذهبه انه لا يؤكل لان المعتبر جرح ينتهض سببا لانهار الدم ولا يحصل ذلك بالكسر فاشبه التخنيق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما انهر الدم وذكر اسم اللّه فكل وكذا يشترط الجرح فى الرمي اجماعا لحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه انا نرمى بالمعراض قال كل ما خزق « 1 » وما أصاب بعرضه فقتله فانه وقيذ فلا تأكل متفق عليه (مسئلة : ) يجوز الاصطياد بكل جارح من البهائم والطيور و(1/1802)
عن أبى يوسف رح انه استثنى من ذلك الأسد والذئب لانها لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته والذئب لخساسته والحق بهما البعض الحداءة لخساسة والخنزير مستثنى اجماعا لأنه نجس العين لا يجوز الانتفاع به بوجه قلت لا وجه لاستثناء الأسد والذئب والحدأة من الجوارح والقول بانهما لا يعملان لغيرهما لا يضر فانهما حينئذ يخرجان من قوله تعالى ما علمتم وقال احمد لا يحل صيد الكلب الأسود البهيم لحديث عبد اللّه بن مغفل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه
و سلم
_________
(1) خزق السهم وخسق إذا أصاب الرمية ونفذ فيها 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 28(1/1803)
لو لا ان الكلب امّة من الأمم لامرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم رواه أبو داود والترمذي والدارمي وعن جابر قال أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم والجمهور على انه يحل صيده لعموم الآية واللّه اعلم - مُكَلِّبِينَ حال من الضمير المرفوع فى علمتم وفائدتها المبالغة فى التعليم والإغراء والمكلب الذي يغرى الكلاب على الصيد ويعلمها ويودبها مشتق من الكلب لان التأديب يكون فيه اكثر واثر أو لان كل سبع يسمى كلبا فى القاموس الكلب كل سبع عقور وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى عتبة بن أبى لهب وقد كان يسبّ النبي صلى اللّه عليه وسلم اللّهم سلّط عليه كلبا من كلابك فخرج فى قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فقال انى أخاف دعوة محمّد فحطّوا متاعهم حوله وقعدوا يحرسونه فجاء الأسد فانتزعه فذهب به أخرجه الحاكم فى المستدرك من حديث أبى نوفل بن أبى عقرب عن أبيه وقال صحيح الاسناد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استيناف مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من طرق التأديب أو مما علمكم ان تعلموها من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره وانصرافه بدعائه وان يمسك الصيد ولا يأكل منه ويعلم كونه معلما بتكرر ظهور اثار التعليم هذه منها ثلث مرات أسند اللّه سبحانه التعليم إلى نفسه لان العلوم كلها التصورية والتصديقية البديهية والنظرية ملهمة من اللّه تعالى والعقل والفكر فى بعض الأمور سبب عادى والعلم بالنتيجة بعد العلم بالمقدمتين انما يحصل بفيضان من اللّه تعالى على مقتضى جرى العادة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ أى الجوارح عَلَيْكُمْ يعنى مما لم تأكل منه وهذا التفسير مستفاد من حديث عدى بن حاتم قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فان امسك فادركته حيا فاذبحه وان أدركته قد قتل و(1/1804)
لم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكله فانما امسك على نفسه الحديث متفق عليه وفى رواية بلفظ ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل مما اسكن عليك قلت وان قتل قال ان قتله ولم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكله فانما امسكه على نفسه رواه أبو داود والبيهقي من رواية مجالد عن الشعبي عنه وقال البيهقي تفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالفه الحفاظ فهذه الآية بهذا التفسير المستفاد من الحديث حجة لابى حنيفة رح واحمد رح والشافعي رح فى أصح قوليه ان الكلب إذا أكل من الصيد لا يباح أكله قال البغوي وهو المروي
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 29(1/1805)
عن ابن عباس وهو قول عطاء وطاؤس والشعبي والثوري وابن المبارك قالوا اية كون الكلب معلّما ان لا يأكل ثلث مرات فإذا ترك الاكل ثلث مرات حل صيده فى الرابعة وفى رواية عن أبى حنيفة رح حل صيده فى الثالثة وقال مالك رح لا بأس بأكل الكلب من الصيد ويحل أكله وهو أحد قولى الشافعي رح قال البغوي وهو المروي عن ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبى وقاص لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يقال له أبو ثعلبة فقال يا رسول الله ان لى كلابا مكلبة فافتنى فى صيدها فقال ان كانت لك كلابا مكلبة فكل مما أمسكن عليك قال ذكىّ وغير ذكىّ قال ذكىّ وغير ذكىّ قال وان أكل منه قال وان كل منه رواه أبو داود قلت هذا الحديث أعله البيهقي وحديث عدى بن حاتم متفق على صحته واللّه اعلم قلت وهذه الآية بهذا التأويل وما رواه أبو داود برواية مجالد عن الشعبي من الحديث يقتضى اشتراط ترك الاكل فى سباع الطيور أيضا واليه ذهب بعض الفقهاء وقال أبو حنيفة رح لا يشترط ذلك فى السباع الطيور لان بدن الطيور لا يتحمل الضرب وبدن الكلاب يتحمله فيضرب ليتركه أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل لان الكلب يستطيع ان تضربه والصقر لا يستطيع ان تضربه فان قيل هذا استدلال فى مقابلة نص الكتاب والسنة قلنا الكتاب ليس بظاهر الدلالة على اشتراط عدم الاكل فان الإمساك ضد الإرسال لا ضد الاكل و(1/1806)
انما اشترطنا عدم الاكل فى الكلب بحديث الصحيحين وما تفرد به مجالد لا يعتد به لمخالفة الحفاظ ومخالفة القياس واللّه اعلم وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير عايد إلى ما علمتم يعنى سموا عليه عند إرساله فيشترط التسمية عند إرسال الكلب والباز ونحوهما وكذا عند الرمي كما يشترط عند الذبح غير ان التسمية عند الذبح انما هو على المذبوح وفى الصيد على الآلة لان المقدور فى الاوّل الذبح وفى الثاني الرمي والإرسال دون الاصابة فيشترط عند فعل يقتدر عليه حتى لو اضجع شأة وسمّى وذبح غيرها بتلك التسمية لا يجوز ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب صيدا غيره حل ولو اضجع شاة وسمى ثم رمى بالشفرة وذبح بأخرى أكل وان سمى على سهم ثم رمى بغيره لا يؤكل والتسمية على المذبوح هو الأصل وجواز التسمية على الآلة انما هو عند العجز عن الأصل فان أدرك مرسل للباز أو الكلب بالتسمية أو الرامي بالتسمية الصيد حيا وجب عليه ان يذكّيه ويذكر اسم اللّه عند الذبح ثانيا وان ترك تذكية حتى مات لم يؤكل وهذا إذا تمكن من ذبحه واما إذا وقع فى يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 30(1/1807)
الحيوة فوق ما يكون فى المذبوح لم يؤكل عند أبى حنيفة رح وفى رواية عنه وعن أبى يوسف رح انه يحل وهو قول الشافعي رح لأنه لم يقدر على الأصل وقال بعضهم ان لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل وان لم يتمكن لضيق الوقت أكل عند أبى حنيفة رح خلافا للشافعى رح - (مسئلة : ) ان ترك التسمية عامدا عند إرسال الكلب أو السهم أو عند الذبح أو شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسى أو كلب لم يذكر اسم اللّه عليه عمدا لا يحل أكله لفوات شرط الحل فى هذه الآية ولقوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه ولحديث عدى بن حاتم قال قلت يا رسول اللّه أرسل كلبى فاجد معه كلب اخر قال فلا تأكل فانما سميت على كلبك ولم تسم على كلب اخر متفق عليه وعنه قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه فان امسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وان أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله وان أكل فلا تأكل فانما امسك على نفسه فان وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فانك لا تدرى أيهما قتل وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللّه فان غاب عنك يوما فلم تجد فيه الا اثر سهمك فكل ان شئت وان وجدته غريقا فى الماء فلا تأكل متفق عليه وعن أبى ثعلبة الخشني قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللّه فكل وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم اللّه فكل وما صدت بكلبك غير معلم فادركت ذكوته فكل متفق عليه (مسئلة : ) وكذا ان ترك التسمية ناسيا عند احمد ويحل عند أبى حنيفة رح وهو رواية عن احمد رح وبه قال مالك رح كذا فى كتب المالكية وعن احمد ان نسيها على الذبيحة حلت واما على الصيد فلا وعنه ان نسيها على السهم حلت واما على الكلب والفهد فلا وقال الشافعي رح وهو رواية عن مالك يحل مطلقا وبه قال أبو القاسم من المالكية سواء ترك التسمية عامدا أو ناسيا على الذبيحة أو على الصيد بالكلب أو بالسهم بعد ان كان الكلب معلما(1/1808)
و المكلب مسلما أو كتابيا ويحرم بمشاركة الكلب غير المعلم وكلب المجوسي والحجة على حل متروك التسمية مطلقا حديث عائشة رض ان قوما قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان قوما يأتونا باللحم لا يدرى اذكر اسم الله أم لا فقال سموا أنتم وكلوا قالت وكانوا حديثى العهد بالكفر رواه البخاري وعن أبى هريرة قال سأل رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ارايت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمى اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اسم اللّه فى فم كل مسلم رواه الدار قطنى وعن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 31
ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم وليذكر اسم اللّه ثم لياكل رواه الدار قطنى وعن الصلت قال قال(1/1809)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللّه أو لم يذكر رواه أبو داود فى المراسيل ورواه البيهقي من حديث ابن عباس موصولا وفى اسناده ضعف وقال البيهقي الأصح وقفه على ابن عباس والجواب ان الحديث الاوّل لا يدل على ترك التسمية والظاهر تسميتهم واما الثاني ففيه مروان بن سالم قال احمد ليس ثقة وقال النسائي والدار قطنى متروك واما الثالث ففيه معقل مجهول واما الرابع فمرسل ثم الحديث الثاني والثالث فى متروك التسمية ناسيا فليس فيهما حجة للشافعى رح والحديث الرابع نحمله على حالة النسيان قال صاحب الهداية وهذا القول من الشافعي رح يعنى يحل متروك التسمية عامدا مخالف للاجماع فانه لا خلاف فيمن كان قبله فى حرمة متروك التسمية عامدا وانما الخلاف بينهم فى متروك التسمية ناسيا فمن مذهب ابن عمر انه يحرم ومن مذهب على وابن عباس يحل بخلاف متروك التسمية عامدا ولهذا فأل أبو يوسف رح متروك التسمية عامد الا يسع فيه الاجتهاد ولو قصى القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا للاجماع - (مسئلة : ) ما استأنس من الصيد فذكوته الذبح وما توحش من الإبل والبقر فذكوته العقر والجرح واما الشاة فإذا ندت فى الصحراء فذكوته العقر وان ندت فى المصر لا تحل بالعقر لأنه يمكن أخذها فى المصر ومبنى الحكم على ان ذكوة الاضطرار انما يصار إليه عند العجز عن ذكوة الاختيار والعجز متحقق فيما توحش من النعم دون ما استأنس من الصيد وكذا ما تردى من النعم فى بير ووقع العجز عن ذكوته الاختيارية جاز فيه الذكوة الاضطرارية عند الجمهور وقال مالك لا يجوز ذكوة النعم الا فى الحلق واللبة لان توحشها نادر فلا عبرة به لنا حديث رافع بن خديج قال أصابنا نهب ابل فند منها بعير فرماه رجل بسهم فحبسه اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا غلبكم منها شىء فافعلوا به هكذا متفق عليه وعن ابى(1/1810)
العشراء عن أبيه انه قال يا رسول اللّه اما يكون الذكوة الا فى الحلق واللبة فقال لو طعنت فى فخذها لاجزأ عنك رواه احمد واصحاب السنن الاربعة والدارمي وقال أبو داؤد هكذا ذكوة المتردى وقال الترمذي هذا فى الضرورة ورواه الحافظ أبو موسى فى مسند أبى العشراء بلفظ لو طعنت فى فخذها أو شأكلتها وذكرت اسم اللّه لاجزأ عنك وقال الشافعي رح
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 32
تردى بعير فى بير فطعن فى شاكلته فسأل ابن عمر عن أكله فأمر به - (مسئلة : ) إذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد ولا يؤكل العضو وقال الشافعي رح أكلا وان مات الصيد منه لأنه مبان بذكاة اضطراري فيحل المبان والمبان منه ولنا عموم قوله صلى اللّه عليه وسلم ما أبين من الحي فميت وَاتَّقُوا اللَّهَ فى محرماته إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جل ودق.(1/1811)
الْيَوْمَ يعنى الان عند كمال الدين إلى يوم القيامة إذ لا نسخ بعد الإكمال أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ كرره للتأكيد ولفظ الطيبات ضد الخبائث مجمل التحق الأحاديث النبوية البينة للطيبات والخبائث بيانا له ثم قيس على موارد النصوص أشباهها والأصل فيه ان ما ورد النص بكونه حلالا ظهرانه طيب وما ورد النص بكونه حراما ظهر كونه خبيثا وما ورد الأمر بقتله وسماه خبيثا فاسقا فهو خبيث حرام كما روى عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خمس لا جناح على من قتلهن فى الحرم والإحرام الفارة والغراب والحداة والعقرب والكلب العقور متفق عليه وعن عائشة عنه صلى اللّه عليه وسلم قال خمس فواسق يقتلن فى الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفارة والكلب العقور والحدأة متفق عليه وعن أبى هريرة فى الحية ما سالمنا هم منذ حاربناهم ومن ترك شيئا منهم خيفة فليس منا رواه أبو داود وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثارهن فليس منى رواه أبو داود والنسائي وما لم يرد النص فيه يقاس اما على الطيّبات بجامع استطابة الطبائع السليمة من العرب واما على الخبائث بجامع استقذار الطبائع السليمة منهم وكانت الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعون يكرهون ما يأكل الجيف أخرجه ابن أبى شيبة من طريق ابراهيم النخعي ولذا قال جمهور العلماء لا يؤكل من الدواب والطيور ما يأكل الجيف والنهى عن قتل حيوان لا يدل على حرمته ولا على كراهته ما لم يدل عليه دليل اخر عند الائمة الثلاثة وعند الشافعي رح يدل على تحريمه فلا يحرم الهدهد والطاووس عند الثلاثة خلافا للشافعى رح - (مسئلة : ) كل حيوان ذى ناب من السباع كالاسد والذئب والنمر والفهد والكلب والهرة وذى مخلب من الطير كالصقر والباز والحدأة ونحوها فاكله حرام عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره ولا يحرم شىء من ذلك لقوله تعالى قل لا(1/1812)
أجد فيما اوحى إلى محرما على طاعم يطعمه الآية وهذا هو الأصل لمالك فى جميع مسائل الباب قلنا هذه الآية تدل على عدم وجدان الحرمة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 33
حالة نزول هذه الآية لا بعد ذلك وسنذكر البحث عن الآية فى موضعها إنشاء اللّه تعالى وقد ظهر حرمة غير المذكورات فى الآية بعد ذلك بنصوص صحيحة تلقته الامة بالقبول منها حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل ذى ناب من السباع فاكله حرام رواه مسلم وعن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير رواه مسلم قال ابن عبد البر مجمع على صحته وكذا روى عبد الله بن احمد فى زيادات المسند من حديث على وفى اسناده علة وروى احمد نحوه من حديث جابر وعن جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها رواه أبو داود والترمذي (مسئلة : ) الضبع والثعلب حرام عند أبى حنيفة رح مكروه عند مالك رح كسائر السباع وقال الشافعي رح واحمد رح يحلهما وفى رواية عن احمد رح لا يحل الثعلب قال صاحب الهداية هما من السباع وفى الكفاية ان لهما نابان يقاتلان بانيا بهما فلا يؤكلان كالذئب احتج الشافعي رح بحديث جابر انه سئل عن الضبع اصيد هى قال نعم قيل أ يؤكل قال نعم قيل أسمعته من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال نعم رواه الشافعي رح واصحاب السنن غير أبى داود والبيهقي وصححه البخاري والترمذي وغيرهما وأعله ابن عبد البر بعبد الرحمن بن أبى عمارة ووثقه أبو ذرعة والنسائي وقال الشافعي رح وما يباع لحم الضباع الّا بين الصفا والمروة ورواه أبو داود بلفظ سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضبع فقال صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم قلت كونه صيدا وجزائه بكبش فى الإحرام لا يقتضى حله فانه يجب على المحرم الجزاء بقتل صيد حرم لحمه والصيد هو الحيوان المتوحش الممتنع بالطبع وحديث حل الضبع(1/1813)
لا يقوى قوة حديث حرمة السباع وعند التعارض الترجيح للمحرم على المبيح احتياطا ولئلا يلزم تكرار النسخ كما بين فى الأصول واماما رواه
الترمذي من حديث خزيمة بن جرير أو يأكل الضبع أحد فضعيف لا تفاقهم على ضعف عبد الكريم بن امية والراوي عنه امية بن مسلم - (مسئلة : ) يحرم حشرات الأرض مثل الفار والوزغ وغيرها عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره ولا يحرم لما ذكرنا لنا حديث أم شريك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بقتل الوزغ وقال كان ينفخ على ابراهيم متفق عليه وعن سعد رض بن أبى وقاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بقتل الوزغ وسماه فويسقا رواه مسلم وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من قتل وزغا فى أول ضربة كتبت له مائة حسنة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 34(1/1814)
و فى الثانية دون ذلك وفى الثالثة دون ذلك رواه مسلم وسبق فى الحديث الأمر بقتل الفارة فى الحل والحرم وتسميته فاسقة فيحرم الحشرات كلها استدلالا بالوزغ والفارة ومنها القنفذ وهو حلال عند مالك رح والشافعي رح وقال أبو حنيفة رح بتحريمه لأنه من الحشرات ولما روى أبو داود من حديث عيسى بن نميلة عن أبيه قال كنت عند ابن عمر فسئل عن القنفذ فقرأ هذه الآية قل لا أجد فيما اوحى الىّ الآية فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة رضى اللّه عنه يقول ذكر القنفذ عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال خبيثة من الخبائث فقال ابن عمر ان كان النبي صلى اللّه عليه وسلم قاله فهو كما قاله قال البيهقي فيه ضعف ولم يرو الا بهذا الاسناد - (مسئلة : ) يحرم الضب واليربوع عند أبى حنيفة رح وعند مالك رح والشافعي رح هما حلالان وقال احمد الضبّ حلال وفى اليربوع عنه روايتان احتجوا على حل الضب بحديث ابن عمر رض قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الضب لست أكله ولا احرمه متفق عليه وعن ابن عباس رض ان خالد بن الوليد أخبره انه دخل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ميمونة وهى خالته وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبا محنوذا « 1 » فقدمت الضب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضب فقال خالد ا حرام الضب يا رسول اللّه قال لا ولكن لم يكن بأرض قومى فاجدنى إعافة قال خالد فاجتررته فاكلته ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينظر إلى متفق عليه قال أبو حنيفة رح الضب من الحشرات وهذا استدلال فى مقابلة النصّ الصحيح الصريح وذكر فى الهداية ان النّبى صلى اللّه عليه وسلم نهى « 2 » عائشة حين سألت عن أكل الضب ولا اعرف ذلك الحديث - (مسئلة : ) يحلّ أكل الجراد ميتا على كل حال وقال مالك رح لا يؤكل منه ما مات على حتف انفه من غير سبب يضع به يعنى يكره احتج الجمهور بحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى(1/1815)
اللّه عليه وسلم أحلت لنا ميتتان والدمان فاما الميتتان فالجراد والحوت
_________
(1) محنوذا بالحاء المهملة والنون والذال المعجمة أى مشويا 12
(2) حديث عائشة رضى اللّه عنها أورده صاحب المشكوة فى باب ما يحل أكله وما لا يحل أكله من حديث عبد الرحمن بن شبل نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل لحوم الضب رواه أبو داود هكذا وجدت فى اصل النسخة فليحقق
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 35(1/1816)
و اما الدمان فالكبد والطحال رواه الشافعي واحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن زيد بن اسلم عن أبيه عنه وعبد الرحمن بن زيد ضعيف متروك ورواه الدارقطني عن زيد بن اسلم موقوفا على ابن عمر فقال وهو أصح وكذا صحح الموقوف أبو ذرعة وأبو حاتم وأخرجه الخطيب من رواية مسور بن الصلت عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدري والمسور قد كذبه احمد بن حنبل وقال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات (مسئلة : ) يحرم أكل لحوم الحمر الاهلية والبغال عند الائمة الثلاثة وقال مالك رح يكره لنا حديث أبى ثعلبة قال حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحوم الحمر الاهلية متفق عليه وفى رواية عن احمد رح امر عبد الرحمن بن عوف ينادى بالناس ان لحوم الحمر الانسية لا تحل لمن شهد انى رسول اللّه وعن جابر انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية وأذن فى الخيل متفق عليه وعنه قال حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم خيبر الحمر الانسية ولحوم البغال وكل ذى ناب من السباع وكل ذى مخلب من الطير رواه الترمذي وقال حديث غريب ورواه احمد بلفظ حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحمر الانسية ولحوم الثعالب وكل ذى ناب من السباع وذى مخلب من الطير وعنه قال أطعمنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر رواه الترمذي وصححه والنسائي وعن أبى هريرة رض ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حرم يوم خيبر كل ذى ناب من السباع والحمر الانسية رواه احمد وعن البراء بن عازب قال أصبنا يوم خيبر حمرا فإذا ينادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اكفئوا القدور متفق عليه وعن على رضى اللّه عنه ان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الاهلية متفق عليه وفى الباب حديث أبى سليط وانس وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعبد اللّه(1/1817)
بن أبى اوفى وخالد بن الوليد وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده والمقدام بن معد يكرب وعمرو بن دينار - (مسئلة : ) يحل أكل لحوم الخيل عند الجمهور وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما اللّه وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما اللّه يكره ثم قيل الكراهة عند أبى حنيفة رح كراهة تحريم وقيل كراهة تنزيه قال صاحب الهداية الأول أصح احتج الجمهور لما مر من حديث جابر اذن فى الخيل وحديث اسماء « 1 » قال نحرنا فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرسا فاكلناه ونحن بالمدينة متفق عليه
_________
(1) اسماء لم نقف على اسمه - مصحح.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 36(1/1818)
زاد احمد فيه نحن واهل بيته احتج أبو حنيفة رح بقوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة قال خرج مخرج الامتنان والاكل من أعلى منافعها والحكيم لا يترك الامتنان بالأعلى ويمن بالأدنى وبحديث خالد بن الوليد عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم انه قال حرام لحوم الحمر الاهلية وخيلها وفى لفظ نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير رواه احمد برواية صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام عن خالد قال احمد هذا حديث منكر وقال موسى ابن هارون لا يعرف صالح بن يحيى ولا أبوه الا بجده وقال الدارقطني هذا حديث ضعيف قال ابن الجوزي وفى بعض ألفاظ هذا الحديث ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حرمها يوم خيبر قال الواقدي انما اسلم خالد بعد خيبر واللّه اعلم - (مسئلة : ) يكره عند أبى حنيفة رح ابن عرس فانه من سباع الهوام - (مسئلة : ) يكره عند الائمة الثلاثة أكل الرخم والبغاث لانهما يأكلان الجيف والأبقع الذي يأكل الجيف وكذا الغراب وكذا النسر وكذا كل ما يأكل الجيف ولا ياس بغراب الزرع لأنه يأكل الحب وليس من سباع الطير ولا بأس بأكل العقعق لأنه يخلط فاشبه الدجاجة وعن أبى يوسف رح انه يكره لان غالب أكله الجيف - (مسئلة : ) يحرم أكل الجلّالة وبيضها ولبنها عند احمد رح ما لم يحبس فانكان طائرا فثلثة ايام وان كان من الإبل فاربعين يوما والبقر ثلثين والغنم سبعة والدجاجة ثلثة وفى رواية كلها ثلثة وعند الائمة الثلاثة يكره تحريما ان ظهر النتن فى لحمها أو لبنها وتحبس حتى تزول رائحة النجاسة عن ابن عباس قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى لبن الشاة الجلالة رواه احمد وعن ابن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل الجلالة « 1 » وألبانها رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وعن عبد اللّه بن عمر وقال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الإبل الجلالة(1/1819)
ان يؤكل لحمها ولا يشرب ألبانها ولا يركبها الناس حتى ينقضه أربعين ليلة رواه البيهقي والدارقطني وفيه إسماعيل بن ابراهيم ابن مهاجر عن أبيه قال ابن الجوزي هو وأبوه ضعيفان ورواه احمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ نهى عن لحوم الحمر الاهلية وعن الجلالة وعن ركوبها -
_________
(1) الجلالة من الحيوان ما يأكل العذرة والجلة البعرة فوضع موضع العذرة 12 نهاية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 37
((1/1820)
مسئلة : ) لا يؤكل من حيوان البحر الا السمك عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال مالك رحمه اللّه يؤكل كلها حتى السرطان والضفدع وكلب الماء وخنزيره لكنه كره الخنزير وحكى انه توقف فيه وقال احمد كلما يعيش ويولد فى البحر يحل أكله الا الضفدع والتمساح والكوسج ويحتاج عنده غير السمك إلى الذبح كخنزير البحر وكلبه وانسانه واختلف اصحاب الشافعي رح فمنهم من قال مثل قول مالك ومنهم من قال مثل قول أبى حنيفة رحمه اللّه ومنهم من قال كل ما له شبه فى البر لا يوكل فلا يوكل كلب الماء وخنزيره وانسانه وحيته وفارته وعقربه ويوكل ما سوى ذلك ومنهم من قال يؤكل غير التمساح والضفدع والحية والعقرب والسرطان والسلحفاة احتج مالك رحمه اللّه ومن معه بعموم قوله تعالى أحل لكم صيد البحر من غير فصل وقوله صلى اللّه عليه وسلم فى البحر هو الطهور مائه والحل ميتته وأجيب بان المراد بالصيد الاصطياد بدليل قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فان المحرم هو اصطياد صيد البر فأما إذا صاد الحلال صيد البر بلا اعانة من المحرم ولا دلالة حل للمحرم أكله والمراد بالميتة هو السمك وقوله صلى اللّه عليه وسلم ما من دابة فى البحر الا قد ذكاه اللّه عز وجل لبنى آدم رواه الدارقطني من حديث جابر وروى عن عبد اللّه بن سرجس قوله صلى اللّه عليه وسلم ذبح كل نون لبنى آدم قلنا النون هو السمكة وسوق الحديث لعدم الاحتياج إلى ذبح السمكة لا لعموم حل ما فى البحر ويدل على حل بعض ما فى البحر سوى السمكة حديث جابر قال غزوت جيش الخبط وامر أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فالقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر فاكلنا منه نصف شهر فاخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته فلما قد منا ذكرنا للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقال كلوا رزقا أخرجه اللّه إليكم وأطعمونا ان كان معكم قال فارسلنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/1821)
منه فاكله متفق عليه وقالت الحنفية لعل ذلك الحيوان من اقسام السمك كما يدل عليه لفظ الحوت والحجة على حرمة الضفدع ونحوه مما يستقذر الطبع السليم قوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث وحديث عبد الرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دواء وذكر الضفدع يجعل فيه فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل الضفدع رواه احمد وأبو داود والنسائي والبيهقي قال البيهقي هو أقوى ما ورد فى النهى -
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 38
((1/1822)
مسئلة : ) ويكره أكل الطافي من السمك عند أبى حنيفة رحمه اللّه ولا يكره عنه الجمهور احتجوا بما ذكرنا من حديث جابر فى العنبر وقوله صلى اللّه عليه وسلم هو الحل ميتة قلنا ورد فى حديث جابر انه القى البحر حوتا ميتا ومعناه القى البحر حوتا فماتت بإلقائه وذلك حلال اتفاقا وميتة البحر ما لفظه البحر حتى يكون موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه بلا آفة احتج الحنفية بحديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا طفا فلا تأكله وإذا جزر عنه فكله وما كان على حافته فكله رواه الدارقطني من طريق أبى احمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبى الزبير عن جابر قال الدارقطني لم يسنده عن الثوري غير أبى احمد ورواه وكيع وعبد الرزاق ومومل وغيرهم موقوفا وكذلك روى أبو أيوب السجستاني وعبد اللّه بن عمرو ابن جريح وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبى الزبير موقوفا ولا يصح رفعه ورواه الدارقطني من طريق اخر بلفظ كلوا ما حسر عنه البحر وما القى وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه قال الدارقطني تفرد به عبد العزيز عن وهب وعبد العزيز ضعيف لا يحتج به قال احمد هو ضعيف والحديث ليس بصحيح وقال النسائي هو متروك وله طريق اخر رواه أبو داود عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما القى البحر أو جزر عنه فكلوه وما مات فيه وطفى فلا تأكلوه وفى هذا الطريق اسمعيل بن امية وهو متروك قال أبو داود(1/1823)
رواه سفيان وأيوب وحماد عن أبى الزبير فوقفوه على جابر واللّه اعلم - (مسئلة : ) حل أكل الأرنب اجماعا لحديث انس قال انفجنا أرنبا بمر الظهران فأخذتها فاتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بوركها وفخذها فقبله متفق عليه - (فائدة) أكل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحم الدجاج متفق عليه عن أبى موسى (فائدة) عن سفينة أكلت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحم الحبارى رواه أبو داود - وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ المراد بالطعام الذبائح لان سائر الاطعمة لا يختص حلها بالميتة وقوله تعالى الذين أوتوا الكتاب يشتمل اليهود والنصارى والصابئين ان كانوا يؤمنون بدين نبى ويقرءون بكتاب لا ان كانوا يعبدون الكواكب ولا كتاب لهم حربيا كان الكتابي أو ذميا عجميا كان أو عربيا أو تغلبيا به قال أبو حنيفة رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 39(1/1824)
و قالت الائمة الثلاثة لا يحل ذبيحة نصارى العرب من بنى تغلب قال ابن الجوزي روى أصحابنا حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن ذبايح نصارى العرب وروى ابن الجوزي بسنده عن على رضى اللّه عنه قال لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا شربهم الخمر ورواه الشافعي رحمه اللّه بسند صحيح عنه واخرج عبد الرزاق من طريق ابراهيم النخعي ان عليّا كان يكره ذبايح نصارى بنى تغلب ونسائهم قلت ولم يظهر لى صحة الحديث المرفوع فى الباب ولو صح فهو حديث احاد لا يصلح ناسخا للكتاب قال البغوي يريد اللّه سبحانه ذبايح اليهود والنصارى ومن دخل فى دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبىّ صلى اللّه عليه وسلم واما من دخل فى دينهم بعد مبعث النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يعنى من غير أهل الإسلام فلا تحل ذبيحته قلت وهذا التقييد ليس بشئ عندنا قال صاحب الهداية لا يؤكل ذبيحة المرتد يعنى من كان مسلما ثم ارتد نعوذ باللّه منها فصار يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو وثنيا لا يوكل ذبيحته لأنه لا ملة له لأنه لا يقر على ما انتقل إليه بخلاف الكتابي إذا انتقل إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله قال فى الكفاية حتى لو تمجس يهودى أو نصرانى لا يحل صيده ولا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا فى الأصل وان تهود مجوسى أو تنصر يوكل ذبيحته وصيده كما لو كان عليه فى الأصل لأنه يقر على ما اعتقد عندنا - (مسئلة : ) لو ذبح يهودى على اسم عزير ونصرانى على اسم عيسى لا يحل أكله عندنا قال فى الكفاية انما يحل ذبيحة الكتابي فيما إذا لم يذكر وقت الذبح اسم عزير أو اسم المسيح واما إذا ذكر فلا يحل كما لا يحل ذبيحة المسلم إذا ذكر وقت الذبح اسم غير اللّه تعالى لقوله تعالى وما أهل به لغير اللّه فحال الكتابي فى ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم وقال البغوي اختلف العلماء فى هذه(1/1825)
المسألة قال ابن عمر لا يحل وذهب اكثر أهل العلم إلى انه يحل وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول سئل الشعبي وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا يحل فان اللّه تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون وقال الحسن إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير اللّه تعالى وأنت تسمع فلا تأكله وإذا غاب عنك فكل فقد أحل اللّه لك قلت والصحيح المختار عندنا هو القول الاوّل يعنى ذبايح الكتابي تاركا للتسمية عامدا أو على غير اسم اللّه تعالى لا يؤكل ان علم ذلك يقينا أو كان غالب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 40
حالهم ذلك وهو محمل النهى عن أكل ذبايح نصارى العرب ومحمل قول على رضى اللّه عنه لا تأكلوا من ذبايح نصارى بنى تغلب فانهم لم يتمسكوا من النصرانية بشئ الا بشربهم الخمر فلعل عليا رضى اللّه عنه علم من حالهم انهم لا يسمون اللّه عند الذبح أو يذبحون على غير اسم الله تعالى فكذا حكم نصارى العجم ان كان عادتهم الذبح على غير اسم اللّه تعالى غالبا لا يؤكل ذبيحتهم ولا شك ان النصارى فى هذا الزمان لا يذبحون بل يقتلون بالوقد غالبا فلا يحل طعامهم وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فان قيل النبىّ صلى اللّه عليه وسلم مبعوث إلى كافة الناس بشريعة واحدة فما معنى لاختلاف الحل والحرمة بالنسبة(1/1826)
الى هؤلاء وهؤلاء - قلت معناه ان من الأشياء ما هو حلال على كافة الناس من غير شرط كحل ماء البحر ومنها ما هو مشروط حلها بشرائط كالصلوة مشروط جوازها بالوضوء وسائر العبادات مشروط إتيانها بالايمان باللّه ورسوله واخلاص النية وأكل الأموال مشروط حلها بالملك أو اذن من المالك فذبايح المؤمنين حلال على الكفار حتى لا يعذبون فى الاخرة بأكلها كما لا يعذبون بإتيان امور مباحة للعالمين إتيانها من غير شرط الايمان بخلاف ذبايح المجوس فانها كالميتة يحرم أكلها على سائر الناس فيعذب الكفّار بأكلها كما يعذبون بترك الايمان وترك سائر الواجبات المتوقفة على الايمان وإتيان المنهيات قال اللّه تعالى ما سلككم فى سقر قالوا لم نك من المصلين الآية وفائدة هذا القول التفرقة بين ذبايح المسلمين ونسائهم فان ذبايح المسلمين حلال على كافة الناس من غير اشتراط الايمان بخلاف نسائهم فانه يشترط لحل مناكحتهم الايمان - قال الزجاج معناه حلال لكم ان تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين وعبّر البيضاوي ما قال الزجاج بعبارة أصح واصرح فقال فلا عليكم ان تطعموهم وتبيعوا منهم ولو حرم عليهم لم يجز ذلك والسر فى هذا المقام ما ذكرنا ان حل أكل ذبايح المؤمنين غير مشروط بالايمان بخلاف حل نسائهم واللّه اعلم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على الطيبات أو مبتدا خبره محذوف يعنى حل لكم والجملة معطوفة على قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وما بينهما اعتراض قال البغوي اختلفوا فى معنى المحصنات فذهب اكثر العلماء إلى ان المراد منهن الحرائر وأجاز وإنكاح كل حرة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وهو قول مجاهد وقال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 41(1/1827)
هؤلاء لا يجوز نكاح الامة الكتابية لقوله تعالى فمما ملكت ايمانكم من فتياتكم المؤمنات جوز نكاح الامة بشرط الايمان وذهب قوم إلى ان المراد من المحصنات العفائف من الفريقين حرائركن أو إماء وأجازوا نكاح الامة الكتابية وحرم البغايا من المؤمنات والكتابيات وهو قول الحسن وقال الشعبي إحصان الكتابية ان تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة قلت وقول البغوي هذا مبنى على اعتبار المفهوم المخالف وهو غير معتبر عند أبى حنيفة رحمه اللّه ويقول بجواز نكاح الامة الكتابية الغير العفيفة أيضا لعموم قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم وعند الشافعي رح المفهوم وان كان معتبرا لكنه غير معتبر فى قوله تعالى والمحصنات من المؤمنات حيث يجوز نكاح الامة المؤمنة الفاجرة ولذلك قال البيضاوي تخصيصهن بعث على ما هو اولى وإذا لم يعتبر فيه المفهوم فلا وجه لاعتباره فى قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب واللّه اعلم وعموم « 1 » هذه الآية يقتضى جواز نكاح الكتابية الحربية وعليه انعقد الإجماع وكان ابن عباس يقول لا يجوز نكاح الحربية واللّه اعلم وكان ابن عمر يمنع نكاح الكتابية مطلقا حرة كانت أو أمة ذمية أو حربية لاندراجها فى المشركات قال اللّه تعالى قالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه وقال اللّه تعالى ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن وفسّر ابن عمر المحصنات فى الآية بالمسلمات وهذا التفسير غير صحيح فان تفسير المحصنات بالمسلمات ليس من اللغة وقد انعقد الإجماع على حل نكاح الحرة الكتابية وانما الخلاف فى الامة الكتابية كما ذكرنا فى سورة النساء لكنه يكره نكاح الكتابية مطلقا اجماعا لاستلزام النكاح مصاحبة الكافرة وموالاتها وتعريض الولد على التخلق بأخلاق الكفار لاجل مصاحبة الام وموانستها قال ابن همام نكح حذيفة وطلحة وكعب بن مالك كتابيات فغضب عمر رضى اللّه عنه فقالوا انطلق يا امير(1/1828)
المؤمنين وهذه القصة تدل على جواز النكاح حتى يترتب عليه الطلاق وعلى كراهته - (فائدة) روى الخلاف بين أبى حنيفة رحمه اللّه وصاحبيه رحمهما اللّه فى نكاح الصابيات جوزه أبو حنيفة رحمه اللّه زعما منه انهم يؤمنون بزبور داود عليه السلام فهم من أهل الكتاب وكذا من أمن بصحف ابراهيم وشيث عليهما السلام ولم يجوزه صاحباه زعما منهما انهم
_________
(1) وعن عمر رضى اللّه عنه انه قال المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج المسلمة نصرانى 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 42(1/1829)
يعبدون الكواكب فهم من المشركين قال فى الهداية وهذا الخلاف محمول على اشتباه مذهبهم فكل أجاب على ما وقع عنده ولا خلاف فى الحقيقة - (مسئلة : ) قال فى المستصفى قالوا هذا يعنى الحل إذا لم يعتقد النصراني المسيح الها واما إذا اعتقده فلا وفى مبسوط شيخ الإسلام ويجب ان لا يؤكل ذبايح أهل الكتاب إذا اعتقدوا ان المسيح اله وان عزيرا اله ولا يتزوج نسائهم قيل وعليه الفتوى ولكن بالنظر إلى الدلائل ينبغى ان يحل الاكل والتزوج انتهى كلامه قال ابن همام وهو موافق لما فى رضاع مبسوط شيخ الإسلام فى ذبحة النصراني انه حلال مطلقا سواء قال بثالث ثلثه اولا وموافق لاطلاق الكتاب هنا قلت الظاهر ان المراد باهل الكتاب فى الآية موحد وهم بدليل قوله تعالى لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن والقول بان حكم حرمة نكاح المشركة منسوخ فى حق أهل الكتاب خاصة بهذه الآية بعيد جدا إذ لا فرق بين شرك وشرك وقوله تعالى قالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصري المسيح ابن اللّه قد قيل ان القائل بذلك طائفتان من اليهود والنصارى انقرضوا كلهم قال ابن همام ويهود ديارنا مصرحون بالتنزيه عن ذلك والتوحيد واما النصارى فلم ار الا من يصرح بالابنية لعنهم اللّه وما ذكرنا من قول على رضى اللّه عنه فى منع أكل ذبيحة بنى تغلب ومناكحة نسائهم يؤيد ما قلنا واللّه اعلم إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أى مهورهن وتقييد الحل بإتيانها لتاكيد وجوبها والحث على الاولى وقيل المراد بإتيانها التزامها وذلك بالنكاح فكانه قال إذا نكحتموهن مُحْصِنِينَ أى مريدين تحصين الفروج بالنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ أى غير مضيعين الماء بالزنا باى مزنية كانت بلا تعيين مزنية وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ صديقات معينات تزنون بهن والخدن يقع على الذكر والأنثى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أى بشرائع الإسلام فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لان الايمان شرط لقبول الأعمال وَهُوَ(1/1830)
فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ قال ابن عباس خسر الثواب روى البخاري من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت سقطت قلادة لى بالبيداء ونحن داخلون المدينة فاناخ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزل فثنى راسه فى حجرى راقداوا قبل أبو بكر فلكزنى لكزة « 1 » شديدة وقال حبست
_________
(1) الكز الدفع بالكف 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 43
الناس فى قلادة ثم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت.(1/1831)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية فقال أسيد ابن حضير لقد بارك الله للناس فيكم يا ال أبى بكر وهذه الرواية مصرحة بان النازل فى قصة قلادة عائشة هذه الآية فى المائدة دون اية النساء ويعلم ان هذه الآية اسبق نزولا من اية النساء والا لما عاتب أبو بكر عائشة بقوله انها حبست الناس لا على ماء ولا ماء معهم وما شكرها أسيد بن حضير وروى الطبراني عنها نحوه وفيه فانزل اللّه رخصة التيمم فقال أبو بكر انك لمباركة ومعنى إذا قمتم إلى الصلاة أى إذا أردتم القيام إلى الصلاة كقوله تعالى وإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه عبر عن ارادة الفعل بالفعل المسبب عنها للايجاز والتنبيه على ان من أراد العبادة فليبادر إليها بحيث لا ينفك الارادة عن الفعل وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وان لم يكن محدثا والإجماع على خلافه وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه صلى يوم الفتح الصلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه وكان يتوضأ عند كل صلوة فقال له عمر لقد صنعت شيئا اليوم لم تكن تصنعه قال عمد اصنعته يا عمر رواه مسلم واصحاب السنن الاربعة من حديث بريدة فاختلف العلماء فى تاويل هذه الآية فقال بعضهم الأمر فيه للوجوب وكان ذلك اوّل الأمر ثم نسخ ويدل عليه حديث عبد اللّه بن حنظلة بن عامر غسيل الملائكة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم امر بالوضوء عند كل صلوة طاهرا أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه امر بالسواك لكل صلوة رواه احمد وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان فى صحيحهما والحاكم فى المستدرك وقال بعضهم الأمر للندب والإجماع منعقد على كون الوضوء مسنونا مندوبا عند كل صلوة وان كان المصلى طاهرا ويدل على كونه مسنونا حديث انس قال كان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ عند كل صلوة الحديث رواه النسائي وصححه ويدل على كونه مندوبا حديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من توضأ(1/1832)
على طهر كتب اللّه له عشر حسنات رواه النسائي بإسناد ضعيف وقيل هذا الحكم وان كان مطلقا لفظا لكنه أريد به التقييد ومعناه إذا قمتم إلى الصلاة محدثين يدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقبل اللّه صلوة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ رواه الشيخان فى الصحيحين وأبو داود والترمذي عن أبى هريرة وقال زيد بن اسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 44(1/1833)
معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم وقال بعضهم هذا اعلام من اللّه تعالى رسوله ان لا وضوء عليه الا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال فأذن له ان يفعل بعد الحدث ما شاء من الافعال غير الصلاة عن ابن عباس قال كنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فرجع من الغائط فأتى بطعام فقيل له الا تتوضأ فقال أريد ان أصلي فاتوضأ رواه البغوي - (فائدة) الوضوء كان واجبا قبل نزول هذه الآية كما يدل عليه ما روى البخاري فى شأن نزول الآية من قصة فقد قلادة عائشة ولذا استعظموا نزولهم على غير ماء وقال ابن عبد البر معلوم عند جميع أهل المغازي انه صلى اللّه عليه وسلم لم يصل منذ فرضت الصلاة الا بوضوء وكان فرض الوضوء مع فرض الصلاة والحكمة فى نزول اية الوضوء مع ما تقدم من العمل ليكون فرضه متلوا بالتنزيل قلت ولتمهيد التيمم واللّه اعلم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل إمرار الماء عليه ولا يشترط فيه الدلك عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رح وهو محجوج بإطلاق الكتاب والوجه اسم لعضو معلوم مشتق من المواجهة وحده من منأبت الشعر إلى منتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا فمن ترك غسل ما بين اللحية والاذن لم يجز وضوئه عند الائمة الثلاثة خلافا لمالك رحمه اللّه ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين واهداب العينين والشارب واماما تحت اللحية فانكانت خفيفة يرى ما تحتها يجب غسله وان كانت كثيفة لا يرى البشرة من تحتها يسقط غسل البشرة فى الوضوء كما يسقط مسح الراس بالشعر النابت عليه - والدليل عليه اجماع الامة وفعل الرسول صلى اللّه عليه وسلم انه صلى اللّه عليه وسلم كان يغسل وجهه بغرفة واحدة رواه البخاري من حديث ابن عباس وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كث اللحية(1/1834)
ذكره القاضي عياض وقرر ذلك فى أحاديث جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة وفى مسلم من حديث جابر كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم كثير شعر اللحية قلت ولا يمكن إيصال الماء بغرفة واحدة إلى تحت كل شعرة لمن كان كث اللحية ويجب غسل ظاهر اللحية كلها عوضا عن البشرة عند الجمهور كما فى مسح شعر الراس وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه فى رواية قال فى الظهيرية وعليه الفتوى وقال فى البدائع ان ما عدا هذه الرواية مرجوع عنه وفى رواية عنه يجب مسح ربع اللحية وفى رواية مسح ثلث اللحية وفى رواية لا يجب مسح اللحية ولا غسلها والحجة على وجوب غسل ظاهر اللحية كلها ان غسل البشرة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 45(1/1835)
سقط بالإجماع وسند الإجماع اما فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم انه كان يغسل وجهه بغرفة واما القياس على سقوط مسح الراس بالشعر النابت عليه ولا شك ان مستند الإجماع نصا كان أو قياسا يدل على ان غسل ما تحت اللحية انما سقط لقيام الشعر مقامه ووجوب غسله بدلا عنه اما القياس فلان حكم الأصل ليس الا سقوط مسح الراس إلى بدل وهو وجوب مسح الشعر فلابد ان يكون سقوط وظيفة الوجه اعنى الغسل أيضا إلى بدل وهو وجوب غسل ما يستره من اللحية كيلا يلزم مزية الفرع على الأصل واما الحديث فايضا يدل على انه صلى اللّه عليه وسلم كان يغسل وجهه بغرفة ولا شك انه كان يغسل اللحية فظهر ان الإجماع منعقد على قيام اللحية مقام الوجه وسقوط وظيفة الوجه إلى بدل لا بلا بدل فثبت بذلك ان وظيفة الوجه وهو غسل تمامه ثابت فى بدله وهو اللحية واللّه اعلم - وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد اسم لعضو معلوم من الأنامل إلى الآباط ولما جعل المرافق غاية الغسل سقط ما ورائه أى العضد وبقي غسل المرافق واجبا عند الائمة الاربعة وجمهور العلماء وحكى عن الشعبي ومحمد بن جرير عدم وجوب غسل المرافق وبه قال زفر رحمه اللّه لان كلمة إلى للغاية والغاية تكون خارجة عن حكم المغيا كما فى أتموا الصيام إلى الليل أو لان مذهب المحققين من علمآء العربية انها موضوعة لمطلق الغاية واما دخولها فى الحكم أو خروجها فلا دلالة لها عليه وانما يعلم من خارج ولا دليل هاهنا فلا يدخل بالشك قلنا بل هاهنا دليل على كون الغاية داخلا فى حكم المغيا وهو الإجماع قال الشافعي رحمه اللّه فى الام لا اعلم مخالفا فى إيجاب دخول المرفقين فى الوضوء وما حكى عن الشعبي ومحمد بن جرير ان صح الرواية عنهما وكذا قول زفر رحمه اللّه لا يرفع اجماع من قبلهم ومن بعدهم ولم يثبت عن مالك رحمه اللّه خروج المرفقين صريحا وانما حكى عنه اشهب كلاما محتملا وسند الإجماع فعل رسول اللّه(1/1836)
صلى اللّه عليه وسلم وهو المبين لمجمل الكتاب روى الدارقطني بإسناد حسن من حديث عثمان فى الوضوء فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين وقال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروى أيضا من حديث جابر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه لكن اسناده ضعيف وروى البزار والطبراني من حديث وائل بن حجر مرفوعا وغسل ذراعيه حتى جاوز المرفقين وروى الطحاوي والطبراني من حديث ثعلبة بن عباد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 46
عن أبيه مرفوعا ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه ولم يرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة انهم تركوا غسل المرافق والكعاب فى الوضوء وذلك دليل واضح لمعرفة معنى الكتاب ومن ثم قال بعض المفسرين إلى هاهنا فى الموضعين بمعنى مع كما فى قوله تعالى ويزدكم قوة إلى قوتكم وقوله تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم وقوله تعالى من انصارى إلى اللّه أى مع اللّه وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف العلماء فى القدر الواجب من مسح الراس بهذه الآية فقال مالك واحمد رحمه اللّه يجب مسح جميع الراس لان الراس اسم لعضو معلوم والباء زائدة فإذا أمرنا بالمسح يجب استيعابها كما يجب استيعاب الوجه بالمسح فى التيمم ويدل عليه استيعابه صلى اللّه عليه وسلم روى عبد اللّه بن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسح راسه بيديه(1/1837)
فاقبل بهما وأدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه متفق عليه وقال أبو حنيفة رحمه اللّه والشافعي رحمه اللّه الباء للالصاق لأنه هو المعنى الحقيقي للباء اجمع عليه علماء العربية لا يصار عنه الا بدليل وهى تدخل على الوسائط غالبا والوسائط لا تقصد استيعابها ولذلك إذا دخلت على المحل دلت على ان الاستيعاب غير مراد ويدل على ذلك فعله صلى اللّه عليه وسلم عن المغيرة بن شعبة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته ومسح على الخفين والعمامة رواه مسلم وروى الشافعي رحمه اللّه عن عطاء مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم راسه وهو مرسل اعتضد من وجه اخر روى موصولا أخرجه أبو داود من حديث انس وفى اسناده أبو معقل لا يعرف حاله واخرج سعيد بن منصور عن عثمان صفة الوضوء قال ومسح مقدم راسه وفيه خالد بن يزيد بن أبى مالك مختلف فيه قال الحافظ ابن حجر وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الراس قاله ابن المنذر وغيره ولم يصح عن أحد من الصحابة انكار ذلك قاله ابن حزم وأحاديث الاستيعاب محمولة على الاستحباب لا ينفى عدم جواز الاكتفاء على البعض ولما ثبت ان مسح جميع الراس غير مراد فقال الشافعي رحمه اللّه فالمعنى وامسحوا بعض رءوسكم فالاية مطلق فيكفى من الرأس مسح شعرة أو ثلث شعرات وقال أبو حنيفة رحمه اللّه بل الآية مجملة لان جميع الراس غير مراد بدلالة كلمة الباء وأحاديث المسح على مقدم الراس ولا مطلق البعض من الراس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 47(1/1838)
اى بعض كان لان ذلك يحصل فى ضمن غسل الوجه ضرورة استيعاب الوجه وإذا كانت الآية مجملة التحق حديث المغيرة وما فى معناه بيانا لها فقلنا بوجوب مسح ربع الراس لان للراس اربعة جوانب مقدم الراس واحد منها وَأَرْجُلَكُمْ قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب معطوف على ايديكم بقرينة ضرب الغاية لقوله تعالى إِلَى الْكَعْبَيْنِ فان الغاية لا يضرب فى الممسوح كالراس وأعضاء التيمم انما يضرب للمغسولات وقرأ الباقون بالجر لاجل الجوار كما فى قوله تعالى انى أخاف عليكم عذاب يوم اليم بالجر فى اليم على الجوار مع انه صفة لعذاب وهو منصوب والقول بان جر الجوار أنكره اكثر النحاة ومن جوزه جوزه بشرط ان لا يتوسط حرف العطف وبشرط الا من من اللبس مدفوع إذا لا من من اللبس حاصل بذكر الغاية وانكار اكثر النحاة ممنوع وإنكاره مكابرة لوقوعه كثيرا فى القرآن وكلام البلغاء وذكر الامثلة يقتضى تطويلا لكن اختلف النحاة فى مجئ جر الجوار بتوسط حرف العطف فقيل لا يجئ لان العاطف يمنع التجاوز والحق انه يجوز بتوسط العاطف فان العاطف موضوع لتوكيد الوصل دون القطع قال ابن مالك وخالد الأزهري ان الواو يختص من بين سائر حروف العطف بأحد وعشرين حكما منها جواز جر الجوار فى المعطوف بها قلت ولو لم يكن على جواز جر الجوار بتوسط المعطوف بالواو دليل اخر فهذه الآية الدالة على وجوب غسل الرجلين بما ذكرنا من وجوه العطف على الأيدي وعدم جواز عطف الأرجل على الرؤوس وبما لحقه البيان من الأحاديث والإجماع كافية لاثبات جواز جر الجوار بتوسط الواو العاطفة واللّه اعلم وأيضا المراد بالكعبين هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق والقدم كما سيجئ تحقيقه وفرضية مسح القدم إلى الكعبين لم يقل به أحد وما قيل ان الكلام حينئذ يصير من قبيل ضربت زيدا وعمرا وأكرمت بكرا وخالدا على ارادة كون خالدا مضروبا عطفا على عمر الا مكرما باطل إذ لا(1/1839)
قرينة هناك ولا مانع لعطف خالد على بكر والقول بان النصب مبنى على انه معطوف على محل الرؤوس أو بنزع الخافض ساقط إذا الأصل فى المعرب العطف على اللفظ دون المحل وذكر الخافض ولا بد للعدول من الأصل وجه وقرينة وكذا لا يجوز القول بتقدير امسحوا فان تقدير الفعل الخاص لا يجوز من غير قرينة تدل على تعيينه ويشترط فى جميع تلك التأويلات الا من عن التباس المعنى المقصود بما يناقضه وكذا القول بان الواو بمعنى مع باطل لان المصاحبة فى اصل الفعل غير كافية فى المفعول معه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 48
بل لا بد من المعية فى الزمان او(1/1840)
المكان والمعية فى الزمان غير متصور فان الواجب اما الترتيب واما مطلق الفعل وبوجوب المسحين فى مكان واحد لم يقل أحد ولو فرض كونه معطوفا على الرءوس بتلك التوجيهات الركيكة فالباء الداخلة على الرءوس تدخل على الآلات غالبا وإذا تدخل على المحل لا يراد بها الاستيعاب تشبيها له بالآلة بل يكون للتبعيض ومن ثم ذهب اكثر الفقهاء إلى فرضية مسح بعض الراس وتغير اسلوب الكلام فى المعطوف يقتضى ارادة الاستيعاب فى المعطوف والقائلون بمسح الرجلين لم يقل منهم أحد بفرضية استيعاب مسح الرجلين فوظيفة الأرجل الغسل وقالت الامامية وهو معطوف على رءوسكم وحقه الجر وللنصب ذكروا توجيهات ركيكة لنا ما روى ابن خزيمة وغيره من حديث عمرو بن عنبسة عنه صلى اللّه عليه وسلم مطولا فى فضل الوضوء وذكر فيه ثم يغسل قدميه كما امره اللّه تعالى فهذه الحديث يدل على ان اللّه تعالى انما امر بالغسل وقد تواتر النقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وروى أحاديث غسل الرجلين رجال لا يمكن حصرهم ولا يحتمل تواطؤهم على الكذب ولم يرو عنه صلى اللّه عليه وسلم المسح أصلا واجمع عليه الصحابة ولم يثبت عن أحد منهم خلاف ذلك الا ما روى عن علىّ وابن عباس وانس وقد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك هكذا قال الحافظ ابن حجر عن على رضى اللّه عنه انه قرأ وأرجلكم قال عاد إلى الغسل رواه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبى حاتم وعن أبى عبد الرحمن السلمى قال قرأ الحسن والحسين وأرجلكم إلى الكعبين فسمع على ذلك وكان يقضى بين الناس فقال وأرجلكم هذا من المقدم والمؤخر من الكلام أخرجه ابن جرير عن أبى عبد الرحمن وقال قال عبد الرحمن بن أبى ليلى اجمع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على غسل القدمين رواه سعيد بن منصور واخرج ابن أبى شيبة عن الحكم قال مضت السنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين بغسل القدمين واخرج ابن جرير عن عطاء قال لم(1/1841)
يجز أحد المسح على القدمين وادعى الطحاوي وابن حزم ان المسح منسوخ روى ابن جرير عن انس انه قال نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وهذا القول يدل على ان ظاهر القرآن يدل على المسح لكن عمل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان الغسل ولا يمكن ذلك الا ان يكون المراد بالقران هو الغسل أو كان حكم القرآن منسوخا ولنا أيضا حديث عبد اللّه بن عمر قال تخلف عنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 49(1/1842)
فى سفرة سافرناها فادركنا وقد راهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته ويل للاعقاب من النار متفق عليه وروى عن أبى هريرة انه مر بقوم يتوضأون فقال اسبغوا الوضوء فانى سمعت أبا القاسم صلى اللّه عليه وسلم يقول ويل للاعقاب من النار متفق عليه وقد روى ويل للاعقاب من النار جابر وعايشة واحتجوا بما رواه اويس بن أبى اويس قال رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة ورواه أبو داود وقال على نعليه وقدميه قلنا معناه مسح على نعليه اللتين عمت على قدميه فمسح عليهما كما يمسح على الخفين فان قيل قد رواه هيثم عن يعلى وقال فيه توضأ ومسح على رجليه قلنا قال احمد لم يسمع هيثم من يعلى وقد كان يدلس فلعله سمع عن بعض السفهاء ثم أسقط من البين أو يقال معناه مسح على رجليه وهما فى الخفين والكلام فى الكعبين كالكلام فى المرافق وقد مر والكعب هو المرتفع من العظم عند ملتقى الساق والقدم هو الذي يعرفه أهل اللغة دون معقد الشراك ويدل على هذا إيراد لفظ التثنية فقال الكعبين ولم يقل إلى الكعاب لان انقسام الآحاد على الآحاد انما يتصور عند مقابلة الجمع بالجمع دون التثنية بالجمع وإذا لم يمكن الانقسام وجب ان يكون فى كل رجل كعبان ومعقد الشراك فى كل رجل واحد - (مسئلة : ) يجزى المسح على الخفين عن غسل الرجلين عند الجمهور إذا لبسهما على طهارة كاملة فى الحضر والسفر خلافا لمالك رحمه اللّه فى الحضر واما السفر فالروايات الصحيحة عنه انه يجوز المسح ومنعت الامامية وأبو بكر
بن داود المسح على الخفين مطلقا قال بعض المفسرين قراءة النصب يوجب غسل الرجلين عطفا على الأيدي وقراءة الجر يوجب مسحهما عطفا على رءوسكم ويحمل تلك القراءة على حالة كونهما فى الخفين « 1 » والقراءتان بمنزلة
_________
((1/1843)
1) يقال كلما دخلت على الأمير قبلت على رجليه وقد كان يقبل على رجليه ان كانتا مكشوفتين وعلى خفيه إن كانتا فى الخفين والقول بانه لم يجز ذكر الخفين وما دلت عليه قرينة ليس بمغنئ لان الآيتين أو القراءتين إذا تعارضتا يجب الجمع بينهما ومن وجوه الجمع حملهما على الحالين ولا يشترط ذكر الحالين فى الكلام ولا قيام القرينة الا ترى انهم حملوا قراءة التشديد فى قوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن فيما إذا كان انقطاع الدم قبل العشرة وقراءة التخفيف على كون الانقطاع لتمام العشرة وكون لبس الخفين فى زمن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم نادرا ممنوع 12 منه دام بركاته [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 50(1/1844)
الآيتين يجوز ان يحمل أحدهما على المعنى الحقيقي والاخرى على المعنى المجازى الا ترى ان التركيب والتقدير فى احدى القرائتين يغائر التركيب والتقدير فى الاخرى ولو لا هذا التأويل فالحجة للجمهور ان حديث جواز المسح على الخفين متواتر بالمعنى يجوز به نسخ الكتاب صرّح جمع من الحفاظ بان المسح على الخفين متواتر وجمع بعضهم رواته فجاوز الثمانين منهم العشرة المبشرة وروى ابن أبى شيبة وغيره عن الحسن البصري حدثنى سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين قال أبو حنيفة رحمه اللّه ما قلت بالمسح حتى جاءنى فيه مثل ضوء النهار وعنه أخاف الكفر على من لم ير المسح على الخفين وقال احمد ليس فى قلبى من المسح شىء فيه أربعون حديثا عن اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رفعوا وما وقفوا وذكر منها حديثين أحدهما حديث المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سفر فقال يا مغيرة خذ الاداوة فاخذتها فانطلق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى توارى عينى فقضى حاجته فصببت عليه فتوضأ وضوئه للصلوة ومسح على خفيه ثم صلى متفق عليه ولهذا الحديث طرق كثيرة روى عنه من نحو ستين طريقا وذكر ابن مندة منها خمسة وأربعين ثانيهما حديث جرير قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على الخفين قال ابراهيم وكان يعجبهم هذا الحديث لان اسلام جرير كان بعد نزول المائدة متفق عليه وقال ابن عبد البر المالكي لا اعلم روى عن أحد من الفقهاء إنكاره الا عن مالك مع ان الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته ولم يرو عن أحد من الصحابة إنكاره الا عن ابن عباس وعائشة وابى هريرة فاما ابن عباس وأبو هريرة فقد جاء عنهما بالأسانيد الحسان خلاف ذلك وموافقة ساير الصحابة واما عائشة ففى صحيح مسلم عن شريح بن هانى قال سالت عائشة عن المسح على الخفين قالت عليك بابن أبى طالب فاساله فانه كان يسافر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه(1/1845)
و سلم فسالناه فقال جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلثة ايّام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه أبو داؤد والترمذي وابن حبان وروى الدارقطني عن عائشة اثبات المسح على الخفين وما قيل ان عليا عليه السلام قال ما أبالي مسحت على الخفين أو على ظهر حمارى باطل لا اصل له وما قيل ان عائشة قالت لان اقطع الرجل بالموسى أحب الىّ من ان امسح
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 51
على الخفين باطل نص عليه الحفاظ.
((1/1846)
مسئلة : ) مدة المسح على الخفين للمسافر ثلثة ايام ولياليها وللمقيم يوم وليلة لحديث أبى بكر أرخص للمسافر ثلثة ايّام وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه رواه الترمذي وصححه ورواه ابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والشافعي رحمه اللّه وابن أبى شيبة والبيهقي والدارقطني ونقل البيهقي ان الشافعي رحمه اللّه صححه وفى حديث المغيرة كما مرّ وفيه قلت يا رسول اللّه الا انزع خفيك قال دعهما فانى أدخلتهما وهما طاهرتان وثبت مدة المسح فى حديث على وصفوان بن عسال وعمرو بن الخطاب وعمرو بن أبى امية الضميري وابى هريرة وخزيمة بن ثابت ذكرها ابن الجوزي فى التحقيق وسردناها فى منار الاحكام فهى حجة على مالك حيث لا يوقت للمسافر ويمنع المقيم كما روى عنه (مسئلة : ) ولا يشترط فى الوضوء الترتيب ولا الموالاة عند أبى حنيفة رحمه اللّه ويشترط الترتيب عند الائمة الثلاثة وكذا الموالاة عند مالك واحمد رحمه اللّه والقول القديم للشافعى رحمه اللّه لنا ان فى الآية ورد العطف بالواو وهى لمطلق الجمع دون الترتيب فهى لا تدل على الترتيب ولا على الموالاة وروى ان على بن أبى طالب قال ما أبالي باى أعضائي بدأت احتجوا بحديث أبى بن كعب وابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعا بوضوء فتوضأ مرة مرة فقال هذا وضوء من لم يتوضأ لم يقبل اللّه له صلوة ثم توضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ أعطاه اللّه كفلين من الاجر ثم توضأ ثلثا ثلثا فقال هذا وضوئي ووضوء المرسلين قبلى رواهما الدارقطني وجه الاحتجاج انه صلى اللّه عليه وسلم لا يخلو من انه توضأ مرتبا متواليا اولا لا جايز انه لم يرتب ولم يوال والا لافترض ترك الترتيب والموالاة ولم يقل به أحد فثبت انه رتب ووالى فثبت انه لا يقبل اللّه الصلاة الا بهما والجواب عنه بوجوه أحدها من حيث السند ان الحديثين ضعيفان فى حديث أبى بن كعب زيد بن أبى الجواري قال يحيى(1/1847)
ليس بشئ وقال أبو ذرعة واهي الحديث وعبد اللّه بن عوادة قال يحيى ليس بشئ وقال البخاري منكر الحديث وفى حديث ابن عمر المسيب بن واضح ضعيف ثانيها من حيث المتن بالنقض وذلك بان يقال لو صح الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الترتيب لوجب بهذا الحديث اما التيامن أو عدمه والسواك أو عدمه والاستنثار أو عدمه لان فعله صلى اللّه عليه وسلم لا يخلو عن أحد الضدين من هذه الأمور وثالثها وهو الحلّ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 52(1/1848)
ان المراد به الاكتفاء على مرة مرة ادنى مراتب الامتثال لا يقبل اللّه الصلاة الا به وقد يحتج على وجوب الترتيب بحديث عمرو بن عنبسة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض ويستنشق ويستنثر إلا خرت خطايا فمه وخياشيمه مع الماء ثم يغسل وجهه إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء ثم يمسح راسه كما امره اللّه تعالى إلا خرت خطايا راسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما امره اللّه تعالى إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء رواه مسلم وكذا روى عن أبى هريرة بلفظ ثم وهى للترتيب قلنا هذا الحديث حكاية عما يفعل المتوضي غالبا وبشارة له بالمغفرة ولا يدل على عدم جواز الصلاة عند فوات الترتيب بل لا يدل على عدم المغفرة عند فواته واحتجوا على وجوب الموالاة بان رجلا توضأ للصلوة فترك موضع ظفر على ظهر قدمه فابصر النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ارجع فاحسن وضوءك فرجع فتوضأ ثم صلى رواه من حديث عمر بن الخطاب واحمد وأبو داود وغيرهما من حديث انس ولا حجة فيه لان معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم احسن وضوءك أى أتمم وضوءك بغسل هذا الموضع ولا يدل على الأمر باعادة الوضوء فان قيل روى احمد حديث عمر بلفظ امره ان يعيد الوضوء قلنا فيه ابن لهيعة ضعيف وكذا ما روى عن بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلا يصلى وفى بعض ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم(1/1849)
يصيها الماء فامره عليه السلام ان يعيد الوضوء ضعيف فيه بقية مدلس لا يصح حديثه ما لم يتابع عليه أحد ويدل على عدم اشتراط الموالاة ما رواه البخاري عن ميمونة فى صفة غسلرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالت ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه وروى مالك عن نافع عن ابن عمر والشافعي رحمه اللّه فى الام عن مالك ان ابن عمر توضأ فى سوق المدينة فدعى إلى جنازة وقد بقي من وضوئه فرض الرجلين فذهب معهم إلى المصلّى ثم مسح على الخفين ويذكر عن ابن عمر غسل القدمين بعد ما جف وضوئه واللّه اعلم - (مسئلة : ) ولا يشترط فى الوضوء النية عند أبى حنيفة رحمه اللّه ويشترط عند الائمة الثلاثة لأنه عبادة بالإجماع وكل عبادة يشترط له النية بالنصوص والإجماع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 53
قال اللّه تعالى وما أمروا الا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين وقال عليه السلام انما الأعمال بالنيات قلنا الوضوء له اعتباران فباعتبار انه عبادة مكفرة للسيئات لا بد له من نية لما ذكرتم فان ثواب الأعمال انما هو بالنية وباعتبار انه مفتاح للصلوة وشرط من شروطها لا يشترط له النية كما لا يشترط لسائر شرائط الصلاة من ستر العورة وطهارة الاخباث وغيرها.
((1/1850)
مسئلة : ) لا يشترط للوضوء التسمية ولا المضمضة ولا الاستنشاق عند الجمهور وقال احمد كل ذلك واجب ركن للوضوء اما التسمية فلقوله صلى اللّه عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه رواه احمد وجماعة من الائمة من حديث كثير بن زيد عن رميح بن عبد الرحمن بن أبى سعيد الخدري عن أبيه عن جده ورواه الترمذي وجماعة من حديث سعيد بن زيد من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن أبى ثقال عن رباح عن جدته عن أبيها وروى احمد واصحاب السنن من حديث أبى هريرة من طريق يعقوب ابن سلمة عن أبيه عنه وفى بعض ألفاظه من توضأ وذكر اسم اللّه فانه طهر جسده كله ومن توضأ ولم يذكر اسم اللّه لم يطهر الا موضع الوضوء رواه الدارقطني عنه وعن ابن مسعود وابن عمر ولحديث عائشة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقوم إلى الوضوء فيسمى اللّه عز وجل رواه الترمذي وابن أبى شيبة وابن عدى وحديث خصيف قال توضأ رجل عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يسم فقال أعد وضوءك ثم توضأ ولم يسم فقال أعد وضوءك ثلث مرات ثم توضأ وسمى فقال الان خيرا أصبت وضوءك والجواب ان حديث خصيف موضوع لا اصل له وباقى الأحاديث كلها ضعاف قال أبو بكر الأثرم سمعت احمد بن حنبل يقول ليس فى هذا شىء يثبت وأحسنها حديث كثير بن زيد وكثير ضعيف وكذا عبد الرحمن بن حرملة قال أبو حاتم لا يحتج به ولينه البخاري وأبو ثقال ورباح مجهولان وجدة رباح راوية هذا الحديث عن سعيد بن زيد لا يعرف اسمها ولا حالها وكذا قال أبو حاتم وأبو ذرعة ويعقوب بن سلمة هو الليثي قال البخاري لا يعرف له سماع من أبيه ولا لابيه من أبى هريرة واما حديث عائشة ففى اسناده حارثة عن محمد وهو ضعيف قال الحافظ ابن حجر وفى الباب حديث على رواه ابن عدى وقال اسناده ليس بمستقيم وحديث انس رواه عبد الملك وهو شديد الضعف
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 54(1/1851)
و حديث ابن عمر وفيه أبو بكر الداهر وهو متروك وحديث ابن مسعود وفيه يحيى بن هاشم الشمشاد متروك وروى مرسلا عن ابان وهو مرسل ضعيف فالحاصل ليس فى الباب حديث صحيح ومن ثم قال احمد لا امره بالاعادة فارجوا ان يجزيه الوضوء لكن احمد يقدم الحديث الضعيف على القياس لا سيما هذه الأحاديث بالاجتماع والاعتضاد تدل على ان لها أصلا واستدلوا أيضا على وجوب البسملة بحديث أبى هريرة مرفوعا كل امر ذى بال لم يبدأ ببسم اللّه فهو اجزم قلنا هذا الحديث لا يدل على الوجوب والا لكان الحمد أيضا واجبا لورود الحديث فيه أيضا بمعناه ثم هذه الأحاديث معارض بحديث أبى جهيم قال اقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نحو بيرجمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه حتى اقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه متفق عليه فان هذا الحديث يدل على انه صلى اللّه عليه وسلم كره ان يذكر لفظ السلام وهو من اسماء اللّه تعالى على غير طهر فذكر اللّه تعالى بالتسمية قبل الوضوء اولى بالكراهة ولو سلمنا أحاديث الأمر بالتسمية فهى محمولة على الندب والمراد نفى الوضوء على وجه الكمال واما المضمضة والاستنشاق فدليل وجوبهما حديث عائشة رضى اللّه عنها وابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه أو لا يتم الوضوء الا بهما وحديث أبى هريرة امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق روى الأحاديث الثلاثة الدارقطني والجواب ان حديث عائشة فيه سليمان بن موسى قال البخاري عنده مناكير وقال النسائي ليس بالقوى وحديث ابن عباس فيه جابر الجعفي كذبه أيوب السجستاني وزائدة وقال النسائي متروك واما حديث أبى هريرة فقال الدارقطني لم يسنده غير هدبة وداؤة بن المحبر عن حماد عن عمار بن أبى عمار عنه وغيرهما يرويه عن عمار مرسلا وأجاب ابن الجوزي بان هدبة ثقة أخرج عنه فى الصحيحين والرفع(1/1852)
زيادة ومن الثقة مقبولة ثم المرسل أيضا حجة وقد يحتج على وجوب الاستنشاق بحديث أبى هريرة قال قال رسول الله
صلى اللّه عليه وسلم إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره من الماء ثم ليستنثر رواه مسلم وفى بعض طرقه فليجعل فى انفه ماء ثم ليستنثر متفق عليه قال ابن الجوزي قد روى نحوه عن عثمان بن عفان وسلمان بن قيس ومقدام بن معد يكرب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 55(1/1853)
و روى احمد وأبو داؤد والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا استنثروا مرتين بالغتين أو ثلثا ولابى داؤد الطيالسي إذا توضأ أحدكم فليستنثر وليفعل ذلك مرتين أو ثلثا واسناده حسن قلنا الأمر بالمضمضة والاستنشاق والاستنثار محمول على الاستحباب لا سيما عند اقترانه بالاستنثار الذي هو ليس بواجب اجماعا وقد روى عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال من توضأ فليستنثر من فعل فقد احسن ومن لا فلا حرج ثم على اصل أبى حنيفة رحمه اللّه الأحاديث التي تدل على وجوب التسمية أو المضمضة أو الاستنشاق أو غير ذلك فى الوضوء لو فرضنا صحتها لا يجوز بها الزيادة على الكتاب لان الزيادة على الكتاب عنده فى حكم النسخ لان مقتضى الآية صحة الصلاة عند الاقتصار على الأركان الاربعة ولا يجوز نسخ الكتاب بحديث الآحاد فلا يجوز الزيادة على الكتاب بحديث الآحاد واللّه اعلم - (فصل) وسنن الوضوء النية والبداية بغسل اليدين إلى الرسغين ثلثا والمضمضة والاستنشاق والاستنثار ثلثا ثلثا وتثليث غسل المغسولات ومسح كل الراس مرة والترتيب والموالاة لحديث عبد اللّه بن زيد قيل له توضأ لنا وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعا باناء فاكفأ منه على يديه فغسلهما ثلثا فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلثا فغسل وجهه ثلثا فغسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين فمسح برأسه فاقبل بيديه وأدبر ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثم قال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم متفق عليه وفى رواية فمضمض واستنشق واستنثر ثلثا بثلث غرفات وفى حديث على تمضمض ثلاثا واستنشق ثلثا وغسل وجهه ثلثا وذراعيه ثلثا ومسح برأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قام فاخذ فضل طهوره فشرب وهو قائم ثم قال أحببت ان أريكم كيف كان طهور رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رواه الترمذي والنسائي قال الدارقطني لم يرو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه توضأ(1/1854)
وضوء لم يدع فيه أحدا من هذه الثلاثة يعنى النية والترتيب والموالاة وقال الشافعي رحمه اللّه فى أحد قوليه واحمد رحمه اللّه ان السنة مسح الراس ثلثا وقد صح من حديث عثمان وعلى وعبد الله بن زيد وسلمة ابن الأكوع وانس ومعاذ بن جبل وبراء بن عازب وعبد اللّه بن عمرو ابن عبّاس انه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 56
مسح راسه مرة احتجوا بحديث عثمان انه صلى اللّه عليه وسلم توضأ ثلثا ثلثا رواه البخاري وحديث على مثله رواه الترمذي قلنا قوله توضأ ثلثا يعود إلى تثليث ما يحصل به الوضاءة وهو الغسل قال أبو داؤد أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على ان مسح الراس مرة واحدة وما ورد فى بعض ألفاظ حديث على توضأ ومسح برأسه واذنيه ثلثا فنحمله على تثليث إمرار اليد من غير أخذ ماء جديد لكل مرة جمعا بين الأحاديث وحينئذ يعد المسح مرة واحدة كما ورد فى حديث عبد اللّه بن زيد مسح راسه بيديه فاقبل بهما وأدبر بمقدم راسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه واللّه اعلم - ومنها مسح الأذنين لحديث أبى امامة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الأذنان من الراس وكان يمسح راسه مرة ............ وكان يمسح الماقين رواه احمد واصحاب السنن والحديث يدل على المواظبة وحديث مقدام بن معد يكرب مرفوعا توضأ فادخل إصبعيه فى حجرى اذنيه رواه النسائي وابن ماجة وحديث على توضأ ومسح برأسه واذنيه ثلثا وقال هكذا كان وضوء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فان قيل ليس فى كثير من الأحاديث ذكر الأذنين قلنا إذا ثبت المواظبة بحديث أبى امامة وعلى فعدم ذكر غيرهما لا ينتهض دليلا على النفي ولعل من لم يذكر مسح الأذنين اكتفى بذكر مسح الرأس بناء على قوله صلى اللّه عليه وسلم الأذنان من الراس ومنها تخليل اللحية لحديث عثمان ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يخلل(1/1855)
لحيته رواه الترمذي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وفى الباب حديث ابن عمر رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي وصححه ابن السكن ومنها ان يدلك عارضيه بعض الدلك لحديث ابن عمر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرك عارضيه بعض العرك رواه ابن ماجة والدارقطني وصححه ابن السكن والحديث حسن - (فصل) ويستحب البداية بالتسمية لما ذكرنا من الأحاديث وحملناه على الندب والتيامن وكان القياس كونها سنة ولم يقل العلماء بسنيته لان مواظبته صلى اللّه عليه وسلم كان على سبيل العادة دون العبادة لحديث عايشة قالت كان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم يحب التيامن ما استطاع فى شانه كله فى طهوره وترجله وتنعّله متفق عليه وقال عليه السّلام إذا توضأوا فابدءوا بميامنكم رواه احمد وأبو داود
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 57(1/1856)
و غيرهما وإذا فرغ من الوضوء يستحب ان يقول اشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلنى من التوابين واجعلنى من المتطهرين - روى مسلم من حديث عقبة بن عامر عن عمر من توضأ فقال اشهد ان لا اله الا اللّه إلى قوله رسوله فتحت له أبواب الجنة يدخلها من أيها شاء ورواه الترمذي من وجه اخر وزاد فيه اللّهم اجعلنى إلخ أو يقول سبحانك اللّه وبحمدك اشهد ان لا اله الّا أنت استغفرك وأتوب إليك ويصلى ركعتين رواه ابن ماجة من حديث انس والنسائي والحاكم من حديث أبى سعيد بلفظ من توضأ فقال سبحانك إلخ كتب فى رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة وصحح النسائي الموقوف والمرفوع ضعيف لكن الموقوف له حكم الرفع - (مسئلة) السواك سنة مؤكدة فى نفسه روى البخاري من حديث انس مرفوعا أكثرت عليكم فى السواك ومسلم من حديث عائشة كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دخل بيته يبدأ بالسواك والطبراني والبيهقي من حديث امّ سلمة ما زال جبرئيل يوصينى بالسواك حتى خشيت ان يدردنى « 1 » وورد نحوه من حديث سهل بن سعد وابى امامة وجبير بن مطعم وابى الطفيل وابن عبّاس والمطلب وعائشة وانس فى كتب الحديث وهذا يدل على كمال المواظبة خصوصا للمستيقظ فانه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من النوم استاك متفق عليه ويستحب السواك عند كل صلوة قال عليه السلام لو لا ان أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلوة رواه مسلم وأبو داود وعن عائشة مرفوعا فضل الصلاة التي يستاك بها على الصلاة التي لا يستاك بها سبعين ضعفا رواه احمد وابن خزيمة والحاكم وغيره وليست السواك من سنن الوضوء لأنه روى عن عثمان وعلى وعبد اللّه ابن زيد وغيرهم فى صفة الوضوء أحاديث كثيرة لم يرو عنهم السواك كما روى المضمضة والاستنشاق واللّه اعلم وَإِنْ كُنْتُمْ وقت قيامكم إلى الصلاة جُنُباً قد مر تفسيره فى سورة النساء(1/1857)
فَاطَّهَّرُوا امر بالمبالغة فى التطهير فيجب غسل سائر البدن ويجب المضمضة والاستنشاق أيضا امتثالا للمبالغة بالتطهير فان باطن الفم والخيشوم ظاهر البدن من وجه إذا انفتح وباطنه إذا انضم فالحقنا فى الغسل
_________
(1) الادراد إسقاط الأسنان 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 58(1/1858)
بالظاهر رعاية للمبالغة وقال مالك والشافعي رحمهما اللّه هما سنتان فى الغسل أيضا كما فى الوضوء لحديث أم سلمة قالت قلت يا رسول اللّه انى امراة أشد ضفر راسى فانقضه لغسل « 1 » الجنابة قال لا انما يكفيك ان تحثى على راسك ثلث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه مسلم قلنا انها سالت عن كيفية غسل الراس هل ينقض شعرها أم لا فورد جوابها من غير تعرض للمضمضة والاستنشاق نفيا ولا اثباتا فلا حجة فيه - (مسئلة : ) ويجب أيضا إيصال الماء فى الغسل إلى اصول شعر الراس على الرجل والمرأة وكذا غسل باطن اللحية خلافا لمالك والشافعي رحمهما اللّه فى رواية له القياس على الوضوء وجه الفرق عندنا الأمر بالمبالغة فى التطهير فى الغسل دون الوضوء وقوله صلى اللّه عليه وسلم انقوا البشر وحديث على سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من ترك موضع شعرة من جنابة لم يصبها الماء فعل اللّه به كذا وكذا من النار قال على فمن ثم عاديت شعرى رواه أبو داؤد وابن ماجة واسناده صحيح وما قيل الصواب وقفه قلنا الرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ثم الموقوف فى الباب له حكم الرفع لان عذاب الاخرة لا يدرك بالرأي وعن أبى ايّوب مرفوعا أداء الامانة غسل الجنابة فان تحت كل شعرة جنابة رواه ابن ماجه واسناده ضعيف وفى الصحيحين عن عائشة فى صفة غسله صلى اللّه عليه وسلم ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره وعن عائشة ان اسماء سالت النبي صلى اللّه عليه وسلم عن غسل المحيض فذكر الحديث وفيه فيدلك دلكا شديدا حتى يبلغ شؤن راسها رواه مسلم وفى الباب حديث أبى ذر إذا وجدت الماء فامسس بشرتك رواه احمد - (مسئلة : ) ولا يجب الدلك عند الجمهور خلافا لمالك رحمه اللّه لنا قوله تعالى
_________
((1/1859)
1) أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عمر قال كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتاه رجل جيد الثياب طيب الريح حسن الوجه فقال يا رسول اللّه ما الإسلام قال تقيم الصلاة وتوتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة قال صدقت واخرج عبد بن حميد عن وهب الزمارى قال مكتوب فى الزبور من اغتسل من الجنابة فانه عبدى حقا ومن لم يغتسل من الجنابة فانه عدوى حقا 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 59(1/1860)
حتى تغتسلوا والاغتسال اسالة الماء والدلك امر خارج من مفهومه وحديث جبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امّا انا فاخذ ملأ كفى من الماء فاصب على راسى ثم أفيض بعد على سائر جسدى متفق عليه وليس فى شىء من أحاديث الغسل ما يدل على وجوب الدلك - (مسئلة : ) ولا يجب على المرأة نقض الظفائر وغسل فروع الشعر اجماعا واما على الرجل فنقض الظفائر وغسل فروع الشعر من الرأس واللحية واجب بالإجماع وكان القياس وجوب غسل فروع الشعر بنقض الظفائر على الفريقين نظرا للامر بالمبالغة فى التطهير لكن سقط غسل فروع الشعر عن المرأة للحرج اللازم لها دونه كما دل عليه حديث أم سلمة المذكور وروى مسلم عن عبيد بن عمير قال بلغت عائشة ان عبد اللّه بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن ان ينقضين رؤسهن قالت أ فلا يأمرهن ان يحلقن رؤسهن لقد كنت اغتسل انا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اناء واحد فما أزيد على ان افرغ على راسى ثلث فرغات ولم يسقط غسل فروع الشعر للرجال عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وانقوا البشر رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي لكنه ضعيف مداره على الحارث بن دحية وهو ضعيف جدا قال الدارقطني انما يروى هذا عن مالك بن دينار مرسلا وكذا رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن يونس عن الحسن مرسلا وقال ابن الجوزي انما يروى هذا من قول أبى هريرة فهو مرسل صحيح وحديث موقوف صحيح والحديث المتصل المرفوع ضعيف والمرسل حجة لاسيما عند الاعتضاد بالمسند والأثر - (فصل) والسنة فى الغسل النية والموالاة وان يتوضأ الا رجليه ثم يفيض الماء على بدنه ثم يغسل رجليه لا فى المستنقع اما النية فالخلاف فيه كما فى الوضوء وقد مر واما الموالاة فلمواظبته عليه السلام واما باقى السنن فلحديث ميمونة قالت وضعت للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم غسلا فاغتسل من الجنابة فاكفأ الإناء(1/1861)
بشماله على يمينه فغسل كفيه ثلثا ثم أفاض على فرجه ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ثلثا وذراعيه ثلثا ثم أفاض على راسه ثلثا ثم أفاض على سائر جسده الماء ثم تنحى فغسل رجليه متفق عليه وعن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 60
إذا غسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم توضأ كما يتوضأ للصلوة ثم يدخل أصابعه فى الماء فيخلل بها اصول شعره ثم يفيض الماء على جلده كله متفق عليه - (فائدة) وازالة النجاسة الحقيقية عن بدنه انكانت فواجبة ولذا لم تذكر من سنن الغسل كما لم تذكر الاستنجاء من سنن الوضوء وتثليث غسل سائر البدن لم يظهر لى عليه دليل واللّه اعلم وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ قد مر تفسيره فى سورة النساء زاد اللّه تعالى فى هذه السورة قوله مِنْهُ أى من الصعيد قال البغوي فيه دليل على انه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب قلت هذا مبنى على ان كلمة من للتبعيض ومن هاهنا قال أبو يوسف وغيره لا يجوز التيمم على شىء من جلس الأرض بلا نقع عليه وعن محمد رح روايتان قلنا المحققون من أهل العربية على ان أصلها لابتداء الغاية وكونها للتبعيض أو البيان موقوف على القرينة قال المحقق التفتازانيّ وهو من الشافعية ذهب بعض الفقهاء يعنى من الشافعية ان من اصل وضعها للتبعيض دفعا للاشتراك وهذا ليس بسديد لاطباق ائمة اللغة على انها حقيقة فى ابتداء الغاية انتهى كلامه قلت ومعنى التبعيض هاهنا لا يصح لان ضابطة التبعيض جواز وضع لفظ البعض موضعها وذالا يتصور لان المسح إمرار اليد فمعنى قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم الآية امرروا ايديكم ملصقا بوجوهكم وايديكم وهذا كلام تام لا يستدعى مفعولا به اخر حتى تجعل بعض الأرض(1/1862)
مفعولا به فان قيل قال صاحب الكشاف قولهم انها لابتداء الغاية تعسف ولا يفهم أحد من العرب من قول القائل مسحت برأسي من الدهن أو من الماء أو من التراب الا معنى التبعيض قلنا فى الامثلة التي ذكر صاحب الكشاف انما يفهم التبعيض بالقرينة العقلية لا من كلمة من فان إمرار اليد ملصقا بالرأس مبتديا امراره عن الدهن او
الماء أو التراب يقتضى عند العقل تلطخ اليد ببعض هذه الأشياء لا باللفظ واما لو قيل مسحت برأسي من الصخرة لا يفهم منه معنى التبعيض البتة بل يفهم معنى الابتداء كما لا يخفى وإذا ثبت ان من لابتداء الغاية ثبت جواز التيمم على الصخرة بلا نقع واللّه اعلم ما يُرِيدُ اللَّهُ بالأمر بالوضوء والغسل والتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 61(1/1863)
من الأحداث ومن الذنوب كما روينا من حديث عمرو بن عنبسة قوله صلى اللّه عليه وسلم ما منكم أحد يقرب وضوئه ثم يمضمض ويستنشق إلا خرت خطايا فمه وخياشيمه مع الماء الحديث وروى البغوي عن عثمان انه توضأ ثلثا ثلثا ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من توضأ وضوئي هذا خرجت خطايا من وجهه ويديه ورجليه وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بشرعية ما هو مطهر لا بد انكم ومكفر لذنوبكم ومفتاح لصلوتكم التي هو معراج لكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار رواه احمد وابن أبى شيبة والترمذي من حديث معاذ بن جبل وعن أبى هريرة قال انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من اثار الوضوء فمن استطاع منكم ان يطيل غرّته فليفعل رواه البخاري واللام فى المواضع الثلاثة مزيدة وان بعدها مقدرة والمصدر مفعول به ليريد وضعّف البيضاوي هذا التأويل مع كونه اظهر أخذا من عبارة الكافية حيث قال يقدر ان بعد لام كى ولام الجحود وقال البيضاوي ان لا يقدر بعد المزيدة وقد صرح الرضى وصاحب الكشاف بالتقدير فى أمثاله مع كونها زائدة وفى التسهيل ويظهر ان ويضمر بعد لام الجر الغير الجحودية وقال البيضاوي فى تاويل الآية ان مفعول يريد فى الموضعين محذوف واللام للعلة والمعنى ما يريد اللّه الأمر بالطهارة تضييقا عليكم ولكن يريد الأمر المذكور ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولا شك ان بعد ورود الأمر بيان علة ارادة الأمر دون الأمر مستبعد جدا واللّه اعلم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته.(1/1864)
وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بإرسال الرسول وإنزال الكتاب والتوفيق للاسلام وسائر النعم ليذكركم المنعم ويرغبكم فى شكره عز وجلّ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ الذي اخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت أو ميثاق ليلة العقبة الذي اخذه من الأنصار رواه البخاري وغيره أو ميثاق بيعة الرضوان فى الحديبية كما نطق به القرآن وقال مجاهد ومقاتل يعنى الميثاق الذي أخذ على العلمين حين أخرجهم من صلبادم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 62
عليه السّلام إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا بيان للميثاق وَاتَّقُوا اللَّهَ فى نسيان العامة ونقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ من خطراتكم من الخير والشر فضلا عن ظواهر أعمالكم فيه وعد ووعيد واللّه اعلم.(1/1865)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ على أنفسكم واحبتكم بِالْقِسْطِ بالعدل والصدق وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا جرم يجرم بمعنى كسب كاجترم يقال جرم لاهله كذا فى القاموس وعدى بعلى بتضمين فعل يتعدى به كأنَّه قيل ولا يحملنكم شدة بغضكم لقوم مشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بكسب ما لا يحل لكم منهم كالمثلة والقذف وقتل النساء ونقض العهد تشفيا لما فى قلوبكم على مقتضى اهوائكم اعْدِلُوا امر بالعدل وهو ضد الجور بعد النهى عن تركه تأكيدا هُوَ أى العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أى اقرب إلى التقوى من غيره فان التقوى عبارة عن وقاية نفسه وقواه الظاهرة والباطنة عن إتيان ما كره اللّه فى الدنيا حتى يكون ذلك وقاية لنفسه عن عذاب اللّه وسخطه فى الاخرة ومرجع العدل والجور إلى حقوق الناس ورعاية حقوق الناس أهم وادخل فى التقوى ولذلك قال هو اقرب للتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما امر ونهى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم به فيه وعد ووعيد وتكرير هذا الحكم اما لاختلاف السبب كما قيل الاولى نزلت فى المشركين وهذه فى اليهود أو لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة فى اطفاء نائرة العقب.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ الجملة فى موضع المفعول الثاني من وعد لان الوعد نوع من القول فيقع على الجملة أو هى مستانفة والمفعول الثاني لوعد محذوف يدل عليه هذه الجملة وجاز ان يكون الصالحات ثانى مفعولى وعد أى وعد المثوبات الصالحات ومفعول عملوا محذوف لظهور ان اعمال المؤمن انما هو ما آمن بحسنه.(1/1866)
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ يعنى لا يفارقونها هذا من قبيل عطف المعمولين على المعمولين السابقين على تقدير كون جملة لهم مغفرة فى موضع النصب على المفعولية والمعنى وعد اللّه المؤمنين بهذا القول والكافرين بهذا القول وجاز ان يكون الموصول مبتدأ خبره أولئك اصحاب الجحيم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 63(1/1867)
و الجملة معطوفة على الجملة الاسمية السابقة وكلاهما مفعول ثان لوعد يعنى ان اللّه وعد المؤمنين بمغفرتهم وإهلاك أعدائهم وجاز ان يكون الذين كفروا معطوفا على الذين أمنوا وموعودهم محذوف يدل عليه أولئك اصحب الجحيم على تقدير حذف مفعول وعد فى الأول وجعل جملة لهم مغفرة مستانفة دليلا على المحذوف ويجوز ان يكون هذا كلاما مستانفا والواو للاستيناف ومن عادته سبحانه ذكر حال أحد الفريقين بعد ذكر الفريق الاخر لا تمام مقام الدعوة واللّه اعلم - قال البغوي قال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن بشار عن رجاله انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنذر بن عمر والساعدي وهو أحد نقباء ليلة العقبة فى ثلثين ركبا من المهاجرين والأنصار إلى بنى عامر بن صعصعة فخرجوا ولقوا عامر بن الطفيل على بيرمعونة وهى من مياه بنى عامر واقتتلوا فقتل المنذر وأصحابه الا ثلثة نفر كانوا فى طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن امية الضميري فلم يرعهم الا والطير تحوم فى السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقى رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع راسه إلى السماء وفتح عينيه وقال اللّه اكبر الجنة ورب العلمين ورجع صاحباه فلقيا رجلين من بنى سليم وبين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين قومهما موادعة فانتسبا لهما ال بنى عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم يطلبون الدية فخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب ابن الأشرف وبنى النضير يستعينهم فى عقلهما وكانوا عاهدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم على ترك القتال وعلى ان يعينوا فى الديات فقالوا نعم يا أبا القاسم قد ان لك ان تأتينا وتسالنا حاجة اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تسالنا فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخلا بعضهم ببعض فقالوا انكم لم(1/1868)
تجدوا محمدا اقرب منه الان فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا فقال عمرو بن جحش انا فجاء إلى رحا عظيمة ليطرحها عليه فامسك اللّه أيديهم وجاء جبرئيل وأخبره فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليّا وقال لا تبرح مقامك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنى فقل توجه إلى المدينة ففعل ذلك على حتى تناثلوا إليه ثم اتبعوه فانزل اللّه تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 64
آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ(1/1869)
الآية ذكر القصة بطولها ابن إسحاق وابن عمرو وابن سعد وذكروا فيها ان سلام بن مشكم نهاهم عن ذلك وقال لئن فعلتم ليخبرن بانا قد غدرنا به وان هذا نقض للعهد الذي بيننا وبينه فلا تفعلوا واخرج ابن جرير عن عكرمة ويزيد بن زياد ونحوه عن عبد اللّه بن أبى بكر وعاصم بن عمر بن قتادة ومجاهد وعبد الله بن كثير وابى مالك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم خرج ومعه أبو بكر الحديث كما ذكر البغوي ولم يذكر قصة قتل المنذر أصحابه واخرج أبو نعيم فى الدلائل عن ابن عباس وابن إسحاق والبيهقي فى الدلائل عن يزيد بن رومان والذي فى روايتهم ان المقتولين عبدان الا انهما كانا مسلمين واخرج ابن جرير عن قتادة قال ذكر لنا ان هذه الآية نزلت ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببطن نخل فى الغزوة السابعة فاراد بنو ثعلبة وبنو محارب ان « 1 » يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلوة فاطلعه اللّه تعالى على ذلك وانزل صلوة الخوف واخرج أبو نعيم فى دلائل النبوة من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله ان رجلا من محارب يقال له الغويرث بن الحارث قال لقومه اقتل لكم محمدا فاقبل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو جالس وسيفه فى حجره فقال يا محمد انظر إلى سيفك هذا قال نعم فاخذه فاستله فجعل يهزه ويهم به فيكبته « 2 » اللّه تعالى فقال يا محمد اما تخافنى قال لا قال اما تخافنى والسيف فى يدى قال لا يمنعنى اللّه منك ثم غمد السيف ورده إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية وذكر هذه الرواية عن الحسن وقال كان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم حينئذ محاصر غطفان بنخل واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس فى هذه الآية ان قوما من اليهود صنعوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولاصحابه طعاما ليقتلوه فاوحى اللّه عز وجل بشانهم فلم يأت الطعام وامر أصحابه فلم يأتوه واخرج الشيخان من حديث جابر نحو(1/1870)
هذه القصة وليس عندهما ذكر نزول الآية واخرج البيهقي فى الدلائل عن قتادة انها نزلت فى قوم من العرب أرادوا ان يفتكوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فارسلوا إليه الاعرابى يعنى الذي جاءه وهو نائم فى بعض المنازل فاخذ سلاحه وقال من
_________
(1) الفتك ان يأتى الرجل صاحبه وهو غافل فيقتل 12 نهايه
(2) أى يذله اللّه ويصرفه عنه 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 65
يحوله بينى وبينك فقال له اللّه فشام السيف ولم يعاقبه إِذْ هَمَّ قَوْمٌ الظرف متعلق بنعمة ومفعول هم قوله أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل والإهلاك يقال بسط إليه يده إذا بطش وبسط إليه لسانه إذا شتم فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ أى منع ورد مضرتها عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فانه الكافي لا يصال الخير ودفع الشر.(1/1871)
وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ حين انزل عليهم التورية بعد الفراغ من امر فرعون وقد مرّ قصة أخذ الميثاق فى سورة البقرة حيث قال وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً والمراد به رئيس كل سبط يكون شاهدا ينقب عن احوال قومه ويفتش عنها ويكفل عنهم بالوفاء بما أمروا به ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر على حسب امر نبيهم ونهيه وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ يعنى ما دمتم مريدين الوفاء بالميثاق معية بلا كيف يوجب التوفيق لامتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي وشرح الصدر والاطمينان وتم الكلام للابتداء بالشرط الداخل عليه اللام الموطّئة للقسم فى قوله تعالى لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أى بموسى ومن يأتي بعده مصدقا لما جاء به موسى من غير تفريق بين أحد منهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أى عظمتموهم وقويتموهم ونصرتموهم فى القاموس العزر اللوم والتفخيم والتعظيم ضد والاعانة والتقوية والنصر وفى الصحاح التعزير النصرة مع التعظيم وأصله الذب والرد وفى النصرة رد الأعداء وسمى الزاجر ما دون الحد تعزيرا لان فيه منعه عن شنائع الأعمال ودفع الشنائع عنه واللّه اعلم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ بالإنفاق فى سبيل الخير وقيل هو كل حسنة وجاز ان يكون معناه أقرضتم عباد اللّه بحذف المضاف أو أقرضتم الناس للّه قَرْضاً حَسَناً يحتمل المصدر والمفعول والقرض الحسن ما يكون بلا منّ وعجب ورياء وغير ذلك مما يبطل العمل لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ أى بعد ذلك الميثاق والوعد المؤكد المعلق بالوفاء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ اضافة الصفة إلى الموصوف يعنى ضل سبيلا(1/1872)
مستويا واخطأ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 66
طريق الحق والمراد به ضلالا بينا لا شبهة فيه ولا عذر معه يدل عليه التعبير عن المستقبل بالماضي وتأكيده بقد بخلاف من كفر قبل ذلك فانه يحتمل ان يكون له شبهة ويتوهم له معذرة.
فَبِما نَقْضِهِمْ ما زائدة أفاد التفخيم مِيثاقَهُمْ حيث كذب النصارى محمدا صلى الله عليه وسلم واليهود إياه وعيسى وغيرهما من الأنبياء ونبذوا كتب اللّه وضيعوا فرائضه لَعَنَّاهُمْ قال عطاء بعد ناهم عن رحمتنا وقال الحسن ومقاتل مسخناهم وقيل معناه ضربنا عليهم الجزية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً غليظة لا تلين بذكر اللّه ولا تنفعل بالآيات والنذر من القسوة بمعنى غلظ القلب وأصله من حجر قاس كذا فى الصحاح وهو المراد بما فسر ابن عباس باليابسة قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير الف قال البغوي هما لغتان كالزاكية والزكية ومعناهما واحد وقال البيضاوي وهى اما مبالغة قاسية أو بمعنى ردية من قولهم درهم قسى إذا كان مغشوشا قلت وهو أيضا من القسوة بمعنى الغلظ فان المغشوش فيه يبس وصلابة وقيل معناه ان قلوبهم ليست بخالصة للايمان بل ايمانهم مشوب بالكفر والنفاق كالدرهم المغشوش يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يعنى كلمات اللّه التي فى التورية عَنْ مَواضِعِهِ قيل هو تبديل نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل تحريفهم بسوء التأويل والجملة مستأنفة لبيان قسوة قلوبهم فان تحريف كلام اللّه والافتراء عليه مقتضى كمال القسوة وجاز ان يكون حالا من مفعول لعناهم لا عن القلوب إذ لا ضمير وَنَسُوا تركوا حَظًّا نصيبا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى التورية وعلى لسان الأنبياء من اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم أو المعنى تركوا حظهم مما انزل إليهم لان حظ ابائهم كان اتباع موسى عليه السلام وحظ هؤلاء الموجودين فى زمان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم فلم(1/1873)
ينالوه ذكر التحريف بلفظ المضارع والنسيان بلفظ الماضي لان الأول مترتب على الثاني فى الوجود وقيل معناه انهم حرفوا فنسو بشوم التحريف علوما كانوا يحفظونها مما ذكروا به روى احمد بن حنبل فى الزهد عن ابن مسعود لا حسب الرجل ينسى العلم كان يعلمها بالخطية يعملها وتلا هذه الآية وَلا تَزالُ يا محمّد تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ الخائنة فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاعنة يعنى على خيانة أو هى بمعناها والمعنى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 67(1/1874)
فرقة خائنة أو نفس خائنة أو فعلة ذات خيانة أو معناه خائن والهاء للمبالغة مِنْهُمْ الضمير عائد إلى بنى إسرائيل أجمعين الموجودين فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأسلافهم والاطلاع أعم منه بالمشاهدة أو بالأخبار يعنى ان الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم كان أسلافهم يخولون الرسل الماضين وهؤلاء يخونونك وكانت خيانة هؤلاء نقض ما عهدوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهمهم بقتله وسمّه ونحو ذلك إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا وهم الصالحون من أمة موسى وعيسى عليهما السّلام والذين أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد مبعثه وقيل الاستثناء من قوله وجعلنا قلوبهم قاسية وهذا ليس بسديد لان جعل قلوبهم قاسية متفرع على نقضهم ميثاقهم ونقض الميثاق يستلزم القساوة البتة فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أى اعرض عنهم ولا تتعرض ولا تواخذهم بما اذوك ولا تعامل معهم الا ما أمرك اللّه به والعفو عما فعلوا فى شانه صلى اللّه عليه وسلم لا ينافى القتال بامر اللّه تعالى وقيل معناه اعف واصفح عنهم ان تابوا وأمنوا أو عاهدوا والتزموا الجزية وقيل هذا الحكم منسوخ باية السيف إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للامر بالصفح وحث عليه وتنبيه على ان العفو عن الكافر الخائن احسان فضلا عن العفو عن غيره.(1/1875)
وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ الجار والمجرور متعلق باخذنا وهو معطوف على قوله تعالى ولقد أخذ اللّه ميثاق بنى إسرائيل وضمير ميثاقهم اما راجع إلى الموصول يعنى وأخذنا من النصارى فى الإنجيل وعلى لسان عيسى عليه السّلام ميثاق النصارى بامتثال ما أمروا فى الإنجيل مصدقا لما بين يديه من التورية ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد واما راجع إلى بنى إسرائيل المذكورين من قبل يعنى أخذنا من النصارى ميثاق من ذكر قبلهم من قوم موسى أى ميثاقا مثل ميثاقهم قال الحسن فيه دليل على انهم نصارى بتسميتهم أنفسهم لا بتسمية اللّه تعالى والاولى ان يقال انه تعالى انما لم يقل ومن النصارى أخذنا ميثاقهم ليدل على انهم يسمّون أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة اللّه تعالى وليسوا كذلك وليس هذا الا للتعريض على الموجودين فى زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا على أسلافهم فان منهم من كانوا أنصار اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 68(1/1876)
على الحقيقة وأخذ الميثاق على هؤلاء الموجودين انما كان تبعا لاخذ الميثاق على ابائهم فَنَسُوا يعنى اكثر هؤلاء الموجودين وبعض من قبلهم حَظًّا أى حظا وافيا أو حظهم مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فى الإنجيل فكذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم بعد البشارة بمبعثه واتبعوا اهوائهم قبل ذلك فافترقوا فرقا منهم الملكائية والنسطورية واليعقوبية قال بعضهم ان اللّه ثالث ثلثة وبعضهم عيسى ابن الله وبعضهم ان اللّه هو المسيح فَأَغْرَيْنا يعنى الصقنا والزمنا من غرى الشيء إذا لصق به ولزمه بَيْنَهُمُ قال مجاهد وقتادة يعنى بين اليهود والنصارى وقال الربيع بين فرق النصارى وهو الأظهر الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ لاجل اختلاف اهوائهم فى الدين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بالجزاء والعقاب فى الاخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فى الدنيا من الكفر والمعاصي وترك الاقتداء بالكتب السماوية التي مآلها واحد واللّه اعلم أخرج ابن جرير عن عكرمة قال ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتاه اليهود يسالونه عن الرجم فقال أيكم اعلم فاشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي انزل التورية على موسى والذي رفع الطور بالمواثيق الذي أخذت عليهم فقال انه لما كثر الزنا فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فانزل اللّه تعالى.(1/1877)
يا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله صراط مستقيم والمراد باهل الكتاب اليهود والنصارى ووحد الكتاب لأنه للجنس قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى اللّه عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أى التورية والإنجيل مثل اية الرجم ونعت محمد صلى اللّه عليه وسلم فى التورية وبشارة عيسى بأحمد فى الإنجيل وَيَعْفُوا أى يعرض عَنْ كَثِيرٍ مما يخفونه لا يخبر به إذا لم يتوقف عليه امر دينى أو عن كثير منكم فلا يؤاخذ بجرمه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعنى محمد صلى اللّه عليه وسلم أو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ للاحكام أو بين الاعجاز وهو القرآن وجاز ان يكون العطف تفسيريا وسمى محمدا صلى اللّه عليه وسلم والقران نورا لكونهما كاشفين لظلمات الكفر.
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحد الضمير لان المراد بهما اما واحد أو كواحد فى الحكم مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أى رضاه بالايمان منهم سُبُلَ السَّلامِ أى طرق السلامة من عذاب اللّه وقيل السلام هو اللّه تعالى وسبله شرائعه الموصلة إليه وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 69
الظُّلُماتِ أى ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ نور الايمان بِإِذْنِهِ بإرادته وتوفيقه وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أى طريق موصل إلى اللّه تعالى البتة وهو الإسلام.(1/1878)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ والقائلون بهذا القول اليعقوبية من النصارى فانهم قائلون بالاتحاد وقيل لم يصرح به أحد ولكن لما زعموا ان فيه لاهوتا وقالوا لا اله الّا واحد لزمهم ان يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ أى يقدر ان يدفع مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يعنى ان المسيح وامه عبدان مخلوقان من جنس سائر الممكنات فان عطف من فى الأرض عليهما يفيد انهما من جنسهم متصفان بالحدوث واماراته من الابنيّة والامومية قابلان للهلاك والغناء مقدوران للّه تعالى وحده إنشاء اللّه تعالى هلاكهما لا يستطيعان دفع الهلاك عن أنفسهما كسائر الممكنات وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ بغير مادة سبقت عليه كالسموات والأرض أو من مادة من غير جنسه كما خلق آدم من الطين أو من ذكر وحده كما خلق حواء من آدم أو من أنثى وحدها كما خلق عيسى بن مريم أو من ذكر وأنثى كاكثر الحيوانات وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الاحياء والاماتة فكيف يتصور اتحاد من ذلك شانه وظهر احتياجه وإمكانه بمن هذا سلطانه وعزّ برهانه روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعمان بن احيى وبحرى بن عمرو وشاس بن عدى فكلموه وكلمهم ودعاهم إلى اللّه وحذرهم نقمته فقالوا ما تخوفنا يا محمد نحن واللّه أبناء اللّه واحباؤه كقول النصارى فانزل اللّه تعالى.(1/1879)
وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ الآية قيل أرادوا ان اللّه تعالى كالاب لنا فى الحنو والعطف ونحن كالابناء له فى القرب والمنزلة وقال ابراهيم النخعي ان اليهود وجدوا فى التورية يا أبناء احبارى فبدّلوا يا أبناء ابكارى فمن ذلك قالوا نحن أبناء اللّه وقيل معناه نحن أبناء رسل اللّه وقيل أرادوا انهم أشياع ابنيه عزير والمسيح كما قال لاشياع أبى الجنيب عبد اللّه بن الزبير الجنيبيون قُلْ يا محمد ان صح ما زعمتم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فان الأب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 70
لا يعذب ولده والحبيب حبيبه وقد عذبكم اللّه فى الدنيا بالقتل والاسر والمسح وأنتم مقرون انه سيعذبكم بالنار أياما معدودات فليس الأمر كما زعمتم بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر بنى آدم يحزون بالاساءة والإحسان يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ ما دون الكفر فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مدلا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كلها سواء فى المملوكية والمخلوقية والمملوكية تنافى البنوة فيه تنبيه على نفى بنوة عزير وعيسى وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ لكل مخلوق فيجازى على حسب اعماله فيه وعد ووعيد روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهودا إلى الإسلام ورغبهم فيه فقال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة يا معشر يهود اتقوا اللّه فو اللّه انكم لتعلمون انه رسول اللّه لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه لنا بصفته فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهود اما قلنا لكم هذا وما انزل اللّه من كتاب بعد موسى ولا أرسل بشرا بعده فانزل اللّه تعالى.(1/1880)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلى اللّه عليه وسلم يُبَيِّنُ لَكُمْ اعلام الهدى وشرائع الدين وحذف لظهوره أو ما كتمتم وحذف لتقدم ذكره ويجوز ان لا يقدر مفعول والمعنى يبذل لكم البيان والجملة فى موضع الحال أى جاءكم رسولنا مبينا لكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاء أى جاءكم على حين فتور من المرسلين وانقطاع من الوحى أو حال من الضمير فى يبين أَنْ تَقُولُوا يعنى كراهة ان تقولوا أو لئلا تقولوا معتذرين ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعنى فلا تعتذروا فقد جاءكم بشير ونذير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى وعيسى وكان بينهما الف وسبعمائة أو خمسمائة سنة والف نبى أخرج ابن سعد والزبير بن بكار وابن عساكر عن الكلبي انه كان بين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى الف وسبعمائة سنة وليسا من سبط واحد واخرج الحاكم عن ابن عبّاس بلفظ بين موسى وعيسى الف وخمسمائة سنة واخرج ابن أبى حاتم عن الأعمش قال كان بين موسى وعيسى الف نبى ويقدر على الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم وكان بينهما ستمائة سنة أخرجه ابن عساكر وابن أبى حاتم عن قتادة أو خمسمائة وستون سنة أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير من طريق
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 71
معمر عن قتادة ولم يكن بعد عيسى رسول سوى رسولنا صلى اللّه عليه وسلم وفى الآية امتنان عليهم بان بعث إليهم حين انطمست اثار الوحى وكانوا أحوج ما يكونون إليه عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبى متفق عليه.(1/1881)
وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بنى إسرائيل يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فارشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث فى أمة ما بعث فى بنى إسرائيل من الأنبياء وَجَعَلَكُمْ أى جعل منكم أو فيكم مُلُوكاً وقد تكاثر فيهم الملوك بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهمّوا بقتل عيسى عليهما السلام وقال ابن عباس أراد بالملوك اصحاب خدم وحشم قال قتادة كانوا اوّل من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم وروى ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدري رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كان بنو إسرائيل إذا كان لاحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا وله شاهد من مرسل زيد بن اسلم وقال عبد الرحمن الحبلى سمعت عبد اللّه بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال السنا من فقراء المهاجرين فقال له عبد اللّه أ لك امرأة تأوي إليها قال نعم قال أ لك مسكن تسكنه قال نعم قال فانت من الأغنياء قال فان لى خادما قال فانت من الملوك وقال السدى معناه وجعلكم أحرارا تملكون امر أنفسكم بعد ما كنتم فى أيدي القبط يستعبدونكم وقال الضحاك كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا فيها ماء جار فهو ملك وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فى زمانهم لشرف صحبة الأنبياء من مراتب القرب عند اللّه مع الرفعة فى الدنيا والكرامات مثل فلق البحر وإنزال انواع الرجز على أعدائهم دونهم.(1/1882)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ قال مجاهد هى الطور وما حوله وقال الضحاك ايليا وبيت المقدس وقال عكرمة والسدى هى أريحا وقال الكلبي هى دمشق وفلسطين وبعض الأردن وقال قتادة هى الشام كلها وقال كعب وجدت فى كتاب اللّه المنزل ان الشام كنز اللّه من ارضه وبها كنز من عباده سميت بالمقدسة لانها مقر الأنبياء ومسكن المؤمنين الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أى كتب وفرض عليكم دخولها كما كتب الصوم والصّلوة كذا قال قتادة والسدى وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ إلى مصر أو إلى خلاف ما أمركم اللّه جبتا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين يجوز فى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 72(1/1883)
فتنقلبوا الجزم على العطف والنصب على الجواب وقيل معنى كتب اللّه فى اللوح المحفوظ انها يكون مسكنا لكم ولا بد على هذا التأويل ان يقيد بشرط مقدر وهو ان أمنتم وأطعتم لقوله تعالى بعد ما عصوا انها محرمة عليهم وجاز ان يكون ضمير لكم عائدا إلى بنى إسرائيل بالنسبة إلى بعضهم يعنى المطيعين وضمير محرمة عليهم بالنسبة إلى بعض اخر يعنى العاصين أو يقال التحريم مقيد بأربعين سنة ثم يكون مسكنا لهم وقال ابن إسحاق معنى كتب اللّه لكم وهب اللّه لكم وجعلها لكم قال الكلبي صعد ابراهيم جبل لبنان فقال له انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك قال البغوي ان اللّه عز وجل وعد موسى ان يورثه وقومه الأرض المقدسة وهى الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون فلما استقرت لبنى إسرائيل الديار بمصر يعنى بعد الفراغ من امر فرعون أمرهم اللّه بالمصير إلى أريحا من ارض الشام وهى الأرض المقدسة وكانت بها الف قرية فى كل قرية الف بستان قلت لعل المراد بالألف الكثرة جدا دون العدد واللّه اعلم وقال اللّه تعالى يا موسى انى كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فانى ناصرك عليهم وخذ من قومك اثنا عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به فاختار موسى النقباء وسار ببني إسرائيل حتى إذا قربوا من أريحا بعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الاخبار ويعلمون علمها فلقيهم رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلثة وثلثون ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه يعنى بالشمس يرفعه إليها ثم يأكله ويروى ان الماء طبق على ما على الأرض من جبل وما جاوز من ركبتى عوج وعاش ثلثة آلاف سنة حتى أهلكه اللّه على يدى موسى وذلك ان جاء وقور « 1 » صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السّلام وكان فرسخا فى فرسخ و(1/1884)
حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه الهدهد فنقر الصخرة بمنقاره فوقعت فى عنقه فصرعته فاقبل موسى عليه السّلام وهو مصروع فقتله وكانت امه عنق احدى بنات آدم عليه السّلام وكان مجلسها جريبا من الأرض قال فلما لقى عوج النقباء وعلى راسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم فى حجزته وانطلق بهم إلى امرأته
_________
(1) وقور فعول من الوقر بمعنى الثقل 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 73
و قال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون انهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال الا اطحنهم برجلي فقالت امرأته لا بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما راوا ففعل ذلك وروى انه جعلهم فى كمه واتى بهم إلى الملك فنشرهم بين يديه فقال الملك ارجعوا فاخبروهم بما رايتم وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة انفس منهم فى خشبة ويدخل فى شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة انفس قلت كذا ذكر البغوي فى عوج بن عنق وفيه مبالغات لا يقبلها العقل وينكرها المحدثون غير انه أعظم جثة وأقوى قوة من الجبارين وكانوا اجراما عظيمة اولى بأس شديد فلما رجع النقباء إلى موسى واخبروه بما عاينوا قال لهم موسى اكتموا شانهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشلوا فاخبر كل رجل منهم قريبه وابن عمه الا رجلان وفيا بما قال لهم موسى أحدهما يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف فتى موسى والاخر كالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران وكان من سبط يهود افعمت جماعة بنى إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا متنا بمصر وليتنا نموت ولا يدخلنا اللّه ارضهم فتكون نساءنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم وجعل الرجل يقول لصاحبه تعال نجعل علينا راسا وننصرف إلى مصر.(1/1885)
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها أى فى تلك الأرض قَوْماً جَبَّارِينَ الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العالي الذي يجبر الناس على ما يريد وقال البغوي الجبار المتعظم الممتنع عن القهر بحيث لا يتاتى مقاومته يقال نخلة جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها قلت كان امتناعهم اما بطولهم وقوة أجسادهم كما يدل عليه القصة أو لكثرة جنودهم وأموالهم وآلات الحرب معهم قال البغوي كانوا من العمالقة وبقية قوم عاد وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة لنا بهم فلما قال بنو إسرائيل ذلك وهموا بالانصراف إلى معه وخر موسى وهارون ساجدين وخرق كالب ويوشع ثيابهما وهما الذين اخبر اللّه تعالى عنهما فى قوله.
قالَ رَجُلانِ يعنى كالب ويوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ اللّه تعالى ويتقونه وقيل كانا رجلين من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى فعلى هذا الواو لبنى إسرائيل والراجع إلى الموصول محذوف أى من الذين يخافهم بنو إسرائيل ويشهده قراءة سعيد ابن جبير يخافون بضم الياء أخرجه ابن جرير عنه والحاكم وصححه عن ابن عباس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 74
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالايمان والتثبت صفة ثانية لرجلين أو اعتراض ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم أى باغتوا وضاغطوهم فى المضيق وامنعوهم عن الخروج إلى الصحارى فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ 5 لتعذر الكر عليهم فى المضايق ولان اللّه منجز وعده وانا رايناهم فكانت أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به مصدقين بوعده قال البغوي فاراد بنو إسرائيل ان يرجموهما بالحجارة وغضبوهما و.(1/1886)
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد والتأبيد وقوله ما دامُوا فِيها بدل من ابدا بدل البعض فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قيل قالوا ذلك استهانة باللّه ورسوله وعدم مبالاة بهما وهذا مستبعد جدا لأنه يستلزم الكفر فلا يتصور بعد ذلك مصاحبة موسى وقد كانوا فى مصاحبته ونزل عليهم المن والسلوى وظلل عليهم الغمام وانفجرت من الحجر عيونا لشربهم فالمعنى اذهب أنت وربك يعينك واللّه اعلم عن ابن مسعود قال شهدت من المقداد بن اسود مشهد الان أكون صاحبه لاحب إلى مما عدل به اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يدعوه على المشركين قال لا نقول كما قال قوم موسى اذهب أنت وربك فقاتلا ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرايت النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أشرق وجهه وسره رواه البخاري وغيره فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفة امر اللّه ورسوله وهموا بيوشع وكالب غضب موسى ودعا عليهم.
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعنى وأخي لا يملك الا نفسه فاخى اما منصوب عطفا على اسم ان أو مرفوع عطفا على الضمير المرفوع فى املك أو مبتدأ خبره محذوف يعنى كذلك وجاز ان يكون معناه لا يطيعنى الا نفسى وأخي وحينئذ أخي اما منصوب عطفا على نفسى أو مجرور عند الكوفيين عطفا على ياء المتكلم فى نفسى والحصر إضافي بالنسبة إلى القوم العاصين أخرج الكلام شكاية عنهم ولا يلزم منه عدم إطاعة الرجلين يوشع وكالب فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بان تحكم لكل ما يستحقه من المدح والثواب والذم والعقاب أو المعنى فافرق بالتبعيد بيننا وبينهم وتخليصنا من صحبتهم.(1/1887)
قالَ اللّه تعالى فَإِنَّها أى الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ تحريم منع لا تحريم تعبد يعنى انها ممنوعة منهم لا يدخلونها ولا يسكنونها بسبب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 75
عصيانهم أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر انه متعلق بقوله محرمة فيكون التحريم موقتا غير موبد ولا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى التي كتب اللّه لكم على تاويل كتب اللّه فى اللوح المحفوظ كونها مسكنا لكم ويؤيد ذلك ما روى ان موسى فتح أريحا بمن بقي من بنى إسرائيل وكان يوشع على مقدمته وقاتل الجبابرة واقام موسى فيها ما شاء اللّه ثم قبض كما سيجئ قصته ولا يعلم قبره أحد قال البغوي وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء ان عوج بن عنق قتله موسى قلت ولقوله تعالى وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض إلى قوله تعالى اهبطوا مصرا فان لكم ما سالتم فانه يدل على ان موسى كان حيا حين اهبطوا مصرا بعد خروجهم من التيه وذلك يعد أربعين سنة وقيل الظرف متعلق بما بعده يعنى يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أى يسيرون فيها يتحيرون لا يرون الطريق فيكون التحريم حينئذ مطلقا ولم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال لا ندخلها بل هلكوا فى التيه كلهم وانما قاتل الجبابرة أولادهم مع يوشع لما هلكوا كلهم وانقضت أربعون سنة ونشات النواشي من ذراريهم ولم يسر إليهم يوشع الا بعد موت موسى ومات موسى وهارون عليهما السلام فى التيه كذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال البغوي على هذه الرواية فلما مات موسى وانقضت الأربعون سنة بعث اللّه يوشع نبيا فامرهم ان اللّه تعالى قد امر بقتال الجبابرة فصدقوه وبايعوه فتوجه بنوا إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فاحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان السابع نفخوا فى القرن وضجّ « 1 » الشغب ضجة واحدة فسقط سور المدينة ودخلوا فقاتلوا الجبارين فهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت العصابة(1/1888)
من بنى إسرائيل يجتمعون على عنق رجل يضربونها لا يقطعونها فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منه بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت فقال اللهم اردد الشمس علىّ وقال للشمس انك فى طاعة اللّه وانا فى طاعته فسال الشمس ان تقف حتى ينتقم من اعداء اللّه قبل دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد فى النهار ساعة حتى قتلهم أجمعين روى احمد فى مسنده مرفوعا ان الشمس لم تحبس على بشر الا ليوشع ليالى سار إلى بيت المقدس قال البغوي وتتبع
_________
(1) الضجع الضياح عند المكروه والمشقة والجزع والشغب بسكون الغين تهيج الشر والفتنة والخصام 12 نهاية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 76(1/1889)
ملوك الشام فقتل منهم واحد أو ثلثين ملكا حتى غلب على جميع ارض الشام وفرق العمال فى نواحيها وجمع الغنائم فلم تنزل النار فاوحى اللّه إلى يوشع ان فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصق يد رجل منهم بيده فقال هلم ما عندك فاتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالجواهر واليواقيت كان قد غله فجعله فى القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فاكلت الرجل والقربان ثم مات يوشع ودفن فى جبل افرائيم وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة وتدبيره امر بنى إسرائيل بعد موسى ستا وعشرين سنة فَلا تَأْسَ أى لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى لما ندم على الدعاء عليهم وبين انهم احقّاء بذلك لفسقهم روى انهم لبثوا أربعين سنة فى ستة فراسخ وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا امسوا كانوا فى الموضع الذي ارتحلوا عنه كذا أخرج ابن جرير وأبو الشيخ فى العظمة عن وهب بن منبه بدون ستة فراسخ قال البغوي كانوا ستمائة الف مقاتل قيل ان موسى وهارون لم يكونا فيهم والأصح انهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة بل كان روحا لهما وزيادة لدرجتهما وانما كانت العقوبة لهؤلاء القوم وكان الغمام يظللهم من الشمس فى التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة كذا أخرج ابن جرير عن الربيع ابن انس وكان يطلع بالليل عمود من النور فيضئ لهم وكان طعامهم المن والسلوى ومائهم من الحجر الذي يحملونه حتى انقضت مدة التيه وأمروا بان يهبطوا مصرا ثم قاتل موسى الجبابرة وفتح أريحا وأمروا ان يدخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة (قصّة وفات هارون عليه الصلاة والسلام) قال السدى اوحى اللّه إلى موسى انى متوفى هارون عليه السلام فآت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا بيت مبنى وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه قال يا موسى انى أحب ان أنام على هذا السرير قال فنم عليه فقال انى أخاف ان يأتي رب(1/1890)
هذا البيت فيغضب على قال موسى لا ترهب انى أكفيك رب هذا البيت قال يا موسى فنم أنت معى فان جاء رب البيت غضب علىّ وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون عليه السلام الموت فلما وجد معه قال يا موسى خذ عينى فلما قبض رفع البيت وذهب تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء فلما رجع موسى إلى بنى اسراءيل وليس معه هارون قالوا ان موسى قتل هارون وحسده لحب بنى إسرائيل له فقال موسى ويحكم كان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 77(1/1891)
أخي أ فترونني اقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه قال صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فامر اللّه تعالى الملئكة فحملته حتى مروا به على بنى إسرائيل فكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنوا إسرائيل انه قد مات فبراه الله مما قالوا ثم ان الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره الا الرخم فجعله اللّه أصم ابكم وقال عمرو بن ميمون مات هارون وموسى عليهما السّلام فى التيه مات هارون قبل موسى وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بنى إسرائيل فقالوا قتلته لحبنا إياه وكان محبا فى بنى إسرائيل فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فاوحى اللّه إليه انطلق بهم إلى قبره فنادى يا هارون فخرج من قبره ينفض راسه فقال انا قتلتك قال لا ولكنى مت قال فعد إلى مضجعك وانصرفوا - (قصّة وفات موسى عليه السّلام) قال ابن إسحاق كان صفى اللّه موسى يكره الموت فاراد اللّه ان يحبب إليه الموت فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى يا نبى اللّه ما أحدث اللّه إليك فيقول له يوشع يا نبى اللّه الم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت اسألك عن شىء ما أحدث إليك حتى تكون أنت الذي تبتدى به وتذكره ولا يذكر له شيئا فلما رأى موسى ذلك كره الحيوة وحبب الموت وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاء ملك الموت إلى موسى فقال له أجب ربك قال فلطم(1/1892)
موسى عليه السّلام عين ملك الموت ففقأها قال فرجع الملك إلى اللّه سبحانه وتعالى فقال انك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عينى قال فرد اللّه إليه عينه وقال ارجع إلى عبدى فقل له الحيوة تريد فان كنت تريد الحيوة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فانك تعيش بها سنة قال ثم مه قال ثم تموت قال فالآن من قريب قال رب أدنني من الأرض المقدسة رمية الحجر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو انى عنده لاريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر متفق عليه وقال وهب خرج موسى لبعض حاجته فمر برهط من الملائكة يحفرون قبر الم ير شيئا احسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة فقال لهم يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر قالوا لعبد كريم على ربه قال ان هذا العبد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 78
من اللّه بمنزل ما رايت كاليوم مضجعا فقال الملائكة يا صفى اللّه أ تحب ان يكون لك قال وددت قالوا فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربّك قال فاضطجع وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض اللّه تبارك وتعالى روحه ثم سوت عليه الملائكة وقيل ان ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها وقبض روحه وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة واللّه اعلم - .(1/1893)
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل بِالْحَقِّ صفة مصدر محذوف أى تلاوة متلبسة بالحق أو حال من الضمير فى اتل أو من نبأ أى متلبسا بالصدق موافقا لما فى كتب الأولين إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ أو حال منه أو بدل على حذف مضاف أى اتل نبأهم نبا ذاك الوقت والقربان اسم ما يتقرب بها إلى اللّه تعالى من ذبيحة أو غيرها كما ان الحلوان اسم لما يحلى أى يعطى وهو فى الأصل مصدر ولذلك لم يثن وقيل تقديره إذ قرب كلو أحد منهما قربانا وكان سبب قربانهم على ما ذكر أهل العلم ان حواء كانت تلد لآدم عليه السلام فى بطن غلاما وجارية وكان جميع ما ولد أربعين ولدا فى عشرين بطنا أولهم قابيل وتوامته إقليما وثانيهم هابيل وتوامته لبودا وآخرهم أبو المغيث وتوامته أم المغيث قال ابن عباس لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين الفا قال محمد بن اسحق عن بعض أهل العلم بالكتاب الاوّل انه ولد قابيل وأخته فى الجنة فلم تجد حواء عليهما وجعا ولا وصبا ولا طلقا ولم تر معهما دما فلما هبطا إلى الأرض حملت بهابيل وأخته فوجدت عليهما الوجع والوصب والطلق والدم وقال غيره غشى آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وأخته فى بطن ثم هابيل وأخته فى بطن وكان بينهما سنتان فى قول الكلبي وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن اخرى فكان الرجل منهم يتزوج اية أخواته شاء الا توامته فلما بلغ قابيل وهابيل النكاح اوحى اللّه تعالى إلى آدم ان يزوج كلواحد منهما توامة الاخر فرضى هابيل وسخط قابيل لان توامته كانت أجمل وقال انا أحق بها ونحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض فقال له أبوه انها لا تحل لك فابى ان يقبل ذلك وقال ان اللّه لم يأمره بهذا وانما هو برأيه فقال آدم فقربا قربانا فمن يقبل قربانه فهو احقّ بها وكانت القربان إذا قبلت نزلت نار من السماء بيضاء فاكلته و(1/1894)
إذا لم تقبل لم تنزل النار وأكله الطير والسباع فخرجا ليقربا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من طعام من أردى زرعه وأضمر
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 79
فى نفسه لا أبالي أ يقبل قربانى أم لم يقبل لا يتزوج أختي ابدا وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى احسن كبش من غنمه فقرب به وأضمر رضوان اللّه تعالى فوضعا قربانهما على الجبل ثم دعا آدم عليه السّلام فنزلت نار من السماء فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما يعنى هابيل أكلت النار قربانه وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ يعنى من قابيل قربانه فغضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد فى نفسه إلى ان اتى آدم مكة لزيارة البيت فلما غاب آدم اتى قابيل هابيل قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ هابيل لم قال لان اللّه تعالى قبل قربانك ورد قربانى وتنكح أختي الحسناء وانكح أختك الذميمة فيتحدث الناس انك خير منى ويفتخر ولدك على ولدي فقال هابيل وما ذنبى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ القربان مِنَ الْمُتَّقِينَ وفيه اشارة إلى ان الحاسد ينبغى ان يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد فى تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا فى ازالة حظه فان ذلك مما يضره ولا ينفعه وان الطاعة انما يتقبل من مومن متق عن الرذائل والمناهي عند اخلاص النية أخرج ابن أبى شيبة عن الضحاك فى قوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتقين قال الذين يتقون الشرك قلت لعل المراد بقوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتقين ان القربان لا يتقبل الا ممن كان محقا من الخصمين لا من المبطل واللّه اعلم وسئل موسى بن أعين عن قوله تعالى انما يتقبل اللّه من المتّقين قال تنزهوا عن أشياء من الحلال مخافة الحرام واخرج ابن أبى الدنيا عن على بن أبى طالب قال لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبّل واخرج ابن أبى الدنيا عن عمر بن عبد العزيز انه كتب إلى رجل أوصيك بتقوى اللّه الذي لا يقبل غيرها ولا يرحم الا أهلها ولا يثاب الا عليها فان الواعظون بها كثير(1/1895)
و العاملون بها قليل واخرج ابن أبى حاتم عن أبى الدرداء قال لان استقر انّ اللّه قد تقبل منى صلوة واحدة أحب إلى من الدنيا وما فيها ان اللّه يقول انما
يتقبل اللّه من المتقين واخرج ابن عساكر عن هشام بن يحيى عن أبيه قال دخل سائل إلى ابن عمر فقال لابنه أعطه درهما فاعطاه فلما انصرف قال ابنه تقبل منك يا أبتاه قال لو علمت ان اللّه يقبل سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلى من الموت تدرى ممن يتقبل اللّه انما يتقبل اللّه من المتقين واخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال لان أكون اعلم ان اللّه يتقبل منى عملا أحب إلى من ان أكون لى ملأ الأرض ذهبا وعن عامر بن عبد اللّه انه بكى حين حضره الوفاة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 80
فقيل له وما يبكيك وقد كنت وكنت يعنى كنت كثير العبادة قال انى اسمع اللّه يقول انما يتقبل اللّه من المتقين وقال هابيل فى جوابه.(1/1896)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ قرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قال عبد اللّه بن عمرو وايم اللّه ان كان المقتول لاشد الرجلين ولكن منعه التحرج ان يبسط يده إلى أخيه يعنى استلم له خوفا من اللّه تعالى اما لان الدفع لم يبح بعد قال مجاهد كتب عليهم فى ذلك الوقت إذا أراد الرجل قتل رجل ان لا يمتنع ويصبر واما تحريا لما هو الأفضل قال عليه السّلام كن عبد اللّه المقتول ولا تكن عبد اللّه القاتل أخرجه ابن سعد فى الطبقات من حديث عبد اللّه وهذا جائز فى شريعتنا ان ينقاد ويستسلم كما فعل عثمان رضى اللّه عنه أخرج ابن سعد عن أبى هريرة قال دخلت على عثمان يوم الدار فقلت جئت لانصرك فقال يا أبا هريرة أ يسرك ان تقتل الناس جميعا وإياي معهم قلت لا قال فان قتلت رجلا واحدا فكانما قتلت الناس جميعا واخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ابني آدم ضربا مثلا لهذه الامة فخذوا بالخير منهما واخرج عبد بن حميد عنه بلفظ فتشبهوا بخيرهما ولا تشبهوا بشرهما وانما قال ما انا بباسط فى جواب لئن بسطت للتبرى عن هذا الفعل الشنيع راسا والتحرز من ان يوصفبه ويطلق عليه ولذا أكد النفي بالباء.(1/1897)
إِنِّي فتح الياء نافع واسكن غيره أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ إلى ربك بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ كلاهما فى موضع الحال من فاعل تبوء أى ترجع متلبسا بالاثمين حاملا لهما يعنى إذا قتلتنى ترجع حاملا اثم خطاياى التي عملتها واثم خطاياك التي عملتها من قتلى وغير ذلك كذا روى ابن نجيح عن مجاهد فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فان المظلوم يعطى من حسنات الظالم يوم القيمة جزاء لظلمه وان لم يكن للظالم حسنات أو كانت ولكن فنيت قبل أداء جميع حقوق الناس يطرح على الظالم اثم خطايا المظلوم ويلقى فى النار عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان المفلس من أمتي من يأتى يوم القيامة بصلوة وصيام وزكوة ويأتى قد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 81
و هذا من حسناته فان فنيت حسناته قبل ان يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح فى النّار رواه مسلم فان قيل لا يجوز لمسلم ارادة معصية أخيه وشقاوته فكيف أراد هابيل هكذا قلنا ليس الكلام على حقيقته ولم يكن مراد هابيل ان يقتله اخوه البتة ويكون اخوه قاتلا عاصيا بل انه لما علم انه يكون قاتلا أو مقتولا لا محالة أراد نفى كونه قاتلا عن نفسه لا كون أخيه قاتلا فالمراد بالذات ان لا يكون عليه اثم.(1/1898)
فَطَوَّعَتْ أى أسمعت وانقادت لَهُ نَفْسُهُ وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله قَتْلَ أَخِيهِ كأنَّه دعا نفسه إليه فطاوعته واطاعته قال فى الصحاح طوعت ابلغ من اطاعت فلما قصد قابيل قتله لم يدر كيف يقتله قال ابن جريح فتمثل له إبليس فاخذ طيرا فوضع راسه على حجر ثم شدخ راسه بحجر اخر وقابيل ينظر إليه فعلمه القتل فرضخ قابيل راس هابيل بين حجرين قيل وهو مستسلم وقيل اغتاله فى النوم فشدخ راسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فى الدنيا حيث بقي مدة عمره مطرودا محزونا وفى الاخرة حيث بدل جنته بالنار وكان هابيل يوم قتل ابن عشرين سنة قال ابن عباس قتله على جبل نود وقيل عند عقبة حراء فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بنى آدم وقصده السباع فجعله فى جراب على ظهره أربعين يوما وقال ابن عبّاس سنة حتى تعير وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتاكله فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه فى الحفرة وواراه وقابيل ينظر إليه وذلك قوله تعالى.(1/1899)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ الضمير المرفوع راجع إلى اللّه سبحانه أو إلى الغراب كَيْفَ حال من الضمير فى يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قدم عليه لاقتضائه صدر الكلام والجملة ثانى مفعولى ليريه والروية هاهنا بمعنى العلم دون الابصار إذ الابصار لم يتحقق بمواراة سوأة أخيه بل بمواراة الغراب ولا بد هاهنا من مفعول ثالث لتعديته بهمزة الافعال فتقول جملة كيف يوارى قائم مقام المفعولين كما فى قولك علمت ان زيدا قائم ومعنى الكلام ليريه توارى سوأة أخيه متكيفا بتلك الكيفية والمراد بسوأة أخيه جسده الميت فانه مما يستقبح ان يرى وقيل المراد به عورته وما لا يجوز ان ينكشف من جسده ولم يلهم اللّه سبحانه قابيل ما الهم الغراب ازدراء به وتنبيها على انك أهون على اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 82(1/1900)
من الغراب وابعد منزلة منه حتى جعلك تلميذا له يدل عليه قوله قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر والالف منه بدل من ياء المتكلم والمعنى يا ويلتى احضرى هذا أوانك ونجنى من الم العجز والويل الهلاك وهو منادى مستغاث أو كلمة ندبة مثل يا حسرتا أَعَجَزْتُ والاستفهام للتعجب أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ عطف على ان أكون وليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى لو عجزت لو اريت سَوْأَةَ أَخِي يعنى لست انا اهتدى إلى ما اهتدى إليه الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على حمله على عاتقه سنة وقيل ندم على فراق أخيه وقيل ندم على القتل لأنه أسخط والديه وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندم على القتل من حيث ركوب الذنب قال المطلب بن عبد اللّه بن حنطب لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء فناداه اللّه اين أخوك هابيل قال ما أدرى ما كنت عليه رقيبا فقال ان دم أخيك لينادينى من الأرض فلم قتلت أخاك قال فاين دمه ان كنت قتلته فحرم اللّه عز وجل على الأرض يومئذ ان يشرب دما بعده ابدا وروى انه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته ولذلك اسود جسدك وتبرأ عنه ومكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك وقال مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الاطعمة وحمضت الفواكه وامرّ الماء واغبرت الأرض فقال آدم قد حدث فى الأرض حدث فاتى الهند فإذا قابيل قتل هابيل فانشا يقول وهو أول من قال شعرا
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذى طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح(1/1901)
و روى عن ميمون بن مهران عن ابن عبّاس قال من قال ان آدم قال شعرا فقد كذب على اللّه ورسوله فان محمدا والأنبياء كلهم فى الشعر سواء لكنه لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سريانى فلما قال آدم مرثية قال لشيث يا بنى انك وصيي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية وكان يقول الشعر فرد المقدم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 83
الى المؤخر والمؤخر إلى المقدم وجعله موزونا وزيد فيه أبيات منها
و مالى لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح
ارى طول الحياة علىّ غما فهل انا من حياتى مستريح(1/1902)
فلما مضى من عمر آدم مائة وثلثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا واسمه هبة اللّه يعنى انه خلف من هابيل علمه الله ساعات الليل والنهار وعلمه عبادة الحق فى كل ساعة منها وانزل عليه خمسين صحيفة فصار وصى آدم وولى عهده فاما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه فاخذ بيد أخته إقليما وهرب بها إلى عدن من ارض اليمن فاتاه إبليس فقال له انما أكلت النّار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك فبنى بيتا للنار فهو اوّل من عبد النار واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير وانهمكوا فى اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى غرقهم اللّه بالطوفان ايام نوح وبقي نسل شيث عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقتل نفس ظلما الا كان على ابن آدم الاوّل كفل من دمها لأنه اوّل من سن القتل رواه البخاري وغيره وروى البيهقي فى شعب الايمان عن ابن عمر وابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم واخرج ابن عساكر عن أبى هريرة عن النبىّ صلى اللّه عليه وسلم قال من هجر أخاه سنة لقى اللّه بخطية قابيل لا يفكه شىء دون ولوج النار.(1/1903)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قرأ أبو جعفر من أجل بكسر النون موصولا وإلقاء الهمزة والعامة بسكون النون وفتح الهمزة مقطوعا أى بسبب وقوع ذلك الجناية العظيمة من ابن آدم وسد باب القتل وأجل فى الأصل مصدر أجل شرا بأجل إذا اجناه أى جره إليه فى القاموس أجل للشر عليهم ياجله جناه إذا ثاره وهيجه ثم استعمل فى تعليل الجنايات ثم اتسع فيه فاستعمل فى كل تعليل ومن ابتدائية متعلقة بقوله كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أى ابتداء الكتب وانشأه من أجل ذلك أَنَّهُ الضمير للشان مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أى بغير قتل نفس يوجب القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ وهو يشتمل فساد أهل الحرب واهل البغي وقطاع الطريق وزنا يعنى بغير هذه الأشياء الموجبة للقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ « 1 » جَمِيعاً قال البغوي اختلفوا فى تأويلها
_________
(1) أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد فى قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا قال هذه مثل التي فى سورة النساء ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب اللّه عليه ولعنه واعدله عذابا عظيما يقول لو قتل الناس لم يزد على مثل ذلك 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 84(1/1904)
فقال ابن عباس فى رواية عن عكرمة من قتل نبيا أو امام عدل فكانما قتل الناس جميعا ومن شد على عضد نبىّ أو امام عدل فكانما أحيا الناس جميعا وقال مجاهد من قتل نفسا محرمة يصل النار بقتلها كما يصل لو قتل الناس جميعا ومن أحياها يعنى من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا وقال قتادة عظم اللّه أجرها وعظم وزرها معناه من استحل قتل مسلم بغير حقه فكانما قتل الناس جميعا فى الإثم لانهم لا يسلمون منه وَمَنْ أَحْياها أى تورع عن قتلها أو استنقذها من بعض اسباب الهلاك كالقتل بغير حق أو غرق أو حرق أو هدم أو نحو ذلك فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فى الثواب لسلامتهم منه وقال الحسن فكانما قتل الناس جميعا يعنى انه يجب عليه القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل النّاس جميعا ومن أحياها أى عفا عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكانما احيى الناس جميعا والمقصود من هذه الآية تعظيم قتل النفس وإحياءها فى القلوب ترهيبا عن التعرض لها وترغيبا فى المحاماة عليها عن البراء بن عازب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لزوال الدنيا أهون على اللّه من قتل مؤمن بغير حق رواه ابن ماجة بسند حسن والبيهقي وزاد ولو ان أهل سموته واهل ارضه اشتركوا فى دم مؤمن لادخلهم النار وفى رواية له من سفك دم بغير حق ولمسلم من حديث عبد اللّه بن عمر مثل الأول والنسائي من حديث بريدة قتل المؤمن أعظم عند اللّه من زوال الدنيا ولابن ماجة من حديث عبد اللّه بن عمر ورايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما اطيبك وما أطيب ريحك وما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفسى بيده لحرمة المؤمن أعظم من حرمتك وماله ودمه قال سليمان بن على قلت للحسن فى هذه الآية يا أبا سعيد أ هي لنا كما كانت لبنى إسرائيل قال أى والذي لا اله غيره ما كان دماء بنى إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعنى بنى(1/1905)
إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أى بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحات تأكيدا للامر وتجديدا للعهد كى يتحاموا عنها كثير منهم فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 85
بالقتل لا يبالون به والإسراف التباعد عن حد الاعتدال فى الأمر.
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ « 1 » أى يحاربون عباد اللّه ويحاربون رسوله فانه صلى اللّه عليه وسلم هو الحافظ للطرق والخلفاء والملوك بعده نوابه أو المعنى يحاربون اللّه ورسوله انهم يخالفون أمرها ويهتكون حرمة دماء واموال ثبت باثباتهما قال البيضاوي اصل الحرب السلب وفى القاموس الحرب معروف والسلب وهذا يدل على كونه مشتركا وكلام البيضاوي يدل على كونه منقولا وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أى مفسدين أو للفساد وجاز ان يكون منصوبا على المصدرية لان سعيهم كان فسادا وقيل يفسدون فى الأرض فسادا واختلفوا فى نزول هذه الآية أخرج ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب ان عبد الملك بن مردان كتب إلى انس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه انس ان هذه الآية نزلت فى العرنيين ارتدّوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل الحديث ثم أخرج عن جرير مثله واخرج عبد الرزاق نحوه عن أبى هريرة وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير روى البخاري وغيره عن انس قال لما قدم على النبىّ صلى اللّه عليه وسلم نفر عن عكل فاسلموا فاجتوت « 2 » المدينة فامرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يأتوا ابل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا
_________
((1/1906)
1) أخرج الخرابطى فى مكارم الأخلاق عن ابن عباس ان قوما من عرينة جاؤا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاسلموا وكان قد شلت أعضائهم واصفرت وجوههم وعظمت بطونهم فامر بهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم إلى ابل الصدقة يشربون من ألبانها وأبوالها فشربوا حتى صحوا وسمنوا فعمدوا إلى راعى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقتلوا واستاقوا الإبل وارتدوا عن الإسلام وجاء جبرئيل فقال يا محمد ابعث فى اثارهم فبعث ثم قال ادع بهذا الدعاء اللهم ان السماء سماءك والأرض أرضك والمشرق مشرقك والمغرب مغربك اللهم ضيق عليهم الأرض برحبها حتى تجعلها عليهم أضيق من سك جمل حتى تقدرنى عليهم فجاؤا بهم فانزل اللّه تعالى انما جزاؤ الذين الآية فامر جبرئيل من أخذ المال وقتل يصلب ومن قتل ولم يأخذ يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل يقطع يده ورجله من خلاف قال ابن عباس هذا الدعاء لكل ابق ولكل من ضلت له ضالة من انسان أو غيره يدعو بهذا الدعاء ويكتب فى شىء ويدفن فى مكان نظيف الا قدره اللّه عليه 12
(2) أى أصابهم الجوى وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول وذلك إذا لم يوافقهم هواء المدينة 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 86(1/1907)
فبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم فى اثارهم فاتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمرهم بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا قال أبو قلابة قتلوا وسرقوا وحاربوا اللّه ورسوله وسعوا فى الأرض فسادا واختلفوا فيما فعل بالعرنيين فقال بعضهم منسوخ بهذه الآية لان المثلة لا يجوز وقال بعضهم حكم ثابت الا السمل والمثلة وهذا القول لا يتصور الا إذا كان الامام مخيرا بين الاحكام الاربعة المذكورة فى هذه الآية وروى قتادة عن ابن سيرين ان ذلك كان قبل ان ينزل الحدود وقال أبو الزناد لما فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذلك بهم انزل اللّه الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعدو عن قتادة قال بلغنا ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة وقال سليمان التيمي عن انس انما سمل النبي صلى اللّه عليه وسلم أعينهم لانهم سملوا أعين الرعاة وقال الليث بن سعد نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم وقال انما جزاؤهم هذه لا المثلة وقال الضحاك نزلت هذه الآية فى قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا فى الأرض وقال الكلبي نزلت فى قوم هلال بن عويمر وذلك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم وادع هلال بن عويمر وهو أبو برزة الأسلمي على ان لا يعينه ولا يعين عليه ومن مر بهلال بن عويمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهوا من لا يهاج فمر قوم من بنى كنانة يريدون الإسلام بناس من اسلم من قوم هلال ابن عويمر ولم يكن هلال شاهدا فنهدوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبرئيل عليه السلام بالقضية فيهم واللّه اعلم - (فائدة) اجمعوا على ان المراد بالمحاربين المفسدين فى هذه الآية قطاع الطريق سواء كانوا مسلمين أو من أهل الذمة واتفقوا على ان من برزو شهر السلاح مخيفا(1/1908)
مغيرا خارج المصر بحيث لا يدركه الغوث فهو محارب قاطع للطريق جارية عليه احكام هذه الآية واختلفوا فيمن قطع الطريق ليلا أو نهارا فى المصر أو بين الكوفة والحيرة مثلا فقال مالك رح والشافعي رح واحمد رح هو قاطع محارب وقال أبو حنيفة رح لا يثبت هذا الحكم الا فيمن يكون خارج المصر بعيدا منه بحيث لا يلحقه الغوث كذا ذكر صاحب رحمة الامة وقال البغوي المكابرون فى الأمصار داخلون فى حكم هذه الآية وهو قول مالك والأوزاعي والليث
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 87(1/1909)
ابن سعد والشافعي رح وقال ابن همام هذا مذهب الشافعي رح فان فى وجيزهم من أخذ فى البلد مالا مغالبة فهو قاطع طريق وعلى ظاهر الرواية من مذهب أبى حنيفة رح يشترط ان يكون بين مكان القطع وبين المصر مسيرة سفر وعن أبى يوسف رح انه إذا كان خارج المصر ولم يقرب منه يجب الحد لأنه لا يلحقه الغوث لأنه محارب بل مجاهرته هاهنا اغلظ من مجاهرته فى المفازة ولا تفصيل فى النصّ فى مكان القطع وعن مالك كل من أخذ المال على وجه لا يمكن لصاحبه الاستعانة فهو محارب وعنه لا محاربة الا على قدر ثلثة أميال من العمران وتوقف احمد مرة وعند اكثر أصحابه ان يكون بموضع لا يلحقه الغوث وعن أبى يوسف رح فى رواية اخرى ان قصد بالسلاح نهارا فى المصر فهو قاطع وان قصد بخشب ونحوه فليس بقاطع وفى الليل يكون قاطعا بالخشب والحجر لان السلاح لا يلبث فيتحقق القطع قبل الغوث والغوث يبطى بالليل فيتحقق القطع فيها بلا سلاح وفى شرح الطحاوي الفتوى على قول أبى يوسف رح يعنى هذا قال فى الهداية قول أبى حنيفة رح استحسان والقياس قول الشافعي رح لوجود قطع الطريق حقيقة ووجه الاستحسان ان قطع الطريق بقطع المادة ولا يتحقق ذلك فى المصر ويقرب منه لان الظاهر لحوق الغوث انتهى كلامه وقال ابن همام وأنت تعلم ان الحد المذكور فى الآية لم ينط بمسمى قطع الطريق وانما هو اسم من الناس وانما ينط بمحاربة عباد اللّه على ما ذكرنا من تقدير المضاف وذلك يتحقق فى خارجه ثم هذا الدليل المذكور لا يفيد تعيين مسيرة ثلثة ايّام بين(1/1910)
المصر وبين القاطع قلت وحديث العرنيين يابى عن اشتراط هذه المسافة بين المصر ومكان القطع واللّه اعلم - (مسئلة : ) ويشترط كونهم ذا منعة جماعة تمنعين أو واحد يقدر على الامتناع لا مختلسون يتعرضون لاخر القافلة يعتمدون المهرب والذين يغلبون شرذمة بقوتهم فهم قطاع فى حقهم وان لم يكونوا قطاعا فى حق قافلة عظيمة وهذا الشرط يستفاد من الآية فان المحاربة والفساد فى الأرض لا يتحقق بدون المنعة والقدرة على الامتناع أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ يعنى أيديهم الايمان وأرجلهم الإيسار بإجماع الامة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذهب قوم إلى ان الامام بالخيار فى امر المحاربين بين القتل والصلب والقطع والنفي كما هو المستفاد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 88(1/1911)
من ظاهر الآية بكلمة أو فانها للتخيير ولا يحتاج حينئذ إلى تقدير تقييد وهو قول سعيد ابن المسيب وعطاء وداود والحسن والضحاك والنخعي ومجاهد وأبو ثور وقال مالك انه يفعل فيهم الامام على ما يراه ويجتهد فمن كان منهم ذا راى وقوة قتله فان راى زيادة سياسة صلب ومن كان ذا قوة وجلدة بلا رأى قطعه من خلاف ومن كان لا راى له ولا قوة نفاه والمراد بالنفي عنده ان يخرج من البلد الذي كان فيه إلى غيره ويحبس فيه كما سنذكر قول محمد بن جبير ويشترط عند مالك فى المال المأخوذ ان يكون جملتها نصابا ولا يشترط عنده ان يكون نصيب كلواحد من المحاربين نصابا وقال أبو حنيفة رح والشافعي رح واحمد رح والأوزاعي وقتادة كلمة أو للتوزيع على احوال القاطع ان قصدوا قطع الطريق وأخافوا فاخذوا قبل ان يأخذوا مالا أو يقتلوا نفسا ينفوا من الأرض والمراد بالنفي عند أبى حنيفة رح ان يحبس حتى يظهر منه التوبة لأنه نفى عن وجه الأرض بدفع شرهم عن أهلها قال مكحول ان عمر بن الخطاب أول من حبس فى السجون وقال احبسه حتى اعلم منه التوبة ولا انفيه إلى بلد فيوذيهم وقال محمد بن جبير ينفى من بلده إلى غيره ويحبس فى السجن فى البلد الذي نفى إليه حتى يظهر توبته وعلى هذا القول يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وقال اكثر العلماء هو ان يطلبه الامام ففى كل بلد يوجد ينفى عنه ولا يتمكنون من القرار فى موضع وان أخذوا مال مسلم أو ذمى ولم يقتلوا والمأخوذ إذا قسم على جماعتهم أصاب كل واحد نصاب السرقة وهو عشرة دراهم عند أبى حنيفة رح وربع دينار عند الشافعي رح واحمد رح أو ثلثة دراهم كما سنذكره إن شاء اللّه تعالى اقطع الامام أيديهم وأرجلهم من خلاف وان قتلوا ولم يأخذوا مالا قتلهم الامام حدا ولا يلتفت إلى عفو الأولياء وان باشر القتل أو الاخذ أحدهم اجرى الحد على جميعهم عند أبى حنيفة رح ومالك واحمد رح لأنه جزاء المحاربة وهى(1/1912)
يستحقق بان يكون البعض ردا للبعض حتى لو زالت أقدامهم انحازوا إليهم وانما الشرط القتل من واحد منهم والتشديد فى قوله تعالى ان يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطع يفيدان يجرى الحد بمباشرة بعضهم على كلهم واحدا بعد واحد فان التفعيل للتكثير وأيضا يفيد المبالغة فلا يجوز عفوه وقال الشافعي رح لا يجب على الرد أغير التعزير بالحبس والتغريب وغير ذلك وان قتلوا وأخذوا المال فعند أبى حنيفة رح وابى يوسف الامام بالخيار ان شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم وان شاء قتلهم و
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 89
ان شاء صلبهم وعنه الشافعي رح واحمد رح قتلوا وصلبوا ولا قطع فيه وهو الظاهر من الآية وقال محمد يقتل أو يصلب ولا يقطع لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين ولان ما دون النفس يدخل فى النفس فى باب الحد كحد السرقة والرجم وجه قول أبى حنيفة رح ان هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها وهو تفويت الا من على التناهى بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل فى السرقة الكبرى حدا واحدا وان كان فى الصغرى حدين والتداخل انما يكون فى حدين لا فى حد واحد وعن أبى يوسف رح انه يقتل ويصلب البتة ولا يترك الصلب لأنه منصوص عليه والمقصود(1/1913)
به التشهير ليعتبر به غيره وقال أبو حنيفة رح اصل التشهير بالقتل والمبالغة فى الصلب فيخير فيه وصفة الصلب عند الشافعي رح انه يقتل ثم يصلب وقيل عنده يصلب حيا ثم يطعن برمح حتى يموت وكلا الروايتين عن أبى حنيفة رح الاولى مختار الطحاوي رح توقيا عن المثلة والثانية مروى عن الكرخي رح وهو الأصح لدخول كلمة أو بين القتل والصلب ولا يصلب فوق ثلثة ايّام عند أبى حنيفة رح لأنه يتغير بعدها فيتاذى به الناس وعن أبى يوسف رح انه يترك على خشبة حتى ينقطع فيسقط ليعتبر به غيره قلنا يحصل الاعتبار بالصلب والنهاية غير مطلوبة وهذا التفسير الذي اختاره الجمهور رواه الشافعي رح عن ابن عباس قال فى قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض ورواه البيهقي من طريق محمد بن سعد العوفى عن ابائه إلى ابن عبّاس فى هذه الآية قال إذا حارب وقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته وإذا حارب وأخذ المال وقتل فعليه الصلب وان لم يقتل فعليه قطع اليد والرجل من خلاف وان حارب وأخاف السبيل فعليه النفي وروى محمد عن أبى يوسف رح عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال وادع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم اصحاب أبى بردة الطريق فنزل جبرئيل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالحدان من قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان منه فى الشرك وفى رواية عطية عن ابن عباس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 90(1/1914)
و من أخاف الطريق ولم يقتل ولم يأخذ المال نفى رواه احمد بن حنبل فى تفسيره عن أبى معاوية عن عطية وأيضا القول بالتوزيع موافق لقواعد الشرع دون التخيير لان هذه الجناية يتفاوت خفة وغلظا والقول بالتخيير يقتضى جوازان يترتب على اغلظ الجنايات أخف الاجزية وبالعكس والقتل بالقتل والقطع بالأخذ والجمع بين الصلب والقتل بالجمع امر معقول وانما أجاز أبو حنيفة رح الاكتفاء بالقتل وترك الصلب بحديث العرينين حيث لم يصلبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(مسئلة : ) وان لم يقتل القاطع ولم يأخذ مالا وقد جرح اقتص منه مما فيه القصاص وأخذ الأرش مما فيه الأرش وذلك إلى المجنى عليه فيجوز عفوه قال فى الهداية لأنه لا حد فى هذه الجناية فظهر حق العبد وهو ما ذكرناه ويرد عليه ان حد هذه الجناية النفي بسبب الاخافة فقوله لاحد فى هذه الجناية ممنوع.
(مسئلة : ) وان أخذ ما لا ثم جرح قطعت يده ورجله وبطلت الجراحات لأنه لما وجب الحد حقا للّه تعالى سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما يسقط عصمة المال عند أبى حنيفة رح وقال الشافعي رح لا يسقط حق العبد بالحد فيستوفى الجراحات مع الحد وعلى هذا الخلاف إذا قتل القاطع حدا أو قطعت يده ورجله لا ضمان عليه فى مال أخذ وهلك عنده أو استهلك عند أبى حنيفة رح وعند الشافعي رح واحمد رح عليه الضمان وان كان المال موجودا يرد على المالك اجماعا وسنذكر هذا الخلاف فى حد السرقة ان شاء اللّه تعالى.
(مسئلة : ) ان كان فى قطاع الطريق امرأة فوافقتهم فقتلت وأخذت قال مالك رح والشافعي رح واحمد رح تقتل حدا وقال أبو حنيفة رح تقتل قصاصا وتضمن المال.
((1/1915)
مسئلة : ) وان كان من قطاع الطريق صبى أو مجنون يحد الباقون عند الائمة الثلاثة وقال أبو حنيفة وزفر يسقط الحد عن الباقين وعن أبى يوسف رح لو باشر العقلاء يحد الباقون وكذا الخلاف لو كان من قطاع الطريق ذو رحم محرم من بعض أهل القافلة لابى حنيفة رح انه جناية واحدة قامت بالكل فاورثت شبهة فى الباقين وعند الجمهور لا عبرة بهذه الشبهة إذ حينه عن ينسد باب الحد.
(مسئلة : ) إذا قطع بعض القافلة على البعض لا يجب الحد لان القافلة حرز واحد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 91
فصار كسارق سرق متاع غيره وهو معه فى دار واحدة وإذا لم يجب الحد وجب القصاص والضمان ذلِكَ الذي ذكر لَهُمْ من الحد خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنبهم.(1/1916)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ قال البغوي من ذهب ان الآية نزلت فى الكفار قال معناه الا الذين تابوا من الشرك واسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشئ من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا فى حال الكفر من دم أو مال قلت وكذا ان تاب الكافر الحربي عن الشرك بعد القدرة ويثبت هذا الحكم من غير هذه الآية واما قطاع الطريق من المسلمين واهل الذمة فمن تاب منهم من قطع الطريق قبل القدرة عليه أى قبل ان يظفر به الامام فبمقتضى هذا الاستثناء يسقط عنه الحد المذكور حقا للّه تعالى اجماعا كما يدل عليه قوله تعالى فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ واما حقوق العباد فقال بعضهم يسقط ولا يكون لاحد عليه تبعة فى دم أو مال الا ان يوجد معه مال بعينه فيرده إلى صاحبه وهو المروي عن على فى حارثة بن بدر كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ الأموال ثم جاء تائبا قبل ان يقدر عليه فلم يجعل عليه على عليه السّلام تبعة كذا روى ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن أبى الدنيا وابن جرير وابن أبى حاتم عن الشعبي عن على واخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد عن اشعث عن رجل عن أبى موسى الأشعري نحوه وعند الجمهور لا يسقط عنه حقوق العباد فان كان قد قتل وأخذ المال وتاب قبل ان يظفر به يستوفى الولي القصاص أو يعفو ويجب ضمان المال إذا هلك فى يده أو استهلكه قال أبو حنيفة سقوط القصاص والضمان انما كان مبنيا على وجوب الحد وكونه خالص حق اللّه تعالى فإذا ظهر بالاستثناء ان الحد لم يجب ظهر حق العبد فى النفس والمال ويجب القصاص فى النفس والأطراف والضمان فى الأموال تغير هذه الآية واللّه اعلم.(1/1917)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أى التقرب رواه الحاكم عن حذيفة وكذا روى الفرياني وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قلت يعنى تقربا ذاتيا بلا كيف فى القاموس الوسيلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والواسل الراغب وفى الصحاح الوسيلة التوصل إلى شىء برغبة وهى أخص من الوصيلة لتضمنها
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 92(1/1918)
معنى الرغبة وفى الحديث الوسيلة درجة عند اللّه ليس فوقها درجة فسلوا اللّه ان يوتينى الوسيلة رواه احمد بسند صحيح عن أبى سعيد الخدري مرفوعا وروى مسلم عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علىّ فانه من صلى علىّ صلوة صلى اللّه عليه بها عشرا ثم سلوا اللّه لى الوسيلة فانها منزلة فى الجنة لا ينبغى الا لعبد من عباد اللّه وأرجو ان أكون انا هو فمن سال لى الوسيلة حلت عليه الشفاعة فان قيل هذه الأحاديث تدل على ان الوسيلة درجة ليست فوقها درجة ولا جرم انها مختصة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم كما يدل عليه النصوص والإجماع وقوله تعالى وابتغوا إليه الوسيلة امر بطلبه ويظهر بذلك جواز حصوله لغيره فما الوجه لتخصيصه قلت المرتبة المختصة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم لا يمكن حصولها لاحد من الناس بالاصالة ولكن جاز حصولها لكمل افراد أمته بالتبعية والوراثة ومن طلب زيادة شرح هذا المقام فليرجع إلى مكاتيب سيدى وامامى القيوم الرباني المجدد للالف الثاني ومن هاهنا يتلاشى كثير من اعتراضات المعاندين المتعصبين الغافلين عن حقيقة الأمر عن كلامه ويمكن ان يقال الوسيلة تعم درجات قربه تعالى وما طلبه النبي صلى اللّه عليه وسلم لنفسه هو أعلى افرادها واللّه اعلم - (فائدة) وكون الرغبة والمحبة داخلة فى مفهوم الوسيلة كما ذكره الجوهري فى الصحاح يفيدك ان الترقي إلى هنالك منوط بالمحبة لا بشئ اخر ويؤيده ما قال المجدد رض ان السير يعنى النظري فى مرتبة اللاتعين التي هى أعلى مراتب القرب التي ليس فوقها درجة وهى المكنى عنها بقوله صلى اللّه عليه وسلم لى مع اللّه وقت لا يسعنى فيه ملك مقرب ولا نبى مرسل منوط بالمحبة لا غير واللّه اعلم والمحبة ثمرة اتباع السنة قال اللّه تعالى فاتبعونى يحببكم اللّه فكمال متابعة النبي صلى اللّه عليه وسلم ظاهرا(1/1919)
و باطنا يفيد حصول تلك المرتبة لمن يشاء اللّه تعالى تبعا ووراثة وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع اعداء اللّه سبحانه عن النفس والشياطين والكفار لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وتفوزون إلى ما هو مقصودكم من الخلوص لعبودية اللّه تعالى وكمال التقوى وابتغاء الوسيلة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ ثبت أَنَّ لَهُمْ فى الاخرة ما فِي الْأَرْضِ من صنوف المحبوبين عنده جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ وبذلوه يدل عليه سياق الكلام لِيَفْتَدُوا بِهِ ووحد الضمير والمذكور شيئان فسير المظهري ، ج 3 ، ص : 93(1/1920)
اما لاجرائه مجرى اسم الاشارة فى نحو قوله تعالى عوان بين ذلك أو لان الواو فى ومثله بمعنى مع من قبيل كل رجل وضيعة معطوف على اسم ان وكلمة معه للتاكيد والتنبيه على ان الواو بمعنى مع فان قيل الواو بمعنى مع يفيد المعية فى الثبوت لا المعية فى الافتداء قلنا رجوع الضمير إلى ما معه الشيء يفيد تعلق الحكم الذي تعلق به بما معه التزاما مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ المترتب على كمال بعدهم من اللّه وكونهم ملعونين مطرودين عن رحمته ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ جواب لو ولو بما فى حيّزه خبر ان والمعنى ان الكافرين الذين اختاروا فى الدنيا محبوبين غير اللّه سبحانه من الأنفس والأولاد والأموال وغيرها وما بذلوها فى الدنيا رغبة فى الله تعالى لو بذلوها فى الاخرة ما تقبل منهم لذهاب وقته فان قيل هذا المعنى يحصل فى القول بان الذين كفروا لو افتدوا بما فى الأرض ومثله معه ما تقبل منهم مع كونه اخصر قلنا فى هذا الأسلوب فائدتان جليلتان أحدهما انهم لو حصلوا ما فى الأرض ومثله للبذل والافتداء وكانوا خائفين من اللّه وحفظوا الفدية له وتفكروا فى الافتداء ورعاية أسبابه كما هو شان من يصدر منه امر بهم ما تقبل منه فضلا عند كونه غافلين عن تحصيل الفدية ثانيهما ان لا يتوهم ان عدم قبول الفدية لانها ليست عندهم ما يفتدوا به واللّه اعلم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعنى انه كما لا يندفع به عذابهم لا يخفف عنهم عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يقول اللّه لاهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شىء أ كنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت ان لا تشرك بي متفق عليه.(1/1921)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ أى يقصدون الخروج كما فى قوله تعالى كلما أرادوا ان يخرجوا منها أعيدوا فيها أو يتمنون ويطلبون من اللّه كما فى قوله تعالى اخبارا عنهم ربنا أخرجنا منها وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أورد الجملة الاسمية بدل وما يخرجون للمبالغة والجملة حال من فاعل يريدون وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أى دائم فيه تصريح لما علم ضمنا من الجملة السابقة وفيها إفادة انه كما لا يندفع ولا يخفف عذابهم لا يندفع دوامه ولا يزول عنهم.
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما كان المختار عند النحاة فى مثل هذا الموضع اعنى فى اسم يقع بعده فعل مشتغل عنه بضميره وكان الفعل إنشاء النصب بإضمار الفعل على شريطة التفسير
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 94(1/1922)
لان الإنشاء لا يقع خبرا الا بإضمار وتاويل وقد اتفق القراء هاهنا على الرفع فاحتاج النحاة هاهنا إلى تكلف فقال سيبويه الآية جملتان السارق والسارقة مبتدأ خبره محذوف تقديره حكمهما فيما يتلى عليكم وقوله فاقطعوا جزاء شرط محذوف أى ان ثبت سرقتهما فاقطعوا وقال المبرد هى جملة واحدة وكون الفعل إنشاء وان كان يقتضى النصب لكن يعارضه ان الفاء يمنع عن المنع فيما قبله فقوله تعالى السارق والسارقة مبتدأ تضمن معنى الشرط ولذا دخل الفاء على خبره أى الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا قال المحقق التفتازانيّ الإنشاء فى مثل هذا الموضع يقع خبر مبتدأ بلا تكلف لكونه فى الحقيقة جزاء للشرط أى ان سرق أحد فاقطعوه ولم يدرج اللّه سبحانه الإناث هاهنا وكذا فى حد الزنا فى التعبير عن الذكور كما هو داب القرآن فى كثير من المواضع لان الحدود تندرئ بالشبهات فلابد فيه من التصريح وبدأ بذكر الرجل هاهنا واخر فى الزانية والزاني لان فى السرقة لا بد من الجرأة وهى فى الرجال اكثر وفى الزنا من الشهوة وهى فى النساء أوفر وقطعت اليد لانها فمعز الدولة السرقة ولم يقطع فمعز الدولة الزنا تعاديا عن قتل النسل واليد اسم للعضو إلى المنكب ولذلك ذهب الخوارج إلى ان المقطع هو المنكب لكن توارث العمل وانعقد الإجماع على ان القطع من الرسغ ومثله لا يطلب له سند بخصوصه وقد روى فيه خصوص متون امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطع السارق من المفصل رواه الدارقطني فى حديث رداء صفوان وضعف بالعذرى ورواه ابن عدى فى الكامل عن عبد اللّه بن عمر وفيه عبد الرحمن بن سلمة قال ابن القطان لا اعرف له حالا واخرج ابن ابىشيبة عن رجاء بن حيوة ان النّبى صلى اللّه عليه وسلم قطع رجلا من المفصل وانما فيه الإرسال واخرج عن عمر وعلى انهما قطعا من المفصل وقيل اليد اسم مشترك يطلق على ما إلى المنكب وما إلى الرسغ بل الإطلاق الثاني أشهر من الأول حتى(1/1923)
يتبادر عند الإطلاق وإذا كان مشتركا فالقطع من الرسغ عملا بالمتيقن ودرأ للزائد عند احتمال عدمه والمراد بايديهما إيمانهما اجماعا عملا بقراءة ابن مسعود فاقطعوا إيمانهما وهى مشهورة يجوز به تقييد المطلق إذا كانا فى الحكم واتحدت الحادثة وليس هذا من بيان المجمل إذ لا إجمال فيه وقد قطع النبي صلى اللّه عليه وسلم وكذلك الصحابة اليمين فلو كان الإطلاق مرادا دون التقييد باليمين لقطع اليسار البتة طلبا لليسر للناس ما أمكن فان اليمين انفع من اليسار واللّه اعلم ولما كان المراد إيمانهما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 95(1/1924)
جاز وضع الجمع موضع المثنى كما فى قوله تعالى صغت قلوبكما اكتفاء بتثنية المضاف إليه واحترازا عن تكرير التثنية وذلك انما يجوز عند عدم اللبس فلا يقال عند ارادة التثنية افراسكما وغلمانكما ولو كان الإطلاق مرادا لم يجز ذلك لاجل اللبس فان أيدي الشخصين اربعة جاز ارادة الجمع أيضا واللّه اعلم والسرقة أخذ مال الغير من حرز مختفيا قال فى القاموس سرق منه الشيء واسترقه جاء مستترا إلى حرز فاخذ مال غيره فالاخذ مال الغير على وجه الخفية من حرز داخل فى مفهومه فلهذا يشترط فى السرقة كون المال مملوكا لغيره لا يكون للسارق فيه ملك ولا شبهة ملك وكون المال فى حرز لا شبهة فيه وما كان حرز الشيء من الأموال فهو حرز لجميعها عند أبى حنيفة رح وعند الائمة الثلاثة الحرز يختلف باختلاف الأموال ومبناه على العرف فلو سرق لؤلؤا من إصطبل أو حظيرة غنم يقطع عند أبى حنيفة لا عندهم والحرز قد يكون بالمكان المعدلة وقد يكون بالحافظ كمن جلس فى الطريق أو المسجد وعنده متاعه فهو محرز به وقد قطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سرق رداء سفيان من تحت راسه وهو نائم فى المسجد رواه مالك فى المؤطا واحمد من غير وجه والحاكم وأبو داؤد والنسائي وابن ماجة قال صاحب التنقيح حديث صحيح وله طرق كثيرة وألفاظه مختلفة وان كان فى بعضها انقطاع(1/1925)
و فى بعضها ضعف وكون الاخذ مختفيا اما ابتداء وانتهاء ان كان السرقة بالنهارا وابتداء فقط ان كانت بالليل فانه إذا نقب الجدار ليلا على الاستسرار أو أخذ المال من المالك جهارا مكابرة فهو سرقة وهذه الشروط مراعى بالإجماع لكونها ماخوذة فى مفهوم السرقة وما قيدنا من عدم الشبهة فى الملك أو الحرز فمستفاد من الأحاديث المرفوعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فان وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله فان الامام لان يخطى فى العفو خير من ان يخطى فى العقوبة رواه الشافعي رح والترمذي والحاكم والبيهقي وصححه من حديث عائشة وروى ابن ماجة من حديث أبى هريرة مرفوعا بسند حسن ادفعوا الحدود عن عباد اللّه ما وجدتم له مدفعا وعن على مرفوعا ادرءوا الحدود ولا ينبغى للامام تعطيل الحدود رواه الدارقطني والبيهقي بسند حسن وروى ابن عدى فى جزء له من حديث أهل المصر بسند ضعيف والجربزة عن ابن عباس مرفوعا ادرءوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم الا فى حد من حدود اللّه وروى صدره أبو مسلم الكحى وابن السمعاني
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 96(1/1926)
فى الذيل عن عمر بن عبد العزيز مرسلا ومسدد عن ابن مسعود موقوفا وقد انعقد الإجماع على درء الحدود بالشبهات وإذا تمهد ما ذكرنا من الشروط فى السرقة فليتفرع عليها مسائل منها انه لا قطع على منتهب ولا مختلس لأنه يجاهر بفعله فليس بسرقة ولا على خائن وجاحد وديعة لقصور فى الحرز لأنه قد كان فى يد الخائن وحرزه لا حرز المالك باعتبار انه احرزه بايداعه عنده لكنه حرز ماذون للسارق فيه الدخول فيه وفى ما ذكرنا حديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس على المنتهب قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا رواه أبو داود وعنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجة والدارمي وله شاهد من حديث عبد الرحمان بن عوف رواه ابن ماجة بإسناد صحيح واخر من رواية الزهري عن انس أخرجه الطبراني فى الأوسط ورواه ابن الجوزي فى العلل من حديث ابن عباس وضعفه وقال احمد يجب القطع على جاحد العارية لحديث عائشة قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقطع يدها فاتى أهلها اسامة بن زيد فكلموه فكلم اسامة النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا اسامة لا أراك تكلمنى فى حد من حدود اللّه ثم قام النبي صلى اللّه عليه وسلم خطيبا فقال انما هلك من كان قبلكم بانه إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه والذي نفسى بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها فقطع يد المخزومية رواه مسلم وعن ابن عمر قال كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم بقطع يدها وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بان المرأة كانت متصفة مشهورة بجحد العارية فعرفتها عائشة بوصفها المشهور والمعنى امرأة كانت وصفها جحد العارية سرقت فامرت بقطعها ولو سلمنا حملها على الظاهر فهذا الحديث يعارضه ما ذكرنا من(1/1927)
حديث جابر لا قطع على الخائن وقد تلقته الامة بالقبول والعمل به فيحمل هذا الحديث على كونه منسوخا درا للحد ومنها انه لا قطع على النباش بشبهة فى الملك والحرز وبه قال أبو حنيفة ومحمد لان الكفن ليس ملكا للورثة لتاخر تعلق حقهم بالتركة من التجهيز بل من الديون والوصايا أيضا ولا ملكا للميت فانه فى احكام الدنيا ملحق بالجمادات ليس أهلا للملك والقبر حفرة من الصحراء مامور
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 97
للعموم المرور به ليلا ونهارا ولا غلق عليه ولا حارس فلا حرز وقالت الائمة الثلاثة وأبو يوسف بقطع النباش لقوله صلى اللّه عليه وسلم من نبش قطعناه وهو حديث منكر رواه البيهقي فى المعرفة من حديث البراء بن عازب وقال فى اسناده بعض من يجهل حاله وقال البخاري فى التاريخ قال هشيم حدثنا سهل شهدت ابن الزبير قطع نباشا وسهل ضعيف قال عطاء نتهمه بالكذب وروى احمد بن حنبل بسنده عن هشيم عن يونس عن الحسن وابن سيرين قالا النباش يقطع وروى أيضا عن معاوية بن فروة(1/1928)
قال يقطع النباش ولم يصح فى الباب حديث مرفوع ومنها انه لا يقطع السارق من بيت المال عند أبى حنيفة والشافعي واحمد والنخعي والشعبي وقال مالك يقطع قلنا انه مال عامة والسارق منهم واخرج ابن أبى شيبة عن عمر انه قال لا قطع عليه يعنى على سارق من بيت المال ما من أحد الا وله فيه حق وروى البيهقي عن على ليس على من سرق من بيت المال قطع واخرج ابن ماجة عن ابن عبّاس ان عبدا من رقيق الخمس سرق من المغنم فرفع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم يقطعه وقال مال اللّه سرق بعضه بعضا وعن ابن مسعود فيمن سرق من بيت المال قال أرسله فما من أحد إلا وله فى هذا المال حق ومنها انه لا يقطع السارق إذا كان للسارق فيه شركة بان سرق أحد الشريكين من حرز الاخر مالا مشتركا بينهما ومنها انه من له على اخر دراهم فسرق مثلها لم يقطع لأنه استوفى حقه وكذا لو سرق اكثر من حقه لان فى الزيادة يكون شريكا بحقه ومنها انه لا يقطع الآباء والأمهات وان علوا فيما سرقوا من مال أولادهم لقوله صلى اللّه عليه وسلم أنت ومالك لابيك وكذا ان سرق الفرع مال أصله عند الثلاثة للبسوطة فى المال وفى الدخول فى الحرز وقال مالك يقطع وكذا من سرق من ذى رحم محرم كالاخ والعم عند أبى حنيفة للبسوطة فى الدخول فى الحرز ولذا أباح الشرع النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة وعند الائمة الثلاثة يقطع الحاقا لها بالقرابة البعيدة ومما يدل على نقصان الحرز فى المحارم من ذوى الأرحام قوله تعالى ولا على أنفسكم ان تأكلوا من بيوتكم أو بيوت ابائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم فانه يفيد اطلاق الدخول وجواز الاكل أو يورث شبهة عند قيام دليل المنع كما فى قوله عليه السلام أنت ومالك لابيك فان قيل فعلى هذا ينبغى ان لا يجب القطع من بيت الصديق ايضا(1/1929)
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 98
قلنا لما سرق من ماله فقد عاداه فلم يبق صديقا وقت السرقة ومنها انه لو سرق من بيت ذى الرحم مال غيره لا يقطع ولو سرق من بيت غير ذى الرحم مال ذى رحمه يقطع عند أبى حنيفة رح اعتبارا للحرز وعدمه ومنها انه لا يقطع أحد الزوجين بسرقة مال الاخر سواء سرق من بيت خاص لاحدهما أو من البيت الذي هما فيه عند أبى حنيفة رح وهى رواية عن احمد رح وقول للشافعى وقال مالك رح والشافعي رح وهى رواية عن احمد اخرى ان سرق من بيت خاص قطع ومن بيت سكناها لا يقطع وفى قول للشافعى يقطع الزوج خاصة دون الزوجة لقوله صلى اللّه عليه وسلم لهند امرأة أبى سفيان خذ من ماله ما يكفيك وولدك ووجه قول أبى حنيفة الاذن فى الدخول عادة فاختل الحرز وفى موطأ مالك عن عمر انه اتى بغلام سرق مراة امرأة سيده فقال ليس عليه شىء خادمكم سرق متاعكم فإذا لم يقطع خادم الزوج فالزوج اولى ومنها انه لا يقطع العبد بسرقة مال سيده أو زوجة سيده أو زوج سيدتها للاذن فى الدخول ولا الضيف إذا سرق ممن اضافه لوجود الاذن فى الدخول ولا من سرق من بيت اذن فى الدخول منه كحوانيت التجار نهارا ومنها انه إذا سرق نصابا ثم ملكه بشراء أو هبة مع القبض أو ارث أو غيره قبل الترافع أو بعده وبعد القضاء لا يقطع عند أبى حنيفة ومحمد وعند الائمة الثلاثة وابى يوسف يقطع لان السرقة قد تمت انعقادا وظهورا فلا شبهة ولحديث صفوان بن امية قال بينا أنارا قد إذ جاء السارق فاخذ ثوبى من تحت راسى فادركته فاتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت ان هذا السرق ثوبى فامر به النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يقطع فقلت يا رسول اللّه ليس هذا أردت هو عليه صدقة قال هلا قبل ان تأتيني به رواه مالك واحمد وأبو داؤد وابن ماجة زاد النسائي فى روايته فقطعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروى أبو داؤد من حديث عبد اللّه بن عمرو(1/1930)
بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب وأجاب ابن همام بان حديث صفوان المذكور فى رواية كما ذكر وفى رواية الحاكم فى المستدرك انا أبيعه وانسئه ثمنه وسكت عليه وفى كثير من الروايات لم يذكر هذا بل قال ما كنت أريد هذا أو قال أ يقطع رجل من العرب فى ثلثين درهما فكان فى هذه الزيادة اضطرابا والاضطراب موجب للضعف واستيفاء الحدود من تمام القضاء وملك السارق قبل القضاء توجب شبهة البتة.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 99
(فصل) ويشترط للقطع ان يكون المال المسروق نصابا بإجماع أهل السنة وعند الخوارج لا يشترط ذلك وبه قال ابن بنت الشافعي وداؤد وهو المروي عن الحسن البصري لاطلاق الآية ولقوله صلى اللّه عليه وسلم لعن اللّه السارق يسرق الحبل فيقطع يده ويسرق البيضة ويقطع يده متفق عليه من حديث أبى هريرة قلنا الآية ليست على إطلاقه اجماعا وقول الخوارج لا عبرة بها وكذا قول داؤد والحسن لا يصلحان خارقا للاجماع (مسئلة : ) لو سرق جماعة نصابا واحدا أو اكثر وأصاب كل واحد منهم اقل قال احمد يقطع أيديهم أجمعين وهو محمل حديث أبى هريرة عنده وقال مالك ان كانوا أخذوا نصابا واحدا وأخرجوه معا وكان المأخوذ مما يحتاج إليه المعاونة فيه قطعوا جميعا والا لا يقطع ما لم يصب كلواحد نصابا وعند أبى حنيفة والشافعي لا قطع على واحد من الجماعة بحال ما لم يصب كلواحد منهم نصابا.
((1/1931)
مسئلة : ) نصاب السرقة عشرة دراهم أو دينارا وما يبلغ قيمة أحدهما عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند مالك واحمد فى اظهر الروايات عنه ربع دينار أو ثلثة دراهم أو ما يبلغ قيمة أحدهما وعند الشافعي ربع دينار من الدراهم وغيرها لحديث عائشة مرفوعا يقطع اليد فى ربع دينار فصاعدا ويروى لا يقطع اليد الا فى ربع دينار متفق عليه باللفظين معا وفى لفظ لن يقطع يد السارق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ادنى من ثمن المجن وفى لفظ لمسلم لا يقطع اليد الا فى ربع دينار فما فوقه وفى مسند احمد فى حديثها اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك وفى حديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قطع سارقا فى مجن قيمته ثلثة دراهم متفق عليه وروى مالك فى المؤطا عن عمرة بنت عبد الرحمن ان سارقا سرق فى زمن عثمان اترجة فامر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من ضرب اثنا عشر بدينار فقطع عثمان يده وجه قول أبى حنيفة ان الاخذ بالأكثر فى هذا الباب اولى احتيالا للدرء وقد روى فى ثمن المجن اكثر مما ذكر روى الحاكم فى المستدرك عن مجاهد عن ايمن قال لم يقطع اليد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا فى ثمن المجن وثمنه يومئذ دينار وروى احمد والشافعي عن ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان قيمة المجن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة دراهم واخرج الدار قطنى واحمد من طريق سالم بن قتيبة حدثنا زفر بن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 100(1/1932)
هذيل حدثنا الحجاج بن ارطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم وروى ابن أبى شيبة فى مصنفه فى كتاب اللقطة عن سعيد ابن المسيب عن رجل من مزينة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما بلغ ثمن المجن قطعت يد صاحبه وكان ثمن المجن عشرة دراهم وروى عبد الرزاق والطبراني عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود موقوفا لا قطع الا فى دينار أو عشرة دراهم وهو موقوف منقطع فان القاسم لم يسمع من ابن مسعود والحق ان الأحاديث التي احتج بها الجمهور صحاح غاية الصحة وهذه الأحاديث ضعاف ولا ترجيح ولا أخذ بالأحوط الا عند المعارضة فان ابن إسحاق وسالم وزفر والحجاج من رواة حديث عمرو بن شعيب كلهم ضعاف وأيضا قول الراوي قيمة المجن كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة دراهم ظن وتخمين من الراوي ولا شك ان ثمن المجن قد يكون ثلثة دراهم وقد يكون عشرة وقد يكون اكثر من ذلك على اختلاف كيفية المجن فعلى هذا حديث لن يقطع يد السارق على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ادنى من ثمن المجن كان مجملا وو الحديث بلفظ يقطع فى ربع دينار وبلفظ لا يقطع الا فى ربع دينار وبلفظ اقطعوا فى ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو ادنى من ذلك محكم لا يعارضه الا لفظ لا يقطع السارق الا فى عشرة دراهم ان صح لكن بهذا اللفظ لا يصح مرفوعا والموقوف فى الخلافيات لا يكون حجة اجماعا نقل عن الشافعي انه قال لمحمد بن الحسن هذه سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يقطع فى ربع دينار فصاعدا فكيف قلت لا يقطع الا فى عشرة دراهم فصاعدا فاحتج محمد بحديث مجاهد عن ايمن بن أم ايمن أخي اسامة بن زيد لامه فاجاب الشافعي ان ايمن ابن أم ايمن قتل مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم حنين قبل ان يولد مجاهد وقد ذكر أبو حاتم ان ايمن راوى هذا الحديث غير ايمن الذي قتل يوم حنين و(1/1933)
هذا تابعي لم يدرك زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا زمن أحد من الخلفاء الاربعة قلت ومن لم يدرك زمن الخلفاء كيف تلده أم ايمن مولاة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهى كانت حاضنة للنبى صلى اللّه عليه وسلم اكبر سنا منه وقيل ايمن كان اسما لرجلين من التابعين أحدهما مولى ابن الزبير وثانيهما مولى ابن أبى عمر وابن أبى حاتم وابن حبان جعلاهما
واحدا والحاصل ان هذا الحديث لا يصلح كونه معارضا لحديث عائشة وابن عمر.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 101
((1/1934)
مسئله) ولا قطع عند أبى حنيفة رحمه اللّه فيما يوجد تافها مباحا فى تلك الديار كالخشب والحشيش والقصب والسمك والطير والصيد والجص والنورة ولا فيما يتسارع إليه الفساد من الاطعمة كاللبن واللحم والفواكه والثمار الرطبة والرطاب وعند الائمة الثلاثة يقطع فى كل ذلك انكانت محرزة لعموم الآية وجه قول أبى حنيفة ان الآية ليست على عمومها اجماعا حيث خص منها ما دون النصاب فيختص هذه الأشياء أيضا بحديث عائشة لم يكن السارق يقطع على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الشيء التافه رواه ابن أبى شيبة فى مصنفه من حديث عبد الرحمن بن سليمان عن هشام بن عروة عنها ورواه مرسلا أيضا عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه ورواه عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا ابن جريح عن هشام به وكذا اسحق بن راهويه قال أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام ورواه ابن عدى فى الكامل مسندا عن عبد اللّه بن قبيصة الفزاري عن هشام بن عروة عن عائشة ولم يقل فى عبد اللّه هذا شيئا الا انه قال لم يتابع عليه ولم ار للمتقدمين فيه كلاما قال ابن همام لا يخفى ان هذه المرسلات كلها حجة وقد وصله ابن أبى شيبة وما روى عبد الرزاق بسند فيه جابر الجعفي عن عبد اللّه بن يسار قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة فاراد ان يقطعه فقال له سلمة بن عبد الرحمن قال عثمان لا قطع فى الطير وروى ابن أبى شيبة عن عبد الرحمن بن مهدى عن زهير بن محمد عن يزيد بن حفصة قال اتى عمر بن عبد العزيز برجل قد سرق طيرا فاستفتى فى ذلك السائب بن يزيد فقال ما رايت أحدا قطع فى الطير وما عليه فى ذلك قطع فتركه عمر واخرج أبو داود فى المراسيل عن جرير بن حازم عن الحسن البصري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انى لا اقطع فى الطعام وذكره عبد الحق ولم يعله بغير الإرسال والمرسل عندنا حجة وحديث رافع ابن خديج قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا قطع فى ثمر ولا كنز رواه الترمذي(1/1935)
عن ليث بن سعد والنسائي وابن ماجة عن سفيان بن عيينة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع ورواه ابن حبان فى صحيحه وعند تعارض الانقطاع والوصل الوصل اولى لأنه زيادة ومن الثقة مقبولة قال الطحاوي هذا الحديث تلقته الامة بالقبول قالوا المراد بالثمر فى هذا الحديث الثمر المعلق بالشجر لعدم الحرز بدليل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو انه عليه الصلاة والسلام سئل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 102
عن الثمر المعلق فقال من أصاب بفيه من ذى حاجة غير متخذ خبنة « 1 » فلا شىء عليه ومن خرج بشئ منه فعليه غرامة مثليه ومن سرق منه شيئا بعد ان يوويه الجرين « 2 » فبلغ تمن المجن فعليه القطع رواه أبو داود عن ابن عجلان والوليد بن كثير وعبيد اللّه بن الأخنس ومحمد بن اسحق اربعتهم عن عمرو بن شعيب ورواه النسائي من طريق وهب عن عمرو بن الحارث وهشام بن سعد عن عمرو بن شعيب وفى روايته ان رجلا من مزينة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الحريسة « 3 » التي تؤخذ فى مراتعها فقال فيها ثمنها مرتين وضرب ونكال وما أخذ من عطته ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن قالوا يا رسول اللّه فالثمار وما أخذ منها فى أكمامها فقال من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة فليس عليه شىء ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب ونكال وما أخذ من اجرانه ففيه القطع رواه احمد والنسائي وفى لفظ ما ترى فى الثمر المعلق فقال ليس فى شىء من الثمر المعلق قطع الا ما اواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ثمن المجن غرامة مثليه وجلدات نكال ورواه الحاكم بهذا المتن وقال قال اما منا اسحق بن راهويه إذا كان الراوي عن عمرو بن شعيب ثقة فهو كايوب عن نافع عن ابن عمر ورواه ابن أبى شيبة ووقفه على عبد اللّه بن(1/1936)
عمرو وقال ليس فى شىء من الثمار قطع حتى يأوي الجرين وأخرجه عن ابن عمر مثله سواء وهذا الحديث حجة للائمة الثلاثة حيث أوجبوا القطع فى الثمار بعد الاحراز وأيضا يؤيد مذهبهم ما رواه مالك فى المؤطأ ان سارقا سرق اترجة فى عهد عثمان فامر بها عثمان فقومت ثلثة دراهم من ضرب اثنى عشر درهما بدينار فقطع يده قال مالك وهى الا ترجة التي يأكلها الناس وقال ابن كنانة كانت اترجة من ذهب قدر الحمصة يجعل فيها الطيب ورد عليه بانه لو كانت من ذهب لم يقوم وأجاب عنه الحنفية بوجوه أحدها ان هذا الحديث متروك الظاهر بنص الكتاب حيث وجب الحديث فى الثمر غرامة مثليه وفى الحريسة ثمنها مرتين وقد قال اللّه تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وهذا انقطاع معنوى فى الحديث يوجب ترك العمل به ثانيها ان الحديث معارض بإطلاق ما روينا لا قطع فى ثمر ولا كنز وهو يشمل ما يوويه الجرين وغيره فالسبيل فى دفع التعارض اما التوزيع فيحمل عدم القطع على الرطب والقطع على اليابس واما ترجيح مالا يوجب القطع درأ للحد واللّه اعلم والمراد بالطعام فى الحديث الذي يوجب عدم القطع ما يتسارع إليه الفساد للاجماع
_________
(1) يعطف الإزار وطرف الثوب أى لا يأخذ منه فى ثوبه 12 نهاية
(2) موضع بخفيف التثمر
(3) الحريسة يقال للشاة التي يدركها الليل قبل ان يصل إلى مراحها وفلان يأكل الحرساة إذا سرق أغنام الناس وأكلها 12 نهاية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 103
على انه يقطع فى الحنطة وغيرها من الحبوب والسكر الا فى عام سنة فانه لا يقطع فيها لأنه عن ضرورة ظاهرا وهى تبيح التناول وعنه صلى اللّه عليه وسلم انه لا قطع فى مجاعة مضطر وعن عمر رضى اللّه تعالى عنه لا قطع فى عام سنة.
((1/1937)
مسئلة : ) وإذا سرق ثانيا بعد القطع فى الاولى أو سرق اولا وهو مقطوع اليد اليمنى يقطع رجله اليسرى اجماعا لا بهذه الآية لان المأمور بالآية قطع اليد والمراد به قطع اليد اليمنى خاصة بدليل قراءة ابن مسعود والإجماع فلا يجب القطع لفوات المحل بل بالسنة والإجماع وان كان السارق مقطوع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو سرق ثالثا بعد القطع لا يقطع عند أبى حنيفة واحمد رحمهما اللّه بل يسجن ويعزر وقال مالك والشافعي يقطع رجله اليسرى ثانيا ثم ان سرق ثالثا يقطع يده اليسرى ثم ان سرق رابعا يقطع رجله اليمنى وهو رواية عن احمد ثم ان سرق خامسا يعزر ويحبس عندهما أيضا كقولنا فى الثالثة وحكى عن عطاء وعمرو بن العاص وعثمان وعمرو بن عبد العزيز يقتل فى الخامسة احتج مالك والشافعي بحديث جابر بن عبد اللّه قال اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع رجله ثم اتى به قد سرق فقطع يده ثم اتى به قد سرق فقطع ثم اتى به قد سرق فامر به فقتل رواه الدارقطني وفى اسناده محمد بن يزيد بن سنان وهو ضعيف ورواه أبو داود والنسائي بغير هذا السياق بلفظ جئ بسارق إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق قال اقطعوه فقطع به ثم جئ به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق قال اقطعوه ثم جئ به الثالثة فقال اقتلوه فقالوا انما سرق قال اقطعوه فقطع ثم جئ به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول اللّه انما سرق فقال اقطعوه فقطع ثم جئ به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به إلى مربد النعم فاستلقى على ظهره فقتلناه ثم اجتررناه فالقيناه فى بير ورمينا عليه الحجارة وفى اسناده مصعب بن ثابت قال النسائي ليس بالقوى والحديث منكر لا اعلم فيه حديثا صحيحا وفى الباب عن الحارث بن حاطب الحجبي عند النسائي والحاكم وعن عبد اللّه بن زيد عند أبى نعيم فى الحلية و(1/1938)
قال ابن عبد البر حديث القتل منكر لا اصل له وقد قال الشافعي هذا الحديث منسوخ لا خلاف فيه عند أهل العلم قال ابن عبد البر هذا يدل على ان ما حكاه أبو مصعب عن عثمان وعمرو بن عبد العزيز انه يقتل لا اصل له لانهم لا يخالفون الإجماع وبحديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 104(1/1939)
عليه وسلم إذا سرق السارق فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله فان عاد فاقطعوا يده فان عاد فاقطعوا رجله رواه الدارقطني وفى اسناده الواقدي قال احمد كذاب ورواه الشافعي عن بعض أصحابه عن ابن أبى ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبى مسلمة عن أبى هريرة مرفوعا نحوه وفى الباب عن عصمة بن مالك رواه الطبراني والبيهقي واسناده ضعيف وروى الدارقطني عن ابن عباس قال شهدت عمر بن الخطاب فقطع بعد يد ورجل يدا وروى مالك فى المؤطا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه ان رجلا من اليمن اقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبى بكر فشكا إليه ان عامل اليمن ظلمه فكان يصلى بالليل ويقول أبو بكر وأبيك وما ليلك بليل سارق ثم انهم فقدوا عقد الأسماء بنت عميس فجعل الرجل يطوف معهم ويقول اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح فوجد الحلي عند صائغ زعم ان الأقطع جاء به فاعترف الأقطع وشهد عليه فامر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى قال أبو بكر لدعائه على نفسه أشد عليه من سرقته وفى سنده انقطاع ورواه عبد الرزاق نحوه وقال محمد بن الحسن فى مؤطاه قال الزهري ويروى عن عائشة رض قالت انما كان الذي سرق حلى اسماء اقطع اليد اليمنى فقطع أبو بكر رجله اليسرى قال وكان ابن شهاب اعلم بهذا الحديث من غيره ولنا ما رواه محمد فى كتاب الآثار انا أبو حنيفة عن عمرو بن مرة عن عبد اللّه بن سلمة عن على رض قال إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى فان عاد قطعت رجله اليسرى فان عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا انى لاستحيى من اللّه ان ادعه ليس له يد يأكل بها ويستنجى بها ورجل يمشى عليها وروى عبد الرزاق فى مصنفه أخبرنا معمر عن جابر عن الشعبي قال(1/1940)
كان على لا يقطع الا اليد والرجل وان سرق بعد ذلك سجنه ويقول انى لاستحيى من اللّه الحديث واخرج ابن أبى شيبة فى مصنفه حدثنا حاتم بن اسمعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على مثل ما قال الشعبي عنه واخرج البيهقي عن عبد اللّه بن سلمة عن على انه اتى بسارق فقطع يده ثم اتى به فقطع رجله ثم اتى به فقال اقطع يده باى شىء يتمسح وباى شىء يأكل اقطع رجله على أى شىء يمشى انى لاستحيى من اللّه ثم ضربه وخلده فى السجن وفى تنقيح عبد الهادي قال سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر عن سعيد بن أبى سعيد المقبري عن أبيه قال حضرت على بن أبى طالب اتى برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 105(1/1941)
قال لاصحابه ما ترون فى هذا قالوا اقطعه يا امير المؤمنين قال قتلته إذا وما عليه القتل باى شىء يأكل الطعام باى شىء يتوضأ للصلوة باى شىء يغتسل من جنابته باى شىء يقوم على حاجته فرده إلى السجن أياما ثم استخرجه فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الاوّل وقال لهم مثل ما قال اوّل مرّة فجلده جلدا شديدا ثم أرسله وقال سعيد أيضا حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عامر قال اتى عمر بن الخطاب باقطع اليد والرجل قد سرق فامر به ان يقطع رجله فقال على قال اللّه تعالى انما جزاؤا الذين يحاربون اللّه ورسوله الآية فقد قطعت يد هذا ورجله فلا ينبغى ان يقطع رجلا فتدعه ليس له قائمة يمشى عليها اما ان تعزره واما ان تودعه السجن فاستودعه السجن وروى هذا البيهقي واخرج ابن أبى شيبة عن سماك ان عمر استشارهم فى سارق فاجمعوا على مثل قول علىّ واخرج عن مكحول ان عمر قال إذا سرق فاقطعوا يده ثم ان عاد فاقطعوا رجله ولا تقطعوا يده الاخرى وذروه يأكل بها ويستنجى بها ولكن احبسوه عن المسلمين وروى ابن أبى شيبة عن ابن عباس مثل قول على فظهران ما قال علىّ انعقد عليه الإجماع ورجع إليه عمر وما احتج به الشافعي اما لا اصل له واما منسوخ ولو كان عند الصحابة علم بفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم لاحتجوا به على علىّ ولم يجز لعلى القول بانى لاستحيى اللّه إلى آخره قال اللّه تعالى لا تأخذكم بهما رأفة فى دين اللّه واللّه اعلم وبما استدل به على يستفاد ان من كان يده اليسرى أو إبهامه أو رجله اليمنى اقطع أو شلاء وسرق اوّل مرة لا يقطع يمناه لأنه إهلاك معنى وما عليه القتل واللّه اعلم - (مسئلة : ) ويجب ان يحسم بعد القطع كيلا يودى إلى التلف وعن الشافعي واحمد انه مستحب وروى الحاكم من حديث أبى هريرة انه صلى اللّه عليه وسلم اتى بسارق سرق شملة فقال عليه السّلام ما إخاله سرق فقال السارق بلى يا رسول اللّه فقال(1/1942)
اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ايتوني فقطع ثم حسم ثم اتى به فقال تب إلى اللّه فقال تبت إلى اللّه فقال تاب اللّه عليك وقال صحيح على شرط مسلم ورواه أبو داؤد فى المراسيل ورواه القاسم ابن سلام فى غريب الحديث واخرج الدارقطني عن على موقوفا انه قطع أيديهم من المفصل ثم حسمهم -
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 106
(مسئلة : ) يجب القطع بإقراره مرة عند أبى حنيفة ومحمد ومالك والشافعي واكثر العلماء وقال احمد وأبو يوسف وابن أبى ليلى وزفر وابن شبرمة لا يقطع الا بإقراره مرتين ويروى عن أبى يوسف اشتراط كون الإقرار مرتين فى مجلسين ليستدلوا بحديث أبى امية المخزومي انه صلى اللّه عليه وسلم اتى بلصّ قد اعترف فقال عليه السلام ما إخالك سرقت قال بلى يا رسول اللّه فاعادها عليه السلام مرتين أو ثلثا فامر به فقطع فلم يقطع الا بعد تكرار إقراره وأسند الطحاوي إلى على ان رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال قد شهدت على نفسك شهادتين فامر به فقطع فعلقها فى عنقه وبالقياس على الشهادة فى الزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود والجواب ان حديث أبى امية المخزومي قال الخطابي فى اسناده مقال وقال الحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم به واما القياس فلا يصح لأنه مع الفارق فان اعتبار العدد فى الشهادة للتهمة ولا تهمة فى الإقرار(1/1943)
و اشتراط العدد فى الإقرار بالزنا معدول عن سنن القياس بالنص وأيضا يعارضه القياس على حد القذف والقصاص والحجة لابى حنيفة ما ذكرنا من حديث أبى هريرة فى مسئلة الحسم حيث قطعه بإقراره مرة - جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ منصوبان على المفعول له أو المصدرية ودل على فعلهما فاقطعوا وقال البغوي منصوبان على الحال يعنى من فاعل فاقطعوا بتأويل اسم الفاعل وفى المدارك جزاء منصوب على المفعول له ونكالا بدل منه وفى القاموس نكّل تنكيلا صنع به صنعا يحذر غيره ونحاه عن ما قبله والنكال ما نكلت به غيرك كائنا ما كان قال المحقق التفتازانيّ ترك العطف اشعارا بان القطع للجزاء والقطع على قصد الجزاء للنكال والمنع عن المعاودة ولمنع الغير عن مثله قلت فعلى هذا الاولى ان يقال جزاء مفعول له لقوله فاقطعوا ونكالا مفعول له لقوله جزاء وقال بعض المحققين لم يعطف لان العلة مجموعهما والجزاء اشارة إلى ان فيه حق العبد والنكال اشارة إلى ان فيه حق اللّه تعالى.
(مسئلة : ) القطع يسقط عصمة المال المسروق عند أبى حنيفة رحمه اللّه ولا يجتمع القطع مع الضمان عنده وعند الائمة الثلاثة لا يسقط العصمة بالقطع ويجتمع القطع مع الضمان فان كان المال المسروق موجود أ يسترد المالك من السارق اجماعا قبل لقطع وبعده وان هلك المال أو استهلكه السارق لا ضمان على السارق عند أبى حنيفة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 107(1/1944)
خلافا لهم وان سرق السارق الأول المال المسروق المردود إلى المالك منه ثانيا بعد القطع فى السرقة الاولى وهو كذلك لا يقطع ثانيا عند أبى حنيفة لزوال العصمة وعندهم يقطع احتج أبو حنيفة بوجوه أحدها الاستدلال بهذه الآية قالوا الجزاء إذا اطلق فى موضع العقوبة يراد به ما يجب حقا خالصا للّه لا يكون فيه حق العبد وكذا النكال فكان القطع خالص حق اللّه تعالى فوجب ان يكون الجناية على حقه خالصا بان يكون محلها حراما لعينه كالخمر لا حراما لغيره والا كان مباحا فى ذاته بالاباحة الاصلية وهو لا يوجب الجزاء للّه وأيضا لو كان مباحا لذاته ينتفى القطع للشبهة وأيضا الجزاء اما مشتق من جزى بمعنى قضى أو من جزأ بمعنى كفى وكلواحد منهما يدل على الكمال والكمال بالحرمة لعينه وإذا كان محرما لعينه لم يبق معصوما كالخمر والميتة فلا ضمان عند الهلاك والاستهلاك ثانيها انه لو وجب الضمان بعد القطع يتملك السارق المسروق بأداء الضمان مستندا إلى وقت الاخذ فتبين انه ورد السرقة على ملكه فينتفى القطع وما يؤدى إلى انتفائه فهو المنتفى وثالثها بحديث عبد الرحمن ابن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا غرم على السارق بعد قطع يمينه رواه الدارقطني ورواه النسائي بلفظ لا يغرم صاحب سرقة إذا أقيم عليه الحد والبزار بلفظ لا يضمن السارق سرقته بعد اقامة الحد ومدار هذا الحديث على سعيد بن ابراهيم يرويه عن أخيه مسور بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن جده عبد الرحمن بن عوف قال الدارقطني سعيد بن ابراهيم مجهول ومسور لم يذكر عبد الرحمن بن عوف وقالو يروى هذا من وجوه كلها لا يثبت وقال ابن همام سعيد بن ابراهيم انه الزهري قاضى المدينة أحد الثقات الإثبات وأجاب الشافعية عن الاستدلال بالآية بان قولكم الجزاء إذا اطلق فى معرض العقوبة يراد به ما يجب خالصا حقا للّه تعالى ممنوع كيف وقد قال اللّه تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن(1/1945)
عفى وأصلح فاجره على اللّه فانه صريح فى كون الجزاء حقا للعبد حتى يتصور العفو منه والظاهر ان الجزاء اشارة إلى حق العبد والنكال اشارة إلى حق اللّه تعالى كما ذكرنا والجزاء وان دل على الكمال لكن الكمال فى الجناية ان يجنى على كلا الحقين حق اللّه تعالى وحق العبد سلمنا ان القطع خالص حق اللّه تعالى لكن لا يلزم منه ان يكون المحل حراما لعينه حتى لا يترتب عليه الضمان بل القطع حق الشرع وسببه ترك الانتهاء عما نهى عنه والضمان حق العبد وسببه أخذ المال الذي تعلق به
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 108
حق العبد كاستهلاك صيد مملوك فى الإحرام سلمنا حرمة المحل لكن لاجل النهى لا لمعنى فيه كيف ولو حرم لعينه لم يحل للمسروق منه حال بقائه بعد القطع ولم يحل للزوج وطى المزنية بعد رجم الزاني لقوله تعالى فيه نكالا وأيضا لو كانت الحرمة لعينه كالخمر والميتة يجب ان لا يجب القطع إذ لا قطع فى الخمر والميتة فينتفى القطع وما يودى إلى انتفائه فهو المنتفى ولو يفرق بعصمة المسروق قبل السرقة بخلاف الخمر لقول سقوط العصمة ان لم يمنع القطع فلا اقل من ايراث الشبهة سلمنا الحرمة لعينه كالخمر لم لا يجوز ان يحرم بحرمتين أو ثلث كشرب الخمر المملوكة للذمى فى صوم رمضان والزنا بامة غيره فى رمضان وأجابوا عن الاستدلال الثاني بانا لا نسلم ان السارق يملك المسروق مستندا من وقت الاخذ بل انما يجب عليه ضمان الاتلاف بالهلاك والاستهلاك وعن الثالث بان الحديث ضعيف ولو صح الحديث فلا يصادم عموم قوله تعالى فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم وقوله عليه السلام على اليد ما أخذت حتى يوديه رواه احمد واصحاب السنن الاربعة بسند صحيح والحاكم عن سمرة بن جندب وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعارض فى حكمه حَكِيمٌ فيما حكم أخرج احمد وابن جرير وابن أبى حاتم عن عبد اللّه بن عمر وان(1/1946)
امرأة سرقت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت هل لى من توبة يا رسول اللّه قال نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فانزل اللّه تعالى.
فَمَنْ تابَ من السرقة وغيرها مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أى معصية من السرقة وغيرها والمراد بالتوبة الندم على ما وقع منه من المعصية ورد المظلمة والاستغفار من اللّه تعالى والعزم على تركها وَأَصْلَحَ امره بعد ذلك فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أى يرجع عليه بالرحمة وقبول التوبة فلا يعذبه فى الاخرة وهل يسقط عنه القطع فى الدنيا أم لا فقال احمد يسقط القطع عن السارق وكل حد بالتوبة لهذه الآية ولقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فاذوهما فان تابا وأصلحا فاعرضوا عنهما ولقوله عليه السّلام التائب من الذنب كمن لا ذنب له وفى قول للشافعى يسقط الحد إذا مضى على التوبة سنة وعند أبى حنيفة ومالك وهو رواية عن احمد وقول للشافعى لا يسقط شىء من الحدود بالتوبة الأحد قاطع الطريق بالاستثناء المذكور فى الآية قالوا هذه الآية لا تدل على سقوط الحد وقوله تعالى واللذان يأتيانها كان فى اوّل الأمر ثم نسخ ونحن نقطع بان رجم ما عز والغامدية كان بعد توبتهما.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 109
(مسئلة : ) ومن سرق سرقة ورد المسروق إلى المالك قبل الارتفاع إلى الحاكم لم يقطع وعن أبى يوسف يقطع اعتبارا بما إذا ردها بعد المرافعة وجه الظاهر ان الخصومة شرط الظهور السرقة فكانت شرطا فى القطع والخصومة لا تتصور بعد الرد بخلاف ما لوردها بعد المرافعة وسماع البينة والقضاء فانه يقطع وكذا بعد سماعها قبل القضاء استحسانا لظهور السرقة عند القاضي بالشهادة بعد الخصومة.
((1/1947)
مسئلة : ) قطع السارق هل يكون له توبة اولا فقال مجاهد نعم لحديث عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه بايعونى على ان لا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فاجره على اللّه ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب على ذلك فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره اللّه فهو إلى اللّه ان شاء عفى عنه وان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه وقال البغوي الصحيح ان القطع للجزاء على الجناية كما قال اللّه تعالى جزاء بما كسبا ولا بد من التوبة بعده ويدل عليه حديث أبى هريرة الذي ذكرناه فى مسئلة الحسم بعد القطع حيث قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد القطع بالإقرار تب إلى اللّه فقال تبت إلى اللّه تعالى فقال تاب اللّه عليك إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أيها النبي والمراد به الامة أو المراد الم تعلم أيها الإنسان خطابا لكل واحد.(1/1948)
أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه من العصاة سواء ارتكب صغيرة أو كبيرة فانه عدل مقتضى المعصية وَيَغْفِرُ بفضله صغيرة كانت أو كبيرة بالتوبة وبلا توبة لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من التعذيب والمغفرة قَدِيرٌ لا يجب عليه شىء قدم التعذيب لان استحقاق التعذيب مقدم على المغفرة ولان المقصود وصفه تعالى بالقدرة والقدرة فى تعذيب من يشاء اظهر من القدرة فى مغفرته لأنه لا اباء فى المغفرة وفى التعذيب اباء واللّه اعلم روى احمد ومسلم وغيرهما عن البراء ابن عازب قال مر على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهودى محمم مجلود فدعاهم فقال هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم فقال أنشدك باللّه الذي انزل التورية على موسى هكذا تجدون حد الزاني فى كتابكم قال لا واللّه ولو لا انك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 110(1/1949)
نشدتنى لم أخبرك نحد حد الزاني فى كتابنا الرجم ولكنه كثر فى اشرافنا فكنا إذا أخذ الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اللهم انى أول من احيى أمرك إذا أماتوه فامر به فرجم فانزل اللّه تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك إلى قوله ان أوتيتم هذا فخذوه يقولون ايتوا محمدا فان افتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وان افتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله ومن لم يحكم بما انزل اللّه فأولئك هم الظالمون وذكر البغوي هذه القصة بان امرأة ورجلا من اشراف خيبر زنيا وكانا محصنين وكان حدهما فى التورية الرجم فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فارسلوا إلى إخوانهم بنى قريظة وقالوا سلوا محمدا عن الزانيين إذا احصنا ما حدهما فان أمركم بالجلد فاقبلوا منه وان أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا منه وأرسلوا معهم الزانيين فقالت قريظة والنضير إذا واللّه يأمركم بما تكرهون ثم انطلق منهم كعب بن اشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الضيف ولبابة بن أبى الحقيق وغيرهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا احصنا ما حدهما فى كتابك فقال هل ترضونى بقضائي قالوا نعم فنزل جبرئيل بالرجم فاخبرهم بذلك فابوا ان يأخذوا به فقال جبرئيل جعل بينك وبينهم ابن صوريا ووصفه له فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم قال فاى رجل هو فيكم قالوا هو اعلم يهودى بقي على وجه الأرض بما انزل اللّه سبحانه على موسى فى التورية قال فارسلوا إليه فاتاهم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال وأنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال أ تجعلونه بينى وبينكم قالوا نعم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أنشدك باللّه الذي لا اله(1/1950)
الا هو الذي انزل التورية على موسى وأخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق ال فرعون والذي ظلل عليكم الغمام وانزل عليكم المن والسلوى وانزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه هل تجدون فى كتابكم الرجم على من أحصن قال ابن صوريا نعم والذي ذكرتنى لو لا خشيه ان يحرقنى التورية ان كذبت وغيرت ما اعترفت لك ولكن كيف هى فى كتابك يا محمد قال إذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل فى المكحلة وجب عليه الرجم قال ابن صوريا والذي انزل التورية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 111
على موسى هكذا انزل اللّه فى التورية على موسى فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم فماذا كان أول ما ترخصتم به امر اللّه قال كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزناء فى اشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنى رجل اخر فى اسرة من الناس فاراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا واللّه لا ترجمه حتى ترجم فلانا لابن عم الملك فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف فوضعنا الجلد والتحميم فامر بها النبي صلى اللّه عليه وسلم فرجم بهما عند باب مسجده وقال اللهم انى أول من احيى أمرك إذا ماتوه فانزل اللّه عز وجل.(1/1951)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ صنيع الَّذِينَ يُسارِعُونَ يقعون سريعا فِي الْكُفْرِ أى فى انكار ما يجب فى الشرع إقراره والاعتقاد به إذا وجدوا منه فرصة روى البغوي بسنده عن ابن عمر قال ان اليهود جاؤا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكروا له ان رجلا منهم وامراة زنيا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما تجدون فى التورية فى شان الرجم قال نفضحهم ويجلدون قال عبد اللّه بن سلام كذبتم ان فيها لاية الرجم فاتوا بالتورية فنشروها فوضع أحدهم يده على اية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد اللّه ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها اية الرجم قالوا صدق محمد فيها اية الرجم فامر بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرجما فقال عبد اللّه فرايت الرجل يحنى على المرأة يقيها الحجارة واخرج احمد فى مسنده عن جابر بن عبد اللّه قال زنى رجل من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة ان سألوا محمدا عن ذلك فان أمركم بالجلد فخذوه عنه وان أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فذكر نحو حديث مسلم فامر به فرجم فنزلت فان جاءوك فاحكم بينهم الآية واخرج البيهقي فى الدلائل من حديث أبى هريرة نحوه وقال البغوي وقيل سبب نزول الآية القصاص وذلك ان بنى نضير كان لهم فضل على بنى قريظة فقال بنو قريظة إخواننا بنى النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد وإذا قتلوا منا قتيلا لم يقيدونا واعطون ديته سبعون وسقا من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها رجلا منا وبالرجل رجلين وبالعبد حرامنا وجراحاتنا على التضعيف من جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم فانزل اللّه عز وجل هذه الآية كذا روى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 112(1/1952)
احمد وأبو داؤد عن ابن عباس قال أنزلها اللّه فى طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى فى الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على ان كل قتيل قتلته العزيزة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فارسلت العزيزة ان ابعثوا الدية مائة وسق فقال الذليلة وهل كان ذلك فى حيين قط دينهما واحد ونسبتهما واحدة وبلدهما واحد دية بعضهم نصف دية بعض انا أعطيناكم هذا ضيما « 1 » منكم لنا وفرقا « 2 » فاما إذا قدم محمد فلا تعطيكم فكادت الحرب تهيج وبينهما ثم ارتضوا على ان جعلوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينهما فارسلوا إليه ناسا من المنافقين ليختبروا رايه فانزل اللّه عز وجل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر مِنَ الَّذِينَ قالُوا بيان لقوله الذين يسارعون آمَنَّا مقولة قالوا بِأَفْواهِهِمْ متعلق بقالوا لا بآمنا وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فى محل النصب على الحال من فاعل قالوا ويحتمل العطف على قالوا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على من الذين قالوا يعنى من المنافقين واليهود سَمَّاعُونَ خبر مبتدأ محذوف أى هم سماعون والضمير للفريقين أو للذين يسارعون ويجوز ان يكون مبتدأ ومن الذين هادوا خبره أى من اليهود قوم سماعون لِلْكَذِبِ اللام اما مزيدة للتاكيد أو لتضمين السماع معنى القبول أى قابلون لما يفتريه الأحبار أو للعلة والمفعول محذوف أى سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيها بالزيادة والنقصان والتغير والتبديل وقيل اللام بمعنى إلى أى سماعون إلى كذب أحبارهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ من اليهود لَمْ يَأْتُوكَ أى لم يحضروك وتجافوا عنك تكبرا أو افراطا فى البغض واللام فى لقوم اما لتضمن السماع معنى القبول أى مصغون لقوم آخرين قابلون كلامهم واما للعلة أى سماعون لاجلهم والإنهاء إليهم(1/1953)
اى هم يعنى بنى قريظة جواسيس لقوم آخرين وهم أهل خيبر ويجوز ان يتعلق اللام بالكذب وسماعون الثاني مكرر للتاكيد أى سماعون كلامك ليكذبوا عليك لقوم آخرين أمي للانهاء إليهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ المنزلة فى التورية من اية الرجم والقصاص وغير ذلك والكلم اسم جنس أو اسم جمع وليس بجمع ولذلك أفرد الضمير نظرا إلى لفظه فى قوله تعالى مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أى من بعد وضعه اللّه تعالى مواضعه معنى يحرفون الكلم
_________
(1) الضيم الظلم 12 قاموس
(2) الفرق بالفتحتين الخوف 12 نهاية [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 113(1/1954)
عما هو فى التورية اما لفظا بان يغيروه بغيره أو معنى بان يحملوه على غير ما أريد منه والجملة صفة اخرى لقوم أو صفة لسماعون أو حال من الضمير فيه أو استيناف لا موضع من الاعراب أو فى موضع الرفع خبرا عن مبتدأ محذوف أى هم يحرفون وكذلك قوله تعالى يَقُولُونَ وجاز ان يكون حالا من الضمير فى يحرفون إِنْ أُوتِيتُمْ يعنى ان أتاكم محمد صلى اللّه عليه وسلم حكما مثل هذا المحرف فَخُذُوهُ أى اعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ يعنى افتاكم محمد صلى اللّه عليه وسلم بخلافه فَاحْذَرُوا قبول ما افتاكموه وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ضلالته أو هلاكه أو عذابه فَلَنْ تَمْلِكَ يا محمد لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أى لن تقدر ولن تستطيع له شيئا من الاستطاعة كائنة من اللّه تعالى فى دفع مراده أو لن تقدر دفع شىء من مراده تعالى فقوله تعالى أمن اللّه اما متعلق بقوله تملك ومن ابتدائية أو ظرف مستقر حال من شيئا وشيئا منصوب على المصدرية أو المفعولية فيه حجة لنا على المعتزلة فى ان مراد اللّه لا ينفك عن إرادته أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر اية محكمة دالة على فساد قول المعتزلة ان اللّه يريد من كل عباده الايمان دون الكفر لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هوان بالقتل كما وقع فى بنى قريظة أو بالجزية والخوف من المؤمنين وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو الخلود فى النار والضمير للذين هادوا على تقدير الاستيناف بقوله ومن الذين هادوا والا فللفريقين(1/1955)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرر للتأكيد أى هم سماعون ومثله. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر فى المواضع الثلاثة بضم الحاء والباقون بإسكانها ومعناه الحرام وأصله الهلاك قال اللّه تعالى فيسحتكم بعذاب قال الأخفش السحت كل كسب لا يحل نزلت الآية فى حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم ويسمعون الكذب ويقبلونه من الراشي ولا يلتفتون إلى خصمه وقال الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك السحت هو الرشوة فى الحكم وقال الحسن انما ذلك فى الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عليك حقا فاما ان يعطى الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه الظلم فلا بأس به يعنى لا بأس به على المعطى فى دفعه وقاية لنفسه وماله واما على الاخذ فحرام اخذه قلت وكذا إذا كان المدعى محقا يرى ان القاضي لا يحكم له بحقه ولا يدفع عنه ظلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 114(1/1956)
خصمه الا بدفع الرشوة فلا بأس له فى الدفع وحرام على القاضي الاخذ لان الحكم بالحق ودفع الظلم واجب عليه لا يجوز له ان يأخذ عليه شيئا قال ابن مسعود من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلما فاهدى له فقبل فهو سحت فقيل له يا باعبد الرحمن ما كنا نرى ذلك الا الاخذ على الحكم فقال الاخذ على الحكم كفر قال اللّه عز وجل ومن لم يحكم بما انزل اللّه فاولئك هم الكافرون وعن مسروق قال قلت لعمر بن الخطاب ارايت الرشوة فى الحكم من السحت هى قال لا ولكن كفر انما السحت ان يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة ويكون للاخر إلى السلطان حاجة فلا يقضى حاجته حتى يهدى إليه هدية وعن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا فى الحكم ومهر الزانية وعن ليث قال تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فاقامهما ثم عادا فاقامهما ثم عادا ففصل بينهما فقيل له فى ذلك فقال تقدما إلى فوجدت لاحدهما ما لم أجد لصاحبه فكرهت ان افصل بينهما على ذلك ثم عادا فوجدت بعض ذلك فكرهت ثم عادا قد ذهب ذلك ففصلت بينهما وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعنة اللّه على الراشي والمرتشي فى الحكم رواه احمد والترمذي وصححه والحاكم عن أبى هريرة وروى البغوي نحوه عن عبد اللّه بن عمر ومرفوعا وروى احمد بإسناد ضعيف عن ثوبان مرفوعا لعن اللّه الراشي والمرتشي والرائش الذي يسعى بينهما.
((1/1957)
فائدة) قال ابن همام الرشوة على اقسام منها ما هو حرام على الاخذ والمعطى وهو الرشوة فى تقليد القضاء فلا يصير قاضيا وارتشاء القاضي ليحكم فلا ينفذ قضاؤه فى تلك الواقعة وان حكم بحق لأنه واجب عليه فلا يحل أخذ المال عليه ولا إعطائه ومنها ما هو حرام على الاخذ دون المعطى كما إذا اعطى المال ليسوى امره عند السلطان دفعا للضرر أو جلبا للنفع وحيلة حلها للاخذ ان يستاجر يوما إلى الليل أو يومين فيصير منافعه مملوكة له ثم يستعمله فى الذهاب إلى السلطان للامر الفلاني وكذا إذا ما اعطى المال لدفع الخوف من المدفوع إليه على نفسه أو ماله حرام على الاخذ دون المعطى لان دفع الضرر على المسلم واجب ولا يجوز أخذ المال على الفعل الواجب.
(فائدة) وفى المحيط الرشوة على انواع نوع منها ان يهدى الرجل إلى رجل مالا لابتغاء التودد والتحبب وهذا حلال من جانب المهدى والمهدى إليه قلت وفى الباب قوله صلى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 115(1/1958)
اللّه عليه وسلم تهادوا تحابوا ونوع منها ان يهدى الرجل إلى رجل ما لا بسبب ان ذلك الرجل قد خوفه فيهدى إليه ما لا ليدفع الخوف عن نفسه أو يهدى إلى السلطان مالا ليدفع ظلمه عن نفسه أو ماله وهذا النوع لا يحل للاخذ وعامة المشايخ على انه يحل للمعطى لأنه بذل ماله وقاية لنفسه وماله ونوع منها ان يهدى الرجل إلى رجل مالا يسوى امره فيما بينه وبين السلطان ويعينه فى حاجته فان كان حاجته حراما لا يحل من الجانبين الاخذ والإعطاء وان كان مباحا فان كان قد اشترط انه انما يهدى إليه ليعينه عند السلطان لا يحل الاخذ وهل يحل الإعطاء تكلموا فيه فمنهم من قال يحل ومنهم من قال لا يحل والحيلة فيه ان يستاجره صاحب الحادثة يوما إلى الليل ليقوم بعمله وان لم يشترط لكن انما يهدى إليه ليعينه عند السلطان فقال عامة المشايخ لا يكره اخذه وقيل يكره كذا نقل عن ابن مسعود فَإِنْ جاؤُكَ يا محمد يعنى اليهود لتحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً خيّر اللّه سبحانه رسوله صلى اللّه عليه وسلم إذا تحاكم إليه الكفار بين الحكم والاعراض قال البغوي اختلفوا فى حكم هذه الآية اليوم هل للحاكم الخيار فى الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا فقال اكثر أهل العلم هو حكم ثابت وليس فى سورة المائدة منسوخ حكام المسلمين بالخيار فى الحكم بين أهل الكتاب ان شاؤا حكموا وان شاؤا لم يحكموا وان حكموا حكموا بحكم الإسلام وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة وقال قوم يجب على حكام المسلمين ان يحكم بينهم والآية منسوخة نسخها قوله تعالى وان احكم بينهم بما انزل اللّه وهو قول مجاهد وعكرمة وروى ذلك عن ابن عباس وقال لم ينسخ من المائدة الا آيتان قوله تعالى لا تحلوا شعائر اللّه نسخها قوله تعالى اقتلوا المشركين كافة وقوله تعالى فان جاؤك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم نسخها(1/1959)
قوله تعالى وان احكم بينهم بما انزل اللّه قال البيضاوي قيل لو تحاكما الكتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم وهو قول الشافعي والأصح وجوبه إذا كان الترافعان أو أحدهما ذميا لانا التزمنا الذنب عنهم ودفع الظلم منهم والآية ليست فى أهل الذمة وعند أبى حنيفة رحمه اللّه يجب مطلقا قلت إذا ترافع إلى القاضي كافران ذميان أو حربيان يجب على القاضي الحكم بينهما بالعدل لأنه التزم من السلطان القضاء بالحق وكذا إذا ترافع أحدهما والمدعى عليه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 116
مسلم أو ذمى لالتزامه حكم الشرع بالإسلام أو الاستسلام بخلاف ما إذا كان المدعى عليه حربيا حيث لم يلتزم أحكامنا واما إذا ترافع مسلمان أو ذميان أو حربيان أو مختلفان إلى رجل من المسلمين غير الحكام ليحكم بينهم لا يجب عليه قبول التحكيم بل هو بالخيار ان شاء حكم بينهم وان شاء اعرض عنهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان المقسطين عند اللّه على منابر من نور رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمرو وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أفضل عباد اللّه عند اللّه منزلة يوم القيامة امام عادل رفيق وان شر الناس عند اللّه منزلة امام جائر خرق « 1 » رواه البيهقي فى شعب الايمان.(1/1960)
وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به والحال انهم يعلمون حكم اللّه فان عندهم التورية فيها حكم اللّه وهو الرجم وهم لا يعملون به والحاصل انه ليس غرضهم من تحكيمهم إياك إصابة الحق واقامة الشرع بل انما يطلبون ما يكون أهون عليهم وان لم يكن حكم اللّه وقوله فيها حكم اللّه حال من التورية ان رفعتها بالظرف وان جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فى الظرف وتانيثها لكونها نظيرة المؤنث فى كلام العرب كرماة ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يحكمونك داخل فى التعجيب يعنى ثم يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أى بعد تحكيمك وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ 6 بشئ من كتب اللّه تعالى لا بالتورية والا لعملوا بها وأمنوا بما يصدقه ويوافقه ولا بكتابك.
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً إلى الحق وَنُورٌ ينكشف به احكام اللّه تعالى ويجتلى به القلوب الغير القاسية يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ موسى ومن بعده من الأنبياء آخرهم محمد صلى اللّه عليه وسلم قضى عليهم بالرجم وقال الحسن والسدى أراد به محمدا صلى اللّه عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكر بلفظ الجمع كما فى قوله تعالى ان ابراهيم كان أمة قانتا ويحكم بصيغة المضارع يدل على ان حكم محمّد صلى اللّه عليه وسلم أيضا داخل فى المقصود بالآية وقيل ان المراد بالنبيين هاهنا الذين بعثوا بعد موسى قبل عيسى
_________
(1) الخرق بالضم الجهل والحمق 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 117(1/1961)
ليحكموا بالتورية بقرينة قوله تعالى وقفينا على اثارهم بعيسى وعلى تقدير شمول كلمة النبيين المذكورة محمدا صلى اللّه عليه وسلم وغيره لا بد من التأويل فى قوله تعالى وقفينا على اثارهم بان الضمير راجع إليهم بالنسبة إلى بعض افرادهم كما فى قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن ومن هاهنا قال أبو حنيفة يجب علينا العمل بشرائع من قبلنا ما لم يظهر نسخه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم فى الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد الحديث متفق عليه يعنى دينهم واحد وهو ما قضى اللّه به سبحانه وطرق ظهور ذلك الدين فى الدنيا شتى بعدد تعينات الأنبياء الَّذِينَ أَسْلَمُوا أى انقادوا الحكم اللّه صفة أجريت على النبيين مدحا لهم وتنويها لشان المسلمين وتعريضا لليهود حيث لا يحكمون بما فى التورية ولا ينقادون لحكم اللّه تعالى لِلَّذِينَ هادُوا أى تابوا من الكفر متعلق بانزلنا أو بالظرف المستقر أعنى فيها هدى ونورا وبيحكم أى يحكمون بها فى تحاكمهم وعلى التقدير الثالث قيل اللام بمعنى على كما فى قوله تعالى وان أسأتم فلها يعنى فعليها وقوله تعالى أولئك لهم اللعنة أى عليهم قلت وعلى هذا التأويل جاز ان يكون معنى الآية يحكم النبيون بالتورية على اليهود بكفرهم فان التورية يحكم عليهم انه إذا جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال البيضاوي هذا القيد يعنى للذين هادوا يدل على ان المراد بالنبيين فى هذه الآية أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا بعد موسى عليه السّلام ليحكموا بما فى التورية لا من لم يومر بما فى التورية ومنهم عيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم وكذا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وهذا القول منه مبنى على مذهب الشافعي رح ان شرائع من قبلنا لا يكون حجة علينا قلنا قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا لا يدل على نسخ جميع احكام التورية(1/1962)
بل على بعضها أو أكثرها وما لم يظهر نسخ حكم ثبت بالكتاب أو السنة ان اللّه تعالى حكم به لا بد من العمل به لقوله تعالى فبهدئهم اقتده واللّه اعلم وَالرَّبَّانِيُّونَ أى الصوفية الزهاد يحكم بها المسترشدين منهم فيما يتعلق بتهذيب الأخلاق وتجلية القلوب وَالْأَحْبارُ جمع حبر بفتح الحاء وكسرها والكسر افصح هو العالم المحكم للشئ وقيل الحبر بمعنى الجمال فى الحديث يخرج من النار رجل قد ذهب حبره
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 118(1/1963)
و صبره أى حسنه وهيئته ومنه التحبير للتحسين ويقال للعالم حبرا لما عليه من جمال العلم والعلماء جمال الامة بِمَا اسْتُحْفِظُوا العائد إلى الموصول محذوف وبيانه من قوله تعالى مِنْ كِتابِ اللَّهِ الجار والمجرور متعلق بيحكم والباء للسببية والضمير المرفوع فى استحفظوا راجع إلى النبيين والربانيين والأحبار والاستحفاظ منهم تكليفهم بحفظه والعمل به ومنعهم عن نسيانه وعن ترك العمل به وعن التضييع والتحريف يعنى يحكم بها الأنبياء ومن تبعهم بسبب أمرهم اللّه تعالى بان يحفظوه وَكانُوا عَلَيْهِ أى على الاستحفاظ من اللّه أو على كتاب اللّه شُهَداءَ رقباء يعلمونه ويبينونه فَلا تَخْشَوُا أيها الحكام النَّاسَ فى الحكومة على خلاف مرادهم وَاخْشَوْنِ فى ترك العمل بكتابي واحكامى اثبت الياء فى الوصل فقط أبو عمرو وحذفها الجمهور فى الحالين أخرج ابن عساكر والحكيم الترمذي عن ابن عباس انه قال انما يسلط على ابن آدم من خافه ابن آدم فان لم يخف الا اللّه لم يسلط عليه غيره وانما وكل ابن آدم بمن رجا ابن آدم فان لم يرج ابن آدم الا اللّه لم يكله إلى سواه وَلا تَشْتَرُوا أى لا تستبدلوا بِآياتِي باحكامى التي أنزلتها ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا على سبيل الرشوة ونحو ذلك هذا صريح فى ان حكام هذه الامة مأمورون بالحكم بما ثبت كونه فى التورية ولم يثبت نسخه وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به جاحدا له كذا قال عكرمة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ان لم يحكم بالاستهانة وقيل المراد بالكفر الفسق وجاز ان يكون المراد بالكفر ستر الحق قال ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل فهو به كفر يعنى ستر الحق وليس كمن كفر باللّه واليوم الاخر.(1/1964)
وَكَتَبْنا أى فرضنا عَلَيْهِمْ أى على بنى إسرائيل فِيها أى فى التورية أَنَّ النَّفْسَ القاتلة حرا كانت أو رقيقا ذكرا كانت أو أنثى مسلما كانت أو ذميا تقتل بِالنَّفْسِ المقتولة كيفما كانت وقد مرحكم هذه المسألة فى شريعتنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى الحر بالحر الآية وَالْعَيْنَ تقفأ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ تجدع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ تقلع بِالسِّنِّ قرأ الكسائي العين والانف والاذن والسن بالرفع على انها جمل متعاطفة عطفت على ان وما فى حيزها كأنَّه قيل كتبنا عليهم النفس بالنفس فان الكتابة والقراءة يقعان على الجمل كالقول أو مستانفة ومعناها وكذلك العين مقفوة بالعين والانف
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 119(1/1965)
مجدوعة بالأنف والاذن مقطوعة بالاذن والسن مقلوعة بالسن أو على ان المرفوع منها معطوف على المستكن فى قوله بالنفس وانما ساغ لأنه فى الأصل مفصول عنه بالظرف والجار والمجرور مبنية للمعنى والباقون بالنصب وقرأ نافع الاذن بالاذن وفى اذنيه بإسكان الذال حيث وقع والباقون بضمها وَالْجُرُوحَ ذات قِصاصٌ قرأ ابن كثير والكسائي وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر بالرفع على انه إجمال للحكم بعد التفصيل والباقون بالنصب عطفا على اسم ان وهذا تعميم بعد التخصيص ولفظ القصاص ينبئ عن المماثلة فكل ما أمكن فيه رعاية المماثلة يجب فيه القصاص ومالا فلا فاليد ان قطع من المفصل عمدا قطعت يد الجاني من ذلك المفصل وانكانت يده اكبر من اليد المقطوعة وكذلك الرجل ومارن الانف والاذن والسن لامكان رعاية المماثلة ومن ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه لامتناع المماثلة فى القلع فان كانت العين قائمة وذهب ضوءها فعليه القصاص لا مكان المماثلة فتحمى له المرأة ويجعل على وجهه قطن رطب ويقابل عينه بالمرءاة فيذهب ضوءها وهو ماثور عن جماعة الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين قال فى الكفاية هذه حادثة وقعت فى زمن عثمان فسأل الصحابة عنها فلم يكن عندهم جواب فحضر على رض فاجاب بهذا فقضى عثمان بهذا ولم ينكر عليه أحد فصار اجماعا ولا قصاص فى عظم الا فى السن.
(مسئلة : ) ولا يقتص من الجراحة الا بعد الاندمال عند أبى حنيفة واحمد وقال الشافعي يقتص فى الحال لنا حديث جابر ان رجلا جرح فاراد ان يستقيد منه فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح رواه الدارقطني.
((1/1966)
مسئلة : ) من قطع يد رجل من نصف الساعد أو جرحه جائفة فبرأ منها فلا قصاص عليه لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه إذ الأول كسر العظم ولا ضابطة فيه وكذا البرأ نادر فيفضى الثاني إلى الهلاك ظاهرا وقال الشافعي لو كسر عضده وابانه قطع من المرفق وله حكومة الباقي وكذا فى كسر الساعد وغيره من العظام ان له قطع اقرب مفصل من موضع الكسر وحكومة الباقي.
(مسئلة : ) لا قصاص عند أبى حنيفة فى اللسان ولا فى الذكر الا ان يقطع الحشفة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 120
لانهما ينقبضان وينبسطان فلا يمكن اعتبار المماثلة وعن أبى يوسف انه إذا قطع اللسان أو الذكر من أصله يجب القصاص وبه قال الشافعي واحمد لأنه يمكن اعتبار المساواة والشفة ان استقصاها بالقطع يجب القصاص لامكان اعتبار المماثلة بخلاف ما إذا قطع بعضها لأنه يتعذر اعتبارها.
(مسئلة : ) ولا يقطع اليد الصحيحة باليد الشلاء ولا يمين بيسار ولا يسار بيمين اجماعا - (مسئلة : ) فى العين القائمة بلا نور واليد الشلاء ولسان الأخرس والذكر الأشل والإصبع الزائدة حكومة عدل عند الجمهور وعند احمد فيها ثلث دية العضو الصحيح لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى فى العين العوراء السادة مكانها إذا طمست ثلث ديتها وفى اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها وفى السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها رواه البيهقي من طريق النسائي وعن ابن عباس موقوفا فى اليد الشلاء ثلث الدية وفى العين القائمة إذا حشفت ثلث الدية رواه الدارقطني.
(مسئلة : ) ان كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء أو ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار عند أبى حنيفة رحمه اللّه ان شاء قطع اليد المعيبة ولا شىء غيرها وان شاء أخذ الأرش كاملا لان استيفاء الحق كملا متعذر فله ان يتجوز بدون حقه وله ان يعدل إلى البدل وعند الشافعي يجب الأرش لا غير.
((1/1967)
مسئلة : ) من شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه وهى لا تستوعب ما بين قرنى الشاج فالمشجوج بالخيار ان شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ بها من أى الجانبين شاء وان شاء أخذ الأرش وفى عكسه يخير ايضا.
(مسئلة : ) ويجرى القصاص فى كسر السن كما يجرى فى قلعها عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال الشافعية لا قصاص فى الكسر لامتناع التماثل قلنا يمكن التماثل إذا يبرد بالمبرد وفى الباب حديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالقصاص فى السن رواه النسائي وعن انس أيضا قال كسرت الربيع وهى عمة انس بن مالك ثنية جارية من الأنصار فاتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فامر بالقصاص فقال انس بن النضر عم انس ابن مالك لا تكسر
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 121
ثنيتها يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا انس كتاب اللّه القصاص فرضى القوم وقبلوا الأرش فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان من عباد اللّه من لو اقسم على اللّه لا بره متفق عليه.
(مسئلة : ) ليس فيما دون النفس شبهة عمد انما هو عمدا وخطاء لان شبه العمد فيما دون النفس عمد.
(مسئلة : ) لا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس ولا بين الحر والعبد ولا بين العبدين عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند الائمة الثلاثة يجرى القصاص فى جميع ذلك الا فى الحر يقطع طرفا للعبد جريا على أصلهم من انه لا يقتص حر لعبد لقوله تعالى الحر بالحر وهذه الآية بعمومها يعنى العين بالعين حجة لهم على أبى حنيفة ووجه قول أبى حنيفة ان الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت فى القيمة وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فامكن اعتباره بخلاف الأنفس لان المتلف به الحيوة بازهاق الروح ولا تفاوت فيه.
((1/1968)
( مسئلة : ) يجب القصاص فى الأطراف بين المسلم والذمي عند أبى حنيفة رحمه اللّه للتساوى بينهما فى الأرش عنده وقال الشافعي واحمد ان قطع المسلم طرف كافر فلا قصاص لعدم جريان القصاص بينهما فى الأنفس وقد مر المسألة فى سورة البقرة فَمَنْ تَصَدَّقَ من اصحاب الحق بِهِ أى بالقصاص وعفا عن الجاني فَهُوَ أى التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ أى للمتصدق كذا قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قوله فمن تصدق به فهو كفارة له قال هو الرجل يكسر سنه أو يقطع يده أو يقطع شىء منه أو يجرح فى بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فان كان ربع الدية فربع خطاياه وإن كان الثلث فثلث خطاياه وانكانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك وروى الطبراني فى الكبير بسند حسن عن عبادة بن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تصدق من جسده بشئ كفر اللّه بقدره من ذنوبه والطبراني والبيهقي عن سنجرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ابتلى فصبروا عقل فشكر وظلم فغفر وظلم فاستغفر أولئك لهم الا من وهم مهتدون وروى الترمذي وابن ماجة عن أبى الدرداء
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 122(1/1969)
قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من رجل يصاب بشئ فى جسده فتصدق به إلا رفعه اللّه به درجة وحط عنه خطيئة وكما أصيب شيخنا « 1 » وامامنا بجراحة توفى بها واستشهد أرسل إليه امير « 2 » الأمراء وقال لاقيدن ممن جنى عليك أيها الشيخ فقال الشيخ رضى اللّه تعالى عنه لا تعرضوا بمن جنى علىّ فتصدق الشيخ به وقيل الضمير عائد إلى الجاني المفهوم مما سبق معنى عفوه كفارة لذنب الجاني لا يوخذ به فى الاخرة كما ان القصاص كفارة له واما اجر العافي فعلى اللّه قال اللّه تعالى فمن عفا وأصلح فاجره على اللّه قال البغوي روى ذلك عن ابن عباس وبه قال مجاهد وابراهيم وزيد بن اسلم وجاز ان يكون معنى الآية فمن تصدق به أى انقاد للقصاص لمن وجب له القصاص فهو كفارة له من ذنوبه قال اللّه تعالى ولكم فى القصاص حيوة يأولى الألباب وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص وغيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بالامتناع من ذلك.
وَقَفَّيْنا أى اتبعناهم يعنى النبيين حذف المفعول لدلالة الجار والمجرور عليه اعنى عَلى آثارِهِمْ أى على اثار النبيين الذين اسلموا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان عدى إليه الفعل بالباء مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ فى موضع النصب على الحال من الإنجيل وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ عطف على فيه هدى وكذا قوله وَهُدىً وَمَوْعِظَةً وجاز نصبهما على العلية عطفا على محذوف يعنى رحمة للناس وهدى وموعظة لِلْمُتَّقِينَ لانهم هم المنتفعون به أو تعلقا بمحذوف تقديره واتيناه هدى وموعظة وعلى تقدير نصبهما على العلية عطفا عليهما.(1/1970)
وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ فى قراءة حمزة بكسر اللام ونصب يحكم يعنى ولكى يحكم وعلى التأويل الأول لام كى متعلق بمحذوف تقديره واتيناه ليحكم واما على قراءة الجمهور بسكون اللام والجزم على انه صيغة امر والجملة مستانفة فان قيل الإنجيل نسخ بالقران وصيغة الأمر للحال أو للاستقبال فكيف يتصور الأمر بالحكم بما فى الإنجيل قلنا لا نسلم انه منسوخ بجميع أحكامه وما نسخ منه فتركه باتباع القرآن محكوم فيه فالحكم بالناسخ الذي ورد فى القرآن حكم بما انزل اللّه فى الإنجيل والحكم بالمنسوخ بعد النسخ ترك العمل بالإنجيل
_________
(1) المراد به مرزاجا نجانا مظهر مرحوم 12
(2) نواب مرزا نجف خان 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 123
و أهل الإنجيل هم أمة عيسى عليه السّلام قبل بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم وامة محمّد صلى اللّه عليه وسلم بعد بعثته بدليل قوله تعالى لعيسى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حكمه أو عن الايمان بالاستهانة.(1/1971)
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ يا محمد الْكِتابَ القرآن متلبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ أى من جنس الكتب المنزلة فاللام الاولى للعهد والثانية للجنس وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ روى الوالبي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما أى شاهدا وهو قول مجاهد وقتادة والسدى والكسائي وقال عكرمة دالا وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة موتمنا عليه وقال الحسن أمينا وقال سعيد بن المسيّب والضحاك قاضيا وقال الخليل رقيبا وحافظا والمعنى متقاربة ومعنى الكل ان كل كتاب يشهد به القرآن ويصدقه فهو كتاب اللّه قال ابن جريح القرآن أمين على ما قبله من الكتب فما اخبر أهل الكتاب من كتابهم فانكان فى القرآن فصدقوه والا فكذبوه يعنى الكان فى القرآن تصديقه فصدقوه وإن كان فى القرآن تكذيبه فكذبوه وان كان القرآن ساكتا عنه فاسكتوا عنه لاحتمال الصدق والكذب من أهل الكتاب قيل اصل مهيمن ما يمن مفيعل من الامانة فقلبت الهمزة هاء فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أى بين الناس بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فى القرآن فانه اما موافق لما سبق من الاحكام أو ناسخ له وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أى أهواء الناس ان أرادوا منك الحكم على خلاف ما انزل اللّه عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ متعلق بقوله لا تتبع لتضمنه معنى لا تنحرف أو حال من فاعله أى لا تتبع أهواءهم معرضا عما جاءك من الحق لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أى جعلنا لكل أمة منكم أيها الناس شِرْعَةً أى شريعة وهى الطريق إلى الماء شبه الدين لأنه طريق إلى ما هو سبب للحيوة الا بدية وَمِنْهاجاً طريقا واضحا فى الدين من نهج الأمر إذا وضح استدل البيضاوي بهذه الآية على انا غير متعبدين بالشرائع المتقدمة ونحن نقول إذا ثبت بالقران أو السنة ان الله تعالى حكم بشئ فى شىء من الكتب السابقة ولم يثبت نسخه فنحن متعبدون به بناء على انه من احكام شريعتنا والقول بترك جميع ما نزل فى الكتب السابقة لا(1/1972)
يساعده عقل ولا نقل واختلاف الشرائع انما هو باختلاف اكثر الفروع مع اتحاد الأصول لا محالة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 124
جماعة متفقة على جميع الفروع فى جميع الاعصار من غير نسخ وتبديل وَلكِنْ لم يشأ ذلك وجعلكم امما شتى على شرائع مختلفة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الاحكام المناسبة لكل عصر وقرن أى ليعلم من يتبع حكم اللّه ممن ينقلب على عقبيه جمودا على دين ابائهم وقيل معناه ولو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لاجبركم عليه ولكن لم يجبر ليبلوكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يعنى بادروا إلى الأعمال الصالحة اغتناما للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدم فانه من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استيناف فيه تعليل للاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصرين فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بالجزاء الفاصل بين المحق والمبطل روى ابن إسحاق عن ابن عباس قال قال كعب بن اسد وعبد اللّه بن صوريا وشاس بن قيس اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فاتوه فقالوا يا محمد انك قد عرفت انا أحبار اليهود واشرافهم وساداتهم وانا ان اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وان بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضى لنا عليهم ونؤمن لك فابى ذلك فانزل اللّه تعالى.(1/1973)
وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ إلى قوله يوقنون عطف على الكتاب أى أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك الحكم أو على الحق أى أنزلناه بالحق وبان احكم وجاز ان يكون جملة بتقدير وأمرنا ان احكم بينهم بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على احكم وكذا وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أى ان يضلوك ويصرفوك وان مع صلته بدل اشتمال من الضمير المنصوب يعنى احذر فتنتهم أو مفعول له يعنى احذرهم مخافة ان يفتنوك أو لئلا يفتنوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أى يعجل لهم اللّه العقوبة فى الدنيا ببعض ذنوبهم هاهنا وضع المظهر موضع المضمر والمعنى يريد اللّه ان يصيبهم به أى بذلك التولي فى الدنيا وهذا الإبهام لتعظيم التولي والتنبيه على ان لهم ذنوب كثيرة واحدها هذا وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعنى من اليهود لَفاسِقُونَ المتمردون المعتدون فى الكفر.
أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ ابن عامر بالتاء الفوقانية على الخطاب والباقون بالتحتانية على الغيبة والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية وهى متابعة الهوى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 125(1/1974)
قيل نزلت فى قريظة وبنى النضير طلبوا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى والاستفهام للانكار يعنى لا تفعل ذلك وَمَنْ أَحْسَنُ يعنى لا أحد احسن مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ 4 أى عندهم واللام للبيان كما فى قولك هيئت لك أى هذا الاستفهام لقوم يوقنون فانهم هم الذين يتدبرون فى الأمور ويتحققون فى الأشياء بانظارهم فيعلمون ان لا احسن حكما من اللّه تعالى أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال اسلم عبد اللّه بن أبى ابن سلول ثم انه قال ان بينى وبين قريظة والنضير حلف وانى أخاف الدوائر فارتد كافرا وقال عبادة بن الصامت انى ابرأ إلى اللّه من حلف قريظة والنضير وأتولى اللّه ورسوله والمؤمنين فانزل اللّه تعالى هذه الآية إلى قوله فترى الذين فى قلوبهم مرض الآية وقوله انما وليكم اللّه الآية وقوله لو كانوا يؤمنون باللّه والنبي وما انزل إليه ما اتخذوهم اولياء واخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت قال لما حاربت بنو قينقاع نشب بامرهم عبد اللّه بن أبى ابن سلول وقام دونهم ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتبرأ إلى اللّه ورسوله ومن حلفهم وكان أحد بنى عوف بن الخزرج وله من حلفهم مثل الذي لهم من عبد اللّه بن أبى فتبرأ من حلفائه الكفار وولايتهم قال ففيه وفى عبد اللّه بن أبى نزلت.(1/1975)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا « 1 » الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ أى لا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ايماء إلى علة النهى يعنى انهم متفقون على خلافكم واضراركم وتوالى بعضهم بعضا لاتحادهم فى الدين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يعنى عبد اللّه بن أبى فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعنى كافر منافق فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا الحباب ما نفست « 2 » من ولاية
_________
(1) عن عياض ان عمر امر أبا موسى الأشعري ان يرفع إليه ما أخذ وما اعطى فى أديم واحد وكان له كاتب نصرانى فرفع إليه ذلك فعجب عمر وقال ان هذا لحفيظ بل أنت قارى لنا كتابا فى المسجد جاء من الشام فقال انه لا يستطيع ان يدخل المسجد قال عمرا جنب قال لا بل نصرانى قال فنهزنى وضرب فخذى ثم قال أخرجه ثم قرأ لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء الآية أخرجه ابن أبى حاتم والبيهقي فى شعب الايمان 12
(2) أى ما صرت مرغوبا من ولاية اليهود على عباده 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 126
اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل وجاز ان يكون قوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم مبنيا على التجوز يعنى من يتولهم فهو فاسق والفاسق يشابه الكافر والغرض منه التشديد فى وجوب مجانبتهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا برئ من كل مسلم اقام مع المشركين لا ترا انا راهما رواه الطبراني برجال ثقات عن خالد بن الوليد واخرج أبو داؤد والترمذي والنسائي عن جرير بن عبد اللّه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار وظلموا المؤمنين بموالاة أعدائهم.(1/1976)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى عبد اللّه ابن أبى ابن سلول وأصحابه من المنافقين يُسارِعُونَ فِيهِمْ أى فى موالاة اليهود ومعاونتهم مفعول ثان لترى إن كان من الروية بمعنى العلم والا فهو حال من فاعله يَقُولُونَ حال من فاعل يسارعون نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الزمان بان ينقلب الأمر ويكون الدولة للكفار ولا يتم امر محمّد فيدور علينا كذا قال ابن عباس وقيل معناه نخشى ان يدور الدهر علينا بمكروه فنحتاج إلى نصرهم أو يصيبنا جدب وقحط فلا يعطونا الميرة أخرج ابن جرير من حديث عطية وابن اسحق ان عبادة بن الصامت قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان لى موالى من اليهود كثيرا عددهم وانى ابرأ إلى اللّه ورسوله من ولايتهم وأو إلى إلى اللّه ورسوله فقال ابن أبى انى رجل أخاف الدوائر لا ابرأ من ولاية موالى قال البغوي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا الحباب ما نفست من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه قال إذا اقبل قال اللّه تعالى فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ قال قتادة ومقاتل بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى اللّه عليه وسلم على من خالفه وقال الكلبي والسدى فتح مكة وقال الضحاك فتح قرى ليهود خيبر وفدك وغيرها أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ أى اظهار اسرار المنافقين وقتلهم وتفضيحهم أو قتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير واستيصال اليهود من جزيرة العرب فَيُصْبِحُوا أى هؤلاء المنافقين منصوب بان مقدرة بعد فاء السببية الواقعة بعد عسى لأنه بمعنى لعل وهو من ملحقات التمني كما فى قوله تعالى لعلى ابلغ الأسباب اسباب السموات فاطلع بالنصب وجاز ان يكون معطوفا على الفتح تقديره عسى اللّه ان يأتي بالفتح وصيرورة المنافقين نادمين وجاز ان يكون معطوفا على يأتي وهذا اما على تقدير كون ان يأتي اسم عسى بدلا من اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 127(1/1977)
مغنيا عن الخير بما تضمنه من الحدث واما على تنزيل عسى اللّه ان يأتي منزلة عسى ان يأتي اللّه لان كليهما بمعنى واحد فالتقدير عسى ان يأتي اللّه بالفتح وعسى ان يصبحوا الا على تقدير كون يأتي خبر عسى لأنه حينئذ لا بد من الضمير فى خبر عسى عائدا إلى اسمه وجاز ان يقال لفظة اللّه فى قوله اقسموا باللّه مظهر فى موضع الضمير واللّه اعلم عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ استبطنوه من النفاق وموالاة الكفار فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم نادِمِينَ خبر ليصبحوا والجار والمجرور متعلق به.(1/1978)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا
قرأ الكوفيون بالواو ويقول بالرفع على انه كلام مبتدأ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو وهكذا فى مصاحفهم ويقول بالرفع على الاستيناف كأنَّه فى جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالواو ويقول بالنصب على انه معطوف على يصبحوا والمعنى إذا جاء اللّه بالفتح يصير المنافقون نادمين ويقول المؤمنون متعجبين أو على احتمالات اخر ذكرناها فى فيصبحوا والتقدير عسى ان يأتي اللّه بالفتح وقول المؤمنين كذلك أو عسى ان يأتي اللّه بالفتح أو عسى ان يقول المؤمنون أو عسى اللّه ان يقول المؤمنون أ هؤلاء المنافقون الذين اقسموا به تعالى كذلك أَهؤُلاءِ يعنى المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أى أغلظها مصدر قائم مقام الجملة الواقعة حالا تقديره اقسموا باللّه يجتهدون جهدا ايمانهم ولذلك جاز كونه معرفة أو منصوب على المصدرية من اقسموا لأنه بمعناه إِنَّهُمْ أى المنافقين لَمَعَكُمْ هذه الجملة جواب للقسم يعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين حيث كانوا يقسمون بانهم لمع المؤمنين وتبجّحا بما منّ اللّه عليهم من الإخلاص أو يقولون لليهود فان المنافقين كانوا يحلفون لليهود بالمعاضدة ويقولون لهم ان أخرجتم لنخرجن معكم وان قوتلتم لننصرنكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ فى الدنيا والاخرة هذه الجملة اما من مقولة المؤمنين أو من مقولة اللّه تعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم وخسرانهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ « 1 » قرأ نافع
_________(1/1979)
(1) عن قتادة انه قال انزل اللّه هذه الآية وقد علم انه سيرتد مرتدون من الناس فلما قبض النبي صلى اللّه عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام الا ثلثة مساجد أهل المدينة واهل مكة واهل جواثا من عبد القيس وقال الذين ارتدوا نصلى الصلاة ولا تزكى واللّه لا يغصب أموالنا فكلم أبو بكر فى ذلك يتجاوز عنهم وقيل اما انهم لو قد فقهوا أدوا الزكوة فقال واللّه لا افرق بين شىء جمعه اللّه لو منعونى عقالا مما فرض اللّه ورسوله لقاتلتهم عليه فبعث اللّه بعصائب مع أبى بكر فقاتلوا حتى قتلوا وأقروا بالماعون وهو الزكوة قال قتادة فكنا نتحدث ان هذه الآية نزلت فى أبى بكر وأصحابه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي فى سننه وابن عساكر 12 منه (فائده) لم يوجد قتال مع المرتدين الا فى زمن أبى بكر وقد لامه الصحابة وكرهوا ذلك القتال فى الابتداء فلم يخف لومتهم ثم حمدوه فى الانتهاء 12 منه وعن أبى موسى الأشعري قال قلت عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فسوف يأتي اللّه بقوم يحبونه ويحبهم قال هؤلاء من أهل اليمن ثم من كندة ثم من السكون ثم من تجيب وعن القاسم ابن محمره قال أتيت عمر فرجت فى ثم تلا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه ثم ضرب على منكبى وقال احلف باللّه انهم لمنكم أهل اليمن ثلثا أخرجه البخاري فى تاريخه قلت وقع قتال عسكر أبى بكر مع أهل الردة بامداد أهل اليمن 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 128(1/1980)
و ابن عامر يرتددبفك الإدغام والباقون بالإدغام بفتح الدال مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ يعنى عن الإسلام إلى الكفر قال الحسن علم اللّه تبارك وتعالى ان قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فاخبر انه سياتى فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ العائد إلى عن محذوف تقديره فسوف يأتي اللّه أى يقيم اللّه تعالى لمدافعتهم قوما منكم يحبهم ويحبونه واختلفوا فى ذلك القوم من هم قال على رض ابن أبى طالب والحسن والضحاك وقتادة هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعى الزكوة وذلك ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب الا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ومنع بعضهم الزكوة وهمّ أبو بكر بقتالهم فكره ذلك اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال عمر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا اللّه فمن قاله فقد عصم منى ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على اللّه عز وجل فقال أبو بكر رض واللّه لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكوة فان الزكوة حق المال واللّه لو منعونى عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال انس بن مالك كرهت الصحابة قتال مانعى الزكوة وقالوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 129(1/1981)
اهل القبلة فتقلد أبو بكر رض سيفه وخرج وحده فلم يجدوا بدا من الخروج على اثر قال ابن مسعود رض كرهنا ذلك فى الابتداء ثم حمدناه عليه فى الانتهاء قال أبو بكر بن عياش سمعت أبا حفص يقول ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبى بكر رض قام بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم فى قتال أهل الردة وقال قد ارتد فى حيوة النبي صلى اللّه عليه وسلم ثلث فرق منهم مذحج ورئيسهم ذو الحمار عبهلة بن كعب العنسي ويلقب بالأسود وكان كاهنا مشعبدا فتبنّى باليمن واستولى على بلاده فكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين وأمرهم ان يحثوا الناس على التمسك بدينهم وعلى النهوض إلى حرب الأسود فقتله فيروز الديلمي على فراشه قال ابن عمر فاتى الخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم من السماء الليلة التي قتل فيها وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك قيل ومن هو قال فيروز وفاز فيروز فبشر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود وقبض صلى اللّه عليه وسلم من الغد واتى خبر مقتل العنسي المدينة فى اخر شهر ربيع الأول بعد مخرج اسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رض والفرقة الثانية بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب وكان قد تنبى فى حيوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى اخر سنة عشر وزعم انه أشرك مع محمد صلى اللّه عليه وسلم فى النبوة وكتب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه اما بعد فان الأرض نصفها لى ونصفها لك وبعث بذلك إليه رجلين من أصحابه فقال لهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ثم أجاب من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذاب اما بعد فان الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ومرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتوفى فبعث أبو بكر خالد بن الوليد الى(1/1982)
مسيلمة فى جيش كثير حتى أهلكه اللّه على يدى وحشي غلام مطعم بن عدى الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديد وكان وحشي يقول قتلت خير الناس فى الجاهلية وشر الناس فى الإسلام والفرقة الثالثة بنو اسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة اخر من ارتد وادعى النبوة فى حيوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وأول من قوتل بعد وفات النبي صلى اللّه عليه وسلم من أهل الردة فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه فهزمهم خالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة فمر على
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 130
وجهه هاربا نحو الشام ثم انه اسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وقد ارتد بعد وفات النبي صلى اللّه عليه وسلم فى خلافة أبى بكر رض خلق كثير سبع فرق(1/1983)
فزارة قوم عيينة بن حصين وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري وبنو سليم قوم الفجاة بن عبد ياليل وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة وبعض تميم قوم شجاج بنت المنذر المتنبية زوجة مسيلمة وأسلمت آخرا وكندة قوم الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطيم حتى كفى اللّه بالمسلمين أمرهم ونصر دينه على يدى أبى بكر رض قالت عائشة توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وارتدت العرب واشرب النفاق ونزل بابى ما لو نزل بالجبال الراسيات « 1 » لها ضمها « 2 » وارتد فى خلافة عمر غسان قوم جبلة ابن الابهم لما اجرى عليه عمر حكم القصاص تنصر وصار إلى الشام وقال قوم المراد « 3 » بقوم يحبهم ويحبونه هم الأشعريون روى عن عياض بن غنم قال لما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قوم هذا وأشار إلى أبى موسى الأشعري رواه ابن جرير فى سننه والطبراني والحاكم وكانوا من اليمن عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أتاكم أهل اليمن هو أضعف قلوبا وارق افئدة الايمان يمان والحكمة يمانية متفق عليه وقال الكلبي هم احياء من اليمن الفان من النخع وو خمسة آلاف من كندة وبحيلة وثلثة آلاف من إفناء الناس فجاهدوا فى سبيل اللّه يوم القادسية فى ايام عمر رض أَذِلَّةٍ جمع ذليل من ذل يذل ذلا وذلالة بالضم وذلة بالكسر ومذلة وذلالة بالفتح بمعنى هان كذا فى القاموس والذلة انكانت على الإنسان من نفسه فهى محمودة قال اللّه تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أى كن كالمقهور لهما وانكانت من غيره عليه فعليه عذاب قال اللّه تعالى ترهقهم ذلة وضربت عليهم الذلة والمسكنة وضد الذلة العز بمعنى الغلبة والعزيز الذي يقهر ولا يقهر وهى إن كان للانسان من نفسه لنفسه فمذموم قال اللّه تعالى بل الذين كفروا فى عزة وشقاق وقد يستعار
_________
(1) أى القائمات 12
(2) أى كسرها 12
((1/1984)
3) أخرج ابن سعد وابن أبى شيبة واحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب عن أبى ذر قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بسبع يحب المساكين وان ادنوا منهم وان انظر إلى من هو أسفل منى ولا انظر إلى من هو فوقى وان اصل رحمى وان جفانى وان اكثر من قول لا حول ولا قوة الا باللّه فانها من كنز تحت العرش وان أقول الحق وان كان مرا ولا أخاف فى اللّه لومة لائم وان لا أسأل الناس شيئا 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 131(1/1985)
حينئذ للحمية قال اللّه تعالى أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وان كانت من اللّه تعالى فكمال ونعمة قال اللّه تعالى وللّه العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال عز وجل من كان يريد العزة فللّه العزة جميعا وقال عليه السلام كل عز ليس من اللّه فهو ذل قال البيضاوي هو جمع ذليل لا ذلول فان جمعه ذلل لكن قال فى القاموس جمع ذليل ذلال وأذلاء واذلة وجمع ذلول ذلل واذلة فاذلة جمع لكليهما قلت فان كان جمع ذلول فهو ضد صعب ومعناهما متقارب وحاصل المعنى انهم متواضعون لينون رحماء متعاطفون عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كان القياس للمؤمنين فاورد على هاهنا بمعنى اللام للمشاكلة التي دعى إليها المقابلة وتنبيها لاختصاص ذلهم بالمؤمنين مع علو مرتبتهم وفضلهم على من يذلون لهم أو هي بمعناها أورد لتضمن الذل معنى العطف والحنوا ويقال ذكر الاذلة فى مقابلة الاعزة تنبى عن نفى عزهم على المؤمنين كأنَّه قيل غيرا عزة على المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أى أشداء عليهم متغلبين ما استكانوا لهم وما ضعفوا فى مقابلتهم نظير هذه الآية قوله تعالى أشداء على الكفار رحماء بينهم يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حال من الضمير فى اعزة وجاز ان يكون صفة اخرى لقوم وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ الواو يحتمل ان يكون للحال يعنى يجاهدون وحالهم انهم لا يخافون لوم الكفار كما هو حال المنافقين كانوا يخرجون فى جيوش الإسلام اما خوفا من ظهور نفاقهم أو طمعا فى الغنيمة ومع ذلك يخافون لومة اولياء هم من اليهود فلا يعملون شيئا مما يعلمون انه يلحقهم لوم من جهتهم أو هى عاطفة عطف على يجاهدون بمعنى انهم هم الجامعون بين المجاهدة فى سبيل اللّه والتصلب فى دينهم عن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة وان نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا لا نخاف فى اللّه لومة لائم متفق عليه واللومة المرّة من اللوم وفى تنكيرها و(1/1986)
تنكير لائم مبالغتان كأنَّه قال لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام ذلِكَ يعنى محبتهم ومحبوبيتهم للّه تعالى وذلهم للمؤمنين وقهرهم على الكفار ومجاهدتهم فى سبيل اللّه وعدم خوفهم من لومة لائم بعد ارتداد قوم منهم وضعف شوكتهم فَضْلُ اللَّهِ عليهم وعطائه يُؤْتِيهِ يمنحه ويوفق به مَنْ يَشاءُ من عباده فمن راى فيه شيئا من ذلك الأوصاف يجب عليه ان يشكر اللّه تعالى ولا يعجب بنفسه وانى يكون العجب لمن اتصف بهذه الأوصاف
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 132
وَ اللَّهُ واسِعٌ فضله وقدرته وقالت الصوفية واسع وسعة بلا كيف يتجلى كمالاته فى المظاهر كلها عَلِيمٌ بمواقع اعمال قدرته لا يفوته ما يقتضيه الحكمة.(1/1987)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا متصل بقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء وما بينهما اما لتاكيد النهى كقوله تعالى ومن يتولهم منكم فانه منهم وقوله تعالى فترى الذين فى قلوبهم الآية واما لتوطية تعيين من هو حقيق للولاية كقوله تعالى فسوف يأتي اللّه بقوم يحبهم ويحبونه الآية وهذه الآية لتعيين من هو حقيق بالولاية والنفي المستفاد بانما هو على قول البصريين لتاكيد النهى المستفاد مما سبق وانما قال وليكم ولم يقل أوليائكم للتنبيه على ان الولاية للّه خاصة على الاصالة وما هو لرسوله وللمؤمنين فبالتبع الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة للذين أمنوا لأنه جار مجرى الاسم ولو قدر له موصوف يكون صفة ثانية لموصوفه أو بدل منه ويجوز نصه على المدح وكذا رفعه بتقدير المبتدأ يعنى هم أو الاستيناف فى جواب من الذين أمنوا وَهُمْ راكِعُونَ الواو للعطف على يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة والمعنى هم مصلون صلوة ذات ركوع بخلاف صلوة اليهود والنصارى فانها لا ركوع فيها أو المعنى هم خاضعون متخشعون فى صلوتهم وزكوتهم قال الجوهري يستعمل الركوع تارة فى التواضع والتذلل وجاز ان يكون الواو للحال من فاعل يؤتون أى يؤتون الزكوة فى حال ركوعهم فى الصلاة مسارعة إلى الإحسان أخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه مجاهيل عن عمار بن ياسر قال وقف على على بن أبى طالب سائل وهو راكع فى تطوع ونزع خاتمه وأعطاه السائل فنزلت انما وليكم اللّه ورسوله الآية وله شواهد قال عبد الرزاق بن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس فى قوله تعالى انما وليكم اللّه قال نزلت فى على ابن أبى طالب وروى ابن مردويه عن وجه اخر عن ابن عباس مثله واخرج أيضا عن على مثله واخرج ابن جرير عن مجاهد وابن أبى حاتم عن سلمة بن كهيل مثله وروى الثعلبي عن أبى ذر والحاكم فى علوم الحديث عن على رض(1/1988)
فهذه شواهد يقوى بعضها بعضا وهذه القصة تدل على ان العمل القليل فى الصلاة لا يبطلها وعليه انعقد الإجماع وعلى ان صدقة التطوع تسمى زكوة ونزول هذه الآية فى على رض لا يقتضى تخصيص الحكم به لان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص المورد كما يدل عليه صيغة الجمع ولعل ذكر
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 133(1/1989)
الركوع هاهنا على سبيل التمثيل وعلى مقتضى الحادثة الواردة فيه والمراد منه يؤتون الزكوة فورا على السؤال بلا مهلة وقال البيضاوي ان صح انه نزل فى على رض فلعله جيئى بلفظ الجمع ليرغب الناس فى مثل فعله فيندرجوا فيه قلت ولو كان المراد به على رض فالحصر المستفاد بانما على قول البصريين حصر إضافي بالنسبة إلى اليهود والنصارى دون المؤمنين كما فى قوله تعالى وما محمّد الا رسول وذكر البغوي انه روى عن ابن عباس انها نزلت فى عبادة ابن الصامت رضى اللّه عنه وعبد اللّه بن أبى ابن سلول حين تبرّأ عبادة من اليهود وقال أتولى اللّه ورسوله والذين أمنوا فنزل فيهم من قوله يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى اولياء إلى قوله انما وليكم اللّه ورسوله والذين أمنوا الآية يعنى عبادة وسائر اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال جاء عبد اللّه بن سلام إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ان قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا واقسموا ان لا يجالسونا فنزلت هذه الآية فقال رضينا باللّه وبرسوله وبالمؤمنين اولياء وقال جويبر عن الضحاك فى قوله تعالى انما وليكم اللّه ورسوله والذين أمنوا قال هم المؤمنون بعضهم اولياء بعض وقال أبو جعفر محمد بن على الباقر رضى اللّه عنهما نزلت فى المؤمنين فقيل له ان ناسا يقولون انها نزلت فى على ابن أبى طالب رض فقال هو من المؤمنين رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو نعيم فى الحلية وروى عن عكرمة انها نزلت فى أبى بكر رض قال البغوي وعلى هذه الروايات أراد بقوله وهم راكعون مصلون صلوة التطوع باليل والنهار.(1/1990)
وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا قال ابن عباس يريد المهاجرين والأنصار يعنى من يتخذهم اولياء فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ تقديره فانهم هم الغالبون وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه كأنَّه قيل ومن يتول هؤلاء فهم حزب اللّه وحزب اللّه هم الغالبون ينتج فهم هم الغالبون وتنويها بذكرهم وتعظيما لشانهم وتشريفا لهم بهذه الاسم وتعريضا لمن تولى غير هؤلاء بانهم حزب الشيطان فى القاموس الحزب بالكسر الورد والطائفة والسلاح وجند الرجل وأصحابه الذين على رايه قلت وهذا هو المراد هاهنا قال البيضاوي الحزب القوم يجتمعون لامر حزبه فى القاموس حزبه الأمر يعنى نابه واشتد عليه احتجت الروافض بهذه الآية على انحصار الخلافة فى على رض قالوا المراد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 134(1/1991)
بالولى المتولى لامور المسلمين والمستحق للتصرف فيهم فاللّه سبحانه كما اثبت الولاية لنفسه وللرسول اثبت لعلى رض وذكر بكلمة انما للحصر ولا شك ان ولاية اللّه والرسول عامة فكذلك ولاية على وهو الامام دون غيره واحتجوا بحديث البراء بن عازب وزيد ابن أرقم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل بغدير خم أخذ بيد على فقال أ لستم تعلمون انى اولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا بلى قال أ لستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن من نفسه قالوا بلى فقال اللهم من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فلقيه عمر بعد ذلك فقال له هنيئا يا ابن أبى طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة رواه احمد وغيره وقد بلغ هذا الحديث مبلغ التواتر رواه جمع من المحدثين فى الصحاح والسنن والمسانيد برواية نحو من ثلثين من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم على بن أبى طالب وبريدة بن حصيب وأبو أيوب وعمرو ابن مرة وأبو هريرة وابن عباس وعمار بن بريدة وسعد بن وقاص وابن عمر وانس وجرير بن مالك بن الحويرث وأبو سعيد الخدري وطلحة وأبو الطفيل وحذيفة بن أسيد وغيرهم وفى بعض الروايات من كنت اولى به من نفسه فعلى وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قالت الروافض هذا الحديث حديث غدير خم نص جلى فى خلافة على رض وعن عمران بن حصين ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان عليا منى وانا منه وهو ولى كل مؤمن رواه الترمذي وابن أبى شيبة وهذين الحديثين اولى بالاحتجاج من الآية لأنه نص محكم فى وجوب ولاية على رض غير شامل لغيره بخلاف الآية فانها على تقدير صحة نزولها فى على شاملة لجميع المؤمنين فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن استدلال الروافض بالحديثين والآية على نفى خلافة غيره باطل فان الولي والمولى مشتقان من الولي بمعنى القرب والدنو قال فى القاموس الولي اسم من الولي ويقال الولي للمحب و(1/1992)
الصديق والنصير وفى الصحاح الولاء والتوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما ويستعار ذلك للقرب من حيث المكان ومن حيث النسبة ومن حيث الدين ومن حيث الصداقة والنصرة والاعتقاد والولاية والنصرة ويطلق أيضا على تولى الأمر وفى القاموس المولى المالك والعبد والمعتق والمعتق على البناء للفاعل والمفعول والصاحب والقريب كابن العم ونحوه والجار والحليف وابن العم والنزيل والشريك وابن الاخت والولي والرب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 135
و الناصر والمنعم والمنعم عليه والمحب والتابع والصديق وقد ورد فى القرآن ونسبة المحبة والقرب التي بين العبد واللّه سبحانه يطلق عليه الولاية ويطلق الولي على المؤمن فيقال ولى اللّه وعلى اللّه فيقال اللّه ولى الذين أمنوا واطلق المولى فى القرآن على اللّه سبحانه حيث قال نعم المولى ونعم النصير وعلى العباد فيما بينهم أيضا حيث قال ان اللّه هو موليه وجبريل وصالح المؤمنين فهذه الآية وهذه الأحاديث لا يدل شىء منها على خلافة على فضلا عن نفى خلافة غيره بل انما يدل الآية على استحقاق محبته والحديث على وجوب محبته وحرمة عداوته كما يدل الآية على حرمة ولاية اليهود والنصارى اعنى محبتهم ومناصرتهم أخرج أبو نعيم المدائنى عن الحسن المثنى بن(1/1993)
الحسن المجتبى انه لما قيل له ان خبر من كنت مولاه نص فى امامة على قال اما واللّه لو يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك الامامة والسلطان لافصح لهم فانه صلى اللّه عليه وسلم كان افصح الناس للمسلمين وكان سبب خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم بغدير خم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث عليا إلى اليمن امير العسكر فتسرى جارية من الخمس وشكى بذلك بعض الناس فغضب النبي صلى اللّه عليه وسلم لاجل شكايته وقال ما تريدون من رجل يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله وخطب تلك الخطبة ليتمكن محبة على فى قلوب المؤمنين ويزول شكايتهم وقوله صلى اللّه عليه وسلم أ لستم تعلمون انى اولى بكل مؤمن الغرض منه تنبيه المسلمين على وجوب امتثال امره فى محبة على رض وكذا دعائه صلى اللّه عليه وسلم فى اخر الحديث للتاكيد فى محبته قلت وهذه الآية تدل على ابطال مذهب الروافض بوجهين أحدهما ان قوله تعالى اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون فى سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم يستاصل بنيان التقية التي عليها بناء مذهبهم فان عليا رض تابع الخلفاء الثلاثة وصلى معهم وجاهد معهم إلى ثلث وعشرين سنة وانكح ابنته عمر رض فان كان ذلك بالتقية خوفا من الناس لا يكون على داخلا فى حكم هذه الآية ولا مجال بهذه القول الباطل الا للروافض خذلهم اللّه واللّه اعلم وثانيهما ان قوله تعالى فان حزب اللّه هم الغالبون يدل على ان الفرقة الناجية ليست الا أهل السنة والجماعة دون الروافض وغيرهم من أهل الأهواء لبداهة غلبة أهل السنة فى القرون والأمصار بل الروافض يعترفون بذلك حيث قالوا ان عليا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 136(1/1994)
كان مع الخلفاء الثلاثة تقية مقهورا مغلوبا والائمة بعده لم يظهروا دينهم خوفا وعلّموا أصحابهم دينهم خفية ويأمرونهم بالإخفاء ويقولون للجدر أذان كذا رووا عن الباقر والصادق فى كتبهم وقالوا صاحب الأمر اختفى فى سرد دابة سر من راى نحوا من الف سنة واللّه اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد اظهر الإسلام نفاقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فانزل اللّه تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ إلى قوله تكتمون هُزُواً وَلَعِباً مهزوا به وملعوبا حيث يظهرون الايمان ويضمرون الكفر رتب النهى عن موالاتهم على استهزائهم أيماء إلى علة النهى من باب ترتب الحكم على العلة وتنبيها على ان هذا الوصف يوجب المعادات فكيف يجوز موالاتهم مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعنى اليهود وَالْكُفَّارَ يعنى المشركين يؤيده قراءة ابن مسعود ومن الذين أشركوا قرأ أبو عمرو والكسائي بالجر عطفا على الموصول الثاني والباقون بالنصب عطفا على الموصول الأول عبّر المشركين بالكفار لتضاعف كفرهم وجاز ان يكون المراد بالكفار أعم من أهل الكتاب واهل الشرك فهو تعميم بعد تخصيص على قراءة النصب تنبيها على ان الاستهزاء والكفر كلواحد منهما يقتضى المعادات ويمنع الموالاة أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان الايمان باللّه وبوعده ووعيده يوجب التقوى عن المناهي المقتضية للوعيد قال الكلبي كان منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا نادى للصلوة وقام المسلمون إليها قالت اليهود قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا على طريق الاستهزاء وضحكوا فانزل اللّه عز وجل.(1/1995)
وَ إِذا نادَيْتُمْ عطف على اتخذوا دينكم يعنى لا تتخذوا الذين إذا ناديتم إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها يعنى الصلاة أو المناداة هُزُواً وَلَعِباً أخرج ابن أبى حاتم عن السدى ان نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول اشهد ان محمدا رسول اللّه قال احرق اللّه الكاذب فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو واهله ينام فتطائرت منها شرارة فاحترق هو واهله قيل ان الكفار لما اسمعوا الاذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد لقد أبدعت شيئا لم يسمع به فيما مضى من الأمم فان كنت تدعى النبوة فقد خالفت فيما أحدثت الأنبياء قبلك ولو كان فيه خيرا لكان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 137(1/1996)
اولى الناس به الأنبياء فمن اين ذلك صياح كصياح العنز فما أقبح من صوت وما استبهج من امر فانزل اللّه تعالى ومن احسن قولا ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحا وانزل اللّه هذه الآية ذلِكَ الاستهزاء بالحق بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فان مقتضى العقل ترك الاستهزاء والتأمل فى حسن الشيء وقبحه وفى هذه الآية دليل على ان الكافرين مع كونهم عاقلين فى امور الدنيا كما يشهده البداهة لا يعقلون شيئا من امور الدين وبهذا يظهر ان صرف الحواس والعقل والنظر فى المقدمات ليست علة موجبة لحصول العلم بالمطالب كما يزعمه الفلاسفة بل هو امر عادى يخلق اللّه العلم بعد النظر ان شاء واللّه اعلم روى ابن جرير عن ابن عباس قال اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن اخطب ورافع بن أبى رافع وعارى بن عمرو فسألوه عمن يؤمن به من الرسل قال أو من باللّه وما انزل إلى ابراهيم واسمعيل واسحق ويعقوب والأسباط وما اوتى موسى وعيسى وما اوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا لا نؤمن بعيسى ولا بمن أمن به وفى رواية قالوا واللّه ما نعلم أهل الكتاب اقل حظّا فى الدنيا والاخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم فانزل اللّه تعالى.(1/1997)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ قرأ الكسائي بإدغام لام هل وبل فى التاء كما فى هذه الآية وقوله تعالى هل تعلم والثاء والسين والزاء والطا والضاد والنون نحو هل ثوب وبل سولت وبل زين وبل طبع وبل ظننتم وبل ضلوا وهل ندلكم وهل ننبئكم وهل نحن وشبهه وادغم حمزة فى التاء والثاء والسين فقط واختلف عن خلاد عند الطاء فى قوله بل طبع وادغم أبو عمرو هل ترى من فطور فهل ترى لهم فى الملك والحاقة لا غير واظهر الباقون عند اليمانية والاستفهام للانكار بمعنى النفي والنقمة العيب المنكر المكروه والأسقام مكافاته ومعنى ما تنقمون ما تنكرن وتكرهون وتعيبون مِنَّا أى من اعمالنا وصفاتنا شيئا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ يعنى الا ايمانا باللّه وبكل ما انزل اللّه من الكتب وذلك هو الحسن البين حسنه وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ الواو للحال من فاعل هل تنقمون يعنى لا تكرهون الا أيماننا والحال ان أكثركم فاسقون أى كافرون فمالكم لا تعلمون انكم على أقبح الصفات من انكار الكتب السماوية ونحن على أحسنها ومع ذلك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 138(1/1998)
تكرهون الحسن ولا تكرهون القبيح أو هى للعطف على ان أمنا وكان المستثنى لازم الامرين وهو المخالفة يعنى لا تنكرون منا الا مخالفتكم حيث دخلنا فى الايمان وأنتم خارجون عنه أو كان تقديره واعتقاد انّ أكثركم فاسقون فحذف المضاف أو على علة أمنا بتقدير فعل منصوب يعنى الا ان أمنا واعتقدنا ان أكثركم فاسقون أو هو معطوف على علة محذوفة والتقدير هل تنقمون منا الا ان أمنا لعدم اتصافكم ولان أكثركم فاسقون فهو منصوب بنزع اللام الخافض أو منصوب بإضمار فعل دل عليه هل تنقمون أى ولا تنقمون ان أكثركم فاسقون أو هى بمعنى مع يعنى هل تنقمون الا ان أمنا مع ان أكثركم فاسقون قيل لا يتم هذا على ظاهر كلام النحاة حيث يشترطون فى المفعول معه المصاحبة فى معمولية الفعل ويتم على مذهب الأخفش حيث اكتفى فى المفعول معه المقارنة فى الوجود مطلقا قلنا الاشتراط فى المفعول معه لا يوجب ان يشترط فى كل واو بمعنى مع فليكن الواو بمعنى مع للعطف ولا يكون مفعولا معه عند النحاة لانتفاء شرطه ويكون عند الأخفش وجاز ان يكون مجرورا معطوفا على ما يعنى ما تنقمون منا الا الايمان باللّه وبما انزل وبان أكثركم فاسقون وجاز ان يكون مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف تقديره ومعلوم عندكم ان أكثركم فاسقون لكن حب الرياسة والمال يمنعكم عن الانصاف وجاز ان يكون تقدير الكلام وما تنقمون منا شيئا لشئ الا لان أمنا ولان أكثركم فاسقون يعنى علة انكار شىء تنكرونه منا ليس الا المخالفة فى الدين.(1/1999)
قُلْ يا محمد لمعشر اليهود هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ المتقوم المكروه عندكم مَثُوبَةً جزاء وهى مختصة بالخير كالعقوبة بالشر وضعت هاهنا موضع العقوبة استهزاء بهم كقوله تعالى بشّرهم بعذاب اليم والمثوبة منصوب على التميز عن بشر قال البغوي لما كان قول اليهود لم نر أهل دين اقل خطا فى الدنيا والاخرة ولا دينا شرا من دينكم فذكر الجواب بلفظ الابتداء وان لم يكن الابتداء شراكما فى قوله تعالى أ أنبئكم بشر من ذلكم النار عِنْدَ اللَّهِ متعلق بشر مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ بدل من شر على حذف المضاف هاهنا أو فيما قبل تقديره بشر من ذلك دين من لعنه اللّه أو بشر من أهل ذلك من لعنه اللّه أو خبر مبتدأ محذوف على حذف مضاف أيضا تقديره هو دين من لعنة اللّه وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فالقردة اصحاب السبت والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السّلام وروى عن على بن أبى طلحة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 139(1/2000)
عن ابن عباس ان المسخين كلاهما فى اصحاب السبت فشبّانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ قرأ حمزة عبد بضم الباء والطاغوت بكسر التاء على الاضافة عطفا على القردة وعبد بضم الباء قيل مفرد كعبد بسكون الباء وهما لغتان كسبع وسبع وقيل هو اسم موضوع للمبالغة كحذر وفطن للبليغ فى الحذر والفطانة وقيل هو جمع عبد ذكره فى القاموس من صيغ الجمع كندس وقيل أصله عبدة فحذف التاء للاضافة تحرزا عن اجتماع الزيادتين من التاء والاضافة مثل أخلفوك عد الأمر الذي وعدوا أى عدة الأمر وقرأ الباقون بفتح الباء على الماضي ونصب الطاغوت عطفا على صلة من والمراد بالطاغوت اما العجل استعير له من الشيطان بجامع المعبودية الباطلة أو المراد الشيطان فان عبادتهم العجل كان بتزيين الشيطان وقيل المراد به الكهنة وكل من أطاعوه فى معصية اللّه أُولئِكَ ملعونون شَرٌّ مَكاناً من كل شرير جعل مكانهم شرا ليكون ابلغ فى الدلالة على شرارتهم وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ من كل ضال عن السبيل السوي ونزلت فى المنافقين قوله تعالى.
وَإِذا جاؤُكُمْ يعنى المنافقين قالُوا آمَنَّا بك وهم يسرّون الكفر وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ الجملتان حالان من فاعل قالوا وبالكفر وبه حالان من فاعلى دخلوا وخرجوا يعنى قالوا أمنا بك والحال انهم كاذبون فى هذا القول وقد دخلوا عندك متلبسين بالكفر وخرجوا لذلك لم يوثر فيهم ما سمعوا منك وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ فيه وعيد لهم بالفضيحة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة.(1/2001)
وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود أو من المنافقين يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قيل الإثم المعاصي والعدوان الظلم وقيل الإثم ما كتموا من التوراة والعدوان ما زادوا فيها وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام خصه بالذكر للمبالغة فى الذم فان أكلهم الرشى منعهم عن الايمان بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وبعثهم على تحريف التوراة والكذب على اللّه وصد غيرهم عن الايمان لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى لبئس شيئا بما يعملونه وصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم بسوء الاعتقاد ليستدل بها على نفاقهم.
لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ يعنى العلماء قيل الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود تخصيص لعلمائهم عن النهى عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعنى الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ الحرام وفيه كمال توبيخ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 140
عليهم حيث كان منصبهم النهى عن المنكر وهم يأمرون به ويفعلونه لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ هذا ابلغ مما سبق فان الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتعود وتحرى اجادة ولذلك ذم به خواصهم ذكر فى المدارك انه روى عن ابن عباس هى أشد اية فى القرآن حيث انزل تارك النهى عن المنكر منزلة مرتكب المنكر فى الوعيد بل ابلغ منه قال البيضاوي ترك الحسنة أقبح من الوقوع فى المعصية لان النفس يلتذ بها وتميل إليها ولا كذلك فى ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.(1/2002)
وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة ان اللّه تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من اكثر الناس مالا واخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه فى محمد صلى اللّه عليه وسلم وكذبوه كف اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك نسبوه إلى البخل وقال فنحاص بن عازورا راس يهود قينقاع يد اللّه مغلولة أى محبوسة مقبوضة عن الرزق كذا أخرج أبو الشيخ ابن حبان فى تفسيره عن ابن عباس واخرج الطبراني عن ابن عباس قال قال رجل من اليهود يقال له النباش بن قيس ان ربك بخيل لا ينفق فانزل اللّه تعالى هذه الآية قيل انما قال هذه المقالة فنحاص أو النباش ولكن لما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله اشركهم اللّه فى نسبة القول إليهم وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ومنه قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة أو بغل الأيدي حقيقة بالأسر فى الدنيا أو بالاغلال فى أعناقهم والسلاسل فى نار جهنم وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يد اللّه صفة من صفاته تعالى كالسمع والبصر والوجه لا يدرى كنهها الا اللّه تعالى ولا تذهب نفسك إلى الجارحة وتكيّفها ويجب على العباد الايمان بها والتسليم قال ائمة السلف من أهل السنة فى هذه الصفات امرّوا كما جاءت بلا كيف عن عمرو بن عنبسة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين رجال ليسوا بانبياء ولا شهداء يغشى بياض وجوههم نظر الناظرين يغبطهم النبيون والشهداء بمقعدهم وقربهم من اللّه قيل يا رسول اللّه ومن هم قال جمّاع « 1 » من نزاع القبائل يجتمعون على ذكر اللّه فيبتغون
_________
(1) أى جماعات نزاع القابل جمع نازع ونزيع وهو القريب الذي نزع من اهله وعشيرته أى بعد وغاب نهاية(1/2003)
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 141
اطائب الكلام كما ينبغى أكل « 1 » أطائبه رواه الطبراني بسند جيد والمتأخرون يؤلونه بما يليق به تعالى من القدرة ونحوها قالوا بسط اليدين كناية عن الجود وثنى اليد مبالغة فى الرد ونفى البخل عنه واثباتا لغاية الجود فان غاية ما يبذله السخي من ماله ان يعطيه بيديه وتنبيها على منح الدنيا والاخرة وعلى ما يعطى للاستدراج وما يعطى للاكرام يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ يوسع تارة ويضيق اخرى على مقتضى حكمته والجملة تأكيد للجود ودفع لتوهم البخل عند التضيق وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً كما ان الغذاء الصالح يزيد للصحيح قوة وللمريض مرضا وضعفا كذلك القرآن لفساد بواطنهم يزيد هو طغيانا وكفرا قيل معناه انه كلما نزلت اية كفروا بها فازدادوا طغيانا وكفرا وقيل انهم عند نزول القرآن يحسدون ويتمادون فى الجحود فاسند الفعل إلى السبب البعيد مجازا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى بين اليهود « 2 » والنصارى قال الحسن ومجاهد وقيل بين طوائف اليهود جعلهم اللّه مختلفين فى دينهم فلا يتوافق قلوبهم ولا يتطابق
_________
(1) المراد به الصوفية العلية أهل الخانقاهات وطلبة العلم أهل المدارس 12 منه
((1/2004)
2) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تفرقت أمة موسى على احدى وسبعين ملة سبعون منها فى النار وواحدة فى الجنة وتفرقت أمة عيسى ع على اثنتين وسبعين ملة واحدة منها فى الجنة واحدى وسبعون فى النار وستفرق أمتي على ثلث وسبعين ملة واحدة فى الجنة وثنتان وسبعون فى النار قالوا من هم يا رسول اللّه قال الجماعات الجماعات رواه ابن مردويه من طريق يعقوب بن زيد بن طلحه عن زيد بن اسلم عن انس وقال يعقوب بن زيد كان على ابن أبى طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلا فيه قرانا قال ولو ان أهل الكتاب أمنوا واتقوا إلى قوله ساء ما كانوا يعملون قال العبد الضعيف ثناء اللّه يعنى على رض ان الفرقة الناجية المتمسكون بكتاب اللّه ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ذلك عند ذهاب العلم قال زياد بن لبيد كيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرأه أبنائنا ويقرأه أبناء أبنائنا أبنائهم إلى يوم القيامة قال ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ان كنت لاراك من افقه رجل بالمدينة أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤن التورية والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشىء رواه عن لبيد وروى ابن جرير عن جبير بن نفير وفيه ثم قرأ ولو انهم أقاموا التورية والإنجيل الآية 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 142(1/2005)
أقوالهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ ظرف مستقر صفة لنار أو لغو متعلق باوقدوا أَطْفَأَهَا اللَّهُ قال الحسن معناه كلما أرادوا حرب الرسول صلى اللّه عليه وسلم واثارة شر عليه أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه وقال قتادة هذا عام فى كل حرب طلبته اليهود وذلك انهم أفسدوا وخالفوا حكم التورية فبعث اللّه عليهم ضطنوس الرومي ثم أفسدوا فسلطا للّه عليهم المجوس ثم أفسدوا فبعث اللّه المسلمين فلا تلقى اليهود فى بلد الا وجدتهم اذلّ الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أى للفساد أو مفسدين وهو اجتهادهم فى اثارة الحروب والفتن وجاز ان يكون يسعون بمعنى يطلبون وفسادا منصوبا على المفعولية يعنى يطلبون الفساد والكفر ويجتهدون فى محو دين الإسلام وذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم من كتبهم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم الأشرار.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا محمد صلى اللّه عليه وسلم وبالقران وَاتَّقَوْا الكفر والمعاصي لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها قبل ذلك وان جلت عن عمرو بن العاص قال أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقلت ابسط يمينك فلا بايعك فبسط يمينه فقبضت يدى فقال مالك يا عمرو قلت أردت ان اشترط قال تشترط ماذا قلت ان يغفر لى قال اما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله رواه مسلم وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ فان دخول الجنة مشروط بالايمان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي يهودى ولا نصرانى ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به الا كان من اصحاب النار رواه مسلم من حديث أبى هريرة.(1/2006)
وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعنى أقاموا حدودها وأحكامها وعملوا بما فيها ولم يحرفوها ولم يكتموها ومن جملة إقامتها ان يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبينوا ما وصفه اللّه تعالى فى التورية وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعنى القرآن والزبور وسائر الكتب السماوية فانهم مكلفون بالايمان بجميع الكتب فهى كالمنزل إليهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ قال الفراء أراد به كمال التوسعة فى الرزق كما يقال فلان فى الخير من القرن إلى القدم وقال ابن عباس لا نزلت عليهم المطر من فوقهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 143
و أخرجت بنات الأرض من تحتهم نظيره قوله تعالى ولو ان أهل القرى أمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض والحاصل ان ما كف اللّه عنهم من الرزق بشوم كفرهم ومعاصيهم لا لبخل به تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ عادلة غير غالية ولا مقتصرة وهم عبد اللّه بن سلام وأشباهه مؤمنوا أهل الكتاب وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ 4 أى ساء ما يعملونه أو ساء شيئا عملهم وهى المعاندة وتحريف كتاب اللّه عز وجل والاعراض عنه والافراط فى عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم واللّه اعلم أخرج أبو الشيخ عن الحسن ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه بعثني برسالته فضقت بها ذرعا وعرفت ان الناس مكذبى فوعدنى لا بلغن أو ليعذبنى فنزلت.(1/2007)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى كل شىء انزل إليك لا يفوت منه شىء غير منتظر مضرتك ولا خائف من أحد مكروها روى عن مسروق قال قالت عائشة من حدثك ان محمدا كتم شيئا مما انزل اللّه فقد كذب وهو يقول يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وقيل بلغ ما انزل من الرجم والقصاص نزلت فى قصة يهود وقيل نزلت فى امر زينب بنت جحش ونكاحها « 1 » وقيل نزلت فى
_________
((1/2008)
1) واخرج ابن أبى حاتم وابن مردوية وابن عساكر عن أبى سعيد الخدري قال نزلت هذه الآية يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك يوم غدير خم فى على بن أبى طالب واخرج ابن مردوية عن ابن مسعود قال كنا نقرأ على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك ان عليا مولى المؤمنين وان لم تفعل فما بلغت رسالته واللّه يعصمك من الناس ليكن هذه الرواية التي تدل على نزول الآية يوم غدير خم يأباه النقل والعقل وسوق هذه الآية بل سياق تمام السورة - اما النقل فاصح الروايات ما رواه البخاري عن عائشة رضى اللّه عنها تقول كان النبي صلى اللّه عليه وسلم سهرا فلما قدم المدينة الحديث ويطابقه ما أخرج الترمذي والحاكم عن عائشة وما أخرج الطبراني عن أبى سعيد الخدري فان هذه الروايات تدل على نزول الآية فى غزوة الخندق - واما اباء العقل فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين نزل غدير خم لم يكن شيئا من التبليغ باقيا فى ذمته بل قد تم قبل ذلك ونزل يوم عرفة فى حجة الوداع اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينا فكيف يقال له بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته ولم يكن حينئذ فى جزيرة العرب مشرك فكيف يقال له واللّه يعصمك من الناس ان اللّه لا يهدى القوم الكافرين - وأيضا قبل هذه الآية وبعد هذه الآية مخاطبات فى شان اليهود والنصارى من قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ هم قوم ان يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم الآية فالظاهر ان المراد بالتبليغ اية الرجم والقصاص التي نزلت فى قصة اليهود كما رواه أبو الشيخ عن الحسن وبعد هذه الآية قال اللّه تعالى يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التورية والإنجيل الآية 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 144(1/2009)
الجهاد وذلك ان المنافقين كرهوه كما قال اللّه تعالى فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رايت الذين فى قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشى عليه من الموت وكرهه بعض المؤمنين قال اللّه تعالى الم تر إلى الذين قيل لهم كفوا ايديكم الآية وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمسك من الحث على الجهاد لما علم من كراهية بعضهم فانزل اللّه هذه الآية واخرج ابن أبى حاتم عن مجاهد قال لما نزلت يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك قال يا رب كيف اصنع وانا وحدي يجتمعون على فنزلت وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الآية قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر ويعقوب رسالاته على الجمع والباقون رسالته على التوحيد يعنى ان لم تفعل تبليغ كل شىء وتركت بعضه فكانما ما بلغت شيئا من رسالاته لان كتمان بعضها يضيع ما ادى منها كترك بعض اركان الصلاة وذلك لان ترك تبليغ البعض يستلزم كفر الناس بذلك البعض وانكارهم كونه من اللّه تعالى والايمان ببعض الكتاب مع الكفر بالبعض لا يعد ايمانا كقول اليهود نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض أو لان كتمان البعض يستجلب العقاب مثل كتمان الكل نظيره قوله تعالى فكانما قتل الناس جميعا وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فلا تخفهم فى التبليغ وان كنت وحدك لا يستطيعون قتلك فلا يرد ان يقال انه صلى اللّه عليه وسلم قد شج راسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى وقيل نزلت هذه الآية بعد ماشج راسه لان سورة المائدة من اخر القرآن نزولا واخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية واللّه يعصمك من الناس فاخرج راسه من القبة فقال يا أيها الناس انصرفوا فقد اعصمنا اللّه فى هذا الحديث انها ليلية فراشية وروى البخاري عن عائشة تقول كان النبي صلى اللّه عليه وسلم سهرا فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسنى الليلة إذ سمعنا صوت(1/2010)
سلاح فقال من هذا قال انا سعد بن أبى وقاص جئت لاحرسك ونام النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 145
و أخرج الطبراني عن أبى سعيد الخدري قال كان العباس عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت واللّه يعصمك من الناس ترك الحرس واخرج أيضا عن عصمة بن مالك الحطمى قال كنا نحرس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالليل حتى نزلت واللّه يعصمك من الناس فترك الحرس واخرج ابن حبان فى صحيحه عن أبى هريرة قال كنا إذا صحبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى سفر تركنا أعظم شجر وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من يمنعك منى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللّه يمنعنى منك ضع السيف فوضعه فنزلت واللّه يعصمك من الناس قال البغوي وروى محمد بن كعب القرظي عن أبى هريرة نحوه وفيه فرعدت يد الاعرابى وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتشر دماغه فانزل اللّه عز وجل هذه الآية واخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد اللّه قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنى انمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على راس بير قد دلى رجليه فقال الوارث من بنى النجار لاقتلن محمدا فقال له أصحابه كيف تقتله قال أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته فاتاه فقال يا محمد أعطني سيفك أشمه فاعطاه إياه فرعدت يده فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حال بينى وبينك ما تريد فانزل اللّه يا أيها الرسول بلغ الآية وروى البخاري نحو هذه القصة وليس فيها ذكر نزول الآية ومن غريب ما ورد فى سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحرس وكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجلا من بنى هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية فاراد عمه ان يرسل معه من يحرسه فقال يا عم ان اللّه عصمنى من الجن و(1/2011)
الانس واخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه نحوه وهذا يقتضى ان الآية مكية والظاهر خلافه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أى لا يمكنهم ما يريدون
من قتلك ومحو دين الإسلام قال البغوي دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اليهود إلى الإسلام فقالوا اسلمنا قبلك وجعلوا يستهزءون به فيقولون تريد ان نتخذك حنانا كما اتخذ النصارى عيسى حنانا فلما رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك سكت فنزلت يا أيها الرسول بلغ الآية وامره ان يقول يا أهل الكتاب لستم على شىء الآية وروى ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال جاء رافع وسلام بن مشكم ومالك بن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 146
الضيف فقالوا يا محمد الست تزعم انك على ملة ابراهيم ودينه وتؤمن بما عنده قال بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم بما فيها وكتمتم ما أمرتم ان تبينوه للناس قالوا فانا ناخذ بما فى أيدينا فانا على الهدى والحق فانزل اللّه تعالى.(1/2012)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ أى على دين معتد به عند اللّه أو يقال إذا لم يكن دينهم معتدا به عند اللّه تعالى والدين كالصلوة له وجود اعتباري باعتبار الشرع لا وجود له سواه كان باطلا فصدق لستم على شىء من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ومن إقامتها الايمان بما فيها من اصول الدين ومنها الايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران والعمل بمقتضاها من بيان نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وفى فروع الايمان الأعمال المأمورة فى التورية ما لم يثبت نسخها وبعد النسخ العمل بالناسخ مما انزل اللّه وهذه الآية تدل على وجوب العمل بالشرائع المتقدمة وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى القرآن طُغْياناً وَكُفْراً وقد مر شرحه فَلا تَأْسَ فلا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ لزيادة طغيانهم ترحّما عليهم ولا خوفا من شرهم.(1/2013)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ قد مر تفسير هذه الآية فى سورة البقرة بقي الكلام فى رفع الصابئين وكان حقه والصابئين فذهب الكوفيون إلى انه يجوز للعطف على اسم ان بالرفع نظرا إلى محله من غير اشتراط مضى الخبر فان ان عندهم لا تعمل الا فى الاسم وعند الكسائي والمبرد يجوز ذلك ان كان اسم ان مبنيا لعدم ظهور عملها فيه فكانها لم تعمل فلا إشكال على مذهب هؤلاء وعند البصريين لا يجوز ذلك من غير مضى الخبر كيلا يجتمع العاملان فى الخبران ومعنى الابتداء فاحتاجوا إلى تكلف فقال سيبويه هو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف والنية فيه التأخير تقديره ان الذين أمنوا والذين هادوا وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والصابئون كذلك وهذه الجملة انما قدمت من مقامها لتدل على ان الصابئين مع ظهور ضلالتهم وميلهم عن الأديان كلها يغفر لهم ويثاب عليهم ان صح ايمانهم وعملوا صالحا فغيرهم اولى بذلك وجاز ان يكون والنصارى أيضا مرفوعا عطفا على الصابئون وما بعدهما خبرهما وخبران
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 147
مقدرة دل عليه ما بعده كقول الشاعر نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف وجاز ان يكون الصابئون معطوفا على الموصول مع الصلة بحذف الموصول وصدر الصلة تقديره والذين هم الصابئون وقيل ان بمعنى نعم وما بعدها فى موضع الرفع على الابتداء وقيل والصابئون منصوب بالفتحة وذلك كما جوز بالياء جوز بالواو.(1/2014)
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ فى التورية بالتوحيد والعمل بما فيها والايمان بالأنبياء كلهم وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكروهم وليبينوا لهم امر دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فى هذا الكلام دلالة على انهم خالفوا التورية ونقضوا المواثيق فكلما جاءهم رسول بما فى التورية مخالفا لهواهم فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا ولم يقتلوه وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ بعد تكذيبهم هذا جواب الشرط والجملة الشرطية صفة رسلا والعائد محذوف أى كلما جاءهم رسول منهم وقيل الجواب محذوف والشرطية مستانفة وانما جئ بيقتلون موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها واستعظاما للقتل وتنبيها على ان هذا ديدنهم ماضيا ومستقبلا ومحافظة على رؤس الآي أو المراد انهم يريدون قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم يحاربونه ويجعلون فى طعامه سما ويسحرونه.
وَحَسِبُوا يعنى بنى إسرائيل أَلَّا تَكُونَ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالرفع على ان هى المخففة من الثقيلة والحسبان نزل منزلة العلم لتمكنه فى قلوبهم تقديره انه لا تكون وان بما فى حيزها ساد مسد مفعوليه والباقون بالنصب على انه مصدرية وكان تامة فاعله فِتْنَةٌ أى لا تصيبهم عذاب وبلاء بقتل الأنبياء وتكذيبهم فَعَمُوا عن الدين والدلائل وَصَمُّوا عن استماع الحق لاجل حسبانهم الباطل بعد موسى عليه السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا وأمنوا بعيسى عليه السلام ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة اخرى بعد عيسى عليه السلام وكفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير أو فاعل والواو علامة الجمع كقولهم أكلوني البراغيث أو خبر مبتدأ محذوف أى أولئك كثير منهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على حسب أعمالهم.(1/2015)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ يعنى الملكائية واليعقوبية منهم زعموا بالحلول والاتحاد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 148
وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعنى مربوب مثلكم ولا يمكن اتحاد الرب مع المربوب وحلوله فيه إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أى بمرتبة التنزيه الصرف غيره فى استحقاق العبادة أو فى وجوب الوجود أو فيما يختص به من الصفات والافعال فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي أعدت للموحدين المتقين يعنى جعل دخولها عليه ممتنعا بالغير وَمَأْواهُ النَّارُ التي أعدت للمشركين وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ وضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على انهم ظلموا أنفسهم ومن زائدة يعنى ما لهم ناصر وذكر الأنصار موضع ناصر مبنى على زعمهم ان لهم أنصارا كثيرة تهكما بهم وقيل فيه اشارة إلى انه لا بد لهم جمع كثير ينصرهم وليس لهم ذلك وقوله انه من يشرك باللّه إلى آخره يحتمل ان يكون من كلام اللّه تعالى وان يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام اخبر اللّه تعالى بذلك حكاية عنه تنبيها على انهم قالوا ما قالوا تعظيما لعيسى عليه السّلام وتقربا إليه فى زعمهم وهو يخاصمهم فيه ويعاديهم بذلك فما ظنك لغيره.(1/2016)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أى ثالث الهة ثلاثة يعنى المرقوسية والنسطورية القائلون بالأقانيم الثلاثة قيل المراد بالثلاثة اللّه يعنى مرتبة الذات وعيسى وهو عبارة عن صفة العلم على زعمهم وجبرئيل وهو عبارة عن صفة الحيوة على زعمهم وقيل الثلاثة هو اللّه وعيسى ومريم كما يدل عليه قوله تعالى للمسيح أ أنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون اللّه وَما مِنْ إِلهٍ من مزيدة للاستغراق واله فى محل الرفع على انه اسم ما وخبره محذوف أى ما اله فى الوجود أى ما فى الوجود والإمكان العام اله واجب وجوده مستحق للعبادة من حيث وجوب وجوده وكونه مبدأ لوجود كل موجود يغائره إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة لا فى ذاته وماهيته ولا فى شىء من صفاته وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من كلمات الشرك ولم يوحدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من للبيان أو للتبعيض بناء على ان الذين داموا على الكفر بعض منهم ووضع المظهر موضع المضمر تكريرا للشهادة على كفرهم وتنبيها على ان من دام على الكفر حتى مات فله عَذابٌ أَلِيمٌ ولذلك عقبه بقوله.
أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ من الشرك وَيَسْتَغْفِرُونَهُ عمّا صدر منهم موحدين منزهين عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقرير والتهديد وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 149
يغفر لهم ويرحمهم ان تابوا وفى هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.(1/2017)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ يعنى هو منحصر فى صفة الرسالة ليست له صفة الالوهية كما زعمته النصارى خذلهم اللّه فالحصر إضافي بالنسبة إلى ما يصفه به النصارى قَدْ خَلَتْ أى مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وهو يمضى أيضا الجملة صفة لرسول يعنى ما هو الا رسول من جنس الذين خلوا من قبله ممكن حادث جائز العدم خصه اللّه ببعض المعجزات كابراء الأبرص والأكمه واحياء الموتى كما خص غيره بغير ذلك فان اللّه احيى على يد موسى عصاه وجعلها حية تسعى وذلك اعجب من احياء الموتى وان خلقه من غير اب فقد خلق آدم من غير اب وأم وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعنى كانت امرأة كسائر النساء فضلت على أكثرهن بكثرة الصدق وتصديق آيات اللّه وأنبيائه كما ينبغى كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ويفتقران إليه كسائر الحيوانات بيّن اولا أقصى ما لهما من الكمال وبين انه لا يوجب الالوهية وان كثيرا من الناس يشاركهما فى مثله ثم بين نقصهما وما فيهما من امارة الحدوث ومنافى الربوبية وكونهما من جملة المركبات الكائنة الفاسدة ثم تعجب ممن يدعى الربوبية لهما مع هذه الادلة الظاهرة فقال انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الدالة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق وتأمله وثم لتفاوت ما بين العجبين يعنى بياننا عجيب واعراضهم عنها اعجب منه فانهم مع بداهة كونه من الحوادث اليومية الممكنة المفتقرة إلى علة الإيجاد والإبقاء لا يحكمون عليه بالإمكان والحدوث ومع بون بعيد بين الرب والمربوب لما نظروا إلى بعض صفاته الكاملة المستعارة من اللّه سبحانه حكموا عليه بالالوهيّة.(1/2018)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً يعنى عيسى عليه السّلام فان أفعاله مخلوقة للّه تعالى كسائر العباد فلا يملك فى الحقيقة شيئا وان ملك بعض الأشياء بتمليك اللّه تعالى وصدر على يده بخلق اللّه تعالى وهو لا يملك مثل ما يضر اللّه به من البلايا والمصائب فى الدنيا والتعذيب بالنار فى الاخرة ولا مثل ما ينفع اللّه به من الصحة والسعة فى الدنيا والجنة فى الاخرة وعبّر بكلمة ما وهو بغير ذوى العقول توطية لنفى القدرة عنه راسا وتنبيها على انه من هذا الجنس ومن كان له مجانسة بالممكنات فهو بمعزل عن الالوهية وقدم الضرر لان دفع الضرر أهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 150
من جلب النفع وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد فيجازى على حسبها وضمير الفصل للحصر يدل على ان عيسى ليس له فى حد ذاته سمعا ولا بصرا ولا علما ولا غير ذلك من صفات الكمال بل هى مستعارة من اللّه تعالى.(1/2019)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الغلو التجاوز عن الحد بالإفراط أو التفريط فان من جملة الدين الصحيح عند اللّه الايمان بان عيسى عبد اللّه ورسوله فاليهود فرطوا فى دينهم وأنكروا رسالته وبهتوا امه والنصارى افرطوا فيه وادعوا له الالوهية وقيل الخطاب للنصارى فقط غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية أى غلوا باطلا غير الحق وفيه تأكيد والا فالغلو لا يكون الا باطلا وجاز ان يكون حالا من دينكم يعنى لا تغلوا فى دينكم حال كونه غير الحق والغلو فى الدين الباطل الإصرار عليه وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعنى أسلافهم الذين ضلوا قبل بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم فى شريعتهم وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن تابعهم على البدع والضلال وَضَلُّوا بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم لما كذبوه وبغوا عليه عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ 4 يعنى عن دين الإسلام الذي هو ظاهر الحقية وقيل الضلال الأول كفرهم والضلال الثاني اضلالهم غيرهم وقيل الأول اشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل والثاني اشارة إلى ضلالهم عما نطق به الشرع.
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعنى اليهود عَلى لِسانِ داوُدَ يعنى فى الزبور أو المراد بهم أهل ايلة لما اعتدوا فى السبت قال داؤد عليه السلام اللهم العنهم واجعلهم اية فمسخوا قردة وَعلى لسان عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فى الإنجيل أو المراد بهم كفار اصحاب مائدة لما لم يؤمنوا قال عيسى عليه السّلام اللهم العنهم واجعلهم اية فمسخوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ذلِكَ اللعن بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ أى بسبب عصيانهم واعتدائهم ثم فسر العصيان والاعتداء بقوله.(1/2020)
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ أى لا ينهى بعضهم بعضا عَنْ مُنكَرٍ يعنى عن معاودة منكرا وعن مثل منكر فَعَلُوهُ أو المعنى عن منكر أرادوا فعله فان جريمة ترك النهى عن المنكر يقتضى عذاب كلهم أجمعين عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان الناس إذا راوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم اللّه بعقاب رواه الاربعة قال الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان ولفظ النسائي القوم إذا راوا المنكر فلم يغيروه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 151
و فى لفظ لابى داؤد ما من قوم يعمل فيهم المعاصي وهم يقدرون على ان يغيروا فلم يغيروا أو شك ان يعمهم اللّه العذاب وجاز ان يكون المعنى لا ينتهون عن منكر بل يصرون عليه من قولهم تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع منه لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم ذمهم عن عبد الرحمن بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان فيمن قبلكم من بنى إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطية نهاه الناهي تعذيرا فإذا كانوا من الغد جالسه وأكله وشاربه كأنَّه لم يره على الخطيئة بالأمس فلما راى اللّه تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنهم على لسان داؤد وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون والذي نفسى بيده لتامرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتاخذن على يد السفيه ولتاطرن على الحق اطرا أو ليضربن اللّه قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم رواه البغوي ورواه الترمذي وأبو داؤد من حديث عبد اللّه بن مسعود مرفوعا.(1/2021)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعنى من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ أى يوالون الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى مشركى مكة حين خرجوا إليهم يستجيشون على النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال ابن عباس ومجاهد والحسن فى منهم ضمير للمنافقين فانهم كانوا يتولون اليهود لَبِئْسَ أى شيئا ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ ان مع صلته مخصوص بالذم والمراد بالسخط موجب سخط اللّه وعذابه المخلد أو المخصوص محذوف وهذا علة الذم أى لبئس شيئا قدمت لهم أنفسهم ذلك لان ذلك يوجب السخط والخلود فى العذاب.
وَلَوْ كانُوا هؤلاء اليهود أو المنافقون يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ يعنى نبيهم وان كانت الآية فى المنافقين فالمراد به نبينا صلى اللّه عليه وسلم وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التورية أو القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ يعنى ما اتخذ اليهود كفار مكة على بغض النبي صلى اللّه عليه وسلم أو المنافقون اليهود أَوْلِياءَ إذ الايمان بالأنبياء والكتب السماوية يمنع ذلك وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن امتثال امر اللّه سبحانه.
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ أخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما خلا يهودى بمسلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 152(1/2022)
الأحدث نفسه بقتله وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى مشركى العرب لانهما كهم فى اتباع الهوى وركونهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على تكذيب الأنبياء ومعاداتهم وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى قال البغوي لا يريد جميع النصارى لانهم فى عداوة المسلمين كاليهود فى قتل المسلمين واسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم فلا كرامة لهم بل الآية فيمن اسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه واخرج النسائي وابن أبى حاتم والطبراني عن عبد اللّه بن زبير قال نزلت هذه الآية فى النجاشي وأصحابه إذا سمعوا الآية وروى ابن أبى حاتم وغيره عن مجاهد قال هم الوفد الذين جاؤا مع جعفر وأصحابه من ارض الحبشة وكذا أخرج عن عطاء انما يراد به النجاشي وأصحابه وقيل نزلت فى جميع اليهود وجميع النصارى لان اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم وكانوا اقل مظاهرة للمشركين من اليهود قلت عموم لفظ الآية يقتضى ان لا يراد بهم جماعة معينة منهم وان كان سبب النزول قصة النجاشي كيف والجماعة المعينة من اليهود يعنى الذي اسلموا منهم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه وكعب الأحبار أيضا بهذه الصفة فلا وجه للتفرقة بين اليهود والنصارى بل الظاهر ان المراد بالنصارى هاهنا الذين هم كانوا على الدين الحق دين عيسى قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم منهم النجاشي وأصحابه دون القائلين بان المسيح هو اللّه أو ثالث ثلثة فان تلك الفرق من النصارى مثل اليهود فى كونهم على الباطل قاسية قلوبهم متبعين أهواءهم كاهل نجران واما من كان منهم على الدين الحق ووصية عيسى عالمين بالإنجيل منتظرين ظهور رسول يأتي من بعد عيسى اسمه احمد صلى اللّه عليه وسلم مشتغلين بالعلم والعمل معرضين عن الدنيا كانت قلوبهم صافية لاجل ايمانهم بعيسى قبل مبعث سيد الرسل عليهم الصّلوة والسّلام يدل عليه قوله(1/2023)
تعالى ذلِكَ القرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ أى بسبب ان مِنْهُمْ أى من النصارى قِسِّيسِينَ قال البغوي القس والقسيس العالم بلغة الروم وفى القاموس هو رئيس النصارى فى العلم والقس مثلثة تتبع الشيء وطلبه فى الصحاح هو العالم العابد من رؤس النصارى واصل القس تتبع الشيء وطلبه بالليل كانهم سموا بذلك لان العلماء والعباد يطلبون العلم ووحدة الوجهة إلى اللّه سبحانه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 153(1/2024)
فى ظلمات الليالى وَرُهْباناً جمع راهب كالركبان جمع راكب وهم العباد اصحاب الصوامع فى القاموس رهب كعلم خاف والترهب التعبد وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا دعوا إليه ويتواضعون ولا يتكبرون كاليهود قال قتادة نزلت هذه الآية فى ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السّلام فلما بعث اللّه سبحانه محمدا صلى اللّه عليه وسلم صدقوه وأمنوا به فاثنى اللّه عز وجل عليهم بقوله ذلك بان منهم قسيسين الآية قلت وهؤلاء القوم من النصارى الذين كانوا على الدين الحق قبل البعثة وأمنوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعدها هم المراد باهل الكتاب فى قوله صلى اللّه عليه وسلم ثلثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد الحديث متفق عليه عن أبى موسى الأشعري واللّه اعلم قال أهل التفسير ائتمرت قريش ان يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يوذونهم ويعذبونهم فافتتن من افتتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه تعالى رسوله بعمه أبى طالب فلما راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى ارض الحبشة وقال ان بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجا وأراد به النجاشي واسمه اصحمة وهو بالحبشة عطية وانما النجاشي اسم الملك مثل قيصر وكسرى فخرج إليها سرّا أحد عشر رجلا واربع نسوة وهم عثمان ابن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والزبير بن العوام وعبد اللّه بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن(1/2025)
عمرو مصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت امية وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبى حشمة وحاطب بن عمر وسهيل ابن بيضا رضى اللّه عنهم أجمعين فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار فى رجب من السنة الخامسة من البعثة وهذه الهجرة الاولى ثم خرج جعفر بن أبى طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع المهاجرين إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم فعصمهم اللّه وذكرت القصة فى تفسير
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 154(1/2026)
سورة ال عمران فى تفسير قوله تعالى ان اولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي الآية ......... فلما انصرفا اقام المسلمين هناك بخير واحسن جوار إلى ان هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلا امره وكتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى النجاشي على يدى عمرو بن امية الضميري سنة ست من الهجرة ليزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان وقد هاجرت مع زوجها فمات زوجها وليبعث من عنده من المسلمين فارسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية له يقال لها ابرهة تخبرها بخطبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاعطتها اوضاحا لها سرورا بذلك فاذنت خالد بن سعيد بن العاص حتى انكحها على صداق اربعمائة دينار فانقد إليها النجاشي اربعمائة دينار على يد ابرهة فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت أمرني الملك ان لا أخذ منك شيئا وقالت انا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت ومحمدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وامنت به وحاجتى منك ان تقرئيه منى السلام قالت نعم وقد امر الملك نسائه ان يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر وقالت أم حبيبة فخرجنا إلى المدينة ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم فدخلت عليه فكأن يسألنى عن النجاشي فقرأت عليه من ابرهة السلام فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى عسى اللّه ان يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم يعنى أبا سفيان مودة يعنى بتزويج أم حبيبة ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة قال ذلك الفحل لا يقرع انفه وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابنه ارها بن اصحمة ابن الجر فى ستين رجلا من الحبشة وكتب إليه يا رسول اللّه اشهد انك رسول اللّه صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للّه رب العلمين و(1/2027)
قد بعثت إليك بابني ارها وأنت ان شئت ان اتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول اللّه فركبوا سفينة فى اثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا فى وسط البحر غرقوا ووافى جعفر وأصحابه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام فقرأ عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا حين سمعوا القرآن وأمنوا وقالوا ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السّلام
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 155
فانزل اللّه تعالى هذه الآية ولتجدن أقربهم مودة للذين أمنوا الذين قالوا انا نصارى يعنى وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم سبعون وكانوا اصحاب الصوامع وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلثون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وقال عطاء كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بنى الحارث واثنان وثلثون من أهل الحبشة وثمانية من أهل الشام روميون واخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم والواحدي من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وابى بكر بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير مرسلا قالوا بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمرو بن امية الضمري وكتب معه كتابا إلى النجاشي فقدم على النجاشي فقرأ كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم دعا جعفر بن أبى طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسيسين ثم امر جعفر ابن أبى طالب فقرأ عليهم سورة
مريم فامنوا بالقران وقاضت أعينهم من الدمع فهم الذين انزل فيهم لتجدن أقربهم مودة إلى قوله فاكتبنا مع الشاهدين وروى ابن جرير وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير قال بعث النجاشي فلاس رجلا من خيار أصحابه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرأ عليه سورة يس فبكوا فنزلت فيهم الآية واخرج النسائي عن عبد اللّه بن الزبير قال نزلت هذه الآية فى النجاشي وأصحابه.(1/2028)
وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ وروى الطبراني عن ابن عباس نحوه ابسط منه قلت ونزول الآية فى النجاشي أو فى الذين وفدهم لا يقتضى اختصاصهم بهذا الحكم فان العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد قوله وإذا سمعوا عطف على لا يستكبرون وهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم تابيهم عنه والفيض هو انصباب عن امتلاء فوضع موضع الامتلاء للمبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كانها تفيض بانفسها وتفيض فى موضع النصب على الحال ....
لان الروية بمعنى الابصار وقيل من للابتداء والظاهر انها للتعليل أى من أجل الدمع مِمَّا عَرَفُوا من للابتداء أو للتعليل أى من أجل المعرفة وما موصولة يعنى من الذي عرفوه كائنا مِنَ الْحَقِّ من اما للبيان أو للتبعيض يعنى انهم عرفوا بعض الحق فابكاهم فكيف إذا عرفوه كله قال ابن عباس فى رواية عطاء به يريد بالسامعين النجاشي وأصحابه قرأ عليهم جعفر بالحبشة كهيعص فما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة يَقُولُونَ حال من الضمير الفاعل فى عرفوا رَبَّنا آمَنَّا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبما انزل عليه منك والمراد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 156
إنشاء الايمان والدخول فيه وانما قالوا ربنا ليكونوا مومنين فيما بينهم وبين اللّه لا كالمنافقين فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ يعنى مع أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين يشهدون للرسل على سائر الأمم قالوا ذلك لانهم وجدوا ذكر أمة فى الإنجيل كذلك أو المعنى مع الشاهدين بنبوته وبان القرآن حق من عند اللّه تعالى والشهادة ما يكون عن صميم القلب ولذلك قال اللّه تعالى فى المنافقين واللّه يشهد ان المنافقين لكاذبون ففيه تنزيه لانفسهم عن النفاق ثم أظهروا الحجة على ان ايمانهم ايمان الشهداء لا المنافقين بقولهم.(1/2029)
وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا على لسان محمّد مِنَ الْحَقِّ يعنى القرآن وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ أى مع مؤمنى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين قال اللّه تعالى فيهم ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر انّ الأرض يرثها عبادى الصّالحون قوله ما لنا مبتدأ وخبر ولا نؤمن حال أى غير مؤمنين كقولك مالك قائما ونطمع معطوف على نؤمن يعنى ما لنا لا نؤمن ولا نطمع أو عطف على نؤمن أى ما لنا نجمع بين عدم الايمان والطمع فانهما متنافيان فان الطمع مع عدم الايمان باطل أو خبر مبتدأ محذوف أى نحن والواو للحال وجملة ونحن نطمع حال من ضمير الفاعل فى نؤمن وفيه انكار واستبعاد لانتفاء الايمان مع قيام موجبه وهو الطمع فى انعام اللّه تعالى وقيل جواب سوال ذكر البغوي ان اليهود عيّرهم وقالوا لم أمنتم فاجابوا وقيل انهم لما رجعوا إلى قومهم لاموهم فاجابوا بذلك ويرد عليه انه كيف جاء الجواب بالعاطف والجواب مبنية للفصل وغاية التوجيه ان يقال تقديره مالك لا تؤمن وما لنا لا نؤمن.
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أى جزاهم اللّه بِما قالُوا بعد خلوص الاعتقاد المدلول عليه بقوله ترى أعينهم تفيض من الدمع بما عرفوا من الحق وقيل القول يستعمل فى قول عن اعتقاد يقال هذا قول فلان أى معتقده جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الجنات جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون اللّه تعالى بكمال الخشوع والحضور قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك ثم ذكر جزاء الكافرين المكذبين كما هو داب المثاني والقران العظيم من الجمع بين الترغيب والترهيب ولما كان فيما مضى ذكر التصديق بالقلب ومعرفة الحق مع الإقرار باللسان عقبه بما يضاده
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 157
من جحود الحق والتكذيب فقال.(1/2030)
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى جحدوا الحق بقلوبهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بألسنتهم أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ع روى الترمذي وغيره عن ابن عباس ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انى إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتى فحرمت علىّ اللحم فانزل اللّه تعالى.(1/2031)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أى ما طاب ولذّ وتشتهيها الأنفس من الحلال وفى ترتيب الآيات لطافة فانه تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم والحث على كسر النفس ورفض الشهوات ثم عقبه النهى عن الافراط فى ذلك والاعتداء عما حد اللّه تعالى بجعل الحلال حراما فقال وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ويجوز ان يراد به ولا تعتدوا حدود ما أحل اللّه لكم إلى ما حرم عليكم فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل وتحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما وجاز ان يكون المعنى ولا تسرفوا فى تناول الطيبات أخرج ابن جرير من طريق العوفى انّ رجالا من الصحابة منهم عثمان بن مظعون حرموا النساء واللحم على أنفسهم وأخذوا الشفار ليقطعوا مذاكيرهم لكى ينقطع الشهوة عنهم ويتفرغوا للعبادة فنزلت هذه الآية واخرج ابن جرير نحو ذلك من مرسل عكرمة وابى قلابة ومجاهد وابى مالك والنخعي والسدى وغيرهم وفى رواية السدى انهم كانوا عشرة منهم ابن مظعون وعلى ابن أبى طالب وفى رواية عكرمة منهم ابن مظعون وعلى وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالم مولى حذيفة وفى رواية مجاهد منهم ابن مظعون وعبد اللّه بن عمرو واخرج ابن عساكر فى تاريخه من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية فى رهط من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وعثمان بن مظعون والمقداد بن الأسود وسالم مولى أبى حذيفة توافقوا على ان يجبوا أنفسهم ويعتزلوا النساء ولا يأكلوا لحما ولا دسما ويلبسوا المسوح ولا يأكلوا من الطعام الا قوتا وان يسيحوا فى الأرض كهيئة الرهبان فنزلت وذكر البغوي عن أهل التفسير ان النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر الناس يوما ووصف القيامة فرق الناس له وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة فى بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم أبو بكر(1/2032)
الصديق وعلى بن أبى طالب وعبد اللّه بن مسعود وعبد اللّه بن عمر وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبى حذيفة والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 158
ابن مقرن رضى اللّه عنهم أجمعين وتشاوروا واتفقوا على ان يترهبوا ويلبسوا المسوح ويجبوا مذاكيرهم ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفراش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا فى الأرض فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم بنت أبى امية واسمها الخولاء وكانت عطارة أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه فكرهت ان تكذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكرهت ان تبدى على زوجها فقالت يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما دخل عثمان أخبرته بذلك فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو وأصحابه فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الم أنبأكم انكم اتفقتم على كذا وكذا قالوا بلى يا رسول اللّه وما أردنا الا الخير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى لم اومر بذلك ثم قال لانفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فانى أقوم وأنام وأصوم وأفطروا كل اللحم والدسم واتى النساء ومن رغب عن سنتى فليس منى ثم جمع الناس وخطبهم فقال ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا اما انى لست أمركم ان تكونوا قسيسين ورهبانا فانه ليس فى دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وان سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد واعبدوا اللّه تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا واقيموا الصلاة وأتوا الزكوة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فانما هلك من كان قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فاولئك بقاياهم فى الديارات والصوامع فانزل اللّه عز و(1/2033)
جل هذه الآية وروى البغوي بسنده عن سعد بن مسعود ان عثمان بن مظعون رض اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ائذن لنا فى الاختصاء فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس منا من خصى ولا من اختصى ان خصاء أمتي الصيام فقال يا رسول اللّه ائذن لنا فى السياحة فقال ان سياحة أمتي الجهاد فى سبيل اللّه قالوا يا رسول اللّه ائذن لنا فى الترهب فقال ان ترهب أمتي الجلوس فى المساجد وانتظار الصلاة وفى الصحيحين عن انس قال جاء ثلثة رهط إلى ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم يسألون عن عبادة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فلمّا أخبروا بها كانهم تقالّوها فقالوا اين نحن من النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وقد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم اما انا فاصلى الليل ابدا وقال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 159(1/2034)
الاخر انا أصوم النهار ولا أفطر وقال الاخر انا اعتزل النساء فلا أتزوج ابدا فجآء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أنتم الذي قلتم كذا وكذا اما واللّه انى لاخشاكم للّه وأتقاكم له ولكنى أصوم وأفطر وأصلي وارقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وروى أبو داؤد عنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد اللّه عليكم فان قوما شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم وفى الصحيحين عن عائشة قالت صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شيئا فرخص فيه فتنزه عنه قوم فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخطب فحمد اللّه ثم قال ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء اصنعه فو اللّه انى لاعلمهم باللّه وأشدهم خشية وروى ابن أبى حاتم عن زيد ابن اسلم ان عبد اللّه بن رواحة أضاف ضيفا من اهله وهو عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم رجع إلى اهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفى من اجلى وهو حرام على فقالت امرأته هو على حرام قال الضيف هو على حرام فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم اللّه ثم ذهب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ثم انزل اللّه يايها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ولا تعتدوا ان اللّه لا يحب المعتدين.(1/2035)
وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً قال عبد اللّه بن مبارك الحلال ما أخذته من وجهه يعنى من وجه مشروع والطيب ماغذ أو نما فاما الجوامد كالطين والتراب وما لا يغذى فمكروه الا على وجه التداوى حلالا مفعول كلوا ومما رزقكم حال منه قدمت لكون ذى الحال نكرة ومن للتبعيض وفيه تصريح ان بعض الرزق يكون حلالا دون بعض كما يقوله أهل الحق ويجوز ان يكون من ابتدائية متعلقة بكلوا ويجوز ان يكون مفعولا وحلالا حال من الموصول والعائد محذوف أو صفة لمصدر محذوف يعنى أكلا حلالا وعلى الوجوه كلها لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة وَاتَّقُوا اللَّهَ توكيد للتوصية بما امر به وزاده توكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لان مقتضى الايمان التقوى فيما امر به ونهى عنه روى البغوي بسنده عن عائشة قالت كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلوا والعسل رواه البخاري وعن ابن عباس قال كان أحب الطعام إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الثريد من الخبز والثريد من
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 160
الحيس رواه أبو داؤد وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطاعم الشاكر كالصائم الصابر رواه الترمذي ورواه ابن ماجة والدارمي عن سنان بن سنة عن أبيه قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم قالوا يا رسول اللّه فكيف نصنع بايماننا التي حلفنا عليها وكانوا حلفوا على ما أنفقوا عليه فانزل اللّه تعالى.(1/2036)
لا يُؤاخِذُكُمُ « 1 » اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن ذكوان عاقدتم من المفاعلة بمعنى فعل وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي عقدتم بغير الف مخففا على وزن ضربتم والباقون مشددا من التفعيل وقد مر تفسير الآية فى سورة البقرة واقسام الايمان وأحكامها وان المراد بالمؤاخذة المؤاخذة الاخروية وبما عقدتم الايمان ما تعلق القصد بتوثيقه والزام شىء من فعل أو ترك به على نفسه صيانة لذكر اسم اللّه تعالى فتكون لا محالة فى الإنشاء وهذا القسم من اليمين يوجب ذلك الفعل أو الترك على الحالف بقوله تعالى يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود وقوله تعالى ولكن يواخذكم بما عقدتم يعنى بنكث ما عقدتم أو يواخذكم بما عقدتم ان حنثتم وحذف للعلم.
(مسئلة : ) ينعقد اليمين عند جمهور العلماء والائمة الاربعة بحرف القسم ملفوظا أو مقدرا مقترنا باسم من اسماء اللّه تعالى أو ما يدل على ذاته تعالى نحو والذي نفسى بيده والذي لا اله غيره ومقلب القلوب ورب السموات والأرض ونحو ذلك وقال بعض مشائخ الحنفية كل اسم لا يسمى به غيره تعالى فهو يمين وما يسمى به غيره أيضا كالحليم والعليم والقادر والوكيل والرحيم ونحو ذلك لا يكون يمينا الا بالنية أو العرف أو دلالة الحال وكذا ينعقد عند الجمهور بكل صفة من صفاته وقال أبو حنيفة ينعقد بكل صفة يحلف بها عرفا كعزة اللّه وجلاله وعظمته وكبريائه لا بما لا يحلف عرفا كعلم اللّه وإرادته ومشيته ولمشايخ العراق هاهنا تفصيل اخر وهو ان الحلف بصفات الذات يكون يمينا وبصفات الفعل لا يكون يمينا وصفات الذات ما لا يوصف اللّه تعالى بضده كالقدرة والجلال والكبرياء والعظمة والعزة وصفات الفعل ما يوصف به وبضده كالرحمة والغضب والرضاء
_________
((1/2037)
1) روى أبو الشيخ وعبد بن حميد عن سعيد بن جبير ان اللغو ان تحرم ما أحل اللّه لكم تكفر عن يمينك ولا تحرمه لا يؤاخذكم اللّه به ولكن بما عقدتم الايمان فان مت عليه أخذت به 12 [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 161
و السخط والقبض والبسط.
(مسئلة) لو حلف بالقران يكون يمينا عند الائمة الثلاثة وعند أبى حنيفة لا يكون يمينا لعدم العرف وقال ابن همام ولا يخفى ان الحلف بالقران الان متعارف فيكون يمينا يعنى عنه أبى حنيفة أيضا كما هو قول الائمة الثلاثة وكذا الكلام لو حلف بالمصحف فان المراد به القرآن دون القراطيس وحكى ابن عبد البر فى التمهيد فى المسألة اقوال الصحابة والتابعين واتفاقهم على إيجاب الكفارة فيها قال ولم يخالف فيها الا من لا يعتد بقوله واختلفوا فى قدر الكفارة فقال مالك والشافعي يلزم كفارة واحدة وعن احمد رح روايتان إحداهما كالجمهور والثانية يلزم بكل اية كفارة ولو قال وحق اللّه كان يمينا عند الثلاثة خلافا لابى حنيفة ولو قال لعمر اللّه وايم اللّه قال أبو حنيفة يمين نوى أو لم ينو وهى رواية عن احمد وقال بعض اصحاب الشافعي وهى رواية عن احمد ان لم ينو لا يكون يمينا.
((1/2038)
مسئلة) من حلف بالكعبة أو بالنبي لا يكون يمينا ولا يجب عليه الكفارة عند الائمة الثلاثة وهى رواية عن احمد وفى اظهر الروايتين عنه الحلف بالنبي يكون يمينا لنا قوله صلى اللّه عليه وسلم من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت متفق عليه من حديث ابن عمر وعنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حلف بغير اللّه فقد أشرك رواه أبو داؤد وعن ابن مسعود موقوفا لان احلف باللّه كاذبا أحب الىّ ان احلف بغير اللّه صادقا قال صاحب الهداية هذا إذا قال والنبي اما لو قال ان فعلت كذا فهو برئ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أو عن الكعبة أو هو يهودى أو نصرانى أو كافر يكون يمينا لأنه لما جعل الشرط علما على الكفر فقد جعله واجب الامتناع وقد أمكن القول بوجوبه لغيره فجعلناه يمينا كما نقول فى تحريم الحلال فان تحريم الحلال عند نايمين وقال الشافعي رح تحريم الحلال لا يكون يمينا لنا ان النبي صلى اللّه عليه وسلم حرم مارية وشرب العسل فنزل يا أيها النبي لم تحرم ما أحل اللّه لك قد فرض اللّه لكم تحلة ايمانكم كذا فى الصحيحين وغيرهما وسنذكر فى سورة التحريم ان شاء اللّه تعالى.
(مسئلة) ولو قال ان فعلت كذا فهو يهودى أو برئ من الإسلام أو نحو ذلك فى شىء قد فعله فهو الغموس ولا يكفر عند أبى حنيفة اعتبارا بالمستقبل وقيل يكفر لأنه تنجيز معنى قال صاحب الهداية والصحيح انه لا يكفر إن كان يعلم انه يمين وإن كان عنده
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 162
انه يكفر بالحلف يكفر لأنه رضى بالكفر عن بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال انى برئ من الإسلام فان كان كاذبا فهو كما قال وان كان صادقا لن يرجع إلى الإسلام سالما رواه أبو داؤد والنسائي وابن ماجة.
((1/2039)
مسئلة) لو ذكر فعل القسم على صيغة الماضي مقترنا باسم اللّه أو صفة من صفاته فقال أقسمت باللّه أو حلفت باللّه أو شهدت باللّه أو عزمت باللّه لا فعلن كذا فهو يمين بلا خلاف ولو قالبصيغة المضارع نحو اقسم باللّه أو احلف باللّه أو اشهد باللّه أو اعزم باللّه فهو يمين عند أبى حنيفة واحمد وعند الشافعي لا يكون يمينا الا بالنية لاحتمال ان يريد بالمستقبل الوعد قالت الحنفية المضارع حقيقة فى الحال مجاز فى الاستقبال لا ينصرف إليه الا بقرينة السين أو سوف أو نحو ذلك.
((1/2040)
مسئلة) لو قال أقسمت أو اقسم أو حلفت أو احلف ونحو ذلك من غير ذكر اسم اللّه تعالى وصفة فهو يمين عند أبى حنيفة نوى أو لم ينو شيئا وان نوى غيره يصدق ديانة لا قضاء وقال مالك واحمد فى رواية وزفران نوى يكون يمينا والا فلا لاحتمال اليمين بغير اللّه وقال الشافعي لا يكون يمينا وان نوى قلنا الحلف باللّه هو المعهود والمشروع وبغيره محظور فيصرف إلى المشروع عند عدم النية واحتج فى هذه المسألة بحديث ابن عباس ان رجلا راى رويا فقصها على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر ايذن لى فاعبرها فاذن له فعبرها ثم قال أصبت يا رسول اللّه قال أصبت واخطأت قال أقسمت يا رسول اللّه لتخبرنى قال لا تقسم هكذا رواه احمد وقد أخرج فى الصحيحين بلفظ اخر فانه قال واللّه لتخبرنى بالذي اخطأت قال لا تقسم واللّه اعلم فَكَفَّارَتُهُ أى كفارة نكثه أو كفارة معقود الايمان أو كفارة ما عقدتم الايمان إذا حنثتم والكفارة الفعلة التي من شانها ان يكفر الخطيئة ويذهب إثمها ويسترها إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ والإطعام جعل الغير طاعما سواء كان بالتمليك أو الإباحة ومن ثم قال أبو حنيفة لو غدّاهم وعشّاهم اكلتين مشبعتين من غير تمليك جاز قليلا أكلوا أو كثيرا كذا ذكر الكرخي بإسناده إلى الحسن خلافا للشافعى رحمه اللّه فعنده يشترط التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر ولان التمليك ادفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة قلنا المنصوص عليه فى الزكوة الإيتاء وفى صدقة الفطر الأداء وهما للتمليك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 163(1/2041)
حقيقة بخلاف الإطعام لأنه حقيقة فى التمكين من الطعم فان قيل لما كان الإطعام حقيقة فى التمكين ينبغى ان لا يجوز التمليك وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز قلنا فى التمليك من الطعم أيضا أو يقال جواز التمليك انما هو بدلالة النص والدلالة لا يمنع العمل بالحقيقة كما فى حرمة الضرب والشتم مع التأفيف لان النص ورد فى دفع حاجة الاكل فالتمليك الذي هو لدفع كل حاجة ومنها الاكل اجوز أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب رض فى قوله تعالى فكفارته اطعام عشرة مساكين قال يغديهم ويعشيهم ان شئت خبزا ولحما أو خبزا وزيتا أو خبزا وسمنا أو خبزا وتمرا - (مسئلة) لو كان فيمن أطعمهم صبيا فطيما لا يجزيه لأنه لا يستوفى كاملا - (مسئلة) لا بد من الادام فى خبز غير الحنطة ليمكنهم الاستيفاء إلى الشبع فى صورة الإباحة وفى خبز الحنطة لا يشترط ان كان اوسط طعام اهله بغير ادام.
(مسئلة) ان اعطى مسكينا واحدا عشرة ايام يجوز عند أبى حنيفة وان اطعم فى يوم واحد عشر مرات لا يجوز وقيل هذا إذا كان بالاباحة واما إذا كان بالتمليك فيجوز لان الحاجة إلى التمليك يتجدد فى يوم واحد ولا يتجدد الحاجة إلى الاكل فى يوم واحد عشر مرات وإذا دفع إلى فقير وأحد طعام عشرة مساكين دفعة واحدة فى يوم واحد ولو بالتمليك لا يجوز هذا كله قول أبى حنيفة وجه قوله ان المقصود سدخلة المحتاج والحاجة يتجدد فى كل يوم فالدفع إليه فى اليوم الثاني كالدفع إلى غيره ولا يتجدد الحاجة فى يوم إلى الاكل عشر مرات وقال مالك والشافعي وهو الصحيح من مذهب احمد وبه قال اكثر أهل العلم لا يجوز اطعام مسكين واحد عشرة ايام ولو بالتمليك لأنه تعالى نص على عشرة مساكين وبتكرر الحاجة فى مسكين واحد لا يصير هو عشرة مساكين والتعليل بان المقصود سدخلة المحتاج إلى اخر ما ذكر مبطل لمقتضى النص فلا يجوز.
((1/2042)
مسئلة) وإذا ملك الطعام عشرة مساكين فالقدر الواجب لكل مسكين عند أهل العراق مدان وهو نصف صاع قال البغوي يروى ذلك عن عمرو على وقال أبو حنيفة نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والحكم وقال مالك مد وهو رطلان بالبغدادي وقال احمد مد من حنطة أو دقيق ومدان من شعير أو تمر ورطلان من خبز أى خبز حنطة وقال الشافعي مد النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو رطل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 164(1/2043)
و ثلث رطل من غالب قوة البلد ولا يجوز عنده دفع الخبز ولا الدقيق بل إعطاء الحب قال البغوي وهو قول زيد بن ثابت وابن عباس وابن عمر وبه قال سعيد بن المسيب والقاسم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن وكذلك الخلاف فى جميع الكفارات ويجوز دفع القيمة من الدراهم والدنانير عند أبى حنيفة خلافا لغيره وذكر الكرخي بإسناده إلى عمر قال صاع من تمر أو شعير أو نصفه من بر وبإسناده إلى علىّ قال كفارة اليمين نصف صاع من حنطة وبإسناده إلى مجاهد قال كل كفارة فى القرآن فهو نصف صاع من بر لكل مسكين وروى ابن الجوزي فى التحقيق بسنده عن سليمان بن يسار قال أدركت الناس وهم يعطون فى طعام المساكين مدا مدا ويروى ان ذلك يجزى عنهم وفى الباب حديث أبى سلمة ان سليمان بن صخر ويقال له سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته كظهر امه حتى يمضى رمضان فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها ليلا فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعتق رقبة قال لا أجدها قال فصم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال اطعم ستين مسكينا قال لا أجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعروة بن عمرو أعطه ذلك الفرق وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعا أو ستة عشر صاعا يطعم ستين مسكينا رواه الترمذي وروى أبو داؤد وابن ماجة والدارمي عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر نحوه قال كنت أصبت من النساء ما لا يصيب غيرى وهذا الحديث حجة للشافعى وغيره من قال ان لكل مسكين هذا احتج أبو حنيفة بحديث رواه الطبراني عن أوس بن الصامت قال فاطعم ستين مسكينا ثلثين صاعا قال لا املك ذلك الا ان تعيننى فاعانه النبي صلى اللّه عليه وسلم بخمسة عشر صاعا وأعانه الناس حتى بلغ انتهى قلت لعل كان ذلك من الحنطة وروى أبو داؤد من طريق ابن إسحاق عن معمر بن عبد اللّه بن حنظلة عن يوسف بن عبد اللّه بن سلام فى حديث أوس بن الصامت انه قال صلى اللّه(1/2044)
عليه وسلم فانى ساعينه بفرق من تمر قال يا رسول اللّه وانا أعينه بفرق اخر قال أحسنت قال الفرق ستون صاعا واخرج الحديث أيضا بهذا الاسناد الا انه قال والمكتل ثلثون صاعا قال ابن همام وهذا أصح لأنه لو كان ستين لم يحتج إلى معاونتهما أيضا بفرق اخر فى الكفارة واخرج أبو داؤد عن أبى سلمة بن عبد الرحمن قال الفرق زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا واخرج أبو داؤد فى حديث سلمة بن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 165
صخر البياضي قال فاطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا قال والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشيين ما املك لنا طعاما قال فانطلق إلى صاحب صدقة بنى زريق فليدفعها إليك فاطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها الحديث أخرجه احمد وأبو داؤد (مسئلة) يجوز دفع الطعام وتمليكه لصغير يقبل عنه وليه وهل يجزى بصغير لم يطعم الطعام قال الثلاثة نعم وقال احمد لا.
((1/2045)
مسئلة) ان ادى إلى ذمى قال أبو حنيفة يجوز لاطلاق النص وقد قال اللّه تعالى لا ينهاكم اللّه عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين الآية وعند الجمهور لا يجوز قياسا على الزكوة فانه لا يجوز صرف الزكوة إلى الذمي اجماعا مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره ان تطعموا عشرة مساكين طعاما من اوسط ما تطعمون أو الرفع على البدل من اطعام قال البغوي أى من خير قوة عيالكم قلت والظاهر ان المراد المتوسط فى الكيفية لا أعلى ولا ادنى فمن كان غنيا يأكل اهله أطعمة لذيذة يجب فى التغدي والتعشي ان يطعم الفقراء على غالب قوة اهله وهذا الكلام يدل على ما قال أبو حنيفة بجواز عطاء الفقير على وجه الإباحة أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس فى قوله تعالى من اوسط ما تطعمون قال من عسركم ويسركم وفى رواية ليس بارفعه ولا أدناه وجمع الأهل بالياء والنون شاذ لعدم العلمية أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على اطعام أو على من اوسط ان جعل بدلا لان البدل هو المقصود وادنى الكسوة ما يجوز به الصلاة عند مالك واحمد وهو المروي عن محمد ففى الرجل يجزى السراويل فقط أو الإزار فقط أو القميص فقط وفى المرأة لا بد من ثوبين قميص وخمار وعند أبى حنيفة وابى يوسف أدناه ما يستر عامة البدن فلا يجوز السراويل وان صح صلوته فيه لان لابسه يسمى فى العرف عريانا والمأمور به جعله مكتسيا ويجوز ان يعطى قميصا سابلا للمرأة وان لم يصح صلوتها بدون الخمار لانها مكتسية عرفا لا عريانة أخرج ابن مردويه عن حذيفة قال قلنا يا رسول اللّه أو كسوتهم ما هو قال عباءة وكذا أخرج الطبراني وابن مردوية عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال عباءة لكل مسكين وعند الشافعي رح يجوز اقل ما يقع عليه اسم الكسوة فيجوز عنده العمامة فحسب والسراويل فقط والقميص فقط وفى القلنسوة لاصحابه وجهان ان اطعم التفسير(1/2046)
المظهري ، ج 3 ، ص : 166
خمسا وكسى خمسا قال أبو حنيفة واحمد يجوز وقال مالك والشافعي لا يجوز أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يعنى اعتاق انسان ويجوز فى كفارة اليمين والظهار اعتاق رقبة كافرة عند أبى حنيفة لاطلاق النص وعند مالك والشافعي واحمد لا يجوز الا مؤمنا حملا للمطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل قلنا المطلق يجرى على إطلاقه والمقيد على تقئيده ولا وجه لحمل أحدهما على الاخر.
(مسئلة) مقتضى كلمة أو إيجاب احدى الخصال الثلث مطلقا ويخير المكلف فى التعيين أخرج ابن مردوية عن ابن عباس قال لما نزلت اية الكفارة قال حذيفة يا رسول اللّه نحن بالخيار قال أنت بالخيار ان شئت كسوت وان شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلثة ايام متتابعات فَمَنْ لَمْ يَجِدْ شيئا من ذلك وعجز عنها بان لا يفضل ماله عن الديون وعن قوته وقوة عياله وحوائجه ما يطعم أو يكسو أو يعتق وقال بعض العلماء إذا ملك ما يمكنه الإطعام أو أحد أخواته وان لم يفضل عن كفاية فليس هو بعاجز وهو قول الحسن وسعيد بن جبير وروى أبو الشيخ عن قتادة ان كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وانكانت اقل فهو ممن لا يجد ويصوم واخرج أبو الشيخ عن ابراهيم النخعي قال إذا كان عنده عشرون درهما فعليه ان يطعم.
(مسئلة) العبد لا كفارة له الا الصوم لأنه لا يقدر على الإطعام والاكساء والاعتاق لعدم مالكية المال ولو أعتق عنه مولاه أو اطعم أو اكسى لا يجزيه وكذا المكاتب والمستسعى.
(مسئلة) لو صام العبد فعتق قبل ان يفرغ ولو بساعة فاصاب مالا وجب عليه استيناف الكفارة وكذا الفقير إذا صام فاصاب مالا قبل ان يفرغ من الصيام استأنف الكفارة.
((1/2047)
مسئلة) المعتبر عندنا كونه واجدا عند ارادة التكفير وعند الشافعي عند الحنث لنا ان الصوم خلف عن المال كالتيمم فانما يعتبر فيه وقت الأداء فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للشرط يعنى فكفارته صيام ثلثة ايام.
(مسئلة) لا يجب عند مالك التتابع فى الصيام لاطلاق النص بل يستحب وعن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 167
الشافعي قولان الجديد الراجح انه يستحب ولا يجب وقال أبو حنيفة واحمد وهو أحد قولى الشافعي رح انه يجب وجه قول احمد ورواية الشافعي حمل المطلق على المقيد الوارد فى كفارة القتل والظهار ووجه القول الجديد للشافعى ان هذه الكفارة يحاذيها الاصلان فى التتابع وعدمه فحمله على كفارة القتل والظهار يقتضى التتابع وحمله على صوم المتعة بناء على انه دم جبر عنده يوجب التفرق فترك الحمل على كل منهما وعمل بإطلاق النص هاهنا ووجه قول أبى حنيفة العمل بقراءة ابن مسعود فانه قرأ ثلثة ايام متتابعات وهى مشهورة يجوز به تقئيد مطلق النص لأنه داخل على الحكم دون السبب.
(مسئلة) يمين الكافر لا ينعقد ولا يلزمه الكفارة عند أبى حنيفة وقال الائمة الثلاثة ينعقد يمينه ويلزمه الكفارة بالحنث لنا انه ليس باهل اليمين لانها تنعقد لتعظيم اسم اللّه تعالى ومع الكفر لا يكون معظما ويرد عليه انه فى الدعاوى يستحلف الكافر المنكر اجماعا ولانه ليس أهلا للكفارة لكونها عبادة قلت ومقتضى هذا الدليل انه لو حلف الكافر ثم اسلم وحنث بعد الإسلام يلزمه الكفارة واللّه اعلم.(1/2048)
ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم فان الكفارة لا تجب الا بعد الحنث اجماعا استدل احمد والشافعي بهذه الآية على جواز تقديم الكفارة قبل الحنث وهو أحد الروايتين عن مالك لأنه أضيف الكفارة إلى اليمين دون الحنث والاضافة دليل بسببية المضاف إليه للمضاف الواقع حكما شرعيا أو متعلقه كما فى ما نحن فيه فان الكفارة متعلق الحكم الذي هو الوجوب وإذا ثبت سببيته جاز تقديم الكفارة على الحنث لأنه حينئذ شرط والتقديم على الشرط بعد وجود السبب ثابت شرعا كما فى الزكوة جاز تقديمها على الحول بعد وجود السبب الذي هو ملك النصاب وكما فى تقديم التكفير بعد الجرح على المقتول قبل الموت وبناء على هذا الدليل لا فرق بين الكفارة بالمال والصوم وعند مالك واحمد وبه قال الشافعي فى القديم وفى القول الجديد للشافعى يجوز تقديم الكفارة بالمال قبل الحنث ولا يجوز بالصوم لان تقديم الأداء على الوجوب بعد السبب لم يعرف شرعا الا فى العبادة المالية ولا يجوز تقديم الصوم والصلاة قبل وجوبهما وعند أبى حنيفة لا يجوز تقديم الكفارة على الحنث مطلقا هو يقول ان سبب الكفارة هو الحنث دون اليمين لان الكفارة انما وجبت لستر الجناية ودفع الإثم ولا جناية ولا اثم الا بالحنث واليمين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 168(1/2049)
ليست بسبب للحنث ولا للكفارة بل للبر إذا قل ما فى السبب ان يكون مفضيا إليه واليمين ليس كذلك لأنه مانع عن عدم المحلوف عليه فكيف يكون مفضيا إليه نعم قد يتفق تحققه اتفاقا والاضافة قد يكون إلى الشرط كما فى صدقة الفطر ولو سلم ان اليمين سبب فلا شك فى ان الحنث شرط للوجوب فلا يقع التكفير واجبا قبله فلا يسقط الوجوب قبل ثبوته ولا عند ثبوته بفعل وجد قبله ولم يكن واجبا وكان مقتضى هذا الدليل عدم جواز أداء الزكوة قبل الحول وصدقة الفطر قبل الفطر لكن ثبت جواز ادائهما قبل وجوبهما بالنص على خلاف القياس فيقتصر على موردهما اما الزكوة فلحديث على رضى اللّه عنه ان العباس سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى تعجيل صدقة قبل ان تحل فرخص له فى ذلك رواه أبو داؤد والترمذي وابن ماجة والدارمي واما صدقة الفطر فلما رواه البخاري عن ابن عمر فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة الفطر إلى ان قال فى آخره وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين وهذا مما لا يخفى على النبي صلى اللّه عليه وسلم بل لا بد من كونه بإذن سابق فان الاسقاط قبل الوجوب مما لا يعقل فلم يكونوا يقدمون الا بسمع قبله كذا قال ابن همام والصحيح عندى ان اليمين سبب للكفارة كما يدل عليه الاضافة غير ان الحنث شرط لكونه سببا كما حقق فى اصول الفقه ان التعليق بالشرط فى قوله ان دخلت الدار فانت طالق مانع عن السبب دون الحكم عند أبى حنيفة وعند الشافعي مانع عن الحكم فهذا الكلام لا يكون سببا للطلاق الا بعد دخول الدار وزوال المانع وقبل ذلك كان سببا لمنع المرأة عن الدخول كذلك الحلف باللّه تعالى سبب للبر وبعد فوات البر والحنث تصير سببا للكفارة فالكفارة قبل الحنث أداء قبل السبب بخلاف الزكوة فان سببه المال وبخلاف صدقة الفطر فان سببه الراس وقد يستدل على جواز التكفير قبل الحنث بحديث أبى الأحوص عوف بن مالك عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه أ رأيت(1/2050)
ابن عم لى اتيه اسأله فلا يعطينى ولا يصلنى ثم يحتاج الىّ فياتينى فيسألنى وقد حلفت ان لا أعطيه ولا أصله فامرنى ان اتى الذي هو خير واكفر عن يمينى رواه النسائي وابن ماجة وفى رواية قال قلت يا رسول اللّه يأتينى ابن عمى فاحلف ان لا أعطيه ولا أصله قال كفر عن يمينك وعن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى واللّه إنشاء اللّه لا احلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا كفرت عن يمينى واثبت
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 169
الذي هو خير متفق عليه وعن عبد الرحمن بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وات الذي هو خير وفى رواية فات الذي هو خير وكفر عن يمينك متفق عليه وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى الله(1/2051)
عليه وسلم قال من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل رواه مسلم والاحتجاج بهذه الأحاديث على جواز تقديم الكفارة على الحنث لذكر الكفارة فى بعض الروايات قبل ذكر الحنث ليس بشئ لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فان قيل قد ورد فى بعض الروايات بكلمة ثم روى أبو داؤد حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ فكفر عن يمينك ثم ات الذي هو خير وفى المستدرك من حديث عائشة كان عليه الصلاة والسلام إذا حلف لا يحنث حتى انزل اللّه كفارة اليمين فقال لا احلف إلى ان قال الا كفرت عن يمينى ثم أتيت الذي هو خير قلنا هى رواية شاذة مخالفة لما فى الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة وقد ذكرنا ولما فى البخاري من حديث عائشة وفيه العطف بالواو وقد شذت الرواية بثم لمخالفتهما روايات الصحيحين والسنن والمسانيد وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قيل أراد به ترك الحلف أى لا تحلفوا لكل امر والصحيح ان المراد منه حفظ اليمين عن الحنث وإيفاء ما أوجب على نفسه القيام بمقتضاه ويؤيده قوله تعالى يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود والحكم فى الباب ان المحلوف عليه ان كان طاعة لزمه الوفاء بها وهل له ان يعدل عن الوفاء إلى الكفارة مع القدرة على الوفاء قال أبو حنيفة واحمد ليس له ذلك عملا بهذه النص وقال الشافعي الاولى ان لا يعدل فان عدل جاز ولزمه الكفارة وعن مالك روايتان كالمذهبين وكذا ان حلف على امر مباح ليس تركه خيرا من فعله وان كان المحلوف عليه معصية يجب عليه ان يحنث ويكفر لان اثم المعصية لازم واثم الحنث مكفر بالكفارة وان حلف على ترك امر مستحب فالاولى ان يحنث ويكفر قال اللّه تعالى لا نجعلوا اللّه عرضة لايمانكم يعنى حاجزا مانعا من الحسنات وقال عليه السلام كفر عن يمينك وات بالذي هو خير عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال انى احلف لا اعطى أقواما ثم يبدو لى ان أعطيهم فاطعم عشرة مساكين صاعا من شعير أو صاعا من تمر(1/2052)
او نصف صاع من قيح وعن عائشة قالت كان أبو بكر إذا حلف لم يحنث حتى نزلت اية الكفارة وكان بعد ذلك يقول لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وقبلت رخصة اللّه رواه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق والبخاري وابن مردوية.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 170
(فصل فى النذر) إذا نذر شيئا معلقا بشرط يريد وجوده كما يقول ان شفى مريضى فعلىّ صوم يجب عليه الوفاء كما يجب بالنذر المنجز اجماعا وان نذر شيئا معلقا بشرط يريد عدمه كما يقول ان فعلت كذا يريد ترك ذلك الفعل فعلىّ حج فعن أبى حنيفه انه لزمه الوفاء والصحيح انه رجع عن هذا القول وقال أجزأه كفارة يمين وهو قول محمد وبه قال احمد فيخرج بالوفاء وبالكفارة يميل إلى أيهما شاء وفى رواية عن احمد ان الواجب الكفارة لا غير وعن الشافعي كالروايتين الأخريين وقال مالك فى صدقة المال يلزمه الثلث وفى غيره يلزمه الوفاء احتج مالك بحديث أبى لبابة انه قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم ان من توبتى ان اهجر دار قومى التي أصبت فيها الذنب وان انخلع مالى كله صدقة قال عليه السلام يجزى عنك الثلث والحجة لجواز الكفارة حديث عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم وحديث عمران بن حصين لا نذر فى غضب وكفارته كفارة اليمين رواه احمد والنسائي نحوه.
((1/2053)
مسئلة) من نذر نذرا لا يمكنه وفائه اما بان لا يطيقه كحج ماشيا وصوم الدهر أو كان النذر بمعصية يكفر عنه كفارة يمين لان النذر إيجاب شىء على نفسه وإيجاب شىء يقتضى تحريم ضده والتحريم يمين واللام المستعمل فى النذر فى قوله للّه علىّ كذا يجئى بمعنى القسم قال اللّه تعالى لعمرك وفى الباب حديث عائشة لا نذر فى معصية وكفارته كفارة اليمين رواه احمد وأبو داؤد والترمذي والنسائي وروى النسائي عن عمران بن حصين نحوه وعن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا فى معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا اطاقه فليف به رواه أبو داؤد وابن ماجة ووقفه بعضهم على ابن عباس وعن عبد اللّه بن مالك ان عقبة بن عامر سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن اخت له نذرت ان تحج حافية غير مختمرة قال مروها فتخمر ولتركب ولتصم ثلثة ايام رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي.
(مسئلة) من حلف على يمين وقال إنشاء اللّه متصلا بيمينه فلا حنث عليه لحديث ابن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من حلف على يمين فقال إنشاء اللّه فلا حنث عليه رواه اصحاب السنن الاربعة والدارمي وذكر الترمذي ان جماعة وقفوه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 171
على ابن عمر كَذلِكَ أى مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أى اعلام شرايعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على نعمة التعليم أو نعمة أداء الواجب وفراغ الذمة وحصول مرضاة اللّه تعالى ودرجات القرب والثواب فان مثل هذا التبين يسهل الأداء.(1/2054)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ « 1 » قد مر تفسيرهما وحكمهما فى تفسير سورة البقرة وَالْأَنْصابُ أى الأصنام التي نصبت للعبادة وَالْأَزْلامُ سبق تفسيرها فى أول السورة رِجْسٌ قذر يعاف عنه العقول السليمة والطباع المستقيمة وافراده لأنه خبر للخمر وخبر المعطوفات محذوف أو بحذف المضاف كأنَّه قال انما تعاطى الخمر والميسر مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أى من تسويله وتزئينه فكانه عمله فَاجْتَنِبُوهُ الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكى تفلحوا بالاجتناب عنه ان اللّه سبحانه أكد تحريم الخمر والميسر فى هذه الآية بان صدر الجملة بانما وقرنهما بالانصاب والأزلام وسماهما رجسا وجعلهما من عمل الشيطان تنبيها على ان الاشتغال بهما شربحت أو غالب وامر بالاجتناب عن أعينهما وجعله سببا يرجى منه الفلاح ثم بين ما فيهما من المفاسد الدينية والدنيوية المقتضية للاجتناب فقال.
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ
_________
((1/2055)
1) أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب انه قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاع فنزلت التي فى البقرة يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير ومنافع للناس الآية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى النساء يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية فدعى عمر فقرأت عليه ثم قال اللهم بين لنا فى الخمر بيان شفاء فنزلت التي فى المائدة انما يريد الشيطان ان يوقع بينكم العداوة والبغضاء فى الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون فدعى عمر فقرأت عليه فقال انتهينا انتهينا واخرج النسائي عن عبد الرحمن بن الحارث قال سمعت عثمان بن عفان رضى اللّه عنهما يقال اجتنبوا الخمر فانها أم الخبائث انه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد فعلقته امرأة غرية فارسلت إليه جاريتها فقالت له انا ندعوك للشهادة فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى افضى إلى امرأة وضية عندها غلام وباطية خمر فقالت انى واللّه ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علىّ أو تشرب الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام قال فاسقينى من هذا الخمر فسقته كاسا قال رويدنى فلم يزل حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فانها واللّه لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر الا ليوشك ان يخرج أحدهما صاحبه 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 172(1/2056)
أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ كما فعل الأنصاري « 1 » الذي شج راس سعد بن أبى وقاص بلحى الجمل وفيه نزلت هذه الآية وقد مرت القصة فى سورة البقرة وَالْمَيْسِرُ قال قتادة كان الرجل يقاهر على الأهل والمال ثم يبقى حزينا مسلوب الأهل والمال مغتاظا على حرفائه خصهما باعادة الذكر وشرح ما فيهما من الفساد تنبيها على انهما هما المقصودان بالبيان هاهنا وانما ذكر الأنصاب والأزلام هاهنا للدلالة على انهما مثلهما فى الحرمة والشرارة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شارب الخمر كعابد الوثن أخرجه البزار من حديث عبد اللّه بن عمرو ورواه ابن ماجة بلفظ مد من الخمر ورواه الحارث بلفظ شارب الخمر كعابد اللات والعزى وَيَصُدَّكُمْ أى الشيطان بارتكاب الخمر والميسر عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ وذلك انه من اشتغل بالخمر والقمار الهاه عن ذكر اللّه وشوش عليه صلوته كما فعل باضياف عبد الرحمن بن عوف قدم رجلا ليصلى بهم صلوة المغرب بعد ما شربوا فقرأ قل يا أيها الكافرون اعبد بحذف لا كما مرت القصة فى سورة البقرة وخص الصلاة من بين الذكر للتعظيم والاشعار بان الصاد منها كالصاد من الايمان من حيث انها شعار المؤمنين وعماد الدين والفارق بين المؤمن والكافر صورة
_________
((1/2057)
1) عن ابن عباس ان الشّراب كانوا يضربون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو بكر لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان أبو بكر جلدهم أربعين حتى توفى ثم كان عمر من بعدهم فجلدهم كذلك أربعين حتى اتى برجل من المهاجرين الأولين قد شرب فامر به ان يجلد فقال لم تجلدنى بينى وبينك كتاب اللّه عز وجل قال وفى أى كتاب تجدان لا أجلدك قال ان اللّه يقول فى كتابه ليس على الذين أمنوا وعملوا الصّلحت جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وأمنوا الآية فانا من الذين أمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد قال عمر الا تردون عليه فقال ابن عباس هؤلاء آيات نزلت عذرا للماضين وحجة فى الباقين عذرا للماضين لانهم لقوا اللّه قبل ان يحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لان اللّه يقول انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام حتى بلغ الآية الاخرى فكان من الذين أمنوا وعملوا الصّلحت ثم اتقوا وأحسنوا فان اللّه قد نهى ان يشرب الخمر قال عمر فماذا ترون فقال على بن أبى طالب نرى انه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون جلدة فامر عمر فجلد ثمانين رواه أبو الشيخ وابن مردوية والحاكم وصححه 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 173(1/2058)
قال اللّه تعالى وما كان اللّه ليضيع ايمانكم يعنى صلوتكم وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم وأبو داؤد والترمذي وابن ماجة من حديث جابر وروى احمد من حديث عبد اللّه بن بريدة نحوه وفيه فمن تركها فقد كفر وروى احمد من حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وابى بن خلف ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من انواع المفاسد فقال فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ لفظة استفهام ومعناه امر بأبلغ الوجوه كأنَّه قيل فهل أنتم بعد ما ذكر من المفاسد منتهون أم لا كانكم لم توعظوا.(1/2059)
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فى الانتهاء عن الخمر والميسر وسائر المناهي وإتيان الواجبات وَاحْذَرُوا عن مخالفتهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن إطاعة اللّه والرسول فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فتوليكم لا يضر بالرسول وانما يضر بانفسكم عن ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كل مسكر حرام وان حتما على اللّه ان لا يشربه عبد فى الدنيا الا سقاه اللّه عن طينة الخبال هل تدرون ما طينة الخبال قال عرق أهل النار رواه البغوي وعنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من شرب الخمر فى الدنيا ثم لم يتب منها حرمها اللّه فى الاخرة رواه البغوي وعنه انه قال اشهد انى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبايعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها رواه ابن ماجة وروى أبو داؤد وليس فيه وأكل ثمنها وفى الباب عن انس بن مالك وروى الترمذي وابن ماجة عن ابن عباس والحاكم عن ابن مسعود وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من شرب الخمر لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد فى الرابعة لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب لم يتب اللّه عليه وسقاه من نهر الخبال رواه الترمذي ورواه النسائي وابن ماجة والدارمي عن عبد اللّه بن عمرو وعن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يدخل الجنة عاق ولا قمار ولا مد من خمر رواه الدارمي وعن أبى امامة قال قال رسول
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 174(1/2060)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه بعثني رحمة للعالمين وهدى للعلمين وأمرني ربى بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصليب وامر الجاهلية وحلف ربى عز وجل بعزتي لا يشرب عبد من عبيد جرعة من خمر إلا سقيته من الصديد مثلها ولا يتركها من مخافتى الا سقيته من حياض القدس رواه احمد وعن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ثلثة قد حرم اللّه عليهم الجنة مد من الخمر والعاق والديوث رواه احمد والنسائي وعن أبى موسى الأشعري مثله وفيه مد من الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر رواه احمد وقد ذكرنا فى سورة البقرة ما أخرجه احمد عن أبى هريرة قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر الحديث إلى ان قال ثم نزلت اغلظ من ذلك يا أيها الذين أمنوا انما الخمر والميسر إلى قوله فهل أنتم منتهون قالوا انتهينا ربنا فقال الناس ناس قتلوا فى سبيل اللّه وماتوا على فراشهم وكانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله اللّه رجسا من عمل الشيطان فانزل اللّه تعالى ليس على الذين أمنوا الآية وروى النسائي والبيهقي عن ابن عباس قال انما نزل تحريم الخمر فى القبيلتين من قبائل الأنصار شربوا فلما ان ثمل « 1 » القوم عبث بعضهم ببعض فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر فى وجهه وراسه ولحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا اخوه ليس فيهم ضغائن فيقول واللّه لو كان بي رءوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن فى قلوبهم فانزل اللّه يا أيها الذين أمنوا انما الخمر والميسر الآية فقال ناس من المتكلفين هى رجس وهى فى بطن فلان وقد قتل يوم أحد فانزل اللّه تعالى.(1/2061)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا أى شربوا من الخمر وأكلوا من مال الميسر قبل تحريمهما إِذا مَا اتَّقَوْا الشرك وَآمَنُوا باللّه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد الايمان ثُمَّ اتَّقَوْا الخمر والميسر بعد التحريم وَآمَنُوا بتحريمهما ثُمَّ اتَّقَوْا سائر المحرمات أو الاولى عن الشرك والثاني عن المحرمات والثالث عن الشبهات وَأَحْسَنُوا إلى الناس أو المعنى أحسنوا الأعمال بان عبدوا ربهم كانهم يرونه وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ع فلا يؤاخذهم بشئ وفيه تنبيه على انه من فعل ذلك صار محسنا ومن صار محسنا صار للّه محبوبا ونزلت عام الحديبية وكانوا محرمين بالعمرة فى ذى القعدة سنة ست.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ
_________
(1) ثمل أى اخذه منه الشراب والسكر 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 175(1/2062)
آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ أى شىء يسير ليس من العظائم التي يدحض الاقدام كالابتلاء ببذل الأنفس والأموال مِنَ الصَّيْدِ يرسله إليكم صفة لشئ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ صفة بعد صفة فكانت الوحوش « 1 » تغشاهم فى رحالهم بحيث يتمكنون من أخذها بايديهم وطعنها برماحهم لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ متعلق بيبلوا فان ذلك الابتلاء انما هو لينميز الخائف من عقاب اللّه ممن لا يخافه فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلق العلم أو المعنى ليعلم خوف الخائف موجودا كما كان يعلمه قبل وجوده انه يوجد حتى ليثبه على عمله لا على علم نفسه فيه بِالْغَيْبِ أى متلبسا ذلك الخائف بالغيب يعنى غائبا من العذاب أو من اللّه سبحانه يعنى يخافه ولم يره اخبر اللّه سبحانه بذلك الابتلاء ليكونوا اصبر على الانتهاء عن المعصية اعانة للمؤمنين فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء بالصيد فصاده أو بعد ذلك الاخبار من اللّه سبحانه بالابتلاء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فانه لم يملك نفسه فى مثل ذلك الشيء اليسير ولم يراع حكم اللّه فيه فكيف يملك نفسه فيما يكون النفس إليه أميل قال البغوي روى عن ابن عباس انه قال يوسع جلد ظهره وبطنه جلدا أو يسلب ثيابه ذكر البغوي ان رجلا يقال له أبو اليسر شدّ على حمار وحش فقتله فنزلت.(1/2063)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعنى الحيوان الممتنع المتوحش فى اصل الخلقة سواء كان ماكول اللحم أو لا كذا فى القاموس وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه غير انه خص منه ما ورد فى الحديث جواز قتلها وهى الحية والعقرب والفارة والحداة والغراب والذئب السبع العادي دون غير العادي فيجوز قتل الكلب لا سيما العقور والظاهر انه صيد واستيناسها عارضى وقيل انه ليس بصيد فانه غير متوحش بالطبع فى الصحيحين عن ابن عمر سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما يقتل المحرم من الدواب فقال لا جناح فى قتلهن على من قتلهن العقرب والفارة والغراب والحداة والكلب العقور وفيهما عن عائشة وعن حفصة نحوه قال ابن الجوزي المراد بالكلب السبع مطلقا لأنه يطلق الكلب على السبع قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى قصة عتبة بن أبى لهب اللّهم سلط عليه كلبا من كلابك وقال اللّه تعالى من الجوارح مكلبين قال أبو حنيفة
_________
(1) أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان قال نزلت هذه الآية فى عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم فى رحالهم لم يروا مثله قط فنهاهم اللّه عن قتلها وهم محرمون يعلم اللّه من يحافه بالغيب 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 176(1/2064)
لو سلمنا جواز اطلاق الكلب على السبع لغة لكن فى العرف غلب استعماله فى الحيوان المخصوص وحمل الحديث على العرف العام اولى واخرج أبو عوانة فى المستخرج من طريق البخاري عن عائشة ذكر فيها ستا وزاد الحية وروى أبو داؤد من حديث أبى سعيد الخدري قال عليه السّلام يقتل المحرم الحية والعقرب والفويسقة والكلب العقور والحداة والسبع العادي ويرمى الغراب ولا يقتله ورواه الترمذي ولم يذكر السبع العادي وقال الحسن ويحمل الغراب المنهي عن قتله على غراب الزرع وروى ابن خزيمة وابن المنذر من حديث أبى هريرة زيادة ذكر الذئب والنمر على الخمس المشهورة لكن قال ابن خزيمة ذكر الذئب والنمر من تفسير الراوي للكلب العقور وفى مرسل سعيد بن المسيب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقتل المحرم الحية والذئب أخرجه ابن أبى شيبة وسعيد بن منصور وأبو داؤد ورجاله ثقات واخرج مسلم عن عائشة ذكر أربعا وأسقط العقرب عن الخمس المشهور فان قيل كيف يجوز تخصيص الكتاب على اصل أبى حنيفة بأحاديث الآحاد قلنا هذه الحديث تلقته الامة بالقبول فصار فى حكم الحديث المشهور جاز به تخصيص الكتاب أو يقال ثبت بالإجماع ان بعض الصيد يجوز قتله للمحرم فصار العام مخصوصا بالبعض فخصصناه بالأحاديث وقال الشافعي واحمد انما يحرم على المحرم قتل ما يحل أكله دون ما لا يحل أكله لان فى الأحاديث اعيان بعضها سباع ضارة وبعضها هو أم قاتلة وبعضها طير لا يدخل فى معنى السباع بل هو حيوان مستخبث اللحم فرتبنا الحكم على استخباث اللحم وخصصنا الآية بالقياس بعد التخصيص بالحديث قلت التعليل فى اباحة القتل باستخباث اللحم غير مناسب لعدم استلزامه المصلحة فلا يجوز القياس والمختار عندى للفتوى ما قال صاحب البدائع ان الحيوان البرى ينقسم إلى ماكول وغير ماكول والثاني إلى ما يبتدى بالاذى غالبا وما ليس كذلك وانما يجوز فى الإحرام قتل ما يبتدى بالاذى غالبا من غير(1/2065)
المأكول وهى رواية عن أبى يوسف كذا فى فتاوى قاضى خان ومثله عن مالك والعلة المؤثرة فى القياس البداية بالاذى قلت والإيذاء على انواع مختلفة فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم نبه بالعقرب على ذوات السموم كالزنبور وكل ما يلدغ وبالفارة ما يشاركها فى النقب والتقرض كابن عرس وبالغراب والحداة على ما يشاركهما فى الاختطاف كالصقر وبالكلب العقور على كل سبع عادى والسنور الأهلي ليس بصيد عند أبى حنيفة لعدم توحشها والصحيح انها متوحشة واستيناسها عارضى بخلاف المتوحش من الانعام فانها مستأنسة خلقة.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 177
(مسئلة) ويلتحق بقتل الصيد الاشارة إليه والدلالة عليه للذى يريد قتله اجماعا لأنه فى معنى القتل إذ هو ازالة الا من عن الصيد لأنه أمن بتوحشه وبعده عن الأعين روى الشيخان فى الصحيحين حديث أبى قتادة وفيه أحرموا كلهم الا أبا قتادة لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ راوا حمر وحش فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا فاكلوا من لحمها الحديث وفيه فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امنكم أحد امره ان يحمل عليها أو أشار إليها قالوا لا قال فكلوا ما بقي من لحمها ففى الحديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم علق اباحة الاكل بعدم الاشارة.
(مسئلة) ويلتحق بالصيد بيض الطائر وقال داؤد لا يضمن وسنذكر ما ورد من الحديث والآثار فى ضمان البيص.
(مسئلة) اجمعوا على ان المحرم إذا اصطاد صيدا أو ذبحه كان حكمه حكم الميتة لا يجوز أكله للحلال ولا للمحرم وقال الثوري وأبو ثور وطائفة يجوز أكله وهو كذبيحة السارق وهو وجه للشافعية لنا انه اثم فى ذبحه بمنزلة تارك التسمية عامدا فصار فى معنى ما ذبح فسقا أهل لغير اللّه بخلاف السارق فان الذبح له فى نفسه وانما المانع هناك حق العبد وهو ينجبر بالضمان.
((1/2066)
مسئلة) وان اصطاده حلال وكان امره بالقتل محرم أو دل عليه أو أشار إليه يحرم أكله للمحرم لما ذكرنا من حديث أبى قتادة حيث علق النبي صلى اللّه عليه وسلم اباحة الاكل للمحرم بعدم الأمر والاشارة ويجوز أكله للحلال اجماعا وَمَنْ قَتَلَهُ يعنى الصيد مِنْكُمْ يعنى من المؤمنين المحرمين مُتَعَمِّداً قال سعيد بن جبير وداؤد وأبو ثور وأبو منذر من الشافعية وهى رواية عن احمد بن حنبل ان هذا القيد يفيد انه لا يجب الجزاء إذا قتل مخطيا أو ناسيا إحرامه أو مكرها أو نحو ذلك وقال مجاهد والحسن انما الجزاء انما يجب إذا قتله عامدا فى قتله ناسيا إحرامه واما إذا قتله ذاكرا إحرامه فلا حكم عليه وامره إلى اللّه تعالى لأنه أعظم من ان يكون له كفارة وجمهور العلماء والائمة الاربعة على انه يجب الجزاء سواء قتله عامدا أو ناسيا إحرامه أو مكرها أو مخطيا أو جاهلا للحرمة قال الزهري الجزاء على المتعمد بالكتاب وعلى المخطى بالسنة والمفهوم ليس بحجة عند أبى حنيفة وعند القائلين به المفهوم دليل ظنى ومنطوق الحديث
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 178
أقوى منه والإجماع أقوى من الكل لكونه دليلا قطعيا واستدل ابن الجوزي بحديث جابر قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الضبع فقال هى صيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح والاستدلال بإطلاق الحكم قيل قوله تعالى متعمدا توطية لقوله تعالى ومن عاد فينتقم اللّه منه.
((1/2067)
مسئلة) إذا دل المحرم على صيد « 1 » من يريد قتله باللسان أو باليد يجب عليه الجزاء كما يجب بالقتل عند أبى حنيفة واحمد وقال مالك والشافعي لا يلزم الجزاء على الدال وان كان يا ثم كمن دل صائما على امرأة فجامعها لا يلزم الكفارة على الدال ولا يفسد صومه ولكن يأثم فكذا هاهنا لان الدلالة ليس بقتل والجزاء انما هو على القتل بالنص قلنا الدلالة فى معنى القتل والنبي صلى اللّه عليه وسلم سوى بين الاشارة والقتل كما مر فى حديث أبى قتادة ولانه محظورات الإحرام اجماعا فلو لم يجب عليه الجزاء لا يرتفع إثمه ويرتفع اثم القتل بالجزاء فيلزم مزية الدلالة على القتل فان قيل فعلى هذا يلزم ان يجب الكفارة على الدال وان لم يتعقبه القتل قلنا الدلالة فانية ان يكون كالرمى إلى الصيد من اسباب القتل وذلك ليس بموجب للجزاء ما لم يتعقبه القتل فانه إذا لم يتعقبه القتل لم ينعقد سببا فَجَزاءٌ خبر مبتدأ محذوف يعنى فالواجب عليه جزاء أو مبتدأ خبره ظرف مقدم عليه أو فاعل ظرف مقدم عليه يعنى فعليه جزاء والجملة خبر لمن والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط قرأ الجمهور مضافا إلى مِثْلُ ما قَتَلَ قيل الاضافة بيانية والظاهر انه اضافة المصدر إلى مفعوله يعنى فعليه ان يجزى مثل ما قتل وقرأ الكوفيون فجزاء منونا ومثل مرفوعا بدلا منه أو صفة له ومال القرائتين واحد معنى والمراد بالمثل القيمة عند أبى حنيفة وابى يوسف لان المثل المطلق صورة ومعنى هو المشارك فى النوع غير مراد هاهنا اجماعا فبقى ان يراد المثل معنى وهو القيمة ولان القيمة فى قتل بعض الصيد واجب اجماعا وهو ما لا يكون له مثل من النعم وما كان أصغر من الحمامة كالعصفور والجراد فلا بد ان يقال بوجوب القيمة فى الجميع كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المشترك ولان المعهود فى الشرع فى اطلاق المثل ان يراد المشارك فى النوع أو القيمة قال اللّه تعالى فى ضمان(1/2068)
العدوان فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل اعتدى عليكم والمراد الأعم اعنى المماثل فى النوع إذا كان المتلف مثليا
_________
(1) عن الحكم ان عمر كتب ان يحكم عليه فى جزاء الصيد فى الخطاء والعمد 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 179
و القيمة إذا كان قيميا بناء على انه مشترك معنوى وفى الحيوانات أهدر المماثلة الكائنة فى تمام الصورة اجماعا تغليبا للاختلاف الباطني بين افراد نوع واحد فجعل من القيميات فما ظنك إذا انتفى المشاركة فى النوع أيضا ولم يكن هناك الا مشاكلة فى العوارض كطول العنق والرجلين فى النعامة مع البدنة وان يعب ويهدر فى الحمامة مع الشاة وعند مالك والشافعي واحمد ومحمد بن الحسن المراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يشابهه الصيد المقتول من حيث الخلقة لان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الضبع صيد وفيه شاة رواه أبو داؤد عن عبد اللّه وكذا روى اصحاب السنن والحاكم فى المستدرك واحمد وابن حبان عن جابر ولفظ الحاكم الضبع صيد فإذا أصابه المحرم ففيه كبش ويوكل وقال صحيح الاسناد وروى مالك فى الموطأ والشافعي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب انه قضى فى الضبع بكبش وفى الغزال بمعز وروى الشافعي والبيهقي عن ابن مسعود قضى فى اليربوع بجفر أو جفرة واخرج البيهقي عن ابن عباس قال فى حمامة الحرم شاة وفى البيضتين درهم وفى النعامة جزور وفى البقر بقرة وفى الحمار بقرة وروى الشافعي والبيهقي عن عثمان بن عفان انه قضى فى أم جنين بحلان من الغنم ولان قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ أى الإبل أو البقر أو الغنم صفة لمثل بيان له والقيمة لا يكون من النعم وأجاب الحنفية عن استدلالهم بان التقديرات المذكورة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وعن الصحابة انما هى باعتبار القيمة دون المشاكلة الصورية وبانا لا نسلم ان قوله تعالى من النعم صفة لمثل بل هو حال من الضمير(1/2069)
المنصوب المحذوف أى مثل ما قتله حال كون المقتول من النعم أى ذات قوائم الأربع والنعم يطلق على الوحشي كما يطلق على الأهلي كذا قال أبو عبيدة وكذا فى القاموس ويرد عليه ان الكلام فى جزاء الصيد مطلقا سواء كان من النعم أو من الطير فجعله حالا من المقتول ينافى المقصود قلت وعندى انه صفة لمثل والمراد بالمثل حيوان من النعم الاهلية يماثل المقتول فى القيمة دون بعض العوارض لما ذكر أبو حنيفة من الدليل فعندى انه إذا اختار الجاني الهدى فعليه ان يهدى من النعم الأهلي امثلها وأقربها قيمة من الصيد المقتول ففى حمار الوحش وبقر الوحش وكل ما زاد قيمته على قيمة الشاة سواء كانت قيمته مثل قيمة البقر أو دونه يهدى بقرة جيدة أو ردية بشرط ان لا يكون قيمة الهدى اقل من قيمة الصيد وفيما زاد على البقر فى القيمة سواء كان مثل البدنة فى القيمة أو اقل منها يهدى بدنة وفيما زاد على البدنة يهدى شاة مع بدنة أو بقرة وشاة أو بدنة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 180(1/2070)
و بقرة أو بدنتين أو بقرتين أو شاتين أو نحو ذلك يعنى يكون قيمة الهدى مثل قيمة الصيد أو اكثر منه وما كان قيمته كقيمة الشاة جائز التضحية يهدى شاة كذلك وما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة كالضبع والوبر واليربوع والغزال وأم جنين والحرباء والضب والثعلب يهدى عناقا أو جفرة أو حملا اعنى ما يكون قيمته كقيمة الصيد أو اكثر منه من نوع الغنم وفى الحمامة وما دونه إذا اختار الهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة هذا على اصل الجمهور انه لا يشترط ان يكون الهدى جائز التضحية وهو المختار عندى للفتوى واما على اصل أبى حنيفة رحمه اللّه فلا بد ان يهدى فى كل ما يكون قيمته اقل من قيمة الشاة شاة جائز التضحية وبه قال مالك ان المقتول سواء كان صغيرا أو كبيرا صحيحا أو معيبا الواجب انما هو الهدى جائز التضحية الكبير الصحيح وجه قولهما ان مطلق الاسم ينصرف إليه ولذا لا يجوز فى هدى المتعة وسائر الجنايات فى الحج ان يهدى الا جائز التضحية لنا ان الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين أوجبوا عناقا وجفرة ولا نسلم ان المذكور فى النص مطلق اسم الهدى حتى ينصرف إلى الكامل كما فى هدى المتعة ونحوه بل المذكور هاهنا مثل ما قتل من النعم هديا فالمراد الهدى المماثل بالمقتول اما صورة كما قال الشافعي أو قيمة كما قلنا فلا وجه لايجاب الكبير جائز التضحية وما ذكرنا من التفسير للاية لا يزاحمه اقوال الصحابة فان الصحابة انما حكموا فى(1/2071)
الأرنب بعنز لأن العنز يماثل قيمة بقيمة الأرنب وفى الحمامة بشاة لان الشاة ادنى اقسام الهدى وأشبهها وأقربها بالحمامة قيمة بالنسبة إلى البقرة والبدنة فلو أراد الهدى يهدى ادنى افراد الشاة ولا دليل على انهم اعتبروا المماثلة فى الخلقة فان قيل روى البيهقي بسند حسن عن ابن عباس وروى أيضا من عطاء الخراسانى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية انهم قالوا فى النعامة يقتلها المحرم بدنة ورواه مالك من طريق أبى عبيدة بن عبد اللّه بن مسعود مكاتبة عن أبيه وقال مالك لم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة ولا شك ان حكمهم فى النعامة ببدنة ليس الا لرعاية المشابهة فى طول العنق والرجلين دون القيمة قلنا فى الأثر ضعف وانقطاع وقال الشافعي هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث وبالقياس قلنا ان فى النعامة بدنة أو يقال لعل بعض افراد النعامة فى بعض الازمنة بلغ قيمة شىء من الإبل فحكم بعض الصحابة ان فى النعامة بدنة ثم تبعه جماعة من التابعين زعما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 181(1/2072)
منهم ان ذلك الصحابي انما حكم بالبدنة عملا بالمماثلة الصورية فشاع ذلك فيهم حتى قال مالك ثم ازل اسمع ان فى النعامة بدنة فان قيل روى البيهقي عن عكرمة قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال انى قتلت أرنبا وانا محرم فكيف ترى فقال هى تمشى على اربع والعناق تمشى على اربع وهى تجتر « 1 » والعناق تجتر ويأكل الشجر وكذا العناق اهد مكانها عناقا وهذا صريح فى رعاية المماثلة الصورية وروى ابن أبى شيبة من طريق عطاء ان رجلا اغلق بابه على حمامة وفرخيها ثم انطلق إلى عرفات ومنى ورجع وقد ماتوا فاتى ابن عمر فجعل عليه ثلثة من الغنم وحكم معه رجل وروى الثوري وابن أبى شيبة والشافعي والبيهقي من حديث ابن عباس مثله وهذا أيضا يدل على ان وجوب الشاة فى الحمامة ليس من حيث القيمة والا لكفت شاة واحدة فى ثلث حمامات واكثر منها قلنا نعم بعض الآثار تدل على رعاية المشابهة فى الصورة وذلك عن راى لا عن رواية وليس علينا اتباع بعض الصحابة مع مخالفة الكتاب وقد قال اللّه تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم ونحن نتيقن ان البدنة ليست مثلا للنعامة ولا الشاة للحمامة فى الصورة ولا فى المعنى والمشابهة فى بعض صفات لا يعبأ بها غير معتبرة عرفا ولغة والا فجميع الحيوانات لا يخلوا عن مشابهة ما فى صفة من الصفات البتة يَحْكُمُ بِهِ أى بالجزاء أو بالمثل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ « 2 » جملة واقعة صفة للجزاء أو للمثل لان المثل لا يتعرف بالاضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة أو حالا من ضمير الجزاء فى خبره أو منه إذا رفعته بظرف على الفاعلية قال
_________
(1) الاجترار كشيدن ونشخوار كردن شتر وچريدن 12
((1/2073)
2) عن ميمون بن مهران ان أعرابيا اتى أبا بكر فقال قتلت صيدا انا محرم فما ترى علىّ من الجزاء فقال أبو بكر وابى بن كعب وهو جالس عنده ما ترى فيها فقال الاعرابى أتيتك وأنت خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسألك فإذا أنت تسأل غيرك فقال أبو بكر فما تنكر يقول اللّه عز وجل يحكم به ذوا عدل منكم فشاورت صاحبى حتى إذا اتفق على شىء امرناك به وعن أبى بكر المزني قال كان رجلان محرمين فحاش أحدهما ظبيا فقتله الاخر وأتيا عمر وعبد الرحمن بن عوف عنده فقال له عمر ما ترى قال شاة قال وانا ارى ذلك فاهديا شاة فلما مضيا قال أحدهما لصاحبه مادرى امير المؤمنين ما يقول حتى سأل صاحبه فسمعها عمر فردهما واقبل على القائل ضربا بالدرة قال تقتلون الصيد وأنتم حرم وتغمصون الفتيا ان اللّه تعالى يقول يحكم به ذوا عدل منكم ثم قال ان اللّه لم يرض لعمر وحده فاستعنت لصاحبى 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 182
اكثر الحنفية الواحد يكفى لاعتبار المماثلة كما روى عن كثير من الصحابة انهم حكموا وحدانا والاثنان أحوط وابعد من الغلظ وقال الشافعي وجمهور العلماء انه يشترط العدد والعدالة وهو المختار للفتوى اتباعا للنص واقتداء بعمل الصحابة كما يشهد به الآثار روى مالك عن محمد بن سيرين ان عمر سأله رجل عن جزاء الظبى قال عمر لعبد الرحمن بن عوف تعال حتى احكم انا وأنت فحكما عليه بعنز فقال الرجل هذا امير المؤمنين لا يستطيع ان يحكم فى ظبى حتى دعا رجلا يحكم معه فسمع عمر قوله فدعاه فسأله هل تقرأ سورة المائدة فقال لا فقال عمر لو انك أخبرتني انك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا قال اللّه تعالى فى كتابه يحكم به ذوا عدل منكم.
((1/2074)
مسئلة : ) اختلف القائلون بالمثل خلقة فقال مالك يحكم الحكمان فى كل زمان حكما مستانفا وقال أكثرهم ان الحكم فى ذلك ما حكم به السلف لا يتجاوز عنه وما لم يحكموا فيه يستانف فيه الحكم وما اختلف فيه مجتهد فيه وقال الثوري الاختيار فى ما اختلف فيه السلف إلى الحكمين فى كل زمان والقران يبطل هذه الأقوال كلها فان الحكم فى كل زمان مستانفا غير مفيد عند اعتبار المماثلة خلقة إذ الخلقة لا تتفاوت والاخذ بما حكم به السلف يرده قوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم فانه يقتضى ان يحكم العدلان فى كل زمان مستانفا ولو كان الحكم مرة يكفى للابد لحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم فى جميع الصيود أو فى اكثر منه ولم يحتج إلى حكم الحكمين فى كل مرة فالاية دليل على ان المراد بالمثل هو المثل من حيث القيمة حتى يتصور الاحتياج إلى حكم الحكمين فى كل زمان ومكان لاختلاف القيمة باختلاف الازمنة والامكنة هَدْياً حال من الضمير الراجع إلى إلى الجزاء أو إلى المثل أو من جزاء وان نوّن لتخصيصه بالصفة أو بدل عن مثل باعتبار محله قال الشافعي وغيره هذا يدفع قول أبى حنيفة ان المراد بالمثل القيمة فان القيمة لا يكون هديا قلت ولا يرد ذلك على ما ذكرت من التفسير للمثل بالحيوان من النعم يماثل الصيد فى القيمة فانه يكون هديا على انه لو كان المراد بالمثل القيمة كما قاله أبو حنيفة فيجوز ان يكون هديا حالا مقدرة أى صائرا ذلك القيمة هديا بواسطة الشراء بها لا يقال حينئذ يحتاج إلى التقدير بقوله صائرا من غير ضرورة قلنا الضرورة ثابتة لما ذكرنا وأيضا التقدير لازم على تفسير الشافعي أيضا إذ لا يصح حكمهما بالهدى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 183
موصوفا ببلوغه إلى الكعبة حال حكمهما به على التحقيق فالتقدير على تفسيركم انه يحكمان به مقدرا بلوغه فلزوم التقدير ثابت غير انه يختلف محله على الوجهين.
((1/2075)
مسئلة : ) هل يجب فى الهدى السوق أم يجوز ان يشترى بمكة فقال مالك يجب فيه السوق عملا بظاهر قوله تعالى هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لان إضافته لفظية وقال الجمهور لا يجب السوق بل انما ذكر قوله هديا بالغ الكعبة للدلالة على ان الحرم شرط لذبح الهدى وعليه انعقد الإجماع وكونه مهدى من خارج غير مقصود قلت والدليل على ان السوق ليس بشرط قصة حجة الوداع ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قدم مكة قال للناس من كان منكم اهدى فانه لا يحل من شىء حرم منه حتى يقضى حجه ومن لم يكن منكم اهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهدو من لم يجد هديا فليصم وهذا صريح فى ان بعض الصحابة لم يسق الهدى واشتروا هديا بمكة ومن لم يجد هديا صام وقد سماه النبي صلى اللّه عليه وسلم هديا حيث قال ثم ليهل بالحج وليهدو قد قال اللّه تعالى فى التمتع أيضا فما استيسر من الهدى وما قاله مالك فيمن اشترى الهدى من الحرم الواجب ان يخرج به إذا حج إلى عرفة امر لا دليل عليه.
(مسئلة) هل يجب التصدق بلحم الهدى على فقراء مكة فقال الجمهور يجب ذلك لان صفة بلوغ الهدى الكعبة يشعر ان ينفق اللحم على مساكين الحرم وقال أبو حنيفة لا يجب ذلك بل يتصدق على من يشاء من المساكين فى الحرم وغيره لان الذبح عبادة غير معقولة فلا بد فيه من رعاية المكان حتى انه من ذبح فى غير الحرم لا يجزيه الا ان يبلغ اللحم قيمة الصيد فينفقه بنية الإطعام واما انفاق اللحم فعبادة معقولة ولا دليل على التخصيص بمساكين الحرم وما ذكروا من الاشعار ممنوع أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء قرأ نافع وابن عامر بالاضافة إلى طَعامُ مِسْكِينٍ اضافة بيانية والباقون بتنوين كفارة ورفع طعام على انه عطف بيان أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أى هى طعام مساكين وكلمة أو للتخيير « 1 » تفيد ان الجاني مخير
_________
((1/2076)
1) والعطف بكلمة أو للتخيير أى تخيير الجاني بين الخصال الثلاثة تخفيفا عليه كما فى خصال كفارة اليمين هذا عند أبى حنيفة وابى يوسف رح وقال محمد والشافعي رح الخيار فى تعيين شىء من الخصال إلى الحكمين ولا دليل لهذا القول فى الآية بل الآية تدل على ان المراد بالمثل القيمة وتقدير القيمة مفوض إلى الحكمين فإذا حكما بمقدار القيمة فالخيار إلى الجاني ان شاء يشترى بها هديا بالغ الكعبة وان شاع يشترى بها طعاما للمساكين وان شاء صام مكان كل مسكين يوما ولا مدخل للحكمين فى التعيين فان الحاكم هو اللّه لا غير وانما التخيير للتخفيف رحمة من اللّه تعالى وذلك فى تخيير الجاني 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 184
بين ان يجزى مثل ما قتل من النعم وبين ان يكفر فيطعم المساكين وبين ان يصوم وقال الشعبي والنخعي جزاء الصيد على الترتيب والآية حجة لنا عليهما.
((1/2077)
مسئلة) اجمعوا على ان بناء الإطعام على القيمة وعلى ان الصيد إذا لم يكن له مثل من النعم فالمعتبر قيمة الصيد يشترى به طعاما واما إذا كان له مثل من النعم فعند الجمهور يعتبر قيمة مثله لا قيمته لان الواجب عندهم المثل لا قيمة الصيد والإطعام بدل عنه فمن قتل حمامة واختار الإطعام يطعم عندهم قيمة شاة لا قيمة حمامة إذا النظير هو الواجب عينا وعند أبى حنيفة رح يعتبر قيمة الصيد مطلقا لانها هو الواجب عنده واما على ما قلت ان الواجب على تقدير اختيار الهدى مثله من النعم فالمراد مثله فى القيمة فما زاد الهدى على قيمة الصيد انما التزمه تطوعا أو لزمه ضرورة عدم التجزى فى الهدى ولا ضرورة ولا التزام عند اختيار الإطعام فيعتبر قيمة الحمامة لا قيمة الشاة لان المتلف هو المضمون فلا معنى لتقويم غيره لجبره ولا نسلم ان النظير هو الواجب عينا فانه من قتل حمامة لو اهدى بعيرا أجزأه البتة ولو كانت الشاة هى الواجبة عينا لم يجزه البعير على ان القول بان النظير هو الواجب عينا لا يتصور الا إذا كان الواجب على الترتيب كما قال الشعبي والنخعي فيجب اولا النظير فان لم يجد النظير يقضيه بالاطعام وان لم يجد فبالصيام قضاء غير معقول وليس كذلك بل الواجب أحد الخصال الثلاثة على التخيير كما ذكرنا فاعتبار احدى الخصال فى الاخرى بلا دليل شرعى باطل وانما اعتبر قدر الإطعام فى الصيام بقوله تعالى أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطعام صِياماً معطوف على جزاء قال الفراء العدل بالكسر المثل من جنسه وبالفتح المثل من غير جنسه.
(مسئلة : ) اختلفوا فى مقدار طعام كل مسكين فقال الشافعي ليطعم كل مسكين مدا كما هو كذلك عنده فى كفارة الصوم والظهار واليمين وقال أبو حنيفة يطعم كل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 185(1/2078)
مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من شعير أو تمر كما هو عنده فى صدقة الفطر وحمل على ذلك الكفارات كلها والاولى ان يقال نصف صاع من غالب قوت البلد للاجماع على انه هو المقدار للاطعام فى باب الجنايات إذا حلق المعذور راسه حيث امر النبي صلى اللّه عليه وسلم كعبا بتفريق الفرق بين ستة وقد مر الحديث فى سورة البقرة والحمل على هذا اولى من الحمل على صدقة الفطر لاتحاد جنس الجناية ويشترط عند الجمهور للاطعام مساكين الحرم كما فى انفاق لحم الهدى ولا يشترط ذلك عند أبى حنيفة لما قلنا.
((1/2079)
مسئلة : ) ولو كان قيمة الصيد اقل من طعام مسكين واحد أو فضل شىء يسير من طعام مسكين أو مساكين يعطى ذلك القدر اليسير مسكينا ولا يجب عليه جبر الكسر اجماعا وان صام عنه صام يوما لان الصوم لا يتجزى وكذا لو اهدى يهدى ادنى ما يطلق عليه اسم الشاة على ما قلت وشاة جائز للتضحية عند أبى حنيفة ومالك لِيَذُوقَ متعلق بمحذوف يعنى أوجبنا ذلك الجزاء أو الكفارة ليذوق الجاني وَبالَ أَمْرِهِ أى ثقل فعله وسوء عاقبته هتكه حرمة اللّه واصل الوبل الثقل يقال طعام وبيل أى ثقيل ومنه أخذناه أخذا وبيلا عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما فى الجاهلية أو قبل التحريم أو فى هذه المرة وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد بعد ذلك المرة فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم اللّه منه لان الفاء لا تدخل على المضارع إذا وقع جزاء ذهب ابن عباس على ظاهر هذه الآية حيث روى عنه انه إذا قتل المحرم صيدا متعمدا يسأله هل قتلت قبله شيئا من الصيد فان قال نعم لم يحكم وقال له اذهب فينتقم اللّه منك وان قال لم اقتل قبله شيئا من الصيد حكم عليه فان عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضربا وجيعا كذا قال البغوي قلت والاولى ان يقال فى تفسير الآية عفا اللّه عما سلف بأداء الجزاء ومن عاد فينتقم اللّه منه يعنى يوجب عليه الجزاء مرة ثانية فان لم يود الجزاء يعذبه فى الاخرة وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممّن أصر على عصيانه.
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أى الاصطياد « 1 » من البحر لأنه هو المراد من صيد « 2 » البر كما سنذكر وَطَعامُهُ
_________
(1) وعن انس عن أبى بكر الصديق فى الآية قال صيده ما حويت عليه وطعامه ما لفظ إليك رواه أبو الشيخ 12 منه
((1/2080)
2) عن الحارث بن نوفل قال حج عثمان بن عفان فاتى بلحم صيد صاده حلال فاكل منه عثمان ولم يأكل على فقال عثمان واللّه ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا فقال على وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وعن الحسن ان عمر بن الخطاب لم يكن يرى بأسا بلحم الصيد للمحرم إذا صيد لغيره وكرهه ابن أبى طالب رواه ابن أبى شيبة 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 186(1/2081)
اى ما يطعم منه الضمير اما عائد إلى الصيد أو إلى البحر أى ما يطعم من صيد البحر أو من البحر وقيل المراد بصيد البحر كل حيوان لا يعيش الا فى الماء وطعامه أكله واحتج به مالك على جواز أكل كل حيوان بحرى وقد مرت المسألة فى أول السورة وقال عمر رضى اللّه عنه صيد البحر ما اصطيد وطعامه ما رمى به وعن ابن عباس وابن عمر وابى هريرة طعامه ما قذفه الماء إلى الساحل ميتا وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وعكرمة وقتادة والنخعي ومجاهد صيده طريه وطعامه مالحه مَتاعاً لَكُمْ مفعول له لاحلّ يعنى أحل ذلك تمتيعا لكم أى للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ أى للمسافرين منكم يتزودونه قد يدا وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قيل معنى الآية حرم صيد البر مطلقا على المحرم وان اصطاده حلال من غير امر المحرم ولا اعانته ولا إشارته ولا لاجله يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول طاووس وسفيان الثوري ويويده حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي انه اهدى لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرد عليه فلما رأى ما فى وجهه قال انا لم نرده عليك الا انا حرم متفق عليه وعند النسائي لا تأكل الصيد وفى رواية سعيد عن ابن عباس لو لا انا محرمون لقبلناه منك وأجيب بما ترجم البخاري فى الباب انه حمل الحديث على ان الحمار كان حيا والمحرم لا يجوز له ذبح الصيد الحي كذا نقلوا التأويل عن مالك وهذا التأويل لا يصح لأنه رواه إسحاق فى مسنده بسنده عن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن الزهري فقال لحم حمار واخرج الطبراني عن الزهري فقال رجل حمار وحش وفى رواية عند مسلم عجز حمار وحش تقطر دما وفى رواية عند مسلم رجل حمار وحش واخرج مسلم من طريق حبيب بن أبى ثابت عن سعيد فقال تارة حمار وحش وتارة شق حمار وحش واتفقت الروايات كلها على انه رده الا ما رواه وهب والبيهقي(1/2082)
من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن امية ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اهدى له عجز حمار وحش وهو بالجحفة فاكل منه وأكل القوم والجمع بينهما بالحمل على القصتين اولى لان القصة المروية فى الصحيحين كانت بالأبواء أو بودان وفى رواية وهب انه بالجحفة وبين الجحفة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 187(1/2083)
و الأبواء ثلثة وعشرون ميلا وبين جحفة وودان ثمانية أميال وفى الباب حديث على قال انشد من كان هاهنا من أشجع أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اهدى إليه عضو صيد فلم يقبله قال انا حرم قال نعم رواه أبو داؤد والطحاوي وروى مسلم نحوه لكن اجمع المسلمون بعد القرن الأول ان ما صاده الحلال لاجل نفسه يحل للمحرمين أكله وقد صح الأحاديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أكل من لحم الصيد وامر أصحابه باكله منها حديث أبى قتادة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلوا ما بقي من لحمها وفى بعض الروايات الصحيحة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أكلها ومنها ما ذكرنا من حديث الصعب بن جثامة انه وقع فى بعض رواياته ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أكل منها ومنها ما رواه مسلم عن معاذ ابن عبد الرحمن بن عثمان التيمي عن أبيه قال كنا مع طلحة بن عبد اللّه ونحن حرم فاهدى له طير وطلحة راقد فمنا من أكل ومنا من تورع فلما استيقظ طلحة وافق من أكله وقال أكلناه مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومنها حديث عمرو بن سلمة الضميري عن البهزى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحا إذا حمار وحشي عقير فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعوه فانه يوشك ان يأتى صاحبه فجاء البهزى وهو صاحبه فقال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شانكم بهذا الحمار فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق الحديث رواه مالك واصحاب السنن وصححه ابن خزيمة فتفسير الآية وحرم عليكم صيد البر أي اصطياده.
((1/2084)
مسئلة) ما اصطاد الحلال لاجل المحرم اختلف فيه فقال أبو حنيفة يحل أكله مطلقا حتى يحل لمن صيد لاجله أيضا وقال مالك لا يحل أكله لا للحلال ولا للمحرم وقال الشافعي واحمد ما صيد لاجل المحرم قبل إحرامه أو بعده يحرم على ذلك المحرم أكله ولا يحرم أكله لغير المحرم ولا لمن لم يصد له من المحرمين ومذهب الشافعي واحمد مروى عن عثمان روى مالك فى الموطإ عن عبد اللّه بن أبى بكر عن عبد اللّه بن عامر قال رايت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم فى صائف قد غطى وجهه بقطيفة ثم اتى بلحم صيد فقال لاصحابه كلوا فقالوا اولا تأكل أنت قال لست كهيئتكم انما صيد من اجلى وما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه أكل من لحم الصيد وروى انه رده ولم يأكله قال الائمة الثلاثة وجه الجمع بين الروايتين انه أكل ما صاده الحلال لاجل نفسه ولم يأكل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 188(1/2085)
ما صاد لاجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو لغيره من المحرمين قلنا لا دليل فى شىء من الأحاديث المذكورة على هذا التفصيل ووجه الجمع عندى ان أكل لحم الصيد مطلقا إذا صاده الحلال مباح للمحرم لكن تركه أفضل فبالاكل تارة علّم النبي صلى اللّه عليه وسلم الجواز وبترك الاكل منه اخرى نبه على الاستحباب فان قيل إذا تعارض الأحاديث ولا ترجيح كان القياس الاخذ بالمحرم احتياطا قلنا نعم لكنا انما لم نقل هكذا حتى لا يلزمنا مخالفة الإجماع فانهم اجمعوا على ان أكل بعض الصيد للمحرم حلال احتج الائمة الثلاثة على حرمة ما صيد لاجل المحرم بحديث جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوا أو يصاد لكم أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة واحمد نحوه قال مالك سوى النبي صلى اللّه عليه وسلم بين ما صاده المحرم وما صيد له حالة إحرامه فثبت ان ما صيد لاجل المحرم حكمه حكم ما صاده المحرم بنفسه فهو حرام على جميع الناس كالميتة وقال الشافعي واحمد ان انقسام الآحاد على الآحاد يقتضى ان كل محرم يحرم عليه ما صاده وما صيد له واما ما صاده محرم غيره أو حلال أو صيد لغيره من محرم أو حلال فلا يثبت من هذا الحديث فيه شىء وانما يعرف حكمه من خارج وقلنا هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج فان مداره على عمرو بن أبى عمرو فرواه احمد عنه عن رجل من الأنصار عن جابر ورواه الترمذي وغيره عنه عن المطلب عن جابر ففى رواية احمد راوى عن جابر مجهول وفى رواية الترمذي قال الترمذي لا يعرف للمطلب سماع من جابر ثم عمرو بن أبى عمرو وهو مولى المطلب قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه وقال مرة هو وأبو داؤد انه ليس بالقوى لكن قال احمد ما به بأس ثم هو استدلال بمفهوم الغاية والاستدلال بالمفهوم لا يجوز عندنا وقد يحتجون بحديث أبى قتادة قال خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زمن الحديبية فاحرم أصحابي ولم(1/2086)
احرم فرايت حمارا فحملت عليه فاصطدته فذكرت شانه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذكرت انى لم أكن أحرمت وانى انما اصطدته لك فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم أصحابه فاكلوا أو لم يأكل منه حين أخبرته انى اصطدته لك أخرجه إسحاق وابن خزيمة والدارقطني والجواب انه قال ابن خزيمة وأبو بكر النيسابورى والدارقطني انه تفرد بهذه الزيادة معمر ولا اعلم أحدا ذكر قوله اصطدته لك وقوله ولم يأكل منه غيره فلعل هذا من اوهامه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 189
قال الذهبي معمر بن راشد له أوهام قلت وقد ورد فى الروايات المتفقة على صحتها ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أكلها وما استدلوا برواية معمر حجة على مالك لا له حيث قال فامر أصحابه فاكلوا فان مالكا يجعل ما صيد لاجل المحرم حراما على جميع الناس.(1/2087)
وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ أى صير اللَّهُ الْكَعْبَةَ سميت لتربعها والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة وقال مقاتل سميت كعبة لانفرادها من البناء وقيل سميت كعبة لارتفاعها من الأرض وأصلها الخروج والارتفاع ومنه سمى الكعب فى الرجل كعبا لارتفاعه من جانبى القدم ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرج ثديها تكعبت الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح أو بدل أو المفعول الثاني سمى به لان اللّه حرمه وعظم حرمته قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض قِياماً لِلنَّاسِ منصوب على انه مفعول ثان أو حال قرأ ابن عامر قيما بلا الف والباقون بالألف أى قواما لهم وهو ما يقوم به امر دينهم ودنياهم اما الدين فلان به يقوم الحج والمناسك واما الدنيا فلانهم كانوا يأمنون فيه من النهب والغارة ولا يتعرض أحد لهم فى الحرم وَالشَّهْرَ الْحَرامَ يعنى جنس الأشهر الحرم وهى رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم جعلها قياما للناس يأمنون فيه من القتال وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ سبق تفسيرها فى اوّل السورة يأمنون الناس بها من التعرض ذلِكَ اشارة إلى الجعل أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره وقال الزجاج راجع إلى ما سبق فى هذه السورة من الاخبار عن الغيوب وكشف الاسرار مثل قوله سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين ومثل اخباره بتحريفهم الكتب ونحو ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فان شرع الاحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع المترتبة عليهما دليل على حكمة الشارع وكمال علمه وكذا الاخبار بالغيب دليل على علمه الكامل الشامل وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص ومبالغة بعد اطلاق.(1/2088)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد ووعيد لمن انتهك محارمه ولمن حافظ عليها ولمن أصر عليها ولمن انقلع عليها أخرج أبو الشيخ عن الحسن ان أبا بكر الصديق
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 190
حين حضرته الوفاة قال الم تر ان اللّه ذكر اية الرخاء عند اية الشدة واية الشدة عند اية الرخاء ليكون المؤمن راغبا راهبا لا يتمنى على اللّه غير الحق ولا يلقى بايديه إلى التهلكة.
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وقد فرغ الرسول ما وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجة ولا عذر لكم فى التفريط فيه تشديد فى إيجاب القيام بما امر به وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من تصديق وتكذيب وفعل وعزيمة أخرج الواحدي والاصبهانى فى الترغيب عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر تحريم الخمر فقام أعرابي فقال انى كنت رجلا كانت هذه تجارتى فاعتقيت منها ما لا فهل ينفع ذلك المال ان عملت فيه بطاعة اللّه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا يقبل الا الطيب فانزل اللّه تصديقا لرسوله.
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ « 1 » وَالطَّيِّبُ(1/2089)
لفظه عام فى نفى المساوات عند اللّه بين الردى من الاشخاص والأعمال وبين جيدها رغب به فى صالح العمل والحلال من المال وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فان العمل القليل الصّالح بالإخلاص خير من كثير بلا اخلاص وانفاق مال قليل حلال خير من الكثير الحرام عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة ولا يقبل اللّه الا الطيب فان اللّه يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبه كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل متفق عليه والمخلصون والصالحون من الناس خير عند اللّه من ملأ الأرض من الخبيثين عن سهل بن سعد قال مر رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك فى هذا فقال رجل من اشراف الناس هذا واللّه حرى ان خطب ان ينكح وان شفع ان يشفع قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم مر رجل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رأيك فى هذا فقال يا رسول اللّه رجل من فقراء المسلمين هذا حرى ان خطب ان لا ينكح وان شفع ان لا يشفع وان قال
_________
(1) أخرج ابن أبى حاتم ثنا يونس بن عبد الأعلى ثنا ابن وهب ثنى يعقوب الإسكندر انى قال كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله ان الخراج قد انكسر فكتب إليه عمر ان اللّه يقول لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فان استطعت ان تكون فى العدل والإحسان والإصلاح بمنزلة من كان قبلك فى الظلم والفجور والعدول فافعل ولا قوة الا باللّه 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 191(1/2090)
لا يسمع لقوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا خير من ملأ الأرض مثل هذا متفق عليه فَاتَّقُوا اللَّهَ حتى تكونوا عند اللّه من الطيبين واثروا الطيب وان قل من العمل والمال على الخبيث وان كثر قال البغوي يعنى فاتقوا اللّه ولا تتعرضوا للحجاج وان كانوا مشركين وقد مضت قصة شريح فى اوّل السورة يا أُولِي الْأَلْبابِ اصحاب العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ع أى راجين ان تبلغوا الفلاح بالتقوى روى احمد والترمذي والحاكم عن على عليه السّلام وابن جرير مثله من حديث أبى هريرة وابى امامة وابن عباس انه لما نزلت وللّه على الناس حج البيت قالوا يا رسول اللّه فى كل عام فسكت قالوا يا رسول اللّه فى كل عام قال لا ولو قلت نعم لوجبت وفى رواية قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما يومنك ان أقول نعم واللّه لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم فاتركونى ما تركتكم فانما هلك من كان قبلكم بكثرة سوالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشئ فاتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه فانزل اللّه تعالى عز وجل.(1/2091)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ والقائل عكاشة بن محصن كذا فى حديث أبى هريرة عند ابن جرير يعنى لا تسألوا عن أشياء يشق عليكم إتيانها كالحج فى كل عام قال الخليل وسيبويه وجمهور البصريين أصله شئياء على وزن فعلاء بهمزتين بينهما الف وهمزته الثانية للتأنيث ولذا لم ينصرف كحمراء وهى مفردة لفظا جمع معنى يعنى اسم جمع ولما استثقلت الهمزتان المجتمعان قدمت الاولى التي هى لام الكلمة فجعلت قبل الشين فصار وزنها لفعاء وقيل أصله أشياء على وزن افعلاء جمع لشىء على ان أصله شيئ كهيئ أو شييئ كصديق فخفف وقيل افعال جمع لشئ من غير تغيير كبيت وأبيات ومنع عن الصرف على الشذوذ لعدم السببين إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أى تظهر لكم ذلك الأشياء الشاقة بان تومروا بإتيانها تَسُؤْكُمْ أى تغمكم ويصعب عليكم إتيانها وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها عن هذه التكليفات الشاقة حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ والرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ يعنى يحتمل ان تبد لكم وتومروا بما سألتم من التكاليف الشاقة الجملتان الشرطيتان المتعاطفتان صفتان لاشياء وهما كالمقدمتين المنتجتين لمنع السؤال.
(مسئلة) الأمر المطلق لا يقتضى التكرار على اصل أبى حنيفة ولا يحتمله فمعنى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 192(1/2092)
قوله صلى اللّه عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت وقوله تعالى ان تبد لكم تسؤكم انه لو قال النبي صلى اللّه عليه وسلم نعم يجب الحج كل عام ويظهر ذلك الأمر لكان ناسخا للامر المطلق لا بيانا له ويدل عليه قوله تعالى وان تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم فانه لو كان بيانا لامتنع تاخره عن وقت الحاجة من غير سؤال ولان البيان قد يكون بالعقل والتأمل وتتبع اللغة وبما ذكرنا ظهر ان السؤال والاستفسار للمجمل أو المشكل أو الخفي لا بأس به قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما شفاء العي السؤال وانما الممنوع السؤال عن تكليف لم يرد الشرع به كالحج فى كل عام وكالسؤال عن لون البقرة المامورة ذبحها لبنى إسرائيل ونحو ذلك عَفَا اللَّهُ عَنْها أى عن الأشياء الشاقة المذكورة حيث لم يأمر بإتيانها صفة اخرى لاشياء وجاز ان يكون استينافا أى عفا اللّه عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بتفريط وافراط منكم ويعفوا.
قَدْ سَأَلَها « 1 » الضمير راجع إلى الأشياء بحذف الجار أى عنها أو إلى المسألة التي دل عليها لا تسألوا « 2 » فلم يعد بعن قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ قال البيضاوي الظرف متعلق بسألها وليس صفة لقوم لان ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها وقيل فيه نظر لان الظرف يسند إلى الجثة التي لا يتعين وجودها فيه نحو الهلال يوم الجمعة فيصح كونه صفة لقوم سأل بنو إسرائيل حين أمروا بذبح البقرة بما هى وما لونها وما هى فشق ذلك عليهم وسأل ثمود صالحا الناقة وقوم عيسى المائدة وسأل بنو إسرائيل بعد موسى ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل اللّه مع جالوت ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أى بمسبها كافِرِينَ حيث لم يأتمروا بما أمروا بعد سوالهم قال أبو ثعلبة الخشني ان اللّه فرض فرايض فلا تسبقوها يعنى بالسؤال ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدود أ فلا تعتدوها(1/2093)
_________
(1) قال قتادة فى قراءة أبى بن كعب قد سألها قوم بنيت لهم فاصبحوا بها كافرين أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما 12 منه
(2) عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال اين ابائى قال فى النار فقام اخر فقال من أبى فقال أبوك فلان فقام عمر بن الخطاب فقال رضينا باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وبالقران اماما انا يا رسول اللّه حديث عهد بالجاهلية والشرك واللّه اعلم من آبائنا فسكن غضبه ونزلت يا أيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 193(1/2094)
و عفا عن أشياء بغير نسيان فلا تبحثوا عنها وروى البخاري عن قتادة عن انس بن مالك قال سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى احفوه بالمسألة فغضب فصعد المنبر فقال لا تسألونى اليوم عن شىء إلا بينته لكم فجعلت انظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لان راسه فى ثوبه يبكى فإذا رجل كان إذا لاحى الرجال يدعى لغير أبيه فقال يا رسول اللّه من أبى قال حذافة ثم انشأ عمر فقال رضينا باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا نعوذ باللّه من الفتن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رايت فى الخير والشر كاليوم قط انه صورت لى الجنة والنار حتى رايتهما وراء الحائط وكان قتادة يذكر عند هذا الحديث هذه الآية يا أيها الذين أمنوا لا تسألوا عن أشياء الآية وقال يونس عن ابن شهاب أخبرني عبيد اللّه بن عبد اللّه قالت أم عبد اللّه بن حذافة لعبد اللّه بن حذافة ما سمعت بابن قط اعق منك امنت ان تكون أمك قد فارقت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس قال عبد اللّه بن حذافة واللّه لو الحقنى بعبد اسود للحقته وروى ان عمر قال يا رسول اللّه انا حديث العهد بالجاهلية فاعف عنا يعف اللّه سبحانه عنك فسكن غضبه وروى البخاري أيضا عن ابن عباس قال كان قوم يسألون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استهزاء فيقول الرجل من أبى ويقول الرجل ضلت ناقة اين ناقتى فانزل اللّه تعالى هذه الآية قال الحافظ ابن حجر لا مانع ان تكون نزلت فى الامرين وحديث ابن عباس فى ذلك أصح اسنادا قلت وقصة السؤال عن الحج فى كل عام أوفق بسياق الكتاب وانكانت الآية نزلت فى السؤال عن أبيه فمعنى لا تسألوا عن أشياء ان تبد لكم تسؤكم انه ان تبد لكم نسبكم إلى غير أبيكم تفضحوا وتسؤكم وقال مجاهد هذه الآية نزلت حين سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام الا تراه ذكرها.(1/2095)
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ كلمة من زائدة يعنى ما شرع هذه الأشياء ووضع لها احكاما قال ابن عباس البحيرة الناقة التي ولدت خمسة ابطن كانوا بحروا اذنها أى شقوها وتركوا الحمل عليها ولم يركبوها ولم يجزوا وبرها ولم يمنعوها الماء والكلاء فان كان خامس ولدها ذكرا نحروه وأكله الرجال والنساء وان كان أنثى بحروا اذنها أى شقوها قال أبو عبيدة السائبة البعير الذي يسيب وذلك ان الرجل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 194(1/2096)
من أهل الجاهلية إذا مرض أو غاب له قريب نذر فقال ان شفانى اللّه أو شفى مريضى أورد غائبى فناقتى هذه سائبة ثم تسيب فلا تحبس عن رعى وماء ولا يركبها أحد فكانت بمنزلة البحيرة وقيل الناقة إذا نتجت ثنتى عشرة إناثا سيبت ولم يركب ظهرها ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها الا ضيف فما نتجت بعد ذلك شق اذنها ثم خلى مع أمها فهى البحيرة بنت السائبة فعل بها كما فعل بامها وقال علقمة العبد يسيب على ان لا ولاء عليه ولا عقل ولا ميراث وقال عليه السلام الولاء لمن أعتق والسائبة الفاعلة بمعنى المفعولة وهى المسيبة نحو عيشة راضية أى مرضية واما الوصيلة فمن الغنم كان الشاة إذا ولدت سبعة ابطن نظروا فان كان السابع ذكرا ذبحوه فاكله الرجال والنساء وان كانت أنثى تركوها فى الغنم وانكانت ذكرا مع أنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى وقالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه وكان لبن الأنثى حراما على النساء فان مات منها شىء أكله الرجال والنساء جميعا واما الحام فهو الفحل إذا ركب ولد ولده ويقال إذ انتج من صلبه عشرة ابطن قالوا حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من كلأ ولا ماء فإذا مات أكله الرجال والنساء روى البخاري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي تمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لالهتهم لا يحمل عليها شىء والوصيلة الناقة البكر تبكر فى أول نتاج الإبل ثم تثنى بعده بالأنثى وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ان وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه دعوه للطواغيت واعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شىء وسموه بالحام قال أبو هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايت عمرو بن عامر الخزاعي يجز قصبه فى النار كان أول من سيب السوائب قال البغوي روى عن محمد بن إسحاق عن محمد بن ابراهيم التيمي عن أبى صالح السمان عن أبى هريرة قال قال رسول(1/2097)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاكثم بن جون الخزاعي يا أكثم رايت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه فى النار فما رايت من رجل أشبه برجل منك به ولا به منك وذلك انه أول من غير دين اسمعيل ونصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامى فلقد رأيته فى النار يؤذى أهل النار بريح قصبه فقال أكثم أ يضرني شبهه يا رسول اللّه فقال لا انك مؤمن وهو كافر وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 195
اللَّهِ الْكَذِبَ
فى قولهم ان اللّه أمرنا بها وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وجه التحليل والتحريم بل يقلدون كبارهم الجهال وفيه اشارة ان بعضهم يعرفون بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء ان يعترفوا به.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ فى التحليل والتحريم قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا حسبنا مبتدأ والخبر ما وجدنا يعنى الذي وجدنا عليه آباءنا بيان « 1 » لقصور عقلهم وان لا استدلال لهم سوى التقليد أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ الواو للحال والهمزة دخلت عليها لانكار التقليد على هذا الحال يعنى ا يحسبهم ما وجدوا عليه اباؤهم ولو كانوا جهلة ضالين يعنى أى يحسبهم الجهل والضلال الذي كان عليه اباؤهم والحاصل ان الاقتداء لا يليق الا بالعلماء المهتدين.(1/2098)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الجار والمجرور اسم فعل جعلا اسما لالزموا فلذلك نصب أنفسكم يعنى الزموا إصلاحها واحفظوها لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على انه مستانف والجزم على انه جواب امر أو على انه نهى ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قيل نزلت الآية لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفار ويتمنون ايمانهم أخرج احمد والطبراني وغيرهما عن أبى عامر الأشعري قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذه الآية فقال لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم وقال مجاهد وسعيد بن جبير الآية فى اليهود والنصارى يعنى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب إذا اهتديتم فخذوا منهم الجزية واتركوهم وقيل كان الرجل إذا اسلم يقال سفهت أباك أخرج ابن أبى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان ليسلم ويكفر أبوه أو اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا ابائهم وإخوانهم إلى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل اللّه هذه الآية وليست الآية فى ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لان من الاهتداء الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على حسب طاقته عن أبى بكر
_________
(1) أخرج ابن أبى حاتم عن عمر مولى عفرة قال انما نزلت هذه الآية يايها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لان الرجل كان يسلم ويكفر أبوه أو اخوه فلما دخل فى قلوبهم حلاوة الايمان دعوا آباءهم وإخوانهم إلى الإسلام فقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فانزل اللّه هذه الآية 12 [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 196(1/2099)
الصديق رضى اللّه عنه قال يا أيها الناس انكم تقرءون هذه الآية يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وانكم تضعون على غير موضعها فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان الناس إذا رأوا منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم اللّه بعقابه رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وفى رواية أبى داؤد إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك ان يعمهم اللّه بعقاب وفى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على ان يغيروا ثم لا يغيرون الا يوشك ان يعمهم اللّه بعقاب وفى اخرى له ما من قوم يعمل فيهم المعاصي وهم اكثر ممن يعمله الحديث وفى رواية ليأمرون بالمعروف ولينهن عن المنكر أو ليسلطن سبحانه عليكم شراركم فليسومونكم سوء العذاب ثم ليدعن اللّه عز وجل خياركم فلا يستجاب لكم وقال البغوي روى عن ابن عباس انه قال فى هذه الآية مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ما قبل منكم فان رد عليكم فعليكم أنفسكم ثم قال ان القرآن نزل منه أى قد مضى تأويلهن قبل ان ينزلن ومنه أى وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومنه أى وقع تأويلهن بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم بيسير ومنه أى يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه أى يقع تأويلهن فى اخر الزمان ومنه أى يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم واهوائكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فامروا وانهوا وإذا اختلفت القلوب والأهواء والبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرأ ونفسه فعند ذلك جاء تاويل هذه الآية وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والبيهقي فى الشعب عن أبى العالية هذه القصة عن عبد اللّه بن مسعود وروى الترمذي وابن ماجة عن أبى ثعلبة الخشني فى قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال اما واللّه لقد سالت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/2100)
فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رايت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذى راى برايه ورايت امر الابد لك منه فعليك نفسك ودع امر العوام فان ورائكم ايام الصبر فمن صبر فيهن قبض على الجمر للعامل فيهن اجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قالوا يا رسول اللّه اجر خمسين منهم قال اجر خمسين منكم وقيل نزلت الآية فى أهل الأهواء قال أبو جعفر الرازي دخل على صفوان بن محرز شاب من أهل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 197(1/2101)
الأهواء فذكر شيئا من امره فقال صفوان الا ادلك على خاصة اللّه تعالى خص بها أوليائه يا أيها الذين أمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً الضال والمهتدى فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجزى كل على حسب عمله ولا يؤاخذ أحد بذنب غيره فيه وعد ووعيد للفريقين ذكر البغوي واخرج نحوه البخاري وأبو داؤد والترمذي عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان تميما الداري وعدى بن بدا خرجا إلى الشام للتجارة وكانا حينئذ نصرانيين ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص وكان مسلما فلما قدموا الشام مرض بديل ودوّن ما معه فى صحيفة وطرحها فى متاعه ولم يخبرهما به واوصى إليهما ان يدفعها متاعه إلى اهله ومات بديل ففتّشا متاعه وأخذا منه اناء فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما فانصرفا إلى المدينة فدفعا إلى أهل الميت ففتّشوا فاصابوا صحيفة فيها تسمية ما كان معه فجاؤا تميما وعديا فقالوا هل باع صاحبنا شيئا من متاعه قالا لا قالوا فهل اتجر تجارة قالا لا قالوا فهل طال مرضه فانفق على نفسه قالا لا فقالوا انا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وانا قد فقدنا منها اناء من فضة مموها بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال من فضة قالا لا ندرى انما اوصى لنا بشئ فامرنا ان ندفعه إليكم فدفعناه وما لنا من علم بالاناء فجحدوا فترافعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت.(1/2102)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ شهادة بينكم مبتدأ خبره اثنان بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه تقديره شهادة بينكم شهادة اثنين لفظه خبر ومعناه امر أى ليشهد اثنان وجاز ان يكون اثنان فاعل المصدر يعنى شهادة بينكم والمصدر مبتدا خبره محذوف مقدم عليه تقديره فيما أمرتم شهادة اثنين أى ان يشهد اثنان واتسع فى بين فاضيف إليه المصدر والمراد بالشهادة الاشهاد بمعنى الإحضار للايصاء إليهما يدل عليه سياق القصة المنزلة فيها كما فى قوله تعالى وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وعدد الاثنان مبنى على الأحوط والواحد يكفى للوصية اجماعا وإذا حضر ظرف الشهادة أى الاشهاد ومعنى إذا حضر أحدكم الموت إذا ظهرت اماراته وقوله حين الوصية ظرف لحضر أو بدل من إذا حضر وفى إبداله تنبيه على ان الوصية مما ينبغى ان لا يتهاون فيه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 198(1/2103)
يعنى وقت حضور الموت وقت الوصية ضرورة ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أى من أهل دينكم يا معشر المؤمنين صفتان للاثنان فان المسلمين العدول اولى للاستيمان أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ مرفوع بفعل مضمر يفسره ما بعده ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أى سافرتم فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فاوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما لكم فاتهمهما بعض الورثة وادعوا عليهما خيانة وأنكر الخيانة يدل على هذا التقدير سبب النزول حيث أصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما الإناء فجحد الوصيان تَحْبِسُونَهُما صفة لاثنان أو آخران يعنى لكل اثنين عادلين من الحاضرين للايصاء سواء كان منكم أو من غيركم ولا وجه لجعله صفة لاخرين فقط والمعنى تقفون الوصيين المنكرين للخيانة مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من زائدة والمراد بالصلوة صلوة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملئكة الليل وملئكة النهار وقيل أى صلوة كان فَيُقْسِمانِ أى الوصيان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان ارتاب الوارث منكم ويتهم الوصيين بالخيانة وينكر انها يستحلف الوصيين الحاكم فيقسمان باللّه وان لم يرتابوا ولم يتهموا فلا حاجة إلى تحليفهما فقوله ان ارتبتم اعتراض وجواب القسم لا نَشْتَرِي بِهِ أى لا نستبدل بالقسم أو باللّه ثَمَناً عرضا من الدنيا أى لا نحلف باللّه كاذبا لطمع وَلَوْ كانَ الوصي ذا قُرْبى من الميت وادعى الورثة عليه الخيانة يعنى الاستخلاف لا يختص بالاجنبى عند انكار الخيانة واللّه اعلم وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أى الشهادة التي امر اللّه بإقامتها والمراد بالشهادة هاهنا اظهار الحق والاخبار بالصدق ولو على أنفسهم قرأ يعقوب شهادة اللّه ممدودا جعل همزة الاستفهام عوضا عن حرف القسم أى واللّه إِنَّا إِذاً أى إذا كتمنا الحق لَمِنَ الْآثِمِينَ فلما نزلت هذه الآية فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة العصر دعا(1/2104)
تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر باللّه الذي لا اله الا هو انهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما فحلفا على ذلك وخلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبيلهما ثم وجد الإناء فى أيديهما بعد ما طال الزمان وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس انه وجد بمكة فقالوا اشترينا عن تميم وعدى فبلغ ذلك بنى سهم فاتوهم فى ذلك فقالا انا كنا اشترينا منه هذا فقالوا الم تزعما ان صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه قالا لم يكن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 199
عندنا بينة فكرهنا ان نقر لكم به فكتمنا لذلك فرفعوهما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت.(1/2105)
فَإِنْ عُثِرَ أى اطلع واصل العثر الوقوع على الشيء عَلى أَنَّهُمَا يعنى الوصين اسْتَحَقَّا أى استوجبا وفعلا ما أوجب إِثْماً بخيانتهما وإيمانهما الكاذبة وادعيا دعوى بالشراء أو نحو ذلك ليدفع عنهما تهمة الخيانة فَآخَرانِ فشاهدان اخر ان يَقُومانِ ليحلفا مَقامَهُما مقام الوصيين سمى الاثنان من الورثة شاهدين لانهما بدعوى حقهما وتصديق الشرع لهما فى ان الحق لهما يظهر ان اثم الشاهدين السابقين كانهما شاهدان على إثمهما وتخصيص الحلف باثنين من أقارب الميت لخصوص الواقعة التي نزلت لها فانكان وارث الميت واحد أ يحلف هو أو اكثر من الاثنين يحلفوا جميعا حيث أنكروا ما ادعيا الوصيان من الشراء من الميت أو نحو ذلك مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ قرأ حفص على البناء للفاعل يعنى من أهل الميت الذين استحق عَلَيْهِمُ أى على الورثة الْأَوْلَيانِ من بين الورثة بالشهادة وذلك بسبب كونهما اقرب إلى الميت غير محجوبين بغيرهما من الورثة استحقا على سائر الورثة بان يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الوصيين وعلى هذه القراءة الاوليان فاعل لاستحق والجار والمجرور متعلق به وقرأ الباقون استحقّ على البناء للمفعول أسند إلى عليهم وعلى حينئذ بمعنى فى كما فى قوله تعالى على ملك سليمان أى فى ملكه يعنى استحق الحالفان الإثم فيهم أى بسببهم والاوليان صفة للاخرين وانما جاز ذلك مع ان الاوليان معرفة وآخران نكرة لأنه لما وصف الآخران بقوله تعالى من الذين صار معرفة والظاهران أوليان بدل من آخران أو من الضمير فى يقومان ولا يلزم خلو الصفة عن الضمير لان المبدل منه موجود وان كان فى حكم المطروح ولكون البدل عين المبدل منه فهو يسد مسده كالظاهر موضع الضمير أو خبر مبتدأ محذوف أى هما الاوليان والمراد بالاوليان الاقربان إلى الميت الذين لم يحجبهما غيرهما وقرأ أبو بكر عن عاصم وحمزة ويعقوب الأولين على انه صفة الذين أو بدل منه(1/2106)
او من الأولين الذين استحق عليهم وسموا أولين لانهم كانوا أولين فى الذكر فى قوله شهادة بينكم فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ على خيانة الوصيين وكذبهما فى دعوى الشراء ونحو ذلك ويقولان لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما يعنى يميننا أحق بالقبول من يمينهما كما فى قوله تعالى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 200
فشهادة أحدهم اربع شهادات باللّه انه لمن الصادقين وَمَا اعْتَدَيْنا أى ما تجاوزنا الحق فى أيماننا إِنَّا إِذاً أى إذا اعتدينا لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحق فلما نزلت هذه الآية قام رجلان من اولياء السهمي فحلفا هكذا فى رواية البخاري وفى رواية الترمذي فقام عمرو بن العاص ورجل اخر منهم فحلفا وسمى البغوي الاخر المطلب بن وداعة السهمي حلفا باللّه بعد العصر ولعل حلف السهميان على عدم علمهما ببيع بديل الإناء من الوصيين وروى الترمذي وضعفه غيره من حديث ابن عباس عن تميم الداري فى هذه الآية قال يرى الناس منها غيرى وغير عدى بن بدا كنا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فاتينا الشام لتجارتنا وقدم علينا مولى لبنى سهم يقال له بديل بن أبى مريم بتجارة ومعه جام من فضة فمرض فاوصى إلينا وأمرنا ان تبلغا ما ترك اهله فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه انا وعدى بن بدا فلما قدمنا إلى اهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا غير هذا ما دفع إلينا فلما أسلمت وتاثمت من ذلك فاتيت اهله فاخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمائة درهم وأخبرتهم ان عند صاحبى مثلها فاتوا به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فامرهم ان يستحلفوه فحلف فانزل اللّه تعالى يا أيها الذين أمنوا شهادة بينكم إلى قوله ان ترد ايمان بعد ايمانهم فقام عمرو بن العاص ورجل اخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدى بن بدا.(1/2107)
ذلِكَ الحكم بتحليف الوصيين عند ارتياب الورثة وتحليف الورثة عند دعوى الوصيين بالشراء ونحوه. أَدْنى أى اقرب من أَنْ يَأْتُوا أى يأتي الأوصياء بِالشَّهادَةِ أى بإظهار الحق وبيان ما اوصى إليهم الميت عَلى وَجْهِها على نحو ما حملوها من غير خيانة فيها أَوْ يَخافُوا عطف على يأتوا أى أو ادنى ان يخافوا أَنْ تُرَدَّ على الورثة أَيْمانٌ على انكار ما ادعاه الوصي بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على محذوف أى احفظوا احكام اللّه واتقوا اللّه وَاسْمَعُوا ما أمركم اللّه سماع اجابة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ يعنى ان لم تتقوا ولم تسمعوا كنتم قوما فاسقين واللّه لا يهدى القوم الفاسقين إلى حجة أو إلى طريق الجنة وعلى هذا التفسير الذي ذكرت تطابق الآية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 201
سبب نزولها ولا يلزم النسخ لان يمين الوصي عند إنكاره الخيانة ويمين الوارث عند إنكاره دعوى الوصي الشراء ونحوه حكم ثابت محكم وقد تقرر عند القوم ان شيئا من سورة المائدة لم ينسخ وقيل معنى الآية ليستشهد الميت عند احتضاره إذا اوصى لاحد رجلين ليوديا الشهادة عند القاضي للموصى له ويدل عليه ظاهر قوله تعالى لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى يعنى ولو كان الموصى له ذا قربى منا لا نشهد له بالزيادة على الوصية طمعا وعلى هذا التأويل قيل معنى ذوا عدل منكم أى من حى الموصى أو آخران من غيركم أى من غير حيكم وعشيرتكم وهو قول الحسن والزهري وعكرمة.
((1/2108)
مسئلة : ) ولا يجوز شهادة كافر على مسلم فى شىء من الاحكام وقال اكثر المفسرين معنى قوله تعالى منكم أى من أهل دينكم وملتكم ومن غيركم أى من غير ملتكم وبه قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وابراهيم النخعي وسعيد ابن جبير ومجاهد وعبيدة فقال النخعي وجماعة هى منسوخة وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة فى الابتداء ثم نسخت فان شهادة الكافر على المسلم لا يسمع وذهب قوم إلى انها ثابتة وقالوا إذا لم يجد مسلمين ليشهد كافرين قال شريح من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهد على وصية فاشهد كافرين فشهادتهما جائزة ولا يجوز شهادة كافر على مسلم الا على وصية وعن الشعبي ان رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصية فاشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة بتركته وأتيا الأشعري فاخبراه وقد ما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا امر لم يكن بعد الذي كان فى عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم فاحلفهما وامضى شهادتهما قلت ولو كان حكم هذه الآية ثابتة يجب ان يرد اليمين على الورثة ان ظهر كذب الشاهدين فى الشهادة على الوصية بوجه.
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يعنى يوم القيامة ظرف متعلق بلا يهدى يعنى لا يهدى إلى طريق الجنة يوم يجمع أو بدل من مفعول اتقوا بدل اشتمال أو مفعول لا سمعوا على حذف مضاف يعنى واسمعوا خبر يوم يجمع أو منصوب بإضمار اذكروا أو احذروا فَيَقُولُ اللّه تعالى للرسل ما ذا أُجِبْتُمْ ماذا منصوب بأجبتم نصب المصدر أو بنزع الخافض أى اىّ اجابة اجابتكم أمتكم أو باى شى مما دعوتم قومكم اجابتكم قومكم وهذا السؤال لتوبيخ قومهم كما يسئل الموؤدة باى ذنب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 202(1/2109)
قتلت لتوبيخ الوائدة قالُوا يعنى الرسل لا عِلْمَ لَنا قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدى ان للقيامة اهو الا وزلازل يزول فيها القلوب عن مواضعها فيفزعون من هول ذلك اليوم ويذهلون عن الجواب ويقولون لا علم لنا ثم بعد ما ثابت إليهم عقولهم يشهدون على أممهم وقال ابن جريج معناه لا علم لنا بعاقبة أمرهم وبما أحدثوا بعدنا وبما اضمروا فى قلوبهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تعلم ما غاب عنا ونحن لا نعلم الا ما نشاهده قرأ أبو بكر وحمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع والباقون بضمها عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليردن علىّ ناس من أصحابي الحوض حتى عرفتهم اختلجوا دونى فاقول أصيحابي أصيحابي فيقول لا تدرى ما أحدثوا بعدك رواه البخاري وغيره ونظيره قوله تعالى حكاية عن عيسى كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وروى عن ابن عباس انه قال معناه لا علم لنا الا علما أنت اعلم به منا وقيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك وقيل لا علم لنا بوجه الحكمة عن سوالك إيانا عن امر أنت اعلم به منا.(1/2110)
إِذْ قالَ اللَّهُ بدل من يوم يجمع يعنى يوبخ الكفرة يومئذ بسوال الرسل عن اجابتهم وتعديد ما اظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة وغلا آخرون فاتخذوهم الهة أو منصوب بإضمار اذكر يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي لفظه واحد ومعناه جمع إذ المراد به الجنس عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ مريم حيث طهرتها واصطفيتها على نساء العلمين قال الحسن ذكر النعمة شكرها إِذْ أَيَّدْتُكَ أى قويتك ظرف لنعمتى أو حال منه بِرُوحِ الْقُدُسِ أى جبريل عليه السّلام أو بالكلام الذي يحيى به النفوس حيوة ابدية ويطهرها من الآثام ولذا أضاف الروح إلى القدس لأنه سبب الطهر والذي يحيى به المولى تُكَلِّمُ النَّاسَ حال من مفعول أيدتك فِي الْمَهْدِ أى كائنا فى المهد صبيا وَكَهْلًا نبيّا يعنى يكلمهم فى الطفولية والكهولة على سواء الحق حاله فى الطفولية بحال الكهولة فى كمال العقل والتكلم بالحكمة وبه يستدل على انه سينزل فانه رفع قبل الكهولة قال ابن عباس أرسله اللّه وهو ابن ثلثين سنة فمكث فى رسالته ثلثين شهرا ثم رفعه اللّه إليه قال بعض الأفاضل لا دلالة فى النظم على التسوية بين كلام الطفولية والكهولة والاولى ان يجعل وكهلا تشبيها بليغا أى يكلمهم كائنا فى المهد وكائنا كالكهل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 203(1/2111)
و حينئذ لا دلالة فيه على انه سينزل وَإِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على إذ أيدتك الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً قرأ نافع ويعقوب طائرا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي سبق تفسيره فى سورة ال عمران وَإِذْ كَفَفْتُ عطف على إذ علمتك يعنى إذ منعت وصرفت بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعنى اليهود حين هموا بقتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعنى المعجزات المذكورات الدالة على نبوته ظرف لكففت فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا يعنى ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ حمزة والكسائي هاهنا وفى سورة هود والصف الا ساحر فالاشارة إلى عيسى عليه السّلام وفى هود إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ عطف على إذ كففت ومعنى أوحيت ألهمتهم وقذفت فى قلوبهم كذا روى عبد بن حميد عن قتادة وأبو الشيخ عن السدى وقيل معناه امرتهم على لسان عيسى أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي ان مصدرية ويجوز ان يكون مفسرة لاوحيت قالُوا حين امرتهم ووفقتهم آمَنَّا باللّه وبرسوله وَاشْهَدْ يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.(1/2112)
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب باذكر أو ظرف لقالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قرأ الجمهور يستطيع على الغيبة وربّك مرفوعا على الفاعلية يعنى هل يطيعك ربك ان سألته فاستطاع بمعنى أطاع كاستجاب بمعنى أجاب أخرج ابن أبى حاتم عن عامر الشعبي ان عليا كان يقرأ هل يستطيع ربك قال هل يطيعك ربك وفى الآثار من أطاع اللّه أطاعه ويؤيده قراءة الكسائي هل تستطيع بصيغة الخطاب لعيسى وربك منصوبا على المفعولية بحذف المضاف وهى قراءة على وعائشة وابن عباس ومجاهد ورواه الحاكم من معاذ بن جبل يعنى هل تستطيع سوال ربك من غير صارف يصرفك عن سواله فيفعل ربك اجابة سوالك قالت عائشة كان الحواريون اعلم باللّه من ان يقولوا هل يستطيع ان تدعوه رواه ابن أبى شيبة وأبو الشيخ وغيرهما وقيل هذه الاستطاعة على ما يقتضيه الحكمة والارادة لا على ما يقتضيه القدرة فلم يقولوا شاكين فى قدرة اللّه بل كما يقول الرجل لصاحبه هل تستطيع ان تنهض معى وهو يعلم انه يستطيع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 204(1/2113)
و هو يريد هل تفعل ذلك واجرى بعضهم على الظاهر فقالوا كان ذلك قبل استحكام المعرفة وكانوا بشرا حديث عهد بالجاهلية ومن ثم قال عيسى استعظاما لقولهم اتقوا اللّه ان كنتم مؤمنين يعنى لا تشكوا فى قدرته تعالى أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام فاعلة من ماده يميده إذا أعطاه وأطعمه كانها تميد أى تطعم من يقدم عليه فالمائدة بمعنى المعطية المطعمة للاكلين الطعام وسمى الطعام أيضا مائدة على التجوز كما يقال جرى النهر وقال أهل الكوفة سميت مائدة لانها تميد بالاكلين أى تتحرك وقال أهل البصرة فاعلة بمعنى المفعولة يعنى مميدة بالاكلين قالَ عيسى اتَّقُوا اللَّهَ عن أمثال هذا السؤال الذي لم يسأل مثله الأمم السابقة نهاهم عن اقتراح الآيات إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فانه لا يجوز للمؤمنين اقتراح الآيات أو المعنى اتقوا ولا تشكوا فى قدرته ان كنتم مؤمنين بكمال قدرته وصحة نبوتى أو ان كنتم صدقتم فى ادعاء الايمان أخرج الحكيم الترمذي فى نوادر الأصول وابن أبى حاتم وأبو الشيخ فى العظمة وأبو بكر الشافعي فى الفيلانيات عن سلمان الفارسي قال لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة كره ذلك جدا وقال اقنعوا بما رزقكم اللّه تعالى فى الأرض ولا تسألوا المائدة فانها ان نزلت عليكم كانت اية من ربكم وانما هلكت ثمود حين سألوا نبيّهم اية فابتلوا بها قابوا الا ان يأتيهم بها فلذلك.(1/2114)
قالُوا أى الحواريون انما سألنا لانا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فى ادعاء النبوة أى نزداد ايمانا أو يقينا قيل ان عيسى أمرهم ان يصوموا ثلثين يوما فإذا أفطروا لا يسألون اللّه شيئا الا أعطاهم ففعلوا وسألوا المائدة وقالوا ونعلم ان قد صدقتنا بمعنى صدقتنا ان اللّه يجيب دعوتنا بعد ما صمنا ثلثين يوما وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ للّه بالوحدانية والقدرة ولك بالنبوة بعد ما أمنا بذلك بالغيب أو من الشاهدين لك عند بنى إسرائيل إذا رجعنا إليهم قيل ان عيسى حينئذ اغتسل ولبس المسيح وصلى ركعتين وطأطأ رأسه وغض بصره وبكى.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا نداء ثان لا صفة ولا بدل لان اللهم لا يوصف ولا يبدل منه كذا قال التفتازانيّ أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً قال السدى معناه تتخذ ذلك اليوم عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 205
و العيد السرور بعد الغم وقيل يوم السرور سمى به للعود من الترح إلى الفرح قيل كان هو يوم الأحد ولذا اتخذه النصارى عيدا وقيل عيدا أى عائدة من اللّه حجة وبرهانا لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً بدل من لنا باعادة الجار أى يكون عيدا لمتقدمنا ومتاخرنا يعنى أهل زماننا ومن جاء بعدنا على ملتنا قال ابن عباس يأكل منها اخر الناس كما أكل أولهم والظاهر ان لنا خبر كان وعيدا خبر ثان ولاولنا وآخرنا صفة ليعد أو اية عطف على عيدا مِنْكَ صفة لاية أى دلالة وحجة كائنة منك على كمال قدرتك وصحة نبوتى وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ قالَ اللَّهُ تعالى مجيبا لعيسى عليه السّلام.(1/2115)
إِنِّي مُنَزِّلُها يعنى المائدة قرأ نافع وابن عامر وعاصم مشدّدا من التفعيل والتفعيل يدل على التكثير مرة بعد اخرى والباقون مخففا من الافعال عَلَيْكُمْ اجابة إلى سوالكم فَمَنْ يَكْفُرْ بعد نزول المائدة بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أى تعذيبا مصدر للجنس ويجوز ان يجعل مفعولا به على السعة أى أعذبه بعذاب ويراد بالعذاب ما يعذب به لا أُعَذِّبُهُ صفة لعذابا والضمير للمصدر أو للعذاب بمعنى ما يعذب به على حذف حرف الجر أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ع أى من عالمى زمانهم أو العلمين مطلقا فانهم مسخوا قردة وخنازير لما كفروا بعد نزول المائدة ولم يعذب بمثل ذلك غيرهم وتمام حديث سلمان الفارسي المذكور انه لما سأل عيسى ذلك ربه نزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة من فوقها وغمامة من تحتها وهم ينظرون إليها وهى تهوى منقضة حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال اللهم اجعلنى من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة واليهود ينظرون إلى شىء لم يروا مثله قط ولم يجدوا ريحا أطيب من ريحه فقال عيسى عليه السّلام ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم اللّه تعالى فقال شمعون الصفار راس الحواريين أنت اولى بذلك منا يا رسول اللّه فقام عيسى عليه السّلام فتوضأ وصلى صلوة طويلة وبكى كثيرا ثم كشف المنديل عنها وقال بسم اللّه خير الرازقين فإذا هو سمكة مشوية ليس عليها قلوسا ولا شوك عليها يسيل من الدسم وعند راسها ملح وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث وإذا خمسة ارغفة على واحد زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فقال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 206(1/2116)
شمعون يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الاخرة فقال ليس شىء مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الاخرة ولكنه شىء افتعله اللّه تعالى بالقدرة الغالبة كلوا مما سألتم يمددكم ويزدكم من فضله قالوا يا روح اللّه كن أول من يأكل منها فقال عيسى عليه السّلام معاذ اللّه ان أكل منها ولكن يأكل منها من سألها فخافوا ان يأكلوا منها فدعا لها عيسى أهل الفاقة والمرض واهل البرص والجذام والمقعدين والمبتلين وقال كلوا من رزق اللّه ولكم المهناء ولغيركم البلاء فاكلوا وصدر عنها الف وثلاثمائة رجل وامراة من فقير ومريض وزمن ومبتلى كلهم الشبعان وإذا السمكة كهيئتها حين نزلت ثم طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتى توارت فلم يأكل منها زمن ولا مريض ولا مبتلى الا عوفى ولا فقير الا استغنى وندم من لم يأكل منها فلبث أربعين صباحا ينزل ضحى فإذا نزلت اجتمع الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والرجال والنساء ولا تزال منصوبة توكل منها حتى إذا فاء الفيء طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها فى ظلها حتى توارت عنهم وكانت تنزل غبا تنزل يوما ولا تنزل يوما كناقة ثمود فاوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام اجعل مائدتى ورزقى للفقراء دون الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا وشككوا الناس فيها وقالوا ترون المائدة حقا ينزل من السماء فاوحى اللّه تعالى إلى عيسى انى شرطت ان من كفر بعد نزولها عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال عيسى عليه السّلام ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فمسخ منهم ثلاثمائة وثلثة وثلثون رجلا باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم فاصبحوا خنازير يسعون فى الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة فى الحشوس فلما رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى عليه السّلام وبكوا فلما أبصرت خنازير عيسى بكت وجعلت تطيف بعيسى عليه السّلام فجعل عيسى يدعوهم بأسمائهم(1/2117)
فيشيرون برؤسهم ويبكون ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلثة ايام ثم هلكوا وقال البغوي روى خلاس بن عمرو عن عمار بن ياسر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انها نزلت خبزا ولحما وقيل لهم انها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبئوا فما مضى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 207
يومهم حتى خانوا وخبئوا فمسخوا قردة وخنازير وقال ابن عباس ان عيسى عليه السّلام قال لهم صوموا ثلثين يوما ثم سلوا اللّه ما شئتم يعطكموه فصاموا فلما فرغوا قالوا يا عيسى لو عملنا لاحد فقضينا عمله لاطعمنا وسألوا المائدة فاقبلت(1/2118)
الملئكة بمائدة يحملونها عليها سبعة ارغفة وسبعة أخوات حتى وضعتها بين أيديهم فأكل اخر الناس كما أكل أولهم وقال كعب الأحبار نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملئكة بين السماء والأرض عليها كل الطعام الا اللحم وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس انزل على المائدة كل شىء الا الخبز واللحم وقال قتادة كان عليها ثمر من ثمار الجنة وقال عطية العوفى نزلت من السماء سمكة فيها طعم كل شىء وقال الكلبي كان عليها خبز رز وقال وهب بن منبه انزل اللّه أقرصة من شعير وحيتانا وكان قوم يأكلون ثم يخرجون ويجئى آخرون فياكلون حتى أكلوا بأجمعهم وفضل وعن الكلبي ومقاتل انزل اللّه خبزا وسمكا وارغفة فاكلوا ما شاء اللّه سبحانه وتعالى والناس الف ونيف فلما رجعوا إلى قراهم ونشروا الحديث ضحك منهم من لم يشهد وقالوا ويحكم انما سحرا عينكم فمن أراد اللّه به الخير ثبته على بصيرة ومن أراد فتنة رجع إلى كفره فمسخوا خنازير ليس فيهم صبى ولا امرأة فمكثوا بذلك ثلثة ايام ثم هلكوا ولم يتوالدوا ولم يأكلوا ولم يشربوا وكذلك كل ممسوخ وقال قتادة كانت المائدة تنزل عليهم بكرة وعشيا حيث كانوا كالمن والسلوى لبنى إسرائيل هكذا اقوال اكثر العلماء وقال مجاهد والحسن لم تنزل المائدة فان اللّه عز وجل لما أوعدهم على كفرهم بعد نزول المائدة خافوا ان يكفر بعضهم فاستعفوا وقالوا لا نريدها فلم ينزل ومعنى قوله تعالى انى منزلها عليكم يعنى ان سألتم والصحيح هو الذي عليه الأكثرون انها نزلت لقوله تبارك وتعالى انى منزلها عليكم ولا خلف فى خبره تعالى ولتواتر الاخبار به عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه والتابعين.(1/2119)
وَ إِذْ قالَ اللَّهُ قال البغوي اختلفوا فى هذا القول متى يكون فقال السدى قاله اللّه تعالى ذلك حين رفعه إلى السماء يدل عليه كلمة إذ فانها للماضى وصيغة قال وقال سائر المفسرين انما يقول اللّه تعالى له ذلك يوم القيامة يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم بدليل قوله تعالى يوم يجمع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 208(1/2120)
اللّه الرسل وقوله تعالى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم وأراد بها يوم القيامة وقد يجئى إذ مع صيغة الماضي فى المستقبل للدلالة على إتيانها لا محالة كانها كائنة نظيره قوله تعالى ولو ترى إذ فزعوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ توبيخ للكفرة قدمت المسند إليه على المسند الفعلى لتقوية النسبة لان نسبة هذا القول إلى عيسى كانت مستبعدة فاحتاجت إلى التقوية ففيه توبيخ للكفرة قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ لم يقل ومريم مكان أمي للتوبيخ بانك مع كونك مولودا وهى والدة كيف وسعك دعوى الالوهية مع وجوب تنزه الإله عن التوالد والتماثل مِنْ دُونِ اللَّهِ صفة لالهين أو صلة اتخذوني أو حال من فاعل اتخذوني أو من مفعوله يعنى حال كونكم متجاوزين اللّه فى الاتخاذ أو حال كونى الهادون اللّه ومعنى دون المغايرة فيكون فيه تنبيها على ان عبادة اللّه مع عبادة غيره بمنزلة العدم فمن عبد اللّه مع عيسى ومريم فكانه لم يعبد اللّه وجاز ان يكون دون للقصور فانهم لم يعتقدوا عيسى ومريم مستقلين باستحقاق العبادة بل زعموا ان عبادتهما توصل إلى عبادة اللّه قال أبو روق إذا يسمع عيسى هذا الخطاب ترعد مفاصله وتتفجر من اصل كل شعر على جسده عين من دم ثم يقول كما حكى اللّه تعالى عنه قالَ عيسى سُبْحانَكَ يعنى أسبحك سبحانا وأنزهك تنزيها من ان يكون لك شريك أو تنزيها من ان تكون فى العلم بالحقيقة محتاجا إلى الاستفهام والبيان ما يَكُونُ لِي أى ما ينبغى لى أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أى قولا لا يحق لى إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ يعنى لا حاجة لى إلى الاعتذار لانك تعلم انى لم اقله ولو قلته لعلمته لانك تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يعنى تعلم ما اخفيه فى نفسى ولا اعلم ما تخفيه من المعلومات والمراد بالنفس الذات وتعبيره بالنفس للمشاكلة إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(1/2121)
مر اختلاف القراءة فى الغيوب ما كان منها وما يكون الجملة خبر وأنت تأكيد لاسم ان تقرير للجملتين السابقين بالمنطوق والمفهوم.
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعنى وحدوه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 209
و لا تشركوا به شيئا وهو خالقى كما هو خالقكم ان مع صلته عطف بيان للضمير فى به أو بدل منه وليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا حتى يلزم بقاء الموصول بلا عائد أو خبر مبتدأ محذوف اعنى هو أو منصوب بتقدير اعنى ولا يجوز إبداله من ما أمرتني به فان المصدر لا يكون مقول القول ولا ان يكون ان مفسرة لان الأمر مسند إلى اللّه وهو لا يقول اعبدوا اللّه ربى وربكم والقول لا يفسر بان اللهم الا ان يقال القول مأول بالأمر تقديره ما امرتهم الا ما أمرتني به ثم فسر عيسى امر نفسه بقوله ان اعبدوا اللّه وفى وضع قلت موضع أمرت نكتة جليلة وهى التحاشى عن ان يجعل نفسه كالرب فى كونه امرا وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا ومشاهدا لاحوالهم من الكفر والايمان مرشدهم إلى الحق مانعهم من القول والاعتقاد الباطل ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يعنى قبضتنى ورفعتنى إليك والتوفى أخذ الشيء وافيا والموت نوع منه قال اللّه تعالى اللّه يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت فى منامها كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المحافظ بأعمالهم والمراقب لاحوالهم فتمنع من أردت عصمته بالإرشاد إلى الدلائل وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ من قولى وفعلى وقولهم وفعلهم.(1/2122)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ « 1 » فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ولا اعتراض على المالك المطلق بما فعل بملكه كيف وقد عبدوا غيرك وأنت خلقتهم وشكروا سواك وأنت أنعمت عليهم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الغالب القوى على الثواب والعقاب فمغفرتك ليست عن عجز حتى يستقبح الْحَكِيمُ لا تفعل الا بمقتضى الحكمة يعنى ان عذبت
_________
(1) أخرج ابن مردوية عن أبى ذر قال قلت يا رسول اللّه بابى أنت وأمي قمت الليلة باية من القرآن لو فعل هذا بعضنا وجدنا عليه قال دعوت لامتى قال فماذا أجبت قال أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه لتركوا الصلاة قال أ فلا ابشر الناس قال بلى قال عمر يا رسول اللّه انك ان تبعث إلى الناس بهذا اتكلوا عن العبادة فناداه ان ارجع فرجع وتلا الآية التي يتلوها ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم واخرج مسلم والنسائي عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص نحوه 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 210(1/2123)
فعدل وان غفرت ففضل وعدم غفران المشرك بمقتضى الوعيد لا ينافى جواز المغفرة لذاته حتى يمتنع الترديد والتعلق بان وليس فيه طلب المغفرة للكفار ومن ثم لم يقل فانك أنت الغفور الرحيم بل فيه تسليم الأمر وتفويضه إلى ارادة اللّه تعالى وحكمته وكان ابن مسعود يقرأ ان تغفر لهم فانهم عبادك وان تعذبهم فانك أنت العزيز الحكيم وكانّ هذه القراءة كان نظرا إلى مناسبة العزيز الحكيم بالتعذيب دون المغفرة ولذلك قيل فى الآية تقديم وتأخير وقد عرفت ان المستحسن المناسب هو الذي فى القراءة المتواترة عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلى قوله تعالى فى ابراهيم عليه السّلام رب انهن اضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه منى ومن عصانى فانك غفور رحيم وفى عيسى قال ان تعذبهم فانهم عبادك وان تغفر لهم فانك أنت العزيز الحكيم فقال اللهم أمتي أمتي وبكى فقال اللّه سبحانه يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك اعلم فاسئله ما يبكيك فاتاه جبرئيل فسأله فأخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قال فقال اللّه تعالى يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل انا سنرضيك فى أمتك ولا نسوءك.
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ نافع يوم بالفتح اما على انه منصوب ظرفا لقال أى قال اللّه هذا الكلام لعيسى يوم ينفع وجاز ان يكون خبر هذا محذوف يعنى قال اللّه هذا حق يعنى ما قال عيسى حق قال ذلك يوم ينفع تصديقا لعيسى ومزيد توبيخ لامة أو ظرفا مستقرا واقعا خبرا لهذا يعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع فالجملة تأكيد لما سبق واما على انه مرفوع خبرا لهذا لكنه بنى على الفتح لاضافته إلى المبنى لا يقال انه مضاف إلى المضارع وهو معرب لانا نقول المضاف إليه هو .......(1/2124)
الجملة الفعلية لا المضارع فحسب وقرأ الجمهور بالرفع بالضم على انه خبر هذا وفيه رد لما يفهم من الاستغفار فى حق الكفار يعنى هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم دون الكاذبين الكفار حيث لا مغفرة لهم ويحتمل ان يراد به ازالة خوف عيسى من صورة هذا السؤال والمعنى هذا يوم ينفع الصادقين فى الدنيا صدقهم فى الاخرة واما الكاذبون فى الدنيا لو صدقوا فى الاخرة وقالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وقال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 211
الشيطان ان اللّه وعدكم وعد الحق ووعدتكم الآية لا ينفعهم صدقهم وكذا لا ينفعهم كذبهم بل لو كذبوا وقالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين يختم على أفواههم ونطقت جوارحهم فافتضحوا قيل أراد بالصادقين النبيين وقال الكلبي ينفع المؤمنين ايمانهم وقال عطاء يوم من ايام الدنيا لان الاخرة دار جزاء لا دار عمل ثم بين اللّه نفعهم وثوابهم فقال لَهُمْ جَنَّات ٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ
لاجل المحبة من الجانبين كذا قالت الصوفية وقال العامة رضى اللّه عنهم بالسعي المشكور ورضوا عنه بالجزاء الموفور ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه باق بخلاف الفوز فى الدنيا ثم عظم اللّه نفسه ونبه على كذب النصارى وبطلان دعويهم فى عيسى وامه فقال.
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ لم يقل من فيهن تغليبا للعقلاء وقال ما فيهن اتباعا لهم غير العقلاء تنبيها لغاية قصورهم عن مرتبة الالوهية بسبب مجالستهم لغير العقلاء فى الإمكان والقصور فى العلم والارادة ونحو ذلك بل الصفات الكاملة فى الممكن بمنزلة العدم قال اللّه تعالى انك ميت وانهم ميتون يعنى فى حد ذواتكم ولان كلمة ما تطلق على الأجناس كلها فهى اولى لارادة العموم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من المنع والإعطاء والإيجاد والافناء.(1/2125)
تمّت سورة المائدة وعمت الفائدة ونرجوا العائدة إنشاء اللّه تعالى فى السادس عشر من ذى القعدة سنة الف ومائة وثمان وتسعين.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 212
سورة الأنعام
مكيّة وهى مائة وخمس أو ست وستون اية وعشرون ركوعا
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ تعليم للعباد بالتحميد فى ضمن الاخبار بثبوت جميع المحامد له تعالى والتعريض بانه سبحانه مستغن عن تحميد العباد فله الحمد وان لم يحمد الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يعنى قدرهما وأوجدهما من غير مثال سبق وفى التوصيف به تنبيه على ظهور ثبوت الحمد للّه تعالى من غير احتياج إلى الاستدلال خص اللّه سبحانه السموات والأرض بالذكر لانهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد وفيهما العبر والمنافع للناس ولان خلق غيرهما وحدوثهما مما يراه الناس من الحوادث اليومية ظاهر ومن ثم زعم بعض الجهلة قدمهما بالزمان وذكر السموات بلفظ الجمع دون الأرض وهى مثلهن اشعارا باختلاف ماهيات السموات وأشكالها دون الأرضين قال كعب الأحبار هذه الآية اوّل اية فى التورية واخر اية فى التورية قل الحمد للّه الذي لم يتخذ ولدا الآية قال ابن عباس فتح اللّه الخلق بالحمد فقال الحمد للّه الذي خلق السموات والأرض وختمهم بالحمد فقال وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد للّه رب العلمين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فى القاموس الجعل بمعنى الخلق وقال البيضاوي الفرق بينهما ان الخلق بمعنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أى جعل الشيء فى ضمن الشيء أى تحصيل منه أو تصير إياه أو ينقل منه إليه بالجملة فيه اعتبار الشيئين وارتباط بينهما ولذلك عبر عن احداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على انهما لا يقومان بانفسهما كما زعمت الثنوية قلت ولاجل عدم قيامهما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 213(1/2126)
بانفسهما أسند الجعل إلى الظلمة مع كونها عدميا والعدم لا يتعلق به الجعل نظرا إلى كونها منتزعا من محل مخلوق وجمع الظلمات لكثرة اجرام حاملة لها بالنسبة إلى الاجرام النورانية فالنور بالنسبة إلى الظلمة كل واحد بالنسبة إلى المتعدد وقال الحسن جعل الظلمات والنور يعنى الكفر والايمان فعلى هذا أورد الظلمات بلفظ الجمع دون النور لتعدد طرق الكفر واتحاد طريقة الايمان عن ابن مسعود رض قال خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم قرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله رواه احمد والنسائي والدارمي وقدم الظلمات فى الذكر لتقدمها فى الوجود عن عبد اللّه ابن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه خلق الخلق فى ظلمة فالقى عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه رواه احمد والترمذي ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ عطف على قوله الحمد للّه يعنى انه تعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته أو على قوله خلق يعنى انه خلق ما لا يقدر عليه أحد غيره ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شىء أصلا ومعنى ثم استبعاد عدولهم بعد هذا البيان والباء فى بربهم متعلق بكفروا وصلة يعدلون محذوف ليقع الإنكار على الفعل يعنى يعدلون عنه وعلى الثاني متعلق بيعدلون يعنى ان الكفار يعدلون أى يسوون بربهم الأوثان وقال النضر بن شميل الباء بمعنى عن أى عن ربهم يعدلون أى يميلون وينحرفون إلى غيره من العدول.(1/2127)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعنى ابتدأ خلقكم منه حيث خلق منه أصلكم آدم عليه السّلام أو المعنى خلق أباكم آدم بحذف المضاف قال السدى بعث اللّه تعالى جبرئيل إلى الأرض لياتيه طائفة منها فقالت الأرض انى أعوذ باللّه منك ان تنقص منى فرجع ولم يأخذ وقال يا رب انها عاذت بك فبعث ميكائيل فاستعاذت فرجع فبعث ملك الموت فعاذت منه باللّه فقال وانا أعوذ باللّه ان أخالف امره فاخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلف ألوان بنى آدم ثم عجنها بالماء العذب والملح والمر كذلك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 214(1/2128)
و لذا اختلف اخلاقهم فقال اللّه تعالى رحم جبرئيل وميكائيل الأرض ولم ترحمها لا جرم اجعل أرواح من اخلق من هذا الطين بيدك روى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه خلق اللّه آدم عليه السلام من تراب وجعله طينا ثم تركه حتى كان حماء مسنون ثم خلقه وصوره وتركه حتى صار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه روحه كذا قال البغوي وعن أبى موسى قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب رواه احمد والترمذي وأبو داؤد وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم خلق اللّه آدم من تراب الجابية « 1 » وعجنه بماء الجنة رواه الحكيم وابن عدى بسند حسن ثُمَّ قَضى أَجَلًا والمراد به واللّه اعلم انه يكتب الملك اجله بإذن ربه بعد تمام خلقه كما يدل عليه كلمة ثم والجملة الفعلية عن ابن مسعود قال حدثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث اللّه إليه ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله واجله ورزقه وشقى أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح فو الذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الاذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها متفق عليه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أى أجل مثبت معين عند اللّه فى علمه القديم لا يقبل التغير ولا مدخل فيه لغيره تعالى ولذا عبر عنه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والاستمرار والاستيناف به لتعظيمه ولذلك نكر وكونه مخصوصة بالصفة اغنى عن تقديم الخبر وقال الحسن وقتادة والضحاك الاجل الأول من الولادة الى(1/2129)
الموت والاجل الثاني من الموت إلى البعث وهو البرزخ روى ذلك عن ابن عباس وقال لكل واحد أجلان أجل من الولادة إلى الموت وأجل من الموت إلى البعث فان كان برا تقيا وصولا للرحم زيد له من أجل البعث فى أجل العمر وان كان فاجرا قاطعا للرحم نقص من أجل العمر وزيد فى أجل البعث وقال مجاهد وسعيد بن جبير الاجل الأول أجل الدنيا و
_________
(1) الجبا بالكسر ما جمعت فيه الماء 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 215
أجل الثاني أجل الاخرة وقال عطية عن ابن عباس ثم قضى أجلا يعنى النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع عند اليقظة وأجل مسمى عنده أجل الموت ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أى تشكون من المرية أو تجادلون من المراء فى قضائه وقدره تعالى أو فى البعث بعد الموت وكلمة ثم لاستبعاد المرية والمراء بعد ظهور انه تعالى خالقهم وخالق أصولهم ومحييهم إلى اجالهم فمن كان هذا شانه لا يخرج من قضائه وعلمه شىء ويقدر هو على اعادتهم كما خلق أول مرة عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة لعنتهم ولعنهم اللّه وكل نبى مجاب الزائد فى كتاب اللّه والمكذب بقدر اللّه والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله اللّه ويذل من أعزه اللّه والمستحل لحرمة اللّه والمستحل من عزتى ما حرم اللّه والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب اللّه الروافض يزيدون فى كتاب اللّه عشرة اجزاء فوق ثلثين جزء ويزعمون ان عثمان أسقطها من القرآن ويزعمون ان سورة الأحزاب مثل سورة البقرة والمستحل من عترة النبي صلى اللّه عليه وسلم الخوارج والمكذب بقدر اللّه المعتزلة وهم المشار إليهم بهذه الآية والمستحل لحرمة اللّه المرجئة القائلين بالجبر والمتسلط بالجبروت السلاطين الظلمة والتارك للسنة جميع أهل الأهواء والفساق.(1/2130)
وَ هُوَ اللَّهُ الضمير راجع إلى اللّه الموصوف بما ذكروا اللّه خبره أو بدل منه وجاز ان يكون الضمير للشان واللّه مبتدا نظيره قوله تعالى قل هو اللّه أحد فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق باسم اللّه على تقدير كونه مشتقا بمعنى المعبود يعنى هو المعبود على الاستحقاق فيهما لا غيره نظيره قوله تعالى وهو الذي فى السماء اله وفى الأرض اله أو على تاويل المشتق يعنى هو المعرف بذلك الاسم أو المذكور به فيهما أو ظرف مستقر وقع خبرا على التجوز فان الخلائق كلها مظاهر صفاته ومجالى كمالاته وقال البيضاوي انه تعالى لكمال علمه بما فيهما كأنَّه فيهما وقوله تعالى يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ الجملة خبر ثان أو هى الخبر والظرف متعلق به ويكفى لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما يقال رميت الصيد فى المفازة من العمران والمعنى يعلم ما تكتمون فى أنفسكم وما تبدون منها وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ بالجوارح من خيرا وشر فيجازيكم عليها وجاز ان يكون المعنى يعلم ما أسررتم من افعال القلوب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 216
و الجوارح وما أعلنتم منها وما تكسبونها فى الاستقبال ولم تعملوا بعد فانه من خصائص معلومات اللّه تعالى.
وَما تَأْتِيهِمْ يعنى أهل مكة مِنْ آيَةٍ من زايدة للاستغراق مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مثل انشقاق القمر ونطق الحصيات وغير ذلك وقال عطاء من آيات القرآن ومن للتبعيض إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين النظر فيه.(1/2131)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ بالقران وقيل بمحمد عليه السّلام لَمَّا جاءَهُمْ الفاء للتفريع على ما سبق فانهم لما اعرضوا عن الآيات كلها كذبوا بالحق الذي جاءهم فانه من الآيات أو للسببية يعنى انهم لما كذبوا بالقران الذي هو أعظم المعجزات باهر الاعجاز لفظا ومعنى فى كل حين وزمان وكذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم مع ظهور اعجاز وجوده الشريف حيث كان مولودا فيهم اميا لم يقرء ولم يكتب فى زمان الجاهلية وفترة العلم والحكمة وقد تفجر منه ينابيع العلم والحكمة والآداب على ما تساعده الكتب القيمة المتقدمة وأقر بنبوته القسيسين والأحبار والرهبان فكيف لا يعرضون عن افراد المعجزات فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ يوم القيمة أو عند ظهور الإسلام وارتفاع امره أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ يعنى يظهر لهم قبحه عند نزول العذاب بهم فى الاخرة أو فى الدنيا.(1/2132)
أَ لَمْ يَرَوْا فى أسفارهم إلى الشام كَمْ خبرية بمعنى كثيرا أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ من زائدة وكذا فى قوله تعالى مِنْ قَرْنٍ القرن القوم المقترنون فى زمان واحد وجمعه قرون ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم خير القرون قرنى يعنى من اقترن معى أو طائفة من الزمان يقترن فيها الناس فقيل هو أربعون سنة أو عشرة أو عشرون أو ثلثون أو خمسون أو ستون أو سبعون أو ثمانون أو مائة أو مائة وعشرون والأصح انه مائة سنة لأنه صلى اللّه عليه وسلم قال لعبد اللّه بن بشر المازني انك تعيش قرنا فعاش مائة سنة كذا ذكر البغوي وفى نهاية الجزري انه صلى اللّه عليه وسلم مسح راس غلام وقال عش قرنا فعاش مائة سنة وعلى تقدير كونه للزمان معناه أهل قرن مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ يعنى قررناهم فيها وأعطيناهم من القوى والأسباب والعدد ما تمكنوا بها على ما أرادوا والجملة فى موضع الجر صفة لقرن وجمع نظرا للمعنى ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نعطكم من القوى والمال والأسباب والعدد ما موصوفة بمعنى شيئا منصوب اما على انه مفعول ثان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 217(1/2133)
لمكناهم بتضمين أعطيناهم أو على المصدرية يعنى مكناهم شيئا من التمكين لم نمكن لكم مثلهم قال ابن عباس امهلناهم فى العمر ما لم نعمركم مثل قوم نوح وعاد وثمود فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وقال البصريون اخبر عن أهل مكة بلفظ الغيبة فقال الم يروا ولما كان فيهم محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أورد بلفظ الخطاب وَأَرْسَلْنَا عطف على مكنا السَّماءَ يعنى المطر عَلَيْهِمْ مِدْراراً مفعال من الدر والدر اللبن وفى اللبن خير كثير للعرب حال من السماء يعنى حال كونه كثير النفع فى اوقات حاجاتهم وقال ابن عباس يعنى متتابعا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أى من تحت مساكنهم فعاشوا مترفهين بين الثمار والأنهار فَأَهْلَكْناهُمْ إذا جاءتهم الرسل وكذبوهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب عصيانهم الرسل ولم يغن مكنتهم فى الدنيا ورفاهيتهم فيها عنهم شيئا فكيف يغنى هؤلاء الكفار أسبابهم فى الدنيا إذا كذبوا محمدا صلى اللّه عليه وسلم القرآن وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ فكما أهلكنا من قبلكم وأنشأنا مكانهم آخرين نفعل بكم يا أهل مكة ان لم تؤمنوا قال الكلبي ومقاتل ان النضر بن الحارث وعبد اللّه بن أبى امية ونوفل بن خويلد قالوا يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند اللّه ومعه اربعة من الملئكة يشهدون عليه انه من عند اللّه وانك رسوله فانزل اللّه تعالى.
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً مكتوبا فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ أى مسوا ذلك القرطاس بِأَيْدِيهِمْ بحيث لا يحتمل التزوير بوجه فان السحر لا يجرى فى الملموس فلا يمكنهم ان يقولوا سكرت أبصارنا لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا تعنتا وعنادا إِنْ هذا المكتوب إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لأنه سبق علمه تعالى فيهم انهم لا يؤمنون.(1/2134)
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ يعنى على محمد أى معه مَلَكٌ يكلمنا انه نبى كما فى قوله تعالى لو لا انزل معه ملك فيكون معه نذيرا وَلَوْ أَنْزَلْنا معه مَلَكاً كما اقترحوا لَقُضِيَ الْأَمْرُ باهلاكهم بجريان سنة اللّه تعالى باهلاك الأمم عند نزول الآيات على اقتراحهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أى لا يهملون بعد نزوله طرفة عين وقال مجاهد لقضى الأمر أى لقامت القيامة وقال الضحاك لو أتاهم ملك فى صورته لماتوا من هوله وكلمة ثم لبعد ما بين الامرين قضاء الأمر وعدم الانظار فان عدم الانظار بمعنى فجاءد العذاب أشد من نفس العذاب.
وَلَوْ جَعَلْناهُ الضمير للمطلوب أو للرسول مَلَكاً يعنى لو جعلنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 218(1/2135)
قرينا لك ملكا يعاينوه أو جعلنا الرسول ملكا فانهم تارة يقولون لو لا انزل معه ملكا فيكون معه نذيرا وتارة يقولون لو شاء ربنا لانزل ملئكة لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعنى لمثلناه رجلا كما كان جبرئيل يتمثل للنبى صلى اللّه عليه وسلم غالبا فى صورة دحية لان القوة البشرية لا يقوى على روية الملك فى صورته وانما رأهم كذلك الافراد من الأنبياء أحيانا لقوتهم القدسية ولان الرسول برزخ بين الخالق والخلق ولا بد فى البرزخ من المناسبتين مناسبة بالخالق كى يتلقى الفيوض من جنابه المقدس ومناسبة بالخلق كى يفيض عليهم ما استفاض من الجناب المقدس فان الافادة والاستفادة لا يتصور من غير مناسبة فالرسول له مناسبة باطنية بالخالق فان مبدأ تعينه صفة من صفات اللّه تعالى بخلاف سائر الخلائق سوى الأنبياء والملائكة فان مبادى تعيناتهم ظلال الصفات فلا بد ان يكون للرسول مناسبة صورية بالناس المرسل إليهم ولان بناء التكليف على الايمان بالغيب فلابد من التلبيس والتخليط لبقاء التكليف ومن ثم قال اللّه تعالى وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ أى لخلطنا واشكلنا عليهم فلا يدرون انه ملك بل يقولون ما هذا الا بشر مثلكم ما يَلْبِسُونَ على أنفسهم من امر الرّسول بعد ظهور رسالته بالآيات ثم سلى نبيه صلى اللّه عليه وسلم على ما أصابه من استهزاء قومه بقوله.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئك يا محمد فلا تهتم فَحاقَ قال الضحاك أحاط وكذا فى القاموس وقال الربيع بن انس نزل وقال عطاء حل بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فكذا يحيق بهؤلاء ما يستهزءون بك وما موصولة أو مصدرية والمضاف على التقديرين محذوف يعنى أحاط بهم وبال الذي كانوا يستهزءون به أو وبال كونهم مستهزئين.(1/2136)
قُلْ يا محمد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ بالاقدام أو بالعقول والقوى الفكرية معتبرين ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أى جزاء أمرهم وكيف أورثهم الكفر والتكذيب الهلاك والخسران فان قيل جاء فى موضع اخر قل سيروا فى الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين بكلمة الفاء وهاهنا بكلمة ثم والفاء للتعقيب بلا مهلة وثم للتراخى فكيف التوفيق قلنا السير ممتد والنظر على مساكن المكذبين من الأمم السابقة يقع متراخيا بالنسبة إلى ابتداء السير غالبا ويترتب على بعض اجزاء السير بلا مهلة فايراد الفاء نظرا إلى بعض اجزاء
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 219
السير وإيراد ثم نظرا إلى بداية السير قال البيضاوي والفرق بين هذه وبين قوله تعالى سيروا فى الأرض فانظروا ان السير ثمه لاجل النظر ولا كذلك هاهنا ولذلك قيل معنى هذه الآية اباحة السير للتجارة وغيرها وإيجاب النظر فى اثار الهالكين وكذا قال صاحب المدارك وزاد انه تعالى نبه على إيجاب النظر فى اثار الهالكين بثم للتباعد بين الواجب والمباح قلت بناء قول الشيخين على ان الفاء للسببية دون ثم ومقتضى السببية كون السير سببا للنظر فى الواقع سواء كان السير لاجل النظر قصدا اولا فمفاد الآيتين ان المطلوب شيئان .....
السير مطلقا والنظر فى اثار الهالكين غير ان هذا الآية بكلمة ثم لا يفيد سببية أحدهما للاخر وتلك الآية تفيدها وسياق كلتا الآيتين يقتضى ان المأمور به قصدا انما هو النظر والسير انما امر به لكونه وسيلة إلى النظر وكانّ فى كلمة ثم اشارة إلى التباعد بين ما هو المطلوب قصدا وبالذات وما هو المطلوب ليكون وسيلة إلى غيره وعلى هذا التحقيق لا حاجة فى التوفيق بين الآيتين الواردتين إحداهما بالفاء والاخرى بثم إلى ملاحظة بداية السير ونهايته.(1/2137)
قُلْ يا محمد تبكيت للخصم لِمَنْ من استفهامية والظرف خبر والمبتدأ ما يعنى الأشياء التي هى كائنة فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعم العقلاء وغيرهم ولذلك أورد بكلمة ما قُلْ لِلَّهِ تقرير لهم أى هو اللّه لا خلاف بيننا وبينكم فيه وتنبيه على انه لا يمكن لاحد ان يجيب بغيره كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ يعنى التزم ووعد وعدا مؤكدا لا يمكن خلفه الرَّحْمَةَ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما قضى اللّه الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان رحمتى غلبت غضبى وفى رواية بلفظ ان رحمتى سبقت غضبى رواه البغوي من حديث أبى هريرة وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للّه مائة رحمة انزل منها رحمة واحدة بين الجن والانس والبهائم والهوام فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها يتعاطف الوحوش على أولادها واخّر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيمة رواه مسلم قلت لعل المراد بعدد المائة تمثيل التكثير دون تعيين العدد فان ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق كيف وصفات الممكنات متناهية وصفاته تعالى غير متناهية وما انزل اللّه من الرحمة فى خلقه وخلقها فى قلوبهم انما هى ظل من ظلال رحمة اللّه تعالى وعن عمر بن الخطاب قال قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم سبى فإذا امراة من السبي قد تحلب ثديها تسعى إذا وجدت صبيا فى السبي
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 220(1/2138)
أخذته فالصقته ببطنها وارضعته فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ترون هذه طارحة ولدها فى النار قلنا لا وهى تقدر على ان لا تطرحه فقال للّه ارحم بعباده من هذه بولدها واعلم ان رحمة اللّه تعالى منها ما يترتب عليها نعماء الدنيا ومنها ما يترتب عليها نعماء الاخرة لارسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الادلة الدالة على التوحيد والموت والبعث بعدها المفضى إلى نعيم الجنان ولقاء الرحمن والعمدة فى الباب والمقصود بالذكر انما هى التي تعلقت بالاخرة كما يدل عليه ما ذكرنا من الأحاديث ويدل عليه قوله تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ يعنى ليجمعن اجزاءكم مبعوثين إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الظاهر ان إلى هاهنا بمعنى فى أو المعنى ليجمعنكم فى القبور ميتين إلى يوم القيمة ويفهم منه التزاما انه ثم يبعثكم فتصدرون أشتاتا لتروا أعمالكم والجملة جواب قسم محذوف وهو بدل من الرحمة بدل البعض وبهذا يظهر ان المقصود انما هى الرحمة الاخروية ولما كان الكفار مبالغين فى انكار البعث أكده سبحانه بالقسم بعد الانذار على تكذيب المبلغ الصادق وبيان قدرته عليه بقوله لمن ما فى السموات والأرض وبيان الحكمة فى البعث بقوله كتب على نفسه الرحمة لا رَيْبَ فِيهِ أى فى الجمع أو فى اليوم ولما كان مقتضى الآية عموم رحمة اللّه تعالى موهما شمولها للكفار قال اللّه تعالى لدفع ذلك التوهم وبيان ان حرماتهم من رحمة اللّه تعالى بسوء اختيارهم وخسرانهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالاشراك حيث ضيعوا رأس ما لهم وهو الفطرة السليمة والعقل السليم وفوتوا حظهم من الرحمة واشتروا به العذاب والنقمة الموصول مبتدأ وخبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الفاء للدلالة على ان خسرانهم فى علم اللّه تعالى سبب لعدم ايمانهم وكان القياس العطف على لا ريب فيه ووجه الفصل تقدير السؤال كأنَّه قيل فلم يرتاب الكافرون فاجيب بان خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الايمان وجاز ان يكون(1/2139)
الموصول منصوبا على الذم وكما يدل هذه الآية على شمول رحمة اللّه تعالى وحرمان الكفار بسوء اختيارهم وخسرانهم يدل عليه حديث أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كلكم يدخل الجنة الا من شرد على اللّه شرد « 1 » البعير على اهله رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من السكنى
_________
(1) أى أخرج عن طاعته وفارق الجماعة يقال شرد البعير إذا نفر وذهب فى الأرض 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 221
و تعديته إلى المكان بفي كما فى قوله تعالى وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وعدى هاهنا إلى الزمان اتساعا والمراد كل ما يمر عليه الليل والنهار أو من السكون والمعنى كل ما سكن فيهما وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الاخر كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى الحر والبرد وَهُوَ السَّمِيعُ لاصواتهم الْعَلِيمُ بأحوالهم وعيد للمشركين على أقوالهم وأفعالهم.(1/2140)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا ناصرا ومعبودا استفهام لانكار اتخاذ غير اللّه وليالا لاتخاذ الولي ولذلك قدم المفعول الأول لاتخذ عليه وذكره متصلا بالهمزة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى خالقهما ومبدعهما والاضافة معنوية لان فاطر بمعنى فطر ولذلك قرأ فطر فهو مجرور صفة للّه وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أى يرزق المرزوقين ولا يرزق وتخصيص الطعام لشدة احتياج الناس إليه والجملة حال من اللّه والآية نزلت حين دعى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى دين ابائه قُلْ إِنِّي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لان النبي صلى اللّه عليه وسلم سابق أمته فى الدين وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ معطوف على قل أو على أمرت بتقدير وقيل لى ان لا تكونن من المشركين قُلْ إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان.
أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بان عبدت غيره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة فى قطع اطماعهم وتعريض بهم باستيجابهم العذاب بالكفر والعصيان اعترض الشرط بين الفعل والمفعول به وحذف جزاء الشرط لدلالة الجملة عليه يعنى انى أخاف عذاب يوم عظيم أى يوم القيمة ان عصيت ربى عذبنى يومئذ.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب يصرف بفتح الياء وكسر الراء على البناء للفاعل والضمير عائد إلى ربى والمفعول به محذوف أو يومئذ بحذف المضاف واقامة المضاف إليه مقامه يعنى من يصرف ربى العذاب يومئذ أو عذاب يومئذ يعنى يوم القيامة والباقون بضم الياء وفتح الراء على البناء للمفعول والضمير عائد إلى العذاب يعنى من يصرف عنه العذاب يومئذ أو يكون مسندا إلى يومئذ بحذف المضاف أى عذاب يومئذ وحينئذ ويومئيذ « 1 » مبنى على الفتح فَقَدْ رَحِمَهُ اللّه حيث نجاه من العذاب و(1/2141)
_________
(1) لاكتسابه البناء من المضاف إليه 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 222
ادخله الجنة رحمة منه لا لاداء حق عليه وَذلِكَ الصرف الْفَوْزُ الْمُبِينُ فى القاموس الفوز النجاة والظفر بالخير والهلاك فالمراد هاهنا الظفر بالخير لان الهلاك ليس بمراد البتة لدلالة السياق وكذا النجاة غير مراد إذ المراد باسم الاشارة هو الصرف وهو عين النجاة فيكون الحمل غير مفيد وبهذا يظهر ان دخول الجنة لازم لصرف العذاب عنه فيمكن بهذه الآية الاستدلال على نفى المنزلة بين المنزلتين كما قالت بها المعتزلة.(1/2142)
وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ بشدة كفقر أو مرض أو عذاب فَلا كاشِفَ لَهُ يعنى لا قادر على كشفه أحد إِلَّا هُوَ والا يلزم عجزه تعالى وهو محال مناف للالوهية ووجوب الوجود وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بعافية ونعمة من صحة وغنى وغيرهما فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فكان قادرا على ادامته وحفظه وكذا على إزالته ولا يستطيع أحد غيره إزالته روى البغوي بسنده عن ابن عباس رض قال اهدى للنبى صلى اللّه عليه وسلم بغلة اهديها له كسرى فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه ثم سار بي مليا ثم التفت إلى فقال يا غلام قلت لبيك يا رسول اللّه قال احفظ اللّه يحفظك احفظ اللّه تجده امامك تعرف اللّه فى الرخاء يعرفك فى الشدة فإذا سالت فاسال اللّه وإذا استعنت فاستعن باللّه قد مضى القلم بما هو كائن فلو جهد الخلائق ان ينفعوك بما لم يقضه الله تبارك وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا ان يضروك بما لم يكتبه اللّه سبحانه وتعالى عليك ما قدروا عليه فان استطعت ان تعمل بالصبر مع اليقين فافعل فان لم تستطع فاصبر فان فى الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم ان النصر مع الصبر وان مع الكرب الفرج وان مع العسر يسرا وروى احمد والترمذي نحوه وقال الترمذي حديث حسن صحيح وليس فى روايتهما من قوله فان استطعت ان تعمل بالصبر إلخ.
وَهُوَ الْقاهِرُ مبتدأ وخبر والقهر الغلبة والتذليل معا وفيه زيادة معنى على القدرة وهى منع غيره عن بلوغ المراد من غير إرادته فَوْقَ عِبادِهِ خبر بعد خبر تصوير لقهره وعلوه وَهُوَ الْحَكِيمُ فى امره الْخَبِيرُ بكل شىء لا يخفى عليه شى قال الكلبي اتى أهل مكة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا أرنا من يشهد انك رسول اللّه فانا لا نرى أحدا يصدقك ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر فانزل اللّه تعالى.
قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ الشيء يقع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 223(1/2143)
على كل موجود وقد مر الكلام فيه فى سورة البقرة والمعنى أى شاهد أَكْبَرُ أى أعظم شَهادَةً أى شىء مبتدأ واكبر خبره وشهادة تميز عن النسبة يعنى شهادة أى شاهد اكبر فان أجابوك والا قُلْ أنت اللَّهُ اكبر شهادة حذف الخبر لقرينة السؤال وتم الكلام وقوله شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ خبر مبتدأ محذوف يعنى هو شهيد بينى وبينكم وجاز ان يكون اللّه شهيد هو الجواب لأنه تعالى إذا كان شهيدا كان اكبر شىء شهادة وجاز ان يكون تاويل الآية انه أى مشهود اكبر شهادة يعنى مشهودية رسالتى أو عدمها والجواب اللّه شهيد على رسالتى ومعلوم انه ما كان اللّه عليه شهيدا فهو اكبر شهادة وحينئذ لا حاجة إلى تكلف وشهادة اللّه تعالى على الرسالة اظهار المعجزات الدالة على صدقه صلى اللّه عليه وسلم ولما كان أعظم المعجزات القرآن بين الشهادة بقوله وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ المعجز المخبر بأخبار المبدأ والمعاد على ما نطق به الكتب السابقة لِأُنْذِرَكُمْ أخوفكم من عذاب اللّه ان لم تؤمنوا بِهِ أى بالقران اكتفى بالإنذار عن ذكر البشارة لدلالة الحال والمقال ولمزيد الاهتمام بالإنذار فان دفع المضرة اولى من جلب المنفعة وَمَنْ بَلَغَ منصوب بالعطف على ضمير المخاطبين يعنى لانذركم يا أهل مكة ومن بلغه القرآن من الموجودين فى ذلك الزمان وبعد ذلك الزمان إلى يوم القيامة من الجن والانس عن عبد اللّه بن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بلغوا عنى ولو اية وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار متفق عليه والمراد ببني إسرائيل فى هذا الحديث المؤمنين الصادقين منهم إذ لا وثوق برواية الكفرة الكذابين بدليل حديث سمرة بن جندب والمغيرة ابن شعبة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حدث عنى بحديث يرى انه كذب فهو أحد الكاذبين رواه مسلم وعن ابن مسعود ان رسول اللّه صلى(1/2144)
اللّه عليه وسلم قال نضر اللّه عبد اسمع مقالتى فحفظها ووعاها وأداها فرب حامل فقه إلى من هو افقه منه ثلث لا يغل عليهن قلب مسلم اخلاص العمل للّه تعالى ونصيحة المسلمين ولزوم جماعتهم فان دعوتهم تحيط من ورائهم رواه الشافعي والبيهقي فى المدخل ورواه احمد والترمذي وأبو داؤد وابن ماجة والدارمي عن زيد بن ثابت الا ان الترمذي وأبا داؤد لم يذكرا ثلاث لا يغل إلخ قال محمد بن كعب القرظي من بلغه القرآن فكانما رأى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 224(1/2145)
محمدا صلى اللّه عليه وسلم وسمع منه أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ يا أهل مكة أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع انكار واستبعاد وتعجب حيث يشهدون على امر ظاهر بطلانه بالادلة القطعية النقلية والعقلية على التوحيد هذه الآية تدل على ان أهل مكة طلبوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم شاهدا على التوحيد ومعنى الآية ان اللّه يشهد على التوحيد بنصب الادلة عليه وإنزال القرآن المعجز وهو اكبر شهادة ا أنتم تشهدون على خلافه قلت لعلهم طلبوا شاهدا على التوحيد والرسالة جميعا واقتصر الكلبي فى ذكر شان النزول على طلب الشهادة على الرسالة فان الشهادة على الرسالة يستلزم الشهادة على التوحيد من غير عكس قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ أى اللّه إِلهٌ واحِدٌ متوحد فى استحقاق العبودية ووجوب الوجود والتخليق والترزيق وغير ذلك من صفات الكمال لا شريك له فى شىء منها منزه عن أنحاء التركيب والتعدد وما يستلزمه أحدهما من الجسمية والتحيز والمشاركة لشئ من الأشياء فى صفة من صفات الكمال فلا يرد ما يقال ان الحمل غير مفيد فان اللّه جزئى حقيقى والجزئى الحقيقي لا يحتمل التعدد هذا على تقدير كون ما كافة وضمير هو راجعا إلى اللّه تعالى وجاز ان يكون ما موصولة مبتدأ وضمير هو راجعا إلى الموصولة وجملة هو اله صلة وواحد خبر للموصول مع الصلة فلا إشكال يعنى ما هو اله مستحق للعبادة لاجل كونه واجبا وجوده وصفات كماله مقتضيا لوجود من عداه وتوابعه واحد لا شريك له والمعنى لا اشهد ما تشهدون بل على التوحيد وَإِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ باللّه تعالى إياه فى استحقاق العبادة من الأصنام أو من اشراككم.(1/2146)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم موصوفا بالرسالة من اللّه تعالى لتطابق حليته وأخلاقه وأوصافه بما نعت فى التورية والإنجيل كَما يَعْرِفُونَ أى معرفة كمعرفة أَبْناءَهُمُ من بين الصبيان بحلاهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتاب بكتمان نعته صلى اللّه عليه وسلم حيث قدر اللّه تعالى عليهم بالخسران فى علمه القديم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ويجحدون بنبوته بعد ما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وتعنتا وعنادا هذه الآية جواب لقولهم لقد سالنا عنك اليهود والنصارى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 225
فزعموا انه ليس لك عندهم ذكر يعنى انهم كذبوا وخسروا أنفسهم حيث بدلوا منازلهم من الجنة ان أمنوا بمنازلهم من النار أخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك هم الوارثون قال البغوي إذا كان يوم القيامة جعل اللّه للمؤمنين منازل أهل النار فى الجنة ولاهل النار منازل أهل الجنة فى النار وذلك الخسران قلت كان مقتضى سياق الكلام الذين لا يؤمنون خسروا أنفسهم قلب الحمل مبالغة.(1/2147)
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يعنى ادعى الرسالة كاذبا وقال اوحى إلى ولم يوح إليه شىء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة فى القرآن والمعجزات الدالة على التوحيد وصدق الرسول يعنى لا أحد اظلم منه فهذه الآية بهذا التأويل لتنزيه النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكذب وتنبيه الكافرين على كونهم اظلم الناس وجاز ان يكون المعنى من اظلم ممن افترى على اللّه كذبا وقال فيه ما لا يليق به من نسبة الولد أو الشريك وقال للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند اللّه أو كذب باياته وكان المناسب على هذا التأويل العطف بالواو مكان أو لانهم قد جمعوا بين الامرين لكن ذكر كلمة أو تنبيها على ان كل واحد من الامرين بالغ غاية الافراط فى الظلم فكيف إذا اجتمعا وجاز ان يكون فى كلمة أو اشعارا بكون الامرين متناقضين مع كونهما قبيحا ومع ذلك جمع الكفار بين الامرين المتناقضين لفرط حماقتهم وجه التناقض ان الافتراء على اللّه ودعوى انه تعالى حرم كذا وأحل كذا واتخذ صاحبة وولدا ويقبل شفاعة الأصنام مثل دعوى الرسالة يزعمون وجوب قبوله بلا دليل وتكذيبهم الآيات والمعجزات وقولهم الرسول لا يكون بشرا بل لا بد ان يكون ملكا يشعر وجوب عدم قبول دعوى الرسالة مع قيام الادلة القاطعة إِنَّهُ أى الشان لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلا عمن هو اظلم الناس لا أحد اظلم منه « 1 » .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ يعنى الكفار وما عبدوه جَمِيعاً يعنى يوم القيمة قرأ يعقوب بالياء على الغيبة والضمير عائد إلى اللّه تعالى ووافقه حفص فى سبا والباقون بالنون على التكلم فى الموضعين والظرف معمول بفعل
_________
(1) شعر
واى بر قومى كه بت را سجده بي حجت كنند با رسل گويند ايتونا بسلطن مبين
. 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 226(1/2148)
محذوف حذف الفعل لينتقل الذهن إلى احوال كثيرة واهوال متعددة تلحق الناس فى ذلك اليوم كأنَّه قال يدهشون دهشة لا يحيط به العبارة وتدنو الشمس منهم ويلجمهم العرق ويذهب عرقهم فى الأرض سبعين باعا كما ورد فى الصحاح من الأحاديث ويفعل بهم كيت كيت يوم يحشرهم وجاز ان يكون مفعولا به لا ذكر ثُمَّ نَقُولُ معطوف على نحشر وفى كلمة ثم اشارة إلى انتظارهم بعد الحشر إلى السؤال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف بكم إذا جمعكم اللّه كما يجمع النبل فى الكنانة خمسين الف سنة لا ينظر إليكم رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر وقال تمكثون الف عام فى الظلمة يوم القيامة لا تكلمون رواه البيهقي عن ابن عمر لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أى الهتكم التي جعلتموها شركاء اللّه فى العبادة الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أى تزعمونها شركاء فى استحقاق العبادة أو تزعمونها شفعاء عند اللّه حذف المفعولان والمراد من الاستفهام التوبيخ.(1/2149)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ قرأ حمزة والكسائي ويعقوب بالياء على التذكير وفِتْنَتُهُمْ بالنصب على انه خبر كان واسمها إِلَّا أَنْ قالُوا وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر وأبو جعفر لم تكن بالتاء على التأنيث لتانيث الخبر وفتنتهم بالنصب وابن كثير وابن عامر وحفص لم تكن بالتاء على التأنيث وفتنتهم بالرفع على انه اسم كان والمستثنى حبره وكلمة ثم تدل على طول التأمل فى الجواب والمراد بالفتنة الكفر يعنى يكون عاقبة كفرهم هذا القول بعد طول التأمل والندامة وقال ابن عباس وقتادة معذرتهم وانما سمى المعذرة فتنة لانهم يتوهمون بها خلاص أنفسهم من فتنت الذهب إذا أخلصته وقيل معنى فتنتهم جوابهم وانما سماه فتنة لأنه كذبا ولانهم قصدوا بها الخلاص وقيل معناه التجربة ولما كان سوالهم تجربة لاظهار ما فى قلوبهم سمى الجواب فتنة قال الرجاج فى قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم معنى لطيف وذلك مثل الرجل يفتن بحبوب ثم يصيبه فيه محنة فيتبرأ من محبوبه فيقال لم تكن فتنة الا هذا كذلك الكفار فتنوا بمحبة الأصنام قلت بل بتقليد الآباء ثم لما رأوا العذاب تبرأوا منها وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ مقولة قالوا قرأ حمزة ربنا بالنصب على النداء أو المدح والباقون بالجر على انه نعت للّه روى البخاري وغيره عن ابن عباس فى قوله تعالى ولا يكتمون اللّه حديثا وقوله تعالى واللّه ربنا ما كنا مشركين انه قال ان المشركين لما راوا يوم القيامة ان اللّه يغفر لاهل الإسلام ويغفر الذنوب و
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 227
لا يغفر الشرك جحدوا رجاء ان يغفر لهم فقالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين فيختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثا فقال اللّه تعالى.(1/2150)
انْظُرْ أيها المخاطب كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أى زال وذهب عنهم افترائهم بان اللّه حرم هذا وهؤلاء شفعاءنا عند اللّه عطف على كذبوا وكيف حال من فاعل كذبوا قدم لاقتضاء الاستفهام الصدارة ومضمون الجملة مفعول انظر يعنى انظر كذبهم على أنفسهم متكيفين باى كيفية حيث لا يفيدهم قال الكلبي اجتمع أبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعه وامية وابى ابنا خلف والحرث بن عامر يستمعون القرآن فقالوا للنضر يا با قتيلة ما يقول محمد قال ما أدرى ما يقول الا انه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون واخبارها فقال أبو سفيان انى ارى بعض ما يقول حقا فقال أبو جهل كلا لا تقر بشئ من هذا وفى رواية الموت أهون علينا من هذا فانزل اللّه تعالى.(1/2151)
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القرآن وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً جمع كنان وهو ما يستر الشيء أَنْ يَفْقَهُوهُ أى لئلا يفقهوه أو كراهة ان يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا يمنع أسماعهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من المعجزات لا يُؤْمِنُوا بِها لأنه تعالى جعل على أبصارهم غشاوة وعلى قلوبهم اكنة وتلك الاكنة موجبة لفرط عنادهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم واستحكام تقليدهم بالآباء حيث لا يرون الحسن حسنا ولا القبيح قبيحا حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا حتى عاطفة تدخل على الجمل عطف على لا يؤمنون وإذا ظرف تضمن معنى الشرط جوابه يجادلونك ويقول تفسير له أو يقال يجادلونك منصوب المحل على انه حال من فاعل جاؤا وجواب الشرط يقول والمعنى بلغ عدم ايمانهم وتكذيبهم إلى مرتبة المجادلة وجعل اصدق الحديث خرافات الأولين والمجيء لاجل المجادلة وهذا غاية التكذيب وجاز ان يكون حتى جارة وإذا فى محل الجر متعلقا بقوله تعالى لا يؤمنون على مذهب سيبويه حيث يقول بجواز وقوع إذا غير ظرف خلافا لجمهور النحاة وعلى هذا التأويل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 228(1/2152)
يجادلونك حال ويقول تفسير له وفى يقول الذين كفروا وضع المظهر موضع المضمر إِنْ هذا يعنى ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ مقولة يقول فى القاموس السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر والخط والجمع اسطر وسطور واسطار وجمع الجمع أساطير والأساطير الأحاديث التي لا نظام لها وقال البيضاوي الأساطير الأباطيل قلت هذا لازم معناه الحقيقي فان المكتوب فى كتب قصص الأولين غالبا يكون أباطيل لعدم الاطلاع على ما سبق وعدم الاحتياط فى الرواية ويكون قصص الأولين غالبا لا نظام لها لاجل اختلاف الروايات ثم استعمل لفظ أساطير الأولين فى الأحاديث الباطلة الكاذبة حتى صار هو معناه الحقيقي المنقول اليه.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ قال ابن عباس نزلت الآية فى أبى طالب كان ينهى المشركين ان يؤذوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويتباعد عما جاء به فلا يؤمن به كذا أخرج الحاكم وغيره عنه وعلى هذا ضمير الجمع راجع إلى أبى طالب ومن يساعده وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن أبى هلال حيث قال نزلت فى عمومة النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه فى العلانية وأشد الناس عليه فى السر فمعنى الآية ينهون الناس عن إيذائه صلى اللّه عليه وسلم وينئون أى يتباعدون عن اتباعه قال البغوي انه روى انه اجتمع رؤس المشركين إلى أبى طالب وقالوا خذ شابا من أصبحنا وجها وادفع إلينا محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقال أبو طالب ما أنصفتموني ادفع إليكم ولدي لتقتلوه واربى ولدكم وروى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دعاه إلى الإسلام فقال لو لا ان يعيرنى قريش لا قررت به عينك ولكن أذب عنك ما حييت وقال فيه أبياتا شعر
و اللّه لن يصلوا إليك بجمعهم حتى اوسّد فى التراب دفينا
فاصدع بامرك ما عليك غضاضة وابشر وقر بذاك عنك عيونا
دعوتنى وعرفت انك ناصحى ولقد صدقت وكنت ثم أمينا(1/2153)
وعرضت دينا قد علمت بانه من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبة لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
غضاضة الشباب نضارته وطراوته وقال محمد بن الحنفية والضحاك وقتادة نزلت فى كفار مكة ومعناه ينهون الناس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 229
عن اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم أو القرآن ويتباعدون عنه وَإِنْ أى ما يُهْلِكُونَ بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ ان ضرره يعود إليهم ولا يعود إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم منه شىء.
وَلَوْ تَرى الكفار إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يعنى حين يوقفون على النار حتى يعاينوها ويطلعوا عليها أو يدخلوها فيعرفوا عذابها وجواب لو محذوف يعنى لرايت امرا عجيبا فزيعا فَقالُوا عطف على وقفوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى الدنيا دار العمل وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرأ حفص وحمزة الفعلين منصوبين على جواب التمني بإضمار ان بعد الواو وقرأ ابن عامر برفع الأول عطفا على نرد أو حالا من الضمير فيه ونصب الثاني على الجواب والباقون بالرفع فيهما عطفا على نرد أو حالا من فاعله أو استينافا وقال المحقق التفتازانيّ هو عطف الخبر على الإنشاء وهو جائز إذا اقتضاه المقام.(1/2154)
بَلْ إعجاب عن ارادة الايمان والعزم عليه المفهوم من التمني يعنى انما قالوا ذلك ضجرا على كفرهم لا عزما على الايمان بَدا لَهُمْ أى ظهر لهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ فى الدنيا من النفاق أو ما كان أهل الكتاب يخفون نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد كانوا يعرفون النبي صلى اللّه عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم أو ما كانوا يخفون فى الاخرة من الشرك حين قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين قال النضر بن شميل معناه بدا عنهم وقال المبرد بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا فرضا بعد ما عاينوا نار جهنم لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والمعاصي لان مبادى تعيناتهم ظلال اسم اللّه المضل لا يحتمل صدور الايمان منهم وان كانوا على يقين من حقية الايمان وبطلان الكفر كما ان اليهود كانوا ينكرون ويبغضون محمدا عليه السلام وهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويجحدون بما استيقنت به أنفسهم ظلما وعلوا وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوه بعدم التكذيب والايمان على قراءة الرفع أو فيما يفهم من الوعد من التمني أو المعنى انهم معتادون بالكذب لا يتكلمون بمقتضى الآيات من التوحيد وغير ذلك عوض العايضين أخرج الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ليعذرن اللّه إلى آدم يوم القيمة ثلثة معاذير يقول يا آدم لو لا انى لعنت الكاذبين وأبغضت الكذب والخلف وواعدت عليه لرحمتك اليوم ولدك أجمعين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 230(1/2155)
ولكن حق القول منى لئن كذّبت رسلى وعصى امرى لاملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ويقول اللّه يا آدم انى لا ادخل النار أحدا ولا أعذب منهم الا من علمت بعلمي انى لورددته إلى الدنيا لعاد إلى شر ما كان فيه لم يرجع ولم يعقب ويقول اللّه يا آدم قد جعلتك حكما بينى وبين زريتك قم عند الميزان إذا يرفع إليك من أعمالهم فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة حتى تعلم انى لا ادخل النار الا ظالما.
وَقالُوا عطف على لعادوا يعنى لوردوا قالوا أو على انهم لكاذبون يعنى وهم الذين قالوا ذلك فى الدنيا أو على نهوا يعنى لو ردوا لعادوا لما نهوا ولما قالوا أو استيناف بذكر ما قالوه فى الدنيا إِنْ هِيَ الضمير للحيوة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أى القربى مؤنث ادنى من الدنو وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسوال والتوبيخ وقيل معناه على قضاء ربهم أو جزائه أو عرفوه حق التعريف وجواب لو محذوف مثل ما تقدم قالَ اللّه أو خزنة النار بإذن اللّه كأنَّه جواب قائل قال ماذا قال ربهم حينئذ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ المشار إليه البعث وما ترتب عليه من الثواب والعقاب استفهام للتفريع والتعيير على التكذيب قالُوا بَلى وَرَبِّنا أقروا مؤكدا باليمين لظهور الأمر كل الظهور وللتبرى عن الشرك والتكذيب وقال ابن عباس هذا فى موقف وللقيامة مواقف ففى موقف يقرون وفى موقف ينكرون قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ع أى بسبب كفركم أو يبدله.(1/2156)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أى بالبعث بعد الموت المفضى إلى روية اللّه خسر الكافرون حيث أنكروا البعث والجنة والنار ففاتهم النعيم المقيم واستبدلوا بها العذاب الأليم وخسر المعتزلة حيث أنكروا روية اللّه تعالى فيحرمون عنها وأنكروا الشفاعة والمغفرة فيحرمون عنهما قال اللّه تعالى انا عند ظن عبدى بي متفق عليه عن أبى هريرة مرفوعا وعند الطبراني والحاكم بسند صحيح عن واثلة واخرج اللالكائى عن ابراهيم الصائغ قال ما يسرنى ان لى نصف الجنة بالروية ثم تلى كلا انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم انهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون قال بالروية حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ قال البيضاوي غاية لكذبوا لا لخسروا فان خسرانهم لا غاية له فان قيل تكذيبهم منته إلى الموت لا إلى قيام
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 231(1/2157)
الساعة قلنا لعل المراد بالساعة ساعة الموت فانه من مات فقد قامت قيامته فى الصحيحين عن عائشة قالت كان رجال من الأعراب يأتون النبي صلى اللّه عليه وسلم فيسألونه عن الساعة فكان ينظر إلى أصغرهم فيقول ان يعش هذا لا يدركه الهرم حتى تقوم عليكم ساعتكم وان كان المراد بها القيامة فالموت مقدمة للساعة فكانها هى الساعة أو جعل الساعة زمان الموت لسرعة مجئ الساعة بعدها وحينئذ يمكن ان يقال انه غاية للخسران لان الخسران فوات راس المال وحين الموت لم يبق راس المال وهى الحيوة فانتهى زمان خسرانهم وبعده زمان الإفلاس بَغْتَةً يعنى فجأة منصوب على الحال أو المصدر فانها نوع من المجيء قالُوا يا حَسْرَتَنا جواب إذا ذكر على وجه النداء يعنى تعال هذا أو انك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أى فى الحيوة الدنيا من عمل الخير فهو إضمار بلا ذكر المرجع للعلم به أو الضمير راجع إلى الساعة يعنى قصرنا فى شان الساعة والايمان بها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ يعنى أعمالهم القبيحة عَلى ظُهُورِهِمْ إذا خرجوا من القبور أخرج ابن أبى حاتم عن عمرة بن قيس الملائى ان المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله فى احسن صورة وأطيب ريح فيقول هل تعرفنى فقال لا الا ان اللّه قد أطيب ريحك واحسن صورتك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك الصالح طال ما ركبتك فى الدنيا اركبنى اليوم وتلا يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وإن كان الكافر يستقبله عمله فى أقبح صورة وأنتنه ريحا فيقول أو لا تعرفنى قال لا الا ان اللّه قبح صورتك ونتن ريحك فيقول كذلك كنت فى الدنيا انا عملك السيء طال ما ركبتى فى الدنيا وانا أركبك اليوم وتلى وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم وعن أبى هريرة قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعظم الغلول وامره ثم قال الا الفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول اللّه أغثني فاقول لا املك من اللّه شيئا قد(1/2158)
أبلغتك الحديث ذكر فيه على رقبته فرس له حمحمة على رقبته شاة لها ثغاء على رقبته صامة متفق عليه وروى أبو يعلى والبزار عن عمر بن الخطاب نحوه واخرج الطبراني عن ابن مسعود مرفوعا من بنى بناء فوق ما يكفيه كلف ان يحمل على عاتقه وفى الصحيحين عن عائشة مرفوعا من ظلم قيد شبر من ارض طوقه اللّه يوم القيامة من سبع ارضين وفى الباب عند الطبراني عن الحكم بن حارث وانس وعنده وعند احمد عن يعلى بن مرة وابى مالك الأشعري
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 232
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أى بئس شيئا يزرونه وزرهم.
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ جواب لقولهم ان هى الا حيوتنا الدنيا واللعب فعل لا يكون له غرض صحيح ولا يترتب عليه منفعة واللهو ما يشغله عما ينفعه يعنى ما الأعمال التي يقصد بها معيشة الدنيا ولذاتها من غير ان يبتغى بها وجه الله تعالى الا باطلا لا ينفع منفعة معتدة بها لسرعة زوالها فكانها لا منفعة فيها أصلا وهى شاغلة عما يفيده فى الحيوة الابدية وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قرأ ابن عامر ولدار الاخرة بالاضافة بتأويل ولدار الساعة الاخرة كصلوة الوسطى ومسجد الجامع والباقون بالتوصيف خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عن الشرك والمعاصي لدوامها وخلوص منافعها ولذاتها وتخصيص الخيرية بالمتقين لانها شر للمشركين حيث يعذبون فيها وفيه اشارة إلى انه ما ليس من اعمال المتقين لعب ولهو فان اعمال المتقين فى مقابلة اعمال الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة يعنى أ فلا يعقلون أى الامرين من اعمال الدنيا والاخرة خير فان خير ما يكون منفعته قوية خالصة ابدية على ما هى ضعيفة مشوبة بالمضرات على شرف الزوال بديهية روى الترمذي والحاكم عن على ان أبا جهل قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم انا لا نكذبك ولكن نكذب بما جئت به فانزل اللّه تعالى.(1/2159)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الآية قال البيضاوي قد لزيادة الفعل وكثرته كما فى قوله ولكنه قد يهلك المال نايله وضمير انه للشان قال السدى التقى الأخنس بن شريف وأبو جهل ابن هشام فقال الأخنس لابى جهل يا أبا الحكم أخبرني عن محمد بن عبد اللّه ا صادق هو أم كاذب فانه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى فقال أبو جهل واللّه ان محمد الصادق وما كذب محمد قط لكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لساير قريش فانزل اللّه عز وجل فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع والكسائي بالتخفيف من الافعال من أكذبه إذا وجده كاذبا والباقون بالتشديد من التفعيل بمعنى نسبته إلى الكذب وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قال ناجية بن كعب قال أبو جهل للنبى صلى اللّه عليه وسلم لا نتهمك ولا نكذبك ولكنا نكذب التي جئت به وضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على انهم ظلموا لجحودهم أو جحدوا لتمرنهم على الظلم والباء لتضمين الجحود معنى التكذيب يعنى ان تكذيبهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 233
إياك راجع إلى اللّه تعالى فانهم انما يكذبونك من حيث الرسالة وتكذيب الرسول من حيث انه رسول تكذيب للمرسل.(1/2160)
وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى كذّبهم قومهم كما كذبك قومك وفيه دليل على ان قوله لا يكذبونك ليس على حقيقة بل المراد منه ان تكذيبه صلى اللّه عليه وسلم راجع إلى تكذيب اللّه سبحانه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من آذاني فقد أذى اللّه فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا يعنى على تكذيبهم وإيذائهم حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا جعل غاية الصبر النصر فاصبر أنت أيضا كما صبروا حتى يأتيك النصر ففيه وعد بالنصر وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أى لمواعيده بالنصرة لانبيائه قال اللّه تعالى ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون وان جندنا لهم الغالبون وقال انا لننصر رسلنا وقال كتب اللّه لاغلبن انا ورسلى وجاز ان يكون المعنى لا مبدل لقضائه وكلماته التكوينية يعنى متى لم يأت وقت النصر لا فائدة للاضطراب بل لا بد من الصبر وإذا جاء وقت النصر لا مرد له وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ من زائدة عند الأخفش وتبعيضية عند سيبويه حيث لا يجوز زيادة من فى الكلام الموجب يعنى جاءك ما يكفيك للتسلية من نبأ المرسلين ولما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حريصا أشد الحرص على ايمان قومه وكان يشق عليه اعراضهم من الايمان وكان إذا سئلوا اية أحب ان يريهم اللّه تعالى طمعا فى ايمانهم انزل اللّه تعالى.(1/2161)
وَ إِنْ كانَ كَبُرَ أى شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الايمان بما جئت به فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ تطلب نَفَقاً سريا فِي الْأَرْضِ صفة لنفقا يعنى تطلب منفذا تنفذ إلى جوف الأرض فتطلع لهم اية أَوْ سُلَّماً يعنى مصعدا فِي السَّماءِ صفة سلما يعنى تطلب مصعدا جانب العلو تصعد منه إلى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فتنزل منها اية وجواب الشرط الثاني محذوف يعنى فافعل والجملة جواب للشرط الأول والحاصل انك لا تقدر على إتيان اية فلا تتعب وان كبر عليك اعراضهم بل تصبر وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هدايتهم أجمعين لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فان مشية العباد مخلوقة للّه تعالى تابع للمشية لكنه لم يشأ لحكمة لا يعلمها الا اللّه ولا تتمالك أنت فلا تتعب واصبر فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فان اتعاب النفس فيما لا يفيد والجزع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 234
فى مواضع الصبر من داب الجاهلين أو المعنى لا تكونن من الجاهلين بان هدايتهم بمشية اللّه تعالى لا بمشيتك.
إِنَّما يَسْتَجِيبُ دعوتك من أمتك الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعنى الذين يخلق اللّه تعالى فى قلوبهم علما بحقية المسموع اطلق السمع وأريد به العلم الحاصل بعد ذلك جريا على عادة اللّه تعالى وَالْمَوْتى يعنى الكافر عبر اللّه تعالى الكافر بالموتى لان اللّه تعالى لما طبع على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم فلا يخلق فى قلوبهم العلم بحقية ما هو حق وبطلان ما هو باطل فلا ينتفعون بالأسماع والابصار كانوا كالموتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يوم القيامة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ فيجازيهم على كفرهم ولا يسمعون الحق ولا يبصرونه قبل ذلك أو المعنى والموتى من المؤمن والكافر يبعثهم اللّه ثم إليه يرجعون بعد البعث فيجازيهم على حسب أعمالهم.(1/2162)
وَ قالُوا يعنى روساء قريش لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى اية مما اقترحوه أو اية اخرى سوى ما انزل عليه من الآيات المتكثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه أو اية يضطرهم إلى الايمان كنتق الجبل أو اية ان جحدوا بعدها هلكوا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ان اللّه قادر على انزالها أو ما عليهم فى انزالها من الاستيصال بعد تكذيب اية ينزل باقتراحهم كما هو عادة اللّه تعالى.
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب عليها وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ فى الهواء وضعه به تأكيدا وقطعا لاحتمال مجاز السرعة ونحوها الّا امم أَمْثالُكُمْ فى الخلق والموت والبعث وفى الغذاء وابتغاء الرزق والعافية وإصابة البلاء لا مزية لكم عليها الا بمعرفة اللّه تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ يعنى فى اللوح المحفوظ مِنْ شَيْ ءٍ من زائد وشىء فى موضع المصدر أى شيئا من التفريط وليس بمفعول به فان فرط لا يتعدى بنفسه يعنى علم اللّه تعالى شامل لكل شىء خفى وجلى ولم يهمل فى اللوح المحفوظ امر حيوان ولا جماد أو المراد بالكتاب القرآن فانه قد دون فيه ما يحتاج إليه من امر الدين مفصلا أو مجملا ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعنى الأمم كلها المشبه والمشبه به فصح الجمع بالواو قال ابن عباس والضحاك حشرها موتها وروى ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن أبى هريرة قال يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم و
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 235(1/2163)
الدواب والطير وكل شىء فبلغ من عدل اللّه تبارك وتعالى ان يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كونى ترابا فذلك حين يقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا وروى البغوي عنه انه قال عليه الصّلوة والسّلام لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء وروى الطبراني فى الأوسط عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أول خصم يقضى فيه يوم القيامة عنزان ذات قرن وغير ذات قرن ونحوه عن أبى ذر عند احمد والبزار والطبراني وروى الحاكم عن ابن عمر ونحوه ولما ذكر من خلائقه واثار قدرته ما يدل على عظمته وشمول علمه وقدرته على البعث والجزاء قال.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون مثل هذه الآيات المنبهة خبر للموصول وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق معطوف على صم فِي الظُّلُماتِ خبر بعد خبر والمراد بالظلمات ظلمة الكفر والجهل والعناد وتقليد الآباء وجاز ان يكون حالا من المستكن فى الخبر ثم قال إيذانا بان الاهتداء بالآيات وعدمه يتوقف على مشية اللّه تعالى وانه تعالى يفعل ما يريد مَنْ يَشَأِ اللَّهُ ضلاله يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ هدايته يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى ما هو حق فى نفس الأمر.(1/2164)
قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين أَرَأَيْتَكُمْ قرأ نافع ارايتكم وارايتم وأ فرأيت وشبهه إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة والتي بعد الراء والكسائي يسقطها أصلا وحمزة يوافق نافعا فى الوقف فقط والباقون يحققونها فى الحالين استفهام تعجيب والكاف حرف خطاب أكد به الضمير المرفوع المفرد بناء على شمول الجمع المفرد ولا محل له من الاعراب ومفعولاه محذوفان تقديره ارايتكم الهتكم تنفعكم إذ تدعونها يدل عليهما ما بعده أو الفعل فى المعنى متعلق بغير اللّه تدعون لكنه معلق لان الروية تعلق قبل الاستفهام كما عرف فى موضعه قال البيضاوي الاستفهام للتعجيب فانهم لما عاملوا معاملة من يعلم انه يدعو غير اللّه فى الابتلاء الشديد نزلهم منزلتهم وتعجيب عن هذا العلم وقال الفراء يقولون ارايتك وهم يريدون أخبرنا قال المحقق التفتازانيّ انما وضع الاستفهام عن العلم أو عن روية البصر عن الاستخبار لان الروية بالبصر سبب للعلم والعلم سبب للاخبار فوضع السبب موضع المسبب إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ فى الدنيا كما اتى الأمم الماضية أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ باهوالها أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ بصرف
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 236
العذاب عنكم استفهام انكار فيه تبكيت لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ان الأصنام الهة فادعوها وليس الأمر كذلك.
بَلْ إِيَّاهُ يعنى اللّه تعالى تَدْعُونَ قدم المفعول للحصر يعنى لا تدعون فى الشدائد الا اللّه سبحانه لا غير فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أى ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ كشفه ذلك فى الدنيا دون الاخرة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ ع يعنى تتركون الهتكم فى ذلك الوقت لما تقرر فى العقول ان القادر على كشف الضر هو اللّه تعالى لا غير.(1/2165)
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ من زائدة فكذبوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ بالشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والآفات لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أى يتوبون بالتضرع والخشوع عن ذنوبهم التضرع السؤال بالتذلل.
فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا يعنى فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا وانما عدل عن نفى التضرع إلى صيغة التنديم ليفيد ان ترك التضرع منهم لم تكن من عذر بل كان مع قيام ما يدعوهم إليه وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم ينتبهوا بما ابتلوا به وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاستحسنوا سيئات أعمالهم استدراك على المعنى وبيان للصارف لهم عن التضرع وانه لا مانع لهم الا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم بتزيين الشيطان.
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ما ذُكِّرُوا بِهِ ما وعظوا وأمروا به ولم ينتبهوا بالبأساء والضراء ولم يتضرعوا فَتَحْنا قرأ ابن عامر هاهنا وفى الأعراف والقمر وفتحت فى الأنبياء بتشديد التاء فى الاربعة من التفعيل للتكثير وقرأ أبو جعفر فى كل القرآن بالتشديد والباقون بالتخفيف فى الكل عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من انواع النعم استدراجا ومكرا بهم عن عقبة بن عامر مرفوعا إذا رايت يعطى العبد فى الدنيا وهو مقيم على معاصيه ما يجب فانما هو استدراج ثم تلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما نسوا ما ذكروا به الآية والتي بعدها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا فرح بطر أى بطروا ولم يتوجهوا إلى المنعم شكرا كما لم يتضرعوا إليه فى الضراء وقام عليهم حجة بامتخانهم بالسراء والضراء ولم يبق بهم معذرة أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أخذا فجاة اعجب ما كانت الدنيا لهم فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا فى القاموس الدابر التابع واخر كل شىء
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 237(1/2166)
و الأصل والمعنى انهم اهلكوا كلهم ولم يبق منهم أحد حتى يتوالد فقطع نسلهم فقطع الدابر اما باعتبار هلاك الأصول أو باعتبار قطع الاتباع والفروع وضع المظهر موضع المضمر ليدل على ان هلاكهم كان لاجل ظلمهم وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم حمد نفسه عند هلاك الظلمة لأنه نعمة جليلة من حيث دفع شرهم عن المؤمنين وتطهير الأرض عن العقائد والأعمال الفاسدة الموجبة لنزول العذاب ووصف نفسه برب العالمين لان مقتضى ربوبية العالم إهلاك الظلمة وفيه إيذان بوجوب الحمد عند هلاك من لم يحمد للّه ثم دل على قدرته وتوحيده بقوله.
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتُمْ أيها المشركون إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ بان اصمكم واعميكم وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بان يغشها بما يزول به عقولكم وجواب الشرط محذوف يدل عليه قوله مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعنى لا يأتكم به أحد والجملة الشرطية فى موضع المفعولين لرايتم والاستفهام للتقرير يعنى قد علمتم انه لا يأتيكم أحد بشئ مما ذكره ان اخذه اللّه انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ فى القاموس صرف الآيات تبيينها كذا قال البغوي يعنى نبيّن العلامات الدالة على التوحيد وقال البيضاوي معناه نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من حيث الترغيب والترهيب وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أى يعرضون عنها وثم لاستبعاد الاعراض بعد تصريف الآيات وظهورها.(1/2167)
قُلْ يا محمد أَرَأَيْتَكُمْ أيها المشركون إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً منصوبان على المصدرية أو على الحالية يعنى اتيانا بغتة فجاة من غير تقدم امارة إتيانه أو اتيانا جهرة أى ظاهرة قبل إتيانه بتقدم اماراته أو المعنى أتاكم عذابه حال كونه مباغتا أى مفاجيا أو مجاهرا وقال ابن عباس والحسن معناه ليلا أو نهارا هَلْ يُهْلَكُ استفهام انكار ومعناه النفي ومن ثم جاز الاستثناء المفرغ فالتقدير ما يهلك إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ على أنفسهم بالكفر.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة وَمُنْذِرِينَ الكافرين بالنار يعنى ما نرسلهم قادرين على إتيان الآيات المقترحة وهداية من لم يشأ اللّه هدايته ولا على شىء اخر من الأحوال التي يتوقعها الكفار الا حال كونهم مبشرين ومنذرين فَمَنْ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 238
آمَنَ
بما جاؤا به وَأَصْلَحَ عمله طمعا فيما بشروا به وخوفا مما حذروه من النار فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا المبشرة والمنذرة يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ما سالهم كأنَّه حى يفعل بهم ما يريد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أى بسبب خروجهم عن الايمان والطاعة.(1/2168)
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أى مقدوراته أو خزائن رزقه وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عندى خزائن اللّه ولا زائدة يعنى لا أقول لكم اعلم الغيب ما لم يوح الىّ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ من الملئكة حتى ينافى دعوى الاكل والشرب والنكاح يعنى لا أقول لكم شيئا يجب إنكاره عقلا أو يستدعى اقتراح الآيات إِنْ أَتَّبِعُ فى تعليم العلوم وتبليغ الاحكام شيئا إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ يعنى انما ادعى النبوة واتصدى بما يتصدى له الأنبياء ولا استحالة فيه بل هو جائز عقلا واقع تواتر به الاخبار عن الأنبياء الماضين فيه رد على استبعادهم دعواه وجزمهم على فساد مدعاه وقال البغوي هذه الآية نزلت حين اقترحوا الآيات يعنى قل لهم لا أقول لكم عندى خزائن اللّه حتى اجعل لكم الصفا ذهبا وأعطيكم ما تريدون ولا اعلم الغيب حتى أخبركم بما مضى وما سيكون من غير وحي من اللّه ولا أقول لكم انى ملك حتى لا احتاج إلى الاكل والشرب والنكاح ان اتبع الا ما يوحى إليّ قُلْ يا محمد هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى يعنى الذي لا يمتاز بين الحق والباطل فينكر ما لا يجوز إنكاره ويصدق ما لا يجوز تصديقه وَالْبَصِيرُ الذي يمتاز بينهما فيصدق من يدعى النبوة بعد شهادة الآيات والمعجزات ويكذب من يدعى ان مع اللّه الهة اخرى ويقول للحجارة هؤلاء شفعاءنا عند اللّه وان الملئكة بنات اللّه ويقول بتحريم السوائب مثلا بلا دليل أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا للامتياز بين الحق والباطل وما يجب تصديقه وما لا يجوز القول به.(1/2169)
وَ أَنْذِرْ بِهِ أى خوف بما يوحى الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا أى يجمعوا ويبعثوا إِلى رَبِّهِمْ قال البيضاوي أراد بالموصول المؤمنون المفرّطون فى العمل أو المجوزون الحشر مومنا كان أو كافرا مقرا به من أهل الكتاب أو مترددا فيه فان الانذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته والباعث له على هذا القول كون الخوف صلة له وهذا ليس بشئ لان الأمر بالإنذار
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 239(1/2170)
لم يكن مختصا بمن ذكر بل امره اللّه تعالى بان يقول اوحى الىّ هذا القرآن لانذركم به ومن بلغ وأيضا لا وجه لتخصيص الانذار بالمفرطين فان المجتهدين فى العمل أيضا ينفعهم الانذار كيلا يخرجوا من اجتهادهم كيف ولم يكن من المؤمنين فى خير القرون مفرط بل كلهم كانوا مجتهدين فالاولى ان يقال المراد بالموصول من كان من شانه ان يخاف فيعم الناس أجمعين فان العبد المقهور حقيق ان يخاف الخالق القهار أو يقال خص الخائفون بالذكر لانهم هم المنتفعون بالإنذار لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أى من دون اللّه وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ الجملة فى موضع الحال من الضمير فى يحشروا فان المخوف هو الحشر فى هذا الحال يعنى يحشرون غير منصورين ولا مشفوعا لهم قلت وجاز ان يكون مضمون هذه الجملة بدلا من الضمير المجرور فى انذر به يعنى انذر بان ليس لهم من دون اللّه من ولى ولا شفيع فلا يعبدوا ولا يدعوا الا إياه فان قيل هذه الآية ينفى الولاية والشفاعة لغير اللّه تعالى من الأولياء والأنبياء قلنا لا بل ولاية الأولياء وشفاعتهم انما هى بإذن اللّه تعالى فهى ولاية اللّه تعالى وشفاعته لا غير لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أى لكى يتقوا روى احمد والطبراني وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال مر الملأ من قريش على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده خبّاب وصهيب وبلال وعمار فقالوا يا محمد رضيت بهؤلاء أ هؤلاء منّ اللّه عليهم من بيننا لو طردت هؤلاء لاتبعناك فانزل فيهم القرآن وانذر به الذين يخافون ان يحشروا إلى ربهم إلى قوله سبيل المجرمين وروى ابن حبان والحاكم عن سعد ابن أبى وقاص قال لقد نزلت هذه الآية فى ستة انا وعبد اللّه بن مسعود واربعة قالوا يعنى كفار قريش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اطردهم فانا نستحيى ان نكون تبعا لك كهولاء فوقع فى نفس النبي صلى اللّه عليه وسلم ما شاء اللّه فانزل اللّه تعالى وروى مسلم بلفظ كنا مع النبي صلى اللّه(1/2171)
عليه وسلم ستة نفر فقال المشركون اطردهم لا يجترؤا علينا قال كنت انا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمها فوقع فى نفس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما شاء اللّه ان يقع فحدث نفسه فانزل اللّه تعالى.
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ أى يعبدونه ويذكرونه فان عبادة الكريم وذكره داع إلى انعامه وقيل المراد منه حقيقة الدعاء بِالْغَداةِ قرأ ابن عامر هاهنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 240(1/2172)
و فى سورة الكهف بضم الغين وسكون الدال وواو مفتوحة والباقون بفتح الغين وو الدال والالف وَالْعَشِيِّ قال ابن عباس يعنى صلوة الصبح والعصر ويروى عنه ان المراد منه الصلوات الخمس وذلك ان ناسا من الفقراء كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ناس من الاشراف إذا صلينا فاخّره هؤلاء ليصلوا خلفنا فنزلت الآية يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من فاعل يدعون يعنى يدعون مخلصين فان الإخلاص ملاك الأمر رتب النهى عليه اشعارا بانه يقتضى إكرامهم وينافى طردهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ من زائدة وشىء اسم ما والظرف خبره ومن حسابك وكذا من حسابهم حال من الظرف يعنى ان الطرد وترك المجالسة انما يجوز بل يجب إذا أضر مجالسة أحدهما صاحبه وليس فلا يجوز أو المعنى لا يضرك حسابهم بل ينفعك فانهم يأتون بالحسنات وثواب حسنات الامة راجع إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا يضرهم حسابك بل ينفعهم فانك قد بلغتهم وأرشدتهم وهديتهم والجملة المنفية فى موضع الحال من الموصول فى لا تطرد الذين ويمكن ان يكون ضمير حسابهم وعليهم راجعا إلى المشركين والمعنى لا تواخذ بحساب المشركين ولا هم بحسابك حتى يهمك ايمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه فَتَطْرُدَهُمْ منصوب على جواب النفي يعنى ما ثبوت حسابهم عليك فتطردهم منك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ منصوب على جواب النهى يعنى لا يكن منك طردهم فكونك من الظالمين.(1/2173)
وَ كَذلِكَ الكاف زائدة كما فى قوله تعالى ليس كمثله شىء والمشار إليه ضلال رؤساء قريش واسم الاشارة منصوب المصدرية بقوله تعالى فَتَنَّا يعنى اضللنا ذلك الضلال بَعْضَهُمْ أى بعض الناس يعنى كفار قريش بِبَعْضٍ أى ببعضهم يعنى فقراء المؤمنين حيث امتنعوا من الإسلام بسببهم قال التفتازانيّ شاع هذا التركيب فى معنى فتنا بعضهم ببعض ذلك الفتن ولا يراد به مثل ذلك الفتن أو يقال معناه مثل ذلك الفتنة التي فتنا رؤساء قريش فتنا بعض الناس ببعض فى الأمم السابقة حيث قال قوم نوح ما نريك الا بشرا مثلنا وما نريك اتبعك الا الذين هم أراذلنا بادى الرأي وقال نوح ما انا بطارد الذين أمنوا وقال البيضاوي معناه مثل ذلك الفتن وهو اختلاف الناس فى امور
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 241(1/2174)
الدنيا بالفقر والغناء فتنا يعنى ابتلينا بعضهم ببعض فى امر الدين فقد منا هؤلاء الضعفاء على اشراف قريش بالسبق إلى الايمان لِيَقُولُوا أى الأغنياء واللام للعاقبة أَهؤُلاءِ الفقراء مَنَّ أى أنعم اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والتوفيق لما يسعدهم مِنْ بَيْنِنا دوننا انكار لتخصيص الفقراء باصابة الحق والسبق إلى الخير وحاصله لو كان خيرا ما سبقونا إليه أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ يعنى بالذين هم مستعدون للشكر فيوفقهم له وبمن ليس فى استعداده قبول الايمان والشكر فيخذله وهذه الآية تدل على ان الاستعداد يسبق الوجود كما قال المجدد رضى اللّه عنه ان مربيات تعينات المؤمنين ظلال اسم اللّه تعالى الهادي ومربيات تعينات الكفار ظلال اسم اللّه تعالى المضل فلا يمكن لاحد من الفريقين ان يصدر منه الا ما خلق منه وخلق لاجله وجاز ان يكون معنى قول الكفارا هؤلاء الفقراء الأراذل منّ اللّه عليهم بتخصيص صحبة نبيه صلى اللّه عليه وسلم دوننا فقال اللّه تعالى أ ليس اللّه بأعلم بالشاكرين فان الشاكرين هم الاحقاء بصحبة النبي صلى اللّه عليه وسلم دون الأغنياء قال البغوي قال سلمان وخباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري وغيرهم من المؤلفة فوجدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم قاعدا مع بلال وصهيب وعمار وخباب فى ناس من ضعفاء المؤمنين فلما راوهم حوله حقروهم فاتوا وقالوا يا رسول اللّه لو جلست فى صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم وكان عليهم جباب صوف لم يكن عليهم غيرها لجالسناك وأخذنا عنك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما انا بطارد المؤمنين فقالوا فانا نحب ان تجعل لنا منك مجلسا تعرف العرب فضلنا فان وفود العرب تأتيك فنستحيى ان يرانا العرب مع هؤلاء الا عبد فإذا نحن جئناك فاقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم ان شئت قال نعم قالوا اكتب لنا عليك(1/2175)
بذلك كتابا قال فدعا بالصحيفة ودعا عليا ليكتب قال ونحن قعود فى ناحية إذ نزل جبرئيل بقوله تعالى ولا تطرد الذين إلى قوله بالشاكرين فالقى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصحيفة من يده ثم دعانا فاتيناه وهو يقول سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة فكنا نقعد معه فإذا أراد ان يقوم قام وتركنا فانزل اللّه عز وجل واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 242
بالغدوة والعشى يريدون وجهه فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقعد معنا بعدو وندنوا منه حتى كادت ركبتنا تمس ركبته فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيه قمنا وتركنا حتى يقوم وقال لنا الحمد للّه الذي لم يمتنى حتى أمرني ان اصبر مع قوم من أمتي معكم المحيي والممات وقال الكلبي قالوا له اجعل لنا يوما ولهم يوما قال لا افعل قالوا فاجعل المجلس واحدا فاقبل علينا وولّ ظهرك عليهم فانزل اللّه تعالى هذه الآية وروى ما ذكر البغوي عن سلمان وخباب وابن جرير وابن أبى حاتم وغيرهما عن خباب وزادوا ثم ذكر اللّه تعالى الأقرع وصاحبه فقال وكذلك فتنا بعضهم ببعض الآية قال ابن كثير هذا غريب فان الآية مكية والأقرع وعيينة انما أسلما بعد الهجرة بدهر وروى البغوي بسنده عن أبى سعيد الخدري جلست فى نفر من المهاجرين وان بعضهم ليستتر ببعض من العرى وقارئ يقرأ علينا إذ جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقام علينا فلما قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سكن القاري فسلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال ما كنتم تصنعون(1/2176)
قلنا يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قاريا يقرأ علينا فكنا نسمع إلى كتاب اللّه تعالى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحمد للّه الذي جعل من أمتي من أمرني ان اصبر نفسى معهم ثم جلس وسطنا ليعدل نفسه فينا ثم قال بيده هكذا فتحلقوا وبرزت وجوههم له قال فما رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرف منهم أحدا غيرى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابشروا يا معاشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة يدخلون الجنة قبل اغنياء الناس بنصف يوم وذلك مقدار خمسمائة سنة واخرج ابن جرير عن عكرمة قال جاء عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدى والحارث بن نوفل فى اشراف بنى عبد مناف من أهل الكفر إلى أبى طالب فقالوا لو ان ابن أخيك يطرد عنه هؤلاء الا عبد كان أعظم فى صدورنا وأطوع له عندنا واولى لاتباعنا إياه فكلم أبو طالب النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال عمر بن الخطاب لو فعلت ذلك حتى تنتظر ما الذي يريدون فانزل اللّه وانذر به الذين يخافون إلى قوله أ ليس اللّه بأعلم بالشاكرين وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبى حذيفة وصبيحا مولى أسيد وابن مسعود والمقداد بن عبد اللّه وواقد ابن عبد اللّه الحنظلي وأشباههم فاقبل عمر فاعتذر من مقالته فنزل.
وَإِذا جاءَكَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 243(1/2177)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ قال عكرمة نزلت فى الذين نهى اللّه عز وجل نبيه عن طردهم فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا راهم بدأهم بالسّلام وقال عطاء نزلت فى أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وسالم وابى عبيدة ومصعب بن عمير وحمزة وجعفر وعثمان بن مظعون وعمار بن ياسر وأرقم بن الأرقم وابى سلمة بن عبد الأسد رضى اللّه عنهم أجمعين واخرج الفريابي وابن أبى حاتم عن ماهان قال جاء ناس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا انا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليهم شيئا فانزل اللّه تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون باياتنا فقل سلام عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ امر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بان يبدأهم بالتسليم أو يبلغ سلام اللّه إليهم ويبشرهم بوجوب الرحمة من اللّه لهم بوعده المؤكد تفضلا بعد بشارتهم بالسلامة مما يكره المستفاد من السّلام أَنَّهُ الضمير للشان قرأ نافع وابن عامر وعاصم بفتح الهمزة على انه بدل من الرحمة أو بتقدير الباء والباقون بالكسر على الاستيناف على انه تفسير للرحمة مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ فى موضع الحال أى من عمل سوءا جاهلا بحقيقة ما يتبعه ....... من المضار والمفاسد أو متجاهلا بارتكاب ما يودى إلى الضرر من افعال أهل الجهل وذلك التجاهل انما هو لغلبة شهوة النفس فمفعول الجهالة على التقدير الأول محذوف وعلى التقدير الثاني لا يقتضى المفعول ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أى بعد السوء يعنى رجع عن ذنبه بان ندم على ما فعل وعزم على ان لا يفعل ابدا وَأَصْلَحَ عمله فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب انه بفتح الهمزة على انه خبر مبتدا محذوف أو مبتدا خبره محذوف يعنى فامره انه تعالى غفور رحيم أو فله انه تعالى غفور والباقون بالكسر والفاء تدل على ان التوبة سبب للغفران.(1/2178)
وَ كَذلِكَ يعنى كما فصلنا لك فى هذه السورة نُفَصِّلُ الْآياتِ آيات القرآن أو دلائلنا فى كل حق ينكره الكافرون وَلِتَسْتَبِينَ قرأ أبو بكر وحمزة والكسائي بالياء على الغيبة وتذكير الفاعل وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بالتاء على تأنيث الفاعل الغائب ورفع كلهم سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ع على الفاعلية والسبيل يذكر ويؤنث وقرأ نافع لتستبين بالتاء على الخطاب أى لتستوضح يا محمد وسبيل منصوبا على المفعولية والعطف على مقدر تقديره ليظهر الصراط المستقيم ولتستبين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 244
سبيل المجرمين.
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أى صرفت وزجرت بالآيات والادلة العقلية والآيات القرآنيّة السمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعنى ما تدعونها وتسمونها الهة وتعبدونها من دون اللّه قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع اطماعهم وبيان لان ما هم عليه انما هو امر لا دليل عليه سمعا ولا عقلا بل بتبعية الهوى وتعليل لتركه موافقتهم وتنبيه لمن طلب الحق ان يتبع الحجة ولا يقلد قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً يعنى إذا اتبعت أهواءكم فقد ضللت وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حينئذ وفيه تعريض بانهم ليسوا بمهتدين.(1/2179)
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد بيان ما لا يجوز اتباعه يعنى انى على برهان وبصيرة مِنْ رَبِّي صفة لبينة أو صلة له يعنى بينة كائنة من ربى أو بينة من معرفة ربى وانه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير راجع إلى البينة باعتبار المعنى يعنى كذبتم بالبرهان أو راجع إلى ربى والمعنى كذبتم بربي حيث أشركتم به ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب حيث تقولون ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم أو المراد ما تستعجلون به من القيامة قال اللّه تعالى يستعجل بها الذين لا يومنون بها إِنِ الْحُكْمُ فى تعجيل العذاب وتأخيره وإتيان القيامة لاحد إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ قرأ نافع وابن كثير وعاصم بالصاد المهملة المشددة يعنى يقول ويبين الْحَقَّ ويفصله أو يتبع الحق والحكم من قص اثره والباقون بالضاد المعجمة المكسورة بحذف الياء من يقضى لاجتماع الساكنين وصلا وكذا وقفا اتباعا للخط يعنى يحكم بالحق وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الحاكمين والمظهرين.
قُلْ يا محمد لَوْ ثبت أَنَّ عِنْدِي أى فى قدرتى ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب أو إتيان القيامة لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أى فرغ من العذاب وأهلكتم وانقطع ما بينى وبينكم من المنازعة أو المعنى لقضى بإحقاق الحق وابطال الباطل اليوم بقيام الساعة ما يقضى بينى وبينكم أجلا يوم القيامة قال اللّه تعالى ثم إليه مرجعكم ثم يحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ولما كان قوله لقضى الأمر بينى وبينكم مجملا لم يتعين فيه مورد العذاب يبيّنه بقوله وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيهلكهم على مقتضى حكمة.
وَعِنْدَهُ تعالى دون عند غيره يستفاد الحصر من تقديم الظرف مَفاتِحُ الْغَيْبِ مفاتح جمع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 245(1/2180)
مفتح بفتح الميم وهو المخزن أو جمع مفتح بكسر الميم بمعنى المفتاح وهو ما يتوصل به إلى شىء مغلق والمراد بمفتاح الغيب علمه فان بالعلم يدرك المعلوم كأنَّه وصلة والمراد بالغيب ما لم يوجد بعد كاخبار المعاد ومن هذا القبيل ان المطر هل ينزل أو لا ومتى ينزل ومنه ما تكسب نفس غدا وانه باى ارض تموت أو وجد ولم يظهر اللّه تعالى على أحد ومنه ما فى الأرحام ومعنى عنده خزائن الغيب احاطة علمه بها كأنَّه موجود عنده تعالى روى البغوي بسنده عن ابن عمر انه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفاتح الغيب خمس لا يعلمها الا اللّه لا يعلم ما يغيض الأرحام أحد الا اللّه ولا يعلم ما فى الغد أحد الا اللّه ولا يعلم متى يأتي المطر أحد الا اللّه ولا تدرى نفس باى ارض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة أحد الا اللّه وكذا روى احمد والبخاري وفى الصحيحين فى حديث أبى هريرة فى قصة سوال جبرئيل انه عليه السلام قال فى خمس يعنى الساعة لا يعلمهن الا اللّه ثم قرأ ان اللّه عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية قلت وليست خزائن الغيب منحصرة فى الخمس المذكورة بل كل ما لم يوجد أو لم يظهر بعد وقال الضحاك مفاتح الغيب خزائن الأرض وعلم نزول العذاب وقال عطاء ما غاب عنكم من الثواب والعقاب وقيل انقضاء الآجال وقيل احوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أحوالهم ولا تعارض بين هذه الأقوال بناء على ما قلت لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ تنصيص بما أشير إليه من حصر علم الغيب به تعالى يعنى لا يعلم شيئا من المغيبات الا اللّه تعالى ولا يعلم غيره منها الا بتوقيفه وهو سبحانه يعلم أوقاتها وما فى تعجيلها وتأخيرها من الحكمة وفيه دليل على انه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ من النبات والدواب وغيرها وَالْبَحْرِ من الحيوانات والجواهر وغيرها هذه الجملة للاخبار عن تعلق علمه بالموجودات المشاهدات عطف(1/2181)
على الاخبار عن علمه تعالى بالمغيبات وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة فى احاطة علمه بالجزئيات بعد ما علم ذلك فيما سبق فان ما للنفى ومن للاستغراق أى يعلم عددها وأحوالها قبل السقوط وبعده وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ قال ابن عباس الرطب الماء واليابس البادية وقال عطاء ما ينبت وما لا ينبت وقيل الحي والميت والصحيح انه عبارة عن كل شىء قوله وَلا حَبَّةٍ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 246
مع ما عطف عليه معطوف على ورقة والعطف يشاركهما فى الصفة اعنى لا يعلمها فكانه قال ولا رطب ولا يابس الا يعلمها فقوله تعالى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأول من بدل الكل على ان الكتاب المبين علم اللّه تعالى أو بدل اشتمال ان أريد به اللوح المحفوظ أو يقال حبة معطوف على ورقة والا فى كتاب مبين معطوف على الا يعلمها عطف المعمولين على المعمولين بفعل واحد.(1/2182)
وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أى ينيمكم فان النوم أحد اقسام التوفى وأصله قبض الشيء بتمامه أو هو مستعار من الموت بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أى كسبتم بالجوارح بِالنَّهارِ خص النوم بالليل والكسب بالنهار نظرا إلى الغالب المعتاد وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفى الحكم عما عداه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أى فى النهار فيه تقديم وتأخير تقديره يتوفيكم بالليل ثم يبعثكم فى النهار ويعلم ما جرحتم به ووجه التقديم الاهتمام بذكر الكسب لِيُقْضى أى ليؤخر أَجَلٌ مُسَمًّى للموت سمى ذلك الاجل حين كان جنينا فى بطن امه بل فى الأزل ثُمَّ إِلَيْهِ أى إلى حكمه تعالى بجزاء ما كسبتم مَرْجِعُكُمْ بعد الموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ يوم القيامة بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ع عند الحساب فيجازيكم عليه فى الآية السابقة تنبيه على شمول علمه تعالى وفى هذه الآية على كمال قدرته وايماء بالاستدلال بما نشاهد من قدرته على الاحياء بعد النوم التي هى اخت الموت على البعث بعد الموت.(1/2183)
وَ هُوَ الْقاهِرُ الغالب الذي لا يتصور من أحد مقاومة فى إنفاذ المراد فَوْقَ عِبادِهِ تصوير للغلبة والاستعلاء وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً يحفظون أعمالكم ويكتبونها فى الصحف وينشر تلك الصحف يوم القيامة ليظهر المطيع من العاصي على رؤس الاشهاد حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ غاية لارسال الحفظة أو غاية للغلبة يعنى بلغت غلبته إلى انهم لا يقدرون على مخالفته فى قبض أرواحهم تَوَفَّتْهُ جواب إذا قرأ حمزة توفاه بالألف الممال على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث رُسُلُنا أخرج ابن أبى حاتم وابن أبى شيبة عن ابن عباس ان المراد بهم أعوان ملك الموت من الملئكة وكذا أخرج أبو الشيخ عن النخعي وذكر السيوطي عن وهب بن منبه قال ان الملئكة الذين يقربون بالناس هم الذين يتوفونهم ويكتبون اجالهم فإذا توفى الأنفس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 247(1/2184)
اجالهم دفعوها إلى ملك الموت وهو كالعاقب أى العشار الذي يودى إليه من تحته واخرج ابن حبان وأبو الشيخ عن الربيع بن انس انه سئل عن ملك الموت هل هو وحده الذي يقبض الأرواح قال هو الذي يلى امر الأرواح وله أعوان على ذلك غير ان ملك الموت هو الرئيس وكل خطوة منه من المشرق إلى المغرب قلت اين تكون أرواح المؤمنين قال عند سدرة المنتهى قال القرطبي لا منافاة بين قوله تعالى توفته رسلنا وقوله تعالى يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم وقوله تعالى اللّه يتوفى الأنفس لان اضافة التوفى إلى ملك الموت لأنه المباشر للقبض والى الملئكة الذين هم أعوانه لانهم يأخذون فى جذبها فهو قابض وهم معالجون والى اللّه تعالى لأنه هو الفاعل على الحقيقة يعنى افعال العباد مخلوقة له تعالى وقال القرطبي انه فى الخبر انه ينزل عليه أى على الميت اربعة من الملئكة ملك يجذب النفس من قدمه اليمنى وملك يجذبها من قدمه اليسرى وملك يجذبها من يده اليمنى وملك يجذبها من يده اليسرى ذكره أبو حامد وقال الكلبي يقبض ملك الموت الروح من الجسد ثم يسلمها إلى ملئكة الرحمة أو ملئكة العذاب واخرج جويبر فى تفسيره عن ابن عباس قال قال ملك الموت هو الذي يتوفى الأنفس كلها وقد سلط على ما فى الأرض كما سلط على ما فى راحته ومعه ملئكة من ملئكة الرحمة والعذاب فإذا توفى نفسا طيبة دفعها إلى ملئكة الرحمة وإذا توفى نفسا خبيثة دفعها إلى ملئكة العذاب واخرج ابن أبى الدنيا وأبو الشيخ عن ابن المثنى الحمصي نحوه ويدل على هذا ما روى احمد وأبو داؤد والحاكم وابن أبى شيبة والبيهقي وغيرهم من طرق صحيحة فى حديث طويل عن البراء بن عازب وفيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد المؤمن إذا كان فى انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل إليه ملئكة بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ(1/2185)
ملك الموت عليه السّلام حتى يجلس عند راسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجى إلى مغفرة من اللّه ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فياخذها يعنى ملك الموت فإذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها فى ذلك الكفن وفى ذلك الحنوط الحديث وذكر فى الكافر انه ينزل ملئكة سود الوجوه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 248
معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند راسه فذكر الحديث نحوه انه يقبض فإذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين الحديث واخرج ابن أبى حاتم عن زهير بن محمد قال قيل يا رسول اللّه ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك فقال انه حوى الدنيا لملك الموت حتى جعلها كالطست بين يدى أحدكم فهل يفوته منها شىء واخرج ابن أبى الدنيا وأبو الشيخ عن اشعث بن اسلم قال سال ابراهيم عليه السّلام ملك الموت واسمه عزرائيل وله عينان فى وجهه وعينان فى قفاه فقال يا ملك الموت ما تصنع إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان كيف تصنع قال ادعوا الأرواح بإذن اللّه فيكون بين إصبعي هاتين قال ودحيت له الأرض فتركت كالطست يتناول منها حيث يشاء واخرج ان ملك الموت قال ليعقوب حين سأله ان اللّه سخر لى الدنيا فهى كالطست يوضع قدام أحدكم فيتناول من(1/2186)
اى أطرافه شاء كذلك الدنيا عندى واخرج فى الزهد وأبو الشيخ وأبو نعيم عن مجاهد قال جعلت الأرض لملك الموت مثل الطست يتناول من حيث شاء وجعل له أعوانا يتوفى الأنفس ثم يقبضها منهم قلت وتحقيق المسألة بالنظر إلى الأحاديث والآثار ان اللّه سبحانه جعل ملك الموت بحيث نسبته إلى جميع الأرض والأقطار على السواء كالشمس فى المشاهدات وجعل نفسه بحيث لا يغنيه شان عن شان وكذلك يجعل لنفوس بعض أوليائه فانهم يظهرون ان شاء اللّه تعالى فى ان واحد فى امكنة شتى بأجسادهم المكتسبة وجعل لملك الموت أعوانا فى جذب النفوس هم كالجوارح له وتنزل عند كل ميت مومن أو كافر جمع من الملئكة بأكفان من الجنة أو النار فياخذون روحه من ملك الموت ويرتقون به إلى السماء فالمراد برسلنا فى هذه الآية اما أعوان ملك الموت واما الملئكة الذين يرتقون بالأرواح وياخذونها من ملك الموت وقيل أراد بالرسل ملك الموت وحده فذكر الواحد بلفظ الجمع وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ أى لا يقصرون بالتواني والتأخير ولا يقدرون على قبض الأرواح الا بعد اذنه تعالى أخرج الطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن الحارث بن الخزرج ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نظر إلى ملك الموت عند راس رجل من الأنصار فقال يا ملك الموت ارفق بصاحبى فانه مومن فقال ملك الموت طب نفسا وقر عينا واعلم انى لكل مومن رفيق واعلم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 249(1/2187)
يا محمد انى لاقبض روح ابن آدم فإذا صرخ صارخ من اهله قمت فى الدار ومعى روحه فقلت يا هذا الصارخ واللّه ما ظلمناه ولا سبقنا اجله ولا استعجلنا قدره وما لنا فى قبضة من ذنب فان ترضوا بما صنع اللّه توجروا وان تسخطوا تأثموا وتوزروا وان لنا عندكم عودة بعد عودة فالحذر الحذر وما من أهل بيت شعر ولا مدربر ولا فاجر سهل ولا جبل الا وانا أتصفحهم فى يوم وليلة حتى لانا اعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بانفسهم واللّه لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت .... على ذلك حتى يكون اللّه هو يأذن بقبضها واخرج ابن أبى الدنيا وأبو الشيخ عن الحسن نحوه قال جعفر بن محمد بلغني انه انما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا نظر عند الموت فان كان ممن يحافظ على الصلوات الخمس دنا منه ملك الموت وطرد عنه الشياطين ويلقنه لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه فى ذلك الحال العظيم.(1/2188)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ أى مالكهم الْحَقِّ المراد بهذه الآية اما ودهم إلى اللّه تعالى عرضهم على الحساب يوم القيامة كما تدل عليه كلمة ثم واما بعد الموت يرتقون بهم ملئكة الرحمة والعذاب كما ورد فى ذلك الحديث الطويل عن البراء بن عازب قال فيصعدون بها يعنى المؤمن فلا يمرون على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الطيب فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونها فى الدنيا حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة فيقول اللّه اكتبوا كتاب عبدى فى عليين واعيدوه إلى الأرض الحديث وقال فى الكافر فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى به فى الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تفتح لهم أبواب السماء الآية فيقول اللّه عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن يشرك باللّه فكانما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق الحديث أَلا لَهُ الْحُكْمُ لا لغيره وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ لا يشغله حساب عن حساب وفى الحديث يحاسب الخلق كلهم فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا.
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ يعقوب بالتخفيف من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 250(1/2189)
مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعنى من شدائدهما ومهالكهما استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما فى الهول كانوا إذا سافروا فى البر أو البحر فضلّوا الطريق وأحيطوا بالصواعق أو الأمواج أو غيرها من البليات والمصائب دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم ان الأوثان حجارة لا تضر ولا تنفع تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً مصدر بمعنى الفاعل حال من ضمير الفاعل فى يدعونه والجملة حال من ضمير المفعول فى ينجيكم والتضرع التذلل والمبالغة فى السؤال وَخُفْيَةً قرأ أبو بكر عن عاصم هنا وفى الأعراف بكسر الخاء والباقون بالضم وهما لغتان يعنى مسرين فان الاسرار سنة الدعاء والذكر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا والمعنى تدعون اللّه بالتضرع والإخلاص فان الاسرار بالدعاء ابعد من الرياء وادل على الإخلاص لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الظلمة والشدة بتقدير القول بيان لتدعونه يعنى تقولون لئن أنجيتنا قرأ الكوفيون أنجانا على صيغة الغائب والباقون بصيغة الخطاب للّه تعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ للّه تعالى والشكر هو معرفة النعمة مع القيام بحقها يعنى صرفها فى رضاء المنعم.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ قرأ الكوفيون وهشام مشددا من التفعيل على طبق السؤال والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْها أى من تلك الشدة وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ غاية الغم ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعوون إلى الشرك ولا توفون بالعهد وتعلمون ان اللّه هو الذي ينجيكم وتشركون معه الأصنام التي قد علمتم انها لا تضر ولا تنفع وفى وضع تشركون موضع لا تشكرون كمال توبيخ وتنبيه على ان من أشرك فى عبادة اللّه فكانه لم يعبد اللّه راسا وكلمة ثم ليس للتراخى فى الزمان بل لكمال البعد بين الإحسان والإشراك.(1/2190)
قُلْ هُوَ أى اللّه هو الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح وعاد وقوم لوط واصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما فعل بقوم نوح من نبع الأرض وإغراق فرعون وخسف قارون عن ابن عباس ومجاهد من فوقكم السلاطين الظلمة ومن تحت أرجلكم العبيد السوء وقال الضحاك من فوقكم أى من قبل كباركم ومن تحت أرجلكم من قبل صغاركم وقيل حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ أى يخلطكم شِيَعاً فرقا متفرقين على أهواء شتى ويكون القتال بينكم وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ البأس العذاب والشدة فى الحرب كذا فى القاموس يعنى يقتل بعضكم بعضا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 251
عن جابر بن عبد اللّه قال لما نزلت هذه الآية قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعوذ بوجهك الكريم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا أهون وهذا أيسر رواه البخاري وغيره.
((1/2191)
فائدة) ظهر تاويل هذه الآية بعد خمس وثلثين سنة من الهجرة حين قاتل المسلمون فى وقعة جمل وصفين وغير ذلك - وعن سعد بن أبى وقاص قال أقبلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بنى معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى ربه طويلا ثم قال سالت ربى ثلثة سالته ان لا يهلك أمتي بالغرق فاعطانيها وسالته ان لا يهلك أمتي بالسنة فاعطانيها وسالته ان لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها رواه البغوي وعن عبد اللّه بن عبد الرحمن الأنصاري ان عبد اللّه بن عمر جاءهم ثم قال ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دعا فى مسجد فسال اللّه ثلثا فاعطاه اثنتين ومنعه واحدة ساله ان لا يسلط على أمته عدوا من غيرهم يظهر عليهم فاعطاه ذلك وسالهم ان لا يهلكهم بالسنين فاعطاه ذلك وساله ان لا يجعل بأس بعضهم على بعض فمنعه ذلك رواه البخاري واخرج ابن أبى حاتم عن زيد بن اسلم قال لما نزلت قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيوف قالوا ونحن نشهد ان لا اله الا اللّه وانك رسول اللّه فقال بعض الناس لا يكون هذا ابدا يعنى ان يقتل بعضكم بعضا ونحن مسلمون فنزلت انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ أى بالعذاب أو بالقران.
قَوْمُكَ أى كفار قريش وَهُوَ الْحَقُّ الواقع لا محالة أو الصدق قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى مسلطا من اللّه عليكم وكّل الىّ أمركم ألزمكم الإسلام لا محالة أو اجازيكم ان أبيتم.
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر من اخبار القرآن من العذاب النازل بالكفار وغيره مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار ووقوع لا يتقدم عليه ولا يتاخر وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه فى الدنيا أو فى الاخرة.(1/2192)
وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها وكانت القريش تفعل ذلك فى أنديتهم « 1 » فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أى قم من عندهم ولا تجالسهم والمقصود
_________
(1) اندية جمع نادى وهو المجلس واهله 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 252
التحذير عن دينهم ومجالستهم لا المنع عن قتالهم حتى يقال بالنسخ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لانها القرآن وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد السين من التفعيل والباقون بسكون النون وكسر السين من الافتعال يعنى ان ينسينك ما نهيت عنه الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يعنى بعد ان تذكره مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى معهم وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على انهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام قال البغوي روى عن ابن عباس انه لما نزلت هذه الآية قال المسلمون كيف نقعد فى المسجد الحرام ونطوف بالبيت .... وهم يخوضون ابدا وفى رواية قال المسلمون فانا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننههم فانزل اللّه عز وجل.
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مِنْ حِسابِهِمْ أى الكفار المستهزئين ومن للتبعيض مِنْ شَيْ ءٍ من زائدة يعنى مما يحاسب عليه الكفار من الآثام ليس شىء منها لازما للمتقين وَلكِنْ عليهم ذِكْرى أى تذكيرهم ومنعهم عن الخوض ونحو ذلك من القبائح ان استطاعوا فذكرى فى محل الرفع ويحتمل النصب على المصدرية يعنى ولكن ذكروهم ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أى الكفار بتذكير المؤمنين وجاز ان يكون الضمير للذين يتقون يعنى لكن يثبتوا على التقوى.(1/2193)
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً يعنى تدبنوا بما لا ينفعهم عاجلا وأجلا كعبادة الأوثان وتحريم البحائر والسوائب أو المعنى اتخذوا دينهم الذي كلفوا بإتيانه لهوا ولعبا حيث يسخرون به وقيل معناه ان اللّه تعالى جعل لكل قوم عيدا فاتخذ كل قوم دينهم يعنى عيدهم لعبا ولهوا الا المسلمين فان فى عيدهم الصلاة صلوة العيد والجمعة والتكبير والنحر لله تعالى وصدقة الفطر والخطبة والتذكير والمعنى اعرض عنهم ولا تبال بأفعالهم وأقوالهم ويجوز ان يكون معناه التهديد كقوله تعالى ذرنى ومن خلقت وحيدا ومن جعله منسوخا باية السيف حمله على ترك التعرض لهم والأمر بالكف عنهم وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث وَذَكِّرْ بِهِ أى بالقران أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ يعنى لئلا تبسل أو كراهة ان تبسل أى تحبس بما كسبت من السيئات والبسل الحبس كذا فى القاموس لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ناصر يدفع عنها العذاب بالمقاومة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 253
وَ لا شَفِيعٌ يدفع بالشفاعة وَإِنْ تَعْدِلْ تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ العدل الفدية لانها تعادل المفدى أى ان تفد كل الفدية وكل منصوب على المصدرية لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى منها ولا ضمير فيه عائد إلى العدل لأنه هاهنا بمعنى المصدر دون المفعول فلا يسند إليه الاخذ بخلاف قوله تعالى لا يؤخذ منها عدل فان هناك بمعنى المفدى أُولئِكَ المشار إليه الَّذِينَ اتخذوا دينهم لعبا الذين أُبْسِلُوا أى حبسوا وسلموا إلى العذاب بِما كَسَبُوا من السيئات لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ماء بالغ غاية الحرارة وَعَذابٌ أَلِيمٌ بالنار وغيرها بِما كانُوا يَكْفُرُونَ ع أى بسبب كفرهم جملة مستأنفة أو خبر بعد خبر لاولئك.(1/2194)
قُلْ أَنَدْعُوا أ نعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا أى عبدناه وَلا يَضُرُّنا ان لم نعبده ونكفر به يعنى لا يقدر على شىء من ذلك وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعنى نرجع إلى الشرك الذي كان الناس عليه فى الجاهلية عطف على ندعوا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ بالوحى فانقذنا من الشرك ورزقنا الإسلام كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ استفعال من هوى يهوى بمعنى ذهب قرأ حمزة استهواه بالألف مما لا على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث نظرا إلى جمعية الفاعل والكاف فى محل النصب على المصدرية أو على الحالية يعنى ردا مثل رد الذي ذهب به الشياطين أو نرد مشبهين بالذي ذهب به الشياطين يعنى مردة الجن فِي الْأَرْضِ أى فى المفازة من الطريق إلى المهالك حَيْرانَ حال من مفعول استهوته أى ضالا متحير الا يدرى اين يذهب وكيف يصنع لَهُ أى بهذا المستهوى أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أى إلى الطريق المستقيم سماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر ائْتِنا تفسير ليدعونه بتقدير القول يعنى يقولون له ائتنا والمستهوى لا يجيبهم ولا يأتيهم وجملة له اصحاب فى محل النصب على الحالية من مفعول استهوته شبه اللّه سبحانه الضال عن طريق الإسلام والمسلمون يدعونه إلى الإسلام فلا يلتفت إليهم بالذي استهوته الغيلان فذهبوا به عن الطريق وأصحابه يدعونه إلى الطريق والاستفهام للانكار وجملة التشبيه حال من ضمير نرد قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ أى الإسلام هُوَ الْهُدى وما عداه ضلال وَأُمِرْنا منصوب المحل عطفا على محل ان هدى اللّه هو الهدى يعنى قل هذا القول وقل أمرنا لِنُسْلِمَ اللام بمعنى الباء أو زائدة والفعل بتأويل المصدر بان مقدوة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 254(1/2195)
مفعول لامرنا يعنى أمرنا ان نسلم أو بان نسلم أو هى للتعليل والمفعول محذوف يعنى أمرنا باتباع الرسول لنسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ فان الوصول إلى اللّه تعالى وتسليم أنفسهم له تعالى منحصر فى اتباع الرسول.
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ عطف على ان نسلم مفعولا لامرنا أو علة يعنى أمرنا بان اقيموا أو لاقامة الصّلوة والتقوى وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيمة.(1/2196)
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما بِالْحَقِّ بالحكمة أو محقا أو المعنى متلبسات بالحق نظيره ما خلقت هذا باطلا أو الباء بمعنى اللام أى لاظهار الحق وَيَوْمَ يَقُولُ للشئ كُنْ فَيَكُونُ يعنى يقول للخلق قوموا فيقومون فيكون مرفوعا على الخبر وليس بجواب ويوم منصوب باذكر أو هو معطوف على الضمير المنصوب فى واتقوه يعنى اتقوا عذاب يوم يقول كن يعنى يوم القيمة أو على السموات يعنى خلق السموات ويوم القيمة أو منصوب بفعل محذوف دل عليه السياق يعنى خلق السموات والأرض وما بينهما ويعيدها يوم يقول للبعث كن فيكون وعلى هذه التأويلات قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر كلام مستأنف يعنى قوله هو الحق الصدق لا محالة وجاز ان يكون الموصوف مع الصفة فاعلا ليقول يعنى فيكون قوله الحق ولا يتخلف الخلائق عن قوله أو المعنى حين يقول لقوله الحق أى لقضائه كن فيكون وقيل قوله الحق مبتدا ويوم يقول خبره مقدما عليه كما تقول يوم الجمعة قولك الصدق يعنى قولك الصدق كائن يوم الجمعة قدم الخبر للاهتمام والمعنى انه الخالق للسموات والأرض قوله الحق نافذ فى الكائنات يوم يقول كن فيكون وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله تعالى لمن الملك اليوم للّه الواحد القهار والصور قرن ينفخ فيه كذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى جواب الاعرابى حين ساله رواه أبو داؤد وحسنه والنسائي وابن جبان وصححه والبيهقي فى البعث وابن المبارك فى الزهد عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص واخرج أبو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن وهب بن منبه قال خلق اللّه الصور من لؤلؤ بيضاء فى صفاء الزجاجة ثم قال للعرش خذ الصور فتعلق به ثم قال كن فكان اسرافيل فامره ان يأخذ الصور فاخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة لا يخرج روحان من ثقب واحد وفى وسط الصور كوة كاستدارة السماء والأرض واسرافيل واضع فمه فى تلك الكوة(1/2197)
ثم قال له الرب تعالى قد وكلتك بالصور فانت بالنفخة والصيحة فدخل اسرافيل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 255
فى مقدم العرش وادخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يطرف منذ خلقه اللّه ينتظر متى يومر به واخرج احمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واحنى جبهته وأصغى بالسمع متى يومر فسمع بذلك اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فشق عليهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل وكذا أخرج احمد والحاكم فى المستدرك والبيهقي فى البعث والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس وفيه حسبنا اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكلنا وكذا الترمذي والحاكم والبيهقي عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبو نعيم عن جابر واخرج البزار والحاكم عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من صباح الا وملكان موكلان بالصور ينتظران متى يومران فينتفخان وروى ابن ماجة والبزار عنه مرفوعا بلفظ ان صاحبى الصور بايديهما قرنان يلاحظان النظر متى يومران واخرج الحاكم من حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال النافخان فى السماء الثانية وراس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب وراس أحدهما بالمغرب ورجلاه بالمشرق ينتظران متى يومران ان ينفخا فى الصور فينفخان فهذه الأحاديث تدل على ان نافخا الصور ملكان لهما قرنان واخرج الطبراني بسند حسن عن كعب الأحبار حديثا فيه ملك الصور جاث على احدى ركبتيه وقد نصب الاخرى فالتقم الصور فحنى ظهره وقد امر إذ رأى اسرافيل قد ضم جناحيه ان ينفخ فى الصور فقالت عائشة هكذا يعنى مثل ما قال كعب سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول قال ابن حجر هذا الحديث يدل على ان النافخ غير اسرافيل فليحمل على انه ينفخ النفخة الاولى إذا راى اسرافيل ضم جناحيه ثم ينفخ(1/2198)
اسرافيل نفخة البعث واللّه اعلم واخرج أبو الشيخ بن حبان فى كتاب العظمة عن أبى بكر الهذلي قال ان ملك الصور الذي وكل به ان احدى قدميه لفى الأرض وهو جاث على ركبته شاخص ببصره إلى اسرافيل ما طرف منذ خلقه اللّه ينتظر متى يشير إليه فينفخ فى
الصور عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أى هو عالم الغيب يعنى ما لم يوجد والشهادة يعنى ما وجد فان كل موجود مشهود للّه تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض وَهُوَ الْحَكِيمُ فى الإيجاد والافناء الْخَبِيرُ بالحساب والجزاء وبأحوال المخلوقات كلها.
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ قرأ يعقوب آزر بالضم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 256(1/2199)
يعنى يا آزر والباقون بالفتح فى محل الجر على انه عطف بيان لابيه وهو اسم أعجمي غير منصرف للعلمية والعجمة وقيل هو اسم عربى مشتق من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الثقل لم ينصرف للعلمية ووزن الفعل وكان آزر على الصحيح عما لابراهيم والعرب يطلقون الأب على العم كما فى قوله تعالى نعبد إلهك واله ابائك ابراهيم واسمعيل وإسحاق الها واحدا وكان اسمه ناخور ........(1/2200)
و كان ناخور على دين ابائه الكرام كما ذكرنا فى سورة البقرة ثم لما صار وزير النمرود اختار الكفر للحرص فى الدنيا وترك دين ابائه روى البخاري عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يلقى ابراهيم آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول ابراهيم الم اقل لك لا تعصنى فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول ابراهيم يا رب انك وعدتني ان لا تخزينى يوم يبعثون فاى خزى اخزى من أبى الا بعد فيقول اللّه انى حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال يا ابراهيم ما تحت رجليك فينظر فإذا بذيخ « 1 » متلطخ فيوخذ بقوائمه فيلقى فى النار واللّه اعلم قال الرازي انه كان عما لابراهيم ولم يكن أبوه وقد سبقه إلى هذا القول جماعة من السلف قال الزرقانى فى شرح المواهب ان دليل كون آزر عما لابراهيم ما قد صرح به الشهاب الهيثمي بان أهل الكتابين والتاريخ اجمعوا ان آزر عم ابراهيم كما قال الرازي وقال السيوطي روينا بالأسانيد عن ابن عباس ومجاهد وابن جرير والسدى انهم قالوا ليس آزر أبا لابراهيم انما هو ابراهيم بن تارخ وقال السيوطي وقفت على اثر فى تفسير ابن المنذر صرح فيه بانه عمه وفى القاموس آزر اسم عم ابراهيم عليه السلام واما أبوه فانه تارخ بالخاء المهملة وقيل بالمعجمة أو هما واحد ويؤيد القول بانه لم يكن أبا له عليه السلام ما ذكرنا فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ولا تسال عن اصحاب الجحيم انه صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري وقد صنف السيوطي فى اثبات اسلام اباء النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى آدم عليه السّلام رسائل واللّه اعلم لكن قال محمد بن إسحاق والضحاك والكلبي ان آزر اسم أبى ابراهيم واسمه تارخ أيضا مثل إسرائيل ويعقوب وقال مقاتل ابن حبان آزر لقب لابى ابراهيم واسمه تارخ قال سليمان التيمي هو سبّ وعيب ومعناه فى(1/2201)
كلامهم المعوج وقيل معناه الشيخ الهرم بالفارسية وعلى هذا
_________
(1) الذيخ ذكر الضباع أراد بالتلطخ التلطخ برجيعه أو بالطين 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 257
عدم انصرافه لأنه اسم أعجمي حمل على موازنه والاول أصح وقال سعيد ابن المسيب ومجاهد آزر اسم صنم لقب به لأنه كان يعبده أو اطلق عليه بحذف المضاف يعنى عبد آزر وعلى تقدير كونه اسم صنم منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده اعنى أَتَتَّخِذُ تقديره أتعبد آزر أ تتخذه الها فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على عدم انحصار عبادته فى آزر فقال أَصْناماً آلِهَةً دون اللّه تعالى إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان أَراكَ وَقَوْمَكَ يعنى أهل دينك فِي ضَلالٍ عن الحق مُبِينٍ ظاهر الضلالة.(1/2202)
وَ كَذلِكَ يعنى كما أريناه الحق على خلاف قرنه نُرِي حكاية حال ماضية إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ كرهبوت وترقوت العز والسلطان كذا فى القاموس مشتق من الملك زيدت الواو والتاء للمبالغة فهو أعظم الملك قال فى الصحاح الملكوت مختصة بملك اللّه تعالى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الملكوت إلى السموات والأرض من قبيل اضافة المصدر إلى المفعول يعنى سلطان اللّه وربوبيته السموات قال مجاهد وسعيد بن جبير يعنى آيات السموات والأرض وذلك انه أقيم على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين ونظر إلى مكانه فى الجنة وذلك قوله تعالى واتيناه اجره فى الدنيا يعنى أريناه مكانه فى الجنة وروى عن سلمان ورفعه بعضهم عن على رضى اللّه عنه لما ارى ابراهيم ملكوت السموات والأرض ابصر رجلا على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فدعا عليه فهلك ثم ابصر اخر فاراد ان يدعوا عليه فقال الرب عز وجل يا ابراهيم انك رجل مستجاب الدعوة فلا تدعون على عبادى فانما انا من عبادى على ثلث خصال اما ان يتوب الىّ فاتوب عليه واما ان أخرج عنه نسمة تعبدنى واما ان يبعث الىّ فان شئت عفوت عنه وان شئت عاتبته وفى رواية واما ان يتولى فان جهنم من ورائه وقال قتادة ملكوت السموات الشمس والقمر والنجوم وملكوت الأرض الجبال والأشجار والبحار وَلِيَكُونَ معطوف على مقدر دل عليه السباق يعنى يستدل وليكون مِنَ الْمُوقِنِينَ أو متعلق بفعل محذوف معطوف على نرى يعنى وفعلنا ذلك ليكون من الموقنين عيانا كما كان على بصيرة إلهاما من اللّه تعالى.
فَلَمَّا جَنَّ أى اظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن ذكوان هذا وشبهه من لفظه إذا لم يأت بعد الياء ساكن بامالة فتحة الراء والهمزة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 258(1/2203)
جميعا كَوْكَباً أى الزهرة أو المشترى قالَ إلزاما للكفار فانهم كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ويعظمونها ويرون ان الأمور كلها إليها فاراد ان ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال فقال هذا رَبِّي فى زعمكم أو بحذف همزة الاستفهام يعنى أ هذا ربى أو قال على سبيل الفرض فان المستدل على فساد قوله يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يرجع عليه بالابطال واجرى بعضهم على ظاهره فقال كان ابراهيم عليه السّلام حينئذ مسترشدا طالبا للتوحيد حتى وفقه اللّه تعالى وأتاه رشده فلم يضره ذلك فى حالة الاستدلال قال البغوي وكان ذلك فى حالة طفوليته قبل قيام الحجة عليه فلم يكن كفرا وقال البيضاوي انما قال ذلك زمان راهقته أو أول أوان بلوغه وفى شرح خلاصة السير لمولانا أبى بكر ان استدلاله بالكواكب والقمر كان وهو ابن خمسة عشر شهرا والصحيح هو القول الاوّل إذ لا يجوز ان يكون للّه رسول يأتي عليه وقت من الأوقات الا وهو للّه موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه برى وكيف يتوهم هذا على من عصمه اللّه وطهّره وأتاه رشده من قبل قال فى الشفاء قال اللّه تعالى ولقد اتينا ابراهيم رشده من قبل أى هديناه صغيرا قاله مجاهد وغيره وقال ابن عطا اصطفاه قبل بدأ خلقه وقال بعضهم لما ولد ابراهيم عليه السّلام بعث اللّه إليه ملكا يأمره عن اللّه تعالى ان يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال قد فعلت ولم يقل افعل فذلك رشده وفى هذه الآية عطف قوله تعالى فلما جن على قوله تعالى قال ابراهيم وقوله تعالى وكذلك نرى ابراهيم اعتراض والغاء للتعقيب فدلت هذه الآية على انه كان هذا الاستدلال بعد قوله أ تتخذ أصناما الهة انى أراك وقومك فى ضلال مبين وعلى تقدير كون هذا الكلام على طريقة الاستدلال الفاء للتفسير والتفصيل لقوله تعالى كذلك نرى ابراهيم وعلى هذا التقدير لا بد ان يكون هذا الكلام أول ليلة راى الكوكب من زمان عقله و(1/2204)
شعوره بحيث لم ير قبل ذلك قط وأساسا لهذا المفاد يذكرون قصة وذلك ان ابراهيم عليه السّلام ولد فى زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على راسه ودعا الناس إلى عبادته وكان له كهان ومنجمون فقالوا له انه يولد فى بلدك هذه السنة غلام يغير دين أهل الأرض ويكون هلاكك وزوال ملكك على يديه ويقال انهم وجدوا ذلك فى كتب الأنبياء عليهم السّلام وقال السدى راى نمرود فى منامه كان كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس والقمر حتى لم يبق لهما ضوء ففزع فزعا شديدا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 259(1/2205)
فدعا السحرة والكهنة فسالهم عن ذلك فقالوا هو مولود يولد فى ناحيتك هذه السنة فيكون هلاكك واهل بيتك وزوال ملكك على يديه قالوا فامر بذبح كل غلام يولد فى ناحيته تلك السنة وامر بعزل الرجال عن النساء وجعل على كل عشر رجلا فإذا حاضت المرأة خلى بينها وبين زوجها لانهم كانوا لا يجامعون فى الحيض فإذا طهرت حال بينهما فرجع آزر فوجد امرأته قد طهرت من الحيض فواقعها فحملت بإبراهيم عليه الصّلوة والسّلام قال محمد بن إسحاق بعث نمرودا إلى كل امرأة حبلى بقرينه فحبسها عنده الا ما كان من أم ابراهيم عليه السّلام لانها كانت جارية حديثة السن لم يعرف الحبل فى بطنها وقال السدى خرج نمرود بالرجال إلى المعسكر ونحاهم عن النساء تخوفا من ذلك المولود ان يكون فمكث بذلك ما شاء اللّه ثم بدت له حاجة إلى المدينة فلم يأتمن عليها أحدا من قومه الا آزر فبعث إليه ودعاه وقال ان لى حاجة أحب ان أوصيك بها ولا أبعثك الا لثقتى بك فاقسمت عليك ان لا تدنوا من أهلك فقال آزر انا أشحّ على دينى من ذلك فاوصاه بحاجته فدخل المدينة وقضى حاجته ثم قال لو دخلت على أهلي فنظرت إليهم فلما نظر إلى أم ابراهيم عليه السّلام لم يتمالك حتى واقعها فحملت بإبراهيم عليه السّلام وقال ابن عباس لما حملت أم ابراهيم قال الكهان لنمرود ان الغلام الذي قد أخبرناك به قد حملت امه الليلة فامر نمرود بقتل الغلمان فلما(1/2206)
دنت ولادة أم ابراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة ان يطلع عليها فيقتل ولدها فوضعته فى « 1 » حلفاء فرجعت فاخبرت زوجها بانها ولدت وان الولد فى موضع كذا فانطلق أبوه فاخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه فيه وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع وكانت امه تختلف إليه فترضعه وقال محمد بن إسحاق لما وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها فولدت فيها ابراهيم فاصلحت من شانه ما يصنع بالمولود ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها ثم كانت تطالعه لتنظره ما فعل فتجده حيا يمص إبهامه قال أبو روق قالت أم ابراهيم ذات يوم لانظرن إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع ماء ومن إصبع لبنا ومن إصبع عسلا ومن إصبع تمرا ومن إصبع سمنا وقال محمد ابن إسحاق كان آزر قد سال أم ابراهيم عن حملها ما فعل فقالت قد ولدت غلاما فمات فصدقها وسكت
_________
(1) حلفاء نبت فى الماء 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 260(1/2207)
عنها وكان اليوم على ابراهيم فى الشباب كالشهر والشهر كالسنة فلم يمكث ابراهيم فى المغارة الا خمسة عشر شهرا حتى قال لامه أخرجني فاخرجته عشاء فنظر فتفكر فى خلق السموات والأرض وقال ان الذي خلقنى وأطعمني وسقانى لربى الذي مالى اله غيره ثم نظر فى السماء فرأى كوكبا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره ينظر إليه حتى غاب فلما أفل قال لا أحب الآفلين ثم راى القمر بازغا قال هذا ربى ثم اتبعه بصره حتى غاب ثم طلع الشمس هكذا إلى آخره ثم رجع إلى أبيه آزر وقد استقامت وجهته وعرف ربه وبرى من دين قومه الا انه لم يبادهم بذلك فاخبره انه ابنه وأخبرته امه انه ابنه وأخبرته بما كانت صنعت فى شانه فسر آزر بذلك وفرح فرحا شديدا وقيل انه كان فى السرب سبع سنين وقيل ثلث عشرة سنة وقيل سبع عشرة سنة قلت وهذه القصة ان صحت فالى هنالك لا تدل على كفر أبوي ابراهيم الا تسمية أبى ابراهيم بازر فان كفر آزر ثابت بالكتاب والسنة والظاهر ان تسمية أبى ابراهيم فى هذه القصة بازر وهم من بعض الرواة لكن قال بعضهم فى القصة انه لما شب ابراهيم عليه السّلام وهى فى السرب قال لامه من ربى قالت انا قال فمن ربك قالت أبوك قال فمن رب أبى قال نمرود قال فمن ربه قالت اسكت فسكت ثم رجعت إلى زوجها فقالت ارايت الغلام الذي كنا نحدث انه يغير دين أهل الأرض فانه ابنك ثم أخبرته بما قال فاتاه أبوه فقال له ابراهيم يا أبتاه من ربى قال أمك قال فمن رب أمي قالت انا قال فمن ربك قال نمرود قال فمن رب نمرود فلطمه لطمة وقال له اسكت فلما جن عليه الليل دنا من باب السرب فنظر من خلال الصخرة فابصر كوكبا قال هذا ربى ويقال انه قال لابويه أخرجاني فاخرجاه من السرب وانطلقا به حين غابت الشمس فنظر ابراهيم إلى الإبل والخيل والغنم فسال أباه ما هذه فقال ابل وخيل وغنم قال ما لهذه بد من ان يكون لهارب وخالق ثم نظر فإذا المشترى قد طلع ويقال الزهرة فكان تلك الليلة(1/2208)
من اخر الشهر فتاخر طلوع القمر فيها فرأى الكوكب قبل القمر فذلك قوله عز وجل فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى وهذه القصة تدل على كفر أبوي ابراهيم عليه السّلام لكن لا يدل على موتهما على الكفر وأيضا هذه القصة مع اختلافها واضطرابها وعدم ثبوتها بسند صحيح لا يقوى معارضة ما صح عنه صلى اللّه عليه وسلم ان ابائه كلهم من آدم عليه السّلام إلى أبويه كانوا مومنين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 261
و انه انتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ومن أرحام الطاهرات إلى أصلاب الطاهرين وعليه حمل قوله تعالى ونقلبك فى الساجدين واطلاق الأب على العم شائع لا سيما إذا رباه ولعل تارخ مات وترك ابراهيم فى بطن امه أو وليدا رضيعا ورباه عمه آزر واللّه اعلم - فَلَمَّا أَفَلَ يعنى غاب الكوكب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أى لا أحب عبادة المتغيرين عن حال إلى حال لان التغير امارة الحدوث إذ القديم لا يكون محلا للحوادث والحدوث ينافى الالوهية.(1/2209)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قرأ حمزة وأبو بكر هذا وشبهه إذا لقيت الياء ساكنا منفصلا بامالة فتحة الراء فقط دون الهمزة والباقون بفتحها هذا فى حالة الوصل واما فى حالة الوقف فالاختلاف كما مر فى رأى كوكبا وعن أبى بكر وابى شعيب فى روايته عنهما بامالة الراء والهمزة جميعا فى الوصل أيضا وعن البزي نحوه بازِغاً فى بداية الطلوع قالَ هذا رَبِّي هذا القول فى القمر والشمس بعد تمام الاستدلال بالكوكب ليس الا لالزام الخصم والا فالعاقل يكفيه الاشارة وابراهيم عليه السلام مع كمال قوته النظرية لا يتصور ان يحتاج إلى استدلال اخر بعد تمام الاستدلال فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ قال ذلك شكر النعمة الهداية من اللّه تعالى كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لا اللّه ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا وفيه ارشاد لقومه وتنبيه لهم على ان القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للالوهية وان من اتخذه الها فهو ضال وانما احتج عليهم بالأقوال دون البزوغ مع ان كلا منهما انتقال من حال إلى حال لان الاحتجاج به اظهر لكونه انتقالا إلى اخس الحالين وأدونهما.(1/2210)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي قيل ذكر اسم الاشارة لتذكير الخبر وصيانية للرب عن شبهة التأنيث وقيل أراد به هذا الطالع أوردا إلى المعنى وهو الضياء والنور وعندى ان تأنيث الشمس انما هو سماعى لفظى فى لغة العرب لان تصغيره شميسة دون غيرها من اللغات ولسان ابراهيم عليه السّلام لم يكن عربيا فذكر ابراهيم اسم الاشارة بناء على لغته وحكاه اللّه سبحانه على ما قاله بلغة العرب هذا أَكْبَرُ من الكواكب كبره استدلالا واظهار الشبهة الخصم فَلَمَّا أَفَلَتْ غربت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ تبرأ من جميع الالهة الباطلة فانه لما تبين ان الكواكب والقمر والشمس مع كونها اجراما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 262
علوية عظيمة منيرة غير صالحة للالوهية لكونها محلا لتغيرات محدثة محتاجة إلى محدث يحدثها ويخصصها بما يختص به فالاصنام وغيرها من الاجرام السفلية اولى ان لا تتخذ الها وهذا يعنى مخاطبة القوم والتبري عما يعبدونه بعد تمام الحجة دليل واضح على ان هذا الكلام من ابراهيم عليه السّلام لم يكن الا لالزام الخصوم لا لطلب تحقيق لم يكن حاصلا له ولما تبرأ عن الالهة الباطلة ارشدهم إلى وجود الإله الحق الذي دلت عليه الممكنات بأسرها فقال.
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الياء والباقون بالإسكان لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وما فيها وَالْأَرْضَ وما فيها يعنى الذي دلت على وجوده ووجوبه هذه الموجودات التي لا تقتضى ذواتها وجوداتها المحتاجة إلى من يخرجها من العدم إلى الوجود حَنِيفاً حال من فاعل وجهت يعنى مائلا من الأديان كلها إلى الإسلام وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللّه شيئا من خلقه.(1/2211)
وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ فى توحيد اللّه ونفى الشركاء عنه يعنى قاموا بالمجادلة لما عجزوا وبهتوا فى مقابلة الاستدلال الصحيح وقالوا احذر الهتنا ان تمسك بسوء واحذر نمرود ان يقتلك أو يحرقك قالَ ابراهيم أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ بعد تمام الاستدلال على وجوده وتوحيده وَقَدْ هَدانِ اثبت الياء فى الوصل أبو عمرو حذف الباقون يعنى هدانى اللّه إلى الحق واقامة الحجة مع كونى صغيرا اميا وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ تعالى من الممكنات سواء كان من الفلكيات كالشمس والقمر والكواكب أو من العنصريات من ذوى العقول كنمرود أو من الجمادات كالاصنام فان كلها مثلى فى عدم الاقتدار على النفع والضرر الا باقتدار اللّه تعالى أو أعجز منى روى ان ابراهيم لما خرج من السرب وصار بحال سقط عنه طمع الذباحين وضمه آزر إلى نفسه جعل آزر يصنع الأصنام ويعطيها ابراهيم ليبيعها فيذهب بها ابراهيم وينادى من يشترى ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بات عليه ذهب بها إلى نهر فصوب فيه راسه وقال اشربى استهزاء بقومه إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً يعنى لا يستطيع ما تشركون باللّه اضرارى فى وقت من الأوقات الا وقت ان يشاء ربى شيئا من الإضرار وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً كأنَّه علة للاستثناء يعنى لا يبعد ان يكون فى علمه ان يصيبنى مكروه من جهة بعض عباده بمشيته وخلقه وأقداره على الكسب أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين العاجز على الإطلاق كالاصنام وبين العاجز فى نفسه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 263
القادر باقدار اللّه تعالى ومشيته وبين القهار المقتدر على الإطلاق.(1/2212)
وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ به ولا يقدر أحد منهم على الإضرار من غير مشية اللّه وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وهو حقيق ان يخاف منه كل الخوف فانه هو القادر على الإطلاق الضار النافع ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أى باشراكه عَلَيْكُمْ سُلْطاناً دليلا نقليا من الكتاب ولا عقليا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من الموحدين باللّه المعتقدين على ما اقتضاه العقل والنقل والمشركين به المعتقدين بما لا دليل عليه أَحَقُّ بِالْأَمْنِ من العذاب والمكاره فى الدنيا والاخرة لم يقل أينا احترازا عن تزكية النفس وايماء بان استحقاق الا من غير مختص به بل يشتمل كل موحد ففيه ترغيب لهم فى التوحيد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ من يحق ان يخاف منه لا تخافوا الا اللّه تعالى كما أخاف دل على الجزاء ما سبق أو المعنى ان كنتم ذا علم وبصيرة فانصفوا فى الجواب عن الاستفهام.
الَّذِينَ آمَنُوا باللّه وَلَمْ يَلْبِسُوا أى لم يخلطوا إِيمانَهُمْ باللّه تعالى بِظُلْمٍ بشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ من العذاب وَهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحق والى الجنة عن عبد اللّه بن مسعود قال انه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين فقالوا يا رسول اللّه فاينا لا يظلم نفسه فقال ذلك انما هو الشرك الم تسمعوا إلى ما قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك باللّه ان الشرك لظلم عظيم متفق عليه وهذه الآية استيناف من اللّه تعالى أو من ابراهيم بالجواب عما استفهم عنه حين لم يسمع منهم جوابا حقا واخرج ابن أبى حاتم من طريق عبيد اللّه بن زحر عن بكر بن سوادة قال حمل رجل من العدو على المسلمين فقتل رجلا ثم حمل فقتل اخر ثم حمل فقتل اخر ثم قال أ ينفعنى الإسلام بعد هذا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم فدخل فيهم ثم حمل على أصحابه فقتل رجلا ثم اخر ثم قتل قال فيرون ان هذه الآية نزلت فيه الذين أمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم الآية .(1/2213)
وَ تِلْكَ اشارة إلى ما مر من قوله تعالى فلما جن عليه الليل إلى قوله تعالى وهم مهتدون وهذا اصرح دليلا على ان ما مر من مقال ابراهيم انما كان احتجاجا على قومه لا تفكرا واستدلالا لنفسه كيف والنفوس القدسية لا يحتاجون إلى تجشم الاستدلال وقيل أراد به الاحتجاج الذي حاج نمرود على ما سبق فى سورة البقرة وهذا بعيد جدا حُجَّتُنا خبر لاسم الاشارة أو صفة له أو بدل منه آتَيْناها إِبْراهِيمَ ارشدناه إليها الجملة خبر أو خبر بعد خبر أو معترضة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 264
عَلى قَوْمِهِ يعنى على من بعث إليهم كنمرود واتباعه متعلق بحجتنا ان جعل خبرا وصفة وبمحذوف ان جعل بدلا يعنى اتيناها ابراهيم حجته على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يوسف درجات بالتنوين على انه تميز من النسبة أو مفعول مطلق يعنى نرفع من نشاء درجات فى العلم والحكمة والباقون بالاضافة أى نرفع درجاتهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فى رفعه وخفضه عَلِيمٌ بحال من يرفعه واستعداده.(1/2214)
وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ابنا وَيَعْقُوبَ ابن ابن كُلًّا أى كلواحد منهما هَدَيْنا انتصب كلا بهدينا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ابراهيم عد هداه نعمة على ابراهيم من حيث انه أبوه وفيه دليل على ان شرف الوالد يتعدى إلى الولد وبالعكس قلت فمن المحال ان يكون بعض اباء النبي صلى اللّه عليه وسلم مع كونه محبوبا للّه كافرا وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ قيل الضمير راجع إلى ابراهيم لان الكلام فيه وقيل لنوح لأنه اقرب ولان يونس ولوطا ليسا من درية ابراهيم والثاني اظهر فلو كان لابراهيم اختص البيان فى المعدودين فى تلك الآية والتي بعدها والمذكورون فى الآية الثالثة معطوفون على نوحا داوُدَ بن اليشا وَسُلَيْمانَ بن داود وَأَيُّوبَ بن اموص بن رازخ بن روم ابن عيص بن إسحاق بن ابراهيم وَيُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق وَمُوسى وَهارُونَ اخوه اكبر منه بسنة ابني عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب وَكَذلِكَ منصوب على المصدرية بما بعده أى جزاء مثل جزاء ابراهيم على إحسانه يرفع درجاته ودرجات ابنائه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك متفق عليه من حديث عمر مرفوعا فى قصة سوال جبرئيل.
وَزَكَرِيَّا بن اذن وَيَحْيى بن زكريا وَعِيسى بن مريم بنت عمران وَإِلْياسَ بن متى ابن فخاص بن عيزار بن هارون عليه السّلام وقال ابن مسعود هو إدريس وله اسمان مثل يعقوب وإسرائيل وسياق الآية يابى عنه فان إدريس ليس من ذرية نوح بل هو جد أبى نوح فان نوحا ابن لامك بن متوشلخ بن خنوخ بن إدريس وهو أول بنى آدم اعطى النبوة وخط بالقلم كُلٌّ أى كلواحد منهما كائن مِنَ الصَّالِحِينَ أى المعصومين عن الصغائر والكبائر فان من اتى بما نهى اللّه عنه أو ترك ما امر به فهو فاسد وان قل فساده بالنسبة إلى غيره واطلاق الصالح على غير المعصوم إضافي
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 265(1/2215)
غير حقيقى لكن إطلاقه على من اتى بمعصية ثم تاب عنه واستغفر صحيح بالحقيقة فان التائب من الذنب كمن لا ذنب له لكن الكامل فى الصلاح هو المعصوم واللّه اعلم ..
وَإِسْماعِيلَ بن ابراهيم جد النبي صلى اللّه عليه وسلم وَالْيَسَعَ بن أخطوب بن العجحور قرأ حمزة والكسائي واليسع هنا بلام مشددة واسكان الياء والباقون بلام ساكنة مخففة وفتح الياء وعلى القراءتين علم أعجمي ادخل عليه اللام كما ادخل على اليزيد فى قوله رايت الوليد بن اليزيد مباركا شديدا باعياء الخلافة كاهله وَيُونُسَ بن متى وَلُوطاً ابن هاران ابن أخي ابراهيم عليه وعليهم الصلاة والسلام وَكلًّا أى كلواحد منهم منصوب بما بعده فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أى عالمى زمانهم فيه دليل على فضلهم على من عداهم فى ذلك الزمان من الملئكة وغيرهم من الخلائق.
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ عطف على كلا يعنى فضلنا كلا منهم وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم أو على نوحا يعنى هدينا هؤلاء وبعض ابائهم وذرياتهم وإخوانهم فان منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا وَاجْتَبَيْناهُمْ أى اخترناهم عطف على فضلنا أو هدينا وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا اليه.
ذلِكَ التوحيد الذي دانوا به هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على انه متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا يعنى هؤلاء الأنبياء فرضا مع فضلهم وعلو شانهم لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فضلا عن غيرهم.(1/2216)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أى الجنس الكتب المنزلة والإتيان أعم من الانزال عليه أو امره بتبليغه وَالْحُكْمَ أى الحكمة والفقه أو فصل الخصومات على مقتضى الحق أو كونهم حاكمين مطاعين وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أى بهذه الثلاثة هؤُلاءِ أى كفار مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها يعنى وفقنا بالايمان بها وبمراعات حقوقها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعنى الأنصار واهل المدينة قاله ابن عباس ومجاهد والظاهر عمومه لجميع الصحابة ولمن تبعهم من أهل الفرس وغيرهم وقال أبو رجا العطاردي ان يكفر بها أهل الأرض فقد وكلنا بها أهل السماء وهم الملئكة.
أُولئِكَ المذكورون من الأنبياء مبتدأ خبره الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعنى هديهم اللّه إلى التوحيد واصول الدين والى الإتيان بما امر اللّه به والانتهاء عما نهى اللّه عنه فَبِهُداهُمُ أى بطريقتهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 266(1/2217)
اقْتَدِهْ الظرف للحصر يعنى لا تقتد الا بهديهم فيه تعريض على المشركين فى اقتدائهم بآبائهم الضالين والمراد بالاقتداء بطريقتهم الاخذ بها لا تقليدهم فان التقليد ليس من شأن أهل الاجتهاد من الامة فكيف يليق بالأنبياء لا سيما بسيدهم يعنى اسلك على طريق الهداية واتباع الشرع المويد بالعقل كما سلكوا ففيه تنبيه على ان طريقهم هو الحق الموافق للدليل العقلي والسمعي قال البيضاوي المراد بهداهم ماتوا فقوا عليه من التوحيد واصول الدين دون الفروع المختلف فيها فانها ليست مضافة إلى الكل ولا يمكن التأسى بهم جميعا فليس فيه دليل على انه صلى اللّه عليه وسلم كان متعبدا بشرائع من قبلنا قلت كلهم كانوا مامورين فى الفروع بامتثال امر نزل من اللّه تعالى ما لم ينزل نسخه فيحصل التأسى بجميعهم فى الفروع أيضا بإتيان ما ثبت نزوله من اللّه تعالى بالوحى المتلو أو غير المتلو ولم يثبت نسخه فيجب التعبد بشرائع من قبلنا واللّه اعلم والهاء فى اقتده هاء سكت ولذا حذفه حمزة والكسائي ويعقوب وصلا وأثبتها الباقون فى الحالين تبعا للخط وقرأ ابن عامر بكسر الهاء وابن ذكوان عنه بالإشباع وهشام عنه بالكسر بلا صلة تشبيها بهاء الضمير أو هى ضمير راجع إلى المصدر يعنى اقتد الاقتداء قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أى على التبليغ أو القرآن أَجْراً من جهتكم كما لم يسأل من قبلى من النبيين وهذا مما امر بالاقتداء بهم فيه وفيه دليل على ان أخذ الاجر على تعليم القرآن والفقه ورواية الحديث لا يجوز إِنْ هُوَ أى التبليغ أو القرآن إِلَّا ذِكْرى تذكيرا وعظة لِلْعالَمِينَ ع للانس والجن أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا قال جاء رجل من اليهود يقال له مالك ابن الضيف يخاصم النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم أنشدك بالذي انزل التورية على موسى هل تجد فى التورية ان اللّه يبغض الحبر السمين وكان سمينا فغضب(1/2218)
فقال واللّه ما انزل اللّه على بشر من شىء فقال له أصحابه ويحك ولا على موسى فانزل اللّه تعالى.
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة قال البغوي لاجل هذه المقالة نزع يهود مالكا عن الحيرية وجعلوا مكانه ابن الأشرف وقال السدى نزلت هذه الآية فى فخاص بن عازورا وهو قائل هذه المقالة وقد تقدم الحديث فى سورة النساء واخرج ابن جرير من طريق أبى طلحة عن ابن عباس قال قالت اليهود يا محمد انزل اللّه عليك كتابا قال نعم قالوا واللّه ما انزل اللّه من السماء كتابا فانزل اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 267(1/2219)
ما قدروا اللّه حقّ قدره أى ما عرفوه حق معرفته فى الرحمة والانعام على العباد إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ حين أنكروا بعثة الرسل وذلك أعظم رحمة وحق قدره منصوب على المصدرية قُلْ يا محمد مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ التورية الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً حال من الكتاب أو من الضمير فى به وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تكتبون عنه دفاتر وكتبا مقطعة تُبْدُونَها أى ما تحبون منها وَتُخْفُونَ كَثِيراً كنعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وعيسى عليه السّلام واية الرجم وغير ذلك وفيه توبيخهم وذمهم على ما فعلوا بالتورية باتباع شهواتهم قرأ ابن كثير وأبو عمرو يجعلونه يبدونها يخفون الثلاثة بالياء على الغيبة حملا على ما قدروا وقالوا والباقون بالتاء على الخطاب لقوله تعالى قل من انزل وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قال الأكثرون هذا خطاب لليهود يعنى علمتم أيها اليهود على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم زيادة على ما فى التورية أو بيانا لما أشكل عليكم وعلى ابائكم من عبادة التورية نظيره قوله تعالى ان هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل اكثر الذي هم فيه يختلفون قال الحسن جعل لهم علم ما جاء به محمد صلى اللّه عليه وسلم فضيعوه وقال مجاهد هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علموا ببعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم وكانوا أميين قُلِ اللَّهُ أى أنزله اللّه أو اللّه أنزله هذا متصل بقوله تعالى قل من انزل امر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالجواب لما بهتوا عن الجواب اشعارا بان الجواب متعين لا يمكن غيره ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ أى فى أباطيلهم يَلْعَبُونَ حال من مفعول ذرو الظرف متعلق بذرهم أو يلعبون أو حال من فاعل يلعبون وجاز ان يكون يلعبون حالا من ضمير فى خوضهم والظرف متصل بالأول.(1/2220)
وَ هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ أى كثير الفائدة والنفع مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التورية وغيرها وَلِتُنْذِرَ عطف على ما دل عليه مبارك يعنى لتنتفع به ولتنذر قرأ أبو بكر عن عاصم لينذر بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الكتاب أُمَّ الْقُرى يعنى مكة سميت بها لان الأرض دحيت من تحتها فهى كالاصل لجميع الأرض أو لانها قبلة أهل القرى وموضع حجهم ومرجع لاهل جميع الأرض والمضاف محذوف يعنى لتنذر أهل أم القرى وَمَنْ حَوْلَها إلى الشرق والغرب وأطراف الأرض وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 268
بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ
فان من أمن بالاخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتفكر حتى يؤمن بالنبي والكتاب والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعات وخص الصلاة بالذكر لانها عماد الدين وفى الآية تعريض على اليهود انهم لم يؤمنوا بالقران ومحمد صلى اللّه عليه وسلم لاجل انهم لم يؤمنوا بالاخرة وبما جاء به موسى عليه السّلام للتلازم بين الايمان بالتورية والقران والقيامة.(1/2221)
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى أى اختلق والفرية بالكسر الكذب عَلَى اللَّهِ كَذِباً منصوب على المصدرية مثل مالك بن الضيف القائل بانه ما انزل اللّه على بشر من شىء ومثل عمرو بن لحىّ واتباعه القائلين بان اللّه حرم الصوائب والحوامي وبان انعاما حرمت ظهورها وبان ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وان يكن ميتة فهم فيه شركاء أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ قال البغوي قال قتادة نزلت فى مسيلمة الكذاب .....(1/2222)
و كان يسجع ويتكهن وادعى النبوة وزعم انه اوحى إليه وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة وكان قد أرسل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رسولين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أ تشهدان ان مسيلمة نبى قالا نعم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لو لا ان الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما روى البغوي بسنده عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينا انا نائم إذ أتيت مفاتيح خزائن الأرض فوضع فى يدى سواران من ذهب فكبرا علىّ فاهمانى فاوحى إلى ان انفخهما فنفختهما فذهبا فاولتهما الكذابين هما صاحب صنعاء وصاحب يمامة أراد بصاحب صنعاء الأسود العنسي وبصاحب يمامة مسيلمة الكذاب وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال البغوي نزلت فى عبد اللّه بن أبى سرج وكان قد اسلم وكان يكتب للنبى صلى اللّه عليه وسلم وكان إذا املى سميعا بصيرا كتب عليما حكيما وإذا قال عليما حكيما كتب غفورا رحيما فلما نزلت ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين املاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعجب عبد اللّه من تفصيل خلق الإنسان فقال تبارك اللّه احسن الخالقين فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اكتبها فهكذا نزلت فشك عبد اللّه وقال ان كان محمد صادقا لقد اوحى إلى كما اوحى إليه وان كان كاذبا فقد قلت مثل ما قال فارتد عن الإسلام ولحق بالمشركين وكذا أخرج ابن جرير عن عكرمة والسدى قصة تبارك الآية ذكر البغوي ثم رجع عبد اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 269(1/2223)
الى الإسلام قبل فتح مكة إذ نزل النبي صلى اللّه عليه وسلم بمر الظهران وقال الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس فى سيرته تشفع ابن أبى سرج بعثمان رضى اللّه عنه فقبله النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد تلوم وحسن إسلامه بعد ذلك حتى لم ينقم عليه فيه شيئا ومات ساجدا قال ابن عباس قوله تعالى سانزل مثل ما انزل اللّه يريد المستهزئين وهو جواب لقولهم لو نشاء لقلنا مثل هذا قلت يعنى النضر بن الحارث كان يقول والطاحنات طحنا والعاجنات عجنا والخابزات خبزا كأنَّه يعارض قوله تعالى والنازعات غرقا الآيات وَلَوْ تَرى يا محمد والمفعول محذوف أى الظالمين يدل عليه إِذِ الظَّالِمُونَ مبتدأ واللام اما للعهد يعنى الذين نزلت فيهم الآية من اليهود والمتنبية والمستهزئين أو للجنس ويدخل فيه هؤلاء وجواب لو محذوف يعنى لرأيت امرا عظيما فزيعا فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبر المبتدأ أى شدائده فى القاموس غمرة الشيء شدته وأصله التغطية يقال غمره الماء واغتمره أى غطاه ثم وضعت فى موضع الشدائد والمكاره وفى الصحاح اصل الغمر ازالة اثر الشيء ومنه يقال للماء الكثير وعلى هذا اضافة الغمرة إلى الموت بيانية سميت شدة الموت غمرة لازالته اثر الحيوة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ الجملة حال من الضمير المستتر فى الظرف والعائد محذوف يعنى باسطوا أيديهم لقبض أرواحهم كالمتقاضى الملظ أو لتعذيبهم نظيره قوله تعالى والملئكة يضربون وجوههم وادبارهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ خبر للملئكة بعد خبر يعنى قائلون لهم يعنى للظلمين تغليظا وتعنيفا اخرجوا أنفسكم إلينا من أجسادكم أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا الْيَوْمَ المراد به الزمان الممتد من وقت الامانة إلى ما لا نهاية له تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعنى عذابا متضمنا لشدة واهانة وإضافته إلى الهون لتمكنه فيه ولمقابلة الهوان فيه بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ افتراء(1/2224)
غَيْرَ الْحَقِّ كادعاء الولد والشريك وادعاء النبوة والوحى كاذبا منصوب من تقولون على المصدرية أو المفعولية وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ المنزلة فى القرآن أو دلايل التوحيد تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتاملون فيها ولا تؤمنون أخرج ابن جرير وغيره عن عكرمة قال قال النضر بن الحارث سوف تشفع لنا إلى اللّه اللات والعزى فنزلت.
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا بعد الموت ويوم القيامة للحساب والجزاء فُرادى حال من فاعل جئتمونا أى منفردين عن الأموال والأولاد والأعوان والأحباب وسائر ما اثرتموه من الدنيا أو من الأوثان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 270(1/2225)
التي زعمتموها شفعاء لكم وهو جمع فرد والالف للتانيث ككسالى هذا خبر من اللّه تعالى بقول للكفار على لسان الملئكة يوم موتهم أو يوم القيامة والسياق يقتضى يوم الموت لعطفه على قوله اليوم تجزون كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فرادى أى جئتمونا على الهيئة التي ولدتم عليها فى الانفراد أو حال مرادف لفرادى أو من الضمير فى فرادى أى مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما أو صفة مصدر أى جئتمونا مجيئا كخلقنا لكم وَتَرَكْتُمْ فى الدنيا ما خَوَّلْناكُمْ ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخدم والحشم وَراءَ ظُهُورِكُمْ ولم تحتملوا نقيرا وجاز ان يكون المعنى جئتمونا خاسرين بلا كسب كمال كما خلقناكم أول مرة وضيعتم راس مالكم أى اعماركم وتركتم فى الدنيا ما أعطيناكم من الأموال وغيرها ما قدمتم منها شيئا للاخرة وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ اللّه سبحانه فى ربوبيتكم واستحقاق العبادة يعنى الأوثان لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ نافع وحفص والكسائي بنصب بينكم على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه أو أقيم بينكم مقام موصوفه وأصله لقد تقطع ما بينكم من الوصل أو يقال فاعله ضمير راجع إلى المصدر أى تقطع التقطع بينكم أو يقال الفاعل بينكم مجازا فى الاسناد وترك منصوبا للزوم ظرفيته والباقون بالرفع على اسناد الفعل إلى الظرف مجاز أو المعنى لقد تقطع التقطع بينكم أو يقال بينكم بمعنى وصلكم يعنى تقطع وصلكم وتشتت جمعكم وبين مصدر من الاضداد يستعمل للوصل والفصل اسما وظرفا كذا فى القاموس وَضَلَّ عَنْكُمْ أى ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ انها شفعائكم وان لا بعث ولا جزاء.(1/2226)
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى قال الحسن وقتادة والسدى معناه شق الحبة عن السنبلة والنواة عن النخلة فيخرجها منها وقال الزجاج يشق الحبة اليابسة والنواة اليابسة فيخرج منها ورقا اخضر وقال مجاهد المراد انشقاق الذي بين الحنطة والنواة وقال الضحاك فالق الحب والنوى يعنى خالقهما والحب جمع الحبة وهى اسم لجميع البذور الماكولة من البر والشعير والذرة والارز ونحوها والنوى جمع النواة وهى كل ما لا يوكل من البذور كنواة التمر والمشمش والخوخ والرمان يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يعنى ما ينمو من الحيوان والنبات مما لا ينمو كالنطفة والحبة والنواة هذه الجملة وقع موقع البيان لما سبق ولذا لم يعطف وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ يعنى ما لا ينموا ويتفتت مما ينموا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 271
معطوف على فالق الحب ولذلك ذكره بلفظ اسم الفاعل ذلِكُمُ المحيي والمميت اللَّهَ يعنى هو المستحقّ للعبادة دون من لا يقدر على شىء بل ينفعل ما يفعل به فَأَنَّى اين تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.(1/2227)
فالِقُ الْإِصْباحِ هو مصدر أصبح إذا دخل فى الصبح سمى به الصبح تسمية المحل باسم الحال يعنى شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار أو شاق ظلمة الإصباح وهو الغبش الذي يليه وَجَعَلَ اللَّيْلَ كذا قرأ الكوفيون على صيغة الماضي ونصب الليل على المفعولية معطوف على معنى فالق فان معناه فلق الإصباح وقرأ الباقون جاعل على وزن فاعل مضافا إلى الليل سَكَناً يسكن فيه الإنسان واكثر الحيوانات للاستراحة عن كد لمعيشة إلى نوم الغفلة أو عن وحشة الخلق إلى الانس بالحق منصوب بفعل دل عليه اسم الفاعل على قراءة غير أهل الكوفة لان اسم الفاعل بمعنى الماضي كما يدل عليه قراءة جعل لا يعمل وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ على قراءة أهل الكوفة معطوفان على الليل وعلى قراءة غيرهم منصوبان يجعل مقدر يعنى جعل الشمس والقمر حُسْباناً مصدر حسب بالفتح بمعنى الحساب كما ان الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان يعنى جعلهما علمين لحساب الأوقات يعلم بسيرهما ذلِكَ أى جعلهما حسبانا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما وسخرهما الْعَلِيمِ بتدبيرهما والانفع من التداوير الممكنة لهما.
وَهُوَ الَّذِيجَعَلَ
اى خلق لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الليل فى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ واضافتها إليهما للملابسة أو المراد بالظلمات مشتبهات الطرق سميت ظلمات على الاستعارة قَدْ فَصَّلْنَا بيّنّا الْآياتِ الدالة على توحيد الصانع المبدع الحكيم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به.(1/2228)
وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أى ابتدأ خلقكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السّلام فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف على انه اسم فاعل يعنى فمنكم مستقر والباقون بالفتح على انه اسم مفعول أو مصدر ميمى أو ظرف يعنى فمنكم مستقر أو فلكم استقرار أو موضع استقرار وَمُسْتَوْدَعٌ بفتح الدال بلا خلاف لجواز نسبة الاستقرار دون الاستيداع يعنى لكم استيداع أو موضع استيداع أو منكم مستودع قال ابن مسعود المستقر فى الرحم إلى ان يولد قال اللّه تعالى يقر فى الأرحام والمستودع فى القبر إلى ان يبعث وقال سعيد ابن جبير مستقر فى الرحم ومستودع فى صلب الأب وعن أبى بعكس هذا وقال مجاهد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 272
مستقر فى الأرض قال اللّه تعالى ولكم فى الأرض مستقر والمستودع فى القبر وقال الحسن المستقر فى القبر والمستودع فى الدنيا وعندى المستقر الجنة أو النار والمستودع ما عدا ذلك من الأصلاب والأرحام والدنيا والقبر قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر مع النجوم يعلمون لان أمرها ظاهر ومع ذكر تخليق بنى آدم واستيداعهم واستقرارهم يفقهون لان هذه الأمور دقيق يحتاج إلى تفقه وتدبر.(1/2229)
وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أى السحاب ومنه إلى الأرض ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أى بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ نبت كل صنف من الحبوب والنواة سبحان اللّه أنبت أنواعا مختلفة تسقى بماء واحد وفضل بعضها على بعض فى الاكل فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أى من النبات أو من الماء خَضِراً شيئا اخضر وهو ما تشعب من اصل النبات الخارج من البذر نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً وهى السنبلة المتراكب حباتها وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل للاول وهو خبر والمبتدأ قِنْوانٌ جمع قنو وهو العذق دانِيَةٌ قريبة من المتناول أو قريبة بعضها من بعض اقتصر على ذكرها من مقابلها اما لدلالتها عليه كما فى قوله تعالى سرابيل تقيكم الحر يعنى والبرد واما لان قربها من المتناول أو كثرتها وقرب بعضها ببعض أعظم نعمة وأوجب للشكر وجاز ان يكون التقدير وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان دانية وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شىء يعنى أخرجنا منه جنات قرأ الأعمش عن الأعشى عن عاصم جنات بالرفع عطفا على قنوان وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ عطف على نبات يعنى أخرجنا منه شجرا الزيتون والرمان أو نصب على الاختصاص لغير هذين الصنفين عندهم مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمان أو من الجميع يعنى حال كون بعضها مشتبها ببعض اخر وبعضها غير متشابه فى الهيئة والقدر واللون والطعم انْظُرُوا أيها الناس بنظر الاعتبار إِلى ثَمَرِهِ قرأ حمزة والكسائي فى الموضعين هاهنا وفى يس بضم الثاء والميم على انه جمع ثمارا وثمرة والباقون بفتحتين على انه اسم جنس كتمرة وتمر وكلمة وكلم إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره كيف يخرج لا يكاد ينتفع به وَالى يَنْعِهِ حال نضجه كيف يعود ضخيما لذيذا فهو مصدر وقيل هو جمع يانع كتاجر وتجر إِنَّ فِي ذلِكُمْ المذكورات لَآياتٍ على توحيد قادر حكيم لا يكون له ضدّ يعانده ولا ندّ(1/2230)
يعارضه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 273
فانهم هم المستدلون بها وذكر هذه الآيات يستوجب التوبيخ على المشركين فقال
وَ جَعَلُوا يعنى كفار مكة مع قيام ادلة التوحيد لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ يعنى الملئكة عبدوهم وقالوا الملئكة بنات اللّه سماهم جنا لاجتنانهم وتحقيرهم عن درجة الربوبية أو المراد بالجن الشياطين لانهم أطاعوهم وعبدوا غير اللّه من الأوثان وغيرها بتسويلهم أو لاجل حلول الشياطين فى الأوثان أحيانا أو لاجل قولهم اللّه خالق الخير والشيطان خالق الشر ومفعولا جعلوا للّه وشركاء والجن بدل من شركاء أو شركاء والجن وللّه متعلق بشركاء أو حال منه وَخَلَقَهُمْ حال من اللّه تعالى بتقدير قد أو منه ومن الجن معا على ان يكون الضمير المنصوب راجعا إلى الجن يعنى وقد علموا ان اللّه تعالى خلق الانس والجن وكل شىء وان الجن لا يخلق شيئا وَخَرَقُوا قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير والمعنى اختلقوا وافتروا لَهُ بَنِينَ قالت اليهود عزير ابن اللّه وقالت النصارى المسيح ابن اللّه وَبَناتٍ قالت العرب الملئكة بنات اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير ان يعلموا صدق ما قالوا بدليل عقلى أو نقلى وهو فى موضع الحال من فاعل خرقوا أو المصدر أى خرقا بغير علم سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها يعنى بديع سموته وارضه ليس لها نظير وقيل معناه المبدع يعنى خالقها بلا سبق مثال خبر مبتدا محذوف يعنى هو أو مبتدا خبره.(1/2231)
أَنَّى من اين أو كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد وَخَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فى الآية استدلال على نفى الولد بوجوه الأول ان من مبدعاته السموات والأرض وهى مع انها من جنس ما يوصف بالولد مستغن عنه لطول بقائها فاللّه سبحانه اولى به الثاني انه خالق الأجسام العظيمة وخالق الأجسام لا يكون جسما والولادة من خواص الأجسام والثالث ان الولد ينشئ من ذكر وأنثى متجانسين واللّه تعالى منزه عن المجانسة الرابع ان الولد كفو للوالد ونظيره وليس له كفوا أحد لان كل ما عداه مخلوقه فلا يكافيه شىء ولانه عالم بكل شىء ولا كذلك غيره بالإجماع الا بتعليمه
ذلِكُمُ أى الموصوف بما سبق من الصفات مبتدا اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ اخبار مترادفة ويجوز ان يكون البعض خبرا والبعض بدلا أو صفة فَاعْبُدُوهُ الفاء للسببية يعنى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 274
من استجمع تلك الصفات فهو الحقيق بالعبادة دون غيره من خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ بالحفظ له والتدبير فيه يعنى هو متول لاموركم رقيب على أموالكم فكلوا إليه الأمور وتوسلوا إليه بالعبادة ينجح ما ربكم ويجازى على حسناتكم(1/2232)
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أخرج ابن أبى حاتم وغيره بسند ضعيف عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لو ان الجن والانس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى ان فنوا صفا واحدا ما احاطوا باللّه ابدا استدل المعتزلة بهذه الآية على امتناع الروية واجمع أهل السنة على نفى الروية فى الدنيا وإثباتها فى الاخرة للمؤمنين فى الجنة والاستدلال بها على الامتناع باطل بوجوه أحدها ان صيغة المضارع اما للحال ويستعمل فى الاستقبال مجازا أو هى مشترك فى المعنيين والحال مراد فى الآية اجماعا إذ لا قايل بروية اللّه تعالى فى الدنيا فلا يجوز ارادة الاستقبال والا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المشترك ثانيها ان الابصار بصيغة الجمع يدل على ارادة الافراد دون الجنس فاللام اما للعهد يعنى الابصار الموجودة فى الدنيا أو للاستغراق فانكان للعهد فلا دليل على نفى الروية بالأبصار المخلوقة للمؤمنين فى الجنة وان كان للاستغراق فمدلول الآية نفى الاستغراق لا استغراق النفي فلا دليل فيه على نفى الروية بابصار أهل الجنة روى أبو نعيم فى الحلية عن ابن عباس قال تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رب أرني انظر إليك قال قال اللّه يا موسى انى لا يرانى حى إلا مات ولا يابس الا تدهده ولا رطب الا تفرق وانما يرانى أهل الجنة لا يموت أعينهم ولا يبلى أجسامهم ثالثها ان الإدراك غير الروية لان الإدراك هو الوقوف على كنه الشيء والإحاطة به أو الوصول إلى الشيء بحيث لا يفوت منه شىء والروية المعاينة ولا تلازم بينهما قال اللّه تعالى فلما ترائ الجمعان قال اصحاب موسى انا لمدركون قال كلا فى هذه الآية نفى للدرك بعد اثبات الروية من الجانبين رابعها ان النفي لا يوجب الامتناع وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يحيط بها علمه وَهُوَ اللَّطِيفُ فى القاموس هو البر بعباده المحسن إلى خلقه بايصال المنافع إليهم برفق ومن هاهنا(1/2233)
قال ابن عباس اللطيف باوليائه وفيه أيضا اللطيف العالم بخفايا الأمور وفى الصحاح قد يعبر باللطيف ما لا يدرك بالحاسة وعلى هذا ففى الكلام لف ونشر مرتب يعنى لا تدركه الابصار لأنه اللطيف وهو يدرك الابصار لأنه الْخَبِيرُ قَدْ جاءَكُمْ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 275
بَصائِرُ
يعنى الحجج البينة التي يحصل بها البصيرة التي تبصرون بها الهدى من الضلال والحق من الباطل فالبصيرة للنفس كالبصر للبدن مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ يعنى من استعمل الحجة وابصر الحق وأمن به فَلِنَفْسِهِ ابصر يعود نفعه إليها وَمَنْ عَمِيَ عن الحق واعرض عن الحجج وضل فَعَلَيْها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها بل الحفيظ هو اللّه تعالى وانما انا البشير النذير هذا كلام ورد على لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كأنَّه قيل قل قد جاءكم بصائر الآية (1/2234)
وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أى نفصلها ونبين واصل الصرف النقل من حال إلى حال وفى التفصيل نقل معنى واحد من عبارة إلى عبارة حتى يفهم المخاطب وفى القاموس صرف الحديث ان يزاد فيه ويحسّن من الصرف فى الدراهم وهو فضل بعضها على بعض فى القيمة وكذلك صرف الكلام وله عليه صرف أى فضل لأنه إذا فضل صرف عن اشكاله وكذلك منصوب على المصدرية يعنى نصرف الآيات تصريفا مثل تصريفنا فى هذه السورة وَلِيَقُولُوا عطف على مقدر تقديره ليتم التبليغ وليقولوا أى الكفار واللام لام العاقبة يعنى يكون عاقبة الأمر ان يقولوا دَرَسْتَ قرأ نافع والكوفيون بفتح الدال والراء وسكون السين وفتح التاء على صيغة الخطاب من درست الكتاب بمعنى قرات من غيرك قال ابن عباس ليقول أهل مكة حين تقرأ عليهم درست تعلمت من يسار وجبر كانا عبدين من سبى الروم ثم قرأت علينا تزعم انه من عند اللّه وقرأ ابن كثير وأبو عمر دارست من المفاعلة يعنى قارات وذاكرات أهل الكتاب والمعنى واحد وقرأ ابن عامر ويعقوب درست بفتح السين وسكون التاء على صيغة المؤنث الغائب أى قدمت هذه الاخبار التي تتلوها علينا وانمحت من قولهم درس الأثر دروسا وَلِنُبَيِّنَهُ أى القرآن وهو مذكور لذكر الآيات فيما سبق والآيات هى القرآن لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فانهم هم المنتفعون به فتصريف الآيات ليتم التبليغ وليشقى به من قال درست وليسعد من تبين له الحق
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعنى اعمل بالقران لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض لتاكيد إيجاب اتباع الوحى أو حال مؤكدة من ربك يعنى منفردا فى الالوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تجادلهم ولا تستمع بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم
وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ايمانهم ما أَشْرَكُوا ولكن حق القول منه لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين فيه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 276(1/2235)
دليل على ان الكفر والايمان كلا منهما بارادة اللّه تعالى وان مراده واجب الوقوع خلافا للمعتزلة وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً لاعمالهم رقيبا عليهم ماخوذا باجرامهم وقال عطاء ما جعلنك عليهم حفيظا تمنعهم من عذاب اللّه انها بعثت معلما وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ تقوم بامرهم قال ابن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار اللّه تعالى فانزل اللّه(1/2236)
وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية قال البغوي قال ابن عباس لما نزلت انكم وما تعبدون من دون اللّه حصب جهنم قال المشركون يا محمد لتنتهين عن سب الهتنا أو لتهجون ربك فنهيهم اللّه ان يسبوا أوثانهم وقال السدى لما حضرت أبا طالب الوفاة قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنا مرنه ان ينهى عنا ابن أخيه فانا نستحيى ان نقتله بعد موته فيقول العرب كان يمنعه عمه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحارث وامية وابى ابنا خلف وعقبة بن أبى معيط وعمرو بن العاص والأسود بن أبى البختري إلى أبى طالب فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وان محمدا قد اذانا والهتنا فتجب ان تدعوه وتنهاه عن ذلك وعن ذكر الهتنا ولندعنه والهه فدعاه فقال هولاء قومك تريد ان تدعنا والهتنا وندعك وإلهك وقد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ارايتم ان أعطيتكم هذا هل أنتم معطى كلمة ان تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم العجم قال أبو جهل نعم وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هى قال قولوا لا اله الا اللّه فابوا وتفرقوا فقال أبو طالب قل غيرها يا ابن أخي قال يا عم ما انا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها فى يدى فقالوا التكفن عن سب الهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فانزل اللّه عز وجل ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه يعنى لا تذكروا الأوثان بما فيها من القبائح فَيَسُبُّوا اللَّهَ منصوب على جواب النهى عَدْواً تجاوزا عن الحق إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ أى على جهالة باللّه تعالى وبما يجب ان يذكر به وما هو منزه عنه فظاهر الآية وان كان نهيا عن سب الأصنام فحقيقة النهى عن سب اللّه تعالى لأنه سبب لذلك وفيه دليل على ان الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها لان ما يودى إلى الشرشر كَذلِكَ أى تزئينا مثل تزئين سب اللّه للكافرين زَيَّنَّا(1/2237)
لِكُلِّ أُمَّةٍ مؤمنة وكافرة عَمَلَهُمْ من الخير والشر
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 277
توفيقا وتخذيلا فان اللّه يضل من يشاء ويهدى من يشاء فظهر ان الأصلح ليس بواجب عليه تعالى ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ مصيرهم فَيُنَبِّئُهُمْ بالمحاسبة والمجازاة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الخير والشر أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وكذا ذكر البغوي عنه وعن الكلبي قال كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريشا فقالوا يا محمد تخبرنا ان موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنا عشرة عينا وان عيسى كان يحيى الموتى وان ثمود كانت لهم ناقة فاتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى شىء تحبون ان اتيكم به قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا وزاد البغوي عنهما أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسالهم عنك أحق ما تقول أم باطل أو أرنا الملئكة يشهدون لك فذكر ابن جرير والبغوي انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فان فعلت بعض ما تقولون أ تصدقونني قالوا نعم واللّه لان فعلت لنتبعنك أجمعين وسأل المسلمون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ينزلها عليهم حتى يؤمنوا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو ان يجعل الصفا ذهبا فجاءه جبرئيل فقال له ان شئت أصبح ذهبا ولكن ان لم يصدقوا عذبتهم وان شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بل يتوب تائبهم فانزل اللّه تعالى(1/2238)
وَ أَقْسَمُوا يعنى الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على المصدرية أو مصدر فى موقع الحال يعنى مجتهدين فى إتيان أوكد ما قدروا عليه من الايمان والداعي لهم على القسم وتوكيده التحكم فى طلب الآيات واستحقار ما راوا منها لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فى قدرته تعالى واختياره يظهر منها ما يشاء وليس شىء منها فى قدرتى واختياري وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهامية للانكار أنكر السبب مبالغة فى نفى المسبب أو ما نافية والمعنى على التقديرين انه لا تشعرون خطاب للمشركين الذين اقسموا أو للمؤمنين أَنَّها أى الآيات قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بخلاف عنه بكسر الهمزة على الابتداء فعلى هذه القراءة مفعول ما يشعركم محذوف أى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات الايمان أو الكفر ثم أخبرهم فقال انها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ هكذا علم اللّه تعالى فيهم فان مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل لا يمكن منهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 278
الاهتداء وقرأ الباقون بفتح الهمزة على انه مفعول يشعركم لكن قرأ ابن عامر وحمزة لا تومنونبالتاء بصيغة الخطاب على انها خطاب للمشركين والباقون بالياء على الغيبة على انها خطاب للمؤمنين يعنى انكم لا تشعرون أيها المؤمنون أو أيها المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون أو لا تؤمنون وقيل لا زائدة كما فى قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون ومعناه ما يشعركم انها إذا جاءت يؤمنون وقيل انها بمعنى لعلها يعنى ما يشعركم ما يصدر من الكفار بعد مجئ الآيات لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وقيل فيه حذف وتقديره وما يشعركم ايّها المؤمنون أو المشركون انها إذا جاءت لا يؤمنون أو تؤمنون بالياء والتاء(1/2239)
وَ نُقَلِّبُ عطف على لا يؤمنون الا على تقدير كون لا زائدة فحينئذ عطف على ما يشعركم أَفْئِدَتَهُمْ عن الحق فلا يفقهونه وَأَبْصارَهُمْ فلا يبصرونه نظر اعتبار فلا يومنون بها كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أى بما انزل من الآيات كانشقاق القمر وغيرها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ أى نذرهم متحيرين فى طغيانهم ولا نهديهم.
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى مصدقا لنبوتك باحيائنا وَحَشَرْنا جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا قرأ نافع وابن عامر بكسر القاف وفتح الباء على انه مصدر والباقون بضمهما على انه جمع قبيل بمعنى كفيل أى كفلا بما بشروا وانذروا أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات أو مصدر بمعنى مقابلة وعلى الوجوه كلها حال من كل شىء ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم القضاء بالكفر ولكون مبادى تعيناتهم ظلال الاسم المضل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يعنى فى حال من الأحوال الا حال مشية اللّه تعالى ايمان من سبق عليه القضاء بالايمان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ انهم لو أتوا بكل اية لم يومنوا فيقسمون باللّه جهد ايمانهم على ما لا يشعرون ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع ان مطلق الجهل يعمهم أو لكن اكثر المسلمين يجهلون انهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآيات طمعا فى ايمانهم
وَ كَذلِكَ يعنى كما جعلنا كفار قريش اعداء لك يؤذونك ويخالفون أمرك كذلك جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ سبقك عَدُوًّا وهو دليل على ان عداوة الكفار للانبياء بفعل اللّه تعالى وخلقه شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بدل من عدوا أو أول مفعول جعلنا وعدوا مفعوله الثاني ولكل متعلق بجعلنا أو حال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 279(1/2240)
و المراد بالشياطين المتمردون من الفريقين قال قتادة ومجاهد والحسن ان من الانس شياطين والشيطان العاتي المتمرد من كل شىء قلت ويؤيده حديث جابر أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها وقال عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فانه شيطان رواه مسلم وقالوا ان الشيطان إذ اعياه المؤمن وعجز عن اغوائه ذهب إلى متمرد من الانس وهو شيطان الانس فاغراه بالمؤمن ليفتنه ويدل عليه ما روى عن أبى ذر قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل تعوذت باللّه من شر شياطين الجن والانس قلت يا رسول اللّه هل للانس من شياطين قال نعم هم شر من شياطين الجن قال مالك بن دينار ان شياطين الانس أشد من شياطين الجن وذلك لانى إذا تعوذت باللّه ذهب عنى شياطين الجن وشياطين الانس يجيئنى فيجرنى إلى المعاصي عيانا وقال عكرمة والضحاك والسدى والكلبي معنى شياطين الانس التي مع الانس وشياطين الجن التي مع الجن وليس من الانس شياطين وذلك ان إبليس قسم جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الانس وفريقا منهم إلى الجن وكلا الفريقين اعداء للنبى صلى اللّه عليه وسلم ولاوليائه وهم يلتقون فى كل حين فيقول شياطين الانس لشياطين الجن أضللت صاحبى بكذا فاضل صاحبك بمثله ويقول شياطين الجن لشياطين الانس كذلك فذلك وحي بعضهم إلى بعض والاول أرجح وأشد موافقة للسياق يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أى يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الانس أو بعض الجن إلى بعض وبعض الانس إلى بعض زُخْرُفَ الْقَوْلِ الأباطيل المموهة غُرُوراً منصوب على العلية أو المصدرية أو مصدر فى موقع الحال يعنى لزينوا الأعمال القبيحة لبنى آدم أو يغرهم غرورا أو غارين وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ان لا يفعلوا ما فَعَلُوهُ يعنى معادات الأنبياء وايحاء الزخارف أو الغرور وهذا أيضا دليل على المعتزلة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ عليك وعلى اللّه فان اللّه يجزيهم(1/2241)
و ينصرك ويخزيهم
وَ لِتَصْغى عطف على غرورا إن كان علة أو متعلق بمحذوف يعنى وفعلنا ذلك لتصغى أى تميل إِلَيْهِ أى إلى زخرف القول أَفْئِدَةُ أى قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ لانفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا أى ليكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من المعاصي ولما كانت القريش يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم اجعل بيننا وبينك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 280
حكما فانزل اللّه تعالى فى جوابهم
أَ فَغَيْرَ اللَّهِ على ارادة القول يعنى قل لهم يا محمد والفاء للعطف على محذوف يعنى أجيب ما تطلبون منى فغير اللّه أَبْتَغِي أى اطلب حَكَماً قاضيا بينى وبينكم يفصل المحق منا من المبطل وغير مفعول ابتغى وحكما حال منه ويحتمل ان يكون عكسه وحكما ابلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ القرآن المعجز المخبر بالمغيبات مطابقا للكتب المنزلة السابقة مُفَصَّلًا مبينا فيه الحق والباطل بحيث ينفى اللبس حال من الكتاب والجملة حال من اللّه تعالى وفيه تنبيه على ان القرآن باعجازه وتقريره مغن عن سائر الآيات وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعنى اليهود يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أى القرآن مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر وحفص بالتشديد من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ تأكيد لدلالة الاعجاز لان أهل الكتاب يعلمون بالقران كونه محقا لاجل مطابقة كتبهم مع كون النبي صلى اللّه عليه وسلم اميا لم يدارس كتبهم ولم يجالس علمائهم وانما أسند العلم إلى جميعهم لان بعضهم يعلمون وبقيتهم متمكنون منه بأدنى تأمل أو بالرجوع إلى علمائهم فلا تكوننّ أيها السامع مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين فى انه من عند اللّه تعالى(1/2242)
وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قرأ الكوفيون ويعقوب كلمة بالتوحيد على الجنس والباقون كلمات على الجمع وأراد به اخباره ووعده ووعيده وامره ونهيه الواردة فى القرآن يعنى بلغت الغاية صِدْقاً فى الاخبار والوعد والوعيد وَعَدْلًا فى الاحكام كذا قال قتادة ومقاتل منصوبان على التميز أو الحال لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعنى لا أجد يبدل شيئا منها قال ابن عباس لاراد لقضائه ولا مغير لحكمه أو المعنى لا نبى ولا كتاب بعد القرآن ينسخها ويبدل أحكامها وَهُوَ السَّمِيعُ لما يقولون الْعَلِيمُ بما يضمرون فلا يمهلهم
وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعنى الكفار فانهم كانوا اكثر من المؤمنين يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل إليه تعالى يعنى الدين الإسلام إِنْ يَتَّبِعُونَ أى اكثر أهل الأرض إِلَّا الظَّنَّ يعنى جهالاتهم وآرائهم فى تحليل الميتة وتحريم البحائر ونحوها مما يقولون وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أى يقولون ما يقولون بالظن والتخمين بلا علم حاصل بدليل صحيح
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ يعنى يعلم بالفريقين فيجازى كلا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 281
بما يستحقه ومن موصولة أو موصوفة فى محل النصب بفعل دل عليه اعلم لا بافعل التفضيل فانه لا يعمل فى الظاهر أو هو منصوب بنزع الخافض متعلق بأعلم أى اعلم بمن يضل أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر يضل والجملة معلق عنها الفعل المقيد روى أبو داؤد والترمذي عن ابن عباس قال اتى ناس النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه ا ناكل ما نقتل ولا ناكل ما يقتل اللّه فانزل اللّه تعالى(1/2243)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ الفاء للسببية فانه تعالى لما نهى عن اتباع الكفار المضلين فرع عليه قوله فكلوا يعنى لا تتبعوا فى تحريم الحلال وتحليل الحرام آراء الكفار القائلين بتحليل الميتة وتحريم الذبائح إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فان الايمان به تعالى يقتضى استباحة ما أحل اللّه واجتناب ما حرمه
وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ما استفهامية فى موضع الرفع بالابتداء ولكم خبره وَيعنى والحال انه قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ قرأ نافع وحفص ويعقوب فصل وحرم بالفتح فيهما على البناء للفاعل يعنى بين اللّه لكم ما حرم اللّه عليكم وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضم الفاء والحاء وكسر الصاد والراء على البناء للمفعول فيهما وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي فصل على البناء للفاعل وحرم على البناء للمفعول والمراد بتفصيل المحرمات قوله تعالى قل لا أجد فيما اوحى الىّ محرما الآية إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ استثناء من ضمير حرم وما مصدرية بمعنى المدة يعنى فصل لكم ما حرم عليكم فى جميع الأوقات الا وقت الاضطرار إليه فان قيل ما الفائدة فى الاستثناء وقد اغنى عنه قوله فصل لكم ما حرم عليكم فان التفصيل شامل للاستثناء قلنا فائدته المبالغة فى النهى عن الامتناع عن أكل سالم يحرم فان ما حرم يصير عند الاضطرار مباحا بخلاف ما أحل فانه لا يحرم قط وَإِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام وتحريم الحلال قرأ الكوفيون هاهنا وفى سورة يونس ليضلون بضم الياء على انه من الإضلال والباقون بالفتح بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ من دليل عقلى ولا نقلى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين من الحق إلى الباطل ومن الحلال إلى الحرام(1/2244)
وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ يعنى الذنوب كلها ظاهرها من اعمال الجوارح وباطنها من اعمال القلب وصفات النفس قال الكلبي واكثر المفسرين الإعلان بالزنا والاسرار به وقال سعيد بن جبير ظاهره نكاح المحارم وباطنه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 282
الزنا وقال ابن زيد ظاهره التجرد من الثياب والطواف عريانا وباطنه الزنا وروى عن الكلبي ظاهره طواف الرجال عريانا بالنهار وباطنه طواف النساء عريانا بالليل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ فى الاخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون فى الدنيا(1/2245)
وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذه الآية بعمومها حجة لاحمد حيث يقول متروك التسمية عامدا أو ناسيا لا يجوز أكله وبه قال داؤد وأبو ثور والشعبي ومحمد بن سيرين وقال مالك خص متروك التسمية ناسيا من عموم هذه الآية بحديث أبى هريرة قال سال رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ارايت الرجل منا يذبح وينسى ان يسمى اللّه قال اسم اللّه فى فم كل مسلم رواه الدارقطني وحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المسلم ان نسى ان يسمى حين يذبح فليسم ثم لياكل رواه الدارقطني والحديثان ضعيفان فان فى حديث أبى هريرة مروان بن سالم قال احمد ليس بثقة وقال النسائي والدارقطني متروك وفى حديث ابن عباس معقل مجهول وقال أبو حنيفة أيضا بجواز أكل متروك التسمية ناسيا لكن القول بتخصيص الآحاد لا يصح على اصل أبى حنيفة فقال صاحب الهداية لكنا نقول فى اعتبار ذلك يعنى فى تعميم الآية للناسى أيضا من الحرج ما لا يخفى لان الإنسان كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى على ظاهره إذ لو أريد به العموم لجرت المحاجة فظهرت الانقياد وارتفع الخلاف فى الصدر الأول ولا يخفى ضعف هذا القول وقال الشافعي المراد به بما لم يذكر اسم اللّه عليه الميتات وما ذبح على غير اسم اللّه تعالى بدليل قوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والفسق فى ذكر اسم غير اللّه تعالى كما فى اخر السورة قل لا أجد فيما اوحى إلى قوله أو فسقا أهل لغير اللّه به واحتج الشافعي على حل متروكة التسمية عامدا بحديث عائشة قالت ان قوما قالوا يا رسول اللّه ان هاهنا أقواما حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان لا ندرى يذكرون اسم اللّه عليها أو لا قال اذكروا أنتم اسم اللّه وكلوا رواه البخاري قال البغوي لو كانت التسمية شرطا للاباحة لكان الشك فى وجوده مانعا من أكلها كالشك فى اصل الذبح وبحديث الصلت مرسلا قال قال رسول اللّه(1/2246)
صلى اللّه عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللّه أو لم يذكر رواه أبو داؤد فى المراسيل قالت الحنفية حديث الصلت محمول على حالة النسيان وحديث عائشة حجة لنا لا علينا لانهم سالوا عن الاكل عند
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 283
وقوع الشك بالتسمية بعد علمهم بان الذابح مسلم فذلك دليل على انه كان معروفا عندهم اشتراط التسمية للحل وانما امر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالأكل بناء على ظاهر ان المسلم لا يترك التسمية عمدا كمن اشترى لحما من سوق المسلمين يباح له الاكل بناء على الظاهر وان كان يحتمل انه ذبيحة مجوسى وما قال الشافعي ان الآية فى الميتات وما ذبح على غير اسم اللّه فمدفوع بان العبرة لعموم اللفظ ونصوص الكتاب والسنة لم يرد شىء منها فى الذبح والصيد الا مقيدا بذكر اسم اللّه تعالى وقد مر هذه المسألة وغيرها من مسائل الذبح فى تفسير سورة المائدة قال فى شرح المقدمة المالكية يجزيه يعنى الذبح لو ترك التسمية عمدا فى مذهب مالك عند أبى القاسم وفى مذهب المدونة لا يجزيه ومذهب المدونة هو المشهور لانها واجبة مع الذكر وكل هذا فى غير المتهاون واما المتهاون فلا خلاف انها لا يوكل ذبيحته تحريما قاله ابن الحارث وابن البشير والمتهاون هو الذي يتكرر منه ذلك كثيرا واللّه اعلم أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال لما نزلت ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وانه لفسق أرسلت فارس إلى قريش ان خاصموا محمدا فقولوا ما تذبح أنت بسكين فهو حلال وما ذبح اللّه بشمشار من ذهب يعنى الميتة فهو حرام وكذا أخرج أبو داؤد والحاكم وغيرهما قول كفار مكة من غير ذكر فارس فنزلت وَإِنَّ الشَّياطِينَ يعنى شياطين الانس من الفارس أو شياطين الجن لَيُوحُونَ يعنى ليلقون أو ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ يعنى كفار قريش أو مطلق الكفار لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ فى استحلال ما حرم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ع فان(1/2247)
من ترك طاعة اللّه أو أطاع غيره واتبعه فى دينه فقد أشرك حذف الفاء من الجزاء لكون الشرط بلفظ الماضي قال الزجاج فيه دليل على ان من أحل شيئا مما حرم اللّه أو حرم ما أحل اللّه فهو مشرك قلت إذا ثبت ذلك بدليل قطعى
أَ وَمَنْ كانَ مَيْتاً يعنى كافرا غافلا قلبه عن الحق قرأ نافع ويعقوب هاهنا وفى يس الأرض الميتة وفى الحجرات لحم أخيه ميتا بتشديد الياء فى الثلاثة والباقون بإسكانها استعارة تمثيلية وكذا فى قوله كمن مثله فى الظلمات فان الكافر لا يمتاز بين ما ينفعه وما يضره كالميت فَأَحْيَيْناهُ يعنى أحيينا قلبه بنور الايمان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 284(1/2248)
وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً « 1 » يعنى فراسة المؤمن يمتاز به الحق من الباطل يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يعنى يمشى بذلك النور على طريق يقتضيه العقل السليم والطبع المستقيم والشرع المنزل من اللّه تعالى كَمَنْ مَثَلُهُ أى صفته مبتدا كونه فِي الظُّلُماتِ خبر لمثله وجاز ان يكون الظرف خبر مبتدأ محذوف أى هو والجملة خبر لمثله والجملة الكبرى صلة وقوله لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها حال من المستكن فى الظرف لا من الهاء فى مثله للفصل والمعنى أو من كان مومنا كمن هو كافر لم يومن والاستفهام للانكار يعنى هما لا يتماثلان أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس انه قال نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل واخرج ابن جرير عن الضحاك مثله وقال البغوي قال ابن عباس يريد بهما حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك ان أبا جهل رمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفرث فاخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس وحمزة لم يؤمن بعد فاقبل غضبان حتى اتى أبا جهل بالقوس وهو يتضرع ويقول يا با يعلى اما ترى ما جاء محمد به سفّه عقولنا وسب الهتنا وخالف ابائنا فقال حمزة ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون اللّه اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمدا عبده ورسوله فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال عكرمة والكلبي نزلت فى عمار بن ياسر وابى جهل فاتفقت الروايات ان المراد عن مثله فى الظلمات أبو جهل ومقابله أحد الثلاثة والظاهر ان هؤلاء الثلاثة أمنوا متقاربين فى الزمان وحينئذ نزلت الآية ولفظها عام فيمكن حمله على كلهم وفى هذه الآية رد لما زعم أبو جهل انه أفضل من المؤمنين الذين خالفوا ابائهم وسبوا الهتهم فكان مقتضى السياق نفى افضلية الكفار فذكر اللّه سبحانه نفى المساوات ليكون ابلغ فى الدلالة على نفى أفضليتهم وكيلا يتطرق الوهم إلى المساوات واستدل على نفى المساوات بما يقتضى افضلية المؤمنين بل اختصاصهم بالجمال والكمال ونفى(1/2249)
ذلك عن الكفار بالكلية فاختصاص المؤمنين بالكمال ونفى مساواتهم بالكفار اشارة النص بالمطابقة ونفى افضلية الكفار عبارة النص بالالتزام كَذلِكَ أى كما زين لابى جهل اعماله حيث زعم نفسه أفضل منالمؤمنين زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ أجمعين سيئات ما كانُوا يَعْمَلُونَ وَكَذلِكَ أى كما جعلنا فى مكة أكابر مجرميها
_________
(1) وعن زيد بن اسلم انها نزلت فى عمر بن الخطاب وابى جهل وعن الحسن مثله وعن أبى سنان مثله 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 285(1/2250)
ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ان كان جعلنا بمعنى صيرنا فمفعولاه اما فى كل قرية وأكابر ومجرميها بدل من أكابر واما أكابر ومجرميها على تقديم المفعول الثاني على الأول وجاز ان يكون أكابر مضافا إلى مجرميها أحد مفعوليه والثاني فى كل قرية وإن كان جعلنا بمعنى مكنا فالظرف متعلق بمكنا وأكابر مضافا إلى مجرميها مفعوله وافعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الافراد والمطابقة وخصص الأكابر لانهم أقوى فى استتباع الناس والمكر بهم وذلك سنة اللّه تعالى حيث يجعل اتباع الرسل فى بدو الأمر ضعفائهم والمكر الخديعة كذا فى القاموس وفى الصحاح المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وكان مكر قريش انهم اجلسوا على كل طريق من طرق مكة اربعة نفر ليصرفوا الناس عن الايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويقولون لكل من يقدم إياك وهذا الرجل فانه كاهن ساحر كذاب وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ حيث يعود إليهم وباله وَما يَشْعُرُونَ ذلك قال البغوي قال قتادة قال أبو جهل زاحمنا بنو عبد مناف فى الشرف حتى إذا صرنا كفرسى « 1 » رهان قالوا منا نبى يوحى إليه واللّه لا نومن به ولا نتبعه ابدا الا ان يأتينا وحي كما يأتيه وقيل ان الوليد بن المغيرة قال لو كانت النبوة حقا لكنت اولى به منك لانى اكبر منك سنا واكثر منك مالا فانزل اللّه تعالى(1/2251)
وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا يعنى كفار قريش لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ثم قال اللّه تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ « 2 » رِسالَتَهُ قرأ ابن كثير وحفص على الافراد وفتح التاء والباقون رسالاته بالجمع وكسر التاء استيناف للرد عليهم بان النبوة ليست بالنسب والمال والسن وانما هى فضل من اللّه تعالى بمن يعلم انه أحق به قال المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه مبادى تعينات الأنبياء صفات اللّه تعالى من غير شائبة الظلية ومبادى تعينات غيرهم من الناس ظلال
_________
(1) فرسى رهان مثل يضرب لاثنين يستبقان إلى غاية فيستويان 5 قاموس 5
(2) عن ابن مسعود ان اللّه نظر فى قلوب العباد فوجد قلب محمد خير القلوب فاصطفاه لنفسه وبعثه برسالته ثم نظر فى قلوب العباد بعد قلب محمد صلى اللّه عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما راه المؤمنون حسنا فهو عند اللّه حسن وما راه المؤمنون سيئا فهو عند اللّه سيئ 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 286(1/2252)
الأسماء والصفات وصفات الله تعالى وان كانت واجبة لكن وجوبها بالغير فهى باعتبار احتياجها إلى الذات صارت مبادى تعينات الأنبياء والملئكة ومن ثم خصت العصمة بهذين الصنفين غير ان الصفات من حيث بطونها وقيامها بالله تعالى مباد لتعينات الملئكة ومن حيث ظهورها وكونها مصادر للعالم وحجبا مبادى لتعينات الأنبياء فولاية الملئكة ارفع واقرب إلى الله تعالى من ولاية الأنبياء وفضلهم على الملئكة انما هو من حيث النبوة المختصة بالبشر وذلك بالتجليات الذاتية البحتة فاستحقاق النبوة والرسالة ناش من كون مبادى تعيناتهم صفات اللّه تعالى لا من حيث النسب والسن والمال كما زعمه الا عمهون سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعنى أكابر الكفار صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة وقيل تقديره من عند اللّه يعنى فى الدنيا والاخرة وَعَذابٌ شَدِيدٌ بالقتل والاسر فى الدنيا كما أصاب كفار قريش يوم بدر وبالنار فى الاخرة بِما كانُوا يَمْكُرُونَ الباء للسببية أو المقابلة أى بسبب مكرهم فى الدنيا أو جزاء على مكرهم(1/2253)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إلى معرفة طريق الحق يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ لما نزلت هذه الآية سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن شرح الصدر قال نور يقذفه اللّه فى قلب المؤمن فيشرح له ويتفسح قلت يعنى يتسع لمعرفة الحق ويومن قالوا فهل لذلك امارة قال نعم الانابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور واستعداد الموت قبل نزول الموت أخرجه الحاكم والبيهقي فى شعب الايمان من حديث ابن مسعود واخرج الفريابي وابن جرير وعبد بن حميد من حديث أبى جعفر مرسلا قالت الصوفية العلية شرح الصدر لا يكون الا بعد فناء النفس بزوال عينها واثرها وذلك بتجليات صفات اللّه تعالى الحسنى فى الولاية الكبرى ولاية الأنبياء وحينئذ يحصل الايمان الحقيقي وَمَنْ يُرِدْ اللّه سبحانه أَنْ يُضِلَّهُ عن طريق الحق يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً قرأ ابن كثير ضيقا بالتخفيف بإسكان الياء هاهنا وفى الفرقان والباقون بالتشديد وهما لغتان مثل هين وهيّن ولين وليّن وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم حرجا بكسر الراء والباقون بفتحها قال سيبويه بالفتح المصدر كالطلب بمعنى الصفة وبالكسر الصفة وهى أشد الضيق وقيل هما لغتان بمعنى الصفة يعنى يجعل صدره بحيث لا يدخله الايمان ويشق عليه قبول الحق ويزعمه مستحيلا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 287(1/2254)
قال الكلبي يعنى ليس للخير فيه منفذ وقال ابن عباس إذا سمع ذكر اللّه اشمأز قلبه وإذا ذكر شيئا من عبادة الأوثان ارتاح إلى ذلك قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية فسال أعرابيا من كنانة ما الحرجة قال الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا يصل إليها راعية ولا وحشية ولا شىء فقال عمر كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شىء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ ابن كثير بالتخفيف وسكون الصاد من المجرد وأبو بكر يصاعد بالألف وتشديد الصاد أى يتصاعد والباقون بتشديد الصاد والعين أى يتصعد فِي السَّماءِ شبّهه مبالغة فى ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه فان صعود السماء مثل فيما يبعد من الاستطاعة فيه اشعار بان الايمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود عادة وقيل كانما يتصاعد إلى السماء يعنى يتباعد عنه فى الهرب عنه كَذلِكَ أى كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الايمان يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يعنى العذاب كذا قال عطاء وقال الزجاج الرجس اللعنة فى الدنيا والعذاب فى الاخرة وقال الكلبي هو الماثم وقال مجاهد الرجس ما لا خير فيه وقال ابن عباس هو الشيطان يعنى يسلط عليه الشيطان عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أى عليهم وضع المظهر موضع المضمر للتعليل والآية حجة على المعتزلة فى ارادة المعصية(1/2255)
وَ هذا الذي بينا من شرح صدر من أراد هدايته وجعله ضيقا لمن أراد إضلاله صِراطُ رَبِّكَ طريقه الذي اقتضته الحكمة وسنة التي جرت فى عباده وقيل معناه هذا الذي أنت عليه يا محمد وجاء به القرآن من الإسلام صراط ربك الموصل إليه مُسْتَقِيماً معناه على التقدير الأول عادلا مطردا وعلى التقدير الثاني لا عوج فيه حال من الصراط والعامل فيها معنى الاشارة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ من أهل السنة والجماعة فانهم هم المنتفعون بها العالمون بان القادر هو اللّه تعالى لا غير وان كل ما يحدث من خير وشر بقضائه وخلقه وانه عليم بأحوال العباد حكيم عادل لا مجال لاحد بالاعتراض عليه
لَهُمْ أى لقوم يتذكرون بالنصوص ولا يتبعون الأهواء دارُ السَّلامِ يعنى الجنة سميت بها لانها دار السّلام من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام أو المعنى دار اللّه أضاف إلى نفسه تعظيما عِنْدَ رَبِّهِمْ أى فى ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره وَهُوَ أى اللّه تعالى وَلِيُّهُمْ أى متولى أمورهم فى الدنيا بالتوفيق وفى القبور بالتثبيت فى الجواب جواب المنكر والنكير وفى الاخرة بجزيل الجزاء ويرفعهم فى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 288
درجات القرب بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أى بسبب أعمالهم(1/2256)
وَ نقول أو يقول اللّه يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعنى الجن والانس قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ يعنى الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ بان جعلتم كثيرا منهم اتباعكم فى الضلالة أو استكثرتم من اغوائهم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الذين أطاعوهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أى انتفع الانس من الجن بما يتلقون منهم من الأراجيف والسحر والكهانة وتزئينهم لهم الأمور التي يشتهونها وأطاعه الجن لهم فى تحصيل مراداتهم وإيصالهم إلى شهواتهم ويبيت الانس فى جوار الجن حين يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه وانتفع الجن من الانس باستعبادهم واستتباعهم فى الضلالات والمعاصي وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا يعنى يوم القيامة أجلت للبعث اعتراف بذنبهم وتحسر على أنفسهم قالَ اللّه تعالى النَّارُ مَثْواكُمْ منزلكم أو ذات مقامكم خالِدِينَ فِيها حال والعامل فيها مثويكم ان جعل مصدر أو معنى الاضافة ان جعل مكانا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل معناه الا مدة سبقت على وقت دخولهم فى النار كأنَّه قيل النار مثويكم الا ما امهلتكم وقيل المستثنى الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل معنى إلا سوى والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء اللّه من انواع العذاب وقال ابن « 1 » عباس الاستثناء يرجع إلى قوم سبق فيهم علم الله انهم يسلمون فيخرجون من النار وما بمعنى من على هذا التأويل إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعل باوليائه وأعدائه عَلِيمٌ بما فى قلوبهم من الايمان والنفاق وباعمال الثقلين وأحوالهم(1/2257)
وَ كَذلِكَ أى كما خذلنا عصاة الجن والانس حتى استمتع بعضهم ببعض نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أى بعضهم قال قتادة يعنى يجعل بعضهم اولياء بعض المؤمن ولى المؤمن يعينه على الخير والكافر ولى الكافر يبعثه إلى الشر وروى معمر عن قتادة معناه نتبع بعضهم بعضا فى النار من الموالاة وقيل معناه نولى ظلمة الانس ظلمة الجن وظلمة الجن ظلمة الانس أى نكل بعضهم إلى بعض وروى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس
_________
(1) قلت لعل المراد من قول ابن عباس ان نامنا ممن لم يبلغهم دعوة الرسل سبق فيهم علم الله انهم يسلمون لو بلغهم دعوة الرسل فيخرجون من النار ومن سبق فيه علم اللّه منهم انهم لا يسلمون يخلدون فى النار 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 289
فى تفسير هذه الآية ان اللّه إذا أراد بقوم خيرا ولّى أمرهم خيارهم وإذا أراد بقوم شرا ولّى أمرهم شرارهم فمعنى نولى بعض الظالمين بعضا أى نسلط بعضهم على بعض فناخذ من الظالم بالظالم كما جاء من أعان ظالما سلطه اللّه عليه ويؤيد رواية الكلبي عن ابن عباس ما روى الحاكم عن صعصعة بن صوحان عن علىّ عليه السلام انه عليه السلام لما استشهد وضربه ابن ملجم قال الناس يا امير المؤمنين استخلف علينا فقال على ان يعلم اللّه فيكم خيرا بول عليكم خياركم قال على فعلم اللّه فينا خيرا فولّى أبا بكر رضى اللّه عنه وروى الظالم عدال اللّه فى الأرض ينتقم به من الناس ثم ينتقم منه بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ع من الكفر والمعاصي.
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ(1/2258)
اختلفوا فى ان الجن هل أرسل إليهم منهم فسئل الضحاك عنه فقال بلى الم تسمع اللّه يقول الم يأتكم رسل منكم يعنى رسلا من الانس ورسلا من الجن قال الكلبي كانت الرسل قبل ان يبعث محمد صلى اللّه عليه وسلم يبعثون إلى الجن والى الانس جميعا يعنى إلى بعض من كل من الفريقين فانه لم يبعث إلى كافتهم الا خاتم الرسل عليه السلام وقال مجاهد الرسل من الانس والنذر من الجن ثم قرأ ولوا إلى قومهم منذرين والمراد بالنذر رسل الرسل وهم قوم من الجن يستمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا وليس للجن رسل فعلى هذا قوله تعالى رسل منكم ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الانس كما قال اللّه تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وانما يخرج من الملح دون العذب وقال وجعل القمر فيهن وانما هو فى سماء واحدة قلت الآية تدل على كون الفريقين مرسلين إليهم سواء كان الرسل من كل صنف أو من الانس فقط لكن لا مانع من كون بعض الرسل إلى الجن منهم قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم كيف وقوله تعالى لو كان فى الأرض ملئكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يقتضى كون الرسل إلى الجن منهم لكمال المناسبة بين الرسول ومن أرسل إليه كيف وخلقة الجن كان اسبق من آدم عليه السلام وكانوا مكلفين لكونهم من ذوى العقول ولقوله تعالى لا ملئن جهنم من الجنة والناس فلو لم يرسل إليهم حينئذ أحد لم يعذبوا لقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا فهذه الآية تدل على انه كان قبل آدم عليه السلام من الجن رسلا إليهم ومن هاهنا يظهر ان ما يدعوا أهل الهند من البرازخ ويسمونهم أوتارا ويذكرون فى تواريخهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 290(1/2259)
ألوف ومائة ألوف من السنين لعلهم كانوا من الجن برازخ مبعوثين إلى الجن ولعل لاهل الهند دين منزل من اللّه تعالى على الجن استفاد منهم الانس قيل لاجل كونهم مولودين من بطن الجنية منسوخ بشرائع منزلة بعد ذلك فان اصول دينهم يوافق الكتاب والسنة غالبا وما يخالف منه فهو من عمل الشيطان مردود واللّه اعلم قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يقرؤن كتبى يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعنى يوم القيامةالُوا
جواباهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بتبليغ الرسل إلينا وبالكفر قال مقاتل وذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشرك والكفر غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
حتى لم يؤمنوا شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
ذم لهم على سوء اختيارهم فى الدنيا حتى اضطروا إلى الاعتراف باستيجاب العذاب
ذلِكَ يعنى إرسال الرسل خبر مبتدأ محذوف أى الأمر وما بعده تعليل للحكم أو بدل من ذلك والأظهر انه مبتدأ وخبره ما بعده أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ ان مصدرية أو مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن يعنى إرسال الرسل كان لانتفاء كون ربك أو لان الشان لم يكن ربك مُهْلِكَ الْقُرى أى اهله بِظُلْمٍ اما حال من فاعل مهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم ظالما وَأَهْلُها غافِلُونَ لم ينبهوا برسول واما حال من مفعوله واما ظرف لغو متعلق بمهلك يعنى ما كان ربك مهلكهم بسبب ظلم فعلوه أو ملتبسين بظلم فى حال غفلتهم من قبل ان يأتيهم الرسل وذلك على جرى العادة من اللّه تعالى
وَ لِكُلٍّ من المكلفين دَرَجاتٌ مراتب من اللّه تعالى فى القرب والبعد مِمَّا عَمِلُوا أى من أجل أعمالهم التي اكتسبوها فى الدنيا فمنهم من هو اقرب منزلة وأجزل ثوابا ومنهم من هو ابعد رحمة وأشد عذابا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فيجزى كلا منهم على حسب عمله قرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة(1/2260)
وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ عن العباد وعن عبادتهم ليس إرسال الرسل وتكليف العباد بالأوامر والنواهي لغرض يعود إليه تعالى بل لأنه تعالى ذُو الرَّحْمَةِ على خلقه أرسل إليهم الرسل وأمرهم ونهاهم تكميلا لهم ومن رحمته تعالى انه يمهلهم على المعاصي ويتجاوز عنهم إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أى يهلككم يا أهل مكة بذنوبكم ما به تعالى إليكم حاجة يفوت بذهابكم وَيَسْتَخْلِفْ أى يخلف وينشأ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق غيركم أطوع منكم إنشاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 291
من أولاد قَوْمٍ آخَرِينَ قرنا بعد قرن لكنه أمهلكم ترحما عليكم
إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث والحساب والاثابة والتعذيب لَآتٍ كائن لا شبهة فيه وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين طالبكم به بل يدرككم حيث ما كنتم(1/2261)
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قرأ أبو بكر عن عاصم على مكاناتكم وعلى مكاناتهم حيث وقع على الجمع والباقون على الافراد والمكانة اما مصدر من مكن مكانة إذا تمكن وتسلط على شىء يعنى اعملوا على غاية تمكنكم واستطاعتكم أو هو اسم ظرف بمعنى المكان استعير هاهنا للحال يقال للرجل إذا امر ان يثبت على حاله على مكانتك يا فلان أى اثبت على ما أنت عليه من الحال وعلى التقديرين امر للتهديد والوعيد والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم إِنِّي عامِلٌ على مكانتى التي انا عليها من المصابرة والثبات على الإسلام وعلى ما أمرني به ربى فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ قرأ حمزة والكسائي يكون بالياء هاهنا وفى القصص لان تأنيث العاقبة غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث الفاعل ومن اما موصولة فى محل النصب على انه مفعول يعلمون يعنى فسوف يعرفون الذين يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى أو استفهامية فى محل الرفع على الابتداء وفعل العلم معلق عنه يعنى يعلمون أينا يكون له العاقبة الحسنى فى الدار الاخرى إنذار مع الانصاف فى المقال وحسن الأدب وفيه تعريض على انى على علم ويقين بان العاقبة للمتقين إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الواضعون العبادة والطاعة فى غير محلها قال البغوي كان المشركون يجعلون للّه تعالى من حروثهم وأنعامهم وثمارهم وسائر أموالهم نصيبا وللاوثان نصيبا فما جعلوه للّه صرفوه إلى الضيفان والمساكين وما جعلوه للاوثان أنفقوا على خدمها فان سقط شىء مما جعلو اللّه فى نصيب الأوثان تركوه وقالوا ان اللّه لغنى عن هذا وان سقط شىء من نصيب الأصنام فيما جعلوه للّه ردوه إلى الأوثان وقالوا انها محتاجة وكان إذا هلك أو انتقص شىء مما جعلوه للّه لم يبالونه وإذا هلك أو انتقص شىء مما جعلوه للاصنام جبروه بما جعلوه للّه وذلك قوله تعالى(1/2262)
وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أى خلقه اللّه مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً ولشركائهم نصيبا حذف هذه الجملة لظهورها بالمقابلة فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ يعنى زعموا كذلك ولم يأمرهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 292
به اللّه ولا شرع لهم تلك القسمة قرأ الكسائي بضم الزاء والباقون بالفتح وهما لغتان وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ حيث كانوا يتمون ما جعلوا للاوثان مما جعلوا للّه تعالى دون العكس قال قتادة كانوا إذا أصابتهم سنة استعانوا بما جعلوا للّه وأكلوا منه ووفروا ولم يأكلوا ما جعلوا للاوثان ساءَ ما يَحْكُمُونَ حكمهم هذا واشراكهم خالق الحرث والانعام وسائر الخلائق جمادات لا يقدر على شىء ما وترجيحهم الجمادات على خالق السموات(1/2263)
وَ كَذلِكَ يعنى تزئينا مثل ما زين لهم قسمة الحرث ونحوها زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بواد البنات ونحرهم لالهتهم شُرَكاؤُهُمْ فاعل زين قال مجاهد يعنى شياطينهم زينوا وحسنوا لهم واد البنات خيفة الفقر سميت الشياطين شركاء لانهم أطاعوها فى معصية اللّه وأضيف الشركاء إليهم لاتخاذهم إياها الهة بلا سبب موجب وقال الكلبي شركائهم سدنة الأوثان كانوا يزينون الكفار قتل الأولاد فكان الرجل منهم يحلف لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم وقرأ ابن عامر زين بضم الزاء وكسر الياء على البناء للمفعول الذي هو القتل مرفوعا ونصب الأولاد على المفعولية للقتل وجر الشركاء على ان المصدر مضاف إلى الفاعل اعنى الشركاء وترك المفعول اعنى أولادهم منصوبا ويظهر بتواتر هذه القراءة ان اضافة المصدر إلى فاعله مفصولا بينهما بمفعوله صحيح فصيح وان ضعفه بعض أهل العربية كذا قال التفتازانيّ أو يقال نزل المضاف إليه منزلة الفاعل المرفوع وجاز تقديم المفعول على الفاعل وانما أسند القتل إلى الشركاء وان لم يتولوا ذلك لانهم هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه لِيُرْدُوهُمْ أى ليهلكوهم بالإغواء وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أى ليخلطوا عليهم دينهم الذي كانوا عليه يعنى دين اسمعيل عليه السلام قبل التلبيس كذا قال ابن عباس أو المراد دينهم الذي وجب عليهم ان يتدينوا به واللام للتعليل ان كان التزيين من الشياطين وللعاقبة ان كان من السدنة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان لا يفعلوا ذلك التخليط واللبس والتزيين أو ان لا يقتلوا الأولاد وان لا يجعلوا للاصنام نصيبا من أموالهم ما فَعَلُوهُ أى المشركين ما زين لهم أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 293
اى افترائهم أو ما يفترونه من الافك(1/2264)
وَ قالُوا يعنى المشركين هذِهِ يعنى ما جعلوه للّه ولالهتهم من الحرث والانعام على ما مر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ أى حرام مصدر بمعنى المفعول يستوى فيه الواحد والجمع والذكر والأنثى وقال مجاهد يعنى بالانعام البحيرة والسائبة والوصيلة والحام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ من غير حجة وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعنى البحائر والسوائب والحوامي وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا فى الذبح وانما يذكرون اسماء الأصنام وقال أبو وائل معناه لا يحجون عليها ولا يركبون لفعل الخير لأنه لما جرت العادة بذكر اسم اللّه على فعل الخير عبر عن فعل الخير بذكر اللّه افْتِراءً عَلَيْهِ نصب على المصدر من قالوا لان ما قالوه تقولوا على اللّه والجار والمجرور متعلق لقالوا أو بمحذوف هو صفة له يعنى افتراء واقعا عليه أو منصوب على الحال يعنى قالوا ذلك مفترين أو على العلية يعنى للافتراء والجار والمجرور متعلق به أو بالمحذوف سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أى بسبب افترائهم أو بمقابلة(1/2265)
وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنى اجنة البحائر والسوائب ما ولد منها حيا خالِصَةٌ الخالص ما لا شوب فيه والهاء فيه للتاكيد والمبالغة وقال الكسائي خالص وخالصة واحد مثل وعظ وموعظة وقال الفراء ادخلت الهاء لتانيث الانعام لان ما فى بطونها مثلها وقيل نظرا إلى المعنى فان معنى ما فى بطونها الاجنة والمراد به حلال خاصة لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أى نسائنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ ابن عامر وأبو جعفر وابن كثير ميتة بالرفع على الفاعلية على ان يكون تامة لكن المكي قرأ يكن بالياء التحتانية والآخران بالتاء الفوقانية لان الفاعل مؤنث غير حقيقى أو لان الميتة لفظه مؤنث ومعناه يعم الذكر والأنثى فجاز التذكير على التغليب والتأنيث على اللفظ والباقون ميتة بالنصب على الخبرية غير ان أبا بكر عن عاصم قرأ تكن بالتاء الفوقانية مع ان الضمير راجع إلى الموصول نظرا إلى تأنيث الخبر أو إلى المعنى فان ما فى بطونها هى الاجنة والباقون بالتحتانية نظرا إلى لفظ الموصول فَهُمْ أى الذكر والأنثى فِيهِ أى فى الميتة وذكر الضمير لأنه يعم الذكر والأنثى شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ منصوب بنزع الخافض أى يوصفهم اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 294
كاذبا فى التحليل والتحريم أو على المصدرية بحذف المضاف أى جزاء وصفهم إِنَّهُ حَكِيمٌ فى جزائهم عَلِيمٌ بما يفعلون(1/2266)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا قرأ ابن عامر وابن كثير بتشديد التاء على التكثير والباقون بالتخفيف أَوْلادَهُمْ سَفَهاً جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ بان اللّه رازق أولادهم ويجوز نصبه على المصدرية أو الحال أى قتلا بغير علم أو كائنين بغير علم قال البغوي نزلت الآية فى ربيعة ومضر وبعض من العرب كانوا يدفنون البنات احياء مخافة الفقر والسبي وبنو كنانة لا يفعلون ذلك وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ يعنى البحيرة والسائبة والوصيلة والحام افْتِراءً عَلَى اللَّهِ منصوب على العلية أو الحالية أو المصدرية يعنى يفترون على اللّه افتراء أو حرموا مفترين أو للافتراء قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحق والصواب(1/2267)
وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بساتين مَعْرُوشاتٍ قال ابن عباس ما انبسط على وجه الأرض فانتشر مما يعرض أى يرفع مثل الكرم والقرع والبطيخ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ما قام على الساق ونسق مثل النخل والزرع وسائر الأشجار وقال الضحاك كلاهما من الكرم منها ما عرش يعنى غرسه الناس فعرشوه ومنها ما نبت فى البراري والجبال فلم يعرشه أحد وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعنى ثمره فى اللون والطعم والريح الضمير راجع إلى الزرع والباقي مقيس عليه أو إلى النخل والزرع داخل فى حكمه لكونه معطوفا أو للجميع على تقدير كل واحد منهما ومختلفا حال مقدرة لان وقت الإنشاء لا أكل له وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً بعض افرادها ببعض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ بقيتها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ أى من ثمر كل واحد منها إِذا أَثْمَرَ وان لم يدرك يعنى أول وقت الإباحة طلوع الثمر ولا يتوقف على الإدراك أو يقال فائدة هذا القيد رخصة المالك فى الاكل منه قيل أداء حق اللّه تعالى وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم حصادة بفتح الحاء والباقون بكسرها ومعناهما واحد كالصرام والصرام والجزار والجزار بالكسر والفتح فيهما اختلفوا فى هذا الحق فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب انه الزكوة المفروضة من العشر ونصف العشر لان الأمر للوجوب ولفظ الحق غالب استعماله فى الواجب والإجماع على انه لا واجب فى المال الا الزكوة وفى الصحيحين عن
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 295(1/2268)
طلحة بن عبد اللّه قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسال عن الإسلام فذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكوة فقال هل على غيرها قال لا الا ان تطوع فعلى هذا القول هذه الآية مدنية وفيها حجة لابى حنيفة حيث يقول يجب الزكوة فى الثمار مثل الرمان خلافا لمالك والشافعي فانه لا يجب الزكوة عندهما الا فيما يقتات به وقد مر مسائل زكوة الزرع فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وأنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقال على بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم هو حق فى المال سوى الزكوة امر بإتيانه لان الآية مكية وفرضت الزكوة بالمدينة قال ابراهيم هو الضغث وقال الربيع لقاط السنبل أخرج ابن مردويه والنحاس فى ناسخه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذه الآية قال ما سقط من السنبل وقال مجاهد كانوا يعلقون العذق عند الصرام فياكل منه من مرّ وقال يزيد بن الأصم كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه فى جانب المسجد فيجئ المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فياخذ ويويد هذا القول حديث فاطمه بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وقد مر فى تفسير تلك الآية فى البقرة فالمراد بالحق أعم من ان يكون واجبا أو مندوبا وقال سعيد ابن جبير كان هذا حقا يومر بإتيانه فى ابتداء الإسلام فصار منسوخا بايجاب العشر قال مقسم عن ابن عباس نسخت الزكوة كل نفقة فى القرآن وَلا تُسْرِفُوا الإسراف ضد القصد كذا فى القاموس وفى الصحاح انه التجاوز عن الحد فى كل فعل قيل أراد هاهنا بالإسراف إعطاء الكل قال البيضاوي هذه الآية كقوله تعالى ولا تبسطها كل البسط قال البغوي قال ابن عباس فى رواية الكلبي عمد ثابت بن قيس بن شماس(1/2269)
فصرم خمسمائة نخلة فقسمها فى يوم واحد ولم يترك لاهله شيئا فانزل اللّه عز وجل هذه الآية وكذا أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال البغوي قال السدى لا تسرفوا أى لا تعطوا سائر أموالكم فتقعدوا فقراء قلت إعطاء الكل انما يكون إسرافا ومنهيا عنه إذا لم يوصل إلى عياله ومن له عليه حق حقوقهم كذا قال الزجاج واما بعد أداء
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 296
حقوق أهل الحقوق فاعطاء الكل فى سبيل اللّه أفضل وليس بإسراف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو كان لى مثل أحد ذهبا يسرّنى ان لا يمرّ علىّ ثلث ليال وعندى منه شىء الا شىء ارصده لدين رواه البخاري وعن(1/2270)
ابى ذر انه استاذن على عثمان فاذن له وبيده عصاه فقال عثمان يا كعب ان عبد الرحمن بن عوف توفى وترك مالا فما ترى فيه فقال إن كان يصل فيه حق اللّه فلا بأس به فرفع أبو ذر عصاه فضرب كعبا وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما أحب لو ان لى هذا الجبل ذهبا أنفقه ويتقبل منى اذر خلفى منه ست أواق أنشدك باللّه يا عثمان أسمعته ثلث مرات قال نعم رواه احمد وعن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال ما هذا يا بلال قال شىء ادخرته لغد فقال أ ما تخشى ان ترى له غدا بخارا فى نار جهنم يوم القيامة أنفق يا بلال ولا تخش من ذى العرش إقلالا رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن أبى هريرة قال يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى الصدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تعول رواه أبو داؤد وقال سعيد بن المسيب معنى لا تسرفوا لا تمنعوا الصدقة يعنى لا تجاوزوا الحد في الإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة وقال مقاتل معناه لا تشركوا الأصنام فى الحرث والانعام وقال الزهري معناه لا تنفقوا فى المعصية وقال مجاهد الإسراف ما قصرت به عن حق اللّه عز وجل وقال لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فانفقه فى طاعة اللّه لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدّا فى معصية اللّه تعالى كان مسرفا وقال إياس بن معاوية ما جاوزت به امر اللّه فهو سرف وإسراف وروى ابن وهب عن أبى زيد انه قال الخطاب فى هذه الآية للسلاطين يقول اللّه تعالى لا تأخذوا فوق حقكم فهذه الآية نظير قوله صلى اللّه عليه وسلم وإياكم وكرايم اموال الناس إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضى فعلهم(1/2271)
وَ انشأ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وهى كل ما حمل عليه من الإبل والبقر وَفَرْشاً وهى ما لا يحمل عليه من الصغار الدانية إلى الأرض كالفصال والعجاجيل والغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ امر اباحة وادخل من التبعيضية لان الرزق ليس كله ماكولا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أى طرقه فى تحليل الحرام وتحريم الحلال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 297
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من حمولة وفرشا أو مفعول كلوا ولا تتبعوا معترض بينهما أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه اخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول مِنَ الضَّأْنِ اسم جنس وهى ذات الصوف من الغنم وجمعه ضئين أو الضان جمع ضائن والأنثى ضائنة وجمعها ضوائن اثْنَيْنِ زوجين اثنين الذكر والأنثى اعنى الكبش والنعجة بدل من حمولة ان جوز تعدد البدل ومن ثمانية ان جوز البدل من البدل وَمِنَ الْمَعْزِ وهى ذات الشعر من الغنم قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بفتح العين والباقون بالإسكان وهى جمع ما عز كصحب وصاحب وقال البغوي هو جمع لا واحد له من لفظه وجمع الماعز معزى وجمع الماعزة مواعز اثْنَيْنِ الذكر والأنثى التيس والعنز قُلْ يا محمد آلذَّكَرَيْنِ اجمع القراء على ابدال الهمزة الثانية أو تسهيلها وكذا كلما دخل همزة الاستفهام على همزة الوصل نحو آللّه آلآن يعنى آلذكر من الضان والمعز حَرَّمَ أى حرمه اللّه تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما ونصب الذكرين والأنثيين بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يعنى أعم من الذكر والأنثى من الجنين نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يعنى أخبروني بامر معلوم من عند اللّه تعالى يدل على تحريم ما تحرمونه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فى دعوى التحريم(1/2272)
وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق يعنى شىء منهما لم يحرم وذلك انهم كانوا يقولون هذه انعام وحرث حجر وقالوا ما فى بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وكانوا يحرمون البحيرة والسائبة والوصيلة والحام بعضها على النساء فقط وبعضها على الرجال والنساء جميعا فلما جاء الإسلام قام مالك بن عوف أبو الأحوص الجشمي فقال يا محمد بلغنا انك تحرم أشياء مما كان ابائنا يفعلون فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انكم قد حرمتم أصنافا من النعم على غير اصل وانما خلق اللّه تعالى هذه الأصناف الثمانية للاكل والانتفاع بها فمن اين جاء هذا التحريم من قبل الذكر أم من قبل الأنثى فسكت مالك بن عوف وتحير فلو قال جاء هذا التحريم بسبب الذكورة وجب ان يحرم جميع الذكور ولو قال بسبب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 298
الأنوثة وجب ان يحرم جميع الأنثى ولو قال باشتمال الرحم وجب ان يحرم الكل فاما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو بالبعض دون البعض فمن اين هو ويروى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لمالك يا مالك لا تتكلم قال له مالك بل نتكلم واسمع منك أَمِ بل كُنْتُمْ يا أهل مكة شُهَداءَ حضورا إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم فانكم لا تؤمنون بنبي ولا كتاب لكم فلا طريق لكم إلى المعرفة الا المشاهدة والسماع فَمَنْ أَظْلَمُ يعنى لا أحد اظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فى التحريم والتحليل وغيرهما والمراد عمرو بن لحى الخزاعي ومن جاء بعده على طريقه لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ روى انهم قالوا فما المحرم إذا فنزل(1/2273)
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ وهو يعم القرآن وغيره ولا وجه لتخصيصه بالقران كيف والكلام فى رد ما يزعمون من تحريم البحائر ونحوها بغير علم وذا لا يتم الا بارادة العموم فان المقصود من هذا الكلام التنبيه ان التحريم وغيرها من الاحكام انما يعلم بالوحى دون الهوى ولا أجد هاهنا من افعال القلوب ومفعوله الأول محذوف ومفعوله الثاني قوله تعالى مُحَرَّماً واختار اكثر المفسرين تقدير طعاما محرما ليصح استثناء الخنزير منه متصلا عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ متعلق بمحرما إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً قرأ ابن عامر تكون بالتاء لتانيث الفاعل وميتة بالرفع على الفاعلية ويكون حينئذ تامة وقرأ ابن كثير وحمزة أيضا بالتاء نظرا إلى تأنيث الخبر وميتة بالنصب على الخبرية كجمهور القراء والباقون بالياء التحتانية على ان الضمير المستتر فيه راجع إلى المحذوف المقدر اعنى طعاما والمستثنى فى محل النصب على الحالية يعنى لا أجد طعاما محرما فى حال من الأحوال الا حال كونه ميتة والميتة ما فارقه الروح حتف انفه من غير فعل أحد فلا يدخل فيه الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كما يدل عليه العطف فى قوله تعالى حرمت عليكم الميتة الآية فى سورة المائدة ويدل عليه أيضا قول الكفار تزعم يا محمد ان ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتله الكلب والصقر حلال وما قتله اللّه حرام وانما تثبت حرمة الموقوذة وأخواتها بغير هذه الآيات أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أى مهراقا سائلا قال ابن عباس يريد ما خرج من الحيوان وهو حى وما خرج من الأوداج عند الذبح ولا يدخل فيه الكبد والطحال لانهما جامدان وقد جاء الشرع بإباحتهما
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 299(1/2274)
نصا واجماعا ولا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أى الخنزير لقربه رِجْسٌ أى قذر ومن هذه الآية ثبت كون الخنزير نجسا عينه ومن ثم لا يجوز بيع شىء من اجزائه ولا الانتفاع به أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ الجملة صفة لفسقا وهو معطوف على لحم خنزير وقوله فانه رجس معترض بين المعطوف والمعطوف عليه سمى اللّه سبحانه ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغله فى الفسق وجاز ان يكون فسقا مفعولا له لاهل والجملة معطوفة على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن فى يكون فَمَنِ اضْطُرَّ أى دعته الضرورة إلى تناول شىء من ذلك غَيْرَ باغٍ أى حال كونه غير باغ للذة وشهوة ولا باغ على مضطر مثله وَلا عادٍ أى متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ « 1 » لا يواخذ وقد مر مثل هذه الآية فى سورة البقرة وذكرنا ما يتعلق به هناك.
(مسئلة) ذهب بعض العلماء إلى ان التحريم مقصور على هذه الأشياء لانحصار التحريم بنص الكتاب فيها ولا يجوز نسخ الكتاب بخبر الآحاد يروى ذلك عن عائشة وابن عباس وبه قال مالك فانه يطلق الكراهة على ما سوى ذلك مما ورد النهى عنها فى الحديث قالوا ويدخل فى الميتة المنخنقة والموقوذة وما ذكر فى أوائل سورة المائدة قلت دخول الموقوذة وأخواتها فى الميتة ممنوع كما ذكرنا وقال اكثر الائمة أبو حنيفة والشافعي واحمد وغيرهم لا يختص التحريم بهذه الأشياء قال البيضاوي الآية محكمة يعنى غير منسوخة لانها تدل على انه لم يجد فيما اوحى إليه إلى تلك الغاية محرما غير هذه وذلك لا ينافى ورود التحريم فى شىء اخر فلا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد وهذا القول غير صحيح عندى فان كل اية أو سنة نطقت
_________
((1/2275)
1) قال الامام جلال الدين السيوطي فى الإتقان قال الشافعي فى هذه الآية ما معناه ان الكفار لما حرموا ما أحل اللّه وأحلوا ما حرم اللّه جاءت الآية مناقضة لغرضهم فكانه قال لا حلال الا ما حرمتموه من البحيرة والسائبة والوصيلة ونحوها يعنى من الانعام ولا حرام الا ما أحللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أحل لغير اللّه به فالاية نازلة منزلة من يقول فى جواب قول قائل لا تأكل اليوم حلاوة لا أكل اليوم الا حلاوة والغرض المصادة يعنى فى تحليل الانعام وتحريمها لا النفي والإثبات على الحقيقة قال الامام الحرمين وهذا فى غاية الحسن 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 300(1/2276)
بحكم غير مقيد بالتابيد أو التوقيت فانها مؤيدة ظاهرا نظرا إلى الاستصحاب وهو فى علم اللّه موقت ولا يكون قابلا للنسخ الا هذا القسم من النصوص فالناسخ يكون بيانا لمدة الحكم ولذا سمى النسخ بيان تبديل كيلا يلزم على اللّه البدء المستحيل وو لا شك ان هذه الآية تدل على حل ما عدا المذكورات فى هذا الوقت من غير دلالة على تابيد الحل أو كونه منتهيا إلى وقت ومن أجل ذلك كانت الآية رد التحريم البحاير وأخواتها واحتمال ورود التحريم بعد ذلك لا ينافى كون حلها حكما شرعيا ثابتا بنص الكتاب فالحكم الوارد بالسنة بعد ذلك بالتحريم يكون ناسخا للحل البتة فلا يصح ما قيل انه لا يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد فالاولى ان يقال قد لحقه التخصيص بالقطعي الوارد فى المنخنقة وأخواتها والوارد فى تحريم الخمر فانه أيضا من جنس الطعام فان قوله تعالى ليس على الذين أمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية وارد فى الخمر والعام المخصوص بالبعض يجوز تخصيصه بخبر الآحاد بل بالقياس أيضا والقول باشتراط المقارنة فى التخصيص ممنوع بل كل ما يخرج بعض الافراد عن الحكم من كلام مستقل فهو مخصص سواء كان متراخيا أو مقارنا وانما الناسخ ما سلب الحكم عن جميع الافراد ولو سلمنا هذا الاشتراط فنقول حل جميع الحيوانات الثابت بهذا النص منسوخ بتحريم الخبائث الثابت بقوله تعالى يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث لكن الطيبات والخبائث مجمل التحق أحاديث النبي صلى اللّه عليه وسلم الواردة فى تحريم السباع والحمر الاهلية وأمثالها بيانا للاية فالناسخ انما هو الكتاب للكتاب والأحاديث بيان للكتاب أو نقول الأحاديث الواردة فى تحريم السباع وغيرها وانكانت من رواية الآحاد لكن تلقتها جميع الامة بالقبول ومالك رحمه اللّه وان لم يقل بتحريم السباع وأمثالها لكنه يقول بالكراهة التحريمية عملا بتلك الأحاديث فلا شبهة(1/2277)
فى قبوله الأحاديث المذكورة فصارت الأحاديث المذكورة مجمعا عليها فجاز نسخ الكتاب بها لكونها قطعية بإجماع الامة على قبولها والاختلاف الواقع فى الضبع والثعلب واليربوع والضب لا يضرابا حنيفة فانه يقول الضبع والثعلب من السباع والضب واليربوع من الحشرات ولا خلاف فى عدم جوازا كل السباع والحشرات وانما الخلاف فى كونها من السباع والحشرات وقد ذكرنا مسائل ما يحل من الحيوانات وما يحرم فى سورة المائدة فى تفسير قوله تعالى اليوم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 301
أحل لكم الطيبات الآية (1/2278)
وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وهى كل ماله إصبع كالابل والسباع والطيور قال القتيبي هو كل ذى مخلب من الطير وكل ذى حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين سمى الحافر ظفرا على الاستعارة ولعل مسبب الظلم تعميم التحريم والا فبعضها محرم فى ملة الإسلام أيضا وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أى ما اشتمل على الظهور والجنوب أَوِ الْحَوايا عطف على ظهورهما يعنى ما اشتمل على الحوايا وهى الأمعاء جمع حاوية أو حاوياء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ يعنى شحوم الالية لاتصالها بعجب الذنب والمخ فبقى بعد الاستثناء شحوم الجوف وهى الثروب وشحوم الكلى ذلِكَ التحريم مفعول ثان لقوله تعالى جَزَيْناهُمْ عقوبة لهم بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم من قتل الأنبياء وصدهم عن سبيل اللّه وأخذهم الربوا وأكلهم اموال الناس بالباطل فان قيل من كان هذا شانه لا يبالى بأكل ما حرم عليه فاى عقوبة وضيق عليهم بالتحريم قلت لعل هذا التحريم لزيادة تعذيبهم فى الاخرة عن جابر بن عبد اللّه انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة ان اللّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل أ رأيت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح فقال لا هو حرام شحومها ثم قال رسول اللّه لعن اللّه اليهود ان اللّه لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوه فاكلوا ثمنه رواه البخاري وغيره واللّه اعلم وَإِنَّا لَصادِقُونَ فى الاخبار والوعد والوعيد(1/2279)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ يعنى اليهود فيما أوحيت إليك هذا فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بامهاله فانه لا يهمل وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا جاء وقته أو المعنى ذو رحمة واسعة للمؤمنين وذو بأس شديد للمكذبين المجرمين فاقام مقامه ولا يرد بأسه للدلالة على انه لازم بهم لا يمكن رده عنهم
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا اخبار عن مستقبل ففيه اعجاز فانه اخبار عن غيب وقع بعد ذلك وانهم لما لزمتهم الحجة وعجزوا عن جوابها استدلوا على كون ما هم عليهم مشروعا مرضيا للّه تعالى بانه لَوْ شاءَ اللَّهُ خلاف ما نحن عليه ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ مما حرمناه يعنى ان اللّه قادر على ان يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 302
لا نفعله فلو لا انه رضى بما نحن عليه وأراد منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك وهذا الاستدلال مبنى على جهلهم وعدم تفرقهم بين المشية بمعنى الارادة وبين الرضا فان إرادته تعالى متعلق بالخير والشر ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لا يكون وانه تعالى لا يرضى لعباده الكفر كَذلِكَ أى مثل ما كذبوك فى ان اللّه منع من الشرك ولم يرض به ولم يحرم ما حرّموه كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ رسلهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا الذين أنزلنا عليهم بتكذيبهم قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ مستنبط من كتاب أو حجة يفيد العلم بانه تعالى راض عن الشرك وحرم ما حرموه أو المراد بالعلم امر معلوم يصح الاحتجاج به على ما زعموا فَتُخْرِجُوهُ لَنا ولتظهروا ما أفادكم ذلك العلم وليس الأمر كذلك ولا يقولون انهم يقولون عن علم إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ الحاصل بتقليد الآباء وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون واللّه اعلم(1/2280)
قُلْ يا محمّد فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التامة عليكم باوامره ونواهيه ولا حجة لكم بمشيته فان مشيته لا يلازم رضاه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد على مقتضى حكمته لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون احتج المعتزلة بهذه الآية على ان الكفر ليس بمشية اللّه تعالى وإرادته والا لما عابهم اللّه تعالى على قولهم لو شاء اللّه ما أشركنا ولما كذبهم الله فى هذا القول وبما ذكرنا لك من التفسير ظهر بطلان احتجاجهم بها وان اللّه تعالى لم يكذبهم فى هذا القول بل قولهم هذا يوافق قوله تعالى فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ولم يقل اللّه تعالى انكم كاذبون فى هذا القول بل عابهم على تكذيبهم الرسل فى ان اللّه تعالى ليس براض بالكفرناه عنه ولم يحرم ما يقولونه حراما وعابهم على زعمهم ان تحريمنا البحائر وأشباهها لما كان بمشية اللّه فهو راض عن ذلك التحريم وان اللّه حرم هذه الأشياء حيث قال اللّه تعالى
قُلْ يا محمد هَلُمَّ اسم فعل غير منصرف يقال للواحد والتثنية والجمع عند أهل الحجاز ومعناه احضروا شُهَداءَكُمُ أى قدوتكم فى هذا القول استحضرهم ليلزم هم الحجة بأجمعهم ويظهر ضلالتهم وانه لا متمسك لهم كمن يقلدهم ولذلك قيد الشهداء بالاضافة إليهم ووصفهم بقوله الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي زعموه محرما فَإِنْ شَهِدُوا بالباطل فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أى لا تصدّقهم وبيّن لهم فسادها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 303
بِآياتِنا
كان الأصل لا تتبع أهواءهم وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره من الأصنام ونحوها ولما سال المشركون النبي صلى اللّه عليه وسلم عما حرمه اللّه تعالى بعد ظهور بطلان قولهم فى التحريم قال اللّه تعالى(1/2281)
قُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التعالي وأصله فيمن كان فى علو يقول لمن كان فى سفل ثم اتسع فيه بالتعميم أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ما موصولة أو مصدرية منصوبة باتل أو استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول اتل يعنى اتل أى شىء حرم ربكم عَلَيْكُمْ متعلق بحرم أو اتل اسم فعل للاغراء بمعنى الزموا أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ ان مصدرية على تقدير كون عليكم بمعنى الزموا والا فمفسرة بفعل التلاوة يعنى اتل عليكم لا تشركوا وجاز ان يكون مصدرية فى محل الرفع تقديره المتلو ان لا تشركوا أو فى محل النصب تقديره أوصيكم ان لا تشركوا ويؤيد هذا التقدير قوله تعالى ذلكم وصيكم وان يكون ان مصدرية ولا زائدة ومحلها النصب على انه بدل من الموصول أو من عائده المحذوف وتقديره حرم عليكم ان تشركوا أو محلها الرفع تقديره المحرم ان تشركوا به شَيْئاً من الإشراك جليا ولا خفيا أو شيئا من الالهة الباطلة وَأحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً معطوف على لا تشركوا وضع الأمر موضع النهى عن الاساءة إليهما للمبالغة والدلالة على ان ترك الاساءة فى شانهما غير كاف وترك الإحسان بهما اساءة وان كان لا فى لا تشركوا زائدة فالتقدير حرم عليكم ان تشركوا وان تسيئوا بالوالدين بل أحسنوا إحسانا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ « 1 » يعنى لا تئدوا البنات مِنْ خشية إِمْلاقٍ فقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فى حديث معاذ أوصاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعشر كلمات قال لا تشرك باللّه وان قتلت وحرقت ولا تعقن والديك وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك الحديث رواه احمد
_________
((1/2282)
1) عن على بن أبى طالب قال لما امر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم ان يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى منى وانا معه وأبو بكر وكان أبو بكر رجلا نسابة فوقف على منازلهم ومضاربهم بمنى فسلم عليهم وردوا السّلام وكان فى القوم مغروق بن عمر وهانى بن قبيصة والمثنى بن حادثة والنعمان ابن شريك وكان اقرب القوم إلى أبى بكر مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا فالتفت إلى رسول اللّه عليه وسلم فقال إلى ما تدعونا يا أخا قريش فتقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أدعوكم إلى شهادة ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له وانى رسول اللّه ولا توذونى وتضربونى وتمنعونى حتى أؤدي عن اللّه الذي أمرني به فان قريشا قد تظاهرت على امر اللّه وكذبت رسوله واعانت الباطل على الحق واللّه هو الغنى الحميد قال له والى ما تدعونا أيضا يا أخا قريش فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ان لا تشركوا به شيئا إلى قوله تتقون قال له مفروق والى ما تدعونا أيضا يا أخا قريش فو اللّه ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم لعرفناه فتلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يأمر بالعدل والإحسان الآية فقال له مفروق دعوت واللّه يا قرشى فى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد افك قومك كذبوك وظاهروا عليك وقال هانى بن قبيصة قد سمعتك مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به ثم قال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لن تلبثوا الا يسيرا حتى يمنحكم اللّه بلادهم وأولادهم يعنى ارض فارس وانهار كسرى ويفرشكم نباتهم تسبحون اللّه وتقدسونه قال له النعمان بن شريك اللهم وانى ذلك لك يا أخا قريش فتلا له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى اللّه باذنه وسراجا منيرا ثم نهض رسول(1/2283)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم قابضا على يد أبى بكر 12 [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 304
و فى حديث ابن مسعود قال قال رجل يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى الذنب اكبر عند اللّه قال ان تدعو للّه ندا وهو خلقك قال ثم أى قال ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك الحديث متفق عليه وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب والزنا ما ظَهَرَ مِنْها من افعال الجوارح علانية وَما بَطَنَ يعنى افعال الجوارح سرا وافعال القلوب من النفاق وغيره ورذائل النفس قوله ما ظهر وما بطن بدل من الفواحش وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتله من مومن أو معاهد أَلَّا قتلا متلبسا بِالْحَقِّ أى بحق يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا بعد إحصان أو نقض عهد أو بغى أو قطع طريق عن عبد اللّه بن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل دم امرئ يشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه الا بإحدى ثلث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة رواه البغوي وقال اللّه تعالى وان نكثوا ايمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا ائمة الكفر الآية وقال اللّه تعالى فان بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغى وقال اللّه تعالى انما جزاء الذين يحاربون اللّه الآية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 305
ذلِكُمْ من الأوامر والنواهي وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم بحفظه لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون فان كمال العقل هو الرشد وضده السفه
وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ
فضلا من ان تأكلوه أو تضيعوه بفعله إِلَّا بِالَّتِي
اى بالفعلة التي هِيَ أَحْسَنُ
ما يفعل بماله من حفظه وتثميره وصلاحه قال مجاهد هى التجارة فيه حَتَّى يَبْلُغَ
اليتيم أَشُدَّهُ(1/2284)
جمع شد كفلس وأفلس يعنى صفات كماله من البلوغ والرشد بعد البلوغ المنافى للسفه وقيل هى مفرد بمعنى كماله هذا القيد خرج مخرج العادة تأكيدا لا مفهوم له عند أحد فانه كان معتاد أهل الجاهلية التصرف فى ماله من ايام صباه حتى يبلغ أشده فإذا بلغ أشده منع غيره من ماله فقال اللّه تعالى لا تقربوا مال اليتيم فى شىء من زمان صباه واما بعد ذلك فلا يمكن لكم التصرف فيه لاجل ممانعته وقال البغوي تقدير الآية لا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هى احسن ابدا حتى يبلغ أشده فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا قلت وجاز ان يكون غاية للمستثنى يعنى افعلوا بما له الفعلة التي هى احسن حتى يبلغ أشده وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتسوية وضع الأمر موضع النهى يعنى لا تنقصوا المكيال والميزان لكمال الاهتمام فى الإيفاء فان النهى يقتضى الأمر بضده التزاما والاهتمام فى المطابقة واللّه اعلم لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها(1/2285)
اى الا ما يسعها ولا يعسر عليها ذكر هذه الجملة بعد الأمر بالإيفاء بالقسط اشارة إلى ان الأفضل ان يعطى من عليه الحق اكثر وأفضل مما وجب عليه تجوز أو أخرج ابن مردويه بسند ضعيف من مرسل سعيد بن المسيب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اوفى على يده والميزان واللّه يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يواخذ وذلك تاويل وسعها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى أداء ثمن فرس وجب عليه زن وأرجح رواه احمد وأبو داؤد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن سويد بن قيس وفى الصحيحين عن أبى هريرة ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم يتقاضاه فاغلظ له فهم به بعض أصحابه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دعوه فان لصاحب الحق مقالا ثم قال أعطوه سنا مثل سنه قالوا يا رسول اللّه لا نجد الا أمثل من سنه قال أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء وهو عند مسلم من حديث أبى رافع بمعناه وعن أبى هريرة قال اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم برجل يتقاضاه قد استسلف منه شطر وسق فاعطاه وسقا فقال نصف وسق
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 306(1/2286)
لك ونصف وسق من عندى ثم جاء صاحب الوسق يتقاضاه فاعطاه وسقين فقال وسق لك ووسق من عندى رواه الترمذي وسنده لا بأس به وكذا الأفضل ان يرضى صاحب الحق من حقه سماحة عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رحم اللّه رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى رواه البخاري لكن اللّه سبحانه لم يوجب إعطاء اكثر مما وجب عليه ولا الرضا باقل مما له تفضلا فان ذلك شاق على النفوس وذلك قوله تعالى لا يكلف اللّه نفسا الا وسعها وهذه الأحاديث يؤيد مذهب الشافعي حيث قال ان اهدى المستقرض إلى المقرض شيئا أو حمله على دابة أو اسكنه فى داره ولم يكن ذلك عادة بينهما أو اعطى اكثر مما أخذ منه أو أجود يجوز ذلك ان كان بغير شرط سبق خلافا للائمة الثلاثة فان ذلك يكره عندهم ولا يحل له أخذ ذلك وقد مر المسألة فى سورة البقرة فى تفسير اية المداينة وَإِذا قُلْتُمْ
فى الحكم أو الشهادة فَاعْدِلُوا
فيه وَلَوْ كانَ
المقول له أو عليه ذا قُرْبى
لكم هذا أيضا امر وضع موضع النهى عن الجور والكذب تأكيدا فى العدالة حتى لا يجوز الشهادة على الظن والتخمين بل على كمال العلم كما يدل عليه لفظة الشهادة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلث مرات ثم قرأ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء للّه غير مشركين به رواه أبو داؤد وابن ماجة عن خريم بن فاتك واحمد والترمذي عن ايمن بن خريم الا ان ابن ماجة لم يذكر القراءة وعن بريدة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القضاة ثلثة واحد فى الجنة واثنان فى النار فاما الذي فى الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى النار ورجل قضى للناس
على جهل فهو فى النار رواه أبو داؤد وَبِعَهْدِ اللَّهِ
يعنى بما عهد إليكم من ملازمة العدل وتادية احكام الشرع من الأوامر والنواهي أو بالنذر واليمين أَوْفُوا(1/2287)
هذا أيضا امر فى موضع النهى تأكيدا يعنى لا تنقضوا عهد اللّه بعد ميثاقه ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ومقتضى التأكيد والمبالغة فى إتيان الأوامر والنواهي ان يجتنب الشبهات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع فى المشتبهات وقع فى الحرام كراع يرحى حول الحمى يوشك ان يوقعه الحديث متفق عليه من حديث النعمان بن بشير وروى الطبراني فى الصغير بسند
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 307
صحيح عن عمر مرفوعا الحلال بين والحرام بين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ذلِكُمْ
ما ذكر وَصَّاكُمْ
أمركم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال حيث وقع فى القرآن إذا كان بالتاء الفوقانية بحذف احدى التاءين من التفعل والباقون بتشديد الذال وأصله تتذكرون(1/2288)
وَ أَنَّ هذا قرأ حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بفتح الهمزة لكن قرأ ابن عامر ويعقوب بإسكان النون على انها محففة من المثقلة واسمه ضمير الشان محذوف والباقون بالتشديد قال الفراء تقديره واتل عليكم ان هذا صِراطِي قرأ ابن عامر بفتح الياء والباقون بإسكانها مُسْتَقِيماً حال من الصراط والعامل معنى الاشارة يعنى ان هذا الذي ذكر فى جمع السورة من التوحيد والنبوة والشرائع طريقى ودينى قلت وجاز ان يكون ان فى محل الجر عطفا على الضمير المجرور فى وصيكم به يعنى ووصيكم بان وقال البيضاوي بتقدير اللام على انه علة لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ وقيل المشار إليه بهذا ما فى هذه الآيات قال البغوي هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شىء وهن محرمات فى جميع الشرائع على بنى آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أى الطرق المختلفة على حسب الأهواء فان مقتضى الشرع اتباع الكتاب والسنة فيما أدركه العقل وفيما لم يدركه ومقتضى اتباع الآراء الفاسدة انه ان وافقها الكتاب والسنة قبلوهما وان خالفها اوّلوا الكتاب واتبعوا الأهواء وهذا منشأ اختلاف الشيع فصارت روافض وخوارج ومجسمة وجبرية وقدرية وغيرهم وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا اظلم عليهم قاموا فَتَفَرَّقَ تلك السبل بِكُمْ ويزيلكم عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو اتباع الوحى ذلِكُمْ الاتباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الضلال والتفرق عن الحق عن عبد اللّه بن مسعود قال خط لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خطا ثم قال هذا سبيل اللّه ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ ان هذا صراطى مستقيما فاتبعوه الآية رواه احمد والنسائي والدارمي وعن عبد اللّه بن عمر وقال قال رسول اللّه(1/2289)
صلى اللّه عليه وسلم لا يومن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به رواه البغوي فى شرح السنة وقال النووي فى اربعينه هذا حديث صحيح
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 308
عطف على وصيكم وثم للتراخى فى الاخبار يعنى ثم أخبركم انا اتينا موسى الكتاب أو للتفاوت فى الرتبة كأنَّه قيل ذلكم وصّاكم به قديما وحديثا ثم أعظم من ذلك انا اتينا موسى الكتاب أو عطف على قل بتقدير قل يعنى ثم قل اتينا موسى الكتاب أو يقال ثم مع الجملة يأتي بمعنى الواو كما فى قوله تعالى ثم اللّه شهيد قلت ويمكن ان يقال ان قوله تعالى وصيكم خطاب للناس أجمعين من لدن آدم عليه السلام إلى الان تغليبا للحاضرين على الغائبين وثم للتراخى فى الحكم والمعنى وصيناكم أيها الناس من بدو خلقكم بما ذكرنا من الشرائع فانها لم تزل فى جميع الشرائع ثم اتينا موسى الكتاب وشرعنا فيه احكاما اخر تَماماً للنعمة والكرامة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ القيام بالشرائع المتقدمة واما من لم يؤمن باللّه وحده ولم يأت بالشرائع المذكورة فلا انتفاع له بالتورية ولا بالقران ولم يتم النعمة والمراد بالذي احسن موسى عليه السلام يعنى تماما عليه النعمة وقيل الذي احسن بمعنى من احسن يعم الواحد والجميع يعنى تماما على من احسن من قوم موسى يدل عليه قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا وقال أبو عبيدة معناه على كل من احسن يعنى اتممنا فضل موسى بالكتاب على المحسنين يعنى أظهرنا فضله عليهم والمحسنون الأنبياء وَتَفْصِيلًا بيانا مفصلا لِكُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه فى الدين وهو عطف على تماما ونصبهما مع ما عطف عليهما للعلية أو الحالية أو المصدرية وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ أى الناس فى زمن موسى يعنى بنى إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أى بالبعث والثواب والعقاب يُؤْمِنُونَ وَهذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ عليك بعد موسى مُبارَكٌ اكثر خيرا وبركة من التورية(1/2290)
لوجازة نظمه وكثرة علومه وكونه بمنزلة المركز من المحيط للدائرة فَاتَّبِعُوهُ فى نسخ احكام التورية وَاتَّقُوا عذاب اللّه فى مخالفته لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ باتباعه
أَنْ تَقُولُوا خطاب لاهل مكة يعنى لئلا تقولوا أو كراهة ان تقولوا علة لانزلناه وقال الكسائي معناه واتقوا ان تقولوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعنى اليهود والنصارى والاختصاص بانما لان الباقي المشهور من الكتب السماوية حينئذ لم يكن غير التورية والإنجيل وَإِنْ مخففة من الثقيلة ولذا دخلت اللام الفارقة فى خبرها كُنَّا يعنى وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم لَغافِلِينَ لم تعرف الشرائع لكوننا أمة أميين فبعث اللّه محمّدا صلى اللّه عليه وسلم وانزل القرآن ليكون حجة على الكافرين من أهل مكة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 309
و يزيل اعتذارهم ويكون رحمة للعالمين
أَوْ تَقُولُوا عطف على الأول يعنى أو كراهة ان تقولوا لَوْ ثبت أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما انزل على من قبلنا لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ قال البغوي وقد قال جماعة من الكفار لو انا انزل علينا كما انزل على اليهود وا النصارى لكنا خيرا منهم قال اللّه تعالى فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجة واضحة بلغة تعرفونها وتعجزون عن إتيان اقصر سورة مثلها وَهُدىً بيانا لمن تأمل فيها وَرَحْمَةٌ نعمة لمن عمل بها جزاء شرط محذوف يعنى ان صدقتم فيما قلتم فقد جاءكم ما تمنيتم مع وضوح كونه حجة ساطعة وبرهانا قاطعا فَمَنْ يعنى لا أحد أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد وضوح كونها من اللّه وبعد تمنى مجيئها وَصَدَفَ يعنى اعرض أو صد عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وضع الظاهر موضع المضمر للمبالغة فى ذمهم سُوءَ الْعَذابِ أى شدته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أى باعراضهم أو صدهم(1/2291)
هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام للانكار أى ما ينتظرون أهل مكة لايمانهم بالقران إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ قرأ حمزة والكسائي بالياء التحتانية هاهنا وفى النحل على التذكير والباقون بالفوقانية لكون الفاعل مؤنثا غير حقيقى الْمَلائِكَةُ يعنى ملئكة الموت أو ملئكة العذاب أو ملئكة يشهدون عيانا بصدق الرسول وحقية القرآن والحاصل انهم لما لم يؤمنوا بعد مجئ ما كانوا يتمنون مجيئه وبعد وضوح امره وسطوع برهانه فلعلهم ينتظرون إتيان الملئكة حتى يومنوا حينئذ مع ان الايمان فى تلك الحالة غير مفيد وقال البيضاوي معناه ما ينتظرون الا إتيان الملئكة شبهوا بالمنتظرين لما كان يلحقهم لحوق المنتظر وجاز ان يكون المراد بإتيان الملئكة نزولهم يوم القيامة فى الموقف كما يدل عليه قوله تعالى أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بلا كيف لفصل القضاء بين خلقه فى موقف القيامة وقد مر نظير هذه الآية فى سورة البقرة هل ينظرون الا ان يأتيهم اللّه فى ظلل من الغمام والملئكة وقضى الأمر وقد مر تفسيره وما فيه خلاف السلف والخلف وما يليق ويتعلق به من الكلام هناك فليرجع إليه أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعنى اشراط الساعة قال البغوي يعنى طلوع الشمس من مغربها وعليه اكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا « 1 »
_________
(1) عن ابن عباس قال خطبنا عمر فقال أيها الناس ستكون قوم من هذه الامة يكذبون بالرجم ويكذبون بالدجال ويكذبون بطلوع الشمس من مغربها ويكذبون بعذاب القبر ويكذبون بالشفاعة ويكذبون بقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا 12 منه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 310
((1/2292)
فصل) فى اشراط الساعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال اطلع النبي صلى اللّه عليه وسلم ونحن نتذاكر فى الساعة فقال انها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج وماجوج وثلث خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب واخر ذلك نار يخرج من اليمن يطرد الناس إلى محشرهم وفى رواية نار يخرج من قعر عدن يسوق الناس إلى المحشر وفى رواية العاشر ريح تلقى الناس فى البحر رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمر وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى وأيهما كانت قبل صاحبتها فالاخرى على اثرها قريبا رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدجال فقال ان يخرج وانا فيكم فانا حجيجه دونكم وان يخرج ولست فيكم فامرء حجيج نفسه واللّه خليفتى على كل مسلم انه شاب قطط عينه طافية كانى أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف فانها جواركم من فتنته انه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد اللّه فاثبتوا قلنا يا رسول اللّه وما لبثه فى الأرض قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وساير أيامه كايامكم قلنا فذلك اليوم الذي كسنة أ يكفينا فيه صلوة يوم قال لا اقدروا له قدره قلنا يا رسول اللّه وما اسراعه فى الأرض قال كالغيث استدبرته الريح فياتى على القوم فيدعوهم فيؤمنون به فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرعا واسبغه ضروعا وامده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف منهم فيصبحون محلين ليس بايديهم شىء من أموالهم ويمر بالخرية فيقول بها اخرجى كنوزك فتتبعه كنوزها كيعا سيب النحل ثم يدعو رجلا ممتليا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه(1/2293)
جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث اللّه المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقى دمشق بين مهروذتين واضعا كفيه على اجنحة ملكين إذا طاطأ راسه قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان « 1 » كاللؤلؤء فلا يحل لكافر يجد من ريح نفسه إلا مات ونفسه
_________
(1) حب يتخذ من الفضة 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 311(1/2294)
ينتهى حيث ينتهى طرفه فيطلبه حتى يدركه بباب لدّ فيقتله ثم يأتي عيسى قوم قد عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجات فى الجنة فبينما هو كذلك إذ اوحى اللّه إلى عيسى انى قد أخرجت عبادا لى لا يدان لاحد لقتالهم فحرز عبادى إلى الطور ويبعث اللّه يأجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمر اوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس فيقولون لقد قتلنا من فى الأرض هلم فلنقتل من فى السماء فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد اللّه عليهم نشابهم مخضوبة دما ويحصر نبى اللّه وأصحابه حتى يكون راس الثور لاحدهم خيرا من مائة دينار لاحدكم اليوم فيرغب نبى اللّه عيسى وأصحابه فيرسل اللّه عليهم النغف فى رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ثم يهبط نبى اللّه عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فى الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم « 1 » ونتنهم فيرغب نبى اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه فيرسل اللّه طيرا كاعناق البخت فيحملهم فيطرحهم حيث شاء اللّه وفى رواية فيطرحهم فى النهبل « 2 » ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ثم يرسل اللّه مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة « 3 » ثم يقال للارض أنبتي ثمرتك وردى بركتك فيومئذ يأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك فى الرسل حتى ان اللقحة من الإبل لتكفى القيام من الناس واللقحة من البقر لتكفى القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفى الفخذ من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه ريحا طيبة فتاخذهم تحت اباطهم فيقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون يختلطون منها تهارج الحمر فعليهم يقوم الساعة رواه مسلم الا الرواية الثانية وهى قوله يطرحهم بالنهبل إلى قوله سبع سنين رواه الترمذي وعن حذيفة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الدجال(1/2295)
يخرج وان معه ماء ونار فاما الذي يراه الناس ماء فنار يحرق واما الذي يراه الناس نارا فماء بارد عذب فمن أدرك ذلك منكم فليقع فى الذي يراه نارا فانه ماء عذب طيب متفق عليه وزاد مسلم وان الدجال
_________
(1) فرسى قتلى زهم رائحة اللحم 12
(2) قال صاحب القاموس فى الترمذي فى حديث الدجال فيطرحهم بالنهبل وهو تصحيف والصواب بالميم 12
(3) الزلفة جمعها زلف مصانع الماء وقيل الروضة 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 312
ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل مؤمن كاتب وغير كاتب وفى الصحيحين من حديث أبى هريرة انه يجئ ومعه مثل الجنة والنار فالتى يقول انها الجنة هى النار وكذا عند مسلم من حديث حذيفة وفى حديث أبى سعيد عند مسلم إذ راه يعنى الدجال المؤمن قال يا أيها الناس هذا الدجال الذي ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأمر الدجال فيوشر بالميشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه ثم يمشى الدجال بين القطعتين ثم يقول قم فيستوى قائما ثم يقول أ تؤمن بي فيقول ما ازددت منك الا بصيرة الحديث وفى حديث اسماء بنت يزيد رواه احمد ان من أشد فتنة الدجال انه يأتي الاعرابى فيقول ارايت ان أحييت لك إبلك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشياطين نحو ابله كاحسن ما يكون ضروعا وأعظمه اسمنة ويأتي الرجل قد مات اخوه ومات أبوه فيقول ارايت ان أحييت لك أباك وأخاك الست تعلم انى ربك فيقول بلى فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه الحديث.
((1/2296)
فصل) ويكون قبل تلك الآيات ظهور المهدى عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول اللّه ذلك اليوم حتى يبعث اللّه فيه رجلا منى أو من أهل بيتي يواطى اسمه اسمى واسم أبيه اسم أبى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا وروى الترمذي بلفظ لا يذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي اسمه اسمى وعن أم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هاربا إلى مكة فياتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام ويبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا راى الناس ذلك أتاه ابدال الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه ثم ينشا رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثا فيظهرون عليهم ذلك بعث كلب ويعمل فى الناس بسنة نبيهم ويلقى الإسلام بجرانه فى الأرض فيلبث سبع سنين ثم يتوفى ويصلى عليه المسلمون رواه أبو داؤد وروى أبو داؤد عن على انه نظر إلى ابنه الحسن وقال ان ابني هذا سيد كما سماه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه فى الخلق ولا يشبهه فى الخلق يملأ الأرض عدلا وعن أبى سعيد فى قصة المهدى قال فيجئ رجل فيقول يا مهدى أعطني أعطني قال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 313(1/2297)
فيحثى له فى ثوبه ما استطاع ان يحمله رواه الترمذي وعند الحاكم فى المستدرك يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض لا يدع السماء من قطرها شيئا إلا صبته مدرارا ولا يدع الأرض من نباتها شيئا الا أخرجته حتى يتمنى الاحياء الأموات يعيش فى ذلك سبع سنين أو ثمان أو تسع يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ كالمحتضر إذا صار الأمر عيانا والايمان واجب بالغيب لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ الجملة صفة لنفس أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على امنت احتج بهذه الآية من لم يعتبر الايمان المجرد عن العمل لان معنى الآية انه لا ينفع الايمان حينئذ نفسا لم يؤمن قبل ذلك اليوم ولا نفسا لم تكسب قبل ذلك اليوم خيرا فى إيمانها قلنا هذه الآية لا تدل على عدم نفع ايمان من لم يكسب فيه خيرا مطلقا بل على عدم نفع إيمانه فى ذلك اليوم خاصة وأيضا أحد الامرين على التنكير إذا جاءت فى حيز النفي يعم الامرين كما فى قوله تعالى لا تطع منهم اثما أو كفورا يعنى لا تطع اثما ولا كفورا فمعنى الآية لا ينفع الايمان نفسا لم تومن ولم تكسب فيه خيرا وقال البغوي معنى الآية لا يقبل حينئذ ايمان كافر ولا توبة فاسق فالمراد بالايمان فى إيمانها التوبة بعموم المجاز فانه يشتمل التوبة عن الكفر والتوبة عن المعاصي قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم يطلع الشمس من قبله وذلك قوله تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل رواه الترمذي وابن ماجة من حديث صفوان بن عسال وروى مسلم من حديث أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وروى مسلم من حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه(1/2298)
عليه وسلم من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه وروى احمد وأبو داؤد والدارمي عن معاوية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا ينقطع الهجرة حتى ينقطع التوبة ولا ينقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها هذه الأحاديث تدل على ان المراد بالايمان فى قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها التوبة وقد ورد الأحاديث بلفظ الايمان من غير لفظ التوبة منها ما روى البغوي بسنده عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 314
من مغربها فإذا طلعت وراها الناس أمنوا أجمعون وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا وروى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و
سلم ثلث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خير الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها وتاويل هذه الأحاديث لا يكون الا ان يقال معناه لا ينفع نفسا لم تكن امنت من قبل وكسبت فى إيمانها خيرا إيمانها أى تحصيل الايمان فى ذلك اليوم بعد ما لم يكن.
(فائدة) ولعل قوله تعالى لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن امنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا تدل على ان من كان كافرا قبل ذلك لا يقبل إيمانه بعد ذلك واما من ولد بعد ذلك أو أدرك العقل والبلوغ بعد ذلك وأمن فالظاهر انه يقبل إيمانه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى فاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين أبى بكر وعمر رواه ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن ابن عمر قُلِ انْتَظِرُوا يا أهل مكة إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم يعنى حينئذ لنا الفوز وعليكم العذاب(1/2299)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ قرأ حمزة والكسائي فارقوا من المفاعلة يعنى خرجوا من دينهم وتركوه والباقون فرقوا من التفعيل يعنى أمنوا ببعض وكفروا ببعض أو المعنى انهم صاروا فرقا مختلفة قال مجاهد وقتادة والسدى هم اليهود والنصارى تهود قوم وتنصر قوم وكان دين واحدا وهذا ليس بسديد لان تهودهم ابتنى على بعثة موسى ومجيئه بشرع جديد وتنصر آخرين على بعثة عيسى وكان اصول دين اليهود والنصارى واحدا هى اصول دين ابراهيم وانما كفر يهود بانكارهم نبوة عيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وكفر نصارى بانكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وذا ليس بمراد من هذه الآية بل المراد هاهنا تخليطهم فى دينهم ما ليس منه باهوائهم وإغواء الشيطان فالذين افترقوا فى دينهم يعم الذين اتبعوا اهوائهم من الأمم السابقة ومن اصحاب البدع والأهواء من هذه الامة عن عبد اللّه بن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لياتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان من كان منهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 315(1/2300)
اتى امه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفرق أمتي على ثلث وسبعين ملة كلهم فى النار إلا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه وأصحابي رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داؤد عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة وانه سيخرج فى أمتي أقوام يتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه زق ولا مفصل إلا دخله وفى رواية من حديث أبى هريرة افترقت اليهود احدى وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم فى الهاوية الا واحدة وتفترق أمتي على ثلث وسبعين فرقة كلها فى الهاوية الا واحدة رواه أبو داؤد والترمذي وصححه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه قال البغوي روى عن عمر بن الخطاب ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعائشة يا عائشة ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم اصحاب البدع واصحاب الأهواء من هذه الامة أخرجه الطبراني وغيره بسند جيد واخرج الطبراني بسند صحيح عن أبى هريرة عنه صلى اللّه عليه وسلم نحوه وعن العرباض بن سارية قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم ثم اقبل بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل يا رسول اللّه كانّ هذا موعظة مودع فاوصنا فقال أوصيكم بتقوى اللّه والسمع والطاعة وان كان عبدا حبشيا فان من يعشى منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة رواه احمد وأبو داؤد والترمذي وابن ماجة الا انهما لم يذكرا الصلاة وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتبعوا السواد الأعظم ومن شذ شذ فى النار ذكره صاحب المصابيح ورواه ابن ماجة عن انس وعن ابن(1/2301)
عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا يجمع أمتي على ضلالة ويد اللّه على الجماعة ومن شذ شذ فى النار رواه الترمذي وعن معاذ ابن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياكم والشعاب وعليكم بالجماعة وو العامة وعن أبى ذر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد وأبو داؤد والجماعة جماعة الصحابة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 316
و من تبعهم اعلم ان اللّه تعالى بعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم وأعطاه كتابه ومثله معه من العلم بالوحى الغير المتلو ومن الكتاب نصوص محكمات لا شبهة فى مرادها واخر خفيات مرادها ومشكلات ومجملات ومتشابهات التزم اللّه سبحانه على نفسه بيانها للنبى صلى اللّه عليه وسلم حيث قال ثم ان علينا بيانه ثم علم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما علمه اللّه أصحابه وعلموه حتى انتهى إلينا فسعادة ابن آدم ان يتبع كتاب اللّه وسنة(1/2302)
رسوله واجماع الصحابة والتابعين ويتبع فى تاويل ما خفى مراده من الكتاب والسنة ما اختاره الصحابة من التأويل واما أهل الأهواء اتبعوا عقولهم وأهواءهم فما وافق من الكتاب آرائهم أخذوه وأمنوا به وما لم يصاعده عقولهم أنكروه وكفروا به فانكروا روية اللّه سبحانه فى الاخرة وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط والحساب وكون كلام اللّه غير مخلوق وغير ذلك مما نطق به الكتاب والسنة واجمع عليه الصحابة ففارقوا دينهم وفرقوا كتاب اللّه أمنوا ببعضه وكفروا ببعضه هذا طريق المعتزلة وكثير منهم وقالوا بوجوب الأصلح على اللّه سبحانه وامتناع المغفرة وأنكروا القدر وقالوا ان العبد خالق لافعاله دون اللّه تعالى ولذلك سموا بمجوس هذه الامة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القدرية مجوس هذه الامة ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تشهدوهم رواه احمد وأبو داؤد من حديث ابن عمر وقال عليه السلام صنفان من أمتي ليس لهما فى الإسلام نصيب المرجئة والقدرية رواه الترمذي وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة لعنتهم لعنهم اللّه وكل نبى يجاب الزائد فى كتاب اللّه والمكذب بقدر اللّه والمتسلط بالجبروت ليعز من اذله اللّه ويذل من أعزه اللّه والمستحل لحرم اللّه والمستحل من عترتى ما حرم اللّه والتارك لسنتى رواه البيهقي فى المدخل ورزين فى كتابه قلت الزائد فى كتاب اللّه الروافض يزعمون غير ما بين فى المصحف قرانا ويحكمون ان الصحابة أخرجوه من القرآن ولا يومنون بقوله تعالى انا له لحافظون والمكذب بقدر اللّه القهرية والمستحل من عترته صلى اللّه عليه وسلم الخوارج والتارك لسنة سائر المبتدعة ومن أهل الهواء من اتبع متشابهات الكتاب بناء على زيغ فى قلوبهم ولم يقتفوا السلف فى تأويلها والايمان بها وذلك داب المجسمة والمشبهة وأمثالهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 317(1/2303)
و اما الروافض ففارقوا دينهم بالكلية فان الدين مستفاد من الكتاب والسنة والإجماع فهم تركوا كتاب اللّه وأنكروا الوثوق عليه حيث قالوا ان عثمان حذف من القرآن قريبا من الربع وزاد فيه ما زاد وتركوا سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث ادعوا كفر جميع الصحابة وارتدادهم ولا سبيل إلى معرفة الأحاديث الا بالسمع ولا يتصور السمع الا بتوسط الصحابة وأنكروا اجماع الصحابة وبنوا دينهم على مفتريات مزخرفات نسبوه إلى الائمة جعفر الصادق ومحمد الباقر وابائه الكرام ولما ثبت بالتواتر اثار الائمة مطابقا لاثار الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين ادعوا افتراض التقية وقالوا كان ظاهر كلام الائمة مبنيا على التقية وما وصل إلينا علموا أسلافنا سرّا مختفين قائلين لا تفشوا هذه الاسرار فان للجدران أذان وأنت تعلم ان ما كان مرويا على سبيل الإخفاء والاسرار لا يحتمل الشهرة والتواتر وان اخبار الآحاد وإن كان من الثقات لا يفيد العلم الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا كيف إذا كان روات الاخبار احادا من الكذابين الا بالسنة مثل عبد اللّه بن سبا يهودى المنافق وهشام بن سالم وهشام بن حكم وزيد بن جهيم الهلالي وشيطان الطاق وديك الجن الشاعر وغيرهم ذكرنا أحوالهم واحوال غيرهم من رجال الروافض فى السيف المسلول فلعل من اعجاز القرآن الاشارة إلى فرق الروافض الذين يسمون أنفسهم شيعة بقوله تعالى وَكانُوا شِيَعاً أى فرقا تشيع كل فرقة منهم اماما على زعمهم عن على عليه السّلام قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيك مثل من عيسى أبغضه اليهود حتى بهتوا امه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له ثم قال على يهلك فىّ رجلان محب مفرط يفرطنّنى بما ليس فى ومبغض يحمله شنآنى على ان يبهتنى رواه احمد وعن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكون فى أمتي قوم يسمعون الرافضة يرفضون الإسلام رواه(1/2304)
البيهقي وعنه عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال سياتى بعدي قوم لهم نيز يقال لهم الرافضة فان أدركتهم فاقتلهم فانهم مشركون قال قلت يا رسول اللّه ما العلامة فيهم قال يفرظونك بما ليس فيك ويطعنون على السلف رواه الدارقطني واخرج الدار قطنى من طريق اخر نحوه وزاد فيه ينتحلون حبنا أهل البيت وليسوا كذلك و
اية ذلك انهم يسبون أبا بكر وعمرو فى الباب أحاديث اخر ذكرناها فى السيف المسلول لَسْتَ يا محمد مِنْهُمْ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 318
فِي شَيْ ءٍ
يعنى أنت بريء منهم وهم براء منك يقول العرب ان فعلت كذا فلست منى ولا انا منك إِنَّما أَمْرُهُمْ فى الجزاء والمكافاة إِلَى اللَّهِ يعنى يجزيهم على قدر تباعدهم عن الحق ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ إذا وردوا يوم القيامة يعنى يجزون اولا على تفرقهم فى دينهم وسوء اعتقادهم ثم يجزون على أفعالهم ومعاصيهم(1/2305)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أى فله جزاء عشر حسنات أمثال ما فعل من الحسنة حذف المضاف إلى عشر وأقيم صفة الجنس المميز مقام الموصوف ولى فى هذا المقام إشكال وذلك ان جزاء الحسنات والسيئات مقدر بتقدير اللّه تعالى لا مدخل للراى فيه إذ لا مماثلة بين عمل وجزائه يعرف بالحس أو العقل أو غير ذلك فالجزاء للحسنة ما قدر اللّه تعالى له جزاء الا ترى إلى ان اجرة أجير يستاجر فى الدنيا بعمل انما يتقدر بالعقد إذ لا مماثلة بين العمل والدراهم مثلا فعلى هذا لا يتصوران يقال من عمل حسنة يعطى له جزاء عشر أمثالها الا إذا كانت تلك الحسنة تجزى فى بعض الافراد بعشر هذا الجزاء فانه ان اعطى رجل على عمل درهما واعطى اخر على تلك العمل عشرة دراهم يقال حينئذ اعطى هذا جزاء عشرة أمثال عمله واما إذا كان كل أحد مثلا يعطى على مثل تلك العمل عشرة دراهم فيكون حينئذ جزاء هذا العمل عشرة دراهم ليس الا عشرة فكيف يقال انه اعطى جزاء عشرة أمثال عمله فالظاهر عندى فى تاويل الآية انها ليست على عمومه وان جزاء كل حسنة أدناه مقدر فى علم اللّه تعالى بتقدير اللّه تعالى يعطى بعض المكلفين ذلك الأدنى ثم يضاعف اللّه تعالى ذلك الجزاء على حسب اخلاص العبد ومراتب قربه من اللّه تعالى أو تفضلا منه تعالى لمن يشاء من عباده فيضاعف من يشاء عشر أمثالها إلى سبعين أو إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء اللّه بغير حساب ويدل على ما قلت حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا احسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى اللّه عز وجل متفق عليه وجه الدلالة انه عليه السّلام علق التضعيف بحسن إسلامه وحسن الإسلام بتصفية القلب وتزكية النفس المستوجبان للاخلاص فى العمل ويمكن ان يقال ثواب رجل من رجال أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم عشرة أمثال ثواب رجل من الأمم(1/2306)
السالفة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 319
يدل عليه حديث ابن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما اجلكم من أجل من خلا من الأمم ما بين العصر إلى مغرب الشمس وانما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال من يعمل لى إلى نصف النهار على قيراط قيراط فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من نصف النهار إلى صلوة العصر على قيراط قيراط فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلوة العصر على قيراط قيراط ثم قال من يعمل لى من صلوة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين الا فانتم الذين يعملون من صلوة العصر إلى مغرب الشمس الا لكم الاجر مرتين فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن اكثر عملا واقل إعطاء قال اللّه تعالى فهل ظلمتكم من حقكم شيئا قالوا لا قال اللّه تعالى فانه فضلى أعطيه من شئت رواه البخاري قلت والتأويل الأول أوجه لان الحديث يدل على تضعيف عمل هذه الامة على الذين من قبلهم مرة لا عشر مرار فلعل ادنى رجل من رجال هذه الامة يعطى ضعف اجر من كان فى الأمم السابقة يضاعف إلى عشرة أمثاله أو إلى سبعين أو سبعمائة أو إلى ما شاء اللّه تعالى على حسب الإخلاص وتفضلا منه تعالى واللّه اعلم.(1/2307)
وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لا يضاعف السيئة فى حق أحد من الناس كما يدل عليه قوله تعالى وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ عن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها واغفر ومن تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب منى ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشى أتيته هرولة ومن لقينى بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي لقيته بمثلها مغفرة رواه البغوي قلت معنى قوله لقيته بمثلها مغفرة يعنى ان شئت بدليل قوله فجزاء سيئة بمثلها قال البغوي قال ابن عمر الآية فى غير الصدقات من الحسنات فاما الصدقات تضاعف إلى سبعمائة ضعف قلت انما قال ابن عمر هذا نظرا منه إلى قوله تعالى مثل الذين ينفقون أموالهم فى سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة واللّه يضاعف لمن يشاء وزعما منه بتخصيص هذا الحكم بالصدقات
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 320
و ليس كذلك وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة رواه مسلم وأبو داؤد وابن ماجة وغيرهما من حديث أبى ذر بل ذكر اللّه تعالى اكثر ثوابا من الصدقات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وارفعها فى درجاتكم وخير لكم من انفاق الذهب والورق وخير لكم من ان تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى قال ذكر اللّه رواه ابن ماجة والترمذي والحاكم واحمد عن أبى الدرداء وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما صدقة أفضل من ذكر اللّه رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن عباس واللّه اعلم(1/2308)
قُلْ يا محمد إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي قرأ أبو عمرو ونافع بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالعصمة فى اصل الخلقة والوحى والإرشاد إلى ما نصب من الحجج دِيناً بدل من محل إلى صراط فان معناه هدانى صراطا أو مفعول فعل محذوف دل عليه الملفوظ يعنى هدانى دينا قِيَماً قرأ الكوفيون وابن عامر بكسر القاف وفتح الياء مخففة على انه مصدر نعت به وكان قياسه قوما كعوض فاعلّ لاعلال فعله كالقيام وقرأ الباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة على انه فيعل من قام كسيد من ساد وهو ابلغ من المستقيم باعتبار النية والمستقيم باعتبار الصيغة وقال البغوي معناهما واحد وهو القويم المستقيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان لدينا حَنِيفاً حال من ابراهيم وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللّه يا أهل مكة فلم تشركون أنتم على خلاف أبيكم مع انكم تدعون اتباعه عطف على حنيفا
قُلْ يا محمد إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي قيل المراد بالنسك الذبيحة فى الحج والعمرة وقال مقاتل نسكى حجى وقيل دينى وقيل عبادتى كذا فى القاموس والصحاح وَمَحْيايَ قرأ نافع بخلاف عن ورش بسكون الياء والباقون بفتح الياء تحرزا عن اجتماع الساكنين وَمَماتِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بالإسكان يعنى حيوتى وموتى لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هو يحيى ويميت وقيل ما انا عليه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 321
فى حيوتى وأموت عليه من الايمان والطاعات أو يقال طاعات الحياة من الصلاة والصوم وغيرهما والطاعات المضافة إلى الموت من الوصية والتدبير وقيل معناه طاعاتى فى حيوتى للّه وجزائى بعد موتى على اللّه وقيل محياى بالعمل الصالح ومماتى إذا مت على الايمان للّه(1/2309)
لا شَرِيكَ لَهُ يعنى لا أشرك به أحدا غيره وَبِذلِكَ القول والإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الامة ولست أدعوكم الا إلى ما سبقتكم به فلست الا ناصحا لكم قال البغوي كان كفار قريش يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم ارجع إلى ديننا فقال اللّه سبحانه
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا اشركه فى عبادتى انكار على بغية الغير ربا ولذا قدم المفعول وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ حال فى موقع العلة للانكار يعنى كل ما سواه مربوب له مثلى لا يصلح للمعبودية وفى تعقيب هذا الكلام بعد ما سبق ان دينى دين ابراهيم دفع توهم أخذ دينه تقليدا كما أخذ المشركون دين ابائهم قال البغوي قال ابن عباس كان الوليد بن المغيرة يقول اتبعوا سبيلى احمل اوزاركم فقال اللّه تعالى وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ خطيئة إِلَّا كائنة إثمها عَلَيْها فلا ينفع أحدا كفالة أحد فى ابتغاء رب غيره تعالى وَلا تَزِرُ أى لا تحمل نفس وازِرَةٌ حاملة وِزْرَ ثقل معاصى نفس أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من الأديان المختلفة فيميز المحق من المبطل ويجزى كلا على حسب عمله واعتقاده(1/2310)
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فى الْأَرْضِ يعنى أهلك أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمّد وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ منصوب على التميز من النسبة يعنى رفع درجات بعضكم فوق درجات بعض اخر فى الشرف والغناء وغير ذلك - لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الجاه والمال وغير ذلك ليظهر منكم هل تشركون اولا إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لاعدائه أى يسرع العذاب إذا اراده وتأخير العذاب إلى ما بعد الموت أو ما بعد القيامة لا ينافى ذلك لان ما هو ات قريب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ للمؤمنين رَحِيمٌ بهم وصف العقاب بالسرعة ولم يضفه إلى نفسه ووصف نفسه بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة واتى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 322
ببناء المبالغة واللام الموكدة تنبيها على انه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض رعاية للنظام الجملي الذي هو مقتضى صفة الربوبية كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مصافح فيها عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنزلت علىّ سورة الانعام جملة واحدة يشيعها سبعون الف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد رواه الطبراني فى المعجم الصغير وأبو نعيم فى الحلية وابن مردويه فى تفسيره وعن انس قال لما نزلت سورة الانعام سبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سدوا الأفق رواه الحاكم فى المستدرك وهذا الحديث أيضا يدل على انها نزلت جملة واحدة ولعل ما ذكر فى اسباب نزول آيات منها اتفق وجودها فى تلك الأيام متقاربة فلمناسبة بعض الآيات ببعضها وبعض اخر ببعض اخر منها قيل نزلت هذه الآية فى كذا وهذه فى كذا واللّه اعلم « 1 » .
تمّت سورة الانعام من التفسير المظهرى التاسع عشر من الربيع الثاني سنة الف ومائة وتسع وتسعين ويتلوه سورة الأعراف ان شاء اللّه تعالى سنه 1199 ه
_________
((1/2311)
1) عن عمر بن الخطاب قال الانعام من نواجب القرآن رواه الدارمي يعنى عتاقه وفى رواية من نجائب القرآن أو نواجبه أى أفاضل سوره جمع نجيبة واخرج البيهقي فى الشعب بسند فيه من لا يعرف عن على موقوفا سورة الانعام ما قرئت على عليل الا شفاه اللّه عنه 12
.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 323
سورة الأعراف
مكيّة وبعضها مدنيّة مائة وخمس اية نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انّك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وعلى جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص سبق الكلام فى مثله فى سورة البقرة.(1/2312)
كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أى هذا كتاب أو خبر للحروف المقطعة ان كان المراد به السورة أو القرآن أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفة للكتاب فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ الحرج فى الأصل الضيق قال مجاهد المراد هاهنا الشك فان ضيق الصدر سبب للشك وشرح الصدر سبب لليقين وقد مر مسئلة شرح الصدر وضيقه فى سورة الانعام فى تفسير قوله تعالى فمن يرد اللّه ان يهديه يشرح صدره للاسلام الآية وقال أبو العالية المراد منه مخافة الناس فى تبليغ القرآن من ان يكذبوه ويوذوه فان الخائف فى امر لا ينشط له ولا ينشرح صدره فى الإتيان به وقيل المراد المخافة فى القيام بحقه والخطاب للنبى صلى اللّه عليه واله وسلم وتوجيه النهى إلى الحرج للمبالغة كقولهم لا ارينك يعنى لا تشك فى انه منزل من اللّه تعالى أو لا تخف أحدا من الناس ولا تبال بهم فنحن الحافظون لك أو لا تخف ترك القيام بحقوقه فنحن نيسر لك ونوفقك والفاء يحتمل العطف والجواب كأنَّه قيل إذا انزل إليك فلا تحرج صدرك لِتُنْذِرَ بِهِ متعلق بانزل أو لا يكن لأنه إذا أيقن انه من عند اللّه جسر على الانذار وكذا إذا لم يخفهم أو علم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 324
انه موفق للقيام به وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أى عظة لهم مرفوع عطفا على كتاب أو خبر المحذوف أو منصوب بإضمار تذكر أى تذكر ذكرى أو مجرور عطفا على محل تنذر.(1/2313)
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ بتوسط الرسول صلى اللّه عليه واله وسلم مِنْ رَبِّكُمْ وحيا جليا أو خفيا فيعم السنة أيضا وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أى دون اللّه تعالى حال من قوله أَوْلِياءَ من الجن والانس تطيعونهم فى معصية اللّه تعالى خرج بقوله تعالى من دونه من كان ولايته من جهة اللّه تعالى كالانبياء والعلماء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أى تذكرا قليلا أو زمانا قليلا وما مزيدة لتاكيد القلة وليست بمصدرية والا لم ينتصب قليلا بتذكرون قرأ أبو عمرو يتذكرون بالياء التحتانية على صيغة الغيبة والخطاب مع النبي صلى اللّه عليه واله وسلم والباقون بغير ياء على صيغة الخطاب بحذف أحد التاءين على انه خطاب مع الناس قلت نسبة قلة التذكر إلى جميع الناس مبنى على كثرة تذكر قليل منهم وهم المؤمنون.
وَكَمْ خبرية مبتدأ مِنْ قَرْيَةٍ تميز لها أَهْلَكْناها خبر للمبتدا أى أردنا اهلاكها أو خذلناها فَجاءَها أى جاء أهلها بَأْسُنا عذابنا وجاز ان يكون الفاء للبيان والتفسير كما فى قوله أحسنت الىّ فاعطينى فيكون قوله فجاءها بأسنا بدلا من قوله أهلكناها بَياتاً أى بائتين ليلا كقوم لوط مصدر وقع موقع الحال أَوْ هُمْ قائِلُونَ أى نائمون فى الظهيرة كقوم شعيب والقيلولة استراحة نصف النهار وان لم يكن معه نوم والجملة معطوفة على بيانا عطف الجملة على المفرد حال من القرية بمعنى أهلها وانما حذفت واو الحال استثقالا لاجتماع حرفى العطف فانها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فانه غير فصيح ومعنى الآية انه جاءهم العذاب وهم غافلون غير متوقعين له ووجه تخصيص الوقتين بالذكر المبالغة فى بيان غفلتهم وامنهم من العذاب.(1/2314)
فَما كانَ دَعْواهُمْ أى قولهم ودعائهم وتضرعهم قال سيبويه يقول العرب اللهم أشركنا فى صالح دعوى المسلمين إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ يعنى الا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه والمعنى انهم لم يقدروا على رد العذاب بل اعترفوا بذنبهم حين لا ينفعهم الاعتراف.
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أخرج البيهقي من طريق أبى طلحة عن ابن عباس انه قال نسأل الناس جميعا عما أجابوا المرسلين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 325(1/2315)
و لنسألن المرسلين عما بلغوا واخرج ابن المبارك عن وهب قال إذا كان يوم القيامة دعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما ادى إليك اللوح فيقول بلغت جبرئيل فيدعى جبرئيل ترعد فرائصه فيقال ما صنعت فيما بلغك اسرافيل فيقول بلغت الرسل فيوتى بالرسل فيقال ما صنعتم فيما ادى جبرئيل فيقولون بلغنا الناس وهو قوله تعالى فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين واخرج مسلم عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال فى خطبته فى حجة الوداع أنتم تسألون عنى فهل أنتم قائلون قالوا نشهد انك قد بلغت وأديت ونصحت فقال اللهم اشهد واخرج احمد عن معوية بن جيدة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال ان ربى داعى وانه سائلى هل بلغت عبادى وانى قائل قد بلغتهم فليبلغ منكم الشاهد الغائب ثم انكم تدعون مقدمة أفواهكم بالغداة ان أول ما يبين عن أحدكم لفخذه وكفه واخرج أبو الشيخ فى العظمة عن أبى سنان قال أول من يحاسب يوم القيامة اللوح يدعى به ترعد فرائصه فيقال له هل بلغت فيقول نعم فيقول ربنا من يشهد لك فيقول اسرافيل فيدعى اسرافيل ترعد فرائصه فيقول هل بلغك اللوح قال نعم قال اللوح الحمد للّه الذي نجانى من سوء الحساب واخرج ابن المبارك فى الزهد عن أبى حبلة قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول اللّه هل بلغت عهدى فيقول نعم قد بلغته جبرائيل فيدعى جبرائيل فيقال هل بلغك اسرافيل عهدى فيقول نعم فيخلى عن اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت فى عهدى فيقول يا رب بلغت الرسل فيدعى الرسل فيقول للرسل هل بلغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم فى عهدى فيقولون بلغناه الأمم فيقال لهم هل بلغكم الرسل فمكذب ومصدق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من فيقولون أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فتدعى أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فيقال لهم تشهدون ان الرسل قد بلغت الأمم فيقولون نعم فتقول الأمم يا ربنا كيف يشهد(1/2316)
علينا من لم يدركنا فيقول اللّه كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا ان قد بلغوا فذلك قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا الآية وقد ذكرنا حديث أبى سعيد الخدري فى الشهادة فى سورة البقرة فى تفسير تلك الآية وجاز ان يكون المراد ولنسألن المرسلين عما اجابتهم الأمم نظيره قوله تعالى يوم يجمع اللّه الرسل
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 326
فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا انك أنت علام الغيوب وقد مر تفسير الآية فى سورة المائدة.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أى على الرسل والمرسل إليهم حين يقول الرسل لا علم لنا أو حين أنكر الأمم التبليغ وشهد عليهم أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم بِعِلْمٍ أى بمعلومنا منهم أو المعنى عالمين بظواهرهم وبواطنهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل فيما بلغوا أو عن الأمم فيما أجابوا وفيما شهد عليهم أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم وانما كان السؤال لتوبيخ الكفرة وتقريعهم واظهار شرف الأنبياء والمسلمين وتفضيل أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالشهادة.(1/2317)
وَ الْوَزْنُ أى وزن الأعمال بالميزان مبتدأ خبره يَوْمَئِذٍ أى كائن يوم إذا تحقق السؤال من المرسلين والمرسل إليهم الْحَقُّ صفة للمبتدأ ومعناه العدل السوىّ أو خبر لمحذوف أى هو الحق لا شبهة فيه يجب الايمان به أخرج البيهقي فى البعث عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنهما فى حديث سوال جبرئيل عن الايمان قال يا محمد ما الايمان قال ان تؤمن باللّه وملئكة ورسله وتؤمن بالجنة والنار والميزان وتؤمن بالبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال فإذا فعلت هذا فانا مؤمن قال نعم قال صدقت واخرج ابن المبارك فى الزهد والآجري فى الشريعة عن سلمان وأبو الشيخ فى تفسيره عن ابن عباس قال الميزان له لسان وكفتان واختلفوا فى كيفية الوزن فقال بعضهم يوزن صحايف أعمالهم لما روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يجاء برجل من أمتي على رؤس الاشهاد يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر فيقول أ تنكر من هذا شيئا أ ظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا رب فيقول بلى ان لك عندنا حسنة وانه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد ان محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقول انك لا تظلم فتوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم اللّه تعالى شىء واخرج احمد بسند حسن عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم توضع الموازين يوم القيامة فيوتى بالرجل فيوضع فى كفة ويوضع ما احصى عليه فتمايل به الميزان فيبعث به إلى النار فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن لا تعجلوا فانه قد بقي له فيوتى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 327(1/2318)
ببطاقة فيها لا اله الا اللّه فيوضع مع الرجل حتى يميل به الميزان واخرج ابن أبى الدنيا عن عبد اللّه بن عمرو قال ان لادم من اللّه موقفا عليه ثوبان أخضران كأنَّه نخلة « 1 » سحوق ينظر إلى لمن ينطلق به من ولده إلى النار فبينما آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم ينطلق به إلى النار فينادى آدم يا احمد فاقول لبيك يا أبا البشر فيقول هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار فاشد الميزر اسرع فى اثر الملئكة وأقول يا رسل ربى قفوا فيقولون نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصى اللّه ما أمرنا ونفعل ما نومر فإذا ايس النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول رب قد وعدتني ان لا تخزينى فى أمتي فيأتى النداء من عند العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فاخرج من حجرتى بطاقة بيضاء كالانملة فالقيها فى كفة الميزان اليمنى وانا أقول بسم اللّه فترجح الحسنات على السيئات فينادى سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربى قفوا حتّى اسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول بابى وأمي ما احسن وجهك واحسن خلقك من أنت فقد أفلتني ورحمت عزتى فاقول انا نبيك محمد وهذه صلوتك التي كنت تصليها علىّ وافتك أحوج ما تكون إليها وقال بعضهم يوزن الاشخاص لما روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال انه لياتى الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة ثم قرأ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا واخرج أبو نعيم والا جرى فى قوله تعالى قال القوى الشديد الأكول الشروب يوضع فى الميزان فلا يزن شعيرة يدفع الملك عن أولئك سبعين الفا دفعة واحدة فى النار وقال بعضهم يوزن الأعمال أنفسها يعنى يجسّد الأعمال وتوزن لما روى البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كلمتان(1/2319)
خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان عند الرحمن سبحان اللّه وبحمده سبحان اللّه العظيم وبحمده وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الطهور شطر الايمان والحمد للّه يملأ الميزان وروى الاصبهانى فى الترغيب عن
ابن عمر رضى اللّه عنهما قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول سبحان اللّه نصف الميزان والحمد للّه يملأ الميزان وروى ابن عساكر من حديث أبى هريرة مثله و
_________
(1) النخلة السحوق أى الطويلة بعد ثمرها على المجتنى 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 328(1/2320)
روى البزار والحاكم عن ابن عمر ورضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال ان نوحا لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال امر كما بلا اله الّا اللّه فان السموات والأرض وما فيها لو وضعت فى كفة الميزان ووضعت لا اله الا اللّه فى الكفة الاخرى كانت أرجح منها وروى أبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبى سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال قال اللّه تعالى يا موسى لو ان السموات وعامرهن غيرى والأرضين السبع فى كفة ولا اله الا اللّه فى كفة لمالت بهن لا اله الا اللّه وروى الطبراني عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده لوجئ بالسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعت فى كفة الميزان ووضعت شهادة ان لا اله الا اللّه فى الكفة الاخرى لرجحت بهن وروى أبو داؤد والترمذي وصححه وابن حبان عن أبى الدرداء رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ما من شىء أثقل فى الميزان من حسن الخلق وروى البزار والطبراني وأبو يعلى وابن أبى الدنيا والبيهقي بسند حسن انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يا أبا ذر الا ادلك على خصلتين هما خفيفتان على الظهر وأثقل فى الميزان من غيرهما قال بلى يا رسول اللّه قال عليك بحسن الخلق وطول الصمت فو الذي نفسى بيده ما عمل الخلائق بمثلهما واخرج احمد فى الزهد عن رجل يقال له حازم ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم نزل عليه جبرئيل وعنده رجل يبكى فقال من هذا قال فلان قال جبرئيل انما يوزن اعمال بنى آدم كلها الا البكاء فان اللّه يطفئ بالدمعة بحورا من نار واخرج البيهقي عن معقل بن يسار قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ما إذ « 1 » رفت عين الا حرم اللّه سائر الجسد على النار ولا سالت قطرة على خدّها فترهق ذلك الوجه قتر ولا ذلة ولو ان باكيا بكى من أمة من الأمم(1/2321)
و ما من شىء إلا وله مقدار وميزان الا الدمعة فانها تطفئ بها بحار من نار قلت هذه الأحاديث وانكانت ظاهرة فى انه توزن الأعمال أنفسها لكنها يحتمل فيها وزن سجلات كتبت فيها الأعمال أو اشخاص صدرت منهم واخرج فى انها تجسّد وتوزن ما رواه البيهقي فى شعب الايمان من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال الميزان له
_________
(1) إذ رفت العين يعنى اجرى دمعها نهايه 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 329(1/2322)
لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات والسيئات فيوتى بالحسنات فى احسن صورة فيوضع فى كفة الميزان فيثقل على السيئات « 1 » فيوخذ فيوضع فى الجنة عند منازله ثم يقال للمؤمن الحق بعملك فينطلق إلى الجنة فيعرف منازله بعمله ويوتى بالسيئات فى أقبح صورة فتوضع فى كفة الميزان فتخفف والباطل خفيف فتطرح فى جهنم إلى منازله منها ويقال له الحق بعملك النار فياتى النار فيعرف منازله بعمله وما أعد الله فيها من ألوان العذاب قال ابن عباس فلهم اعرف بمنازلهم فى الجنة والنار بعملهم من القوم ينصرفون يوم الجمعة راجعين إلى منازلهم لكن الحديث ضعيف لاجل السدى الصغير وما رواه ابن المبارك عن حماد بن أبى سليمان قال جاء رجل يوم القيامة فيرى عمله مختصرا فبينما هو كذلك إذ جاءه مثل السحاب حتى يقع فى ميزانه فقال هذا ما كنت تعلّم الناس من الخير فورثت بعدك فاجرت فيه واخرج ابن عبد الرزاق عن ابراهيم النخعي نحوه وما روى الطبراني عن ابن عباس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول من تبع جنازة يوضع فى ميزانه قيراطان مثل أحد وما روى الاصبهانى عن عايشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال ان للصلوة المكتوبة عند اللّه وزنا من انتقص منها شيئا حوسب فيها على ما ينقص وفى حديث أبى هريرة مرفوعا عند أبى داؤد قال ان انتقص من فريضته شىء قال الرب تبارك وتعالى انظروا هل لعبدى من تطوع فيكمل بها من انتقص من الفريضة ومن الأحاديث ما يدل على ان الأجسام التي لها تعلق بالأعمال توضع فى الميزان منها ما روى الطبراني فى الأوسط عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم أول ما يوضع فى ميزان العبد يوم القيامة النفقة على اهله وما فى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من احتبس فرسا فى سبيل اللّه ايمانا وتصديقا بوعده كان شبعه وريه وروثه وبوله فى ميزانه يوم القيامة وما روى(1/2323)
الطبراني عن على رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم من ارتبط فرسا فى سبيل اللّه فعلفه واثره فى ميزانه يوم القيامة وما فى حديث علىّ عند الاصفهانى بسند حسن انه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم
_________
(1) لعل المراد بالسيئات العقائد الفاسدة التي يزعمها صاحبها حقة ومن الأعمال ما يزعمها صاحبها عبادة وهى عند اللّه باطلة غير معتد بها 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 330(1/2324)
لفاطمة قومى فاشهدى أضحيتك فان لك باول قطرة تقطر من دمها مغفرة لكل ذنب اما انه يجاء بدمها ولحمها فيوضع فى ميزانك سبعين ضعفا قال أبو سعيد يا رسول اللّه هذا لال محمد خاصة فقال لال محمد وللمسلمين عامة وما أخرج البيهقي عن ابن مسعود موقوفا وابن حبان فى صحيحه عن أبى ذر مرفوعا وابن عساكر بسند ضعيف عن أبى هريرة انه قال عليه الصلاة والسلام من توضأ فمسح بثوب نضيف فلا بأس به ومن لم يفعل فهو أفضل لان الوضوء يوزن يوم القيامة مع سائر الأعمال واخرج ابن أبى شيبة فى المصنف عن سعيد بن المسيب انه كره المنديل بعد الوضوء وقال هو يوزن واخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قال أعطيت ناقة فى سبيل اللّه فاردت ان اشترى من نسبها فسألت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فقال دعها لتاتى يوم القيامة هى وأولادها جميعا فى ميزانك واخرج الذهبي عن عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون يعنى اعماله التي توزن والمراد بها حسناته كذا قال مجاهد فانها هى المقصود بوجودها أو هو جمع ميزان وعلى هذا أيضا المراد كفة الحسنات من ميزانه وعلى هذا التأويل تدل الآية على ان لكل أحد ميزان على حدة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب.(1/2325)
وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أى اعماله الحسنة أو كفة حسناته وهذا وان كان يعم الكافر الذي لا حسنة له أصلا والمؤمن الذي ترجحت سياته على حسناته لكن المراد به هاهنا هم الكفار جريا على عادة القرآن غالبا حيث يذكر الكفار فى مقابلة الأبرار وقيل ذكر الذين خلطوا عملا صالحا واخر سيئا من المؤمنين فالكفارهم المحكوم عليهم بقوله تعالى فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضيع الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها وارتكاب موجبات العذاب بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذبون بالآيات بدل التصديق وقد ذكرنا تفسير الآية وما يتعلق به فى سورة القارعة فى تفسير قوله تعالى فمن ثقلت موازينه فهو فى عيشة راضية واما من خفت موازينه فامه هاويه فليرجع إليه قال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه حين حضره الموت فى وصيته لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه انما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق فى الدنيا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 331
و ثقله عليهم وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا ان يكون ثقيلا وانما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل فى الدنيا وخفته عليهم وحق لميزان ان يوضع فيه الباطل غدا ان يكون خفيفا قلت لعل المعنى وحق لميزان أى كفة الحسنات ان يوضع فيه الباطل يعنى العقائد والأعمال التي يراها العامل حسنات وهى عند اللّه كفريات وبدعات وقبائح ان يكون خفيفا فانها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد اللّه عنده قوفاه حسابه واللّه اعلم.
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أى اقدرناكم على سكناها وزرعها والتصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ جمع معيشة أى أسبابا تعيشون بها ايام حياتكم من الزرع والضرع والمآكل والمشارب والتجارات والمكاسب قَلِيلًا ما أى شكرا قليلا أو فى زمان قليل تَشْكُرُونَ فيما صنعت لكم.(1/2326)
وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعنى قدرناكم فى العلم فى المرتبة الأعيان الثابتة ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعنى أباكم آدم نزل تصويره منزلة تصويرا لكل وابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بان قدرنا آدم وصورناه وذلك ابتداء تقديركم وتصويركم وقال ابن عباس خلقناكم أى أصولكم واباءكم ثم صورناكم فى أرحام أمهاتكم كذا قال قتادة والضحاك والسدى وقال مجاهد خلقنكم يعنى آدم ذكره بلفظ الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلق من يخرج من صلبه ثم صورناكم فى ظهر آدم وقيل صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر وقال عكرمة خلقنكم فى أصلاب الرجال ثم صورناكم فى أرحام النساء وقال يمان خلق الإنسان فى الرحم ثم صوره فشق سمعه وبصره وأصابعه وقيل كلمة ثم بمعنى الواو والمعنى خلقكم وصوركم فان بعض المخلوقات كالارواح لا صورة لها ثُمَّ قُلْنا ان كان المراد بضمير الخطاب آدم وحده فلا كلام فيه وان كان المراد الذرية فقيل كلمة ثم بمعنى الواو وقيل معناه ثم اخبرناكم انا قلنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد ذكرنا شرح الآية فى سورة البقرة لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ اللّه تعالى يا إبليس ما مَنَعَكَ يعنى أى شىء منعك أَلَّا تَسْجُدَ أى من ان تسجد ولا زائدة كما فى لئلا يعلم موكدة لمعنى الفعل الذي دخلت عليه ومنبهة على ان الموبخ عليه ترك السجود وقيل الممنوع من الشيء مضطر إلى خلافه فكانه قيل ما اضطرك إلى ان لا تسجد وجاز ان يكون تقدير الكلام ما منعك من الامتثال وبعثك على ان لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجدة فيه دليل على ان مطلق الأمر للوجوب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 332(1/2327)
و السؤال عن المانع من السجود مع العلم به للتوبيخ واظهار معاندته وكفره واستكباره قالَ إبليس أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعادا لان يكون مثله مامورا بالسجود لمثله كأنَّه قال المانع منه كونى خيرا منه ولا يحسن للفاضل ان يسجد للمفضول فلا يحسن ان يؤمر به ففى الكلام اعتراض على اللّه سبحانه فى الأمر بالسجود خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ جوهر نورانى مستعل وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ جوهر ظلمانى مستسفل قال ابن عباس أول من قاس إبليس فاخطأ فى القياس فمن قاس الدين بشئ من رايه قرنه اللّه مع إبليس وقال ابن سيرين ما عبدت الشمس الا بالمقايس قلت وليس فى هذين القولين ابطال القياس بل تخطيته لقياسه فانه قياس فى مورد النص ولذلك قال من قاس الدين بشئ من رايه يعنى على خلاف النصوص الواردة وأيضا تعليل الفصل والخيرية بالاضاءة والاستعلاء باطل انما الفضل بيد اللّه يوتيه من يشاء وقد فضل اللّه تعالى آدم على جميع خلقه حيث خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وجعله مستعد التعلم أسمائه كلها ومهبطا لتجلياته ومتقربا من اللّه تعالى بالفرائض والنوافل بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ومتحملا لامانته التي أشفقت عنها السموات والأرض والجبال فان قيل الخطأ فى الاجتهاد معفو قلنا انما ذلك إذا كان القائس طالبا للحق باذلا جهده فى طلبه لا إذا كان متعنتا باغيا استعلاء نفسه والزام الخصم الا ترى ان قول الملئكة أ تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك أيضا قياس فيه خطأ ولذا رد اللّه تعالى قولهم بقوله انى اعلم ما لا تعلمون ولم يردهم أنفسهم حيث لم يصدر ذلك القول منهم استكبارا وتعنتا بل لطلب الحق واستعلام الحكمة ولذلك قالوا عند ظهور الحكمة سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك أنت العليم الحكيم قالت الحكماء للطين فضل على النار من وجوه فان من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم و(1/2328)
الصبر وهو الداعي لادم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فاورثه الاحتباء والتوبة والهداية ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لابليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فاورثه اللعنة والشقاوة ولان الطين سبب لجمع الأشياء والنار سبب لتفرقها ولان الطين سبب لحيوة النبات والنار سبب لهلاكها واضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 333
الجزء الغالب وتلك الاضافة تدل على ان العمدة فى اجزاء الإنسان انما هو عالم الخلق دون عالم الأمر وعالم الأمر تابع له ويتصف بالخيرية والشرية بتبعيته ويتلون بلونه الا ترى ان الروح
تعلق بجسد الإنسان كما تعلق بجسد الشيطان فتلون فى كل على هيئة ومثله كمثل الشمس تجلت فى المرآة فتصورت بصورتها وتلونت بلونها قال المجدد رضى اللّه عنه كمال الترقي بعالم الأمر إلى ظلال الصفات الا الأخفى منها فانها ترتقى إلى بعض الصفات وكمال الترقي للنفس المنبعث من لطائف عالم الخلق إلى ظاهر الصفات وكمال الترقي للعناصر الثلاثة إلى باطن الصفات أى من حيث قيامها بالذات والترقي إلى مرتبة الذات مختصة بعنصر الطين كما ان نور الشمس لا يظهر الا على أكثف الأشياء دون ألطفها والله اعلم.(1/2329)
قالَ اللّه تعالى لابليس لما استكبر فَاهْبِطْ مِنْها أى من الجنة وقيل من السماء والفاء جواب لقوله انا خير منه يعنى ان كنت متكبرا فاهبط منها فانه كان للمتواضعين المطيعين فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أى لا يصح لك التكبر فيها ففيه تنبيه على ان التكبر لا يليق باهل الجنة فانه من خصائص الكبير المتعال وانه تعالى انما طرده واهبط لتكبره عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لا يدخل الجنة أحد فى قلبه مثقال ذرة من خردل من كبر رواه مسلم وفى رواية لمسلم فقال رجل ان الرجل يحب ان يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال عليه السلام ان اللّه جميل يحب الجمال الكبر بطر « 1 » الحق وغمط « 2 » الناس وعن حارثة بن وهب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الا أخبركم باهل الجنة كل ضعيف متضعف لو اقسم على اللّه لا بره الا أخبركم باهل النار كل عتل « 3 » جواظ « 4 » مستكبر متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته فى النار رواه مسلم وفى رواية له قذفته فى النار فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أى أهل الصغار والذل والهوان على اللّه وعلى أوليائه يذمك كل انسان ويلعنك كل لسان وفى القاموس الصاغر الراضي بالمنزلة الدنية وكذا فى غيره من كتب اللغة ومن هاهنا يعلم ان الصغار والذل لازم للاستكبار قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم من تواضع للّه رفعه اللّه فهو
_________
(1) بطر الحق هو ان يجعل ما جعله اللّه حقا من توحيده وعبادته باطلا 12 نهايه
(2) الغمط الاستهانة والاستحقار 14 12 نهايه
(3) العتل الشديد الجافي 12 نهايه
(4) الجواظ الجموح المنوع 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 334(1/2330)
فى نفسه صغير وفى أعين الناس عظيم ومن تكبر وضعه اللّه لهو فى أعين الناس صغير وفى نفسه كبير حتى لهو أهون عليهم من كلب وخنزير رواه البيهقي فى شعب الايمان عن عمر وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بئس العبد تخيل « 1 » واختال ونسى الكبير المتعال رواه الترمذي من حديث اسماء وقال حديث غريب وليس اسناده بالقوى.
قالَ إبليس عند ذلك أَنْظِرْنِي أى أمهلني ولا تمتنى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أى الناس من قبورهم يعنى إلى النفخة الاخيرة أراد ان لا يذوق الموت.
قالَ اللّه تعالى إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ وبين اللّه سبحانه مدة هذه النظرة والمهلة فى موضع اخر فقال انك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو النفخة الاولى حين يموت الخلق كلهم أو وقت يعلمه اللّه انتهاء اجله فيه وفيه دليل على ان اجابة الدعاء غير مختص باهل الإسلام والطاعة وانه لا يدل مطلقا على كون الداعي من المقبولين بل قد يكون استدراجا وفى اجابة دعائه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.(1/2331)
قالَ إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء للتعقيب والباء للسببية متعلق بفعل قسم مقدر وما مصدرية يعنى بعد ما أمهلتني فبسبب اغوائك إياي بواسطتهم تسمية أو حملا على الغنى أو تكليفا بما غويت لاجله اقسم بك لاجتهدن فى اغوائهم باى طريق يمكننى وليس الباء متعلقا باقعدن فان اللام يصد عنه وقيل الباء للقسم أى اقسم باغوائك إياي يعنى بقدرتك على نفاذ سلطانك فى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ جواب للقسم أى اجلس مترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ أى طريق الإسلام ونصبه على الظرف كقوله كما عسل « 2 » الطريق الثعلب وقيل بنزع الخافض تقديره على صراطك كقولهم ضرب زيد الظهر والبطن والقعود على الطريق كناية عن كمال اجتهاده فى صدهم عن السلوك عليه الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جميع الجهات مثّل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أى جهة يمكن بإتيان العدو من الجهات الأربع ولذلك لم يقل من فوقهم ومن تحت أرجلهم قال اللّه تعالى فى الأولين من لابتداء الغاية وفى الأخريين عن لان عن تدل على الانحراف وقيل لم يقل من فوقهم لان الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لان الإتيان منه توحش
_________
(1) تخيل واختال أى تكبر الخيلاء الكبر والعجب 12 نهايه [.....]
(2) عسل أى مشى سريعا 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 335(1/2332)
قال البغوي قال على بن طلحة عن ابن عباس من بين أيديهم أى من قبل الاخرة فاشككهم فيها ومن خلفهم أى من قبل دنياهم فارغبهم فيها وعن ايمانهم أى أشبه عليهم امر دينهم وعن شمائلهم أى أشهى لهم المعاصي وروى عطية عنه من بين أيديهم أى من قبل دنياهم أى أزينها فى قلوبهم ومن خلفهم أى من قبل الاخرة فاقول لا بعث ولا جنة ولا نار وعن ايمانهم من حسناتهم وعن شمائلهم من قبل سياتهم وقال قتادة نحوه ثم قال أتاك يا ابن آدم من كل جهة غير انه لم يأتك من فوقك ولم يستطع ان يحول بينك وبين رحمة اللّه كذا ذكر السيوطي قول ابن عباس وقال مجاهد من بين أيديهم وعن ايمانهم أى من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن شمائلهم أى من حيث لا يبصرون قال ابن جريح معنى قوله حيث يبصرون حيث يعلمون انهم يخطئون وحيث لا يبصرون أى لا يعلمون انهم يخطئون.
وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أى مؤمنين قاله ظنا لقوله تعالى ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه الا قليلا.
قالَ اللّه تعالى اخْرُجْ مِنْها أى من الجنة مَذْؤُماً محقرا فى القاموس ذأمه كمنعه حقره وذمه وطرده وخزاه وقال الجوهري ذأمه ذأما يعنى مهموز العين وذمته أذيمه يعنى الأجوف اليائى وذممته اذمه يعنى المضاعف معنى كل واحد قال البغوي الذيم والذام يعنى المهموز والأجوف أشد العيب مَدْحُوراً أى مبعدا مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أى من بنى آدم اللام توطية للقسم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أى منك وممن تبعك فغلب المخاطب والجملة جواب للقسم وساد مسد جواب الشرط أَجْمَعِينَ وَيا آدَمُ تقديره وقلنا يا آدم.
اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب أى فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ مر شرح الآية فى سورة البقرة.(1/2333)
فَوَسْوَسَ الوسوسة حديث النفس والشيطان بما لا نفع فيه كذا فى القاموس قال البغوي الوسوسة حديث يلقيه الشيطان فى قلبه وأصله صوت الحلي والهمس الخفي يعنى فعل الوسوسة لَهُمَا أى لاجلهما الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما أى ليظهر لهما واللام للعاقبة أو للغرض على انه أراد أيضا بوسوسة ان يسوئهما بكشف ما وُورِيَ ما غطى عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الاخر وفيه دليل على ان كشف العورة فى الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن فى الطباع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 336
لم يزل مستقبحا شرعا وعقلا ثم بين الوسوسة فقال وَقالَ إبليس لادم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا أى الا لئلا تكونا أو كراهة ان تكونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الباقين الذين لا يموتون كما قال فى موضع اخر هل ادلك على شجرة الخلد واستدل به على فضل الملئكة على الأنبياء والجواب انه انما كانت رغبتهما فى ان يحصل لهما ما للملئكة من الكمالات والاستغناء عن الاطعمة والاشربة وذلك لا يدل على الفضل الكلى فان الفضل الكلى عبارة عن كثيرة الثواب والاقربية إلى اللّه سبحانه لا غير.
وَقاسَمَهُما أى فاقسم لهما باللّه إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ جواب للقسم ذكر القسم على زنة المفاعلة للمبالغة وقد ذكرنا القصة فى سورة البقرة قال قتادة حلف لهما باللّه حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن باللّه وقال انى خلقت قبلكما وانا اعلم منكما فاتبعانى ارشدكما وإبليس أول من حلف باللّه كاذبا فلما حلف ظن آدم ان أحد الا يحلف باللّه كاذبا فاغتربه.(1/2334)
فَدَلَّاهُما الشيطان قال البغوي يعنى خدعهما يقال ما زال فلان يدلى لفلان بغرور يعنى ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف القول بِغُرُورٍ أى باطل وقيل معنى دلّهما انزلهما من درجة عالية إلى منزلة سافلة أى من مقام الطاعة إلى مقام المعصية فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أى فلما وجدا طعمها آخذين فى الاكل منها يعنى لم يستوفا الاكل حتّى أخذتهما العقوبة وشوم المعصية وتهافت عنهما لباسهما أخرج عبد بن حميد عن وهب بن منبه انه كان لباسهما من النور واخرج ابن أبى حاتم عن السدى عن الفريابي وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه وابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال كان لباس آدم وحواء كالظفر فلما أكلا من الشجرة لم يبق عليهما الأمثل الظفر فلما وقع منهما الذنب بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فاستحيا وَطَفِقا أى أخذا يَخْصِفانِ يلزقان عَلَيْهِما أى على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وهو ورق التين حتّى صار شبيه الثوب كذا أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي فى سننه وابن عساكر فى تاريخه عن ابن عباس قال الزجاج يجعلان على ورقة ليسترا سواتهما روى أبى بن كعب رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كان آدم رجلا طوالا كأنَّه نخلة سحوق شعر الراس فلما وقع فى الخطيئة بدت له سؤاته وكان لا يراها
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 337(1/2335)
أحد فانطلق هاربا فى الجنة فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته شعره فقال أرسلني فقالت لست بمرسلك فناديه ربه تبارك وتعالى يا آدم ا تفر منى قال لا يا رب ولكنى استحييتك وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ يعنى عن الاكل منها وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أى بيّن العداوة حيث أقر على نفسه وقال لاقعدن لهم صراطك المستقيم عتاب على مخالفة النهى وتوبيخ على الاغترار بقول العدو وفيه دليل على ان مطلق النهى للتحريم قال محمد بن قيس ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال يا رب أطعمتني حواء قال لحواء لم أطعمته قالت أمرتني الحية قال لحية لم أمرتها قال أمرني إبليس فقال اللّه تعالى اما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة تدمين كل شهروا ما أنت يا حية فاقطع قوائمك فتمشين على وجهك وسيشدخ راسك من لقيك واما أنت يا إبليس فملعون مدحور.
قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ضررناها بالمعصية والتعريض للاخراج عن الجنة وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ أى الهالكين فيه دليل على ان الصغائر معاقب عليها ان لم تغفر وقالت المعتزلة لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر.
قالَ اهْبِطُوا قيل الخطاب لادم وحواء لان إبليس هبط قبلهما ولعل إيراد صيغة الجمع لان هبوطهما سبب لهبوط ذريتهما وقيل الخطاب لهما ولابليس كرر له الأمر تبعا ليعلم انهم قرنا ابدا أو خبر عما قال لهم متفرقا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فى موضع الحال أى متعادين وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أى استقرار أو موضع استقرار وَمَتاعٌ أى تمتع إِلى حِينٍ انقضاء اجالكم.(1/2336)
قالَ اللّه تعالى فِيها أى فى الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء قرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان منها تخرجون وفى الزخرف كذلك تخرجون بفتح التاء وضم الراء فيهما على البناء للفاعل والباقون بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول قال البغوي كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا اللّه فيها فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة فنزلت.
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وقال قتادة كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول اليوم يبدو بعضه أو كله. وما بدا منه لا أحله. فامر اللّه تعالى بالستر فقال قد أنزلنا عليكم لباسا يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعنى عوراتكم واحدتها سوء سميت بها لانها يسوء صاحبه انكشافها ومعنى أنزلنا خلقناه لكم بتدبيرات سماوية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 338(1/2337)
و اسباب نازلة ونظيره قوله تعالى وأنزلت لكم من الانعام وقوله تعالى وأنزلنا الحديد قلت ويمكن ان يقال معناه انزل عليكم ان تلبسوا لباسا يوارى سوءاتكم ولعله ذكر قصة آدم تمهيدا للنهى عن كشف العورة حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان وانه أغواهم فى ذلك كما اغوى أبويهم وَرِيشاً أى لباسا فاخرا كذا فى القاموس يعنى أنزلنا لباسا يوارى سوأتكم وأنزلنا لباسا فاخرا تتجملون فيها قال البيضاوي الريش الجمال وقيل مالا ومنه تريّش الرجل إذا تمول كذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدى وَلِباسُ التَّقْوى قرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب عطفا على ريشا يعنى وأنزلنا لباس التقوى والباقون بالرفع على الابتداء وخبره ذلِكَ خَيْرٌ أو ذلك صفة للمبتدأ وخير خبره واختلفوا فى لباس التقوى قال قتادة والسدى لباس التقوى هو الايمان وقال الحسن هو الحياء لأنه يبعث على التقوى وقال عطية عن ابن عباس وهو العمل الصالح وعن عثمان ابن عفان هو السمت الحسن وقال عروة بن الزبير لباس التقوى خشية اللّه وقال الكلبي هو العفاف والمعنى لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس والتجمل وقال ابن الأنباري لباس التقوى هو اللباس الأول وانما إعادة اخبارا ان ستر العورة خير من التعري فى الطواف وان اللباس سبب للتقوى عن معصية التعري وقال زيد بن على لباس التقوى اللباس التي يتقى بها فى الحرب من الدرع والمغفر والساعدين والساقين وقيل لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها الزهاد ذلِكَ أى إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته ويتورعون عن القبائح.(1/2338)
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ أى لا يخدعنكم ولا يضلنكم الشَّيْطانُ بان لا تدخلوا الجنة كَما فتن وأَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم وحواء مِنَ الْجَنَّةِ والنهى فى الظاهر للشيطان وفى المعنى لبنى آدم لا تفتتنوا ولا تختدعوا ولا تضلوا باتباع الشيطان يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أى ليرى كل واحد منهما سوءة الاخر والجملة حال من فاعل أخرج أو من مفعوله اسناد نزع إلى الشيطان للتسبب إِنَّهُ يعنى الشيطان يَراكُمْ يا بنى آدم هُوَ وَقَبِيلُهُ جنوده قال ابن عباس ولده وقال قتادة قبيلة الجن مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ والجملة فقيل للنهى وتأكيد للتحذير من فتنة وقبيله فان عدوا يرانا ولا نراه لشديد المئونة الا من عصم اللّه فحينئذ كيده
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 339
ضعيف قال ذو النون ان كان هو يريك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو اللّه القهار الستار إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب فى اتباع الباطل والتنافر من الحق أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم.(1/2339)
وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أى امرا بالغا إلى النهاية فى القبح وذلك هو الشرك وقال ابن عباس ومجاهد هى طوافهم بالبيت عريانا والظاهر انه يعم كل كبيرة قالُوا إذا نهوا عن فعل الفاحشة وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها يعنى احتجوا بامرين تقليد الآباء والافتراء على اللّه فاعرض عن الأول لظهور فساده وقد ردّه فى موضع اخر أو لو كان ابائهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ورد الثاني فقال قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فان الأمر بالقبيح قبيح واللّه تعالى منزه عن القبائح وفيه دليل على ان الحسن والقبح وان كانا بخلق اللّه تعالى لكنه يدرك بالعقل أيضا والمراد بالقبيح هاهنا ما يتنفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم وقيل هما جوابا سوالين مترتبين كأنَّه قيل لهم لم فعلتم فقالوا وجدنا عليه آباءنا فقيل ومن اين أخذ اباءكم فقالوا اللّه أمرنا بها وعلى الوجهين يمنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من غير دليل يوجب العلم اليقيني فيه انكار يتضمن النهى عن الافتراء على اللّه تعالى.(1/2340)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال ابن عباس بلا اله الا اللّه وقال الضحاك بالتوحيد وقال مجاهد والسدى بالعدل وهو الوسط من كل امر المتجافى عن طرفى الافراط والتفريط وَأَقِيمُوا تقديره وقال اقيموا وهو مقولة للقول المذكور يعنى وقل اقيموا أو معطوف على معنى بالقسط يعنى أقسطوا واقيموا أو معطوف على مقدر تقديره فاقبلوا واقيموا وُجُوهَكُمْ أى أخلصوا له تعالى سجودكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أى عند كل وقت صلوة وسجودا وكل مكان سجود وقال مجاهد والسدى وجهوا وجوهكم حيث ما كنتم فى الصلاة إلى الكعبة وقال الضحاك إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي فى مسجدى وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه غير انه قال من كان اماما لمسجد اخر أو رجل يختل بفقده جماعة مسجد اخر جاز له الخروج من المسجد بعد الاذان وقيل معناه توجهوا إلى عبادة اللّه مستقيمين غير عادلين إلى غيره وَادْعُوهُ اعبدوه تعالى مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 340(1/2341)
الطاعة والعبادة من الشرك براء من الرياء والسمعة فانه خلقكم واليه المصير كَما بَدَأَكُمْ أى خلقكم أول مرة من تراب ثم من نطفة تَعُودُونَ احياء باعادته بعد الموت فيجازيكم على أعمالكم شبه الاعادة بالابداء تقرير الا مكانها والقدرة عليها وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلا تعودون لحديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة فقلت يا رسول اللّه الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال يا عائشة الأمر يومئذ أشد من ذلك متفق عليه وفى الصحيحين وسنن الترمذي عن ابن عباس قال قام رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وقال يايها الناس تحشرون إلى اللّه حفاة مشاة عراة غرلا ثم قرأ كما بدانا أول خلق نعيده الآية وأول من يكسى من الخلائق ابراهيم عليه السلام وفى الباب أحاديث كثيرة صحيحة وما رواه أبو داؤد والحاكم وصححه وابن حبان والبيهقي عن أبى سعيد الخدري انه لما احتضر دعا بثياب جدد فلبسها ثم قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول ان الميت يبعث فى ثيابه التي يموت فيها واخرج ابن أبى الدنيا بسند حسن عن معاذ بن جبل انه دفن امه فامر بها فكفنت فى ثياب جدد وقال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يحشرون فيها واخرج سعيد بن منصور فى سننه عن عمر بن الخطاب قال أحسنوا أكفان موتاكم فانهم يبعثون فيها يوم القيامة فليس فى القوة مثل ما ورد فى الحشر عراة قال اكثر العلماء هذه الأحاديث محمولة على الشهيد وان أبا سعيد سمع الحديث فى الشهيد فحمله على العموم وقال البيهقي يجمع الأحاديث بان بعضهم يبعث عاريا وبعضهم بثيابه وقال بعضهم يخرجون من قبورهم بثيابه ثم تتناثر عنهم عند ابتداء المحشر فيحشرون عراة وقال بعضهم حديث ان الميت يبعث فى ثيابه محمول على العمل الصالح كقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خير وقال جابر معنى الآية يبعثون على ما ماتوا عليه رواه مسلم فى صحيحه و(1/2342)
ابن ماجة والبغوي عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يبعث كل عبد على ما مات عليه المؤمن على إيمانه والكافر على كفره وقال ابن عباس فى تفسير الآية ان اللّه تعالى بدأ خلق بنى آدم مؤمنا وكافرا كما قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا وقال أبو العالية عادوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير معناه كما كتب عليكم تكونون قال محمد بن كعب من ابتدأ اللّه خلقه على الشقاوة صار إليها وان عمل بعمل أهل السعادة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 341
كما ان إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وان عمل بعمل أهل الشقاوة كما ان السحرة كانوا يعملون بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان العبد ليعمل عمل أهل النار وانه من أهل الجنة ويعمل عمل أهل الجنة وانه من أهل النار وانما الأعمال بالخواتيم متفق عليه ويناسب هذا التأويل اخر الآية حيث قال.
فَرِيقاً منكم هَدى أى أراد بعلمه القديم هدايتهم فوفقهم الايمان والأعمال الصالحة وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أى أضل فريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ أى الفريق الثاني اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أى الكفار من الجن والانس أَوْلِياءَ أنصارا مِنْ دُونِ اللَّهِ أى غيره وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فيه دليل على ان الجهل ليس بعذر وان الكافر المخطى والمعاند سواء فى استحقاق الذم واللّه اعلم روى مسلم عن ابن عباس قال كانت امرأة تطوف بالبيت فى الجاهلية وهى عريانة وعلى فرجها خرقة وهى تقول اليوم يبدوا بعضه أو كله. وما بدأ منه فلا أحله. فنزلت.(1/2343)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ونزلت قل من حرم زينة اللّه الآيتين والمراد بالزينة ما يوارى العورة من الثياب بإجماع أهل التفسير قال مجاهد ما يوارى عورتك ولو عباءة وكذا قال الكلبي وروى البيهقي فى هذه الآية عن ابن عباس ان المراد بها الثياب والمراد بالمسجد قيل موضع السجود ولذا قيل معناه خذوا ثوبكم عند كل مسجد لطواف أو صلوة وعلى هذا قال ابن الهمام الآية نزلت فى الطواف تحريما لطواف العريان والعبرة وان كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن لا بد ان يثبت الحكم فى السبب اولا وبالذات لأنه المقصود به قطعا ثم فى غيره على ذلك الوجه والثابت عندنا فى الستر فى الطواف الوجوب يعنى لا على سبيل الاشتراط لصحة الطواف حتى لو طاف عريانا اثم وحكم بسقوطه وفى الصلاة الافتراض يعنى الاشتراط حتّى لا تصح بدونه فالاوجه الاستدلال بالإجماع على الافتراض فى الصلاة كما نقله غير واحد من ائمة النقل إلى ان حدث بعض المالكية فخالف كالقاضى اسمعيل وهو لا يجوز بعد تقرر الإجماع والحديث عن عائشة يرفعه لا تقبل اللّه صلوة حائض بخمار رواه أبو داؤد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة فى صحيحه رواه أبو داؤد
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 342(1/2344)
و الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن خزيمة فى صحيحه والظاهر عندى ان المسجد مصدر ميمى بمعنى السجدة اطلق على الصلاة تسمية الجزء على الكل كما فى قوله تعالى واركعوا مع الراكعين يعنى صلوا مع المصلين وقوله تعالى فاقرءوا ما تيسر من القرآن يعنى صلوا ما تيسر من الصلاة فهذه الآية بعبارته يوجب ستر العورة عند كل صلوة خاصة والبحث فى سبب النزول ان قوله تعالى يا بنى آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سوءاتكم وريشا إلى قوله تعالى قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآيات كلها نزلت حين كانت العرب فى الجاهلية تطوف بالبيت عراة يقولون لا نطوف فى ثياب عصينا اللّه فيها وطافت المرأة عريانة واضعة يدها على فرجها بل ذكر قصة آدم أيضا توطية لذلك حتى يعلم ان انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان والآيات كلها ناطقة ان خلق اللباس للانسان لاجل ستر عورته نعمة من اللّه تعالى وذلك هو التقوى وكشف العورة وترك الستر فتنة وإضلال من الشيطان قد عمل اولا بأبيكم آدم وثانيا بكم وانه فاحشة تفعله العرب تقليدا بآبائهم وافتراء على اللّه تعالى واللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء لكن فريقا من الناس هديهم اللّه وفريقا حق عليهم الضلالة فهذه الآيات تدل على ان كشف العورة فاحشة حرام مطلقا قبيح مستهجن طبعا وعقلا وشرعا فارتكابها فى الطواف وغير ذلك من العبادات أقبح وافحش وأشد حرمة بالطريق الاولى موجب للاثم وما كانت العرب يدعون ان لبس الثياب فى الطواف حرام وأكل اللحم والدسم فى الحج حرام فهو باطل أنكر عليه سبحانه بقوله من حرم زينة الآية وقوله انما حرم ربىالفواحش ومنها كشف العورة لكن شى من هذه الآيات لا تدل على اشتراط ستر العورة فى الطواف ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه اللّه لو طاف عريانا اثم ويحكم بسقوطه وقال اكثر الائمة لا يحكم بسقوطه لحديث أبى هريرة ان أبا بكر الصديق رضى اللّه عنهما بعثه فى الحجة(1/2345)
التي امره عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قبل حجة الوداع بعام يوم النحر فى رهط يوذن فى الناس ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان متفق عليه قالوا الطواف عريانا منهى عنه فلا يتادى به الواجب كما لا يجوز قضاء الصوم فى يوم النحر وقضاء الصلاة فى وقت الطلوع والاستواء والغروب واما هذه الآية خذوا زينتكم عند كل مسجد يقتضى اشتراط ستر العورة فى الصلاة وعدم جواز الصلاة بدونها لما ذكرنا ان كونه فرضا واجبا مطلقا وكون كشف العورة فاحشة حراما مطلقا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 343
ثبت قبل ذلك من الآيات ولا مساس لهذه الآية بالطواف الا إذا ضم معها قوله صلى اللّه عليه واله وسلم الطواف بالبيت صلوة الا ان اللّه أباح فيه الكلام رواه الترمذي والحاكم والدارقطني من حديث ابن عباس وصححه ابن خزيمة وابن حبان ونزول هذه الآية فى ضمن آيات نزلت فى استقباح كشف العورة مطلقا وكون سبب نزولها
طواف العرب عريانا لا تقتضى كون هذه الآية أيضا فى الطواف فان ما ورد فى حادثة أو بعد سوال يجب ان يفيد حكم تلك الحادثة وجواب ذلك السؤال ولا يجب ان لا يذكر حكما زائدا على ما ورد فيه ولا شك ان حكم الطواف عريانا ظهر بغير تلك الآية من الآيات فما أورده ابن الهمام من الاشكال غير وارد (مسئلة) ذكر فى رحمة الامة ان ستر العورة شرط الصلاة عند أبى حنيفة والشافعي واحمد واختلف اصحاب مالك فمنهم من قال كما قال الجمهور انه من الشرائط مع القدرة على الستر فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر فصلوته باطلة ومنهم من قال انه واجب فى نفسه ليس شرطا للصلوة فمن صلى مكشوف العورة مع القدرة على الستر عامدا كان عاصيا لكن يسقط عنه الفرض والمختار عند متاخرى أصحابه انه لا يصح الصلاة مع كشف العورة بحال وقد ذكر ابن الهمام اجماع الامة على ذلك والخلاف المتأخر لا يرفع الإجماع المقدم.
((1/2346)
فصل) أفادت الآية على وجوب ستر العورة فى الصلاة لكنه مجمل فى مقدار العورة التي وجب سترها وجاء بيان ذلك من الأحاديث فنقول.
(مسئلة) عورة الرجل بين السرة والركبة عند أبى حنيفة والشافعي وعن مالك واحمد روايتان إحداهما ما قال أبو حنيفة والثانية انها القبل والدبر احتجوا بحديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم غزا خيبر وذكر الحديث بطوله وفيه ثم حسر رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الا زارعن فخذه حتى لانى انظر إلى بياض فخذ النبي صلى اللّه عليه واله وسلم رواه البخاري وروى مسلم بلفظ انحسر الا زاد على البناء للمفعول وكذا عند احمد وحديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم مضطجعا فى بيته كاشفا عن فخذيه أو ساقيه فاستاذن أبو بكر فاذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استاذن عمر فاذن له وهو كذلك فتحدث ثم استاذن عثمان فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وسوى ثيابه الحديث رواه مسلم وهذا الحديث ليس بحجة لمكان الترديد بقوله فخذيه أو ساقيه لكنه عند احمد بلفظ كاشفا عن فخذيه من غير ترديد وكذا عند احمد من حديث
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 344(1/2347)
حفصة واخرج الطحاوي والبيهقي عن حفصة بنت عمر قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عندى يوما وقد وضع ثوبه عن فخذيه فدخل أبو بكر فذكر الحديث نحوه وحديث أبى موسى ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كان قاعدا فى مكان فيه ماء قد انكشف عن ركبته أو ركبتيه فلما دخل عثمان غطاها رواه البخاري واحتج الجمهور بحديث على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حى ولا ميت رواه أبو داؤد وابن ماجة والحاكم والبزار وصحح بعض العلماء هذا الحديث وهو من حديث ابن جريج عن حبيب بن ثابت عن عاصم بن ضمرة عنه قال الحافظ فيه انقطاع بين ابن جريج وحبيب وقال أبو حاتم فى العلل ان الواسطة بينهما الحسن بن ذكوان وهو ضعيف وقال لا يثبت لحبيب رواية عن عاصم فهذه علة اخرى وقال ابن معين ان حبيبا لم يسمع من عاصم وان بينهما رجلا ليس بثقة وبيّن البزار ان الواسطة هو عمرو بن خالد الواسطي وحديث ابن عباس قال مر رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم على رجل فخذه خارجة فقال غط فخذك فان فخذ الرجل من عورته رواه الترمذي واحمد والحاكم وصححه بعض العلماء وفى اسناده أبو يحيى القتات ضعيف وحديث جرهد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم مر على جرهد وفخذ جرهد مكشوفة فى المسجد فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يا جرهد غط فخذك فان الفخذ عورة رواه احمد وفيه زرعة مجهول وحديث محمد بن جحش عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم انه مر على معمر محتبيا كاشفا عن طرف فخذه فقال له النبي صلى اللّه عليه واله وسلم خمر فخذك يا معمر فان الفخذ عورة رواه احمد والبخاري فى التاريخ والحاكم فى المستدرك قال الحافظ رجاله رجال الصحيح غير أبى كثير وقد روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحا بتعديل أو جرح وحديث أبى أيوب قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم(1/2348)
يقول ما فوق الركبتين من العورة وما أسفل السّرّة من العورة رواه الدارقطني وفى اسناده سعيد بن راشد وعباد بن كثير متروكان وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا زوج الرجل منكم عبده الحديث بطوله وفيه فانما تحت السرة إلى الركبة من العورة رواه الدار قطنى وفيه سوار بن داؤد لينه العقيلي لكن وثقه ابن معين ولا شك ان هذه الأحاديث لا يصادم شيئا منها ما تقدم من حديث كشف الفخذ لكن لما تعاضد بعضها ببعض وتلقته الامة بالقبول أخذناه احتياطا ومن هاهنا قال
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 345
البخاري حديث انس أسند وحديث جرهد أحوط ولاجل قوة حديث انس وما فى معناه قال أبو حنيفة العاري يصلى قاعدا واضعا يديه على قبله يومى للركوع والسجود حيث قال بترك القيام والركوع والسجود مع القدرة عليها إلى القعود والإيماء رعاية
لستر العورة الذي هو فرض مطلقا فى الصلاة وخارجها واللّه اعلم - (مسئلة) الركبة عورة عند أبى حنيفة وقال الشافعي واحمد ليست بعورة لما تقدم من حديث أبى أيوب وعمرو بن شعيب واحتج أصحابنا بحديث على رضى اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول الركبة من العورة وفيه عقبة بن علقمة ضعفه أبو حاتم الرازي والنصر بن منصور قال أبو حاتم الرازي مجهول يروى أحاديث مناكير وقال ابن حبان لا يحتج به قلنا الركبة ملتقى عظم العورة وغيرها فاجتمع الحرام والحلال فقدمنا الحرمة احتياطا.
((1/2349)
مسئلة) المرأة الحرة كلها عورة الا وجهها وكفيها عند مالك والشافعي واحمد وفى رواية عنهم الا وجهها فقط وكفاها من العورة واما القدمان فليستامن العورة عندهم وقال أبو حنيفة الا وجهها وكفيها وقدميها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لا يقبل صلوة حائض الا بخمار وقد مرّ وقال عليه السلام المرأة عورة رواه الترمذي من حديث ابن مسعود وروى أبو داود مرسلا ان الجارية إذا حاضت لم يصلح يرى منها الا وجهها ويديها إلى المفصل وروى الدارقطني عن أم سلمة انها سالت النبي صلى اللّه عليه واله وسلم اتصلي المرأة فى درع وخمار وليس لها إزار قال إذا كان الدرع سابغا يغطى ظهور قدميها وفيه عبد الرحمن بن عبد اللّه ضعفه يحيى وقال أبو حاتم لا يحتج به والظاهر انه غلط فى رفع الحديث ورواه مالك وجماعة عن أم سلمة من قولها.
(مسئلة) قال فى النوازل نغمة المرأة عورة ولهذا قال عليه السلام التسبيح للرجال والتصفيق للنساء قال ابن الهمام وعلى هذا لو قيل ان المرأة إذا جهرت بالقراءة فى الصلاة فسدت كان متجها.
(مسئلة) عورة الامة كعورة الرجل مع بطنها وظهرها عند أبى حنيفة وقال مالك والشافعي هى كعورة الرجل وبه قال احمد وقال بعض اصحاب الشافعي كلها عورة الا مواضع التقليب منها وهو الرأس والساعدات والساق روى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 346
البيهقي عن نافع ان صفية بنت أبى عبيد حدثته قالت خرجت امرأة متخمرة بتحلية فقال عمر من هذا فقيل له جارية لفلان رجل من بنيه فارسل إلى حفصة فقال ما حملك ان تخمرى هذه الامة وتجليبها تشبيها بالمحصنات حتى هممت ان أقع بها لا احسبها الا من المحصنات لا تشبهوا الإماء بالمحصنات قال البيهقي الآثار عن عمر بذلك صحيحة.
((1/2350)
مسئلة) يجب عند احمد ستر المنكبين فى الفرض وفى النفل عنه روايتان لحديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال لا يصلى أحدكم فى الثوب الواحد ليس على منكبيه منه شىء رواه احمد وفى الصحيحين نحوه لكن لفظ البخاري ليس على عاتقه منه شىء وفى حديث مسلم عاتقيه وحمل الجمهور على التنزيه قال الكرماني ظاهر النهى يقتضى التحريم لكن الإجماع منعقد على جواز تركه قال الحافظ قد غفل الكرماني عما ذكره بعد قليل عن النووي من حكاية مذهب احمد ونقل ابن المنذر عن محمد بن على عدم الجواز وعقد الطحاوي له بابا فى شرح معانى الآثار ونقل عن ابن عمر ثم عن طاؤس والنخعي ونقل غيره عن ابن وهب وابن جرير ونقل الشيخ تقى الدين السبكى وجوب ذلك عن نص الشافعي واختاره لكن المعروف فى كتب الشافعية خلافه.
((1/2351)
مسئلة) يستحب ان يصلى الرجل فى ثياب الزينة كما يشير إليه هذه الآية فان اللّه سبحانه سمى الثوب زينة وامر باتخاذه فى الصلاة فالواجب وان كان ادنى منها وهو ما يستر العورة فما زاد عليه يستحب روى الطحاوي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فان اللّه أحق ان يزين له الحديث وروى البخاري عن أبى هريرة قال قام رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فسأله عن الصلاة فى الثوب الواحد فقال أو كلكم يجد ثوبين ثم سأل رجل عمر فقال له إذا وسع اللّه فاوسعوا جمع رجل عليه ثيابه صلى رجل فى إزار ورداء فى إزار وقميص فى إزار وقباء فى سراويل ورداء فى سراويل وقميص فى سراويل وقباء فى تبان وقميص قال واحسبه فى تبان ورداء واللّه اعلم قال البغوي قال الكلبي كانت بنو عامر لا يأكلون فى ايام حجهم من الطعام الا قوتا ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون نحن أحق ان نفعل ذلك يا رسول اللّه فانزل اللّه تعالى وَكُلُوا يعنى اللحم والدسم وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم ما أحل اللّه لكم من اللحم والدسم وزينة اللباس وغير ذلك إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الذين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 347(1/2352)
يفعلون ذلك أى لا يرتضى فعلهم واخرج ابن المنذر عن عكرمة فى قوله تعالى قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى سواتكم قال نزلت فى الخميس من قريش إلى ان قال وبنى عامر بن صعصعة وبطون كنانة بن بكرة كانوا لا يأكلون اللحم ولا يأتون البيوت الا من أدبارها قال ابن عباس كل ما شئت والبس ما شئت ما اخطاتك خصلتان سرف ومخيلة أخرجه ابن أبى شيبة فى المصنف وعبد بن حميد فى تفسيره و « 1 » عن ابن عمر مرفوعا كلوا واشهبوا وتصدقوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة رواه احمد بسند صحيح وابن ماجة والحاكم روى « 2 » انه كان للرشيد طبيب نصرانى حاذق فقال لعلى بن الحسن بن واقد ليس فى كتابكم من علم الطب شىء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له علىّ قد جمع اللّه الطب كله فى نصف اية من كتابه وهو قوله تعالى كلوا واشربوا ولا تسرفوا فقال النصراني ولم يرو من رسولكم شىء فى الطب فقال قد جمع رسولنا الطب فى ألفاظ يسيرة وهى قوله عليه السلام المعدة بيت الداء والحمية راس كل دواء واعط كل بدن ما عودته فقال النصراني ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.(1/2353)
قُلْ يا محمد إنكارا عليهم مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ أى الثياب وسائر ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ أصولها كالقطن والكتان من الأرض والصوف من ظهر الغنم والقز من الدود لِعِبادِهِ أى لاجل انتفاعهم وتزينهم وتجملهم وَاخرج الطَّيِّباتِ أى المستلذات مِنَ الرِّزْقِ من المآكل والمشارب يعنى لم يحرمها الذي هو خالقها ومالكها ولا يقدر أحد غيره على التحريم والتحليل فما لهولاء الكفار يحرمون الثياب فى الطواف واللحم والدسم فى الحج والسوائب ونحو ذلك وبهذه الآية يثبت ان الأصل فى المطاعم والمشارب والملابس الحل ما لم يثبت تحريمها من اللّه تعالى قُلْ يا محمد هِيَ أى الزينة والطيبات كائنة مخلوقة لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا حتى يتمتعون بها ويشكرون اللّه تعالى عليها ويتقوون بها على عبادته وليست للكفار الا تبعا للمؤمنين شاركهم اللّه تعالى فيها ابتلاء واستدراجا خالِصَةً قرأ نافع بالرفع على انه خبر بعد خبر لهى والباقون بالنصب على
_________
(1) عن الحسن قال دخل عمر على اخر ابنه عبد اللّه إذا عندهم لحم فقال ما هذا اللحم فقال أشتهيه وكلما اشتهيت شيئا أكلته كفى بالمرأ إسرافا ان يأكل كل ما اشتهى 12
(2) وعن عمر بن الخطاب قال إياكم والبطنة فى الطعام والشراب فانها مفسدة للجسد مورثة للقسم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصر فيهما فانه أصلح للحمد وابعد من السرف وان اللّه ليبغض الجسد السمين وان الرجل لن يهلك حتى يوثر شهوته على دينه 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 348(1/2354)
انه حال مقدرة يعنى مقدرين الخلوص من التنغيص والغم يَوْمَ الْقِيامَةِ واما فى الدنيا فهى مشوبة بالغم والتنغيص أو المعنى مقدرين الخلوص لهم لا يشاركهم الكفار كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعنى ميزنا الحلال من الحرام هاهنا حيث أمرنا بإتيان الحلال وترك الحرام ونهينا عن الإسراف وإتيان الحرام كذلك نفصل سائر الاحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ انه لا شريك للّه تعالى أحد.
قُلْ يا محمد إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الْفَواحِشَ أى ما تزايد قبحه ما ظَهَرَ مِنْها كطواف الرجل بالنهار عريانا وَما بَطَنَ كطواف النساء بالليل عريانا وقيل الزنا سرا وعلانية عن ابن مسعود يرفعه قال لا أحدا غير من اللّه فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدحة من اللّه فلذلك مدح نفسه وَالْإِثْمَ أى ما يوجب الإثم يعنى الذنب والمعصية تعميم بعد تخصيص وقال الضحاك الإثم الذنب الذي لا حدّ فيه وقال الحسن الإثم الخمر قال الشاعر :
شربت الإثم حتى ضل عقلى كذلك الإثم يذهب بالعقول
وَ الْبَغْيَ الظلم أو الكبر أفرده بالذكر مبالغة أو المراد البغي على سلطان عادل بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي موكد له معنى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أى باشراكه سُلْطاناً حجة فيه تهكم بالمشركين وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فى تحريم الحرث والانعام والطواف عريانا وغير ذلك وقال مقاتل هو عام فى تحريم القول فى الدين من غير يقين.(1/2355)
وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ يعنى لكل أمة من الكفار مدة ووقت معين فى علم اللّه تعالى لنزول العذاب بهم وعيد لاهل مكة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أى حان وقت عذابهم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أى لا يتاخرون اقصر وقت وان طلبوا الامهال وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ولا يتقدمون ذلك وان سألوا العذاب لقولهم اللّهمّ ان كان هذا هو الحق من عندك فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم « 1 »
_________
(1) وعن ابن المسيب قال لما طعن عمر قال كعب لو دعا اللّه عمر لاخر فى اجله فقيل له أ ليس قد قال اللّه تعالى فإذا جاء أجلهم لا يستاخرون ساعة ولا يستقدمون قال كعب وقد قال اللّه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره الا فى كتاب مبين فان اللّه يوخر ما يشاء وينقص ما يشاء فإذا جاء أجلهم لا يستاخرون ولا يستقدمون وعن أبى مليكة قال لما طعن عمر جاء كعب فجعل يبكى ويقول واللّه لو ان امير المؤمنين ليقسم على اللّه ان يوخره لاخره فدخل ابن عباس عليه فقال يا امير المؤمنين هذا كعب يقول كذا وكذا قال إذا واللّه لا اسأله 5
فسير المظهري ، ج 3 ، ص : 349
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ما زايدة زيدت لتاكيد الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون ذكر اللّه سبحانه بحرف الشك للتنبيه على ان إتيان الرسل جائز غير واجب ولا يجب على اللّه شىء رُسُلٌ مِنْكُمْ أى من بنى آدم يَقُصُّونَ أى يقرءون عَلَيْكُمْ آياتِي من الكتب صفة لرسل وجواب الشرط فَمَنِ اتَّقى منكم يعنى من الشرك وتكذيب الرسل وَأَصْلَحَ عمله أى أخلصه للّه تعالى واتى به كما امره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الناس فى القبر ويوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ إذا حزنوا فى النار.(1/2356)
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا منكم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أى عن الايمان بها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ادخل الفاء فى الجزاء الأول دون الثاني للمبالغة فى الوعد والمسامحة فى الوعيد.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أى جعل له شريكا أو قال اتخذ اللّه صاحبة وولدا أو قال اللّه أمرنا بتحريم السوائب والطواف عريانا ونحو ذلك واللفظ يشتمل الروافض الذين يفترون على اللّه وعلى رسوله ويقولون انزل اللّه فى القرآن آيات كثيرة القاها الصحابة من القرآن أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ المنزلة والترديد لمنع الخلو أُولئِكَ يَنالُهُمْ فى الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أى حقهم مما كتب لهم فى صحف الملئكة الموكل بهم من الأرزاق والتمتعات والأعمال والاكساب والمصائب والآجال وقيل الكتاب اللوح المحفوظ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يعنى ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ يقبضون أرواحهم قالُوا جواب إذا يعنى قالت الرسل للكفار أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما موصولة وصلت باين الاستفهامية فى خط المصحف وكان حقها الفصل والاستفهام للتوبيخ يعنى اين الذين كنتم تعبدونها من دون اللّه من الأصنام وغيرها قالُوا أى الكفار ضَلُّوا أى غابوا عَنَّا وَشَهِدُوا يعنى الكفار اعترفوا عند معاينة العذاب عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ قالَ اللّه تعالى يوم القيمة أو ملك الموت حين التوفى.(1/2357)
ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أى كائنين فى جملة امم قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنى الكفار الأمم الماضية من الفريقين فِي النَّارِ متعلق بادخلوا كُلَّما دَخَلَتْ النار أُمَّةٌ كافرة من الأمم لَعَنَتْ أُخْتَها فى الدين التي ضلت هذه الامة باقتدائها فيلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى ويلعن الاتباع القادة حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أى تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا فِيها أى فى النار
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 350
جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا وهم الاتباع لِأُولاهُمْ دخولا وهم القادة فانهم يدخلون النار أو لا وقال ابن عباس اخر كل أمة لاولها زمانا الذين شرعوا ذلك الدين الباطل رَبَّنا هؤُلاءِ يعنى القادة أَضَلُّونا عن الهدى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أى مضاعفا يعنى مثلى ما نحن فيه مِنَ النَّارِ لانهم ضلوا وأضلوا قالَ اللّه تعالى لِكُلٍّ منكم ومنهم ضِعْفٌ ما يرى الاخر فان للعذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الاخر الظاهر دون الباطن فيقدر انه ليس له العذاب الباطن أو المعنى لكل ضعف ما يقتضيه ضلاله اما لقادة فبكفرهم وتضليلهم واما لاتباع فبكفرهم وتقليدهم أهل الباطل دون أهل الحق وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أى لا يعلم أحد منكم ما لغيره من العذاب قرأ أبو بكر عن عاصم بالياء للغيبة على الانفصال والباقون بالتاء على الخطاب.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ عطفوا كلامهم على جواب اللّه تعالى لاخريهم ورتبوا عليه فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يعنى فقد ثبت بقول اللّه تعالى ان لا فضل لكم علينا وانه كل متساوون فى استحقاق العذاب فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل ان يكون من قول القادة أو من قول اللّه تعالى للفريقين.(1/2358)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أى عن الايمان بها لا تُفَتَّحُ قرأ أبو عمرو بالتاء لتانيث الفاعل لكونه جمعا بالتخفيف من المجرد وحمزة والكسائي بالياء لان الفاعل مؤنث غير حقيقى ومفعول من المجرد أيضا والباقون بالتاء كابى عمرو والتشديد من التفعيل لكثرة الأبواب لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لاوعيتهم ولا لاعمالهم ولا لارواحهم وقال ابن عباس لارواحهم لانها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين عن البراء بن عازب فى حديث طويل رواه مالك والنسائي والبيهقي فى البعث والنشور قوله صلى اللّه عليه واله وسلم فى ذكر العبد الكافران الملئكة سود الوجوه إذا قبضت نفسه جعلوها فى المسوح ويخرج منها كنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملئكة الا قالوا ما هذا الروح الخبيث فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها فى الدنيا حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لا يفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل فى سم الخياط فيقول اللّه عز وجل اكتبوا كتابه فى سجين فى الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 351(1/2359)
و من يشرك باللّه فكانما خرمن السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق لحديث وفى حديث أبى هريرة عند ابن ماجة نحوه وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أى حتّى يدخل ما هو مثل فى عظم الجثة وهو البعير فيما هو مثل فى ضيق المنفذ وهو ثقبة الابرة وذلك لا يكون فكذا ما علق به بدل ذلك على تأكيد المنع يعنى لا يدخلون ابدا وَكَذلِكَ أى مثل ذلك الجزاء القطيع يعنى الياس من رحمة اللّه تعالى نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ لَهُمْ أى للمجرمين مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ لحف منها والتنوين عوض من الياء المحذوفة عند سيبويه وللصرف عند غيره يعنى النار محيط بهم من كل جانب نظيره قوله تعالى من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على انه أعظم من الاجرام ثم أورد اللّه سبحانه وعد المؤمنين بعد وعيد الكفار كما هو عادته فقال.(1/2360)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدأ ولما كان الجمع المحلى باللام من صيغ العموم موهما لاختصاص الوعد بمن عمل جميع الصالحات أورد معترضا بين المبتدأ والخبر لدفع ذلك التوهم قوله لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أى بقدر طاقتها بحيث لا تحرج ولا يشق عليها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خبر للمبتدأ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَنَزَعْنا أى أخرجنا صيغة ماض وضع موضع مستقبل تحقيقا لوقوعه ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أى حسد وعداوة كانت بينهم فى الدنيا حتى لا يكون بينهم الا التواد لا يحسد بعضهم على بعض على شىء خص اللّه به بعضهم أخرج سعيد بن منصور وأبو نعيم فى الفتن وابن أبى شيبة والطبراني وابن مردوية عن على رضى اللّه عنه انه قال انى أرجو أن أكون انا وعثمان وطلحة والزبير منهم قلت قال ذلك على رضى اللّه عنه لما وقع بينهم فساد ظن فى فتنة شهادة عثمان رضى اللّه عنه أخرج البخاري والإسماعيليّ فى مستخرجه واللفظ له عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فى قوله تعالى ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين قال يخلص المؤمنون من النار فيحسون على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى إذا هذبوا وقفوا اذن لهم فى دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لاحدهم اهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله فى الدنيا قال قتادة راوى الحديث كان يقال ما يشبه بهم الا أهل الجمعة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 352(1/2361)
انصرفوا عن جمعتهم واخرج ابن أبى حاتم عن الحسن البصري قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يوخذ لبعضهم من البعض ظلماتهم فى الدنيا ويدخلون الجنة ليس فى قلوب بعضهم على بعض غل قال القرطبي هذا فى حق من لم يدخل النار اما من دخلها ثم أخرج منها فانهم لا يحاسبون بل إذا خرجوا اذهبوا على نهار الجنة قال ابن حجر قوله يخلص المؤمنون من النار أى ينجون من السقوط بمجاورة الصراط واختلف فى القنطرة المذكورة فقيل انها من تتمة الصراط وهى طرفه الذي يلى الجنة وقيل الصراط اخر وبه جزم القرطبي وقال السيوطي والاول هو المختار قلت وذلك لان القصاص انما يكون بالحسنات والسيئات فانه ليس ثمه دينار ولا درهم ان كان له يعنى للظالم عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمة وان لم يكن له حسنة أخذ من سيأت صاحبه فحمل عليه كذا روى البخاري من حديث أبى هريرة مرفوعا وعند مسلم والترمذي عنه مرفوعا فان فنيت حسناته قبل ان يقتص ما عليه من الخطايا أخذ من خطاياهم فتطرح عليه ثم طرح فى النار قلت والطرح فى النار لا يتصور بعد مجاورة الصراط بتمامه واللّه اعلم قلت وليس نزع الغل من الصدور منحصرا فى صورة القصاص ودفع الحسنات والسيئات من البعض إلى البعض بل قد يكون بغير ذلك كما قال البغوي قال السند فى هذه الآية الكريمة ان أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة فى اصل ساقها عينان فشربوا من أحدهما فينزع ما فى صدورهم من غل وهو الشراب الطهور ومن الاخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ان يشعثوا ولن يشحبوا بعدها ابدا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ من تحت منازلهم بعد ما دخلوا الجنة الْأَنْهارُ حال من هم فى صدورهم فيها بمعنى الاضافة وَقالُوا أى أهل الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أى إلى هذا يعنى الجنة وقال سفيان الثوري معناه هدانا لعمل ثوابه هذا وَما كُنَّا(1/2362)
لِنَهْتَدِيَ اللام للجحود لتاكيد النفي كما فى قوله تعالى ما كان اللّه ليعذبهم بعدها ان المصدرية مقدرة والمصدر بمعنى الفاعل أو بتقدير المضاف خبر لكان تقديره ما كنا ذا اهتداء أو مهتدين لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وجواب لو لا محذوف دل عليه ما قبله يعنى لو لا هداية اللّه ما كنا مهتدين قرأ ابن عامر ما كنا بغير واو على انها صبية للاولى والباقون بالواو على انه حال من مفعول هدانا لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم يقولون ذلك تبجحا حين رأوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 353
ما وعدهم الرسل عيانا وَنُودُوا أى أهل الجنة قيل هذا النداء إذا راوا الجنة من بعيد وقيل هذا النداء يكون فى الجنة واختاره السيوطي فى البدور السافرة أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ان فى المواضع الخمسة هى المفسرة لان المناداة
و التأذين بمعنى القول وجاز ان يكون مخففة أُورِثْتُمُوها أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أى بسبب أعمالكم الجملة حال من الجنة والعامل فيه معنى الاشارة أو خبر والجنة صفة تلكم قال صاحب المدارك سماها ميراثا لانها لا تستحق بالعمل بل هى محض فضل اللّه تعالى وعده على الطاعات كالميراث من الميت ليس بعوض عن شىء بل هو صلة خالصة أخرج مسلم عن أبى سعيد الخدري وابى هريرة رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ينادى مناد ان لكم ان تصحوا فلا تسقموا ابدا ولكم ان تحيوا فلا تموتوا ابدا وان لكم ان تشبوا فلا تهرموا ابدا وان لكم ان تنعّموا فلا تباسوا « 1 » ابدا فذلك قوله تعالى ونودوا ان تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون واخرج ابن ماجة والبيهقي بسند صحيح عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ما منكم من أحد الا له منزلان منزل فى الجنة ومنزل فى النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى أولئك الوارثون.(1/2363)
وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من الثواب حَقًّا متحققا فى الواقع حال فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا قالوا ذلك تبجحا بحالهم وشماتة باصحاب النار تقديره وعدكم حذف كم لدلالة وعدنا ربنا عليه أو يقال لم يقل وعدكم كما قال وعدنا لان ما ساهم من الموعود لم يكن بامره وعده مخصوصا بهم كالبعث والحساب ونعيم الجنة قالُوا نَعَمْ قرأ الكسائي بكسر العين حيث وقع والباقون بفتحها وهما لغتان فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أى نادى مناد قيل هو صاحب الصور بَيْنَهُمْ أى بين الفريقين بحيث اسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ قرأ البزي عن ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي بتشديد انّ ونصب اللعنة والباقون بتخفيفها والرفع عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ أى يمتنعون أو يمنعون الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى دينه صفة للظلمين مقررة أو ذم مرفوع أو منصوب وَيَبْغُونَها عِوَجاً زيعا وميلا عما هو عليه مفعول ثان ليبغون أى يطلبون لها الاعوجاج والتناقض قال ابن عباس يصلون لغير الله ويعظمون ما لم يعظمه اللّه قلت تقديره الذين كانوا يصدون عن
_________
(1) بئس يبئس بالضم فيهما بأسا اشتد والمبتئس الكارة والحزين 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 354(1/2364)
سبيل اللّه لان ذلك كان منهم فى الدنيا لا حين يقال لهم ذلك والعوج بالكسر فى المعاني والأعيان ما لم يكن منتصبة كالّذين والأرض وبالفتح فى الأعيان المنتصبة كالحائط والرمح ونحوهما وَهُمْ بِالْآخِرَةِ باللّه أو الاخرة كافِرُونَ وَبَيْنَهُما أى بين الجنة والنار وقيل بين أهل الجنة واهل النار حِجابٌ وهو سور الذي ذكره اللّه تعالى فى سورة الحديد فضرب بينهم بسور له باب وقد ذكر هناك تفسيره وَعَلَى الْأَعْرافِ أى على اعراف الحجاب يعنى على أعالي السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس أخرج هناد من طريق مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فانه يكون لظهوره اعرف من غيره رِجالٌ اختلف الأقوال فى هؤلاء الرجال أوجهها انهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم منعت حسناتهم من دخول النار وتقاصرت من دخول الجنة كذا أخرج ابن مردوية عن جابر بن عبد اللّه عنه صلى اللّه عليه واله وسلم واخرج ابن جرير والبيهقي من طريق أبى طلحة عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الأعراف سور بين الجنة والنار وأصحابه رجال كانت لهم ذنوب عظام حبسهم امر اللّه يقومون على الأعراف يعرفون أهل النار لسواد الوجوه واهل الجنة ببياض الوجوه فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا ان يدخلوها وإذا نظروا إلى النار تعوذوا باللّه تعالى منها فادخلهم اللّه الجنة فذلك قوله تعالى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة يعنى اصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون واخرج هناد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ فى تفاسيرهم من طريق عبد اللّه بن الحارث عن ابن عباس قال الأعراف السور الذي بين الجنة والنار واصحاب الأعراف المحبوسون بذلك حتى إذا بدأ اللّه تعالى ان يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له الحيوة حافتاه الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فالقوا فيه حتى يصلح ألوانهم(1/2365)
و تبدوا فى نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم اتى بهم الرحمن تعالى فقال تمنوا ما شئتم فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم لكم الذي تمنيتم ومثله وسبعون ضعفا فيدخلون الجنة فى نحورهم شامة « 1 » بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة واخرج أبو الشيخ من طريق ابن المنكدر عن رجل من مزينة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم سئل عن الأعراف فقال هم قوم خرجوا عصاة بغير اذن ابائهم فقتلوا فى سبيل اللّه وهم لابائهم عاصون فمنعوا الجنة بمعصية ابائهم ومنعوا النار
_________
(1) الشامة الخال فى الجسد 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 355(1/2366)
لقتلهم فى سبيل اللّه واخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبى سعيد الخدري قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن اصحاب الأعراف فقال هم رجال قتلوا فى سبيل اللّه وو هم عصاة لابائهم فمنعتهم الشهادة ان يدخلوا النار ومنعتهم المعصية ان يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار حتى تذبل « 1 » لحومهم وشحومهم حتى يفرغ الله من حساب خلقه ولم يبق غيرهم تغمد اللّه برحمته فادخلهم الجنة برحمته واخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردوية وأبو الشيخ فى تفاسيرهم والطبراني والحارث بن اسامة فى مسنده والبيهقي من عبد الرحمن المزني قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عن اصحاب الأعراف فقال هم أناس قتلوا فى سبيل اللّه قلت لعل المراد بهذا الذين قتلوا فى سبيل اللّه الذين هم عصاة لابائهم جمعا بين هذا وبين ما سبق وليعلم ان الذين قتلوا فى سبيل اللّه عصاة لابائهم افراد ممن استوت حسناتهم وسيئاتهم فذكرهم على وجه التمثيل لا على وجه الحصر لما مر من الأحاديث ولما أخرج ابن أبى داؤد وابن جرير عن ابن عمر بن حزم بن جرير قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فقال هم اخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العلمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة وأنتم عتقاء فارعوا من الجنة حيث شئتم قال السيوطي مرسل حسن واخرج ابن مردوية وأبو الشيخ من طريقين عن جابر بن عبد اللّه قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عمن استوت حسناتهم وسيئاتهم فقال أولئك اصحب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون واخرج البيهقي عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يجمع اللّه الناس بينهم يوم القيامة فيومر باهل الجنة الجنة وباهل النار النار ثم قال لاصحاب الأعراف ما تنتظرون قالوا ننتظر أمرك فيقال لهم ان حسناتكم تجاوزت بكم النار ان تدخلوها و(1/2367)
حالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا بمغفرتى ورحمتى واخرج سعيد بن منصور وابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وهناد وحذيفة قال اصحاب الأعراف قوم قصرت سيأتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى ينقضى اللّه تعالى بين الناس فبينما هم كذلك إذا طلع عليهم ربهم فقال لهم قوموا فادخلوا الجنة فانى غفرت لكم واخرج عبد الرزاق عن حذيفة قال اصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيأتهم على سور بين الجنة والنار وهم على طمع من دخول الجنة وهم داخلون وروى البغوي بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن مسعود
_________
(1) ذبلت بشرته أى قل ماء جلد ورهبت نضارته 12 نهايه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 356(1/2368)
قال يحاسب الناس يوم القيمة فمن كانت حسناته اكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته اكثر من حسناته بواحدة دخل النار ثم قرأ قال اللّه عز وجل فمن ثقلت موازينه فاولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فاولئك الذين خسروا أنفسهم ثم قال ان الميزان يخف حسناته وسيئاته بمثقال حبة ويرجح قال ومن حسناته وسيئاته كان من اصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة واهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى اصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين فاما اصحاب الحسنات فانهم يعطون نورا يمشون به أيديهم وبايمانهم ويعلى كل عبد يومئذ نورا فإذا أتوا على الصراط سلب اللّه نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة ما بقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا فاما اصحاب الأعراف فان النور لم ينزع من بين أيديهم ومنعهم سيأتهم ان يمشوا فبقى فى قلوبهم الطمع إذ لم ينزع من بين أيديهم فهناك يقول اللّه عز وجل لم يدخلوها وهم يطمعون وكان الطمع للنور الذي بين أيديهم ثم ادخلوا الجنة وكانوا اخر أهل الجنة دخولا واماما أخرج هناد عن مجاهد قال اصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء والأعراف سور بين الجنة والنار فلعل المراد من القوم الصالحين المؤمنين الفقهاء العلماء ارتكبوا السيئات بحيث تساوت حسناتهم خلطوا عملا صالحا واخر سيئا عسى اللّه ان يتوب عليهم واماما أخرج البيهقي عن أبى مجلز انه قال الأعراف مكان مرتفع عليه رجال من الملئكة يعرفون أهل الجنة بسيماهم واهل النار بسيماهم فليس بشئ إذ لا يقال للملئكة رجال وقد سماهم اللّه تعالى برجال وأيضا يرده ما روينا من الأحاديث واماما قال بعضهم انهم رجال من الأنبياء أو الأولياء أو الشهداء فيطلعون على أهل الجنة واهل النار جميعا ويطلعون احوال الفريقين فيرده ما روينا من الأحاديث وما سيتلى عليك من الآيات واماما(1/2369)
قال بعضهم انهم أطفال المشركين يرده قوله تعالى رجال وما ذكرنا من الأحاديث يَعْرِفُونَ أى اصحاب الأعراف كُلًّا أى كل فريق من المؤمنين والكافرين بِسِيماهُمْ أى بعلامتهم يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم واهل النار بسواد وجوههم مشتق من سام ابله إذا أرسلها فى المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه وَنادَوْا اصحاب الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعنى سلّموا عليهم إذا نظروا إليهم لَمْ يَدْخُلُوها يعنى اصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ دخولها حيث خلصوا من النار قال الحسن لم يطمعهم الا للكرامة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 357
يريدها بهم والجملة مستانفة لا محل لها من الاعراب كانّ سائلا سأل عن اصحاب الأعراف فقال لم يدخلوها وهم يطمعون وجاز ان يكون حالا من الضمير المرفوع فى نادوا أو صفة لرجال ومن قال ان اصحاب الأعراف الأنبياء والملئكة قال هذه الجملة حال من مفعول نادوا يعنى اصحاب الجنة.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أى أبصار اصحاب الأعراف فيه اشارة إلى ان صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيدوا تِلْقاءَ ظرف أى إلى جانب أَصْحابِ النَّارِ ورأوا ما هم فيه من العذاب تعوذوا باللّه وفرعوا إلى رحمته قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى لا تجعلنا فى النار مع الكافرين سياق الآية تدل على ان اصحاب الأعراف فى خوف ورجاء وذلك مقتضى استواء حسناتهم ولا يتصور ذلك فى الأنبياء والشهداء والصلحاء الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.(1/2370)
وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء فى الدنيا من الكفار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا أى اصحاب الأعراف بيان لنادى ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أى كثرتكم واعوانكم وأولادكم وجمعكم المال وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق أو على الخلق قال الكلبي ينادون على السوريا وليد بن مغيرة يا أبا جهل بن هشام يا فلان ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم فيقول اصحاب الأعراف لهؤلاء الكفار.
أَ هؤُلاءِ يعنى هؤلاء الضعفاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ وحلفتم لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أى حلفتم انهم لا يدخلون الجنة ثم يقال لاهل الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ قلت وجاز ان يكون هذا من تتمة كلام اصحاب الأعراف يعنى هؤلاء الضعفاء الذين أقسمتم لا ينالهم اللّه برحمة وقد قيل لهم ادخلوا الجنة الآية قال البغوي وفيه قول اخر وهو ان اصحاب الأعراف إذا قالوا لاهل النار قالوا قال لهم أهل النار ان دخل أولئك الجنة فانتم لم تدخلوها فيعيرونهم ويقسمون انهم يدخلون النار فيقول الملئكة الذين حبسوا اصحاب الأعراف على الصراط لاهل النار أ هؤلاء يعنى اصحاب الأعراف الذي أقسمتم يا أهل النار انه لا ينالهم رحمة اللّه ثم قالت الملئكة لاصحاب الأعراف ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون فيدخلون الجنة قال البغوي قال عطاء عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه لما صار اصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار فى الفرج وقالوا يا رب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 358
ان لنا قرابات من أهل الجنة فاذن لنا حتى نريهم ونكلمهم فنظروا إلى قراباتهم فى الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم ولم يعرفوا أهل الجنة أهل النار بسواد وجوههم.(1/2371)
وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بأسمائهم واخبروهم بقراباتهم أَنْ أَفِيضُوا أى صبوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الاشربة ليلا يم الاضافة أو من طعام الجنة فهو من قبيل علفتها تبنا وماء باردا قالُوا يعنى اصحاب الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما أى الماء والطعام عَلَى الْكافِرِينَ قال البيضاوي معناه منعهما عنهم منع المحرم على المكلف وقال فى المدارك هو تحريم منع كما فى قوله وحرمنا عليه المراضع قلت ومنه قوله تعالى حرام على قرية أهلكناها انهم لا يرجعون واخرج ابن أبى الدنيا والضيا كلاهما فى صفة النار عن زيد بن رفيع ان أهل النار إذا دخلوا النار عكوا الدموع زمانا ثم بكوا الفيح زمانا فيقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء تركتم البكاء فى الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به فيعرفون به أصواتهم يا أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش فافيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم اللّه فيدعون أربعين لا يجيبهم ثم يجيبهم أنتم ماكثون فيئسون من كل خير واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى اللّه عنهما فى هذه الآية قال ينادى الرجل أخاه فيقول يا أخي أغثني فانى قد أحرقت فيقول ان اللّه حرمهما على الكفرين.(1/2372)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مجرور وصفا للكافرين أو مرفوع أو منصوب على الذم دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً بتحريم البحيرة وأخواتها والمكاء والتصدية حول البيت والطواف عريانا وأكل الميتة والاستسقام بالأزلام وغير ذلك من الأمور التي كانوا يفعلونها فى الجاهلية وقيل معناه اتخذوا عيدهم لهوا ولعبا قال البيضاوي اللهو صرف الهم بما لا يحسن ان يصرف به واللعب طلب الفرح بما لا يحسن ان يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا ونسوا الاخرة وزعموا ان لا حيوة الا الحيوة الدنيا ولا الخير ولا الشر الا فيها فَالْيَوْمَ يوم القيامة نَنْساهُمْ نتركهم ترك الناسي فى النار كَما نَسُوا أى نسيانا كنسيانهم لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا حتى تركوا العمل بما ينفعهم يومهم هذا وَما كانُوا وكما كانوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعنى ككونهم جاحدين باياتنا منكرين انها من عند اللّه.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ يعنى القرآن فَصَّلْناهُ بينا معانيه وميزنا حلاله وحرامه ومواعظه وقصصه وأوضحنا العقائد الحقة من الباطلة عَلى عِلْمٍ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 359
عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيما أو عالمين بمصالحهم فهو حال من فاعل فصلناه أو مشتملا على علم فهو حال من مفعوله هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حال من مفعول فصلناه.(1/2373)
هَلْ يَنْظُرُونَ أى هل ينتظرون فى الايمان بالقران إِلَّا تَأْوِيلَهُ يعنى الا ما يؤل إليه امره من تبين صدقة وظهور ما ينطق به من الوعد والوعيد قال مجاهد جزاءه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أى جزاءه وما يؤل إليه أمرهم وذلك يوم موتهم أو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ أى تركوه ترك الناسي ولم يؤمنوا به قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ قد تبين لهم انهم جاؤا بالحق فاعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ عطف على جملة قبلها داخلة معها فى حكم الاستفهام كأنَّه قيل فهل لنا من شفعاء أو هل نرد ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كقولك ابتداء هل يضرب زيدا وعطف على تقدير هل يعنى هل يشفع لنا شافع أو هل نرد إلى الدنيا فَنَعْمَلَ جواب للاستفهام الثاني غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ نوحد اللّه ونترك الشرك والمعاصي قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم فى الكفر وَضَلَّ وبطل واضمحل عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ان اللّه تعالى أمرهم به أو فى ادعاء الشريك.(1/2374)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أى مقدار ستة ايام من ايام الدنيا وقيل ستة ايام كايام الاخرة كل يوم الف سنة قال سعيد بن جبير كان اللّه عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض فى لمحة ولحظة فخلقهن فى ستة ايام تعليما لخلقه التثبت والتأني فى الأمور وقد جاء فى الحديث التأني من الرحمن والعجلة من الشيطان رواه البيهقي فى شعب الايمان مرفوعا عن انس ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قال البغوي اولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء واما أهل السنة يقولون الاستواء على العرش صفة للّه تعالى بلا كيف يجب على الرجل الايمان به ويكل العلم فيه إلى اللّه عز وجل سأل رجل مالك بن انس عن قوله تعالى الرحمن على العرش استوى كيف استوى فاطرق راسه مليا ثم قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والايمان به واجب والسؤال عنه بدعة وما أظنك الا ضالا ثم امر به فاخرج وروى عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعيد وسفيان بن عيينة وعبد اللّه وغيرهم من علماء أهل السنة فى هذه الآيات التي جاءت فى الصفات المتشابهة أمروها كما جاءت بلا كيف والعرش فى اللغة سرير الملك وهو جسم عظيم من عظائم المخلوقات كريم على اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 360(1/2375)
تعالى لاختصاصه بانواع من التجليات ولذا سمى بعرش الرحمن وأضيف إليه تعالى تشريفا وتكريما كما أضيف إليه الكعبة وسمى بيت اللّه وقد ذكرنا بعض ما ورد فيه من الاخبار فى اية الكرسي فى سورة البقرة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أى يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به أو لان اللفظ يحتملهما وقال البغوي فيه حذف ويغشى النهار الليل ولم يذكر لدلالة الكلام عليه قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب يغشى بالتشديد هاهنا وفى سورة الرعد للدلالة على التكرير والباقون بالتخفيف يَطْلُبُهُ أى يعقبه فان أحدهما إذا كان يعقب الاخر ويخلفه فكانه يطلبه حَثِيثاً أى سريعا بلا مهلة وهو صفة مصدر محذوف أى طلبه حثيثا أو حال من الفاعل بمعنى حاثا أو المفعول بمعنى محثوثا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ أى مذللات بِأَمْرِهِ بقضائه وتصريفه قرأ ابن عامر برفع الاربعة على الابتداء والخبرية والباقون بنصب الثلاثة بالعطف على السموات ونصب مسخرات على الحال وكذلك فى سورة النحل أَلا لَهُ الْخَلْقُ جميعا لا خالق غيره وَالْأَمْرُ كله بيده يحكم ما يريد لا يجوز لاحد الاعتراض عليه قالت الصوفية المراد بالخلق والأمر عالم الخلق يعنى الجسمانية العرش وما تحته من السموات والأرض وما بينهما وأصولها العناصر الاربعة النار والهواء والماء والتراب ويتولد منها النفوس الحيوانية والنباتية والمعدنية وهى أجسام لطيفة سارية فى أجسام كثيفة وعالم الأمر يعنى المجردات من القلب والروح والسر والخفي والأخفى التي هى فوق العرش سارية فى النفوس الانسانية والملكية والشيطانية سريان الشمس فى المرآة سميت بعالم الأمر لان اللّه تعالى خلقها بلا مادة بامره كن قال البغوي قال سفيان بن عيينة فرق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أى تعالى اللّه بالوحدانية فى الالوهية وتعظم(1/2376)
بالتفرد فى الربوبية مشتق من البركة بمعنى النماء والزيادة ومن لوازمه العظمة قيل معناه ان البركة يكتسب ويناول بذكره وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما معناه قال جاء بكل بركة وقال الحسن البركة من عنده وقيل تبارك أى تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك اللّه تعالى أى باسمه تبرك فى كل شىء قال المحققون معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال واصل البركة الثبوت ومنه البركة ويقال تبارك اللّه ولا يقال على اللّه المبارك والمبارك توفيقا على السمع.
ادْعُوا رَبَّكُمْ يعنى اذكروه واعبدوه واسألوا منه حوائجكم تَضَرُّعاً حال من فاعل ادعوا أى ذوى تضرع أو متضرعين تفعل من الضرع من ضرع الرجل ضراعة ضعف وذل فهو ضارع وضرع وتضرع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 361(1/2377)
اظهر الضراعة فى القاموس ضرع إليه يثلث ضرعا محركة وضراعة خضع وذل واستكان وَخُفْيَةً قرأ أبو بكر بكسر الخاء والباقون بالضم أى ذوى إخفاء أو مخفين فان الإخفاء دليل الإخلاص وابعد من الرياء اعلم ان الذكر مطلقا عبادة سواء كان جهرا إذا لم يخالطه الرياء أو سرا عن أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول اللّه تعالى انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى وان ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم متفق عليه فان هذا الحديث يفيد ذكر الجهر والخفي كليهما وزعم بعض الناس ان هذا الحديث يدل على افضلية الجهر من الخفي وليس بشئ إذ لا مزية لذكر اللّه عبده فى ملأ على ذكره إياه فى نفسه بل الأمر على العكس ويدرك ذوق هذا الكلام من ذاق كاس العشق وقوله تعالى فاذكروا اللّه كذكركم اباءكم أو أشد ذكرا ليس فيه التشبيه فى الجهر بل فى إكثار الذكر ثم اجمع العلماء على ان الذكر سرا هو الأفضل والجهر بالذكر بدعة الا فى مواضع مخصوصة مسّت الحاجة فيها إلى الجهر به كالاذان والاقامة وتكبيرات التشريق وتكبيرات الانتقال فى الصلاة للامام والتسبيح للمقتدى إذا ناب نائبة والتلبية فى الحج ونحو ذلك ذكر ابن الهمام فى حواشى الهداية ان أبا حنيفة أخذ فى تكبيرات التشريق بقول ابن مسعود انه كان يكبر من صلوة الفجر يوم عرفة إلى صلوة العصر من يوم النحر الحديث رواه ابن أبى شيبة والصاحبان أخذا بقول على رضى اللّه عنه انه كان يكبر بعد الفجر يوم العرفة إلى صلوة العصر من اخر ايام التشريق رواه ابن أبى شيبة وكذا روى محمد بن الحسن عن أبى حنيفة بسنده عنه فقال ابن الهمام من جعل الفتوى على قولهما فقد خالف مقتضى الترجيح فان الخلاف فيه مع رفع الصوت لا فى نفس الذكر والأصل فى الاذكار الإخفاء والجهر به بدعة فإذا وقع التعارض فى الجهر يرجح الأقل ويدل على كون ذاكر السر أفضل ومجمعا عليه(1/2378)
من الصحابة من تبعهم قول الحسن ان بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون فى الدعاء وما يسمع لهم صوتا ان كان الا همسا بينهم وبين ربهم وذلك ان اللّه سبحانه وتعالى يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وان اللّه ذكر عبدا صالحا ورضى فعله فقال إذ نادى ربه نداء خفيا وأيضا يدل على فضل الذكر الخفي حديث سعد بن أبى وقاص قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفى رواه احمد وابن حبان فى صحيحه والبيهقي فى شعب الايمان وحديث أبى موسى قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم خيبر اشرف الناس على واد فرفعوا أصواتهم بالتكبير فقال رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 362
عليه واله وسلم اربعوا « 1 » على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا رواه البغوي قلت هذا الحديث وان كان دالا على افضلية الذكر الخفي لكن قوله اربعوا على أنفسكم يدل على ان النهى عن الجهر والأمر بالإخفاء انما هو شفقة لا لعدم جواز الجهر أصلا وكذا حديث خير الذكر الخفي (فصل) اعلم ان الذكر على ثلثة مراتب أحدها الجهر ورفع الصوت بها وذلك مكروه اجماعا الا إذا دعت إليه داعية واقتضته حكمة فحينئذ قد يكون أفضل من الإخفاء كالاذان والتلبية ونحو ذلك ولعل الصوفية الچشتية قدس اللّه تعالى أسرارهم اختاروا الجهر للمبتدى لاقتضاء حكمة وهى طرد الشيطان ودفع الغفلة والنسيان وحرارة القلب واشتغال نائرة الحب بالرياضة ومع ذلك يشترط لذلك الاحتراز عن الرياء والسمعة ثانيها الذكر باللسان سرّا وهو المراد بقوله صلى اللّه عليه واله وسلم لا يزال لسانك رطبا من ذكر اللّه رواه الترمذي وابن ماجة وروى احمد والترمذي قيل أى الأعمال أفضل قال ان تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر اللّه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى الله(1/2379)
عليه واله وسلم ان للّه ملئكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوما يذكرون اللّه تنادوا هلموا إلى حاجتكم قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا قال فيسئلهم ربهم وهو اعلم بهم ما يقولون عبادى قال يقولون يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك قال فيقول هل رأونى قال فيقولون لا واللّه ما رأوك قال فيقول كيف لو رأونى قال فيقولون لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيدا واكثر لك تسبيحا قال فيقول فما يسئلون قالوا يسئلونك الجنة قال فيقول وهل رأوها قال فيقولون لا واللّه يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو انهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة قال فمم يتعوذون قال يقولون من النار قال فيقول فهل راوها قال يقولون لا واللّه يا رب ما رأوها قال يقول فكيف لو رأوها قال يقولون لو رأوها كانوا أشد منها فرارا وأشد لها مخافة قال فيقول فاشهدوا انى قد غفرت لهم قال يقول ملك من الملئكة فيهم فلان ليس بينهم انما جاء لحاجة قال هم الجلساء لا يشقى جليسهم رواه البخاري ومسلم نحوه وثالثها الذكر بالقلب والروح والنفس وغيرها الذي لا مدخل فيه للسان وهو الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة أخرج أبو يعلى عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لفضل الذكر الخفي الذي لا يسمعه الحفظة سبعون ضعفا إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق لحسابهم وجاءت
_________
(1) اربعوا أى ارفقوا واقتصروا 12 النهاية
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 363(1/2380)
الحفظة بما حفظوا وكتبوا قال لهم انظروا هل بقي له من شىء فيقولون ما تركنا شيئا مما علمناه وحفظناه الا وقد أحصيناه وكتبناه فيقول اللّه تعالى ان له حسنا لا تعلمه وأخبرك به هو الذكر الخفي قلت وهذا الذكر هو الذي لا انقطاع لها ولا فتور فيها إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قيل المعتدين فى الدعاء كمن سأل منازل الأنبياء أو الصعود إلى السماء أو دخول الجنة قبل ان يموت ونحو ذلك مما يستحيل عقلا أو عادة أو يسأل امور الا فائدة فيها معتدا بها روى البغوي بسنده من طريق أبى داود السجستاني عن أبى نعامة ان عبد اللّه بن مغفل يسمع ابنه يقول اللهم انى أسئلك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنىّ سل اللّه الجنة وتعوذ به من النار فانى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول انه سيكون فى هذه الامة قوم يعتدون فى الطهور والدعاء كذا روى ابن ماجة وابن حبان فى صحيحه وروى أبو يعلى فى مسنده من حديث سعد قوله صلى اللّه عليه واله وسلم سيكون قوم يعتدون فى الدعاء حسب المرأ ان يقول اللهم انى أسئلك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل قال أبو يعلى لا أدرى قوله وحسب المرأ ان يقول اللهم إلى آخره هو من قول سعد أو من قول النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وقال عطية هم الذين يدعون على المؤمنين ما لا يحل فيقولون اللهم العنهم اللهم العنهم والبالغ فى هذا الاعتداء الروافض الذين يلعنون الصحابة وبعض أهل البيت وقال ابن جريج الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح لما مر فى حديث أبى موسى قوله صلى اللّه عليه واله وسلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا قلت الاعتداء التجاوز عن حدود الشرع فيعم جميع اقسام الاعتداء منها ما ذكر ومنها غير ذلك نحو ان يدعو ما فيه ثم أو قطيعة رحم أو يقول دعوت فلم يستجب لى أو يدعوا اللّه(1/2381)
بأسماء لم يرد الشرع بها أو يدعو قائلا انه يستجاب له.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي والبغي والدعاء إلى غير طاعة اللّه بَعْدَ إِصْلاحِها أى إصلاح اللّه سبحانه إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة اللّه عز وجل وبالنهى عن الاعتداء فى الدعاء قال البغوي هذا معنى قول الحسن والسدى والضحاك والكلبي وقال عطية لا تعصوا فى الأرض فيمسك اللّه المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم فعلى هذا معنى قوله تعالى بعد إصلاح اللّه تعالى إياها بالمطر والخصب وَادْعُوهُ خَوْفاً أى خائفين من رد الدعاء لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وَطَمَعاً أى طامعين فى الاجابة تفضلا وإحسانا لفرط رحمة إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 364
مِنَ الْمُحْسِنِينَ(1/2382)
ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الاجابة واشارة إلى ان رد الدعاء من الكريم الجواد ليس الا لشوم أعمالكم وترك إحسانكم ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الرجل يطيل السفر اشعث اغبر يمديده إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانّى يستجاب لذلك رواه مسلم والترمذي من حديث أبى هريرة وروى مسلم والترمذي عن أبى هريرة عنه صلى اللّه عليه واله وسلم قال لا يزال يستجاب العبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم وما لم يستعجل قيل يا رسول اللّه وما الاستعجال قال يقول فلم أر تستجاب لى فيستحسر عند ذلك ويدع عند ذلك وروى احمد عن عبد اللّه بن عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قال القلوب اوعية وبعضها اوعى من بعض فإذا سألتم اللّه عز وجل أيها الناس فاسئلوه وأنتم موقنون بالاجابة فان اللّه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل وعند الترمذي من حديث أبى هريرة نحوه فان قيل قد ذكرت انه لا يجوز لقائل ان يقول يستجاب دعاى البتة وقد ورد فى الحديث فاسئلوه وأنتم موقنون بالاجابة فكيف التوفيق قلت معنى أنتم موقنون فى الاجابة ان اللّه تعالى جواد كريم لا يتصور منه البخل وليس عدم الاجابة الا لاجل غفلتكم ومعصيتكم فالطمع فى الاجابة واليقين بها نظرا إلى رحمته وجوده تعالى وعدم التيقن بالاجابة وخوف الرد لاجل شوم أنفسنا فلا منافاة وتذكير قريب لان الرحمة بمعنى الرحم الثواب فيرجع النعت إلى المعنى أو لأنه صفة محذوف أى امر قريب أو للاضافة إلى المذكّر أو على التشبيه بالفعيل الذي هو المصدر كالنقيض أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره قال أبو عمرو بن العلا القريب يكون بمعنى القريب من حيث النسب ومن حيث المسافة فيقول العرب هذه امرأة قريبة منك إذا كانت بمعنى القرابة وقريب منك إذا كان بمعنى المسافة.(1/2383)
وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على الوحدة والباقون على الجمع بُشْراً قرأ عاصم بالباء التحتانية الموحدة المضمومة واسكان الشين حيث وقع وهو تخفيف بشر بضم الشين جمع بشير يعنى انها تبشر بالمطر قال اللّه تعالى الرياح مبشرات وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالنون مضمومة وضم الشين جمع نشور حيث وقع بمعنى ناشر قال اللّه تعالى والناشرات نشرا ............... ..
............... ............... ....... وقرأ حمزة والكسائي بالنون مفتوحة واسكان الشين حيث وقع على انه مصدر فى موضع الحال بمعنى ناشر أو مفعول مطلق فان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 365(1/2384)
الإرسال والنشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أى قدام نعمته يعنى المطر فان الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه عن أبى هريرة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يقول الريح من روح اللّه يأتي بالرحمة والعذاب فإذا رايتموه فلا تسبوها واسئلوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها رواه البخاري فى الأدب وأبو داود والحاكم وصححه ورواه البغوي من طريق الشافعي وعبد الرزاق حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أى حملت الرياح واشتقاقه من القلة فان المقل للشئ يستقله سَحاباً ثِقالًا بالماء جمعه لان السحاب بمعنى السحائب سُقْناهُ أى السحاب أفرد الضمير نظرا إلى لفظه لِبَلَدٍ أى لاجله أو لاحيائه أو لسقيه وقيل معناه إلى بلد مَيِّتٍ قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتشديد والباقون بالتخفيف والمراد بالميت ما لا نبات فيه فَأَنْزَلْنا بِهِ أى بالبلد والباء للسببية أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح والباء للالصاق الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أى بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح أو بالماء فإذا كان الضمير للبلد فالباء للظرفية والا فللسببية مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ أى كاخراج الثمرات أو كاحياء البلد الميت نُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتستدلون بقدرته تعالى على خلق ما خلق فى الدنيا على قدرته على إعادة ما يريد إعادته فى الاخرة قال البغوي قال أبو هريرة وابن عباس إذا مات الناس كلهم بالنفخة الاولى أرسل اللّه عليهم مطرا كمنى الرجال من ماء تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون فى قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم نومة فينامون فى قبورهم ثم يحشرون بالنفخة الثانية وهم يجدون طعم النوم فى رؤسهم وأعينهم فعند ذلك يقولون يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله(1/2385)
و سلم ما بين النفختين أربعون قالوا يا أبا هريرة أربعون يوما قال أبيت قالوا أربعون شهرا قال أبيت قالوا أربعون عاما قال أبيت ثم ينزل اللّه من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل وليس من الإنسان شىء الا يبلى الا عظما واحدا وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة واخرج ابن أبى داود فى البعث هذا الحديث وفيه بين النفختين أربعون عاما فيمطر اللّه فى تلك الأربعين واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال يسيل واد من اصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاما فينبت منه كل خلق بلى من الإنسان أو طير أو دابة ولو مر عليهم مارّ قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض فينبتون ثم ترسل الأرواح فتزوج
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 366
بالأجساد فذلك قول اللّه تعالى فإذا النفوس زوجت واخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير نحوه قال الحليمي اتفقت الروايات على ان بين النفختين أربعون سنة كذا أخرج ابن المبارك عن الحسن مرسلا.(1/2386)
وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعنى الأرض الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيته وتيسيره وهو فى موضع الحال عبر به عن كثرة نباته وحسنه وجلالة نفعه كما يدل عليه ما يقابله فكانه قال يخرج نباته حسنا وافيا بإذن ربه وَالبلد الَّذِي خَبُثَ يعنى الأرض الخبيثة السبخة والحرة أو نحو ذلك لا يَخْرُجُ نباته فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا مستترا إِلَّا نَكِداً الا قليلا لا منفعة فيه فى القاموس النكد بالضم قلة العطاء وبفتح وعطاء منكود قليل يقال نكد عيشهم كفرح اشتد وعسر والبير قل ماءها ونكد زيد حاجة عمرو منعه إياه وفلانا منعه ما ساله أو لم يعطه الا اقله ورجل نكد شوم عسر كَذلِكَ أى تصريفا مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه وهم المؤمنون لما كانت الآيات السابقة لبيان كمال قدرته تعالى على ما أراد وعموم فيضه ورحمته عقبها بهذه الآية لبيان تفاوت الاستعدادات فى قبول الفيض من المبدأ الفياض ليظهر ان النقصان انما هو من جهة المتأثر كما ان نبات الأرض يتفاوت بتفاوت استعداد الأرض مع اتحاد فيضان المطر كذلك تصريف الآيات ونصب الدلايل وبعث الرسل وان كان رحمة للعالمين عامة لكن الانتفاع بها مختص بالمؤمنين الشاكرين فانهم لحسن استعداداتهم المستفادة من ظلال اسم اللّه الهادي يهتدون بها ويتفكرون فيها ويعتبرون بها روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طايفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلاء والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طايفة اخرى انما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه فى دين اللّه ونفعه ما بعثني اللّه به فعلم وعلم و(1/2387)
مثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به.
لَقَدْ أَرْسَلْنا جواب قسم محذوف أى واللّه لقد أرسلنا ولا تكاد تطلق هذا اللام الا مع قد لانها مظنة التوقع فان المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو نوح بن لامك وقيل لمك بن متثولخ وامه عونة وقيل قينوس بنت براليك بن قشولخ وعند بعضهم متوشخ بن خنوخ وقيل أخنوخ وهو إدريس عليه السلام
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 367(1/2388)
و هو أول نبى خط بالقلم ابن مهليل وقيل مهلائيل بن قينن وقيل قينان وقيل قانن بن انوش وقيل مانيش بن شيث عليه السلام بن آدم عليه السلام وفى المستدرك عن ابن عباس قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كذا روى الطبراني عن أبى ذر مرفوعا ومما ذكرنا من سلسلة النسب يظهر ان نوحا بعد إدريس عليهما السلام كذا ذكر البغوي واسم نوح سكن لان الناس سكنوا إليه بعد آدم وقيل اسمه شاكر وقيل يشكر وذكر السيوطي فى الإتقان نقلا عن المستدرك للحاكم ان اسمه عبد الغفار واكثر الصحابة على انه قيل إدريس وانما سمى نوحا لكثرة نوحه على نفسه وقومه قيل كان نوحه لهول القيامة وقيل انه راى كلباسئ المنظر فقال له زنم إقليما أى كلب السوء فانطقه اللّه تعالى وقال العيب منى أو من خالقى فلما سمعه من الكلب أغمي عليه فلما أفاق كثر النوح على نفسه وذكر البغوي انه مر بكلب مجذوم فقال اخسأ يا قبيح فاوحى اللّه تعالى اعبتنى أم عبت الكلب وقيل ناح لدعوته على قومه بالهلاك وقيل لمراجعة ربه فى شان ابنه كنعان واللّه اعلم بعث اللّه تعالى نوحا وهو ابن أربعين سنة كذا قال ابن عباس فى المستدرك عنه مرفوعا بعث اللّه نوحا وهو ابن أربعين سنة فلبث فى قومه الف سنة الا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا وقيل بعث وهو ابن خمسين سنة وعاش بعد الطوفان اربعمائة وخمسين فجميع عمره الفا واربعمائة وخمسين وقيل بعث وهو ابن اربعمائة وخمسين أو ستين كذا فى شرح خلاصة السير وقيل بعث وهو ابن مائتى وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتى وخمسين سنة وكان عمره الفا واربع مائة وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وذكر ابن جرير ان تولد نوح كان بعد وفاة آدم بثمانمائة وستة وعشرين سنة قلت فعلى هذا وفاة نوح من بدو خلق آدم بعد الفين وثمانمائة وست وخمسين سنة لما فى الحديث ان آدم عمره الف سنة الا أربعين عاما(1/2389)
التي وهبها لابنه داود عليهم السلام كما سيذكر فى حديث فى قصة إخراج ذرية آدم من صلبه وفى تهذيب النووي انه أطول الأنبياء عمرا فَقالَ نوح لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قرأ أبو جعفر والكسائي بخفض غيره حملا على لفظ الا له إذا كان قبله جارة حيث وقع ووافقها حمزة فى سورة فاطر هل من اله غير اللّه والباقون بالرفع حملا على المحل كأنَّه قيل ما لكم اله غيره فلا تعبدوا معه غيره إِنِّي قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَخافُ عَلَيْكُمْ ان لم تعبدوا اللّه وحده عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 368
اى يوم القيامة أو يوم الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ أى الاشراف فانهم يجتمعون على رأى فيملأون العيون رواء والنفوس جلالة مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ أى زوال عن الحق مُبِينٍ بين.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لم يقل ضلال حتى يكون ابلغ فى نفى الضلال عن نفسه أى ليس فى شىء من الضلال وبالغ فى النفي لما بالغوا فى الإثبات وعرض لهم به يعنى بل أنتم فى ضلال عن الحق وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك لتاكيد نفى الضلال لان كونه رسولا من اللّه مبلغا لرسالاته فى معنى كونه على أقصى الغايات من الهدى والصراط المستقيم.(1/2390)
أُبَلِّغُكُمْ قرأ أبو عمرو بالتخفيف من الإبلاغ والباقون بالتشديد من التبليغ حيث كان رِسالاتِ رَبِّي جمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والاحكام أو لان المراد بها ما اوحى إليه والى الأنبياء كصحف شيث وإدريس عليهم السلام قوله أبلغكم كلام مستانف لبيان كونه رسولا من اللّه وَأَنْصَحُ لَكُمْ النصح تحرى قول أو فعل فيه صلاح وخير لصاحبه قال البغوي ان يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه وهو متعدى بنفسه وباللام لكن فى زيادة اللام دلالة على إمحاض النصح لهم وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أى ذاته وقدرته على الثواب والعذاب وهذه بطشة بحيث لا يطاق من أحد رده أو من جهته بالوحى ما لا تَعْلَمُونَ أى أشياء لا علم لكم بها.(1/2391)
أَ وَعَجِبْتُمْ الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف يعنى أكذبتمونى وعجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال ابن عباس موعظة وقيل بيان وقيل رسالة عَلى رَجُلٍ أى منزلا على رجل مِنْكُمْ أى من جملتكم أو من جنسكم فانهم كانوا يتعجبون من إرسال اللّه تعالى البشر ويقولون لو شاء اللّه لانزل ملئكة ما سمعنا بهذا فى ابائنا الأولين لِيُنْذِرَكُمْ أى ليخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا من عذاب اللّه الموعود على الكفر والمعاصي بسبب الانذار وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتقوى أورد حرف الترجي للدلالة على ان التقوى غير موجب للترحم بل الترحم من اللّه تفضل وان المتقى لا ينبغى ان يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب اللّه أخرج أبو نعيم عن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان اللّه تعالى اوحى إلى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك ان لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا انا صب عند الحساب يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته قل لاهل معصيتى من أمتك لا تلقوا بايديكم فانى اغفر الذنوب العظيمة و
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 369
لا أبالي.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ يعنى نوحا من الطوفان وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم أربعون رجلا وأربعون امرأة وقيل ثمانية وقيل عشرة وقيل اثنان وسبعون وقيل ثلثة بنيه سام وحام ويافث وثلث أزواجهم وقيل ثلثة ابنائه وستة من أمن به فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه أو بانجينا أو حال من الموصول أو الضمير فى معه وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أى كفارا عميت قلوبهم عن معرفة اللّه وعن ادراك الحق حقا والباطل باطلا أصله عميين فخفف.(1/2392)
وَ إِلى عادٍ قبيلة وهم عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح وهو عاد الاولى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين عطف على نوحا إلى قومه هُوداً عطف بيان لاخاهم وهو هود بن عبد اللّه بن رياح بن الخلود بن عاد بن عوص المذكور وقال ابن اسحق هو ابن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح قال الشيخ أبو بكر فى شرح خلاصة السير أن هودا عليه السلام اسمه عابر بفتح الباء الموحدة وقيل بكسرها على وزن ناصر وقيل عيبر بالعين المفتوحة والياء التحتانية المثناة الساكنة والباء الموحدة المفتوحة وقيل بالغين المعجمة بدل المهملة ابن شالخ بن قينان بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام كذا فى جميع التواريخ والأنساب الا ما شذ عن بعض ان هودا هو هود بن خالد بن الخلود بن العيص بن العمليق بن عاد بن عوض بن ارم بن سام واللّه اعلم وأم هود مكعبة بنت عويلم بن سام بن نوح وكان نور النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ساطعا فى جبين هود فلما رأوا ذلك النور فى جبينه قالوا ان هذا رجل تعبد اللّه تعالى وحده وتكسر الأصنام وعظموه ولم يكن بعده نبى مائة سنة إلى زمان صالح عليه السلام وكان ذلك الزمان ملوك وأقوام يعبدون الأصنام وبعضهم يعبدون الشمس وآخرون يعبدون النار إلى ان بعث اللّه صالحا عليه السلام إلى ثمود وكان هود على شريعة نوح عليهما السلام وبلغ من العمر اربعمائة سنة وقيل اربعمائة وستين سنة وفى التاريخ الشامي انه قال ابن حبيب انه عاش مائة وأربعا وثلثين سنة وقال ابن الكلبي اربعمائة وثلثا وستين وامه مرجانة وكانت من الطاهرات وقبره بحضرموت وقيل بمكة انتهى كلام الشيخ أبى بكر قال البغوي روى عن على ان قبر هود بحضرموت فى كثيب احمر وقال عبد الرحمن بن سابط بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبيا وان قبر هود وصالح وشعيب فى تلك البقعة ويروى ان نبيّا من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون اللّه(1/2393)
فيها حتى يموتوا والمراد بالأخ على ما ذكر ابن اسحق فى نسب هود وذكر الشيخ أبو بكر واحدا من جنسهم وانما جعل منهم لانهم افهم لقوله واعرف بحاله
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 370
و ارغب فى اقتفائه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به ولم يعطف كما فى قصة نوح حيث قال فقال كأنَّه جواب سائل قال فما قال لهم حين أرسل وكذلك جوابهم أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه وكان قومه اقرب من قوم نوح.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملأ بالذين كفروا للتقييد فان من اشراف قوم هود من أمن به منهم مرتد بن سعد ولم يكن فى اشراف قوم نوح مؤمن إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أى خفة عقل حيث نهجر دين قومك وتدعى امرا مستحيلا يعنى رسالة اللّه تعالى جعلت السفاهة ظرفا مجازا يعنى انك متمكن فيها غير منفك عنها وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فى ادعائك الرسالة.
قالَ هود يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أدعوكم إليه أَمِينٌ على الرسالة ذكر هاهنا صيغة اسم الفاعل لقولهم انا لنظنك من الكاذبين ليقابل الاسمية الاسمية قال الكلبي معناه كنت فيكم قبل اليوم أمينا فلا وجه لكم لسوء الظن فىّ بالكذب وفى اجابة الأنبياء الكفرة عن كلماتهم المسبّة بالحلم وحسن الأدب والاعراض عن مقابلتهم بمثل ما قالوا مع علمهم بان خصومهم أضل الناس وأسفهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة وجذب القلوب إلى الهداية واخبار اللّه تعالى ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء أكذبتمونى.(1/2394)
وَ عَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ إهلاك قَوْمِ نُوحٍ فى الأرض وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أى طولا وقوة قال الكلبي والسدى كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير منهم سبعون ذراعا وقال أبو حمزة اليماني سبعون ذراعا وعن ابن عباس ثمانون ذراعا وقال مقاتل كان طول كل رجل اثنا عشر ذراعا قال وهب كان راس أحدهم مثل القبة العظيمة وكان عين الرجل ليفرخ فيه الضباع وكذلك مناخرهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أى نعمه واحدها الىّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أى لكى يفضى بكم ذكر النعمة شكرها المودي إلى الفلاح.
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام ومعنى المجيء اما المجيء من مكان اعتزل من قومه أو من السماء على التهكم أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبنى فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه فى قوله أ فلا تتقون أو يكون مذكورا صريحا فى كلامه عليه السلام إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ هود قَدْ وَقَعَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 371
عَلَيْكُمْ(1/2395)
اى قد وجب أو حق عليكم أو نزل عليكم على ان المتوقع المعلوم كالواقع مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أى عذاب مشتق من الارتجاس وهو الاضطراب وقيل السين مبدلة من الزاء وفى الصحاح رجس ورجز الصوت الشديد وَغَضَبٌ أى ارادة انتقام أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ أى أشياء مسميات سَمَّيْتُمُوها الهة يعنى الأصنام أو يقال فى اسماء سميتموها لا حقيقة لها وليس تحتها مسميات كما تقول الفلاسفة بالعقول العشرة واهل الهند ديبى وبهواني ونحو ذلك يزعمون الأصنام حاكية عنها أو يزعمونها حالة الأصنام أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بدل من الضمير المرفوع فى سميتموها ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجة وبرهان تدل على انها الهة أو مستحقة للعبادة ومبنى هذا القول انهم كانوا يعتقدون لوجود اللّه سبحانه وكونه خالقا للسموات والأرض وكانوا يزعمون الأصنام شركاء للّه فى الالوهية والخالقية أو فى استحقاق العبادة لكونها شفعاء عند اللّه فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم هذا الذي تزعمون امر لا دليل عليه انما هو من مخترعاتكم أو مخترعات ابائكم الجهال فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي وعدتكم وتطلبونه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ كذلك.(1/2396)
فَأَنْجَيْناهُ يعنى هودا من العذاب الذي نزل بقومه وَالَّذِينَ مَعَهُ فى الدين يعنى المؤمنين به بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدابر الأصل أو الكائن خلف الشيء وقطع الدابر عبادة عن الاستيصال وإهلاك كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن أمن منهم وتنبيه على ان الفارق بين من نجا ومن هلك هو الايمان وقصة عاد على ما ذكر محمد ابن اسحق وغيرهم انهم كانوا ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف وهى رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد أفسدوا فى الأرض كلها وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي أتاهم اللّه عز وجل وكانوا اصحاب أوثان يعبدونها يقال لها صدا وسمود والهبا فبعث اللّه تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فامرهم ان يوحدوا اللّه ويكفوا عن ظلم الناس ولم يأمرهم بغير ذلك فكذبوه وقالوا من أشد منا قوة بنوا المصانع وبطشوا بطشة الجبارين فلما فعلوا ذلك امسك اللّه عنهم المطر ثلث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس فى ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء وطلبوا منه الفرج انابوا إلى اللّه عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم فيجتمع بمكة ناس كثير مختلفة الأديان كلهم معظمين لمكة واهل مكة يومئذ العماليق أبناء عمليق بن لاود بن سام بن نوح وكان
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 372(1/2397)
سيدهم معاوية بن بكر وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخير رجل من عاد فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا جهزوا وفدا منكم إلى مكة فليستقر لكم فبعثوا له قيل بن عنز ويقيم بن هزال بن هزيل وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلما يكتم إسلامه وجثيمة بن الجيثر خال معاوية بن بكر ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر بن هاد الأكبر فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وكانوا أخواله واصهاره فاقاموا عنده شهرا يشربون الخمر ويغنيهم الجرادتان « 1 » قينتا لمعاوية بن بكر فكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا فلما راى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه وقال هلك أخوالي واصهارى وهؤلاء مقيمون عندى وهم ضيفى واللّه ما أدرى كيف اصنع بهم استحيى ان أمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه فيظنون انى ضيق من مقامهم وقد هلك من ورائهم من قومهم جهدا وعطشا فشكا ذلك من أمرهم إلى فينته « 2 » الجرادتين فقالتا قل شعرا نغنيهم لا يدرون من قاله لعل ذلك يحركهم فقال معاوية بن بكر شعر
الا يا قيل ويحك قم فهينم لعل اللّه يسقينا غماما
فيسقى ارض عاد ان عادا قد امسوا ما يبيتون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجوا به الشيخ الكبير ولا الغلاما
و قد كانت نسائهم بخير فقد امست نسائهم غياما « 3 »
و ان الوحش يأتيهم جهارا ولا يخشى لعادى سهاما
و أنتم هاهنا فيما اشتهيتم نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم ولا لقوا التحية والسلاما(1/2398)
فلما غنتهم الجرادتان بهذا قال بعضهم لبعض يا قوم انما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم فقال مرثد بن مسعود بن عفير وكان قد أمن بهود عليه السلام سرا انكم واللّه لا تسقون بدعائكم ولكن ان أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم فاظهر اسلام عند ذلك فقال شعر
_________
(1) فى النهاية الجرادتان هما مغنيتان كانتا بمكة فى الزمن الأول مشهورتان بحسن الصوت والغناء 12
(2) القينة المغنية 12
(3) الغيمة شدة العطش نهاية 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 373
عصت عاد رسولهم فامسوا عطاشا ما يبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد فابصرنا الهدى وحلى العماء
و ان اله هود هو الهى على اللّه التوكل والرجاء(1/2399)
فقالوا لمعاوية بن بكر احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقد من معنا مكة وخرج مرثد بن سعد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل ان يدعوا اللّه فيجابوا بشر مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعوا اللّه ووفد عاد يدعون فقال اللهم أعطني سوالى وحدي ولا تدخلنى فى شىء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل بن عنز راس وفد عاد فقال وفد عاد اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سوء لنا مع سؤله وقد كان تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد وكان سيد عاد حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال اللهم انى جئتك وحدي فى حاجتى فاعطنى سؤلى وسأل اللّه طول العمر فعمر عمر سبعة أنسر وقال قيل بن عنز حين دعايا الهنا ان كان هود صادقا فاسقنا فانا قد هلكنا فانشأ اللّه سحائب ثلثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل اختر لنفسك وقومك من هذا السحائب فقال قيل اخترت السحابة السوداء فانها اكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا يبقى من ال عاد أحد وساق اللّه السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول اللّه عز وجل بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب اليم تدمر كل شىء بامر ربها أى كل شىء مرت به وكان من ابصر ما فيها وعرف انها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها مهدر فلما تبينت ما فيها صاحت ثم ضعفت فلما أفاقت قالوا لها ماذا رأيت قالت رأيت ريحا فيها كشهب النار امامها رجال يقودونها فسخر اللّه عليهم سبع ليال وثمانية ايام حسوما فلم تدع من عاد أحدا الا هلك واعتزل هود ومن معه من المؤمنين فى حظيرة « 1 » ما يصيبه ومن معه من الريح الا ما يلين عليه الجلود وتلتذ الأنفس وانها لتمر من عاد بالظعن « 2 » فتحملهم بين السماء والأرض فتدمغهم بالحجارة وخرج وفد عاد من مكة
_________
((1/2400)
1) حظيرة الموضع الذي يحاط عليه لتاوى إليه الغنم والإبل يقيها البرد والحرّة نهايه 12
(2) الظعينة الراحلة التي ترحل ويقال للهودج وللمرأة 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 374
حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه فبينما هم عنده إذا قبل رجل على ناقته فى ليلة مقمرة هى ثالثة من مصاب عاد فاخبرهم الخبر فقالوا له فاين فاين فارقت هود وأصحابه فقال فارقتهم بساحل البحر فكانهم شكّوا فيما حدثهم به فقالت هرملة بنت بكر صدق ورب مكة وذكروا ان مرثد بن سعد ولقمان بن عاد وقيل بن عنز حين دعوا بمكة قيل لهم قد أعطيتم مناكم فاختاروا لانفسكم الا انه لا سبيل إلى الخلود ولا بد من الموت فقال مرثد اللهم أعطني صدقا وبرا فاعطى ذلك وقال لقمان أعطني يا رب عمرا فقيل له اختر فاختار عمر سبعة أنسر وكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضة فياخذ الذكر منها لقوته حتى إذا مات أخذ غيره فلم يزل يفعل ذلك حتى اتى على السابع وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة وكان آخرها لبد فلما مات لبد مات لقمان معه واما قيل فانه قال اختار ان لقنى ما أصاب قومى فقيل له انه الهلاك فقال لا أبالي لا حاجة فى البقاء بعدهم فاصابه الذي أصاب عادا من البلاء والعذاب فهلك قال السدى فبعث اللّه على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال تطيرهم الريح بين السماء والأرض فلما رأوها تبادروا البيوت فدخلوها وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فاهلكتهم فيها ثم أخرجتهم عن البيوت فلما اهلكهم اللّه أرسل عليهم طيرا سوداء فحملتهم إلى البحر فالقتهم فيه وروى ان اللّه تعالى امر الريح فامالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية ايام لهم انين تحت الرمل ثم امر الريح فكشفت عنهم الرمال فاحتملتهم ورمت بهم فى البحر ولم يخرج ريح قط الا بمكيال الا يومئذ فانها عتت على الخزنة فغلبتهم فلم يعلموا كم كان مكيالها.(1/2401)
وَ إِلى ثَمُودَ قبيلة اخرى من العرب أبناء ثمود بن عاثر بن ارم بن سام قال أبو عمرو بن العلا سميت ثمود نقلة مائها وثمد الماء القليل وكان مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى أَخاهُمْ فى النسب لا فى الدين صالِحاً عليه السلام عطف بيان وهو صالح بن عبيد بن أسف بن ماسح وقيل بن رباح بن عبيد بن حاذر بن ثمود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ حجة ظاهرة الدلالة على صدقى لكونها معجزة مِنْ رَبِّكُمْ كأنَّه قيل ما تلك البينة فقال استينافا هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ أضافها إليه تعالى لتعظيمها ولانها جاءت فى الوجود من اللّه تعالى بلا وسائط الأسباب المعهودة ولذلك كانت اية مبتدأ أو خبر وجاز ان يكون ناقة اللّه بدلا أو عطف بيان والخبر لَكُمْ آيَةً نصب على الحال والعامل فيها
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 375
معنى الاشارة على تقدير كون ناقة اللّه خبرا وعلى التقدير الثاني لكم عامل فيه فَذَرُوها يعنى الناقة تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب « 1 » وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهى عن المس الذي هو مقدمة الاصابة بالسوء الجامع لانواع الأذى مبالغة فى النهى وازاحة للعذر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهى.(1/2402)
وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ اسكنكم اللّه تعالى فِي الْأَرْضِ ارض حجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها أى تبنون فى سهول الأرض أو سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والاجر قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ أى تثقبون فى الجبال وتجعلونها بُيُوتاً كانوا يسكنون فى الصيف فى بيوت الطين وفى الشتاء فى بيوت الجبال المنقورة فانتصاب بيوتا على المفعولية لتضمين تنحتون معنى تجعلون وجاز ان يكون منصوبا على الحال المقدرة كما فى قوله خطت هذا الثوب قميصا فان الجبل لا يكون بيتا حال التحت ولا الثوب قميصا حال الخياطة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا العثو أشد الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قالَ الْمَلَأُ قرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو والباقون بلا واو.
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعنى الاشراف والقادة الذين يتعظمون عن الايمان بصالح عليه السلام لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يعنى الاتباع الذين استضعفوهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل ان كان الضمير لقومه وبدل البعض ان كان للذين أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه استهزاء قالُوا يعنى المؤمنين المستضعفين إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا عن قولهم نعم للاشعار بان كونه مرسلا ليس مما يشك فيه عاقل أو يخفى على ذى راى.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على المقابلة ووضعوا أمنتم به موضع أرسل به ردا لما جعلوا معلوما مسلّما.(1/2403)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أى نحروها قال الأزهري العقر هو قطع عرقوب « 2 » البعير ثم جعل النحر عقرا لان الناد من البعير يعقر ثم ينحر وفى القاموس العقر الجرح واثر فى قوائم الفرس والإبل وفى الصحاح عقر الدار والحوض أصلها ومنه عقرت النخل قطعته من أصلها وعقرت البعير نحرته أسند العقر إلى جميعهم وان كان العاقر قذار بن سالف لأنه كان برضاهم وقد كان قذار احمر ازرق قصيرا كما كان
_________
(1) العشب كلا الرطب 12 [.....]
(2) هو الوتر الذي خلف الكعبين من مفصل القدم والساق من ذوات الأربع وهى من الإنسان موضع العقب 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 376
فرعون كذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لعلى أشقى الأولين عاقر ناقة صالح وأشقى الآخرين قاتلك وَعَتَوْا العتو الغلو فى الباطل يقال عتى يعتوا عتوا إذا استكبر فى القاموس عتوا وعتيا وعتيا استكبر وجاوز الحد والمعنى استكبر عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أى عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام بقوله فذروها وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أى زلزلة الأرض وحركتها واهلكوا بالصيحة والرجفة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ قيل أراد الدنيا وقيل أراد ارضهم وبلدتهم ولذلك وحد الدار جاثِمِينَ خامدين ميتين فى القاموس جثم الطائر والإنسان لزم مكانه فلم يبرح وقيل معناه ميتين قعودا يقال الناس جثم أى قعود لا حراكة بهم ولا يتكلمون قيل سقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم.(1/2404)
فَتَوَلَّى أى اعرض عَنْهُمْ صالح وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فان قيل كيف خاطبهم بقوله أبلغتكم رسالة ربى ونصحت لكم بعد ما اهلكوا بالرجفة قيل كما خاطب النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قتلى بدر بعد ما القوا فى القليب روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى طلحة انه قال لما كان من يوم بدر الثالث امر رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم براحلة فشد عليها رحلها ثم مشى ومعه أصحابه وقالوا ما نرى لينطلق الا لبعض حاجته حتى قام على سفير القليب فجعل يناديهم يا أبا جهل بن هشام ويا امية بن خلف يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة أ يسركم انكم أطعتم اللّه ورسوله هل وجدتم ما وعد اللّه ورسوله حقا فانى وجدت ما وعدني ربى حقا بئس عشيرة التي كنتم لنبيكم كذبتمونى وصدقنى الناس وقاتلتمونى ونصرنى الناس فجزاكم اللّه عنى من إصابة شرا خوفتمونى أمينا وكذبتمونى صادقا فقال عمر يا رسول اللّه أ تناديهم بعد ثلث كيف تكلم أجسادا لا روح فيها فقال ما أنتم باسمع لما أقول منهم انهم الان يسمعون ما أقول لهم غير انهم لا يستطيعون ان يردوا علينا شيئا وقيل خاطبهم ليكون عبرة لمن خلفهم وقيل فى الآية تقديم وتأخير تقديرها فتولى عنهم فقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربى الآية فاخذتهم الرجفة وكان قصة ثمود على ما ذكره محمد بن إسحاق ووهب وغيرهما كذا أخرج ابن جرير والحاكم من طريق حجاج عن أبى بكر بن عبد اللّه عن شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان عادا لما أهلكت عمّرت ثمود
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 377(1/2405)
بلادهم وخلفوهم وكثروا وعمّروا حتى جعل أحدهم يبنى المسكن من المدر فينهدم والرجل حىّ فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا فى سعة من معاشهم فعتوا وأفسدوا فى الأرض وعبدوا غير اللّه فبعث اللّه إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا وموضعا فبعثه اللّه إليهم غلاما شابا فدعاهم إلى اللّه عز وجل حتى شمط « 1 » لا يتبعه منهم الا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ واكثر لهم التحذير والتخويف سألوه ان يريهم اية تكون مصداقا لما تقول فقال لهم أى اية تريدون قالوا تخرج معنا غدا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فى يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعوا الهتنا فان استجيب لك اتبعناك وان استجيب لنا تتبعنا فقال لهم صالح نعم فخرجوا باوثانهم إلى عيدهم وخرج صالح معهم فدعوا أوثانهم وسألوها ان لا يستجاب لصالح فى شىء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن جواس وهو يومئذ سيد ثمود يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة فى ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة جوفاء وبراء عشراء والمخترجة ما شاكلت البخت من الإبل فان فعلت صدقناك وأمنا بك فاخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقنتى ولتؤمنن بي قالوا نعم فصلى صالح ركعتين دعا ربه فتمخضت « 2 » الصخرة تمخض النتوج بولدها ثم تحركت الهضبة فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وو براء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها الا اللّه تعالى عظ وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها فى العظم فامن به جندع بن عمرو ورهط من قومه وأراد اشراف ثمود ان يؤمنوا ويصدقوه فنهاهم ذواب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن ميمعر وكان كاهنهم وكانوا من اشراف ثمود فلما خرجت الناقة قال لهم صالح هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة مع ولدها فى ارض ثمود ترعى الشجرة وتشرب الماء وكانت ترد الماء غبا فاذا(1/2406)
كان يومها وضعت الناقة راسها فى بير فى حجر يقال لها بير الناقة فلا ترفع راسها حتى تشرب كل ماء فيها فلا تدع قطرة ثم تتفجح « 3 » فيحلبون ما شاؤا من لبن فيشربون ويدخرون حتى تملأ أوانيهم كلها ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر ان تصدر من حيث ترد تضيق عنها حتى إذا كان الغد كان يومهم فيشربون ما شاؤا من الماء ويدخرون ما شاء واليوم الناقة فهم من ذلك
_________
(1) الشمط الشيب 12
(2) فتمخضت يعنى أخذها المخاض هو الطلق عند الولادة 12
(3) تتفجح أى تتباعد فخذيها الفجح تباعد ما بين الفخذين 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 378(1/2407)
و كانت الناقة تصيف إذا كانت الحر بظهر الوادي فتهرب منها المواشي اغنامهم وبقورهم وإبلهم فتهبط إلى بطن الوادي فى حرة وجد به وتشتو ببطن الوادي إذا كان الشتاء فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي فى البرد والجدب فاضر ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن امر ربهم وحملهم ذلك على عقر الناقة فاجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود إحداهما يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلذ تكنى أم غنم وكانت امرأة ذواب بن عمرو وكانت عجوزة مسنة وكانت ذات بنات حسان وذات مال من ابل وبقر وغنم وامرأة اخرى يقال لها صدوف بنت المختار وكانت جميلة ذات مواش كثيرة وكانتا أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا تحبان عقر الناقة لما اضرتهما من مواشيهما فحملتا فى عقر الناقة فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له الحباب قال لها اعقر الناقة وعرضت عليه نفسها ان هو فعل فابى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المختار وجعلت له نفسها على ان يعقر الناقة وكانت من احسن الناس وأكثرهم مالا فاجابها إلى ذلك ودعت عنيزة بنت غنم قذار بن سالف وكان رجلا احمر ازرق قصيرا يزعمون انه كان لزينة وانه لم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت أعطيك أى بناتي شئت على ان تعقر الناقة وكان قذار عزيزا منيعا فى قومه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى تفسير قوله تعالى إذا انبعث أشقاها انبعث رجل عزيز عازم منيع فى قومه مثل أبى زمعة رواه البخاري من حديث عبد اللّه بن زمعة فانطلق قذار بن سالف ومصدع ابن مهرج فاستتبعوا بأعوان ثمود فاتبعهم سبعة نفر وكانوا تسعة رهط فانطلق قذار ومصدع وأصحابهما فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها قذار فى اصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع فى طريق اخر فمرت على مصدع فرمى بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من احسن الناس فاسفرت لقذار ثم زمرته(1/2408)
فشد على الناقة بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت واحدة تحذر ولدها ثم طعن فى لبتها فنحرها وخرج أهل البلدة واقتسموا لحمها وطبخوه فلما رأى ولدها ذلك انطلق حتى اتى جبلا منيعا يقال له صور وقيل اسمه فازه فاتى صالح وقيل له أدرك الناقة فقد عقرت فاقبل وخرجوا يتلقونه ويعتذرون إليه يا نبى اللّه انما عقرها فلان ولا ذنب لنا فقال صالح انظروا هل تدركون فصيلها فان أدركتموه فعسى ان يرفع عنكم العذاب فخرجوا يطلبونه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 379(1/2409)
فلما رأوا على الجبل ذهبوا لياخذوه فاوحى اللّه تعالى الجبل فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير وجاء صالح فلما رأه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثم رغى ثلثا وانفجرت الصخرة فدخلتها فقال صالح لكل رغوة أجل يوم تمتعوا فى داركم ثلثة ايام ذلك وعد غير مكذوب قال ابن إسحاق اتبع السقب اربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة وفيهم مصدع بن مهرج واخوه ذاب بن مهرج فرماه مصدع بسهم فانتقم قلبه ثم جره برجله فانزلوه فالقوا لحمه مع لحم امه فقال لهم صالح انتهكتم حرمة اللّه فابشروا بعذاب اللّه ونقمته قالوا وهم يستهزءون به ومتى ذلك يا صالح وما اية ذلك وكانوا يسمون الأيام فيهم الأحد الأول والاثنين العون والثلاثا دبار والأربعاء حبار والخميس مونس والجمعة العروبة والسبت شيار وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك تصبحون غداة يوم المونس ووجوهكم مصفرة ثم تصبحون يوم العروبة ووجوهكم محمرة ثم تصبحون يوم شيار ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب يوم أول فلما قال لهم صالح ذلك قال التسعة الذين عقروا الناقة هلم فلتقتل صالحا فان كان صادقا عجلناه قتلا وان كان كاذبا قد كنا الحقناه بناقته فاتوه ليلا ليبيتوه فى اهله فدفعتهم الملئكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم لا تقتلونه ابدا فقد وعدكم ان العذاب نازل بكم بعد ثلث فان كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم الا غضبا وان كان كاذبا فانتم من وراء ما تريدون فانفرقوا عنهم ليلتهم فاصبحوا يوم الخميس ووجوهم مصفرة كانما طليت بالخلوف صغيرهم و(1/2410)
كبيرهم ذكرهم وأنثاهم وأيقنوا بالعذاب وعرفوا ان قد صدقهم فطلبوا ليقتلوه وخرج صالح هاربا منهم حتى جاء إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل ويكنى بابى هدب وهو مشرك فغيّبه ولم يقدروا عليه فغدوا على اصحاب صالح يعذبونهم ليدلوهم عليه فقال رجل من اصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم يا نبى اللّه انهم ليعذبوننا لندلهم عليك أ فندلهم قال نعم قل عندى صالح وليس لكم عليه سبيل فاعرضوا عنه وتركوه وشغله عنه ما انزل اللّه بهم من عذابه فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون فى وجوههم فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا وقد مضى من الاجل يوم فلما أصبحوا اليوم الثاني إذا وجوههم محمرة كانما خضبت بالدماء فصاحوا وبكوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 380(1/2411)
انه العذاب فلما امسوا صاحوا بأجمعهم الا وقد مضى يومان من الاجل وحضركم العذاب فلما أصبحوا اليوم الثالث إذا وجوههم مسودة كانما طليت بالقار فصاحوا جميعا الا وقد حضركم العذاب فلما كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن اسلم معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين فلما أصبح القوم تكفنوا وتحنطوا والقوا أنفسهم إلى الأرض يقلبون أبصارهم إلى السماء مرة والى الأرض مرة لا يدرون من اين يأتيهم العذاب فلما اشتد الضحى من يوم الأحد اخذتهم الرجفة فاصبحوا فى ديارهم جاثمين وأتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء فى الأرض فتقطعت قلوبهم فى صدورهم فلم يبق منهم صغير ولا كبيرا لاهلك الا جارية مقعدة يقال لها ذريقة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فانطلق اللّه رجليها بعد ما عاينت العذاب فخرجت كاسرع ما يرى شىء قط حتى أتت فرخ وهو وادي القرى فاخبرتهم بما عاينته من العذاب وما أصابت ثم استسقت من الماء فسقيت فلما أشربت ماتت وذكر السدى فى عقر الناقة قال فاوحى اللّه تعالى إلى صالح ان قومك سيعقرون ناقتك فقال لهم ذلك فقالوا ما كنا لنفعل فقال صالح انه يولد فى شهركم هذا غلام فسيعقرها فيكون هلاككم على يديه فقالوا لا يولد لنا ولد فى هذا الشهر الا قتلناه فولد عشرة قتلوا منها تسعة وبقي واحد ازرق احمر فنبت نباتا سريعا فكان إذا مر بآباء التسعة ورأوه قالوا لو كان أبنائنا احياء لكانوا مثل هذا فغضب التسعة على صالح لأنه كان سبب قتل أبنائهم فتقاسموا باللّه لنبيتنه واهله قالوا نخرج فيرى الناس انا قد خرجنا إلى سفر فناتى الغار فنكون فيه حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده اتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار وكنا فيه ثم انصرفنا إلى رحالنا فقلنا ما شهدنا مهلك اهله وانا لصادقون فيصدقوننا ويظنون انا قد خرجنا إلى سفر وكان صالح لا ينام معهم فى القرية كان يبيت فى مسجد يقال له مسجد(1/2412)
صالح فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم فإذا امسى خرج إلى المسجد فبات فيه فانطلقوا فدخلوا الغار فسقط عليهم فقتلهم قال اللّه تعالى فمكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانطلق ممن قد اطلع على ذلك منهم فإذا هم رضخ فرجعوا يصيحون فى القرية أى عباد اللّه اما رضى صالح ان أمرهم بقتل أولادهم حتى قتلهم فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة وقال ابن اسحق انما تقاسم التسعة على تبيت صالح بعد عقرهم الناقة كما ذكرنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 381
قال السدى وغيره فلما ولد ابن العاشر يعنى قذارشب فى اليوم شباب غيره فى الجمعة وشب فى الشهر شباب غيره فى السنة فلما كبر جلس مع الناس يصيبون من الشراب فارادوا ماء يمزجون به شرابهم وكان ذلك اليوم شرب الناقة فوجدوا الماء قد شربته الناقة فاشتد ذلك عليهم وقالوا ما نفعل باللبن لو كنا ناخذ هذا الماء الذي تشربه الناقة فنسقيه أنعامنا وحروثنا كان خيرا لنا فقال ابن العاشر هل لكم فى ان اعقرها لكم قالوا نعم فعقرها روى البخاري فى الصحيح من حديث عبد اللّه بن دينار عن ابن عمه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لما نزل الحجر فى غزوة تبوك أمرهم ان لا يشربوا من بيرها ولا يسقوا منها فقالوا قد عجنا واستقينا فامرهم ان يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء قال البغوي وقال نافع عن ابن عمر فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان يهريقوا ما استقوا من بيرها وان يعلفوا الإبل العجين وأمرهم ان يسقوا(1/2413)
من البير التي كانت تردها الناقة قال وروى أبو الزبير عن جابر قال لما مر النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بالحجر فى غزوة تبوك قال لاصحابه لا يدخلن أحد منكم هذه القرية ولا تشربوا من مائهم ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين الا ان تكونوا باكين خائفين ان يصيبكم مثل الذي أصابهم ثم قال اما بعد فلا تسألوا رسولكم الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم فبعث اللّه الناقة فكانت ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج وتشرب مائهم يوم وردها فعتوا عن امر ربهم فعقروها فاهلك اللّه سبحانه من تحت أديم السماء من مشارق الأرض ومغاربها الا رجلا واحدا يقال له أبو رغال وهو أبو ثقيف كان فى حرم اللّه فمنعه الحرام من عذاب اللّه فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ودفن معه غصن من ذهب وأراهم قبر أبى رغال فنزل القوم فابتدروا بأسيافهم وحفروا عنه فاستخرجوا ذلك الغصن وكانت الفرقة المؤمنة من قوم صالح اربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت ثم بنى الاربعة آلاف مدينة يقال له حاصورا وقال قوم من أهل العلم توفى صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة واقام فى قومه عشرين سنة.
وَلُوطاً يعنى وأرسلنا لوطا وهو لوط بن هار من بن تارخ ابن أخي ابراهيم عليه السلام إِذْ قالَ أى وقت قوله لِقَوْمِهِ وهم أهل سدوم وقيل معناه واذكر لوطا وعلى هذا إذ بدل منه أَتَأْتُونَ انكار وتوبيخ وتفريع الْفاحِشَةَ يعنى إتيان الرجال فى ادبارهم ما سَبَقَكُمْ بِها بتلك الفعلة الباء للتعدية مِنْ أَحَدٍ من زائدة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 382
لتاكيد النفي والاستغراق مِنَ الْعالَمِينَ من للتبعيض والجملة استيناف مقرر للانكار أو حال من الفاحشة كأنَّه وبخهم اولا بإتيان الفاحشة ثم ما اختراعها فانه أسوأ قال عمرو بن دينار ما يرى ذكر على ذكر فى الدنيا حتى كان من قوم لوط عليه السلام.(1/2414)
ا انكم قرأ نافع وحفص بهمزة واحدة مكسورة على الخبر على الاستيناف والباقون بهمزتين على الاستفهام بيان لقوله أ تأنون الفاحشة وهو ابلغ فى الإنكار والتوبيخ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أ تجامعونهم فى ادبارهم يقال اتى المرأة إذا غشيها شَهْوَةً منصوب على العلية أى للشهوة لا حامل لكم على ذلك الا لمجرد الشهوة من غير حكمة أو مصدر فى موقع الحال يعنى لشهوتهم شهوة ردية غير مفيدة مِنْ دُونِ النِّساءِ أى من غير النساء يعنى لا تأتونهن مع ما فيه من الحكمة من انتفاء الولد وبقاء النوع ولا ذم أعظم منه لأنه وصف لهم بالبهيمة الصرفة قلت ومن هذه الآية ثبت حرمة إتيان النساء فى أدبارهن بدلالة النص لأنه مثل إتيان الرجال خبيثة غير مفيد أصلا وقد ذكرنا هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى الآية وهو قوله تعالى فاتوا حرثكم انى شئتم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم الذي يوجب ارتكاب أمثال ذلك القبائح يعنى أنتم عادتكم الإسراف والتجاوز عن الحدود المعقولة والمشروعة فى الشيء حتى تجاوزتم فى النكاح عن المعتاد المفيد إلى غير المعتاد الذي لا خير فيه أصلا أو إضراب عن الإنكار فى ما ذكر إلى الذم على جميع اوصافهم أو عن محذوف تقديره لا عذر لكم بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أى ما جاءوا بما يصلح جوابا عن كلام إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء منقطع يعنى لكنهم قابلوا النصيحة بقول بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ يعنى لوطا ومن معه من المؤمنين مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش قالوا ذلك استهزاء.(1/2415)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ يعنى اتباعه من المؤمنين وقيل ابنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ واهله استثناء من الأهل فانها كانت منافقة تستر الكفر كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أى من الذين بقوا فى ديارهم فهلكوا وقيل معناه كانت من الباقين فى العذاب وقيل معناه كانت من الباقين المعمرين قد اتى عليها دهر طويل قبل ذلك فهلكت مع من هلك من قوم لوط والتذكير لتغليب الذكور.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ أى على قوم لوط مَطَراً أى نوعا من المطر عجيبا يعنى حجارة من سجيل مسومة قال وهب الكبريت والنار قال أبو عبيدة يقال فى العذاب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 383
أمطر وفى الرحمة مطر فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ الكفرين روى ان لوطا لما هاجر مع عمه ابراهيم عليهما السلام من أرض بابل إلى الشام نزل بالأردن فارسله اللّه إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوا من الفاحشة فلم ينتهوا عنها فامطر اللّه عليهم الحجارة فهلكوا أخرجه اسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس نحوه وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم قال محمد بن اسحق كانت لهم ثمار وقرى لم يكن فى الأرض مثلها فقصدهم الناس فاذوهم فعرض لهم إبليس فى صورة فقال ان فعلتم بهم كذا نجوتم فابوا فلما ألح أى لزم الناس إياهم إلخ الناس عليهم قصدوهم فاصابوا غلمانا صبيانا فاخبثوا فاستحكم ذلك فيهم قال الحسن كانوا لا يناكحون الا العرباء قال الكلبي ان أول من عمل عمل قوم لوط إبليس لان بلادهم أخصبت فانتجعها أهل البلدان فتمثل لهم إبليس فى صورة شاب ثم دعا إلى دبره فنكح فى دبره فامر اللّه السماء ان تحصبهم وامر الأرض تخسف بهم.(1/2416)
وَ إِلى مَدْيَنَ يعنى وأرسلنا إلى أولاد مدين بن ابراهيم خليل الرحمن قال البغوي هم اصحب الايكة أَخاهُمْ فى النسب شُعَيْباً قال عطاء هو شعيب بن توبة بن ابراهيم خليل الرحمن وقال ابن اسحق هو شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن ابراهيم عليه السلام وله ميكيل بنت لوط عليه السلام وقيل هو شعيب ابن يثرون بن نوس بن مدين وكان شعيب عليه السلام أعمى وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكان قومه أهل كفر وبخس للمكيال والميزان أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا ذكر شعيبا يقول ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى معجزة كانت لشعيب عليه السلام ولم يذكر فى القرآن ما هى وقيل أراد بالبينة مجئ شعيب عليه السلام بالحكمة والموعظة وفصل الخطاب فَأَوْفُوا يعنى أتموا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ مصدر بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد أو المضاف محذوف يعنى وزن الميزان أو المراد بالكيل فمعز الدولة الكيل على الإضمار أو اطلق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أى لا تنقصوهم حقوقهم البخس يتعدى إلى مفعولين وهما الناس وأشياءهم يقال بخست زيدا حقه أى نقصته إياه وانما قال اشيائهم للتعميم تنبيها على انهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير وقيل كانوا مكاسين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 384(1/2417)
لا يدعون شيئا الا مكسوه وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم بَعْدَ إِصْلاحِها يعنى بعد ما بعث اللّه نبيا يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر والاضافة إلى مكر الليل والنهار ذلِكُمْ الذي ذكرت لكم وأمرتكم خَيْرٌ لَكُمْ مما كنتم عليه من الظلم والبخس فان ذلك وان كان فيه نوع منفعة فى الدنيا لكنه يجلب مضرة عظيمة فى الدارين وما أمرتكم فيه صلاح الدنيا والاخرة جميعا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين لى فافعلوا ما أمرتكم وكانوا يعلمون ان شعيبا عليه السلام يكذب قط قبل كانوا يجلسون على الطريق فمن جاء إلى شعيب عليه السلام ليومن به منعوه وقالوا ان شعيبا كذاب فلا يفتنك عن دينك كانوا يتوعدون المؤمنين بالقتل ويخوفونهم كذا أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس نحوه فقال اللّه تعالى.
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ مع ما عطف عليه فى موضع الحال من فاعل تقعدوا وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الايمان باللّه مَنْ آمَنَ بِهِ أى باللّه تعالى تنازع فيه الفعلان فى المفعولية توعدون وتصدون فاعمل الثاني ولذا لم يقل وتصدونهم وَتَبْغُونَها أى تطلبون سبيل اللّه عِوَجاً بإلقاء الشبه أو وصفها للناس بانها معوجة وقيل معنى قوله تعالى لا تقعدوا بكل صراط أى بكل طريق من طرق الدين كالشيطان وسبيل الحق وان كان واحدا لكنه تنشعب إلى معارف وحدود واحكام وكانوا إذا رأوا واحدا يسعى فى شىء منها وعدوه بالقتل والتعذيب وعلى هذا ففى قوله تعالى ويصدون عن سبيل اللّه وضع الظاهر موضع الضمير بيانا لكل صراط ودلالة على عظيم ماى صدون عنه وتقبيحا لما كانوا عليه وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم أو عدكم فَكَثَّرَكُمْ اللّه بالبركة فى النسل والمال وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم قوم لوط وغيرهم فاعتبروا بهم.(1/2418)
وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به فَاصْبِرُوا أى فتربصوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا بنصر المحقين على المبطلين فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا معقب لحكمه.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أى واللّه ليكونن أحد الامرين اما إخراجكم من القرية أو عودكم فى الكفر وشعيب لم تكن فى ملتهم قط لان الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لكن غلبوا الجماعة الذين أمنوا معه عليه مخاطبة مع قومه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 385
بخطابهم وعلى ذلك اجرى الجواب وقيل معناه أو لتدخلن فى ملتنا وعاد بمعنى صار قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للانكار والواو للحال بل للعطف على محذوف والجملة فى موضع الحال تقديره أ تعيدوننا فى ملتكم لو كنا طائعين ولو كنا كارهين فحذف أحد المعطوفين الذي هما حالان من فاعل كنا وعلق الحكم بأبعد النقيضين ليدل على عدم الحكم ثم قال شعيب.(1/2419)
قَدِ افْتَرَيْنا أى اختلقنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإثبات الشريك له تعالى إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط حذف جوابه بدليل ما سبق وكلمة افترينا ماض بمعنى المستقبل جعل كأنَّه الواقع للمبالغة وادخل عليه قد لتقربه من الحال أى قد افترينا الحال ان أردنا العود بعد ما أنقذنا اللّه تعالى منها وبيّن لنا ان ما كنا عليه كان باطلا وما صرنا عليه حق وقيل انه جواب قسم بحذف اللام تقديره واللّه لقد افترينا وَما يَكُونُ لَنا أى ما يثبت لنا ابدا أَنْ نَعُودَ فِيها بيان عزم على الاستقامة على الإسلام والاجتناب عن الكفر ولما كان فى الكلام شائبة تزكية النفس وعدم خوف ما يؤل إليه الأمر قال إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا ويكون سبق فى مشيته ذلك وفيه دليل على ان الكفر بمشية اللّه وقيل أراد به حسم طمعهم فى العود بالتعليق بما لا يكون وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً فهو يعلم ما يؤل إليه امر عباده من الايمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الايمان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم والذي لا اله غيره ان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبيها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها متفق عليه من حديث ابن مسعود عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فى ان يثبتنا على الايمان ويوفقنا لازدياد اليقين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم ثم دعا عليهم شعيب عليه السلام بعد ما ايس من فلاحهم فقال رَبَّنَا افْتَحْ أى احكم من الفتاحة بمعنى الحكم والفتاح القاضي يفتح الأمر المتعلق أو المعنى اظهر الأمر حتى ينكشف الحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه بَيْنَنا وَ(1/2420)
بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً فى دينه وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدال ضلالته بهديكم أو لفوات ما يحصل لكم المنفعة بالبخس والتطفيف وهو
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 386
ساد مسد جواب الشرط والقسم الذي وطأته اللام فى لئن اتبعتم.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الكلبي الزلزلة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أى مدينتهم جاثِمِينَ ميتين قال ابن عباس وغيره فتح اللّه عليهم بابا من جهنم فارسل عليهم حرا شديدا فاخذ بانفاسهم فلم ينفعهم ظل ولا ماء وكانوا يدخلون الأسراب ليتبرّدوا فيها فإذا دخلوها وجدوها أشد حرا من الظاهر فخرجوا هرابا إلى البرية فبعث اللّه سحابة فيها ريح طيبة فاظلتهم وهى الظلة فوجدوا لها بردا ونسيما فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونسائهم وصبيانهم فالهب اللّه تعالى عليهم نارا وجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلى وقال يزيد الجريري سلط اللّه عليهم الريح سبعة ايام ثم سلط عليهم الحر ورفع عليهم جبل من بعيد فاتاه رجل فإذا تحته انهار وعيون فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك يوم الظلة قال قتادة بعث اللّه شعيبا إلى اصحاب الايكة واهل مدين فاما اصحاب الايكة فاهلكوا بالظلة واما اصحاب مدين فاخذتهم الرجفة صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعا.(1/2421)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أى استوصلوا كان لم يقيموا ولم ينزلوا فيها من قولهم غنيت بالمكان إذا أقمت به والمغانى المنازل واحدها مغنى الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دنيا ودينا الا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فانهم الرابحون فى الدارين وللتنبيه على وجه الاختصاص والمبالغة فيه كرر الموصول ولم يكتف بالعطف واستأنف بالجملتين واتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى أى اعرض عَنْهُمْ شعيب شاخصا بين أظهرهم حين أتاهم العذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ قال ذلك تأسفا بهم بشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال فَكَيْفَ آسى احزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ فانهم ليسوا أهلا لان يحزن عليهم لاستحقاقهم ما نزل بهم أو قاله اعتذارا عن شدة حزنه عليهم يعنى بعد ما بلغت فى الإبلاغ والنصيحة لما لم يتبعونى واثروا لانفسهم العذاب فكيف اسى عليهم.
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فيه إضمار يعنى فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ أى الفقر وَالضَّرَّاءِ أى المرض كذا قال البغوي عن ابن مسعود وقيل البأساء الحرب والضراء الجدب لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ لكى يتوبوا إلى اللّه يتضرعوا من هاهنا يظهر بطلان قول من قال ان عسى وكاد ولعل من اللّه واجبة الوقوع.
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 387(1/2422)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ أى البأساء والضراء الْحَسَنَةَ السعة والا من والخصب استدراجا وابتلاء لهم بالأمرين حَتَّى عَفَوْا أى كثروا عددا ومالا يقال عفت النبات إذا كثرت ومنه إعفاء اللحية وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ أى هكذا كانت عادة الدهر قديما يعاقب فى الناس بين الضراء والسراء ونسوا خالق الأرض والسماء ومنشئ النعمة والبلاء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى اللام للعهد الخارجي يعنى أهل القرى التي أرسلنا فيها الأنبياء آمَنُوا بالأنبياء وَاتَّقَوْا عذاب اللّه بالطاعة وترك المعاصي لَفَتَحْنا قرأ ابن عامر بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أى لو سعنا عليهم الخير من كل جانب وداومناه لهم وقيل بركات السماء المطر وبركات الأرض النبات والزرع واصل البركة الزيادة والمواظبة على شىء وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بالعقوبة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله فاخذناهم بغتة وهم لا يشعرون وما بينهما اعتراض والمعنى ابعد ما أخذنا أهل القرى من الكافرين السابقين أمن أهل القرى من الكافرين بنبوة خاتم النبيين محمد صلى اللّه عليه واله وسلم يعنى أهل مكة وما حولها أَنْ يَأْتِيَهُمْ بأسنا عذابنا بَياتاً أى تبيتا أو وقت بيات يعنى ليلا أو مبيتا أو مبيتين وهو فى الأصل بمعنى البيتوتة ويجئ بمعنى التبيت كالسلام بمعنى التسليم وَهُمْ نائِمُونَ غافلون عنه حال من ضمير هم البارز أو المستتر فى بياتا.(1/2423)
أَ وَأَمِنَ قرأ نافع وابن عامر أو بسكون الواو على الترديد والباقون بفتح الواو على ان الهمزة للاستفهام للتوبيخ والواو للعطف والجمع أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أى نهارا وقت الضحى وقت انبساط الشمس وَهُمْ يَلْعَبُونَ أى غافلون مشتغلون بما لا ينفعهم.
أَ فَأَمِنُوا تقريره لقوله أ فأمن أهل القرى مَكْرَ اللَّهِ أى استدراجه إياهم بما أنعم عليهم فى الدنيا إلى حين ثم أخذهم من حيث لا يحتسبون بالعذاب بغتة كما فعل بأشياعهم من قبل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم بالكفر والمعاصي وتركوا النظر والاعتبار.
أَ وَلَمْ يَهْدِ قرأ قتادة ويعقوب نهد بالنون على التكلم والتعظيم والباقون بالياء على الغيبة والهمزة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 388
فى المواضع الاربعة للتوبيخ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ بالسكنى مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها الذين قبلهم عدى الهداية باللام لأنه بمعنى البيان أَنْ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشان فاعل ليهد على تقدير الغيبة ومفعوله على تقدير التكلم يعنى أو لم يبين للذين ورثوا السابقين انه لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أى أخذناهم بالعذاب والعقوبة بِذُنُوبِهِمْ أى بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على ما دل عليه أو لم يهد أى يغفلون عن الهداية ونختم على قلوبهم وقال الزجاج هو منقطع مما قبله يعنى ونحن نطبع ولا يجوز عطفه على أصبناهم على انه بمعنى وطبعناهم لأنه لو كان فى سياق جواب لو لزم نفى الطبع عنهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الانذار ولا يقبلون الموعظة.(1/2424)
تِلْكَ الْقُرى قرى اللامم الماضية قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وشعيب الموصوف مع الصفة مبتدأ خبره نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعنى نقص عليك بعض اخبار أهلها لكى تعتبروا لا كلها وجاز ان يكون القرى خبرا ونقص خبرا ثانيا أو حال من القرى والعامل فيه معنى الاشارة وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أى بالآيات والمعجزات الشاهدة على رسالتهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا منصوب بان مقدرة بعد لام الجحود لتاكيد النفي والمصدر اما بمعنى الفاعل أو محمول بتقدير ذى أى ما كانوا مؤمنين أو ذا ايمان عند مجيئهم بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أى بما كذبوه من قبل الرسل يعنى التوحيد بل كانوا مستمرين على التكذيب والإشراك أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به اولا يعنى بالرسالة والشرائع كلها حين جاءتهم الرسل بها ولم يؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة وقال البغوي قال ابن عباس والسدى يعنى فما كان هؤلاء الكفار الذين أهلكناهم ليؤمنوا عند إرسال الرسل بما كذبوا من قبل يوم أخذهم ميثاقهم حين اخرجوا من ظهر آدم فاقرءوا باللسان واضمروا بالتكذيب وقال مجاهد معناه فما كانوا لو احييناهم بعد هلاكهم ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل هلاكهم كقوله تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال يمان بن ذباب هذا على معنى ان كل نبى انذر قومه بالعذاب فكذبوه فاهلكناهم فلما جاء بعدهم من رسول بالبينات ما كانت الأمم اللاحقة ليؤمنوا بما كذب به اوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا بما كذب به اوائلهم نظيره قوله تعالى ما اتى الذين من قبلهم من رسول الا قالوا ساحرا ومجنون كَذلِكَ أى مثل ذلك الطبع الشديد الذي طبعنا على قلوب الذين أهلكناهم من قبل يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذين
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 389
كتبنا عليهم من قومك ان لا يؤمنوا فلا يلين قلوبهم بالآيات والنذر.(1/2425)
وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ
اى لاكثر الناس والآية اعتراض أو لاكثر الأمم المذكورين مِنْ عَهْدٍ أى من وفاء بالعهد الذي عاهدناهم يوم الميثاق حين اخرجوا من صلب آدم عليه السلام أو ما عهدوا إليه حين كانوا فى ضر ومخافة لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشكرين وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ قال الكوفيون ان نافية واللام بمعنى الا يعنى ما وجدنا أكثرهم الا فاسقين ناقضين للعهد وقال البصريون ان مخففة من المثقلة واللام فارقة وعلى هذا وجدنا بمعنى علمنا لان ان المخففة من المثقلة لا تدخل الا على الافعال الداخلة على المبتدأ والخبر.
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ الضمير للرسل فى قوله ولقد جاءتهم رسلهم والمراد نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام أو للامم والمراد أقوامهم مُوسى بن عمران عليه السلام بِآياتِنا يعنى المعجزات التي تذكر بعد ذلك إِلى فِرْعَوْنَ وهو لقب لملك مصر ككسرى لملك فارس وكان اسمه قابوس وقيل الوليد بن مصعب بن الريان وَمَلَائِهِ أى شرفاء قومه فَظَلَمُوا بِها أى بالآيات والظلم وضع الشيء فى غير موضعه ولما كانت الآيات لوضوحها من حقها الايمان بها وهم كفروا بها مكان الايمان قال اللّه تعالى ظلموا بها مكان كفروا بها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ حيث اغرقوا فى اليم.(1/2426)
وَ قالَ مُوسى لما دخل على فرعون يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى قرأ نافع علىّ بفتح الياء مشددة يعنى واجب على فهو مستانفة فى جواب تكذيبه إياه فى دعوى الرسالة وانما لم يذكر تكذيبه لدلالة قوله فظلموا بها عليه وقرأ الباقون على مقصورة كانّ أصله حقيق علىّ كما قرأه نافع فقلب لا من اللبس أو يقال على هاهنا جارة وضع مكان الباء لافادة التمكن كقولهم رميت على القوس مكان رميت بالقوس يدل عليه قراءة أبى والأعمش حقيق بان لا أقول أو يقال عدى حقيق بعلى لتضمين معنى حريص وعلى هذا حقيق اما خبر مبتدأ محذوف يعنى انا حقيق أى جدير والجملة مستانفة أو صفة لرسول.
أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ شاهد على رسالتى فَأَرْسِلْ مَعِيَ قرأ حفص بفتح الياء والباقون بإسكانها بَنِي إِسْرائِيلَ أى اطلق عنهم وخلّهم يرجعون إلى الأرض المقدسة هى وطن ابائهم وكان فرعون قد استخدمهم فى الأعمال الشاقة من ضرب اللبن ونقل التراب وغيرها.
قالَ فرعون مجيبا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 390
لموسى عليه السلام إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند اللّه فَأْتِ بِها بتلك الآية إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فى دعواك شرط استغنى من الجزاء بما مضى.(1/2427)
فَأَلْقى موسى عَصاهُ من يده فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ الثعبان الذكر العظيم من الحيّة وكان يتحرك كانها جان أى حيّة صغيرة ولهذا قال فى موضع اخر كانها جان قال ابن عباس والسدى انه لما القى العصا صارت حيّة عظيمة صفراء شعراء عرفاء فاغرافاه بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض قد رميل واقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل فى الأرض والأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لياخذ وروى انها أخذت قبة فرعون بين نابيها فوثب فرعون هاربا وأخذت اخذة البطن فى ذلك اليوم اربعمائة مرة وحملت على الناس فانهزموا وصاحوا ومات منهم خمسة وعشرون الفا قتل بعضهم بعضا ودخل فرعون البيت وصاح يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذها وانا أمن بك وأرسل معك بنى إسرائيل فاخذها موسى فعادت عصاكما كانت كذا أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من طريق معمر عن قتادة ثم قال فرعون هل معك اخرى قال نعم.
وَنَزَعَ يَدَهُ من تحت جيبه بعد ما أدخلها فيه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ بياضا عجيبا خارجا عن العادة لها شعاع غلب نور الشمس يعجب الناظرين لحسن منظره ثم أدخلها فى جيبه فصارت أدما كما كانت.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ ماهر فى السحر يأخذا عين الناس حتّى يخيل إليهم العصا حيّة والادم ابيض ويرى الشيء على خلاف ما هو عليه فى الواقع أسند القول المذكور هاهنا إلى الملأ وفى سورة الشعراء إلى فرعون فالظاهر ان القول صدر منه ومنهم جميعا على سبيل التشاور فحكى قوله ثمه وقولهم هاهنا وقاله فرعون ابتداء فتلقته منه الملأ فقالوه فيما بينهم ولاتباعهم.(1/2428)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ يا معشر القبط مِنْ أَرْضِكُمْ يعنى مصر فَما ذا تَأْمُرُونَ يحتمل ان يكون هذا بقية الكلام السابق الذي قال الملأ لفرعون وخاصته فيكون الأمر على حقيقته أو قالوه فيما بينهم أو لاتباعهم فيكون تأمرون بمعنى تشيرون والمستشار من حيث انه معلم ومرشد امير على المسترشد ويحتمل ان يكون قوله فماذا تأمرون كلام المخاطبين فى جواب قولهم هذا ساحر عليم يريد ان يخرجكم من أرضكم فعلى هذا اما ان يكون كلام لفرعون أو لغيره ثم بعد ما قال فرعون وملائه ما ذكر اجتمع راى الملأ أجمعين على ان.
قالُوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 391
لفرعون أَرْجِهْ قرأ ابن كثير وهشام هذا وفى الشعراء ارجئه بالهمز وضم الهاء بعدها ووصلها بواو الإشباع وأبو عمرو كذلك لكن من غير صلة وابن ذكوان بالهمز وكسر الهاء ولا يصلها بياء وهذه القراءة على خلاف القياس لان الهاء لا يكسر الا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة لكن الهمزة كانت تقلب ياء أجريت مجريها وقرأ قالون بغير همز باختلاس الكسرة وورش والكسائي نحوه لكن يشبعان الكسرة ياء وعاصم وحمزة بغير همز واسكان الهاء والهاء فى الوقف ساكنة بلا خلاف الا فى مذهب من ضمها سواء وصلها أو لم يصلها فان الروم والإشمام جائز ان فيها التشبيه المنفصل بالمتصل ومعناه اخر امره يعنى لا تعجل فى الايمان به ولا فى قتله وعقوبته حتّى يظهر امره فى القاموس ارجأ الأمر آخره وَأَخاهُ هارون عليه السلام وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ مدائن الصعيد من نواحى مصر كان هناك رؤساء السحرة حاشِرِينَ أى شرطا ورجالا جامعين السحرة.(1/2429)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ جواب لقوله أرسل يعنى ان ترسل إليهم حاشرين يجمعون إليك من فيها من السحرة فان غلبهم موسى صدقناه وان غلبوا عليه علمنا انه ساحر قرأ حمزة والكسائي هنا وفى سورة يونس بكل سحار بالألف بعد الحاء على المبالغة كما اتفق عليه القراء فى الشعراء والباقون فى هاتين ساحر على وزن فاعل قال البغوي قال ابن عباس والسدى وابن إسحاق لمار أي فرعون سلطان اللّه فى العصا ما راى قال انا لا نغالب موسى الا بمن هو منه فاتخذ غلمانا من بنى إسرائيل فبعث بها إلى قرية يقال لها الغرماء يعلمونهم السحر فعلموهم سحرا كثيرا وواعد موسى موعدا فبعث إلى السحرة فجاؤا ومعهم معلمهم فقال لهم ماذا صنعتم قالوا قد علمنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض الا ان يكون امرا من السماء فانه لا طاقة لهم به ثم بعث فرعون فى مملكته فلم يترك فى سلطانه ساحرا الا اتى به قال مقاتل كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط هما راس القوم أحدهما شمعون وسبعون من بنى إسرائيل وقال الكلبي كان الذين يعلمونهم رجلين محبوسين من أهل نينوى وكانوا سبعين غير رئيسهم وقال كعب كانوا اثنى عشر الفا وقال السدى كانوا بضعة وثلثين الفا وقال عكرمة سبعين الفا وقال محمد بن المنكدر كانوا ثمانين الفا.
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ مع الحاشرين بعد ما أرسلهم فى طلبهم قالُوا يعنى السحرة استيناف كأنَّه فى جواب سائل قال ما قالوا إذا جاؤا إِنَّ لَنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 392
لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ
قرأ نافع وابن كثير وحفص ان لنا بهمزة واحدة على الخبر وإيجاب الاجر كانهم قالوا لا بد لنا من اجر والتنكير للتعظيم وقرأ الباقون اان بهمزتين على الاستفهام وهم على مذاهبهم المذكورة فى الهمزتين المفتوحتين ولم يختلفوا فى الشعراء انه بالاستفهام.(1/2430)
قالَ فرعون نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على جملة سد مسدها نعم يعنى ان لكم اجرا وانكم لمن المقربين فى المنزلة الرفيعة عندى زاد على الجواب لتحريضهم قال مقاتل قال موسى لكبير السحرة تومن بي ان غلبتك قال لاتين بسحر لا يغلبه ساحر ولئن غلبتنى لا ومنن بك وفرعون ينظر.
قالُوا أى السحرة يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ عصينا وحبالنا خيروا موسى إظهارا للجلادة ولكن كان رغبتهم فى ان يلقوا قبل موسى يدل عليه تغير النظم إلى ما هو ابلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تاكيدهم الضمير المتصل بالمنفصل فلذلك.
قالَ موسى بل أَلْقُوا ازدراء بهم وثوقا على شانه فَلَمَّا أَلْقَوْا السحرة حبالهم وعصيهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أى صرفوها عن ادراك حقيقة ما القوه وتخيل للناس حبالهم وعصيهم حيات وأفاعي أمثال الجبال قد ملأ الوادي فى ميل يركب بعضها فى بعض وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أى خوفوهم ارهابا شديدا كانهم طلبوا رهبتهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فى فنه.(1/2431)
وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى حين أوجس فى نفسه خيفة أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ولا تخف انك أنت الا على انما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث اتى فالقاها فَإِذا هِيَ حية عظيمة قد سدت الأفق تسعى قال ابن زيد كان اجتماعهم بالاسكندرية ويقال بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا تَلْقَفُ قرأ حفص هاهنا وفى طه والشعراء بإسكان اللام وتخفيف القاف من المجرد والباقون بفتح اللام وتشديد القاف من التفعل بحذف احدى التاءين أصله تتلقف أى تبتلع ما يَأْفِكُونَ أى ما يزورونه من الافك بمعنى قلب الشيء من وجهه ويجوز ان يكون ما مصدرية والمصدر بمعنى المفعول روى انها تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعها بأسرها ثم أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقالت السحرة لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما نفدت علموا ان ذلك من اللّه تعالى وذلك قوله تعالى.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 393
ثبت وظهر امره وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ السحرة.
فَغُلِبُوا يعنى فرعون وقومه هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا أى رجعوا إلى المدينة صاغِرِينَ أذلاء مقهورين.
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ألقاهم اللّه تعالى ساجِدِينَ للّه تعالى لم يقل سجدوا للّه تنبيها على ان ظهور الحق اضطرهم إلى السجود حيث لم يبق لهم تمالك وقيل الهمهم اللّه ان يسجدوا فسجدوا وقال الأخفش من سرعة ما سجدوا كانهم القوا.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ابدلوا الثاني بالأول لئلا يتوهم انهم أرادوا به فرعون قال ابن عباس لما امنت السحرة اتبع موسى ستمائة الف من بنى إسرائيل.(1/2432)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أى باللّه أو بموسى قرأ قنبل وأمنتم به فى حال الوصل يبدل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة ومد بعدها مدة فى تقدير الفين وقرأ فى طه على الخبر بهمزة واحدة والف وقرأ فى الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة فى تقدير الفين وحفص فى الثلاثة بهمزة والف على الخبر وأبو بكر وحمزة والكسائي فيهن على الاستفهام بهمزتين محققتين بعدهما الف والباقون على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة بعدها فى تقدير الفين ولم يدخل أحد منهم ألفا بين الهمزة المخففة والملينة فى هذه المواضع الثلاثة كما أدخلها من أدخلها فى اانذرتهم وبابه لكراهة اجتماع ثلث الفات بعد الهمزة فالاستفهام للانكار والاستبعاد والخبر على التوبيخ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أى هذا الصنيع لحيلة احتملتموها أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ أى فى مصر قبل ان تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط ويخلص مصر لكم ولبنى إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم تهديد مجمل تفصيله.
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ فى جذوع النخل على شاطئ نهر مصر تفضيحا لكم وتنكيلا لامثالكم قيل انه أول من سن ذلك أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس.
قالُوا يعنى السحرة لفرعون إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة نرجوا ثوابه فلا نبالى بوعيدك أو المعنى مصيرنا ومصيركم إلى ربنا فيحكم بيننا.
وَما تَنْقِمُ أى ما تنكر مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهو خير الأعمال واصل المناقب لا يجوز عليها الإنكار ولا يجوز لنا العدول عنها لابتغاء مرضاتك أو خوف وعيدك ثم فزعوا إلى اللّه فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 394
صَبْراً(1/2433)
اى اصبب علينا صبرا كما يصب الماء كيلا يمنعنا وعيد فرعون عن الايمان ويطهرنا من الآثام وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام ذكر الكلبي ان فرعون قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وذكر غيره انه لم يقدر عليهم لقوله تعالى لا يصلون اليكما أنتما ومن اتبعكما الغالبون.
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا أو جواب للاستفهام بالواو كقولهم هل عندكم ماء واشربه والمعنى أ يكون منك ترك موسى ويكون تركه إياك وَآلِهَتَكَ أى معبوداتك فلا يعبدون لك ولا لها قال ابن عباس كان لفرعون بقرة يعبدها وكانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم ان يعبدوها ولذلك أخرج السامري لهم عجلا وقال الحسن كان قد علق على عنقه صليبا يعبده وقال السدى كان فرعون قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بعبادتها وقال لقومه هذه الهتكم وانا ربكم وربها ولذلك قال انا ربكم الأعلى وقيل كانوا يعبدون الكواكب وقرأ ابن مسعود وابن عباس والشعبي والضحاك ويذرك والهتك بكسر الالف على وزن عبادتك ومعناه وقيل أراد بالهتك الشمس وكانوا يعبدونها قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ قرأ نافع وابن كثير بفتح النون وضم التاء مخففا من المجرد والباقون بضم النون وكسر التاء مشددا من التفعيل على التكثير أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أى نتركهن احياء كما نفعل من قبل وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا قال ابن عباس كان فرعون يقتل أبناء بنى إسرائيل فى العام الذي قيل له يولد مولود يذهب به ملكك فقال فرعون أعيد عليهم القتل ليعلموا انا على ما كنا عليه من القهر والغلبة ولا يتوهم أحد ان موسى هو المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه فلما أعاد عليهم القتل شكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى فحينئذ.(1/2434)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ بالتضرع إليه والدعاء والتوكل عليه وَاصْبِرُوا على ما يصيبكم من فرعون وقومه فان ذلك بارادة اللّه ومشيته وابتلائه إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ كافرا كان أو مسلما لا يجوز الاعتراض عليه تعالى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعنى جزاء الحسنات والسعادة الابدية التي لا تنقطع والجنة للمتقين فابتغوا الدار الاخرة الباقية واصبروا على ما أصابكم فى الدنيا الفانية سمى جزاء الفعل العقبى والعاقبة لأنه يعقب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 395
العمل لكنهما مختصان بالثواب وخير الجزاء على الحسنات كذلك العقب مختص بالثواب كما ان العقوبة والمعاقبة والعقاب مختصة بالعذاب وسوء الجزاء قال اللّه تعالى أولئك لهم عقبى الدار ونعم عقبى الدار وخير عقبا وقال فحق عقاب شديد العقاب وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم وجاز ان يكون قوله ان الأرض للّه إلى آخره وعد البنى إسرائيل بان يرثوا ارض مصر بعد فرعون ويكون لهم النصر والظفر عاقبة الأمر كالاية الثانية.(1/2435)
قالُوا يعنى قوم موسى أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا باعادة القتل علينا وقيل ان المراد منه ان فرعون كان يسخرهم قبل مجئ موسى إلى نصف النهار فلما جاء موسى استسخرهم جميع النهار بلا اجر وذكر الكلبي انهم كانوا يضربون اللبن بطين فرعون فلما جاء موسى عليه السلام اجبرهم ان يضربوه من طين من عندهم قالَ لهم موسى عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَيَسْتَخْلِفَكُمْ أى يسكنكم بعد هلاكه فِي الْأَرْضِ ارض مصر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ من شكر وطاعة أو كفران ومعصية وعدهم اللّه تعالى بالنصر والظفر وأشار إلى إيجاب الشكر عند ابتلائه بالخير وإيجاب الصبر على الابتلاء بالشر فانجز اللّه وعده حتى أغرق فرعون واستخلفهم فى ديارهم وأموالهم فعبدوا العجل وروى ان مصر فتح لهم فى زمن داؤد عليه السلام.
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ أى اتباعه بِالسِّنِينَ بالجدوب والقحوط والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويورخ به ثم اشتق منه فيقال سنت القوم إذا قحطوا ويقال مستهم السنة أى جدب السنة وقيل أراد بالسنين القحط سنة بعد سنة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة الآفات والعاهات قال قتادة اما سنين فلا هل البوادي واما نقص الثمرات فلا هل الأمصار لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكى ينتبهوا على ان ذلك بشوم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا أو يرق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى اللّه ويرغبوا فيما عنده.(1/2436)
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعنى الخصب والسعة والعافية قالُوا أى ال فرعون لَنا هذِهِ أى لاجلنا ونحن مستحقوها على العادة التي جرت لنا فى سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من اللّه تبارك وتعالى ليشكروا عليها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب وبلاء يكرهونه يَطَّيَّرُوا أى يتشاءموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ قالوا لم يصبنا بلاء حتى رايناهم فهذا من شوم موسى وقومه وقال سعيد بن جبير ومحمد بن المنكدر وكان ملك
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 396(1/2437)
فرعون اربعمائة سنة وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروها ولو كان له فى تلك المدة جوع يوم أو حمى يوم أو وجع ساعة لما ادعى الربوبية قط ولم يكن هذا القول منهم الا لكمال إغراقهم فى الغباوة والقساوة فانهم بعد مشاهدة الآيات لم ينتبهوا على انه ما كانت الحسنة الا تفضلا من اللّه تعالى وابتلاء فلما لم يشكروها ودعاهم الرسول المويد بالمعجزات الباهرة إلى الشكر والطاعة فلم يطيعوه وتمادوا فى العصيان اخذتهم السنة لشوم أعمالهم عقوبة من عند اللّه تعالى كما قال أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ أى شومهم عِنْدَ اللَّهِ أى من عنده بكفرهم ومعاصيهم كذا قال ابن عباس وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لفرط غباوتهم ان الذي أصابهم عقوبة من اللّه تعالى وقيل معنى الآية ان طائرهم أى انصبائهم من الخير والشر كله من عند اللّه وفى القاموس الطائر ما تيمنت به أو تشاءمت والخط وعمل الإنسان ورزقه أو سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومسببه أو سبب شومهم عند اللّه وهو أعمالهم المكتوبة عنده فانها التي ساقت إليهم ما يسوئهم وقيل معناه الشوم العظيم هو الذي لهم عند اللّه من عذاب النار قال البيضاوي انما عرف الحسنة وذكرها مع اداة التحقيق يعنى إذا الكثرة وقوعها وتعلق الارادة بها بالذات لسعة رحمة اللّه تعالى ونكر السيئة واتى بها مع حرف الشك يعنى ان لندرتها وعدم تعلق القصد بها الا بالتبع.
وَقالُوا يعنى فرعون واله لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ أى معجزة وعلامة على صدقك فى دعوى النبوة انما سموها اية على زعم موسى عليه السلام أو استهزاء به لا على اعتقادهم ولذلك قالوا لِتَسْحَرَنا بِها أعيننا وتشبه علينا وتلفتنا عما نحن عليه من الذين والضمير فى به وبها لما ذكره قبل التبئين أى كلمة مهما ذكره باعتبار اللفظ وانثه باعتبار المعنى فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فدعا موسى عليهم.(1/2438)
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ نصب على الحال من الأسماء المذكورة مُفَصَّلاتٍ مبينت لا يخفى على العاقل انها من اللّه تعالى ونقمته أو منفصلات لامتحان أحوالهم وكان بين كل ايتين منها ثلاثون يوما أخرجه ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وكان امتداد كل منها اسبوعا أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس بلفظ يمكث فيهم سبتا إلى سبت ثم يرفع عنهم شهرا وقيل ان موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل قال البغوي قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة و
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 397(1/2439)
محمد بن اسحق دخل كلام بعضهم فى بعض لما امنت السحرة ورجع فرعون وقومه مغلوبا أبى هو وقومه لا الاقامة على الكفر والتمادي فى الشر فتابع اللّه عليهم الآيات وأخذهم بالسنين ونقص من الثمرات فلما عالج منهم بالآيات الأربع العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات فابوا ان يؤمنوا فدعا عليهم موسى عليه السلام فقال يا رب ان عبدك فرعون علا فى الأرض وطغى وعتى وان قومه قد نقضوا عهدك فخذهم بعقوبة تجعلها لهم نقمة ولقومى عظة ولمن بعدهم اية وعبرة فبعث عليهم الطوفان وهو الماء أرسل اللّه عليهم المطر وبيوت بنى إسرائيل وبيوتهم مشتبكة مختلطة فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا فى الماء وركد الماء على أراضيهم لا يقدرون على ان يحرثوا ولا يزرعوا شيئا ودام ذلك عليهم سبعة ايام من السبت إلى السبت وقال مجاهد وعطاء الطوفان الموت كذا أخرج ابن جرير عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وقال وهب الطوفان الطاعون بلغة اليمن وقال أبو قلابة الطوفان الجدري وهم أول من عذبوا به فبقى فى الأرض وقال مقاتل الطوفان الماء طفا فوق حروثهم وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال الطوفان امر من اللّه عز وجل طاف بهم ثم قرأ فطاف عليهم طائف من ربك وهم نائمون قال نحاة الكوفة الطوفان مصدر لا يجمع كالرجحان والنقصان وقال أهل البصرة هو جمع واحدها طوفانة فقالوا لموسى ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف الطوفان فانبت اللّه لهم فى تلك السنة شيئا لم ينبت قبل ذلك من الكلأ والزروع والثمار وأخصبت بلادهم فقالوا ما كان هذا الماء الا نعمة علينا وخصبا فلم يومنوا وقاموا شهرا فى عافية فبعث اللّه عليهم الجراد وأكل عامة زروعهم وثمارهم وأوراق الشجر حتى كانت تأكل الأبواب وسقف البيت والخشب والنبات والامتعة ومسامير الأبواب من الحديد حتى يقع دونهم وابتلى الجراد بالجوع فكانت لا تشبع ولا(1/2440)
يصيب بنى إسرائيل شىء من ذلك فعجوا « 1 » وضجوا « 2 » وقالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك واعطوا عهد اللّه وميثاقه فدعا موسى فكشف اللّه عنهم الجواد بعد ما اقام عليهم سبعة ايام من السبت إلى السبت وفى الخبر مكتوب على صدر كل جراد جند اللّه الأعظم ويقال ان موسى برز إلى الفضاء فاشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت الجراد من حيث
_________
(1) العج رفع الصوت 12
(2) الضج الصياح عند المكروه والمشقة والجزع 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 398(1/2441)
جاءت وكانت قد بقيت من زروعهم وغلاتهم بقية فقالوا قد بقي لنا ما هو كافينا فما نحن بتاركي ديننا فلم يفوا بما عاهدوا وعادوا إلى أعمالهم السوء فاقاموا شهرا فى عافيه ثم بعث اللّه عليهم القمل واختلفوا فى القمل فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال القمل السوس الذي يخرج من الحنطة وقال مجاهد والسدى وقتادة والكلبي الدباء قالوا الجراد الطيارة التي لها اجنحة والدباء صغارها التي لا اجنحة لها وقال عكرمة هى بنات الجراد وقال أبو عبيدة هو الحمنان وهو ضرب من القراد وقال عطاء الخراسانى هو القمل وبه قرأ الحسن والقمل بفتح القاف وسكون الميم قالوا امر اللّه تعالى موسى ان يمشى إلى كثيب « 1 » اعفر « 2 » بقرية من قرى مصر تدعى عين الشمس فمشى موسى إلى ذلك الكثيب وكان اهيل « 3 » فضربه بعصاه فانتال عليهم بالقمل فتتبع ما بقي من حروثهم وأشجارهم ونباتهم فاكله وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيعضه وكان أحدهم يأكل الطعام فيمتلى قملا قال سعيد بن المسيب القمل السوس الذي يخرج من الحبوب وكان الرجل يخرج عشرة أقفزة إلى الرحى فلم يرد منها الا ثلثة أقفزة فلم يصابوا ببلاء كان أشد عليهم من القمل وانحزت أشعارهم وأبصارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كالجدرى عليهم ومنعهم النوم والقرار فصرخوا وصاحوا إلى موسى انا نتوب فادع اللّه لنا ربك يكشف عنا البلاء فدعى موسى فرفع اللّه القمل عنهم بعد ما اقام سبعة ايام من السبت إلى السبت فنكثوا وعادوا إلى أخبث أعمالهم وقالوا ما كنا قطان نستيقن انه ساحر منا اليوم يجعل الوصل دوابا فدعا موسى عليهم بعد ما أقاموا شهرا فى عافية فارسل اللّه عليهم الضفادع فامتلأت منها بيوتهم وأفنيتهم وأطعمتهم وآنيتهم فلا يكشف أحد اناء ولا طعاما الا وجد فيه الضفادع وكان الرجل يجلس فى الضفادع إلى ذقنه ويهم ان يتكلم فيثب الضفدع فى فيه وكانت تثبت فى قدورهم فيفسد عليهم طعامهم و(1/2442)
يطفئ نيرانهم وكان أحدهم يضطجع فيركبه الضفادع فتكون عليه ركاما حتى ما يستطيع ان ينصرف إلى شقه الاخر ويفتح فاه لاكله فيسبق الضفادع أكلته إلى فيه ولا يعجن عجينا الا تشدخت فيه ولا يفتح قدرا الا امتلأت ضفادع فلقوا منها أذى شديدا وروى عكرمة عن ابن عباس قال كانت الضفادع برية فلما أرسلها اللّه على ال فرعون سمعت واطاعت تقذف نفسها فى القدر وهى تغلى وفى التنانير وهى تفور فاثابها لحسن طاعتها يرد الماء
_________
(1) الكثيب الرمل المستطيل المحدوب 12
(2) اعفر ابيض ليس بناصع 12
(3) الا هيل السائل من الرمل 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 399(1/2443)
فلما رأوا ذلك بكوا وشكوا إلى موسى وقالوا هذه المرة نتوب ولا نعود تأخذ عهودهم ومواثيقهم ثم دعا ربه فكشف عنهم الضفادع بعد ما أقاموا سبعا من السبت إلى السبت فاقاموا شهرا فى عافية ثم نقضوا العهود وعادوا إلى كفرهم فدعا عليهم موسى فارسل اللّه عليهم الدم فسال النيل عليهم دما وصارت مياهم دما فما يستسقون من الآبار والأنهار الا وجدوا دما عبيطا « 1 » احمر فشكوا إلى فرعون فقال انه قد سحركم فقال القوم من اين سحرنا ونحن لا تجد فى أعيننا من الماء الا دما كان يجمع بين القبطي والاسرائيلى على الإناء الواحد فيكون ما يلى الاسرائيلى ماء وما يلى القبطي دما ويقومان إلى جب فيه الماء فيخرج للاسرائيلى ماء والقبطي دم حتّى تكون المرأة من ال فرعون تأتي المرأة من بنى إسرائيل حين جهدهم العطش فتقول اسقيني من مائك فتصب لها من قربتها فيعود فى الإناء دما حتى كانت تقول اجعليه فى فيك ثم مجيه فى فىّ فتاخذ فى فيها فإذا مجته فى فيها صارد ما وان فرعون اعتراه العطش حتى انه كان يضطر إلى مضغ الأشجار الرطبة فإذا مضغ يصير مائها فى فيه ملحا أجاجا فمكثوا فى ذلك سبعة ايام لم يشربوا الا الدم قال زيد بن اسلم الدم الذي كان سلط اللّه عليهم كان رعافا فاتوا موسى وقالوا يموسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنومن بك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان بموسى وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أى نزل بهم جنس العذاب الذي ذكر من الطوفان وغيرها وقال سعيد بن جبير الرجز هو الطاعون وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس مات منهم سبعون الفا فى يوم واحد فامسوا وهم يتدافنون روى الشيخان فى الصحيحين والترمذي والبغوي عن اسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الطاعون رجزا رسل على بنى إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به من ارض فلا تقدموا عليه(1/2444)
و إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وروى احمد والبخاري عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الطاعون كان عذابا يبعثه اللّه على من يشاء وان اللّه جعله رحمة للمؤمنين فليس من أحد يقع الطاعون فيمكث فى بلده صابرا محتسبا يعلم انه لا يصيبه الا ما كتب اللّه له الا كان له مثل اجر شهيد قلت لكن الحديثين المذكورين لا يدلان على ان الطاعون أرسل على القبط بل يدلان على انه أرسل على بنى إسرائيل ولعله
_________
(1) العبيط الدم الطري 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 400
ذلك بعد فرعون قلت ولو صح قول سعيد بن جبير فحينئذ بعد السنين ونقص من الثمرات اية واحدة ثالثة بعد العصا واليد بعضها على أهل القرى وهو السنين وبعضها على أهل الأمصار هو نقص من الثمرات وبعدها ست آيات من الطوفان إلى الرجز فهى الآيات التسع المرادة بقوله تعالى ولقد اتينا موسى تسع آيات.
قالُوا يعنى فرعون واتباعه يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ كشف العذاب عنا ان أمنا أو بعهده عندك وهو النبوة كذا قال عطاء أو بالذي عهده إليك من اجابة دعوتك وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع اللّه متوسلا إليه بما عهد عندك أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم جوابه لَئِنْ كَشَفْتَ يعنى اقسمنا بعهد اللّه عندك لئن كشفت عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى ارض الشام وكان استعبدهم.(1/2445)
فَلَمَّا كَشَفْنا بدعاء موسى عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ أى حد من الزمان هُمْ بالِغُوهُ يعذبون فيه أو يهلكون وهو وقت الغرق أو الموت وقيل إلى أجل عينوه لايمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب للما أى فلما كشفنا عنهم الرجز فاجئوا النكث ونقض العهد والإصرار على الكفر من غير توقف وتأمل فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ يعنى أخذناهم بالنقمة والعذاب بيانه فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أى البحر الذي لا يدرك قعره وهو لجة البحر المالح ومعظم مائه واشتقاقه من التيمم لان المشفعين به يقصدونه بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها أى عن الآيات غافِلِينَ يعنى انهم لم يتفكروا فيها حتى صاروا كالغافلين عنها وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله فانتقمنا.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعنى بنى إسرائيل بالاستعباد وذبح الأبناء واستخدام النساء مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالأنهار والأشجار والثمار والخصب وسعة العيش يعنى ارض مصر والشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا فى نواحيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة أى مضت عليهم يقال تم الأمر إذا مضى عليه واتصلت بالانجاز واستمرت عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله ونريد ان نمن إلى قوله ما كانوا يحذرون المذكور فى القصص وقوله عسى ربكم ان يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا أى بسبب صبرهم على دينهم والشدائد من فرعون
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 401(1/2446)
و قومه وَدَمَّرْنا خربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الثمار والأعناب فى الجنات كذا قال الحسن أو ما كانوا يرفعون من البناء كصرح هامان وغير ذلك من القصور والبيوت كذا قال مجاهد قرأ أبو بكر وابن عامر يعرشون بضم الراء هنا وفى النحل والباقون بكسرها وهذا اخر قصة فرعون وقومه ويتلوه ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد ما من اللّه عليهم بالنعم الجسم وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فيما يرى منهم وايقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم وفى قوله تعالى بما صبروا حث على الصبر ودلالة على ان من قابل البلاء بالصبر فرجه اللّه عنه ودمر عدوه ومن قابله بالجزع وكله اللّه إليه واللّه تعالى أعلم .(1/2447)
وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قال الكلبي عبر بهم موسى البحر يوم عاشوراء بعد ما هلك فرعون وقومه فصام شكر اللّه عز وجل فَأَتَوْا فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ أى يقيمون قرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف والباقون بضمها وهما لغتان عَلى عبادة أَصْنامٍ أوثان لَهُمْ قال ابن جريج كانت تماثيل بقر وذلك أول شان العجل وكذا أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير وزاد من نحاس والقوم قيل كانوا من العمالقة الذين امر موسى بقتالهم واخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ من ابن عمر ان الجونى قال هم لخم وجذام وقال البغوي قال قتادة كان أولئك القوم من لخم وكانوا نزولا بالرقة فقالت بنو إسرائيل لما رأوا ذلك قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أى مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف ولذلك وقعت الجملة بعدها قال البغوي ولم يكن ذلك شكا من بنى إسرائيل فى وحدانية اللّه تعالى وانما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه ونتقرب إلى اللّه بتعظيمه وظنوا ان ذلك لا يضر الديانية وكان ذلك لخفة عقلهم وشدة جهلهم ولذلك قالَ لهم موسى تعجبا من قولهم على اثر ما رأوا من الآيات إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل وأكده بقوله.
إِنَّ هؤُلاءِ القوم مُتَبَّرٌ أى مهلك ما هُمْ فِيهِ يعنى اللّه يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضا وَباطِلٌ مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها يعنى ليس ذلك مقربا إلى اللّه تعالى بالغ فى هذا الكلام بايقاع هؤلاء اسم ان والاخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان وتقديم الخبرين فى الجملتين الواقعين خبر الان للتنبيه على ان الذمار لاحق لما هم فيه لا محالة لا يعدوهم وان الإحباط الكلى لازم لما مضى عنهم تنقيرا وتحذيرا عما طلبوا ثم.
قالَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 402(1/2448)
موسى توبيخا وتعجبا أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً اطلب لكم معبودا وَهُوَ أى اللّه سبحانه فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أى عالمى زمانكم يعنى والحال انه خصكم بنعم لم يعطها غيركم وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص اللّه إياهم من بين أمثالهم بما لم يستحقوه تفضلا بما قصدوا ان يشركوا به احسن شىء من مخلوقاته وهو ليس كمثله شىء عنواقد الليثي قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول اللّه اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها فقال النبي صلى اللّه عليه واله وسلم اللّه اكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا الها كما لهم الهة انكم تركبون سنن من قبلكم رواه البغوي بسنده واذكروا صنيعه معكم الان.(1/2449)
إِذْ أَنْجَيْناكُمْ قرأ ابن عامر من الافعال على الغيبة وهكذا فى مصاحف أهل الشام والباقون أنجيناكم على التكلم والتعظيم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ استيناف لبيان ما أنجاهم منه أو حال من المخاطبين أو من ال فرعون أو منها سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ قرأ نافع بفتح الياء واسكان القاف وضم التاء الفوقانية من المجرد والباقون بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددا من التفعيل للتكثير أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ جملة يقتلون مع ما عطف عليه بدل من يسومونكم مبين له وَفِي ذلِكُمْ العذاب أو الانجاء بَلاءٌ محنة أو نعمة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وَواعَدْنا مُوسى قرأ أبو عمرو وعدنا من المجرد والباقون من المفاعلة ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ أخرج ابن أبى حاتم عن أبى العالية يعنى ذى القعدة وعشرا من ذى الحجة قال السيوطي وعد اللّه موسى ان يكلمه عند انتهاء ثلثين ليلة وقال البغوي وعد موسى بنى إسرائيل وهم بمصر ان اللّه إذا أهلك عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما فعل اللّه ذلك سال موسى ربه الكتاب فامر الله عز وجل ان يصوم ثلثين يوما فلما تمت ثلثون وجد خلوفا فتسوك بعود خروب وقال أبو العالية أكل من لحاء شجرة فقالت له الملئكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فافسدته بالسواك فامر اللّه ان يصوم عشرة ايام من ذى الحجة وقال اما علمت ان خلوف فم الصائم أطيب عندى من ريح المسك وكانت فتنتهم فى العشر الذي زاده وكذا أخرج الديلمي عن ابن عباس معناه فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أى وقت وعده بكلامه وإيتاء الكتاب أَرْبَعِينَ حال لَيْلَةً تميز وَقالَ مُوسى عند انطلاقه إلى الجبل للمناجاة لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي أى كن خليفتى فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ما يجب ان يصلح
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 403(1/2450)
من أمورهم أو كن مصلحا أو أصلحهم بحملك إياهم على طاعة اللّه وقال ابن عباس يريد الرفق بهم والإحسان إليهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ يعنى لا تتبع من عصى الله ولا تطع من دعاك إلى المعصية والإفساد.
وَلَمَّا جاءَ مُوسى إلى طور سيناء لِمِيقاتِنا اللام للاختصاص أى اختص مجيئه لميقاتنا أى وقتنا الذي وقتنا له ان أكلمه فيه قال أهل التفسير ان موسى عليه السّلام تطهر وطهر ثيابه لميعاد ربه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فى القصة ان اللّه انزل ظلمة على سبعة فراسخ وطرد عنه الشياطين وطوّر هو أم الأرض ونحى عنه الملكين وكشط له السماء فراى الملئكة قياما فى الهواء ورأى العرش بارزا فكلمه اللّه وناجاه حتى أسمعه وكان جبرئيل معه فلم يسمع ما كلمه ربه حتى سمع صرير القلم قال البيضاوي روى ان موسى كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة قلت معناه انه لا يسمع من جهة وكان كلما يتوجه إلى جهة من الجهات يسمع ذلك الكلام بلا جهة من غير تفاوت فاستجلى موسى كلام ربه واشتاق إلى رويته وقالَ رَبِّ أَرِنِي نفسك أَنْظُرْ إِلَيْكَ قال الحسن هاج به الشوق قال الروية ظنا منه انه يجوز ان يرى فى الدنيا يعنى قياسا على الروية فى الاخرة قالَ اللّه تعالى لَنْ تَرانِي وليس لبشران يطيق النظر الىّ فى الدنيا من نظر الىّ فى الدنيا مات فقال الهى سمعت كلامك فاشتقت إلى النظر إليك ولان انظر إليك ثم أموت أحب إلى من ان اعيش ولا أراك قال السيوطي التعبير بلن ترانى دون لا ارى يفيد إمكان الروية فقال اللّه تعالى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ الآية وهو أعظم جبل بمدين يقال له زبير قال السدى لما كلم اللّه تعالى موسى غاص الخبيث إبليس فى الأرض حتى خرج بين قدمى موسى فوسوس إليه وقال ان من كلمك شيطان فعند ذلك سأل الروية وفى هذه الآية دليل على إمكان الروية فى الدنيا لان طلب المستحيل من الأنبياء محال خصوصا ما يقتضى الجهل باللّه تعالى و(1/2451)
قوله لن ترانى فيه دليل على عدم الوقوع له ما دامت الدنيا لا على عدم الوقوع له ولغيره فضلا من عدم الإمكان والظاهر ان موسى قبل نزول قوله لن ترانى كان لا يعرف عدم الوقوع فى الدنيا وليس هذا جهلا باللّه تعالى بل ببعض أحكامه كما ان نوحا عليه السلام سأل ربه نجاة ابنه وابراهيم عليه السلام سأل مغفرة أباه ومحمدا صلى اللّه عليه واله وسلم سأل مغفرة أبى طالب حتى نزل قوله تعالى وما كان للنبى والذين أمنوا ان يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولى قربى الآية وسأل مغفرة بعض المنافقين حتى نزل استغفر لهم أو لا تستغفر لهم
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 404(1/2452)
ان تستغفر لهم سبعين مرة وحتى نزل ولا تصل على أحد منهم مات ابدا ولا تقم على قبره كل ذلك لعدم اطلاعهم على عدم وقوع الاستجابة مع كفر المدعو لهم واستدل نفاة الروية بقوله تعالى لن ترانى قالوا لن للتأبيد قلنا ليس كذلك بل هى لتاكيد نفى الروية المسئولة فى الدنيا الا ترى ان قوله تعالى ولن يتمنوه ابدا اخبار عن اليهود وقد اخبر عن الكفرة بتمنيهم الموت فى الاخرة حيث قال ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك وقال يا ليتها كانت القاضية ويقول الكفر يليتنى كنت ترابا والقول بان سوال موسى عليه السلام الروية كان لتبكيت قومه حين قالوا أرنا اللّه جهرة خطأ فاحش فان ذلك وقعة اخرى وقد عذبهم اللّه تعالى على ذلك القول فاخذتهم الصاعقة بظلمهم حيث لم يكونوا مستحقين لها ولم يكن أحدا من قوم موسى معه حين كلمه اللّه تعالى وأعطاه التورية وسأل ربه الروية ولم يعاتب على موسى على ذلك السؤال لاستحقاقه وانما نفى الروية لعدم احتمالها للنية الدنيوية وقال ولكن انظر إلى الجبل الآية وأيضا لو كانت الروية ممتنعة وكان هذا السؤال لتبكيت قومه لوجب على موسى ان تجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا اجعل لنا الها وكيف يتبع موسى سبيلهم لو كان ممتنعا وقد قال لاخيه ولا تتبع سبيل المفسدين وقوله تعالى ولكن انظر إلى الجبل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد ان يبين به انه لا يطيقه كما لا يطيق الجبل وفى تعليق الروية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة ان المعلق على الممكن ممكن قال وهب وابن اسحق لما سأل موسى ربه الروية أرسل اللّه الضباب « 1 » والصواعق والظلمة والرعد والبرق وأحاطت بالجبل الذي عليه موسى إلى اربعة فراسخ من كل جانب وامر اللّه تعالى ملئكة السموات ان يعترضوا على(1/2453)
موسى فمرت به ملئكة السماء الدنيا كثيران « 2 » البقر تتبع أفواههم بالتسبيح والتقديس بأصوات عظيمة كصوت الرعد الشديد ثم امر اللّه ملئكة السماء الثانية ان اهبطوا على موسى فاعترضوا عليه فهبطوا عليه أمثال الأسود لهم لجب « 3 » بالتسبيح والتقديس ففزع العبد الضعيف ابن عمران مما راى وسمع واقشعرت كل شعرة فى راسه وجسده ثم قال لقد ندمت على مسألتى فهل يجنبنى من مكانى الذي انا فيه شىء فقال خير الملئكة وراسهم يا موسى اصبر لما سألت فقليل من كثير ما رأيت ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الثالثة ان اهبطوا على موسى واعترضوا عليه فهبطوا أمثال الأسود لهم قصف « 4 »
_________
(1) الضباب أى السحاب الرقيق 12
(2) كثيران جمع ثور أى الذكر من البقر 12
(3) لجب الصياح واضطراب موج البحر 12 قاموس
(4) قصف أى كسر وقصف الرعد أى صار صوته شديدا 12 [.....]
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 405(1/2454)
و رجف ولجب شديد وأفواههم تتبع بالتسبيح والتقديس كجلب « 1 » الجيش العظيم ألوانهم كلهب النار ففزع موسى واشتد نفسه وايس من الحيوة فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الرابعة ان اهبطوا واعترضوا على موسى ابن عمران وكان لا يشبههم شىء من الذين مروا به قبلهم ألوانهم كلهب النار وسائر خلقهم كالثلج الأبيض أصواتهم عالية بالتسبيح والتقديس لا يقاربهم شىء من أصوات الذين مروا به قبلهم فاصطكت « 2 » ركبتاه وارعد « 3 » قلبه واشتد بكاؤه فقال له خير الملئكة وراسهم يا ابن عمران اصبر لما سالت فقليل من كثير ما رايت ثم امر اللّه تعالى ملئكة السماء الخامسة ان اهبطوا واعترضوا على موسى فهبطوا عليه لهم سبعة ألوان فلم يستطع موسى ان يتبعهم بصره لما لم ير مثلهم ولم يسمع مثل أصواتهم فامتلأ جوفه واشتد حزنه وكثر بكاؤه فقال له خير الملئكة يا ابن عمران مكانك حتّى ترى ما لا تصبر عليه ثم امر اللّه ملئكة السماء السادسة ان اهبطوا على عبدى الذي طلب ليرانى فاعترضوا عليه وفى يد كل ملك مثل النخلة الطويلة نار أشد ضوء من الشمس ولباسهم كلهب النار إذا سبحوا وقدسوا جاءوا بهم من كان قبلهم من ملئكة السموات كلهم يقولون لشدة أصواتهم سبوح قدوس رب الملئكة والروح رب العزة ابدا لا يموت فى راس كل ملك منهم اربعة أوجه فلما راهم موسى رفع صوته ليسبح حين سبحوا وهو يبكى ويقول رب اذكرني ولا تنس عبدك لا أدرى انفلت مما انا فيه أم لا ان خرجت احترقت وان مكثت مت فقال له كبير الملئكة وراسهم قد اوشكت يا ابن عمران ان يشتد خوفك وينخلع قلبك فاصبر للذى سألت ثم امر اللّه ان يحمل عرشه فى ملئكة السماء السابعة فلما بدأ نور العرش انفرج الجبل من عظمة الرب جل جلاله فرفعت ملئكة السماء أصواتهم جميعا يقولون سبحان الملك القدوس رب العزة ابدا لا يموت فارتج الجبل بشدة أصواتهم و(1/2455)
اندكت كل شجرة كانت فيه وخر العبد الضعيف موسى صعقا على وجهه ليس معه روحه فارسل اللّه برحمته الروح فتغشاه وقلب عليه الحجر الذي كان عليه موسى وجعل كهيئة القبة لئلا يحترق موسى فاقامه الروح مثل الام فقام موسى يسبح اللّه ويقول امنت بك ربى وصدقت انه لا يراك أحد فيحيى من نظر إلى ملئكتك انخلع قلبه فما أعظم ملئكتك أنت رب الأرباب واله الالهة وملك الملوك ولا يعدلك شىء ولا يقوم لك شىء رب تبت إليك الحمد لك لا شريك لك ما أعظمك و
_________
(1) أى اختلاط الصوت 12
(2) فاصطكت أى اضطربت 12
(3) ارعد أى اضطرب 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 406(1/2456)
ما أجلك رب العالمين فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أى ظهر وانكشف بعض أنواره قال السيوطي اظهر من نوره قدر نصف انملة الخنصر كذا فى حديث صححه الحاكم لِلْجَبَلِ قالت الصوفية التجلي ظهور الشيء فى المرتبة الثانية كظهور زيد فى المرآة وليس هو روية الذات فان اللّه سبحانه لما نفى الروية لموسى بالتاكيد مع كونه أقوى استعدادا من الجبل لا يتصور حصوله للجبل قال اللّه تعالى انا عرضنا الامانة على السموات والأرض والجبال فابين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان قال ابن عباس ظهر نوره للجبل وقال الضحاك اظهر اللّه من نوره الحجب مثل منخر ثور وقال عبد اللّه ابن سلام وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة اللّه للجبل الأمثل سم الخياط حتى صار دكا وقال السدى ما تجلى الا قدر الخنصر يدل عليه ما روى احمد والترمذي والحاكم وصححاه عن ثابت عن انس ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قرأ هذه الآية وقال هكذا ووضع الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ « 1 » الجبل وخر موسى صعقا واخرج أبو الشيخ بلفظ وأشار بالخنصر فمن نورها جعله دكا وحكى عن سهل بن سعد الساعدي ان اللّه اظهر من سبعين الف حجاب من نور قدر الدرهم فجعل الدرهم للجبل دكا جَعَلَهُ دَكًّا قرأ حمزة والكسائي دكاء بالمد والهمز بغير تنوين أى أرضا مستوية ومنه ناقة دكاء التي لاسنام لها وقرأ الباقون دكا بالتنوين بغير همز أى مدكوكا مفتتا والدك والدق اخوان قال فى القاموس الدك والدق والهدم ما استوى من الرمل قال ابن عباس جعله ترابا قال ساخ الجبل فى الأرض حتّى وقع فى البحر فهو يذهب فيه وقال عطية العوفى صار رملا هائلا وقال الكلبي جعله دكا أى كسر اجبالا صغارا قال البغوي وقع فى التفاسير صارت لعظمته ستة اجبل وقعت ثلثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى ووقعت ثلثة بمكة ثور وثبير وحراء قال السعاف فى تخريج البيضاوي أخرج ابن مردوية عن على بن أبى طالب رضى اللّه(1/2457)
عنه فى قوله تعالى فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا قال اسمع موسى قال له اننى انا اللّه قال وذاك عشية عرفة وكان الجبل بالموقف فانقطع على سبع قطع قطعة أسقطت بين يديه وهو الذي يقوم الامام عنده فى الموقف وبالمدينة ثلثة طيبة واحد ورضوى وطور سيناء بالشام وانما سمى الطور لأنه طار فى الهواء إلى الشام قلت هذه الرواية غريبة جدا فان تكلم اللّه تعالى بموسى عليه السلام وإعطائه التورية كان بالشام على طور سينا دون مكة واللّه اعلم وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال ابن عباس والحسن مغشيا عليه
_________
(1) ساخ سوخا وسواخا وسوخاتا سار رويدا 12 قاموس
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 407
و قال قتادة ميتا قال الكلبي خر موسى صعقا يوم الخميس يوم عرفة فاعطى التورية يوم الجمعة يوم النحر قال الواقدي لما خر موسى صعقا قال ملئكة السموات ما لابن عمران وسوال الروية فَلَمَّا أَفاقَ موسى من صعقته قالَ تعظيما لما راى سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة والاقدام على السؤال بغير اذن وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ لان ايمان كل نبى مقدم على ايمان أمته.(1/2458)
قالَ اللّه تعالى يا مُوسى إِنِّي قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان اصْطَفَيْتُكَ أى اخترتك عَلَى النَّاسِ الموجودين فى زمانك بِرِسالاتِي قرأ نافع وابن كثير برسالتى على التوحيد والباقون على الجمع وَبِكَلامِي أى بتكليمى إياك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وفى القصة ان موسى بعد ما كلمه ربه لا يستطيع أحد ان ينظر إليه لما غشى وجهه من النور ولم يزل على وجهه برقع حتى مات وقالت له امرأته انا ايم منك منذ كلمك ربك فكشف لها عن وجهه فاخذها مثل شعاع الشمس فوضعت يدها على وجهها وخرت للّه ساجدة وقالت ادع اللّه ان يجعلنى زوجتك فى الجنة قال ذلك لك ان لم تتزوجى بعدي فان المرأة لاخر أزواجها وروى البغوي بسنده عن كعب الأحبار ان موسى نظر فى التورية فقال رب انى أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون باللّه وبالكتاب الأول وبالكتاب الاخر ويقاتلون أهل الضلالة حتّى يقاتلون الأعور الدجال رب اجعلهم أمتي قال يا موسى هى أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم قال رب انى أجد أمة هم الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا امرا قالوا نفعل إنشاء اللّه فاجعلهم أمتي قال هى أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم قال رب انى أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار وهم المستجيبون والمستجاب لهم الشافعون المشفع لهم فاجعلهم أمتي قال هى أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فقال انى أجد أمة إذا اشرف أحدهم على شرف كبر اللّه وإذا هبط واديا حمد اللّه الصعيد لهم طهور والأرض لهم مسجد حيث ما كانوا يتطهرون من الجنابة طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء غر محجلون من اثار الوضوء فاجعلهم أمتي قال هى أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فقال رب انى أجد أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت(1/2459)
له حسنة مثلها وان عملها ضعف عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وإذا همّ بسيئة ولم يعملها لم يكتب
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 408
عليه وان عمل كتبت له سيئة مثلها فاجعلهم أمتي قال هى أمة احمد صلى اللّه عليه واله وسلم فقال رب انى أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب من الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فلا أجد منهم الا مرحوما فاجعلهم أمتي قال هى أمة احمد صلى اللّه عليه واله وسلم فقال انى أجد أمة مصاحفهم فى صدورهم يلبسون ألوان ثياب أهل الجنة يصفون فى صلوتهم صفوف الملئكة أصواتهم فى مساجدهم كدوى النحل لا يدخل النار أحد منهم ابدا الا من برى من الحسنات مثل ما برى الحجر من ورق الشجر فاجعلهم أمتي قال هى أمة احمد صلى اللّهعليه واله وسلم فلما عجب موسى من الخير الذي اعطى اللّه محمدا صلى اللّه عليه واله وسلم وأمته قال يا ليتنى من اصحاب محمد صلى اللّه عليه واله وسلم فاوحى اللّه عز وجل بثلث يرضيه بهن يا موسى انى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي إلى قوله ساوريكم دار الفاسقين ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون قال فرضى موسى عليه السلام كل الرضاء.(1/2460)
وَ كَتَبْنا لَهُ أى لموسى فِي الْأَلْواحِ كانت سبعة أو عشرة قال ابن عباس يعنى الواح التورية وفى الحديث كانت من سدر الجنة طول اللوح اثنى عشر ذراعا أخرجه أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جده وجاء فى الحديث خلق اللّه عز وجل آدم عليه السلام بيده وكتب التورية بيده وغرس شجرة طوبى بيده وقال الحسن كانت الألواح من خشب وقال الكلبي كانت من زبرجدة خضراء وقال سعيد بن جبير كانت من ياقوت احمر وكذا أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن كعب وقال الربيع بن انس كانت الألواح من زبرجد وقال ابن جريح كانت زمردا امر اللّه تعالى جبرئيل عليه السلام حتى جاء بها من عدن فكتبها بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور واخرج أبو الشيخ عن ابن جريج انها كانت من زمرد أو زبرجد قال وهب امر اللّه بقلع الألواح من صخرة صماء لينها اللّه تعالى له فقطعها بيده ثم شققها بيده وسمع موسى عليه السلام صرير القلم بالكلمات العشرة وكان ذلك فى أول يوم من ذى القعدة وكانت الألواح عشرة اذرع على طول موسى عليه السلام وقال مقاتل ووهب وكتبنا فى الألواح كنقش الخاتم وقال الربيع بن انس نزلت التورية وهى سبعون وقر بعير يقرء الجزء منه فى سنة لم يقرأه الا اربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى وقال الحسن هذه الآية فى التورية الف اية يعنى قوله تعالى وكتبنا له فى الألواح مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاجون إليه من امر الدين مَوْعِظَةً الموعظة التذكير والتحذير مما يخاف عاقبته قال فى القاموس وعظه موعظة ذكره
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 409(1/2461)
ما يلين قلبه من الثواب والعقاب وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ أى تبيانا لكل شىء من الأمر والنهى والحلال والحرام والحدود والاحكام بدل من الجار والمجرور أى كتبنا كل شىء من المواعظ وتفصيل الاحكام فَخُذْها عطف على كتبنا بإضمار القول أو بدل من قوله فخذ ما أتيتك والضمير راجع إلى الألواح أو إلى كل شىء فانه بمعنى الأشياء أو للرسالات بِقُوَّةٍ أى بجد واجتهاد وقيل بقوة القلب وصحة العزيمة لأنه إذا اخذه بضعف النية رده إلى الفتور وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أى بما هو بالغ فى الحسن مطلقا وليس افعل للتفضيل بالاضافة فان كل ما هو فى كتاب اللّه حسن بالغ فى الحسن لا يحتمل النقيض ولا يجوز ان يكون شىء احسن منه فهو كقولهم الصيف أحر من الشتاء كذا قال قطرب وقال عطاء عن ابن عباس يحلوا حلالها ويحرموا حرامها ويتدبروا ويتعظوا بامثالها ويعملوا بحكمها ويقفوا عند متشابهها وقيل المراد بأحسنها الفرائض والنوافل يعنى ما يستحق عليه الثواب وما دونها المباح لأنه لا يستحق عليها الثواب وقيل بالعزيمة دون الرخصة وبأحسن الامرين فى كل شىء كالعفو احسن من القصاص والصبر احسن من الانتصار سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ تحذيرا من ان لا تأخذوا بكتاب اللّه تعالى فتكونون مثلهم والمراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها كذا قال عطية العوفى وقال السدى مصارع الكفار وقال الكلبي وقتادة ما مروا عليه إذا سافروا من منازل عاد وثمود والقرون الذين اهلكوا وقال مجاهد والحسن وعطاء دار الفاسقين مصيرهم فى الاخرة يعنى جهنم.(1/2462)
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ قرأ ابن عامر وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها والمعنى ساصرف عن التفكر فى آياتي التي فى الآفاق والأنفس وعن الاعتبار بها وقيل معناه ساصرفهم عن ابطال آياتي المنزلة والمعجزات وان يطفئوا نور اللّه بأفواههم كما فعل فرعون فعاد عليه باعلائها أو باهلاكهم واللّه متم نوره ولو كره الكافرون أو المعنى ساصرف عن قبول آياتي المنزلة فى الكتاب والتصديق بها بالحرمان عن الهداية لعنادهم الحق نظيره قوله تعالى فلما زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم كذا قال ابن عباس وقال سفيان سامنع عن فهم القرآن ودرك عجائبه الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ويتجبرون على عبادى ويحاربون أوليائي بِغَيْرِ الْحَقِّ صلة يتكبرون أى يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل أو حال من فاعله فحكم الآية عام بجميع الكفار وقيل حكم الآية خاص وأراد بالآيات الآيات التسع التي أعطاها اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 410(1/2463)
موسى عليه السلام وَإِنْ يَرَوْا هؤلاء المتكبرون كُلَّ آيَةٍ منزلة أو معجزة أو منصوبة لدرك الحق لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم أو اختلال عقلهم بسبب انهماكهم فى الهوى والتقليد وبما طبع اللّه على قلوبهم وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أى الهدى والسداد بإراءة الأنبياء والعلماء لا يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم قرأ حمزة والكسائي الرشد بفتح الراء والشين والآخرون بضم الراء وسكون الشين وهما لغتان وثالثهما الرشاد كالسقم والسّقم والسّقام وكان أبو عمر يفرق بينهما فيقول الرشد بالضم الصلاح فى الأمر وبالفتح الاستقامة فى الدين وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أى طريق الضلالة بإراءة النفس والشيطان يَتَّخِذُوهُ لانفسهم سَبِيلًا ذلِكَ الصرف محله الرفع بالابتداء والظرف المستقر بعده خبره أو محله النصب على المفعولية مفعولا مطلقا من قوله تعالى ساصرف والظرف متعلق به بِأَنَّهُمْ أى بسبب انهم كَذَّبُوا بِآياتِنا المنزلة والمعجزات وعدم تدبرهم فى خلق الأرض والسموات وَكانُوا عَنْها أى عن الآيات غافِلِينَ لاهين ساهين أو غافلين غفلة عناد.(1/2464)
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أى لقائهم الدار الاخرة أو ما وعد اللّه فى الاخرة من الثواب والعقاب حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة من انفاق المال وصلة الرحم وغير ذلك فهم لا ينتفعون بها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء هَلْ يُجْزَوْنَ الاستفهام للانكار أى ما يجزون فى الاخرة إِلَّا جزاء ما كانُوا يَعْمَلُونَ فى الدنيا عملا معتدا به عند اللّه تعالى وهو ما كان للّه تعالى مخلصا له الدين وهم لم يعملوا كذلك أو المعنى ما يجزون الاجزاء ما كانوا يعملون من السيئات فان أعمالهم كلها سيات ليس شىء منها حسنة فان العبادة إذا كان لغير اللّه تعالى فهو أسوأ السيئات والانفاق وصلة الرحم إذا لم يكن للّه تعالى كان اعانة للكفار على الكفر ومعاداة اللّه تعالى أو خطأ لنفسه.
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى بنو إسرائيل مِنْ بَعْدِهِ أى بعد ذهابه لميقات ربه بعد ثلثين ليلة إذا زيدت فى الميقات عشرا مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروها من قوم فرعون بعلة عرس حين هموا بالخروج من مصر فبقى عندهم واضافتها إليهم لانها كانت فى أيديهم وملكوها بعد هلاكهم قرأ حمزة والكسائي بكسر الحاء بالاتباع كدلى والباقون غير يعقوب بالضم وهو جمع حلى كثدى وثدى بالفتح والضم وقرأ يعقوب بفتح الحاء وسكون اللام وكسر الياء مخففا على الافراد بارادة الجنس عِجْلًا مفعول أول لاتخذ والمفعول الثاني محذوف
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 411(1/2465)
يعنى الها يعبدونه جَسَداً أى بدنا بدل من عجلا قال ابن عباس والحسن وقتادة وجماعة من المفسرين صوغه السامري فالقى فى فمه من تراب اثر فرس جبرئيل عليه السلام فصار ذا لحم ودم كما قال اللّه تعالى حكاية عن السامري بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها الآية وسنذكر قصة السامري وسبب معرفته جبرئيل فى سورة طه إنشاء اللّه تعالى لَهُ خُوارٌ أى صوت البقر قيل ما خار إلا مرة واحدة وقيل كان يخور كثيرا فكلما خار سجدوا له وإذ سكت رفعوا رؤسهم وقال وهب كان يسمع منه الخوار ولا يتحرك وقال السدى كان يخور ويمشى وقيل كان جسدا من الذهب لا روح فيه صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح فى جوفه فيسمع منه صوت كخوار البقر وهذا القول يرده ما تلونا أَلَمْ يَرَوْا هؤلاء الحمقاء حين اتخذوه الها وعبدوه أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا يعنى لا يقدر على ما يقدر عليه احاد البشر فكيف حسبوه خالق السموات والأرض وما فيهما من الأجسام والقوى اتَّخَذُوهُ تكرير للذم أى اتخذوه الها وَكانُوا ظالِمِينَ أى واضعين الأشياء فى غير مواضعها ومن ثم وضعوا العبادة للعجل فى موضع الاستخدام.(1/2466)
وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ سقط مسند إلى الظرف وهو كناية من ان اشتد ندمهم فان النادم المتحسر يعض يده غما فيصير يده مسقوطا فيه يقول العرب لكل نادم قد سقط فى يده وقال الزجاج معناه سقط الندم فى أيديهم أى فى قلوبهم وأنفسهم كما يقال حصل فى يده مكروه وان استحال ان يكون فى اليد تشبيها لما يحصل فى القلب والنفس بما يحصل فى اليد ويرى بالعين والحاصل انهم ندموا على عبادة العجل حين جائهم وعاتبهم موسى عليه السلام وَرَأَوْا علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل تابوا وقالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بقبول التوبة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة قرأ حمزة والكسائي ترحمنا وتغفر لنا بالتاء الفوقانية على الخطاب ونصب ربنا على النداء والباقون بالتحتانية على الغيبة والرفع على الفاعلية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد انقضاء أربعين ليلة الميقات غَضْبانَ من جهتهم أَسِفاً قال أبو الدرداء يعنى شديد الغضب وقال ابن عباس والسدى شديد الحزن وفى القاموس الأسف أشد الحزن وأسف عليه غضب قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أى فعلتم فعلا مذموما حيث عبدتم العجل والخطاب لعبدة العجل أو قمتم مقامى قياما مذموما حيث لم تكفوا العبدة من بنى إسرائيل والخطاب لهرون
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 412(1/2467)
عليه السلام والمؤمنين معه وما نكرة موصوفة تفسير للمستكن فى بئس والمخصوص بالذم محذوف أى بئس خلافة خلفتمونى خلافتكم مِنْ بَعْدِي أى بعد ذهابى لميقات ربى أو بعد ما رأيتم منى من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بإسكانها أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ يعنى تركتموه غير تام ولما تضمن عجل معنى سبق عدى تعديته أو المعنى أ عجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتى وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد الأنبياء واصل العجلة طلب الشيء قبل حينه وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي جاء بها فيها التورية القاها على الأرض من شدة الغضب لربه أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اعطى موسى التوراة فى سبعة الواح من زبرجد فيها تبيان كل شىء وموعظة فلما جاء بها ورأى بنى إسرائيل عكوفا على عبادة العجل رمى بالتورية من يده فتخطت يعنى تكسرت فرفع اللّه تعالى منها ستة اسباع وبقي سبع قال البغوي فرفع ما كان من اخبار الغيب وبقي ما فيه الموعظة والاحكام والحلال والحرام عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ليس الخبر كالمعاينة ان اللّه تعالى اخبر موسى بما صنع قومه فى العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد والطبراني فى الأوسط والحاكم بسند صحيح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون أى بشعر راسه قال البغوي بذوائبه ولحيته يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهما بانه قصر فى كفهم وهارون كان اكبر من موسى عليهما السلام بثلث سنين وأحب إلى بنى إسرائيل من موسى لأنه كان لين الغضب قالَ هارون ابْنَ أُمَّ ذكر الام لرفقه وكان من اب وأم قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم وأصله يا ابن أمي حذف حرف النداء ثم حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى ياء المتكلم و(1/2468)
الباقون بفتحها زيادة فى التخفيف لطوله وتشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ يعنى عبدة العجل اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا وهموا وقاربوا ان يَقْتُلُونَنِي يعنى بذلت سعى فى كفهم حتى قهرونى واستضعفوني وقاربوا ان يقتلوننى فلا تتوهم التقصير فى كفهم منى فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أى لا تفعل بي ما يفرحوا به والشماتة الفرح ببلية العدو كذا فى القاموس وَلا تَجْعَلْنِي فى موجدتك علىّ والانتقام مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يعنى عبدة العجل.
قالَ موسى رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت بأخي وَلِأَخِي ان فرط فى كفهم والظاهر ان المقصود الاستغفار لاخيه ضم إليه نفسه ترضية له ودفعا للشماتة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 413
عنه ولان سنة الاستغفار لغيره ان يبدأ بالاستغفار لنفسه دفعا لتزكية النفس ولان الدعاء بعد الاستغفار قرب إلى الاجابة فان الذنوب مانعة من الاجابة ومن ثم ورد فى دعاء الجنازة اللهم اغفر لحينا وميتنا قدم الاستغفار للاحياء لكونه منهم وفى الدعاء لاهل القبور يغفر اللّه لنا ولكم وقال اللّه تعالى لنبيه مع كونه معصوما واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات حتى يبقى منه سنة فى أمته وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أى عصمتك فى الدنيا ورحمتك فى الاخرة وبمزيد الانعام علينا فى الدارين وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فانت ارحم إلينا من أنفسنا علينا.(1/2469)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ الها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ أى عذاب وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهى خروجهم من ديارهم فعلى هذا السين فى قوله سينالهم للاستقبال بالنسبة إلى زمان غضب موسى عليه السلام عليهم على سبيل الحكاية وقال عطية العوفى ان الذين اتخذوا العجل أراد به اليهود الذين كانوا فى زمن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم عيرهم بصنيع ابائهم وقال بالنسبة إليهم سينالهم فى الاخرة غضب من ربهم وينالهم ذلة فى الدنيا يعنى ما أصاب بنى قريظة والنضير وغيرهم من القتل والاجلاء قال ابن عباس هو الجزية وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ قال أبو قلابة هو واللّه جزاء كل مفتر إلى يوم القيامة ان يذله اللّه تعالى قال سفيان بن عيينة هذا فى كل مبتدع إلى يوم القيامة.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا يعنى الذين عبدوا العجل من قوم موسى ثم تابوا وأمنوا وقتلوا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللّه إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أى بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وان كان الذنوب عظيمة متكثرة ان مع اسمها وخبرها خبر للموصول.
وَلَمَّا سَكَتَ أى سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار هارون وندامة قومه وتوبتهم وفى هذا الكلام مبالغة من حيث انه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالامر به والمغرى عليه حق عبر عن سكونه بالسكوت أَخَذَ الْأَلْواحَ التي القاها وقد ذهب ستة اسباعها وَفِي نُسْخَتِها قيل أراد بها اللوح لانها نسخت من اللوح المحفوظ وقيل ان موسى لما القى الألواح تكسرت فنسخ منها نسخة اخرى وقيل معناه فيما نسخ فيها أى كتب فهو فعلة بمعنى المفعول كالخطبة وقال عطاء فيما بقي منها قال ابن عباس وعمرو بن دينار ولما القى موسى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردت إليه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 414(1/2470)
فى لوحين هُدىً من الضلالة وبيان للحق وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أى يخافون ربهم اللام فى لربهم زيدت للتاكيد كقوله تعالى ردف لكم وقال الكسائي دخلت اللام لضعف الفعل بالتأخير كقوله للرويا تعبرون وقال قطرب اللام بمعنى من يعنى من ربهم يرهبون وقيل أراد راهبون لربهم وقيل اللام للتعليل والتقدير يرهبون من معاصى لربهم.(1/2471)
وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أى من قومه حذف الجار وأوصل الفعل إليه فانتصيب بنزع الخافض سَبْعِينَ رَجُلًا ممن لم يعبدوا العجل لِمِيقاتِنا أى للوقت الذي وعدنا بإتيانهم روى انه تعالى امر موسى ان يأتيه فى سبعين من بنى إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال ان لمن قعد اجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين فلما دنوا من الجبل غشيهم غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجدا فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه ثم انكشف الغمام فاقبلوا عليه فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فاخذتهم الرجفة الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها أى ماتوا كذا قال السدى وقال ابن عباس ان السبعين الذين قالوا لن نؤمن لك حتى نرى اللّه جهرة فاخذتهم الصاعقة كانوا قبل السبعين الذين اخذتهم الرجفة وانما امر اللّه سبحانه موسى عليه السلام ان يختار من قومه سبعين رجلا فاختارهم وبرزهم ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا ان قالوا اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فانكر اللّه ذلك من دعائهم فاخذتهم الرجفة وقال وهب لم تكن تلك الرجفة موتا ولكن القوم لما رأوا تلك الهيئة اخذتهم الرعدة وقلقوا ورجفوا حتى كادت ان تبين منهم مفاصلهم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال السيوطي قال ابن عباس اخذتهم الرجفة أى الزلزلة الشديدة لانهم لم يزالوا قومهم حين عبدوا العجل فلما رأى موسى عليه السلام ذلك رحمهم وخاف عليهم الموت واشتد عليه فقدهم وكانوا له وزراء على الخير سامعين مطيعين فعند ذلك دعا وبكى وناشد ربه تبارك وتعالى قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ان يرى ما راى بسبب اخر أو عنى به انك قد قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم أو باغراقهم فى البحر وغيرها فترحمت عليهم بالانقاذ منها فان ترحمت(1/2472)
عليهم مرة فارحم عليهم مرة اخرى فانه
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 415
لا مبعد من عميم إحسانك قيل معناه لو شئت أهلكتهم قبل خروجهم ليعاين بنوا إسرائيل ذلك ولا يتهمونى أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من التجاسر على طلب الروية الذي فعله بعضهم أو عبادة العجل قال المبرد قوله أ تهلكنا بما فعل السفهاء منا استفهام استعطاف أى لا تهلكنا وقد علم موسى ان اللّه اعدل من ان يأخذ بجريمة أحد غيره إِنْ هِيَ يعنى طلبا لروية أو عبادة العجل إِلَّا فِتْنَتُكَ أى ابتلاءك واختيارك حين اسمعتهم كلامك فطمعوا رويتك أو إذا أوجدت فى العجل خوارا فزاغوا وخذلت أنفسهم وفيه اشارة إلى قوله تعالى انا فتنّا قومك من بعدك فقال موسى تلك الفتنة التي أخبرتني بها أضللت بها قوما فافتتنوا وهديت قوما عصمتهم حتى ثبتوا على دينك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ إضلاله بخذلانه حتى يتجاوز عن حده وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته فتقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا ناصرنا وحافظنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.(1/2473)
وَ اكْتُبْ لَنا أى أوجب لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أى توفيق الطاعة والنعمة والعافية وَفِي الْآخِرَةِ المغفرة والرحمة والجنة إِنَّا هُدْنا من هاد يهود إذا رجع يعنى تبنا إِلَيْكَ قال قتادة وابن جريح ومحمد بن كعب انما اخذتهم الرجفة لانهم لم يزابلوا قومهم حين عبدوا العجل ولم يأمروهم بالمعروف ولم ينهوهم عن المنكر واللّه اعلم قالَ اللّه تعالى فى جواب دعاء موسى عَذابِي قرأ نافع بفتح الياء والباقون بإسكانها أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ من خلقى تعذيبه وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ عمت كُلَّ شَيْ ءٍ فى الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره وانما انتفت فى الاخرة عن الكفار لانهم أبوا ان يرحمهم اللّه تعالى وجعلوا له شركاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبى قيل له ومن أبى قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى رواه البخاري قال عطية العوفى وسعت كل شىء ولكن لا يجب الا للذين يتقون وذلك لان الكافرين يرزقون ويدفع عنهم بالمؤمنين لسعة رحمة اللّه بالمؤمنين فيعيشون فيها فإذا صاروا إلى الاخرة وجبت للمؤمنين خاصة كالمستضئ بنا وغيره إذا ذهب صاحب السراج بسراجه فَسَأَكْتُبُها أى ساجعلها واجبا فى الاخرة منكم يا بنى إسرائيل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصها بالذكر لكونها أشق على النفوس وَالَّذِينَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 416
هُمْ بِآياتِنا
اى بجميع كتبنا يُؤْمِنُونَ لا يكفرون بشئ منها ولما كان شريعة موسى عليه السّلام فى علم اللّه تعالى منسوخة نبه اللّه تعالى على ذلك وحثهم على اتباع خاتم النبيين وقال.(1/2474)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ مبتدأ خبره يأمرهم أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل سماه رسولا بالاضافة إلى اللّه تعالى ونبيا بالاضافة إلى العباد الْأُمِّيَّ يعنى محمدا صلى اللّه عليه واله وسلم منسوب إلى الام يعنى هو على ما ولدته امه لم يكتب ولم يقرأ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم انا أمة امية لا نكتب ولا نحسب الحديث متفق عليه عن ابن عمر وصفه اللّه به تنبيها على ان كمال علمه مع حاله أحد معجزاته وقيل منسوب إلى الامة لكثرة أمته عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم انا اكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وانا أول من يقرع باب الجنة رواه مسلم أصله أمتي فسقطت التاء فى النسبة كما فى المكي والمدني وقيل هو منسوب إلى أم القرى يعنى مكة وبهذا الكلام خرج من هذا الحكم من بنى إسرائيل الذين أدركوا النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ولم يؤمنوا وبقي فى الحكم من لم يدرك زمن ......(1/2475)
النبي صلى اللّه عليه واله وسلم لأنه ما تفرق الذين أوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءتهم البينة أخرج ابن حبان عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان لكل نبى يوم القيمة منبرا من نور وانى على أطولها وانورها فيجئى مناد ينادى اين النبي الأمي فيقول الأنبياء كلنا نبى أمي فالى أينا أرسل فيرجع الثانية فيقول اين النبي الأمي العربي فينزل محمد صلى اللّه عليه واله وسلم حتى يأتي باب الجنة فيقرعه فيقال من فيقول محمد واحمد فيقول أوقد أرسل إليه فيقول نعم فيفتح له فيتجلى له الرب ولا يتجلى بشئ قبله فيخر للّه ساجد أو يحمده بمحامده لم يحمده بها أحد بعد فيقال ارفع راسك وتكلم واشفع تشفع هذا الحديث يدل على ان الأمي مشتق من الامة حتّى يصح قولهم كلنا نبى أمي أى ذى أمة وخص النبي صلى اللّه عليه واله وسلم بهذا الاسم لكثرة أمته الَّذِي يَجِدُونَهُ أى بنو إسرائيل مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسما وصفة عن انس ان غلاما يهوديا كان يخدم النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فمرض فاتاه النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فوجد أباه عند راسه يقرأ التورية فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يا يهودى أنشدك باللّه الذي انزل التورية على موسى
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 417(1/2476)
هل تجد فى التورية نعتى وصفتى ومخرجى قال لا قال الفتى بلى واللّه يا رسول اللّه انا نجد لك فى التورية نعتك وصفتك ومخرجك وانى اشهد ان لا اله الا اللّه وانك رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم اقيموا هذا من عند راسه وولوا أخاكم وعن على رضى اللّه عنه ان يهوديا كان له على رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم دنانير فتقاضى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فقال له يا يهودى ما عندى ما أعطيك فقال انى لا أفارقك يا محمد حتى تعطينى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم إذا اجلس معك فجلس معه فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الاخرة والغداة وكان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم يتهددونه ويتواعدونه ففطن رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم بالذي يصنعون به فقالوا يا رسول اللّه يهودى يحبسك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم منعنى ربى ان اظلم معاهدا وغيره فلما ترجل « 1 » النهار قال اليهودي اشهد ان لا اله الا اللّه واشهد انك رسول اللّه وشطر مالى فى سبيل اللّه اما واللّه ما فعلت بك الذي فعلت بك الا لا نظر إلى نعتك فى التورية محمد بن عبد اللّه مولده بمكة ومهاجره بطيبة وملكه بالشام ليس بفظ « 2 » ولا غليظ ولا سخاب « 3 » فى الأسواق ولا متزى بالفحش ولاقوال للخنا اشهد ان لا اله الا اللّه وانك رسول اللّه وهذا مالى فاحكم فيه بما أراك وكان اليهودي كثير المال روى الحديثين البيهقي فى دلائل النبوة وعن عطاء بن يسار قال لقيت عبد اللّه بن عمرو بن(1/2477)
العاص قال قلت أخبرني عن صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى التورية قال أجل واللّه انه لموصوف فى التورية ببعض صفته فى القرآن يا أيها النبي انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا الأميين أنت عبدى ورسولى سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن نقبضه حتى نقيم به الملة العوجاء بان يقولوا لا اله الا اللّه ونفتح بها أعينا عمياء واذانا صماء وقلوبا غلفاء رواه البخاري وعن عطاء بن يسار عن ابن سلام نحوه رواه الدارمي وعن كعب الأحبار يحكى عن التورية قال نجد مكتوبا محمد رسول اللّه عبدى المختار لافظ ولا غليظ ولا سخاب فى الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون اللّه
_________
(1) ترجل النهار أى ارتفع النهار شبيها بارتفاع الرجل من الصبى 12 نهايه
(2) فظ سيئى الخلق 12
(3) السخب الصياح 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 418(1/2478)
فى السراء والضراء يحمدون اللّه فى كل منزله ويكبرونه على كل شرف رعاة للشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها يتبارزون على اتصافهم ويتوضؤن على أطرافهم مناديهم ينادى فى جو السماء صفهم فى القتال وصفهم فى الصلاة سواء لهم بالليل دوى كدوى النحل رواه البغوي بسنده فى معالم التنزيل وذكره فى المصابيح ورواه الدارمي مع تغيير يسير وعن عبد اللّه ابن سلام رضى اللّه عنه قال مكتوب فى التورية صفة محمد وعيسى بن مريم يدفن معه رواه الترمذي قال أبو مودود وقد بقي فى البيت موضع قبر يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعنى ما يعرف حسنه شرعا وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما ينكره الشرع والعقل السليم والطبع المستقيم من الشرك وكفر المنعم وعصيانه وقطع الأرحام وَيُحِلُّ لَهُمُ أى لبنى إسرائيل الطَّيِّباتِ التي حرم اللّه عليهم فى التورية جزاء لبغيهم كالشحوم ولحوم الإبل والتي حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم والخمر والخنزير والميتة والربوا والرشوة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ قرأ ابن عامر اصارهم على الجمع والباقون على الافراد واصل الإصر الثقل الذي يأصر أى يحبس صاحبه عن الحركة لثقله قال ابن عباس والحسن والضحاك والسدى ومجاهد يعنى العهد الثقيل الذي أخذ على بنى إسرائيل للعمل بما فى التورية قال قتادة يعنى التشديد الذي كان عليهم فى الدين وَالْأَغْلالَ يعنى الأثقال الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فى شريعة موسى عليه السلام مثل قتل النفس فى التوبة وقطع الأعضاء الخاطية وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض وتعيين القصاص فى القتل العمد والخطأ وتحريم أخذ الدية وترك العمل فى السبت وعدم جواز الصلاة فى غير الكنائس وغير ذلك من الشدائد التي تشبه بالاغلال التي تجمع الأيدي إلى الأعناق فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أى بالنبي الأمي محمد صلى(1/2479)
اللّه عليه واله وسلم وَعَزَّرُوهُ أى عظموه بالتقوية وَنَصَرُوهُ لى على الأعداء وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أى مع نبوته يعنى القرآن سماه نورا لأنه باعجازه ظاهر امره مظهر غيره أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها ويجوز ان يكون معه متعلقا باتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون اشارة إلى اتباع الكتاب والسنة أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الابدية إلى هاهنا جواب لدعاء موسى عليه السلام قال البغوي قال نوف البكائى الحميرى اختار موسى قومه سبعين رجلا قال اللّه تعالى لموسى اجعل لكم الأرض مسجدا وطهورا تصلون حيث ادركتكم الصلاة
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 419(1/2480)
الا عند مرحاض « 1 » أو حمام أو قبر واجعل السكينة فى قلوبكم وأجعلكم تقرءون التورية عن ظهور قلوبكم يقرأها الرجل والمرأة والحر والعبد والصغير والكبير فقال ذلك موسى لقومه فقالوا لا نريد ان نصلى الا فى الكنائس ولا نستطيع ان تقرأ التورية عن ظهور قلوبنا ولا نريد ان نقرأها الا نظرا فقال اللّه تعالى فساكتبها للذين يتقون إلى قوله أولئك هم المفلحون فجعلها اللّه لهذه الامة فقال موسى عليه السلام يا رب اجعلنى نبيهم فقال نبيهم منهم قال رب اجعلنى منهم فقال انك لن تدركهم فقال موسى يا رب أتيتك بوفد بنى إسرائيل فجعلت وفادتنا لغيرنا فانزل اللّه تعالى ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فرضى موسى وقول نوف هذا يابى عنه سياق الآية ومنطوقه فان قوله تعالى الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التورية والإنجيل صريح فى ان الآية فى حق مومنى أهل الكتاب لا غير وكذا ما ذكر البغوي انه قال ابن عباس وقتادة وابن جريح انه لما نزلت ورحمتى وسعت كل شىء قال إبليس انا من ذلك الشيء فقال اللّه تعالى فساكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكوة والذين هم باياتنا يؤمنون فتمناها اليهود والنصارى وقالوا نحن نتقى ونوتى الزكوة ونومن فجعلها اللّه لهذه الامة حيث قال الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الآية فان مقتضى هذا القول ان الآية خطاب للنبى صلى اللّه عليه واله وسلم وسياق الآية يقتضى انها خطاب لموسى عليه السلام فى جواب دعائه وانما نزل على النبي صلى اللّه عليه واله وسلم حكاية واللّه اعلم.(1/2481)
قُلْ يا محمد يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ الاضافة للعهد الخارجي يعنى الرسول النبي الأمي الذي مر ذكره وأخذ العهد على اتباعه إِلَيْكُمْ خطاب للناس كافة ولذلك اردفه بقوله جَمِيعاً حال من إليكم فان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة بل إلى الجن والانس عامة وسائر الأنبياء إلى أقوامهم خاصة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لى الغنائم وجعلت لى الأرض مسجد أو طهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة رواه مسلم والترمذي عن أبى هريرة وروى الطبراني فى الكبير بسند صحيح عن السائب بن يزيد بلفظ فضلت على الأنبياء بخمس بعثت إلى الناس كافة وذخرت شفاعتى لامتى ونصرت بالرعب شهرا امامى وشهرا خلفى وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى وروى البيهقي بسند صحيح عن أبى امامة
_________
(1) مرحاض موضع بنيت للغائط والرحض الغسل وذلك موضع اغتسال 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 420(1/2482)
فضلت بأربع ولم يذكر ذخرت شفاعتى قلت الخطاب وإن كان للناس عموما لكن سياق القصة تقتضى ان المقصود بهذا الخطاب العام يهود المدينة وبعض النصارى فانهم داخلون فى عموم الخطاب ومحجوجون عليهم بقوله تعالى مكتوبا عندهم فى التورية والإنجيل وانكارهم ذلك عنادا لا يفيدهم عند اللّه تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صفة اللّه جعل بينهما ما هو متعلق بالمضاف لأنه كالمتقدم عليه أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الأول بدل من الصلة بيان لما قبله فان من ملك العالم كان هو الا له لا غيره وفى يُحيِي وَيُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالالوهية وإعرابه كاعراب ما سبق على تقدير كون الموصول مبتدأ وما بعده خبر الجملة الاسمية بيان لما أرسل به فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الذي أخذ منكم العهد فى الكتب السابقة على اتباعه الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ التي أنزلت عليه وعلى سائر المرسلين من كتب اللّه ووحيه وقرئ وكلمته على ارادة الجنس وقال مجاهد والسدى يعنى عيسى بن مريم عليه السلام كلمته القاها إلى مريم وانما عدل عن التكلم إلى الغيبة لاجراء هذه الصفات الداعية إلى الايمان به والاتباع له وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء اثر الامرين تنبيها على ان من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو بعد فى حيز الضلالة.(1/2483)
وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى يعنى بنى إسرائيل أُمَّةٌ جماعة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ أى محقين أو بكلمة الحق أى يرشدون ويدعون إلى الحق أو بسبب الحق الذي هم عليه وَبِهِ أى بالحق يَعْدِلُونَ بينهم فى الحكم قال الضحاك والكلبي والربيع هم قوم خلف الصين بأقصى الشرق على نهر يجرى الرمل يسمى نهر أوراق ليس لاحد منهم مال دون صاحبه يمطرون بالليل ويضحون بالنهار ويزرعون لا يصل إليهم منا أحد وهم على دين الحق وذكر ان جبرئيل عليه السلام ذهب بالنبي صلى اللّه عليه واله وسلم ليلة اسرى به إليهم فكلمهم جبرئيل هل تعرفون من تتكلمون قالوا لا قال هذا محمد النبي الأمي صلى اللّه عليه واله وسلم فامنوا به فقالوا يا رسول اللّه ان موسى اوصانا ان من أدرك منكم احمد صلى اللّه عليه واله وسلم فليقرأ عليه منى السلام فرد النبي صلى اللّه عليه واله وسلم على موسى عليه السلام ثم اقرأ عشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم بالصلوة والزكوة وأمرهم ان يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فامرهم ان يجمعوا ويتركوا السبت وقيل هم الذين اسلموا من
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 421
اليهود فى زمن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال البغوي والاول أصح قال والظاهر ان الأول قول غريب ولم يكن بمكة ليلة الاسراء الجمعة وليس فى عشر سور مما نزلت بمكة احكام الإسلام كلها واللّه اعلم والأظهر عندى ان المراد المؤمنين الذين أمنوا بموسى من أهل زمانه والذين أدركوا النبي صلى اللّه عليه واله وسلم من اليهود فامنوا به كعبد اللّه بن سلام ونظرائه.(1/2484)
وَ قَطَّعْناهُمُ أى فرقنا بنى إسرائيل اثْنَتَيْ عَشْرَةَ تميزه محذوف يدل عليه قطعنا يعنى اثنتي عشرة قطعة وهو مفعول ثان لقطع فانه متضمن لمعنى صير أو حال أَسْباطاً بدل لا تمييز فان تمييز ما فوق العشرة لا يكون جمعا والسبط ولد الولد وكانوا اثنتي عشرة قبيلة اولا واثنى عشر ابن لاسرائيل يعنى يعقوب عليه السلام أُمَماً صفة لاسباط أو بدل بعد بدل قال الزجاج المعنى وقطعناهم اثنتي عشرة فرقة امما وانما قال أسباطا امما بالجمع وما فوق العشرة لا يفسر بالجمع فلا يقال اثنا عشر رجالا لان الأسباط فى الحقيقة نعت للمفسر المحذوف وهو الفرقة أى قطعناهم اثنتا عشرة فرقة أسباطا امما يعنى كل فرقة أسباط وقيل فيه تقديم وتأخير تقديرها وقطعناهم أسباطا امما اثنتي عشرة وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ فى التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ أى فضرب فانبجست حذفه للايماء على انّ موسى لم يتوقف فى الامتثال وعلى ان ضربه لم يكن مؤثرا يتوقف عليه الانبجاس فى ذاته ومعناه انفجرت وقال أبو عمرو ابن العلا عرقت وهو الانبجاس ثم ثم انفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أى كل سبط أبناء ابن ليعقوب عليه السلام مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ فى التيه ليقيهم حر الشمس وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا أى وقلنا لهم كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بضم التاء المثناة الفوقانية وفتح الفاء على التأنيث والبناء للمفعول مسندا إلى ما بعده وهو مرفوع والباقون بفتح النون وكسر الفاء على(1/2485)
التكلم والبناء للفاعل وما بعده منصوب على المفعولية.
خَطِيئاتِكُمْ قرأ ابن عامر على وزن الفعيلة بالهمزة على التوحيد وأبو عمر وخطاياكم على وزن قضاياكم على الجمع والباقون خطيئاتكم على الجمع على وزن فعيلاتكم بالهمز سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 422
وعد بالمغفرة والزيادة عليه بالاثابة وانما أخرج الثاني مخرج الاستيناف للدلالة على انها تفضل محض ليس فى مقابلة ما أمروا به.
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسير هذه الآيات فى سورة البقرة غير ان قوله تعالى فكلوا فى البقرة بالفاء أفاد تسبيب سكناهم للاكل منها ولم يتعرض له هاهنا اكتفاء بذكره ثمه أو بدلالة الحال عليه كذا قال البيضاوي قلت ذكر فى البقرة ادخلوا هذه القرية فكلوا ولا شك ان الاكل بعد الدخول ولذلك أورد هنا فاء التعقيب وذكر هاهنا اسكنوا هذه القرية والسكنى يجامع الاكل ولا يستعقبه فلذلك أورد الواو للجمع ولا اثر لتقديم قولوا على وادخلوا فى المعنى.(1/2486)
وَ سْئَلْهُمْ أى سل يا محمد اليهود للتقرير والتوبيخ على تقديم كفرهم وعصيانهم والاعلام بما هو من علومهم التي لم يكن أهل مكة يعلمها حتّى يكون لك معجزة وحجة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ أى عن خبر أهلها وما وقع بهم الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ أى قريبة الْبَحْرِ قال ابن عباس هى قرية يقال لها ايلة بين مدين والطور على شاطى البحر وقال الأزهري طبرية الشام إِذْ يَعْدُونَ الضمير راجع إلى المضاف المحذوف يعنى أهل القرية كانوا يتجاوزون حد الإباحة بصيد السمك فِي السَّبْتِ وقد نهوا عنه إذ ظرف متعلق بكانت أو حاضرة أو للمضاف المحذوف أى خبر أهل القرية وقت عدوانهم أو بدل اشتمال من أهل القرية إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل يَوْمَ سَبْتِهِمْ أى يوم تعظيمهم امر السبت مصدر من سبت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة وقيل اسم لليوم والاضافة لاختصاصهم باحكام فيها ويؤيد الأول قوله تعالى ويوم لا يسبتون شُرَّعاً حال من الحيتان أى ظاهرة على الماء متكثرة جمع شارع علينا إذا اشرف ودنا وقال الضحاك متتابعا وفى القصة انها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أى لا يعظمون السبت متعلق بقوله لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ أى مثل إتيانهم يوم السبت نَبْلُوهُمْ حال من الضمير المنصوب فى لا تأتيهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بيعدوا والمعنى مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم قيل وسوس إليهم الشيطان ان اللّه لم ينهيكم عن الاصطياد وانما نهاكم عن الاكل فاصطادوا وقيل وسوس إليهم انكم انما نهيتم عن الاخذ فاتخذوا حياضا على شط البحر يسوقون الحيتان إليها يوم السبت ثم ياخذونها
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 423(1/2487)
يوم الأحد ففعلوا ذلك زمانا ثم جرؤا على السبت وقالوا ما نرى السبت الا قد أحل لنا فاخذوا وأكلوا وباعوا فصار أهل القرية أثلاثا وكانوا نحوا من سبعين الفا ثلث كانوا يعدون فى السبت وثلث كانوا ينهونهم عن الاعتداء وثلث لم يفعلوا ولم ينهوا وهم الذين حكى عنهم اللّه سبحانه بقوله.
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أى الفرقة الساكتة للفرقة الواعظة الناهية عن المنكر لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ فى الدنيا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فى الاخرة قالُوا الناهون فى جوابهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ قرأ الجمهور معذرة بالرفع على انه خبر مبتدأ محذوف أى موعظتنا معذرة أى إبداء لعذرنا إلى اللّه تعالى حتى لا نكون مفرطين فى النهى عن المنكر وقرأ حفص بالنصب على المصدرية أو العلية أى اعتذرنا معذرة اوعظناهم معذرة وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فان الياس لا يحصل الا بعد الهلاك.(1/2488)
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أى ترك الفرقة العاصية ما ذكّرهم الصلحاء الواعظون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ يعنى الفرقة الواعظة الصالحة وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعنى الفرقة العاصية بِعَذابٍ بَئِيسٍ أى شديد قرأ الجمهور بفتح الباء وكسر الهمزة بعدها ياء ساكنة على وزن فعيل من بؤس يبئس بأسا إذا اشتد وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر بئس على وزن فعل وكان فى الأصل بئس مفتوح الفاء مكسور العين وزن حذر فخفف عينه بنقل حركتها إلى ما قبلها فصار بئس بسكون الهمزة أو هو فعل ذم وصف به فجعل اسما الا ان ابن عامر يهمز ونافع وأبو جعفر لا يهمزان بل يقلبان الهمزة ياء ويقران بيس وقرأ أبو بكر عن عاصم بخلاف عنه بفتح الباء وسكون الياء وفتح الهمزة على وزن فيعل مثل صيقل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ قال ابن عباس رضى اللّه عنه اسمع اللّه يقول أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئس فلا أدرى ما فعل الفرقة الساكتة قال عكرمة قلت له جعلنى اللّه فداك الا تريهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا لم تعظون قوما اللّه مهلكهم وان لم يقل اللّه انجيتهم لم يقل أهلكتهم فاعجبه قولى فرضى وامر لى ببردين فكسانيها وقال نجت الفرقة الساكتة كذا روى الحاكم وقال يمان بن رباب نجت الطائفتان الذين قالوا لم تعظون قوما اللّه مهلكهم والذين قالوا معذرة إلى ربكم وأهلك اللّه الذين أخذوا لحيتان وهذا قول الحسن ومجاهد وقال ابن زيد نجت الناهية وهلكت الفرقتان وهذه أشد اية فى ترك النهى عن المنكر.
فَلَمَّا عَتَوْا أى تكبر الفرقة الخاطئة عَنْ ما نُهُوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 424(1/2489)
اى عن ترك ما نهوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أى مبعدين امر تكوين وتسخير والظاهر يقتضى ان اللّه تعالى عذبهم أو لا بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم ويجوز ان يكون الآية الثانية تقريرا وتفصيلا للاولى وقيل المراد بقوله تعالى وإذ قالت أمة منهم لم تعظون ان الفرقة الصالحة الواعظة قالت بعضهم لبعضهم لم تعظون مبالغة فى ان الوعظ لا ينفع فيهم تحسرا فاجابوا فيما بينهم وقالوا معذرة إلى ربكم أو قال من ارعوى عن الوعظ منهم لمن لم يرعوا منهم وقيل معنى الآية قالت أمة منهم يعنى الهالكة للفرقة الصالحة الواعظة لم تعظون قوما اللّه مهلكهم على زعمكم قالوا ذلك تهكما واستهزاء بهم فقالوا أى الصالحون معذرة إلى ربكم لكن هذا المعنى يابى عنه ضمير الغائب فى قولهم لعلهم يتقون بل كان المناسب على هذا ان يقولوا لعلكم تتقون روى ان الناهين لما ايسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب ولعنهم داود عليه السلام وأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا ان لهم لشانا فدخلوا عليهم فاذاهم قردة فلم يعرفوا انسبائهم ولكن القرود تعرفهم فجعلت القرود تأتي انسبائهم وتشمهم فتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم فيقولون الم ننهيكم فتقول القردة برأسها نعم فمكثوا ثلثة ايام ينظر بعضهم إلى بعض وينظر إليهم الناس ثم ماتوا.(1/2490)
وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ تفعل من الاذن ومعناه العزم المصمم الذي لا يتخلف لان العازم على الشيء يوذن نفسه بفعله ولذلك اجرى مجرى فعل القسم كعلم اللّه وشهد اللّه ولذلك أجيب بجوابه وقال ابن عباس معنى تأذن ربك قال ربك وقال مجاهد امر ربك وقال عطاء حكم ربك وعلى الأقوال غير الأول لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ جواب قسم محذوف أى واللّه ليسلطن اللّه تعالى على اليهود إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ بالقتل والضرب والسبي وأخذ الجزية فبعث اللّه عليهم سليمان وبعده بخت نصر فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نسائهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم فكانوا يؤدونها إلى المجوس حتّى بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه واله وسلم فقتل بنى قريظة وسبى نسائهم وذراريهم وأجلا بنى نضير وبنى قينقاع وأجلا عمر عن خيبر وفدك وامر اللّه سبحانه بقتالهم إلى يوم القيامة حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه ولذا عاقبهم فى الدنيا وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وأمن.
وَ
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 425
قَطَّعْناهُمْ(1/2491)
فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا فشتت أمرهم حتى لا يكون لهم شوكة قط ولا يجتمع كلمتهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه واله وسلم كذا قال ابن عباس ومجاهد قلت والظاهر ان المراد الذين على دين موسى صالحين قبل نسخه بقرينة قوله فخلف من بعدهم خلف وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره ومنهم ناس دون ذلك أى منحطون عن الصلاح وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه واله وسلم أو كانوا فساقا قبل نسخ دين موسى أو كفارا لعيسى وداود وسليمان وَبَلَوْناهُمْ أى اختبرناهم بِالْحَسَناتِ أى النعم وَالسَّيِّئاتِ أى النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أى لكى ينتبهوا فيرجعوا عما كانوا عليه من الكفر والفسق بشكر المنعم عند النعمة وبالتوبة عند حلول النقمة.(1/2492)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أى جاء بعد المذكورين الذين وصفناهم خَلْفٌ القرن الذي يجئ بعد قرن كذا فى القاموس وقال أبو حاتم الخلف بسكون اللام الأولاد الواحد والجمع سواء والخلف بفتح اللام البدل سواء كان ولدا وغريبا وقال ابن الاعرابى الخلف بالفتح الصالح وبالسكون الطالح وقال النضر بن شميل الخلف بتحريك اللام وإسكانها فى القرن السوء واما فى القرن الصالح فتحريك اللام لا غير وقال محمد بن جرير اكثر ما جاء فى المدح بفتح اللام وفى الذم بتسكينها وقد يحرك فى الذم ويسكن فى المدح قال البيضاوي هو مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع وقيل جمع والمراد به الذين كانوا فى عصر النبي صلى الله عليه واله وسلم وَرِثُوا الْكِتابَ أى انتقل إليهم الكتاب يعنى التورية من ابائهم يقرؤنها ويطلعون على ما فيها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى يعنى حطام هذا العالم الأدنى يعنى الدنيا وهو من الدنو أو الدناءة والعرض المتاع وكل شىء سوى النقدين أو ما كان من مال قل أو كثر وهو المراد هاهنا وقيل العرض ما لا يكون له ثبات ومنه استعار المتكلمون العرض لما لم يكن له ثبات الا بالجوهر كاللون والطعم ولذا قيل الدنيا عرض حاضر يعنى لاثبات لها والمراد به ما كان علماء اليهود يأخذون من جهالهم فياكلون ولذلك كتموا نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم وحرّفوا كلام اللّه تعالى خوفا من زوال ماكلتهم وما كانوا يأخذون من الرشى فى الحكم والجملة حال من الضمير المرفوع فى ورثوا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور أو إلى الضمير العائد إلى مصدر يأخذون يعنى بتمنون على اللّه المغفرة بلا توبة مع الإصرار على الذنب وهذا امر شنيع
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 426(1/2493)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه رواه احمد والترمذي وابن ماجة والحاكم والبغوي بسند صحيح عن شداد بن أوس وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير فى يقولون يعنى يرجون المغفرة مصرين على الذنب عامدين إلى مثله غير تائبين قال السدى كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا الا ارتشى فى الحكم فيقال له مالك ترتشى فيقول سيغفر لى فيطعن فيه الآخرون فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن يطعن عليه يرتشى أيضا فيقول اللّه تعالى وان يأتهم يعنى الآخرين منهم عرض مثله يأخذوه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أى أخذ عليهم العهد فى التورية أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وهذا غير الحق لأنه ليس فى التورية ميعاد المغفرة مع الإصرار وَدَرَسُوا ما فِيهِ عطف على الم يوخذ من حيث المعنى فانه تقريرا وعلى ورثوا ودرس الكتاب قراءته وتدبره مرة بعد اخرى يعنى يعلمون ما يعملون وهم ذاكرون انه معصية وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ اللّه تعالى ويؤمنون بالنبي صلى اللّه عليه واله وسلم مما يأخذون من حطام الدنيا أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف على محذوف تقديره أ يختارون الشر ويتركون الخير فلا يعقلون يعنى فليس لهم عقل فان مقتضى العقل اختيار الخير على الشر بل اختيار أخير الخيرين وهم يستبدلون الأدنى المؤدى إلى العذاب بالنعيم المخلد قرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على الخطاب والباقون بالياء على الغيبة.(1/2494)
وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأ أبو بكر مخففا من الافعال والباقون بالتشديد من التفعيل وقرأ أبى بن كعب والذين تمسكوا بِالْكِتابِ على صيغة الماضي لما عطف عليه وَأَقامُوا الصَّلاةَ قال مجاهدهم المؤمنون من أهل الكتب عبد اللّه بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه ماكلة بل عملوا بما فيه حتّى أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه واله وسلم وقال عطاءهم أمة محمد صلى اللّه عليه واله وسلم والذين يمسكون عطف على الذين يتقون وقوله أ فلا يعقلون اعتراض أو مبتدأ خبره إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير منهم أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على ان الإصلاح كالمانع من التضييع.
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ متعلق باذكر واصل النتق الجذب والمعنى قلعناه ورفعناه فَوْقَهُمْ أى فوق بنى إسرائيل حين أبوا ان يقبلوا احكام التورية لثقلها فرفع اللّه عليهم الجبل كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة وهى كل ما اظلك وَظَنُّوا أى أيقنوا
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 427
أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ وانما اطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وقيل لهم ان قبلتم ما فيها والا ليقعن عليكم خُذُوا بإضمار القول أى وقلنا خذوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بجد وعزم على تحمل مشاقه حال من فاعل خذوا وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل ولا تتركوه كالمنسى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبايح الأعمال ورذايل الأخلاق.(1/2495)
وَ اذكر إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ فيه اختصار تقديره من آدم وبنى آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بنى آدم بدل البعض والمعنى إذا خرج ربك من ظهور آدم بنيه ذُرِّيَّتَهُمْ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ذرياتهم على صيغة الجمع والباقون على الافراد وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أى اشهد بعضهم على بعض وقال لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم لما خلق اللّه آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عينى كل انسان منهم وبيصا « 1 » من نور ثم عرضهم على آدم فقال أى رب من هؤلاء قال ذريتك فراى منهم رجلا فاعجبه وبيص عينيه فقال أى رب من هذا قال داود قال رب كم جعلت عمره قال ستين سنة قال رب زده من عمرى أربعين سنة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فلما انقضى عمر آدم الا أربعين جاءه ملك الموت فقال آدم الم يبق من عمرى أربعين سنة قال أو لم تعطها ابنك داود فجحد آدم فجحدت ذريته ونسى آدم فاكل من الشجرة ونسيت ذريته وخطأ آدم فخطأت ذريته ورواه الترمذي عن أبى الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال خلق اللّه آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى فاخرج ذريته بيضاء كانهم الذر وضرب كتفه اليسرى فاخرج ذريته سوداء كانهم الحمم قال للذى فى يمينه إلى الجنة ولا أبالي وقال للذى فى كتفه اليسرى إلى النار ولا أبالي رواه احمد كذا ذكر مقاتل وغيره من أهل التفسير فذكروا نحوه وفى آخره ثم أعادهم جميعا فى صلبه فاهل القبور محبوسون حتى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلاب الرجال وأرحام النساء قال اللّه تعالى فيمن نقض العهد الأول وما وجدنا لاكثرهم من عهد وعن مسلم بن يسار قال سئل عمر بن الخطاب عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بنى آدم الآية قال عمر رضى اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه واله و(1/2496)
سلم يسأل منها فقال ان اللّه خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره
_________
(1) وبيص يعنى البريق 12
التفسير المظهري ج 3 ، ص : 428
فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل ففيم العمل يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ان اللّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتّى يموت على عمل من اعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من اعمال أهل النار فيدخله به النار رواه مالك وأبو داود والترمذي واحمد فى مسنده والبخاري فى التاريخ وابن حبان والحاكم والبيهقي وقال الترمذي حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر قال البغوي قد ذكر بعضهم فى هذا الاسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلا وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه واله وسلم قال أخذ اللّه الميثاق من ظهر آدم بنعمان يعنى عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال الست بربكم قالوا بلى شهدنا ان تقولوا يوم القيامة انا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا انما أشرك ابائنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أ فتهلكنا بما فعل المبطلون رواه احمد والنسائي والحاكم وصححه واخرج ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فى هذه الآية أخذ من ظهره كما يوخذ بالمشط من الرأس فقال لهم الست بربكم قالوا بلى قالت الملائكة شهدنا قال البغوي روى عن ابن عباس أيضا ان اللّه أخرجهم وأخذ الميثاق بدهناء من ارض الهند وهو الموضع الذي هبط آدم عليه السلام وقال الكلبي بين مكة والطائف وقال السدى خلق اللّه آدم ولم يهبط من السماء ثم مسح ظهره فاخرج ذريته وعن أبى بن كعب جمعهم فجعلهم أزواجا يعنى أصنافا(1/2497)