ما وسعه الا اتباعى إلخ - اقوال السلف والخلف وقول الصوفية في قوله تعالى ان 250 يأتيهم اللّه في ظلل من الغمام - حديث يجمع اللّه الخلق فينزل أهل كل سماء إلى قوله ثم 250 ينزل ربنا في ظلل من الغمام إلخ حديث هذا (يعنى رجلا من فقراء المسلمين ان خطب 253 لا ينكح) خير من ملا الأرض مثل هذا (يعنى الذي قيل فيه انه من اشرف الناس ان خطب ان ينكح) حديث وقفت على باب الجنة فرايت اكثر أهلها للمساكين - 253 حديث قال أول من سيّب الصوائب وعبد الأصنام عمرو بن عامر 253 حديث رايت عمرو بن عامر يجر قصبه في النار - 253 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة إلخ - 254 ذكر عدد الأنبياء ... 124 والرسل 315 والمذكور في القرآن 26 254 مسئلة الجهاد فرض على الكفاية - 257 حديث أ حيّ والداك قال نعم قال عليه السلام ففيهما جاهد إلخ 257 فصل في فضائل الجهاد - 257 مسئلة الجهاد أفضل من الصلاة والصوم النافلة 258 والذكر أفضل من الجهاد - والذكر هو الحضور الدائمى المعبر بالجهاد الأكبر - قصة بعث عبد اللّه بن جحش - 259 مسئلة حرمة القتال في الأشهر حرام وما ورد فيه 261 ما ورد في خروج النبي صلّى اللّه عليه وسلم عام الفتح إلى مكة والى 262 حنين ومحاصرة الطائف ورجوعه بالمدينة ومدة الغيبة مسئلة الارتداد إذا تعقبه التوبة والإسلام هل يحبط 263 ما عمل قبل الردة - مسئلة العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة - 264 مسئلة تحريم الخمر وكل شراب أسكر كثيرة وما ورد فيه - 266 مسئلة نجاسة الخمر وحد شاربه - 266 مسئلة حرمة الميسر وما ورد في النهى عن النرد والشطرنج وغيرهما 269
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 457(1/830)
ما ورد في اثم الخمر - 270 مسئلة لا يجوز الانتفاع بالخمر في الاختيار وفي الاضطرار 270 يجوز وهل يجوز التداوى وما ورد فيه - مسئلة هل يجوز تخليل الخمر - 271 قوله صلّى اللّه عليه وسلم كيّة لمن ترك دينارا - 272 ما ورد في قوله صلّى اللّه عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن 273 ظهر غنى - ما ورد في ان الأفضل من الصدقة جهد المقل - 273 وجه التوفيق بينهما باختلاف الاشخاص - 273 حديث ارتحلت الدنيا مدبرة والاخرة مقبلة ولكل واحد منهما بنون إلخ 275 حديث مالى وللدنيا ما انا والدنيا
الا كراكب إلخ - 275 حديث ان إمامكم عقبة كؤدا لا يجوّزها المثقلون إلخ 275 مسئلة لا يجوز للمؤمن نكاح مشركة أو تزويج بالعكس - 276 حديث تنكح المرأة لاربع فاظفر بذات الدين ألح - 276 حديث خير متاع الدنيا المرأة الصالحة - 276 حديث اتقوا النساء إلخ - 276 مسئلة جواز مخالطة الحائض وما ورد فيه - 277 مسئلة حرمة الوطي في الحيض وهل يجوز بعد الانقطاع 278 قبل الغسل وهل يجب الكفارة على من اتى حائضا - مسئلة هل يجوز من الحائض استمتاع ما تحت الإزار 278 دون الجماع - مسئلة الحيض تمنع جواز الصلاة والصوم ووجوب الصلاة 279 دون الصوم ودخول المسجد والطواف ومس المصحف والقراءة - مسئلة اباحة الجماع منحصر في القبل بشرائطها ... 280(1/831)
و الدبر حرام من الرجل والمرأة مطلقا - ما ورد في حرمة الدبر وما قيل في الرخصة وأجيب عنه - 281 مسئلة ينبغى ان يقصد بالنكاح ما يرجع إلى الدين 285 حديث في بضع أحدكم صدقة إلخ - 285 حديث إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلاثة إلخ 285 حديث لا يموت لاحد من المسلمين ثلاثة من الولد إلخ - 285 حديث من كان له فرطان إلخ - 285 حديث من يقول عند الجماع - 285 حديث عجبا لامر المؤمن ان أصابته سراء شكر - 286 مسئلة الإكثار بالحلف مكروه - 286 حديث الحلف حنث أو ندم - 286 مسئلة ما ورد فيمن حلف بيمين فراى غيرها خيرا 286 منها فليكفر عن يمنه وليفعل الذي هو خير - لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ - 287 مسئلة إذا كان اليمين من غير قصد نحو لا واللّه و287 بلى واللّه فلا اثم عليه وهل ينعقد ويجب عليه الكفارة - حديث ثلاث جد هن جدو هزلهن جد - وفي رواية اربع - 287 مسئلة من حلف على شيء يرى انه صادق فيه ثم تبين 288 له خلاف ذلك فلا اثم عليه ولا كفارة وقيل فيه كفارة - حديث الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان 290 إلى رمضان كفارات بيان اقسام الايمان وأحكامها 290 ما ورد في النهى عن الحلف بغير اللّه - 290 ما ورد في يمين الغموس - 291 لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ 291 مسئلة من حلف على اكثر من اربعة أشهر يكون موليا 292 وفي اقل منها لا - وهل يكون في اربعة أشهر - وهل يجوز الفيء بعد اربعة أشهر 292 مسئلة هل يجب العمل على القراءة الشاذّة وهل يجوز 292 تخصيص الكتاب بقراءة ابن مسعود - مسئلة إذا مضى اربعة أشهر هل يقع الطلاق - أو يجبر 293 الزوج على الطلاق أو ينوب عنه الحاكم في التسريح بالإحسان - مسئلة هل يكون موليا باليمين بالطلاق ونحوه - 295 مسئلة من ترك وطيها اربعة أشهر بغير يمين هل يكون موليا 295 مسئلة مدة إيلاء الرقيق - 295 مسئلة هل يجوز القيء بالقول عند تعذر الوطي - 295 وَالْمُطَلَّقاتُ(1/832)
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ - 295 حديث طلاق الامة طلقتان وعدتها حيضتان - 295 مسئلة هل المراد بالقروء الحيض أو الطهر - 295 مسئلة قول المرأة مقبول فيما لا يعرف الا بخبرها - 297
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 458
مسئلة الرجعة في عدة الرجعى جائز وهل يجوز الوطي في العدة 298 مسئلة هل يشترط للرجعة القول أو تحصل الرجعة بالوطى 298 والدواعي أيضا - وهل يشترط الاشهاد للرجعة - 298 ما ورد في حق المرأة على الزوج - 299 ما ورد في حق الزوج على المرأة - 299 الطّلاق مرّتن - يعنى الرجعى - 300 مسئلة جمع الطلقتين بلفظ أو بألفاظ في طهر حرام 300 اولا ويقع الطلقتان وكذا الثلاث - مسئلة تفريق الطلقات على أطهار ثلاث جائز - 303 حديث ان إبليس يضع عرشه على الماء - 303 حديث ابغض الحلال إلى اللّه الطلاق - 303 مسئلة الطلاق في الحيض يقع لكنه حرام يجب الرجعة 304 بعده فان شاء ان يطلقها على وجه السنة متى يفعل - مسئلة عدد الطلاق بالنساء أو بالرجال - 304 حديث أو تسريح بإحسان حين سئل اين الطلقة الثالثة - 306 مسئلة طلب الطلاق معصية إذا كان النشوز من جانبها - 307 حديث أيما امرأة إلخ - 307 حديث المختلعات هن المنافقات 307 وان كان النشوز من جانبه فلا يحل له أخذ المال لكن 307 ينعقد الخلع - 307 مسئلة الخلع هل هو طلاق أو فسخ - 307 قصة امراة ثابت بن قيس في الخلع - 309 حديث جعل الخلع تطليقة - 310 مسئلة الخلع على اكثر من الصداق صحيح هل يكره أم لا - 310 فان طلّقها يعنى ثالثا فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح 311 زوجا غيره - مسئلة الوطي من الزوج الثاني شرط للحل - 312 حديث لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق 312 عسيلتك - مسئلة الوطي من الزوج الثاني يهدم الطلقات 313 الثلاث وهل يهدم ما دون الثلاث أيضا - مسئلة لو نكحت زوجا اخر واشترطت منه ان يطلقها 314 فطلقها بعد الوطي فهذا النكاح صحيح أم لا وان صح فهل يحل للزوج الأول أم لا - وان كان في عزمهما ذلك و(1/833)
لم يشترطا هل يصح النكاح اولا فان صح حلت للزوج الأول لكنه يكره لحديث كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم - حديث لعن اللّه المحلّل والمحلّل له - 314 مسئلة هل يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة من غير ولى 317 مسئلة لا يجوز إجبار الحرة البالغة الثنية وهل يجوز 319 إجبار البكر البالغة - مسئلة للاب إجبار البكر لصغيرة وهل له إجبار الثيب الصغيرة 321 مسئلة إرضاع الأولاد واجب على الام فان لم تقدر 322 ويقدر الأب على الاستيجار فعليه وان استاجر زوجته أو معتدته لترضع ولدها لم يجز وقيل يجوز وبعد العدة يجوز - مسئلة مدة الإرضاع ما هى - 322 مسئلة نفقة الابن الصغير على أبيه والكبير الزمن 323 والأنثى كذلك وقيل على الأبوين
- مسئلة قدر نفقة الزوجة على حسب وسع الزوج - 323 مسئلة التكليف بما لا يطاق جائز عقلا منتف شرعا - 323 مسئلة إذا لم يكن للصغير اب فعلى من يجب نفقته - 325 مسئلة تجب النفقة على الوارث الغنى لكل ذى رحم محرم فقير 325 عندنا إذا كان صغيرا - أو امرأة - أو زمنا بقدر إرثه والمعتبر اهلية الإرث - مسئلة لا يجب النفقة على الفقير ولا مع اختلاف 325 الدين الا للابوين وأجداده ان كانوا فقراء - ونفقة الأصول على الأولاد فقط على السوية - حديث أنت ومالك لابيك - 326 حديث ان أطيب ما أكل الرجل من كسب ولده إلخ - 326 حديث كل من مال يتيمك غير مسرف إلخ - 326 مسئلة لا يجوز الفصال قبل الحولين من غير 327 تراض بينهما - مسئلة يجوز الاسترضاع من غير الام بشرائط - 327
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 459(1/834)
مسئلة عدة المتوفى عنها زوجها اربعة أشهر وعشرة 328 وعدة الحوامل عن طلاق كانت أو وفاة وضع الحمل - حديث ان سبيعة الاسلمية ولدت بعد زوجها بليال 328 فاذن لها فنكحت - فصل يجب للاحداد في عدة الوفاة لا في الرجعى وهل 328 يجب في البائن - مسئلة لا يجوز للمطلقة في العدة الخروج من بيتها 329 وهل يجوز للمتوفى عنها بعذر - ما ورد في الإحداد - 329 مسئلة يجوز التعريض في العدة من الوفاة - 330 حديث ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لام سلمة وهى معتدة منزلته من اللّه 331 وفي العدة من الطلاق البائن هل يجوز التعريض أم لا وفي الرجعى لا يجوز 331 مسئلة لا يجب المهر في المفوضة المطلقة قبل المسيس و332 هل يجب المتعة وهى ثلاثة أثواب بحسب حاله وقيل غير ذلك - مسئلة يجب نصف المسمى للمطلقة قبل المسيس الا ان 333 يعفون النصف أو يعفو الزوج فيعطى الكل - مسئلة المعطى أفضل من المعطى له - 334 مسئلة الصلاة فريضة قطعيّة يكفر جاحدها وهل 334 يكفر تاركها بغير عذر ويقتل أو يفسق ويحبس حتى يتوب ما ورد من الوعيد في تاركها وفي فضلها - 334 مسئلة الصلاة الوسطى ما هى - 335 مسئلة اىّ صلوة يكون فيها مانع عن الإتيان لا بد فيه زيادة النعامة 336 حديث كنا نتكلم في الصلاة فنزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فامرنا بالسكوت 337 حديث اىّ الصلاة أفضل قال صلّى اللّه عليه وسلم طول القنوت - 337 حديث قنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شهرا - 337 مسئلة قنوت الفجر بدعة - 337 مسئلة تجوز صلوة الخوف رجالا وركبانا وهل يجوز حال 338 المسابقة وان صلوا ركبانا فهل يجوز بجماعة - مسئلة لا ينتقص عدد الركعات بالخوف - 338 مسئلة الوصيه للزوجات بالنفقة إلى الحول 339 كانت واجبة فنسخت - حديث كانت إحداكن ترمى بالبعرة إلى رأس الحول - 339 مسئلة تعقة العدة والسكنى واجب في الرجعى وهل 340 يجب في البائن كلاهما أو السكنى فقط وما ورد فيه - مسئلة هل يجب المتعة(1/835)
للمطلقة بعد المسيس أو لا بل يستحب 342 قصة أهل داورد ان الذين خرجوا حذر الموت حتى وقع الماعون - 343 حديث إذا سمعتم بالطاعون في ارض إلخ 343 حديث رب زد أمتي حين نزلت مثل الّذين ينفقون 344 أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة - فنزلت من ذا الّذى يقرض اللّه الآية - حديث قدسى ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى إلخ - 345 ما ورد في فضيلة القرض - 345 حديث ما من يوم يصبح فيه العباد الا ملكان ينزلان إلخ - 346 حديث مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما 346 جبّتان من حديد إلخ - حديث من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب إلخ 346 قصة بنى إسرائيل واشموئيل وملك طالوت والتابوت 346 وقتل داود جالوت - حديث ما أكل أحد خيرا من ان يأكل من عمل يديه إلخ 352 حديث أعطيت مزمارا من مزامير ال داود - 352 حديث ان اللّه يدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت إلخ 353 حديث لو لا رجال ركع إلخ - 353 تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ - 353 ما ورد في افضلية النبي صلّى اللّه عليه وسلم على الناس 354 أجمعين وبعض معجزاته وخصائصه - حديث ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم نوره إلخ 355 مسئلة الايمان بالقدر - 356 تأويل حديث لا تفضلوا بين أنبياء اللّه وحديث لا تخيرونى 356 على موسى وحديث لا أقول ان أحدا أفضل من يونس - مسئلة الحوادث كلها بيد اللّه ولا يجب على اللّه شيء - 356 قال عمر لمّا قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب 357 وقالوا لا نؤدى زكوة فقال أبو بكر إلخ - مسئلة العالم يحتاج إلى الصانع في الوجود والبقاء 358 أشد احتياجا من الظل إلى الأصل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 460
حديث ان اللّه لا ينام ولا ينبغى له ان ينام - 358 ذكر الكرسي وحديث ما السموات السبع والأرضون مع الكرسي إلخ 359 ما ورد في فضائل اية الكرسي - 361 لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ - و(1/836)
انما الجهاد لدفع الفساد دون الإكراه 362 مسئلة الايمان امر وهبى - 364 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة إلخ - 364 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ - قصة نمرود مع ابراهيم عليه السلام - 365 مسئلة يا ات أسكنها حمزة - 365 أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ - قصة ارميا 366 أو عزير حين راى خراب بيت المقدس أو دير هرقل - حديث ان اللّه حرم على الأرض أجساد الأنبياء - 369 وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى - 370 حديث نحن أحق بالشك من ابراهيم إلخ - 370 حديث ليس الخبر كالمعاينة إلخ - 371 ما قالت الصوفية في العروج والنزول - 371 حديث ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم - 374 حديث لا يدخل الجنة منان ولا عاق - 375 ما ورد في الرياء والسمعة - 376 حديث أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله إلخ - 377 حديث بقي كلها غير كتفها في شاة - بقي كتفها من الانفاق 377 مسئلة لا يجب الزكوة في مال الصبى عندنا 377 حديث لا يكسب عبد مال حرام فيتصدق منه إلخ 379 مسئلة تجب الزكوة في العروض والعقار إذا كانت للتجارة 379 وهل تجب كل سنة إذا لم يبع سنين - حديث ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا إلخ - 380 حديث لا يدخل هذا يعنى شيئا من فمعز الدولة الحرث بيت قوم 380 الا ادخله الذل - مسئلة يجب العشر ونصف العشر في النخيل والكرام وما يقتات 380 من الحبوب وهل يجب في الخضروات وغير ذلك مطلقا أو في ما يبقى في أيدي الناس خاصة - مسئلة لا يشترط في زكوة الزرع حولان الحول ولا العقل ولا البلوغ 382 ويشترط الإسلام وهل يشترط فيه النصاب وهى خمسة اوسق ونحو ذلك فيما لا يكال 382 مسئلة إذا ملك المسلم ارض خراج وزرع فيه هل يجب 383 عليه العشر اما بعد سقوط الخراج أو معه أو لا يجب عليه العشر فلا يجتمعان - مسئلة هل يجب في المعدن ربع العشر فيصرف مصرف الزكوة 384 أو الفيء أو يجب الخمس وهل يختص هذا الحكم بمعدن الذهب و(1/837)
الفضة أو في كل ما يذوب وينطبع أو أعم من ذلك - مسئلة قراءة ابن كثير بالتشديد برد التاء الساقطة في 386 ولا تيمّموا وغيره في احدى وثلاثين موضعا وتفصيلها - مسئلة إذا كان له مال جيد لا ينبغى له ان يعطى العفو 387 الردى وان كان المال كله رديا فلا بأس به وان كان مختلطا يعطى بحسابه - ما ورد في فضل الانفاق وذم الإمساك - 387 ما ورد في فضل العلماء - 388 ما ورد في افضلية الصدقة السر من العلانية - 389 وفيه حديث سبعة يظلّهم اللّه - 389 حديث ثلاثة يحبهم اللّه وثلاثة يبغضهم - 389 حديث صدقة السرّ تطفئ الذنب - 390 مسئلة اضاعة المال حرام - 391 مسئلة صدقة التطوع يجوز ان يعطى الذمي منها 391 واما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها الا في المسلمين مسئلة المشتغلين بالعلوم الظاهر والباطن والجهاد 392 والممتنعين عن السؤال أحق بالإنفاق كاصحاب الصفة كانوا اربع مائة رجل - ما ورد في النهى عن السؤال والالحاف ونصاب 392 حرمة السؤال - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ - الآية 393 حديث من احتبس فرسا في سبيل اللّه إلخ 394 الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ الّا كما 394 يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطن - حديث في قصة الاسراء فانطلق بي جبرئيل إلى رجال 394 كثير كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم إلخ وفي رواية بطونهم كالبيوت فيها الحيات -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 461(1/838)
1 ما ورد في أكل الربوا ومؤكله وكاتبه وشاهديه - 395 مسئلة تأبيد هذا العذاب مخصوص بالكفار - 395 مسئلة البيع ما هو - 396 مسئلة لا يصح بيع المجنون والصبى الذي لا يعقل 396 مسئلة بيع الصبى العاقل - 396 مسئلة البيع بالتعاطى - 396 مسئلة يشترط في المباشرة من ولاية شرعية - 396 مسئلة بيع الفضولي وشراؤه ما ورد فيه - 396 مسئلة البيع اربعة - البيع المطلق - والمعائضة والصرف والسلم وبيان أحكامها - مسئلة حرمة الربوا - 399 ما ورد في الأشياء الستة الربوية - 400 مسئلة حرمة الربوا معلول في البحث عن علته - وما سنح 401 لى ان اية الربوا ليست بمجمل وبيانه - مسئلة المكيلات والموزونات إذا بيع شيء 402 منها بجنسه يحرم التفاضل والنساء ولا جائز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا للاجل أو الجودة ولا عبرة بالجودة - مسئلة بيع الرطب بالتمر - والزبيب بالعنب 403 والحنطة الرطبة واليابسة والمقلية مسئلة بيع العددى المتقارب بمثله - 403 مسئلة بيع البر بالشعير - 404 مسئلة بيع البر بالحديد 404 مسئلة بيع الحيوان بالبرا وبالحديد - 404 مسئلة بيع الحيوان بالحيوان من جنس واحد أو جنسين وما ورد فيه - مسئلة الشروط في البيع وما اختلفوا فيه - 405 وما احتجوا به - البحث عن الشروط منها ما يبطل(1/839)
في نفسها ولا 407 يفسد به البيع ومنها ما لا يبطل ويجب الإتيان بها ولا يفسد البيع - ومنها ما يفسد به البيع وهو فى معنى الربوا - مسئلة استحلال الحرام كفر - 409 حديث ما أحد اكثر من الربوا الا كان عاقبة 409 امره إلى قلة - حديث ما نقصت صدقة من مال وما زاد اللّه 409 بعفو الا عزّا وما تواضع أحد للّه إلا رفعه - حديث الخلق عيال اللّه - 409 حديث في خطبته الا كل شيء من امر الجاهلية تحت 410 قدمى موضوع - حديث نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان 411 تشترى التمرة حتى تطعم وقال إذا ظهر الربوا فى قرية إلخ - حديث ما من قوم يظهر فيهم الربوا إلخ 411 مسئلة المربى يحبس حتى يتوب وان كان له 411 منيعة لا يقدر على حبسه يقاتله الامام وهو الحكم فى كل من اصرّ على ترك فريضة وارتكاب كبيرة - قال أبو بكر لو منعونى عقالا لا جاهدنهم - حديث مطل الغنى ظلم إلخ - 411 مسئلة مال المرتد بعد قتله أو موته - أو لحوقه 412 ما اكتسب في حال الردة فيء - وما اكتسب في الإسلام فهو لورثته المسلمين وقيل فيء - مسئلة يجب امهال المعسر - 412 حديث من يسر على معسر إلخ - 412 ما ورد في تأجيل الدين والإبراء عنه والتصدق به - 413 وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ هذا 413 اخر اية نزولا فعاش بعده النبي صلى اللّه عليه وسلم أحدا وعشرين يوما أو اكثر أو اقل ومات لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة - مسئلة السلم جائز - 414 مسئلة البيع بثمن مؤجل والسلم لا يجوز 414 ما لم يكن الاجل معلوما - مسئلة الاجل يلزم في الثمن في البيع وفي 414 المبيع في السلم وفي النكاح وغير ذلك ولا يلزم في القرض -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 462(1/840)
مسئلة السلم لا يجوز الا فيما ينضبط في 415 الذهن يذكر جنسه ونوعه وصفته وقدره ولا يجوز الا بذكر هذه الاربعة ومقدار الاجل - وهل يشترط معرفة قدر رأس المال وان يكون المبيع موجودا من وقت العقد إلى المحل ومكان التسليم هل هو متعين أو يشترط بعينه - فيجوز السلم في المكيلات - مسئلة يجوز السلم في المكيلات والموزونات 416 والمزروعات التي لا تتفاوت والمعدودات التي لا تتفاوت وهل يجوز في المعدودات المتفاوتة - مسئلة هل يجوز السلم في الحيوان - 416 مسئلة هل يجوز قرض الحيوان - 417 مسئلة يجوز النكاح والخلع والصلح على عبد 418 أو فرس غير معين وكذا كل ما كان فيه مبادلة مال بغير مال وما كان فيه مبادلة مال بمال كالبيع والاجارة والصلح عن اقرار يشترط فيه كمال الانضباط - مسئلة الشرع اعطى القرض حكم العارية و418 جعل دفع مثله كدفع عينه مسئلة ما يجوز قرضه وما لا يجوز - 419 مسئلة ان اهدى المستقرض إلى المقرض شيئا 419 أو حمله على دابته لا يحل ان كان بشرط - وهل يحل لعان كان بغير شرط ولم يكن بينهما عادة - ويحل ان كان بينهما عادة - مسئلة هل يجوز اقراض الخبز أو الخير - 419 مسئلة كتابة الدين مستحب - 420 مسئلة العدل على الكاتب واجب - 420 مسئلة الكاتب إذا طلب للكتابة هل يجب عليه 420 الكتابة أو يستحب - مسئلة الإقرار بلا بخس على المديون واجب 420 وإقراره حجة - مسئلة لا يجوز شهادة الصبى والمجنون والمعتوه 421 وهل يجوز شهادة العبد - مسئلة لا يجوز شهادة الكافر على مسلم و421 هل يجوز شهادة بعضهم على بعض مسئلة نصاب الشهادة في الزنى اربعة من الرجال 423 وفي غير ذلك رجلان أو رجل وامرأتان الا انه لا يجوز شهادة النساء في الحدود والقصاص وهل يجوز فى غير المال كالنكاح والطلاق ونحوهما مسئلة لا يشترط في رواية الحديث الحرية 424 والذكورة والعدد - حديث ان دماءكم وأموالكم واعراضكم حرام - 424 حديث حرمة ما لكم كحرمة دمكم - (1/841)
424 حديث من قتل دون ماله فهو شهيد ومن 424 قتل دون دمه إلخ - مسئلة لا يجوز الحكم بشاهد واحد مع يمين المدعى 424 فى غير الأموال وهل يجوز في الأموال - مسئلة يشترط لقبول الشهادة لفظة اشهد 426 مسئلة يجوز شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع 426 عليه الرجال وهل يكفى شهادة امرأة أو لا بد من اثنتين أو من اربع - مسئلة لا يجوز شهادة الفاسق - 427 مسئلة العدالة إتيان الواجبات والاجتناب عن 427 الكبائر وترك الإصرار على الصغائر - ما ورد في الكبائر - 427 ما ورد فيمن لا يقبل شهادتهم لاجل الفسق 427 أو التهمة بالعداوة الدنيوية أو بالولاد والازدواج أو نحو ذلك أو لكونه محدودا في قذف - مسئلة هل يقتصر الحاكم على
ظاهر صلاح 428 الشاهد أم يسئل عنه سرّا وعلانية - مسئلة في زماننا هذا يقبل شهادة الفاسق 428 إذا دلت القرائن على صدقه وغلب على الظن انه لا يكذب - مسئلة اختار المتأخرون تحليف الشهود 428 مكان التزكية -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 463(1/842)
حديث انكم في زمان من ترك منكم عشر ما أمر به 428 هلك ثم يأتى زمان إلخ - مسئلة الفاسق أهل للشهادة فان قبل القاضي 428 شهادته جاز لكنه يأثم إذا لم يبالغ في طلب الحق غاية وسعه - مسئلة هل يجب تحمل الشهادة إذا مادعوا - 429 مسئلة يجب أداء الشهادة بعد التحمل إذا ما دعوا - 429 حديث من كتم شهادة إلخ - 429 مسئلة إذا دعى الشاهد إلى مجلس القاضي يجب 429 عليه ان كان مجلس القاضي قريبا - 429 مسئلة لو كان الشاهد شيخا فاركبه الطالب 429 على دابته أو استأجر له حمارا هل تقبل شهادته - مسئلة لو وضع للشاهد طعاما ولم يشترط ذلك 429 حديث الراشي والمرتشي في النار - 430 مسئلة هل يجوز للشاهد ان يشهد برؤية 430 خطه من غير تذكر - مسئلة هل يجوز للقاضى ان يعمل بما وجد مكتوبا 430 فى ديوانه - حديث إذا رايت مثل الشمس فاشهد - 431 مسئلة الاستشهاد عند المبايعة مستحب - 431 حديث ابتاع النبي صلى اللّه عليه وسلم فرسا 431 من أعرابي الحديث وفيه جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين - مسئلة القاضي لو كان عالما بحق وسعه 431 الحكم على علمه - مسئلة السلطان أو غيره لو ابتاع من غيره 431 شيئا أو كان له حق على الغير وهو يعلم ذلك يقينا - ومن عليه الحق منكر جاز له عند اللّه ان يأخذ حقه جبرا - مسئلة ولو رفع الأمر إلى قاضى اخر لا يجوز له الحكم 432 بعلم السلطان أو القاضي المدعى - مسئلة لا يضر كاتب وشاهد أحدا من المتبايعين 432 ولا أحدهما كاتبا أو شاهدا - مسئلة الرهن مشروع لازم لا يجوز للراهن 432 استرداده ما بقي عليه درهم - مسئلة يجوز الرهن في الحضر ومع وجود 432 الكاتب أيضا - مسئلة لا يلزم الرهن بدون القبض ولا يجوز 432 رهن المشاع وقيل يلزم ويجوز - مسئلة لا يجوز للراهن الانتفاع بالمرهون الا 433 برضاء المرتهن - مسئلة لا يجوز للراهن شيء من التصرفات الشرعية 433 فى المرهون فان فعل يتوقف البيع والهبة ونحوهما على اجازة المرتهن أو الفك وينعقد العتق ونحوه و(1/843)
يجب عليه قيمته رهنا ان كان موسرا والا على العبد - مسئلة يجب على الراهن نفقة المرهون - 433 مسئلة زوائد المرهون ملك للراهن ويكون 433 مرهونا - مسئلة ما أنفق المرتهن على المرهون - 434 مسئلة إذا مات الراهن يباع المرهون في 434 بدل الرهن ولا يتعلق به حق سائر الغرماء - مسئلة ان هلك الرهن في يد المرتهن من غير 434 تعد هل يكون مضمونا بالدين أو بالقيمة أو باقلهما - أو لا يضمن الا بالتعدي - حديث لا ايمان لمن لا امانة له ولا دين لمن 436 لا عهد له - مسئلة كتمان الشهادة حرام - 436 مسئلة إذا كان المشهود له لا يعلم بشهادة الشاهد 436 يجب على الشاهد ان يعلّمه بانه شاهد - حديث خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم 436 حديث الا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتى 437 بشهادته قبل ان يسئل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 464(1/844)
مسئلة ان من الممكنات مجردات - 437 مسئلة المؤاخذة ثابتة على افعال القلوب والنقوس 437 ما ورد في رذائل النفس ومحامدها - 437 حديث من هم بسيئة فلم يعمل بها إلخ - 438 مسئلة الحساب حق - 438 مسئلة التعذيب على الذنوب صغائرها و438 كبائرها حق لكنه ليس بواجب يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء - فصل من الناس من يدخل الجنة بغير حساب 439 وما ورد فيه والتحقيق فيه بانهم الصوفية العلية والشهداء والمتشبثون بهم ومن يلحق بهم - مسئلة مدح ايمان الصحابة واهل 441 السنة والجماعة - حديث ان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين 441 وسبعين ملة إلخ مسئلة التكليف بالمحال غير واقع والقدرة 442 شرط أى القدرة الموهومة الموجودة قبل الفعل لا القدرة الحقيقية التي مع الفطر - حديث ان اللّه تجاوز عن أمتي ما وسوست 443 به صدورها - فائدة أرجو ان المؤمن إذا بذل جهده لدفع 443 رذائل النفس ان لا يؤاخذ عليها - حديث تركت فيكم الثقلين - 443 مسئلة لا بد من أخذ كتاب اللّه وأخذ أذيال 443 الفقراء عترة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسئلة تعاطى الذنوب وان كان خطأ يوجب 444 ضيق الصدر وغير القلب لكن اللّه تعالى وعد ان لا يؤاخذ على الخطأ والنسيان في الاخرة واما في الدنيا فالمؤاخذة لم ترتفع يجب قضاء الصلاة والصوم بالنسيان والسجدتان بعد السلام بالسهو فيها والكفارة وحرمان الإرث بالقتل خطأ - مسئلة الكلام ناسيا في الصلاة هل يفسدها - 444 مسئلة الحج هل يفسد بالجماع ناسيا - 445 مسئلة هل يقع طلاق المكره والمخطئ - 445 مسئلة الصوم هل يفسد
بالأكل خطأ 445 لكنه لا يفسد بالأكل ناسيا وقيل يفسد - 445 مسئلة هل يحرم الذبيحة بترك التسمية 445 ناسيا - مسئلة يستحب للقارى ان يقول أمين بعد 446 إتمام سورة البقرة - فصل فيما ورد في فضل الآيتين اخر البقرة 447 وفي فضل سورة البقرة - مسئلة المؤمن لا يخلد في النار 447 لاجل الكبائر - تمت البقرة.(1/845)
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 2
القسم الأول من الجزء الثاني
سورة آل عمران
نحمدك يا من لا اله الّا أنت ونسبّحك ونستعينك ونستغفرك ونشهد انك مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير أنت ربّنا وربّ السّموات والأرض ومن فيهنّ ونصلّى ونسلّم على رسولك وحبيبك سيّدنا ومولانا محمّد وبه على جميع النّبيّين والمرسلين وعلى عبادك الصّالحين (سورة ال عمران) مدنية وايها مائتان ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن انس ان النصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فخاصموه فى عيسى فانزل الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إلى بضع « 1 » وثمانين اية من ال عمران وقال ابن إسحاق حدثنى محمد بن سهل بن أبى امامة قال لما قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسئلونه عن عيسى بن مريم نزلت فيهم فاتحة ال عمران إلى رأس الثمانين منها كذا أخرج البيهقي فى الدلائل وكذا قال البغوي عن الكلبي والربيع بن انس وغيرهما نزلت هذه الآيات فى وفد نجران وكانوا ستين راكبا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم اربعة عشر رجلا من اشرافهم وفى الاربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤل أمرهم العاقب أميرهم وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون الا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم واسمه الا بهم وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبرهم - دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العصر عليهم ثياب حبرات جبب وأردية فى جمال رجال لحارث بن كعب يقول من راهم ما راينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا للصلوة فى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
((1/846)
1) قلت الظاهر انها اربعة وثمانون اية إلى قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وبعد ذلك قوله تعالى وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ وما بعده نزلت فى رجال ارتدوا كما سيذكر - منه برد الله مضجعه الخطبة 12 الناشر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 3
دعوهم فصلوا إلى المشرق - فكلم السيد والعاقب فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلما فقالا قد اسلمنا قبلك قال كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاءكما لله ولدا وعبادتكم الصليب وأكلكما الخنزير قالا ان لم يكن عيسى ولد الله فمن أبوه وخاصموه جميعا فى عيسى عليه السلام فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم ا لستم تعلمون ان ربنا حى لا يموت وان عيسى يأتى عليه الفناء قالوا بلى قال أ لستم تعلمون ان ربنا قيم على كل شىء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا قال أ لستم تعلمون ان الله تعالى لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ قالوا بلى قال فهل يعلم عيسى عليه السلام من ذلك الا ما علم قالوا لا قال فان ربنا صور عيسى عليه السلام فى الرحم كيف شاء وربنا لا يأكل ولا يشرب قالوا بلى قال أ لستم تعلمون ان عيسى حملته امه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذى كما يغذى الصبى ثم كان يطعم ويشرب ويحدث قالوا بلى قال فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا فانزل الله صدر سورة ال عمران إلى بضع وثمانين اية منها فقال عز من قائل(1/847)
الم (1) اللَّهُ قرأ أبو يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى عن أبى بكر الم مقطوعا بسكون الميم على الوقف كما هو فى سائر المقطعات ثم قطع الهمزة للابتداء وقرا الجمهور بالوصل « 1 » مفتوح الميم فعند سيبويه فتح الميم لالتقاء الساكنين الميم ولام اللّه لا يقال ان التقاء الساكنين غير محذور فى باب الوقف لانا نقول ان الوقف ليس مرويا عند الجمهور وانما هو على قراءة أبى يوسف يعقوب كما ذكر وفى صورة الوقف كما قرأ يعقوب يتحمل التقاء الياء والميم الساكنين فى كلمه ميم دون التقاء ثلاث ساكنات وحركت الميم بالفتح لكونها أخف الحركات ولم تكسر لاجل الياء وكسر الميم قبلها تحاميا عن توالى الكسرات وقال الزمخشري انما هى فتحة همزة الوصل من الله نقلت إلى الميم وانما جاز ذلك مع ان الأصل فى همزة الوصل إسقاطها مع حركتها لان الميم كان حقها الوقف ومقتضى الوقف ابقاء همزة الوصل كما قراء به يعقوب لكنها أسقطت للتخفيف فابقيت حركتها لتدل على انها فى حكم الثابت ونظرا على ان الميم فى حكم الموقوف وليس بموقوف اجمع القراء على جواز المد الطويل فى مد الميم بقدرست حركات والمد القصير بقدر حركتين والله اعلم - والله مبتدا وخبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر لا محذوف تقديره لا اله فى الوجود الا هو والمستثنى فى موضع الرفع بدل
_________
(1) والحق ان الوقف بمد الطويل والوصل بالقصر والمد جائز ان للكل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 4(1/848)
من موضع لا واسمه الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) بدل من هو أو خبر مبتدا محذوف أى هو الحي القيوم وقد ذكرنا شرح الاسمين فى اية الكرسي - أخرج ابن أبى شيبة والطبراني وابن مردوية من حديث أبى امامة مرفوعا اسم الله تعالى الأعظم فى ثلاث سور البقرة وال عمران وطه قال القاسم صاحب أبى امامة فالتمستها فوجدت انه الحي القيوم لاجل اية الكرسي فى البقرة وهذه الآية فى ال عمران وو عنت الوجوه للحىّ القيّوم فى طه وقال الجزري صاحب الحصين وعندى انه لا اله الّا هو الحىّ القيّوم قلت عندى هو لا اله الا هو جمعا بين حديث أبى امامة هذا وحديث اسماء بنت يزيد قالت « 1 » سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول فى هاتين الآيتين اسم الله الأعظم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي وحديث سعد بن أبى وقاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة ذى النون إذا دعا ربه وهو فى بطن الحوت لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لم يدع بها رجل مسلم فى شىء الا استجاب له رواه احمد والترمذي - وفى المستدرك للحاكم اسم الله الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وحديث يزيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول اللهم انى أسئلك بانى اشهد ان لا اله الّا أنت الأحد الصّمد الّذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد - فقال دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به اعطى وإذا دعى به أجاب رواه احمد واصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم وقال الترمذي حسن غريب وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين - وروى هؤلاء الجماعة كلهم عن انس قال كنت جالسا فى المسجد ورجل يصلى فقال اللهم انى أسئلك بان لك الحمد لا(1/849)
اله الا أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حى يا قيوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به اعطى ولم يذكر ابن أبى شيبة يا حى يا قيوم قلت فهذه الأحاديث كلها يقتضى ان الاسم الأعظم انما هو القدر المشترك بينها وذلك هو التهليل النفي والإثبات - ولا اله الا هو موجود فى السور الثلاث البقرة وال عمران وكذا فى طه اللّه لا اله الّا هو له الأسماء الحسنى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا اله الا اللّه هو أفضل الذكر رواه الترمذي وغيره من حديث جابر مرفوعا وهو مفتاح الجنة رواه احمد عن معاذ مرفوعا وقد تواتر معناه -
_________
(1) فى الأصل قال - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 5
( ((1/850)
فائدة)) وردت صيغة التهليل فى أحاديث اسم الله الأعظم بلفظ لا اله الّا هو أو لا اله الّا أنت وهذا اللفظ ارفع درجة من لفظ لا اله الا الله لان الضمائر وضعت للذات البحت ففى كلمة لا اله الا هو ينتقل الذهن اولا إلى الذات بلا ملاحظة اسم من الأسماء وصفة من الصفات وشأن من الشئونات وكلمة الله وان كان اسما للذات لكن الذهن هناك ينتقل اولا إلى الاسم وثانيا إلى المسمى وقد ينتقل الذهن من حيث الاشتقاق إلى معنى الالوهية فيكون من اسماء الصفات غير ان صفة الالوهية يستدعى الاتصاف بجميع صفات الكمال والتنزه عن جميع شوائب النقص والزوال فيكون أتم وأشمل من سائر اسماء الصفات - والصوفية العلية انما اختاروا كلمة لا اله الا الله لاجل المبتدى فان المبتدى لا سبيل له إلى الذات البحت الا بتوسط اسم من الأسماء أو صفة من الصفات - قلت ولعل وجه كون النفي والإثبات أعظم الأسماء ان اثبات الالوهية له تعالى يقتضى اثبات جميع صفات الكمال له تعالى باقتضاء ذاته وسلب جميع النقائص عنه كذلك فانه من ليس كذلك لا يستحق العبادة - ونفى الالوهية عما عداه يقتضى حصر تلك الصفات الايجابية والسلبية فيه تعالى فهو أعظم الأسماء وأشملها والله اعلم.(1/851)
نَزَّلَ أى هو نزل عَلَيْكَ الْكِتابَ أى القرآن نجوما فان التفعيل للتكثير بِالْحَقِّ حال من الكتاب أى متلبسا بالصدق فى اخباره أو بالدين الذي هو الحق عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أى لما قبله من الكتب فكان من حقه ان يؤمن به كل من أمن بما قبله فهو حجة على النصارى واليهود حين كفروا به وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) جملة ومن ثم عدل هاهنا من التنزيل إلى الانزال فان الانزال أعم منه - قرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي التّورية بالامالة فى جميع القرآن ونافع وحمزة بين بين والباقون بالفتح - والتورية اسم عبرانى للكتاب الذي انزل على موسى عليه السلام والإنجيل اسم سريانى للكتاب الذي انزل على عيسى عليه السلام وليست الكلمتان عربيتان فمن قال انه فوعلة أو تفعلة من ورى الزند وافعيل من النجل فقد تكلف.
مِنْ قَبْلُ أى قبل تنزيل القرآن حتى يستعد الناس للايمان به هُدىً لِلنَّاسِ أى لجميع الناس ولا وجه لتخصيص الناس بقوم موسى وعيسى عليهما السلام فان الكتب السماوية كلها تدعوا جميع الناس إلى التوحيد والايمان بجميع
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 6(1/852)
الأنبياء وتوجب العلم بالمبدأ والمعاد وتهدى إلى سبيل الرشاد من امتثال أوامر الله تعالى والانتهاء عن المناهي - وتخبر التورية والإنجيل والزبور عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وكون بعض الآيات منها منسوخة فى فروع الأعمال فى بعض الأحيان لا ينافى كونها هدى كما ان بعض آيات القرآن نسخت بالبعض فان النسخ لبيان مدة الحكم فالاية حجة لنا على ان شرائع من قبلنا يلزمنا على انه شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم وقال الشافعي لا يلزمنا - وقوله هدى حال من التورية والإنجيل حمل عليهما للمبالغة أو بتأويل اسم الفاعل ولم يثن لأنه مصدر وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ 5 أى جنس الكتب الالهية واللام للاستغراق - ذكر ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها كانّه قال وانزل سائر الكتب الفارقة بين الحق والباطل - أو المراد به القرآن وكرر ذكره مدحا وتعظيما واظهار الفضلة فانه يشارك والجميع فى كونه منزلا من الله تعالى يتميز عما عداها باعجاز اللفظ الموجب للفرق بين المحق والمبطل - وانما أعاد انزل لبعد المعطوف عليه ولئلا يلتبس بالعطف على هدى مفعولا له أو اشارة إلى ان للقران انزالا يعنى إلى السماء الدنيا ليلة القدر وتنزيلا نجما نجما على حسب الحوادث وقال السدى فى الآية تقديم وتأخير تقديرها وانزل التورية والإنجيل من قبل والفرقان هدى للناس إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ المنزلة فى شىء من الكتب لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم كما يعترف به أهل الكتاب وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يمنعه من التعذيب أحد ذُو انْتِقامٍ (4) لا يقدر على مثله منتقم والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بفتح العين والكسر - وعيد بعد تقرير التوحيد والاشارة إلى صدق الرسول بمطابقة ما جاء به الكتب السماوية وكونه معجزا - .(1/853)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ كائن فِي الْأَرْضِ وَلا شىء كائن فِي السَّماءِ (5) والمراد به شىء كائن فى العالم كليّا كان أو جزئيا - وانما عبر عن العالم بهما لان الحس لا يتجاوزهما - وانما قدم الأرض على السماء لان المقصود بالذكر انه تعالى يعلم اعمال العباد فيجازيهم عليه - وهذه الجملة كالدليل على كونه حيا وما بعده كالدليل على كونه قيوما اى.
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ على صور
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 7
و ألوان وإشكال مختلفة ذكرا أو أنثى على ما أراد لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا يعلم ولا يقدر أحد سواه الا بتعليم وأقداره على كسبه على حسب إرادته الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) بدل من المستثنى أو خبر لمبتدا محذوف أى هو العزيز الحكيم اشارة إلى كمال قدرته وتناهى حكمته عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة ثم تكون علقة مثل ذلك ثم تكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله الملك إليه بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله واجله وشقى أو سعيد قال وان أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها - وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها الا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها - متفق عليه - وعن حذيفة بن أسيد يبلّغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقى أو سعيد فيكتبان فيقول أى رب اذكر أو أنثى فيكتبان ويكتب عمله واثره واجله ورزقه ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص رواه البغوي.(1/854)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أى القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ التي أحكمت وأتقنت عباراتها بحيث لا يشتبه على سامع عالم باللغة منطوقه ولا مفهومه ولا مقتضاه اما بلا تأمل كقوله تعالى قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وقوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وقوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ واما بعد طلب وتأمل من غير حاجة إلى بيان من الشارع كقوله تعالى السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يظهر شموله للطرّار بأدنى تأمل لوجود معنى السرقة فيه مع زيادة وعدم شموله للنباش لنقصان معنى السرقة فيه فان السرقة أخذ مال مملوك لغيره على سبيل الخفية وكفن الميت غير مملوك لاحد فان الميت باعتبار احكام الدنيا ملحق بالجماد لا يصلح للمالكية وحق الورثة لا يتعلق الا بعد التكفين وكقوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فانه بعد التأمل يظهر انه معطوف على المغسولات لضرب الغاية فيه وقوله تعالى ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فانه بعد التأمل يظهر ان المراد به الحيضات دون الاطهار لان الطلاق مشروع فى الطهر فلا يتصور عدد الثلاثة بلا نقصان أو زيادة الا فى الحيضات وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ يظهر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 8(1/855)
بالتأمل ان المراد كون صفائها كصفاء القوارير كائنا من جنس الفضة فعلى هذا دخل فى المحكم الظاهر والنص والمفسر والمحكم والخفي والمشكل على اصطلاح الأصوليين وما ذكرنا من تفسير المحكم هو للمستفاد من قول ابن عباس وهو المعنى من قول محمد بن جعفر بن الزبير ان المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد وما قيل المحكم ما يعرف معناه ويكون حجة واضحة ودلائله لائحة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ قال فى القاموس الام الوالدة وأم كل شىء أصله وعماده وللقوم رئيسهم وكل شىء انضمت إليه أشياء قلت الكتاب هاهنا اما بمعنى المكتوب أى المفروض كما فى قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ فالاضافة بمعنى اللام والام بمعنى الوالدة أو الأصل يعنى المحكمات هن والدات واصول لما كتب علينا إتيانه أو الكف عنه من الفرائض والمحرمات - واما بمعنى القرآن فالاضافة حينئذ اما بمعنى من يعنى انها أم للاحكام من الكتاب يؤخذ منها الاحكام بلا حاجة بيان من الشارع واما بمعنى اللام والمعنى انها عماد للقران وبمنزلة رئيس القوم لسائر الآيات يحتاج إليها غيرها ويضم إليها حتى يستفاد من غيرها المراد منها يردها إلى المحكمات وكان القياس ان يقال أمهات الكتاب لكن أورد لفظ المفرد ليدل على ان المحكمات كلها بمنزلة أم واحدة لان الاحكام المفروضة تؤخذ من جميعها لا من كل واحدة منها وكذا مرجع المتشابهات إلى مجموعها باعتبار بعضها لا إلى كل واحدة منها وَآيات أُخَرُ جمع اخرى معدول من الاخر أو اخر من ولذا منع من الصرف للعدل والوصف مُتَشابِهاتٌ التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد منه بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع بعبارة محكمة فان وجد البيان والتعليم من جهة الشارع وظهر المراد منها سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة والزكوة والحج والعمرة واية الربوا ونحو ذلك وان لم يوجد البيان والتعليم سميت(1/856)
حينئذ متشابها على اصطلاحهم ولا يجوز هذا القسم الا فيما لا يتعلق به العمل كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق وذلك كالمقطعات القرآنية وقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وقد يظهر مراد تلك القسم من الآيات على بعض العرفاء بتعليم من الله تعالى بالإلهام كما عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها واقتباس أنوار النبوة بعد شرح الصدر وان كان ذلك المراد أحيانا بحيث لا يمكن تعليمه وتعلمه باللسان لعدم شمول خزينة العلم من العوام على مراده ولا على العلم بوضع لفظ بإزائه - واما ما يتعلق به التكليف فلا يجوز
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 9
تأخير بيانه عن وقت الحاجة كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق - فان قيل قال الله تعالى الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ وقال فى موضع اخر كتبا متشابها فكيف فرق هاهنا فقال مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ... - وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ قلنا حيث جعل القرآن كله محكما فمعناه انه متقن محفوظ عن فساد المعنى ودكاكة اللفظ لا يستطيع أحد معارضته والطعن فيه - وحيث جعل كله متشابها أراد ان بعضه يشبه بعضا فى الحسن والكمال - وفرق هاهنا من حيث وضوح المعنى وخفائه - فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أى ميل عن الحق قال الربيع هم(1/857)
وفد نجران خاصموا النبي صلى الله عليه وسلم فى عيسى عليه السلام وقالوا له ا لست تزعم انه كلمة الله وروح منه قال بلى قالوا « 1 » حسبنا فانزل الله تعالى هذه الآية وقال الكلبي هم اليهود طلبوا علم أجل هذه الامة واستخراجه بحساب الجمل قال ابن عباس انّ رهطا من اليهود منهم حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيى بلغنا انه انزل عليك الم فننشدك الله انزل عليك قال نعم قال فان كان ذلك حقا فانى اعلم مدة تلك أمتك هى احدى وسبعون سنة فهل انزل غيرها قال نعم المص قال فهذه اكثر هى احدى وستون ومائة سنة فهل غيرها قال نعم الر قال هذه اكثر هى مائتين واحدى وثلاثون سنة فهل غيرها قال نعم المر قال هذه اكثر وهى مائتان واحدي وسبعون سنة ولقد خلطت علينا فلا ندرى ا بكثيره نأخذ أم بقليلة ونحن مما لا نؤمن بهذا فانزل الله تعالى هذه الآية وقال ابن جريح هم المنافقون وقال الحسن هم الخوارج كذا أخرج احمد وغيره عن أبى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم - وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ قال ان لم يكونوا الحرورية والسابية فلا أدرى من هم وقيل هم جميع المبتدعة والصحيح ان اللفظ عام لجميع من ذكر وجميع اصناف المبتدعة عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ إلى قوله أُولُوا الْأَلْبابِ قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رايت الذين يتبعون ما تشابه منه فاولئك الذين سمى الله فاحذروهم رواه البخاري - وعن أبى مالك الأشعري انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما أخاف على أمتي الا ثلاث خلال وذكر منها ان يفتح لهم الكتاب فيأخذه يبتغى تأويله وليس « 2 » يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ(1/858)
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
_________
(1) فى الأصل قال
(2) وفى القرآن وَما يَعْلَمُ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 10
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أى يتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع تبعا لهواه من غير رجوع إلى المحكمات من الآيات والأحاديث وبلا حملها على ما يطابقها من المحكمات أو السكوت مع الايمان والتسليم بمرادها - فالواجب رد المتشابهات إلى المحكمات مهما أمكن حتى يتبين مراد المجمل فيعمل به كما فى الصلاة والزكوة والربوا أو السكوت عن تأويله مع الايمان بها والتسليم بمرادها - فلما ثبت بإجماع الامة ومحكم نصوص الأحاديث المتواترة ان المؤمنين يرون الله سبحانه فى الاخرة كما يرون القمر ليلة البدر فلا بد ان يؤمن به ويقول المراد بالروية والنظر فى قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ هى النظر بالبصر وما لم يثبت كذلك كما فى قوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ والرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى يسكت فيه مؤمنا به ولا يحمل على ظاهره ويتبع المحكم من قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ فيقول بكونه تعالى منزها عن صفات الممكنات ولا يتعب نفسه فى تأويل المقطعات فانه غير ماذون فيه ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ منصوب على العلية من قوله فيتّبعون « 1 » أى يفعلون ذلك لطلب ان يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك « 2 » والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه وهذا وظيفة المنافقين كما حكى ان بعض اليهود لما راوا « 3 » دولة الإسلام واستعلاءه حسدوا على ذلك وتيقنوا ان ذلك التأييد من الله تعالى للمسلمين لاجل دينهم فنافقوا ودخلوا فى الإسلام ظاهرا واتبعوا المتشابهات بتأويلات زائغة وأظهروا المذاهب الباطلة فصاروا حرورية ومعتزلة و(1/859)
روافض ونحو ذلك ابتغاء الفتنة وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ عطف على ابتغاء الفتنة أى طلبوا ان
_________
(1) فى الأصل يبتعون. [.....]
(2) أخرج الدارمي عن عمر بن الخطاب قال انه سيأتيكم ناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن فان اصحاب السنن اعلم بكتاب الله وعن أبى هريرة قال كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل يسئل عن القرآن ا مخلوق هو أو غير مخلوق فقام عمر فاخذ بمجامع ثوبه حتى قاده إلى على بن أبى طالب فقال يا أبا الحسن اما تسمع ما يقول هذا قال وما يقول قال جاءنى يسئل عن القرآن ا مخلوق هو أو غير مخلوق فقال على هذه كلمة سيكون لها ثمرة ولو وليت من الأمر ما وليت ضربت عنقه واخرج الدارمي عن سليمان بن يسار ان رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة فجعل يسئل من متشابه القرآن فارسل إليه عمر وقدا عدله عراجين النخل قال له ومن أنت قال انا عبد الله صبيغ فقال انا عبد الله عمر فاخذ عرجونا من تلك العراجين فضرب به حتى دمئ رأسه فقال يا امير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجدني رأسى وعن أبى عثمان النهدي ان عمر كتب إلى بصرة ان لا تجالسوا صبيغا - قال فلو جاء ونحن مائة لتفرقنا وعن محمد بن سيرين قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعري بان لا تجالس صبيغا وان تحرم عطاءه ورزقه قال الشافعي حكمى فى أهل الكلام حكم عمر فى صبيغ ان يضربوا بالجريد ويحملوا على الإبل ويطاف بهم فى العشائر والقبائل وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة واقبل على علم الكلام - منه رحمه الله.
(3) فى الأصل راى - أبو محمد عفا الله عنه.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 11(1/860)
يأولوه على ما يشتهونه وقد يكون ابتغاء التأويل بناء على الجهل فقط وذلك من بعض المتأخرين من المبتدعة واما من الأوائل المنافقين منهم فكان الداعي على اتباع المتشابهات غالبا مجموع الطلبين وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أى بيان المتشابه من الآيات على ما هو المراد منه عند الله تعالى إِلَّا اللَّهُ أى لا يجوز ان يعلمه غيره تعالى الا بتوقيف منه ولا يكفى لمعرفته العلم بلغة العرب - فالحصر إضافي نظيره قوله تعالى لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ - يعنى لا يعلم الغيب غيره تعالى الا بتوقيف منه - فهذه الآية لا تدل على ان النبي صلى الله عليه وسلم وبعض الكمل من اتباعه لم يكونوا عالمين بمعاني المتشابهات - كيف وقد قال الله تعالى ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فانه يقتضى ان بيان القرآن محكمه ومتشابهه من الله تعالى للنبى صلى الله عليه وسلم واجب ضرورى لا يجوز ان يكون شىء منها غير مبين له عليه السلام والا يخلوا الخطاب عن الفائدة ويلزم الخلف فى الوعد - والحق ما حققناه فى أوائل سورة البقرة ان المتشابهات هى اسرار بين الله تعالى وبين رسوله صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول ومن شاء افهامه من كمل اتباعه بل هى مما لا يمكن بيانها للعامة وانما يدركها أخص الخواص بعلم لدنى مستفاد بنوع من المعية الذاتية أو الصفاتية الغير المتكيفة - وَالرَّاسِخُونَ أى الذين رسخوا أى ثبتوا وتمكنوا فِي الْعِلْمِ بحيث لا تعترضه شبهة وهم أهل السنة والجماعة الذين عضوا بالنواجذ على محكمات الكتاب والسنة واقتفوا فى تفسير القرآن اجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين الذين هم خيار الامة ورد والمتشابهات إلى المحكمات وتركوا الأهواء والتلبيسات - وقيل الراسخون فى العلم مؤمنوا أهل الكتاب - قلت لا وجه لتخصيصهم - وقالت الصوفية العلية الراسخون فى العلم هم(1/861)
المنسلخون عن الهواء بالكلية بفناء القلب والنفس والعناصر المتفوضون فى التجليات الذاتية حيث لا يعتريهم شبهة المترنمون بما قالوا لو كشفت الغطاء ما ازددت يقينا أخرج الطبراني وغيره عن أبى الدرداء ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين فى العلم قال من برّت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعفف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين فى العلم قلت هذا شأن الصوفية ثم اختلف العلماء فى نظم هذه الآية فقال قوم الواو للعطف والمعنى ان تأويل المتشابه يعلمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 12(1/862)
و يعلمه الراسخون فى العلم فعلى هذا قوله تعالى يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ حال منهم يعنى قائلين امنّا نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ إلى ان قال وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ثم قال وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وهذا قول مجاهد والربيع - وروى عن ابن عباس انه كان يقول فى هذه الآية انا من الراسخين فى العلم وعن مجاهد انا ممن يعلم تأويله - وذهب الأكثرون إلى ان الواو للاستيناف وتم الكلام عند قوله وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ فعلى هذا الراسخون فى العلم مبتدا وما بعده خبره وهو قول أبيّ بن كعب وعائشة وعروة بن الزبير ورواية طاءوس عن ابن عباس وبه قال الحسن واكثر التابعين واختاره الكسائي والفراء والأخفش ومما يؤيد هذا القول قراءة عبد الله بن مسعود ان تأويله الّا عند اللّه والرّاسخون فى العلم يقولون امنّا به وقراءة أبيّ بن كعب ويقول الرّاسخون فى العلم امنّا به ومن هاهنا قال عمر بن عبد العزيز انتهى علم الراسخين فى العلم بتأويل القرآن إلى ان قالوا أمنا به كُلٌّ من المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما علمنا المراد منه وما لم نعلم مِنْ عِنْدِ رَبِّنا قلت فحال الراسخين فى العلم يبائن حال الزائغين قلوبهم من الأهواء المتبعين الآراء كلّما أضاء لهم ووافق النصوص آراءهم مشوا فيه وأمنوا به وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ تأويلات النصوص ولم يوافق آراءهم قاموا ولم يؤمنوا به قال البغوي هذا القول أقيس فى العربية وأشبه بظاهر الآية يعنى القول باستيناف الكلام وعدم العطف قلت وجه كون هذا القول أقيس وأشبه ان الاستثناء من النفي اثبات بإجماع أهل العربية واللام فى الراسخون للاستغراق فلو كان قوله الراسخون فى العلم معطوفا على(1/863)
الله لزم ان يعلم تأويل المتشابهات
كل راسخ فى العلم وليس كذلك على ما يشهده البداهة والرواية وَما يَذَّكَّرُ أصله يتذكر أى ما يتعظ بما فى القرآن إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (7) ذووا العقول السليمة فان سلامة العقل يقتضى ان يفوضوا ما لا علم لهم به إلى المتكلم العليم الحكيم ولا يقعوا فى الجهل المركب وهم فى كل واد يهيمون - قالت الأكابر لا أدرى نصف العلم - .
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا ولا تملها عن الحق كما ازغت قلوب الذين فى قلوبهم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 13
زيغ - جاز ان يكون هذا من مقال الراسخين تقديره يقولون امنّا به ويقولون ربّنا إلخ وجاز ان يكون تعليم مسئلة من الله تعالى عند البلوغ إلى المتشابه بتقدير قولوا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بانزال كتابك ووفقتنا بالايمان بالمحكم والمتشابه وبعد منصوب على الظرفية وإذ فى موضع الجر بإضافته إليه وقيل إذ هاهنا بمعنى ان المصدرية وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توفيقا وتثبيتا إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) لكل مسئول فيه دليل على ان الهدى والضلالة من الله تعالى بتوفيقه أو خذلانه وانه المتفضل على عباده لا يجب عليه شىء عن النواس بن سمعان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من قلب الا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء ان يقيمه اقامه وان شاء ازاغه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك والميزان بيد الرحمن جل جلاله يرفع قوما ويضع آخرين إلى يوم القيامة رواه البغوي وروى نحوه احمد والترمذي من حديث أم سلمة ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو والترمذي وابن ماجة من حديث انس - وفى الصحيحين من حديث عائشة وعن أبى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القلب كريشة بأرض فلاة يقلبها الرياح ظهرا ببطن رواه احمد.(1/864)
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ أى لقضاء يوم وقيل اللام بمعنى فى أى فى يوم لا رَيْبَ فِيهِ أى لا شك فى وقوعه ووقوع ما فيه من الجزاء إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ
(9) مفعال من الوعد فالخلف فى الوعد محال لكونه رذيلة ينافى الالوهية واما فى الوعيد فيجوز عندنا المغفرة وان لم يتب - وقالت الوعيدية من المعتزلة لا يجوز الخلف فى الوعيد أيضا الا بعد التوبة محتجا بهذه الآية قلنا وعيد الفساق كما هو مشروطة بعدم التوبة باتفاق بيننا وبينكم كذلك مشروطة بعدم العفو لاطلاق قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وقوله تعالى فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وقوله تعالى وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وقوله تعالى لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ونحو ذلك وفى الباب أحاديث لا يحصى - .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعم المشركين واهل الكتاب لَنْ تُغْنِيَ أى لا تجزى عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أى بدلا من رحمته أو طاعته
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 14
شَيْئاً من الإغناء فهو منصوب على المصدرية دون المفعولية لان الإغناء غير متعد الا ان يقال معناه على التضمين لا تدفع عنهم من الله أى من عذابه شيئا فعلى هذا منصوب على المفعولية والجار والمجرور ظرف مستقر حال منه وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) أى حطبها عطف على لن تغنى.(1/865)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ دأب مصدر من داب فى العمل إذا كدح فيه والجار والمجرور فى محل الرفع خبر مبتدا محذوف تقديره دأبهم كدأب ال فرعون ومعناه فعلهم وصنيعهم فى الكفر وتكذيب الرسل كفعل ال فرعون كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد - وقيل هو منقول من معنى الفعل إلى معنى الشأن - وقال أبو عبيدة معناه كسنة ال فرعون وقال الأخفش كامر ال فرعون وشأنهم وقال النصر بن شميل كعادة ال فرعون يعنى عادة هؤلاء الكفار وطريقتهم وشأنهم فى تكذيب الرسل ونزول العذاب كشأن ال فرعون وطريقتهم وسنتهم وجاز ان يكون الجار والمجرور متصلا بما قبله يعنى توقد بهم النار كما توقد بال فرعون فوقود النار بهم بضم الواو شأنهم كما هو شان ال فرعون ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم كما لم يغن بال فرعون فيكون شأنهم كشأنهم عند حلول العذاب وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل عاد وثمود وقوم لوط معطوف على ال فرعون وحينئذ قوله تعالى كَذَّبُوا اما حال بتقدير قد أو استيناف لبيان حالهم كانّه فى جواب ما شأنهم وجاز ان يكون الموصول مبتدا وما بعده خبره بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ وعاقبهم بِذُنُوبِهِمْ أى بسبب ذنوبهم وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) شديد عقابه - روى أبو داود فى سننه وابن جرير والبيهقي فى الدلائل من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبى محمد عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة جمع اليهود فى سوق بنى قينقاع وقال يا معشر يهود اسلموا قبل ان يصيبكم مثل ما أصاب قريشا فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك ان قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا « 1 » لا يعرفون القتال انك لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس وانك لم تلق مثلنا فانزل الله.(1/866)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعنى اليهود سَتُغْلَبُونَ إلى قوله لاولى الابصار فقد صدق الله تعالى وعيده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم
_________
(1) الأغمار جمع غمر بالضم وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور - نهايه منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 15
و قال مقاتل نزول هذه الآية قبل وقعة بدر والمراد بهم مشركوا مكة يعنى قل لكفار مكة ستغلبون يوم بدر فلما نزلت هذه الآية قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ان الله تعالى غالبكم وحاشركم إلى جهنم وقال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان يهود المدينة قالوا لمّا هزم الله تعالى المشركين يوم بدر هذا والله النبي الذي بشرنا به موسى لا ترد له رأية وأرادوا اتباعه ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة اخرى فلما كان يوم أحد ونكب اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكّوا فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وقد كان بينهم وبين اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف فى ستين راكبا إلى مكة يستنفرهم فاجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى فيهم هذه الآية قرأ حمزة وخلف - أبو محمد والكسائي سيغلبون بالياء على ان الله تعالى امر رسوله صلى الله عليه وسلم ان يحكى لهم ما أخبره به من وعيدهم وكذا قوله وَتُحْشَرُونَ فى الاخرة إِلى جَهَنَّمَ وقرا الباقون بالتاء فيهما على الخطاب على انه مقولة قل وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) أى الفراش أى جهنم هذا من تمام ما يقال لهم أو استيناف أى بئس ما مهّدوه لانفسهم أو بئس ما مهّد لهم - .(1/867)
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لليهود على تقدير كون الآية السابقة فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر اليهود اية أى دليل « 1 » واضح على صدق ما أقول لكم انكم ستغلبون أو خطاب للمشركين على تقدير كون الآية فيهم يعنى قد كانت لكم يا معشر الكفار اية معجزة ودليل « 2 » على النبوة فِي فِئَتَيْنِ أى فرقتين انما يقال الفرقة فئة لان فى الحرب يفىء بعضهم إلى بعض الْتَقَتا يوم بدر للقتال فِئَةٌ مؤمنة يعنى رسول الله وأصحابه تُقاتِلُ العدو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طاعة الله كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبع وسبعون رجلا من المهاجرين وصاحب رأيتهم على بن أبى طالب وهو الصحيح وقيل مصعب بن عمير ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رأيتهم سعد بن عبادة وكان فيهم سبعون بعيرا وفرسان فرس لمقداد « 3 » بن عمرو فرس لمرثد بن أبى مرثد وأكثرهم رجالة وكان معهم من السلاح ست اذرع وثمانية سيوف وفئة أُخْرى كافِرَةٌ وهم مشركوا مكة
_________
(1) فى الأصل دليلا واضحا
(2) فى الأصل دليلا
(3) فى الأصل للمقداد
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 16(1/868)
كانوا تسعمائة وخمسين رجلا من المقاتلة رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد الشمس وفيهم مائة فرس وكانت حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بثمانية عشر شهرا فى رمضان سنه يَرَوْنَهُمْ قرأ نافع وأبو جعفر - أبو محمد ويعقوب بالتاء على الخطاب فان كان الخطاب لليهود فالمعنى يا معشر اليهود ترونهم يعنى كفار مكة مِثْلَيْهِمْ أى مثلى المسلمين وذلك ان جماعة من اليهود حضروا قتال بدر لينظروا على من يكون الدبرة فراوا المشركين مثلى عدد المسلمين وراوا النصرة مع ذلك للمسلمين فان قيل كيف قال مثليهم وهم كانوا ثلاثة أمثالهم قلنا لعل المراد كثرتهم وتكرار أمثالهم دون التثنية كما فى قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يعنى كرة بعد اخرى - وان كان الخطاب للمشركين فالمعنى ترونهم يا معشر الكفار أى المسلمين مثليهم وذلك حين القتال ولا تناقض بين هذا وبين قوله تعالى فى سورة الأنفال وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لانهم قلّلوا فى أعينهم قبل القتال حتى اجترءوا عليهم فلما تلاقوا وشرعوا فى الحرب كثر المسلمون فى أعينهم حتى جبنوا وغلبوا وقرا الجمهور بالياء على الغيبة وعلى هذا فالضمير المرفوع جاز ان يكون راجعا إلى المشركين والمعنى يرى المشركون المسلمين مثلى المشركين أو مثلى المسلمين وجاز ان يكون راجعا إلى المسلمين يعنى يرى المسلمون المشركين مثلى المسلمين حيث قللهم الله تعالى فى أعينهم حتى راوهم مثلى أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا لهم وتيقنوا بالنصر الذي وعدهم الله تعالى فى قوله فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ثم قللهم الله تعالى حتى راوهم مثل عدد أنفسهم قال ابن مسعود نظرنا إلى المشركين فرايناهم يضعّفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رايناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا فى أعيننا حتى رايناهم عددا يسيرا اقل من أنفسنا(1/869)
حتى قلت لرجل إلى جنبى نراهم سبعين قال أراهم مائة والروية هاهنا بمعنى العلم حتى يكون مثليهم مفعولا ثانيا له إذا المعنى لا يساعد كونه حالا فعلى هذا قوله تعالى رَأْيَ الْعَيْنِ مبنى على المبالغة فى علمهم بكونهم مثليهم وتشبيه لهذا العلم بالعلم الحاصل بروية العين فاطلق رأى العين وأريد به العلم الحاصل به مجازا تسمية المسبب باسم السبب فهو منصوب على المصدرية وجاز ان يكون منصوبا بنزع الخافض أى كرأى العين وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التقليل والتكثير
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 17
و غلبة القليل عديم القدرة على الكثير شاكى السلاح لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) أى لذوى العقول - وقيل لمن راى الجمعين - .(1/870)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ الزين ضد الشين وهو كون الشيء ذا حسن وجمال مستحقا للمدح محبوبا وذا قد يكون بصفات نفسانية كالعلم والعقل ونحو ذلك أو بدنية كالقوة والقامة وحسن المنظر أو خارجية كاللباس والمركب والمال والجاه - والتزيين جعل الشيء كذلك اما فى الحقيقة كما فى قوله تعالى زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أو فى اعتقاد من زين له سواء كان الاعتقاد مطابقا للواقع كما فى قوله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أو غير مطابق له كما فى قوله تعالى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ والشهوة هى توقان النفس وكمال رغبتها إلى الشيء والمراد بالشهوات هاهنا المشتهيات فانها هى المزينات المحبوبات حقيقة لكن سميت بالشهوات وجعل موردا لتزيين حب الشهوات دون أنفسها مبالغة فى التوبيخ وايماء على انهم انهمكوا فى محبتها حتى أحبوا شهواتها بل حب شهواتها كانّ تقدير الكلام حبب إلى الناس حب محبة النساء ونحوها نظيره أحببت حبّ الخير وقال صاحب الكشاف سميت شهوات مبالغة فى التنفير عنها لان الشهوات علم فى الخسة شاهد على البهيمية إذ المقام مقام التنفير عنها والترغيب فيما عند الله وقال بعض الأفاضل بل مبالغة فى التحذير عن مخالطتها وكمال التوجه إليها فانها لكمالها فى كونها مشتهيات تشغل اللاهي بكليته إلى أنفسها وتقطعه عما عند الله والمزين هو الله تعالى لأنه الخالق للجواهر والاعراض والافعال الاختيارية للعباد والدواعي كلها - ولعله زينه ابتلاء « 1 » قال الله تعالى إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ولكونه سببا لمجاهدة المؤمنين وباعثا لشكر النعمة ووسيلة إلى السعادة الاخروية وموجبا لفضل البشر على الملائكة - وسببا لخذلان الكافرين وموجبا لاضلالهم يضلّ من يشاء ويهدى من يشاء وأيضا فى التزيين حكمة(1/871)
التعيش وبقاء النوع قال الله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وقيل المزين هو الشيطان فان الآية فى معرض الذم وقد نسب الله تعالى تزيين الأشياء تارة إلى نفسه باعتبار الخلق حيث قال كذلك زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ وزَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وتارة
_________
(1)
همه انداز من بتوانيست كه تو طفلى وجامه رنگين است
: منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 18(1/872)
الى الشيطان باعتبار كسبه إلقاء الوسوسة فى القلوب والإلهاء حيث قال إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وقوله لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ وزيّن لهم الشّيطن أعمالهم فصدّهم عن السّبيل مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ جمع قنطار وهو المال الكثير بعضه على بعض سمى قنطارا من الاحكام يقال قنطرت الشيء إذا أحكمته ومنه سميت القنطرة - وقال معاذ بن جبل الف ومائتا اوقية وقال ابن عباس الف ومائتا مثقال أو اثنا عشر الف درهم أو الف دينار وقال سعيد بن جبير وعكرمة هو مائة الف ومائة منّ ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وعن السدى اربعة آلاف مثقال وقال الحكم القنطار ما بين السماء والأرض وقيل ملا مسك ثور « 1 » واختلف فى انه فعلال أو فنعال الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذة من القنطار للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة يعنى الكثيرة المنضمة بعضها إلى بعض وقال الضحاك المحصنة المحكمة وقال يمان المدفونة وقال السدىّ المضروبة وقال الفراء المضعفة فالقناطير أريد به جمع القنطار وبالمقنطرة جمع الجموع مِنَ الذَّهَبِ قيل سمى به لأنه يذهب وَالْفِضَّةِ قيل سمى بها لانها تنفض أى تتفرق وَالْخَيْلِ جمع فرس لا واحد له من لفظه الْمُسَوَّمَةِ قال مجاهد يعنى المطهمة الحسان أى محكم الخلق حسن الجمال وتسويمها حسنها وقال سعيد بن جبير هى الراعية أى السائمة وقال الحسن وأبو عبيدة هى المعلمة من السيماء أى العلامة ثم منهم من قال سيماها الشية واللون وهو قول قتادة وقيل الكي وَالْأَنْعامِ جمع نعم والنعم جمع لا واحد له من لفظه ويطلق على الإبل والبقر والغنم وقال أبو حنيفة رحمه الله يطلق على الدواب الوحشي أيضا ولذا فسر قوله فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أى مثل ما قتل من النعم الوحش وَالْحَرْثِ أى الزرع ذلِكَ المذكورات مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أى يتمتع بها فى الدنيا ثم يفنى وَاللَّهُ(1/873)
عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) أى المرجع الحسن الذي كأنَّه عين الحسن ففيه كمال التحريض على استبدال ما فى الدنيا من الشهوات الفانية بما عند الله من المستلذات القوية « 2 » الباقية - .
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكورات فيه توبيخ للكفار واشارة الى
_________
(1) أخرج الحاكم وصححه عن انس عنه صلى الله عليه وسلم قال القنطار الف اوقية .. واخرج احمد وابن ماجة عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال اثنا عشر الف اوقية - منه رح
(2) عن قتادة فى هذه الآية ذكر لنا ان عمر بن الخطاب كان يقول اللهم زينت لنا الدنيا وانبأتنا ان ما بعدها خير منها فاجعل حظنا فى الذي هو خير وأبقى - منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 19(1/874)
ان النبي صلى الله عليه وسلم كأنَّه متردد فى ان ينبئهم شفقة عليهم وامتثالا لامر الله تعالى أو لا ينبئهم لملاحظة بعدهم عن قبول الحق وتقرير لما سبق إليه الاشارة من ان ثواب الله خير من مستلذات الدنيا لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ مبتدا والظرف خبر مقدم عليه والجملة استيناف لبيان ما هو خير ويجوز ان يكون الظرف متعلقا بخير أو يكون ظرفا مستقرا صفة لخير واختصاص المتقين لانهم هم المنتفعون به وجنات خبر مبتدا محذوف أى هو جنات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لجنات خالِدِينَ فِيها أى مقدرين الخلود فيها إذا دخلوها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستقذر من النساء كالحيض والنفاس والبول والغائط وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ قرأ أبو بكر عن عاصم بضم الراء فى جميع القرآن غير الحرف الثاني فى المائدة ورضوانه سبل السّلم والباقون بالكسر وهما لغتان كالعدوان والعدوان - قيل ذكر الله سبحانه من جنس ما يشتهونه الجنات التي هى من جنس الحرث والأزواج المطهرة التي هى من جنس النساء ولم يذكر البنين لان المقصود منهم فى الدار الفانية الاعانة وبقاء النوع - ولا الخيل ولا الانعام ولا الذهب والفضة لانهم مستغنون عن مشاق ركوب الخيل والانعام لنيل المقاصد وعن البيع والشراء المحوج إلى الأثمان وزاد لهم ما لا زيادة عليه وهو رضوان الله ونكر الرضوان اشارة إلى انه امر لا يحيط العلم بإدراكه عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تبارك وتعالى يقول لاهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير فى يديك فيقول هل رضيتم فيقولون وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول الا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون يا رب واىّ شىء أفضل من ذلك فيقول أحل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده ابدا متفق عليه وعندى ان ذكر الجنان واقع فى مقابلة جميع ما(1/875)
يشتهونه لقوله تعالى وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ فان الأبناء والأقارب كلهم تجتمعون فى الجنة ويدوم لقاؤهم ابدا قال الله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لاهل الجنة فقال المؤمن إذا اشتهى الولد فى الجنة كان حمله وضعه وسنه فى ساعة كما يشتهى رواه الترمذي وحسنه والبيهقي وهناد فى الزهد عن أبى سعيد والحاكم فى التاريخ والاصبهانى فى الترغيب - واما قناطير
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 20(1/876)
الذهب والفضة فان الله تعالى خلق الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك - رواه البزار والطبراني والبيهقي عن أبى سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفى الحديث المرفوع جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما متفق عليه من حديث أبى موسى - واما الخيل والانعام فقد قال أعرابي يا رسول الله انى أحب الخيل أ في الجنة خيل قال ان دخلت الجنة أتيت بفرس من ياقوت له جناحان فحملت عليه ثم طار بك حيث شئت رواه الترمذي عن أبى أيوب وروى الترمذي والبيهقي نحوه عن بردة مرفوعا والطبراني والبيهقي بسند جيد عن عبد الرحمن بن ساعدة مرفوعا - واخرج ابن المبارك عن شفى بن مانع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من نعيم الجنة انهم يتزاورون على المطايا والبخت وانهم يؤتون فى يوم الجمعة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول فيركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله - واخرج ابن أبى الدنيا وأبو الشيخ والاصفهانى عن على مرفوعا قال ان فى الجنة شجرة تخرج من أعلاها حلل ومن أسفلها خيل بلق من ذهب سرجها وزمامها الدر والياقوت وهن ذوات الاجنحة خطوّها مد البصر لا تروث ولا تبول فيركبها اولياء الله فيطير بهم حيث شاءوا فيقول « 1 » الذي أسفل منهم قد اطفؤوا نورنا من هؤلاء فقال انهم كانوا ينفقون وكنتم تبخلون وكانوا يقاتلون وكنتم تجلسون واخرج ابن المبارك عن ابن عمران فى الجنة عتاق الخيل وكرام النجائب يركبها أهلها واخرج ابن وهب عن الحسن البصري ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان ادنى أهل الجنة منزلة الذي يركب(1/877)
فى الف الف من خدم من الولدان المخلدين على خيل من ياقوت احمر لها اجنحة من ذهب واما الحرث فقد روى البخاري عن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان رجلا من أهل الجنة استأذن ربه فى الزرع فقال له ا لست فيما شئت قال بلى ولكنى أحب ان ازرع قال فيزرع فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال فيقول الله تعالى دونك يا ابن آدم فانه لا يشبعك شىء واخرج الطبراني وأبو الشيخ نحوه وفيه حتى تكون سنيلة اثنا عشر ذراعا ثم لا يبرح مكانه حتى يكون منه ركام أمثال الجبال - ولعل وجه تخصيص الأزواج من بين نعيم الجنة بالذكر اما شدة ما كان بالعرب من شهوة النساء واما ان الأزواج تكون لكل من يدخل الجنة أجمعين واما البنون ونحو ذلك فلمن كان له بنون فى الدنيا أو لمن يشتهيهم فيها وهم لا يشتهون ذلك غالبا لما روى عن
_________
(1) فى الأصل شاء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 21(1/878)
ابى سعيد انه إذا اشتهى المؤمن فى الجنة الولد كان فى ساعة ولكن لا يشتهى رواه الترمذي والدارمي يعنى لا يشتهى غالبا جمعا بين الروايات - وذكر الله سبحانه ما زاد على نعماء الدنيا ولا مزيد عليه وهو رضوان الله فانه هو الفارق البائن بين نعماء الدنيا ونعماء الجنة فان الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ما ابتغى به وجه الله عز وجل وفى رواية الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما رواه الطبراني فى الأوسط عن ابن مسعود وفى الصغير عن أبى الدرداء وابن ماجة عن أبى هريرة واما نعماء الجنة فهى مرضيات لله تعالى عن ربيعة الحرسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لى فى المنام سيد بنى دارا وصنع مادبة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضى عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة وسخط عليه السيد قال والله سيد ومحمد الداعي والدار الإسلام والمأدبة الجنة رواه الدارمي - قلت والسر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى لا ينبغى ان يلتفت إليها قال الله تعالى وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ونعيم الجنة مرضية لله تعالى ممدوح من يطمع فيها قال الله تعالى وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ ان مبادى تعينات النشئة الدنيوية غالبا هى الاعدام التي تقررت فى مرتبة العلم واستضاءت بالتقابل بعكوس نقائضها التي هى صفات الكمال لله تعالى كالجهل فى مقابلة العلم والعجز فى مقابلة القدرة ونحو ذلك وسميت ظلالا ولاجل ذلك يسرع الفناء إلى هذه النشئة والعدم فى نفسه شر محض لا نصيب له من الحسن والجمال والخير والكمال الا بالتموية بخلاف النشئة الاخروية فان مبادى تعيناتها انما هى صفات الله تعالى الحسناء فحبها حب الله تعالى والانشغاف بها الانشغاف به تعالى كذا ذكر المجدد رضى الله عنه(1/879)
فى سر محبة يعقوب عليه السلام بيوسف عليه السلام مع ان الأنبياء بل الأولياء لا يلتفتون إلى غير الله سبحانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذا خليلا لا تخذن أبا بكر خليلا وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا رواه مسلم قال المجدد رضى الله عنه وذلك ان حسن يوسف عليه السلام كان من جنس حسن أهل الجنة فكان حبة والعشق به حب الله تعالى وعشقه وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) هذا الكلام فى مقام التعليل لما سبق واللامم اما للاستغراق أى بصير بجميع العباد محسنهم ومسيئهم فيجازيهم على حسب ما عملوا -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 22
و اما للعهد يعنى بصير بالذين اتقوا ولذا أعد لهم الجنات - .
الَّذِينَ يَقُولُونَ مجرور على انه صفة للمتقين أو للعباد وجاز ان يكون منصوبا على المدح أو مرفوعا رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الفاء للسببية وفيه دليل على ان مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة عن معاذ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال معاذ ا فلا ا بشر به الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا متفق عليه.(1/880)
الصَّابِرِينَ على خلاف النفس مانعيها عن الجزع فى المصائب وعن اتباع الشهوات والرذائل حابسيها على الطاعات والفضائل وَالصَّادِقِينَ فى المقال وادعاء الأحوال وجميع الدعاوى والروايات والشهادات - واصدق الصدق شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وَالْقانِتِينَ الدائمين على الطاعات المشتغلين بالله تعالى وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم فى مرضات الله - فاستوعب الكلام انواع الطاعات من الأخلاق والأقوال والأعمال البدنية والمالية وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) يعنى انهم مع ما هم فيه من الطاعات الظاهرة والباطنة خائفون من الله يعترفون على أنفسهم بالتقصير فيستغفرون منه كيف لا وان العباد لا يمكن ان يعبدوا كما ينبغى لكبريائه وعظمته - بل العبد إذا لاحظ إلى انّ أفعاله مخلوقة لله تعالى وانه تعالى منّ عليه بتوفيقه لعبادته وارتضاه لنفسه حيث لم يتركه إلى غيره علم ان كل ما صدر منه ان كان قابلا للقبول فهو مستوجب للشكر والامتنان ولا يتصور أداء شكر نعمائه الا ان يتغمده الله بمغفرته ورضوانه يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا - « 1 » بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وخص الاسحار بالاستغفار لكونها اقرب للاجابة عن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول انا الملك من ذا الذي يدعونى فاستجيب له من ذا الذي يسئلنى فاعطيه من ذا الذي يستغفرنى فاغفر له متفق عليه وفى رواية لمسلم ثم يبسط يديه ويقول من يقرض غير عدوم ولا ظلوم حتى ينفجر الفجر قال البغوي حكى عن الحسن ان لقمان قال لابنه يا بنى لا تكونن أعجز من هذا الديك يصوت
_________
((1/881)
1) وفى القرآن بعد أَنْ أَسْلَمُوا - قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ إلخ -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 23
بالأسحار وأنت نائم على فراشك وعن زيد بن اسلم انه قال هم الذين يصلون الصبح فى الجماعة وقيد بالسحر لقربه من الصبح وقال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا قال نافع كان ابن عمر يحيى الليل ثم يقول يا نافع اسحرنا فاقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وتوسيط واو العطف دليل على استقلال كل واحدة منها فى الكمال وكمالهم فيها أو لتغائر الموصوفين بها فالصابرون الصوفية اصحاب القلوب والنفوس الزاكية والغزاة والشهداء والصادقون العلماء الناطقون بالروايات الصادقة والقانتون الزهاد المصلون بطول القنوت الداعون الله خوفا وطمعا والمنفقون الأغنياء الصالحون من المؤمنين يكتسبون الأموال من الوجوه المباحة وينفقونها فى سبيل الله والمستغفرون بالأسحار الذين يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم رواه مسلم - وروى احمد وأبو يعلى من حديث أبى سعيد نحوه - قدم الله سبحانه فى الذكر الا فضل فالافضل - .(1/882)
شَهِدَ اللَّهُ أى بيّن بنصب الدلائل العقلية وإنزال الآيات السمعية أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ حكى البغوي عن الكلبي قال قدم حبران من أحبار الشام على النبي صلى الله عليه وسلم فلما ابصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج فى اخر الزمان فلما دخلا عليه عرفاه بالصفة فقالا له أنت محمد قال نعم قالا وأنت احمد قال انا محمد واحمد قالا فانا نسئلك عن شىء فان اخبرتنا أمنا بك وصدقناك فقال سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب الله عز وجل فانزل الله تعالى هذه الآية فاسلم الرجلان قال ابن عباس خلق الله الأرواح قبل الأجساد باربعة آلاف سنة وخلق الأرزاق قبل الأرواح باربعة آلاف سنة فشهد بنفسه لنفسه قبل ان خلق الخلق حين كان ولم يكن سماء ولا ارض ولا بحر ولا بر فقال شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وشهدت الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ يعنى مؤمنى الانس والجن كلهم أمنوا بالجنان وشهدوا بتوحيد الله تعالى باللسان قائِماً بتدبير مصنوعاته منصوب على الحال من الله فاعل شهد وجاز لعدم اللبس يعنى شهد الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 24(1/883)
فى حال قيامه بتدبير مصنوعاته فان قيامه عليه كذلك دليل واضح على توحيده - أو على الحال من هو والعامل فيها معنى الجملة أى تفرد قائما - أو احقه لأنه حال مؤكدة - أو على المدح وعلى هذا يكون مندرجا فى المشهود به - وجاز ان يكون مفعولا للعلم أى أولوا المعرفة قائما بِالْقِسْطِ أى متلبسا بالعدل فى قسمه وحكمه لا يتصور منه الظلم لأنه مالك الملك يتصرف فى ملكه كيف يشاء فلا يجب عليه ثواب المطيع بل ذلك بفضل منه ولا عذاب العاصي فانه يغفر لمن يشاء فلا دليل فيه للمعتزلة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرره للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة ادلة التوحيد والحكم به بعد اقامة الحجة الْعَزِيزُ فى ملكه الْحَكِيمُ (18) فى صنعه صفتان لله فاعل شهد أو بدلان من هو قدم العزيز لتقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته - .(1/884)
إِنَّ الدِّينَ المرضى عِنْدَ اللَّهِ هو الْإِسْلامُ قرأ الكسائي بفتح انّ على انه بدل الكل ان فسر الإسلام بالايمان قال قتادة شهادة ان لا اله الا الله والإقرار بما جاء به الرسل من عند الله وهو دين الله الذي شرعه لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه ولا يقبل غيره ولا يجزى الا به - أو فسر بما يتضمنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إليه سبيلا متفق عليه من حديث عمر فى حديث طويل قصة سوال جبرئيل - وبدل اشتمال ان فسر الإسلام بالشريعة المحمدية فانه الدين المرضى عند الله فى هذا الزمان بعد نسخ الأديان المنزلة من الله تعالى سابقا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان موسى حياما وسعه الا اتباع رواه احمد والبيهقي من حديث جابر - وقرا الجمهور بكسر انّ على انه كلام مبتدا عن الأعمش انه قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ الآية ثم قال وانا اشهد بما شهد الله به واستودع الله هذه الشهادة وهى لى عند الله وديعة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ فلما فرغ من صلاته سئل عنه فقال حدثنى أبو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله ان لعبدى هذا عندى عهدا وأنا أحق من وفى العهد ادخلوا عبدى الجنة رواه البغوي بسنده وأخرجه الطبراني والبيهقي فى الشعب بسند ضعيف وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى اليهود والنصارى فى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحقية الإسلام حتى
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 25(1/885)
نفاه بعضهم وقال بعضهم انه مخصوص بالعرب إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بانّ الدّين عند اللّه الإسلام حيث بين الله ذلك فى التورية والإنجيل بَغْياً منصوب على العلية بَيْنَهُمْ ظرف مستقر صفة لبغيا يعنى ما تركوا الحق واختلفوا بشبهة وخفاء فى الأمر بل بعد العلم بكونه حقا لاجل بغى وحسد مستقر بينهم ولاجل طلب الملك والرياسة - واخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر انها نزلت فى نصارى نجران ومعناها وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى الإنجيل فى امر عيسى عليه السلام حتى قال بعضهم انه ابن الله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بان الله واحد لم يلد وان عيسى عبده ورسوله بَغْياً بَيْنَهُمْ أى معاداة لليهود ومخالفة لهم حيث أنكروا نبوته وبهتوا امه بعد ما جاءهم العلم فى التورية انه عبده ورسوله واخرج ابن أبى حاتم عن الربيع ان موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلا من أحبار بنى إسرائيل فاستودعهم التورية واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم المراد بقوله تعالى وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من أبناء أولئك السبعين حتى اهرقوا بينهم الدماء ووقع الشر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعنى بيان ما فى التورية بَغْياً بَيْنَهُمْ فسلط الله عليهم الجبابرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فيجازيه على كفره وعيد لمن كفر منهم.(1/886)
فَإِنْ حَاجُّوكَ يا محمد وقالت اليهود والنصارى ان ديننا هو الإسلام وانّما اليهودية والنصرانية نسب فَقُلْ لانزاع فى اللفظ بل أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ فتح الياء نافع وأبو جعفر - أبو محمد عفا عنه وابن عامر وحفص واسكن الباقون لِلَّهِ أى انقدت لله تعالى وحده لا أشرك به غيره ولا اتبع هو أى فيما امر به بقلبي ولسانى وجميع جوارحى - وانما خص الوجه لأنه أكرم جوارح الإنسان أو المعنى أخلصت توجهى ظاهرا بالجوارح واللسان وباطنا بالنفس والقلب لله تعالى لا التفت إلى غيره - أو المعنى فوضت وجهى يعنى ذاتى لله تعالى ومقتضى هذا الإسلام والتفويض ان لا يشرك به غيره وان يسارع فى امتثال أوامره وانتهاء نواهيه وان يتبع كل شريعة جاءت من عنده ما لم ينسخ وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المرفوع فى أسلمت وحسن للفصل أى واسلم من اتبعنى - وجاز ان يكون مفعولا معه - اثبت الياء نافع وكذا أبو جعفر وصلا ويعقوب فى الحالين - وأبو عمرو فى الوصل على الأصل وحذفها الباقون فى الحالين تبعا للخط وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على قل أسلمت يعنى قل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 26(1/887)
لنفسك أسلمت واحضر الإسلام فى قلبك واجعله مطمئنا به وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود والنصارى وَالْأُمِّيِّينَ الذين لا كتاب لهم كمشركى العرب أَأَسْلَمْتُمْ كما أسلمت بعد ما وضح بالدلائل العقلية وآيات التورية والإنجيل إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ أم أنتم بعد على كفركم - فهذا استفهام صيغة وامر معنى كما فى قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ يعنى انتهوا وفيه تعبير لهم بالبلادة أو المعاندة فَإِنْ أَسْلَمُوا كما أسلمت فَقَدِ اهْتَدَوْا فقرا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال أهل الكتاب اسلمنا فقال لليهود ان عيسى عبد الله ورسوله وكلمته فقالوا « 1 » معاذ الله وقال للنصارى أ تشهدون ان عيسى عبد الله ورسوله فقالوا معاذ الله ان يكون عيسى عبدا - فقال الله تعالى وَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام كما أسلمت فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أى فلا يضرونك انما عليك تبليغ الرسالة دون الهداية وقد بلغت وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) مؤمنهم وكافرهم يجزئ كل واحد بما عمل - .(1/888)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعنى اليهود يكفرون بالقران والإنجيل وآيات التورية التي فيها نعت النبي صلى الله عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ أى قتل اوائلهم الأنبياء وهم يرضون بفعلهم يريدون ان يفعلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ما فعل اوائلهم فقاتلوه وسحروه وجعلوا السم فى طعامه حتى مات به شهيدا حين مات وقد ذكر قصة السحر وللسم فى سورة البقرة بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى فى اعتقادهم والا فقتل النبي لا يكون الا بغير حق وانما حملهم على القتل حب الرياسة ولم يروا منهم ما يجوز به القتل وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ أى بالعدل مِنَ النَّاسِ وهم اتباع الأنبياء - قرأ حمزة يقاتلون من المفاعلة قال ابن جريج كان الوحى يأتى إلى أنبياء بنى إسرائيل ولم يكن يأتيهم كتاب فيذكّرون قومهم فيقتلون فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم فيذكّرون قومهم فيقتلون أيضا فهم الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ روى البغوي عن أبى عبيدة بن الجراح رضى الله عنه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجل امر بالمنكر ونهى عن المعروف ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ إلى قوله وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عبيدة قتلت بنوا إسرائيل ثلاثة
_________
(1) فى الأصل فقال - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 27(1/889)
و أربعين نبيا من أول النهار فى ساعة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فامروا من قتلوهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من اخر النهار فى ذلك اليوم فهم الذين ذكرهم الله فى كتابه وانزل الآية فيهم فَبَشِّرْهُمْ أى أخبرهم يا محمد ذكر لفظ البشارة تهكما بهم بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) وجيع قال سيبويه جملة فبشرهم لا يصلح ان يكون خبرا لانّ ولا يجوز عنده دخول الفاء على خبران قياسا على خبر ليت ولعل فعلى هذا خبران اما قوله تعالى.
أُولئِكَ الَّذِينَ إلى آخره - وجملة فبشّرهم معترضة نظيره زيد فافهم رجل صالح واما محذوف وأقيم المسبب مقامه والتقدير لهم عذاب اليم فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ - وقال الجمهور جملة فبشّرهم خبر لانّ فقال البغوي انما ادخل الفاء على خبران على الغاء ان وتقديره الذين يكفرون ويقتلون فبشرهم وقال اكثر النحويين يجوز دخول الفاء على خبران لشبه اسمها الموصول بالشرط كالمبتدا الموصول بخلاف اسم ليت ولعل فانهما ينقلان الجملة الخبرية إلى الإنشاء فينفيان المشابهة بالشرط فعلى هذا الجملة التالية خبر بعد خبر أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أى ضاعت أَعْمالُهُمْ فلهم اللعنة والخزي فِي الدُّنْيا وَالعذاب فى الْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) يحفظ أعمالهم من الحبط ويدفع عنهم العذاب - أخرج ابن المنذر وابن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد على أى دين أنت يا محمد قال على ملة ابراهيم ودينه قالا فان ابراهيم كان يهوديا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلما إلى التورية فهى بيننا وبينكم فابيا عليه فانزل الله تعالى.(1/890)
أَ لَمْ تَرَ استفهام للتقرير والتعجيب إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يعنى نصيبا حقيرا حيث لا نصيب لهم من بطون الكتاب ولا من الايمان بجميع ما فيه مِنَ الْكِتابِ ومن للتبعيض وجاز ان يكون للبيان والمراد بالكتاب التورية أو جنس الكتب السماوية يُدْعَوْنَ حال من الموصول مفعول أَلَمْ تَرَ يعنى يدعوهم محمد صلى الله عليه وسلم إِلى كِتابِ اللَّهِ يعنى التورية على ما ذكرنا من الرواية - وكذا على ما قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان رجلا وامراة من أهل خيبر زنيا وكان فى كتابهما الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما فيهم فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 28(1/891)
و رجوا ان يكون عنده رخصة فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أو فى وبحرى بن عمر وجرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينى وبينكما التورية قالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتورية قالوا رجل اعور ليسكن فدك يقال له ابن صوريا فارسلوا إليه فقدم المدينة - وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت اعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشىء من التورية فيه الرجم مكتوب فقال له اقرأ فلما اتى اية الرجم وضع كفه عليها وقرا ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله قد جاوزها وقام فرفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى اليهود بان المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما وان كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما فى بطنها فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضب اليهود لذلك وانصرفوا فانزل الله تعالى هذه الآية لِيَحْكُمَ الكتاب أسند الحكم إلى الكتاب لكونه سببا للحكم أو ليحكم النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ على وفق الكتاب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون وفيه استبعاد لتوليتهم مع علمهم بانه الحق من ربهم وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) أى هم قوم عادتهم الاعراض عن الحق والجملة حال من فريق وهى نكرة مخصصة بالصفة وقال قتادة معناه ان اليهود دعوا إلى حكم كتاب الله يعنى القرآن فاعرضوا عنه وروى الضحاك عن ابن عباس فى هذه الآية ان الله تعالى جعل القرآن حكما فيما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن على اليهود والنصارى انهم على غير الهدى فاعرضوا عنه.(1/892)
ذلِكَ التولي عن كتاب الله بعد العلم به والاعراض عن الحق بِأَنَّهُمْ أى بسبب تسهيل امر العقاب على أنفسهم باعتقاد فاسد وهو انهم قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أربعين يوما عدد ايام عبادة ابائهم العجل كما مر فى سورة البقرة وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) أى هذا القول أو ان آباءهم الأنبياء يشفعون لهم أو ان يعقوب وعده الله تعالى ان لا يعذب أولاده.
فَكَيْفَ خبر لمبتدا محذوف يعنى فكيف حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أى جزاء ما عملت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 29 الضمير لكل نظرا إلى المعنى فان معناه كل انسان لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم - أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة قال ذكر لنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سال ربه ان يجعل ملك فارس والروم فى أمته وقال البغوي قال ابن عباس وانس بن مالك رضى الله عنهم انه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وعدامته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود هيهات هيهات من اين لمحمد ملك فارس والروم هم اعزوا منع من ذلك الم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع فى ملك فارس والروم فانزل الله تعالى على اختلاف الروايتين.(1/893)
قُلِ اللَّهُمَّ إلى آخره ويمكن الجمع بينهما - وذكر البيضاوي انه روى انه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون فظهر فيه صخرة عظيمة لم يعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء واحذ المعول منه فضربها ضربة صدعتها وبرق برقا أضاء ما بين لابتيها لكانّ مصباحا فى جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون فقال أضاءت لى منها قصور حيرة كانّها أنياب الكلاب - ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لى منها القصور الحمر من ارض الروم - ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لى قصور صنعاء وأخبرني جبرئيل ان أمتي ظاهرة على كلها فابشروا - فقال المنافقون الا تعجبون يمنّيكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة من ارض فارس وانها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الفرق فنزلت هذه الآية - وقد ذكر البيهقي وأبو نعيم فى الدلائل هذه القصة من غير ذكر نزول الآية - بالتحريك الخوف - نهايه منه رح وذكر ابن خزيمة عن قتادة مختصرا وفيه ذكر نزول الآية قوله تعالى قُلِ يا محمد والمقولة بعد ذلك اللَّهُمَّ أصله يا الله حذف حرف النداء وزيدت الميم عوضا عنه ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص هذا الاسم الرفيع كدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه - وقيل أصله يا الله امّنا بخير أى اقصدنا فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته فبقى اللّهم وربما خففوا فقالوا لا هم وكل ذلك لكثرة الاستعمال نظيره هلم إلينا كان أصله هل امّ إلينا أى هل قصد إلينا - وإذا قيل اللهم اغفر لى فقوله اغفر لى بيان لامّنا بخير وكذا فى قوله اللهم العن رعلا وذكوان فان لعن الأعداء يصلح بيانا لامّنا بخير مالِكَ الْمُلْكِ صفة للمنادى وقيل نداء بعد نداء حذف منه أيضا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 30(1/894)
حرف النداء تقديره يا مالك الملك ولا يجوز جعله صفة للمنادى لان المنادى الأول مكفوف كصوت بلحوق كلمة هو ومثله لا يوصف كذا قال سيبويه ونقض بسيبويه النحوي ودفع بان الصوت هنا لم يبق على معناه بجعله جزءا للكلمة بخلاف ما نحن فيه - والملك مصدر يشتق منه الملك والمراد به المفعول أريد به عالم الإمكان واللام للاستغراق فان الله تعالى خالقه ومالكه يتصرف فيه كيف يشاء ويهب منه ما يشاء لمن يشاء لا يجوز لاحد ان يتصرف فى شىء من الأشياء الا باذنه وتمليكه تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ واللام فى اللفظين للعهد الذهني والمعنى تعطى من الملك ما تشاء من تشاء وتسترد كذلك - عدل من الضمير إلى الظاهر وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فى الدنيا أو فى الاخرة أو فيهما بالنصر والأدبار والتوفيق والخذلان فى الدنيا والثواب والعذاب فى الاخرة بِيَدِكَ الْخَيْرُ قيل تقديره بيدك الخير والشر فاكتفى بذكر أحدهما كما فى قوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ أى الحر والبرد وقيل خص ذكر الخير لسياق الكلام فيه حيث وعد النبي صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم وقيل ذكر الخير وحده لأنه المقضى بالذات والشر مقضى بالعرض إذ لا يوجد شر جزئى ما لم يتضمن خيرا كليا أو لمراعات الأدب فى الخطاب - قلت لعل المراد بالخير الوجود فالوجود الحقيقي الذي لاحظّ له من العدم مختص بالواجب لذاته خير محض ليس فيه شائبة من الشر - والوجود الظلي الذي به تحقق الممكن فى الخارج الظلي مستفاد من الواجب - والعدم الذي هو حصة من الشر فى الممكن ذاتى له غير مستفاد من العلة - ومعنى اسناد الشر إلى الله تعالى ان الممكن الذي الشر داخل فى مفهومه وبعض افراده اكثر شرا من البعض وحصة الوجود منه مستند إلى الوجود الحق واما حصة الشر منه فذاتى له فما اصدق قوله تعالى بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى(1/895)
كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) ولا يقدر أحد غيرك على شىء أصلا وقدرة العباد انما هى قدرة متوهمة بها يسمى العبد كاسبا واللّه خلقهم وما يعملون - قال البيضاوي نبه بهذه الجملة على ان الشر أيضا بيده - قلنا نعم لكن معنى كونه تعالى قادرا على الشر وكون الشر بيده انه تعالى قادر على عدم افاضة الخير فان القدرة معناه ان شاء فعل وان شاء لم يفعل وإذا
لم يفعل الخير بقي الممكن على الشر الأصلي - .
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى تدخل أحدهما فى الاخر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 31(1/896)
بالتعقيب أو الزيادة فى أحدهما بالنقصان فى الاخر وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ قرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب وخلف - أبو محمد عفا عنه وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم الميّت بتشديد الياء هاهنا وفى الانعام ويونس والروم وفى الأعراف لبلد ميّت وفى الفاطر إلى بلد ميت - وزاد نافع أو من كان ميّتا فاحييناه - ولحم أخيه ميّتا - والأرض الميّتة أحييناها - والباقون يخففون الجميع ويعقوب الحىّ من الميت ولحم أخيه ميتا - قيل معناه يخرج الحيوان من النطفة والبيضة ويخرج النطفة والبيضة من الحيوان والنبات الطري من الحب اليابس والحب اليابس من النبات كذا قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وعكرمة والكلبي والزجاج وقال الحسن وعطاء يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر قال الله تعالى أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ الآية كذا أخرجه ابن أبى حاتم عن عمر بن الخطاب وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) أى من غير تضييق وتقتير بحيث لا يعرف الخلق عدده ومقداره وان كان معلوما عند الله عقب الله سبحانه هذه الجمل الخمس ليستدل بها على قدرة الله على إيتاء الملك من يشاء ونزعه ممن يشاء روى البغوي بسنده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن على عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فاتحة الكتاب واية الكرسي وايتين من ال عمران شهد اللّه إلى قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وقُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ مشفعات ما بينهن وبين الله عز وجل حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك والى من يعصيك قال الله عز وجل بي حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادى دبر كل صلوة الا جعلت الجنة مأواه على ما كان فيه والا أسكنته فى حظيرة القدس والا نظرت إليه يعنى كل يوم سبعين مرة وأقضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها(1/897)
المغفرة والا أعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليه واخرج الطبراني عن معاذ ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له الا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك الدين مثل ثبير اداه الله عنك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلى قوله بِغَيْرِ حِسابٍ رحمن الدنيا والاخرة ورحيمهما نعطى من تشاء منهما وتمنع من تشاء ارحمني رحمة تغننى بها عن رحمة من سواك - والله اعلم - أخرج ابن جرير من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال كان الحجاج بن عمرو حليفا لعمرو بن الأشرف وابن أبى الحقيق وقيس بن زيد قد بطنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 32
فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعيد بن خيثمة لاولئك النفر اجتنبوا هؤلاء اليهود لا يفتنونكم عن دينكم فابى أولئك النفر الا مباطنهم فانزل الله تعالى.(1/898)
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ نهوا عن موالاتهم بقرابة أو صداقة ونحو ذلك أو عن الاستعانة بهم فى الغزو وسائر الأمور الدينية مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فيه اشارة إلى ان ولايتهم لا يجتمع ولاية المؤمنين لاجل منافاة بين ولاية المتعادين ففى ولاية الكفار قبح بالذات وقبح بالعرض بالحرمان عن ولاية المؤمنين - وذكر البغوي قول مقاتل انها نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة وذكر قول الكلبي عن أبى صالح انها نزلت فى المنافقين عبد الله بن أبى وأصحابه كانوا يتولون المشركين واليهود ويأتونهم بالأخبار يرجون ان يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية ونهى المؤمنين عن فعل مثل فعلهم - (فصل) الحب فى الله والبغض فى الله باب عظيم من أبواب الايمان عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المرء مع من أحب متفق عليه وعن انس مرفوعا نحوه بلفظ أنت مع من أحببت متفق عليه وعن أبى موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الجليس الصالح والسوء « 1 » كحامل المسك ونافح الكير » (1/899)
فحامل المسك اما ان يحذيك أى يعطيك - نهايه منه واما ان تبتاع منه واما ان تجد منه ريحا طيبة ونافح الكير اما ان يحرق ثيابك واما ان تجد منه ريحا خبيثة متفق عليه وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابى ذر يا أبا ذر اىّ عرى الايمان أوثق قال الله ورسوله اعلم قال الموالاة فى الله والحب فى الله والبغض فى الله رواه البيهقي فى الشعب وعن أبى ذر قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ان أحب الأعمال إلى الله تعالى الحب فى الله والبغض فى الله رواه احمد وأبو داود وفى الباب أحاديث كثيرة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أى اتخاذهم اولياء فَلَيْسَ الضمير المرفوع عائد إلى من يفعل مِنَ اللَّهِ حال من شىء قدم عليه لتنكيره فِي شَيْ ءٍ خبر ليس والتنكير للتحقير يعنى ليس هو كائنا فى شىء حقير من ولاية الله أو من دين الله يعنى كما ان ولاية الكفار لا يجتمع ولاية المؤمنين كذلك لا يجتمع ولاية الله أيضا - ولو قال
_________
(1)
مثنوى - دور شو از اختلاط يار بد يار بد بدتر بود از مار بد
مار بد تنها همين بر جان زند يار بد بر جان وبر ايمان زند
- منه رح
(2) ضارب كير الحداد الذي يجعل من الطين - منه رح [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 33(1/900)
من دون الله والمؤمنين لافاد ذلك الفائدة مع الاختصار لكن المقصود كمال المبالغة فى البعد عن ولاية الله إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا استثناء مفرغ منصوب على الظرفية وهو من حيث المعنى متعلق بكلا الجملتين السابقتين ومن حيث اللفظ بإحداهما مقدرا للاخرى كما هو داب التنازع يعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا منهم ومن يفعل ذلك ليس هو من اولياء الله فى شىء من الأوقات الا وقت الاتقاء - والاتقاء افتعال من الوقاية يعنى وقاية نفسه من شرهم ويلزمه الخوف ولاجل ذلك قيل معناه الا ان تخافوا مِنْهُمْ تُقاةً كذا قرأ الجمهور وقرا مجاهد ويعقوب تقيّة على وزن فعيلة وعلى التقديرين مصدر من غير باب الفعل يقال توقيته تقاة وتقى وتقية وتقوى وإذا قلت اتقيت كان مصدره اتقاء ثم المصدر جاز ان يكون بمعناه ويكون منصوبا على المصدرية والمعنى لا يجوز موالاة الكفار فى شىء من الأوقات الا وقت ان تتقوا أنفسكم منهم أى من شرهم تقاة وجاز ان يكون بمعنى المفعول فالمعنى الا وقت ان تخافوا من جهتهم ما يجب اتقاؤه ومقتضى الاستثناء اباحة موالاتهم وقت الخوف من شرهم - ولا شك ان الضروري يتقدر بقدر الضرورة فلا يجوز حينئذ الا اظهار الموالاة دون ابطانها ولا يجوز حينئذ ان يستحل دما حراما أو مالا حراما أو ارتكاب معصية أو يظهر الكفار على عورات المسلمين أو يطلعهم على اسرار المؤمنين - وأنكر قوم التقية بعد ظهور الإسلام قال معاذ بن جبل كانت التقية فى جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة الإسلام فاما اليوم فليس ينبغى لاهل الإسلام ان يتقوا من عدوهم - ثم بالغ سبحانه فى المنع عن ولاية الكفار وزاد على نفى ولاية المؤمنين ونفى ولاية الله عمن تولى بالكفار بالوعيد فقال وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أى يخوفكم سخطه وعقابه فى موالاة الكفار وذكر النفس ليعلم ان المحذر منه عقاب يصدر منه تعالى فلا يبالى بما يخاف(1/901)
أحدكم من الكفار فهذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهي فى القبح وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) أى مصيركم إليه تعالى لا تقوتونه وهذا وعيد اخر.
قُلْ يا محمد إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أى قلوبكم من مودة الكفار وغيرها أَوْ تُبْدُوهُ قولا أو فعلا يَعْلَمْهُ اللَّهُ لا يخفى عليه شىء والغرض من الكلام تسوية المبدى والمخفي بالنسبة إلى علم الله تعالى والا فالعلم بالمخفي يقتصى العلم بالمبدى بالطريق الاولى فلا حاجة إلى ذكره أو تبدوه وَيَعْلَمُ ما فِي
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 34
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
(39) جملة يعلم استيناف غير معطوف على جزاء الشرط وهو فى مقام التعليل لما سبق يعنى إذا لم يخف عليه شىء فكيف تخفى عليه ضمائركم واقتصر فى الذكر على علم ما فى السموات وما فى الأرض لانحصار نظر العوام عليهما والمقصود احاطة علمه تعالى بكل موجود فان وجود كل شىء مستفاد منه فكيف يخفى عليه شىء وفى ذكر احاطة علمه تعالى بكل شىء وقدرته على كل شىء بيان لقوله تعالى ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بالعلم الشامل والقدرة الكاملة فلا يجوز التجاسر على عصيانه عند العقل - وجاز ان يكون المراد انه تعالى لا يخفى عليه شىء يمكن به تعذيبكم فى الدنيا والاخرة وهو على كل شىء قدير فيعذبكم باىّ شىء يريد فى الدنيا أو فى الاخرة أو فيهما ولا شك ان موالاة الكفار والمداهنة فى الدين يستلزم التعذيب فى الدنيا أيضا بضرب المذلة وسلب السلطنة والله اعلم - .(1/902)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً الظرف اعنى يوم متعلق بتود وما موصولة ليست بشرطية لاجماع القراء على رفع تود ولو كانت شرطية لذهب بعضهم إلى جزمه بناء على جواز الرفع والجزم إذا كان الشرط ماضيا مع ان المروي عن المبرّد ان الرفع شاذ يعنى إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا والموصول مع صلته مفعول لتجدو هى بمعنى تصيب فلا يقتضى الا مفعولا واحدا ومحضرا حال منه وما عملت من سوء معطوف على ما عملت من خير - ولعل المراد حينئذ بكل نفس هاهنا نفس مؤمنة خلطت عملا صالحا واخر سيّئا - واما من ليس له الا عمل صالح أو الا عمل سىء فيظهر حاله بالمقايسة والمفهوم - فالله سبحانه برأفته بحضر للمؤمن عمله الصالح على رءوس الخلائق دون عمله السوء بل تجده فى نفسه وتود ان لا يظهره الله أو يظهره الله على الإخفاء والتستر كما فى الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستر فيقول أ تعرف ذنب كذا أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم أى رب حتى قدره بذنوبه وراى فى نفسه انه قد أهلك قال سترتها عليك فى الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته واما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - وان كان تجد بمعنى تعلم فحينئذ محضرا يكون مفعولا ثانيا له محمولا على ما عملت من خير
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 35(1/903)
و فيما عطف عليه يقدر مثله كما فى قوله علمت زيدا فاضلا وعمروا يعنى تجد الخير والشر محضرين وكلمة لو مقحمة وان مع اسمها وخبرها مفعول لتودا وهى بمعنى ليت حكاية لودادهم وان مع اسمها وخبرها بمنزلة الاسم مع الخبر لليت وحذف مفعول تود لما يدل عليه ما بعده - وجاز ان يكون لو مصدرية وبعدها فعل مقدر فاعلها ان مع اسمها وخبرها وذلك الفعل بتأويل المصدر مفعول لتود وضمير بينه راجع إلى اليوم أو إلى ما عملت من سوء تقدير الكلام حين تصيب كل نفس عملها الخير أى صحيفة عملها أو جزاءه حال كونه محضرا وتصيب عملها الشر أو تعلم جزاء خيرها وشرها محضرين عندها تود أى تتمنى مسافة بعيدة بينها وبين ذلك اليوم وهو له لما يرى من عملها السوء وان كان ذلك مع ما يرى من صالح عمله فان طمع النفع لا يصير مطمح نظره عند خوف الضرر أو بينها وبين عملها السوء أو يتمنى ثبوت مسافة بينها وبينه - والأمد الاجل والغاية التي ينتهى إليها - قال الحسن يسر أحدهم ان لا يلقى عمله السوء ابدا وقيل يود انه لم يعمله وجاز ان يكون يوم متعلقا بقدير ووجه تخصيص القدرة باليوم مع شموله لجميع الازمنة وقوع الثواب أو العذاب فى ذلك اليوم والمعنى والله بكل شىء من ثوابكم وعذابكم قدير يوم تجد - وجاز ان يكون يوم منصوبا بمضمر فيقدر اذكر - والاولى ان يقدر يحذركم الله يوم تجد فلا يكون فى عطف ويحذركم خفاء وعلى هذه الوجوه تود حال مقدرة من الضمير فى عملت من سوء يعنى تجد ما عملت من سوء مقدرا حين ما عملت ذلك الوداد يوم القيامة - وجاز ان يكون تود خبرا لما عملت من سوء ويكون الواو فى وما عملت من سوء للاستيناف وتمت الجملة الاولى على ما عملت من خير وجاز ان يكون الواو للعطف وتود بمنزلة المفعول الثاني لتجد محمولا على ما عملت من سوء أى تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء هائلا بحيث تودّ انّ بينها وبينه أمدا بعيدا - عن عدى بن حاتم قال(1/904)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حجاب يحجبه فينظر ايمن منه فلا يرى الا ما قدم من عمله وينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى الا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ جملة مستانفة للتحذير عن ترك الواجبات وإتيان السيئات كما ان ما سبق كان للتحذير عن موالاة الكفار فلا تكرار - و
جاز ان يكون معطوفة على تود أى يهاب من هذه اليوم أو من عمله السوء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 36
وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بإظهار قهاريته يوم تجد - ولو كان الظرف متعلقا با ذكر جاز ان يكون هذه الجملة معطوفة على تجد أى اذكر يَوْمَ تَجِدُ ويوم يحذّركم اللّه بإظهار قهاريته وهذه الجملة لبيان المعاملة مع الكفار وقوله تعالى وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) أى بعباده المؤمنين لبيان المعاملة مع المسلمين وجاز على التأويل الأول ان يكون هذه الجملة فى مقام التعليل للجملة الاولى يعنى انما يحذّركم اللّه نفسه لأنه رؤف بالعباد يريد إصلاحهم - أخرج ابن جرير وابن المنذر عن الحسن مرسلا قال قال أقوام على عهد نبيّنا صلى الله عليه وسلم والله يا محمد انا لنحب ربنا فانزل الله تعالى.(1/905)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية - وروى ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير انها نزلت فى وفد نجران لمّا قالوا انما نعبد المسيح حبّا لله وقال البغوي نزلت فى اليهود والنصارى حيث قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقال الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم فى المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا فى آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال والله يا معشر قريش والله لقد خالفتم ملة أبيكم ابراهيم وإسماعيل فقال قريش انما نعبدها حبّا لله لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى فقال الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الحب بضم الحاء وكسره وكذا الحباب بهما والمحبة مصادر من أحبه يحبه فهو محبوب على غير قياس ومحبّ قليل وحببته أحبه حبا من ضرب يضرب شاذ - وهو عبارة عن اشتغال قلب المحب بالمحبوب وأنسه به بحيث يمنعه عن الالتفات إلى غيره ولا يكون له بد من دوام التوجه إليه والاشتغال به وهذا هو المعنى من قولهم العشق نار فى القلوب تحرق ما سوى المحبوب - يعنى يقطع عن قلبه التوجه إلى غير المحبوب فيجعله نسيا منسيا كان لم يكن فى الوجود غير محبوبه حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فلا يرى نفسه كما لا يرى غيره ومقتضى تلك الصفة ابتغاء مرضات المحبوب وكراهة ما يكرهه طبعا وبالذات بلا ملاحظة طمع فى ثوابه أو خوف من عقابه وان اجتمع مع ذلك طمع وخوف أيضا - هذا تعريف المحبة من العبد واما محبة الله تعالى لعبده فالله سبحانه منزه عن القلب واشتغاله ولا يمنعه شأن عن شأن فهى فى حقه تعالى عبارة عن الانس الساذج المقتضى لجذب العبد إلى جنابه وعدم إهماله وتركه إلى غيره -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 37(1/906)
و جذب الله العبد إلى جنابه سبب للمحبة من العبد لله تعالى فمحبة العبد لله تعالى فرع لمحبة الله تعالى إياه وظل لها قال الله تعالى وألقيت عليك محبّة منّى وقال يحبّهم ويحبّونه قدم يحبهم على يحبونه هذا ما ذكرت هو المحبة الذاتية وما ذكر البيضاوي ان المحبة ميل النفس إلى الشيء لكمال أدرك فيه بحيث يحمله على ما يقربه إليه فهو بيان للمحبة الصفاتية وهى بمراحل عن المحبة الذاتية الا ترى ان الام يحب ولدها بلا ملاحظة كمال فيه فذلك قريب من المحبة الذاتية وليست منها لان محبة الام تتفرع على علم انتساب الولد إليها واما محبة الله تعالى فهى اعزوا على من ذلك فقد ورد فى الصحيحين وغيرهما عن أبى هريرة وابن عباس وغيرهما مرفوعا بألفاظ مختلفة ان لله تبارك وتعالى مائة رحمة منها رحمة واحدة قسّمها بين الخلائق يتراحمون بها وادخر لاوليائه تسعة وتسعين - واما ما ذكر البغوي ان حب المؤمنين لله تعالى اتباعهم امره وإيثار طاعته وابتغاء مرضاته وحب الله المؤمنين ثناؤه عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم فليس هذا تعريفا للمحبة بل بيان لمقتضاه وما يدل عليه فَاتَّبِعُونِي الفاء للسببية وذلك لان المحبة سبب لابتغاء مرضات الله تعالى - والمرضى من غير المرضى لا يدرك بالرأى بل بتعليم الله تعالى بتوسط الرسل فثبت ان المحبة سبب لاتباع الرسل والاتباع دليل على وجودها وعدمه دليل على عدمها فمن ادعى المحبة مع مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كذاب يكذبه كتاب الله تعالى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب للامر تقديره ان تتبعونى يحببكم الله - فان قيل مقتضى هذه الآية ان محبة الله تعالى العبد يتفرع على اتباع الرسول المتفرع على محبة من العبد لله تعالى المسبوق بمحبة من الله للعبد فيلزم الدور - قلنا هذه محبة اخرى من الله تعالى سوى المحبة السابقة فمحبة العبد لله تعالى محفوف بمحبتين من الله سبحانه سابق ولاحق فالمحبة السابقة ما(1/907)
ذكرناه سابقا والمحبة اللاحقة هى التي تقتضى الرحمة والتفضل الكامل الذي ورد فى الحديث ان جزءا واحدا منها أى من الرحمة قسمها الله بين الخلائق وادخر لاوليائه تسعة وتسعين - ولاقتضاء تلك المحبة اللاحقة من الله تعالى المغفرة والرحمة عطف عليه قوله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قال البغوي لما نزلت هذه الآية قال عبد الله بن أبى لاصحابه ان محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا ان نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم فنزل.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 38
وَ الرَّسُولَ
يعنى ان إطاعة الله والرسول واحد فان إطاعة الرسول من حيث هو رسول الله انما هى إطاعة الله تعالى لا غير ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل أمتي يدخلون الجنة الا من أبى قالوا ومن يأبى يا رسول الله قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى متفق عليه من حديث أبى هريرة حيث جعل دخول الجنة فرع اطاعته - وقال عليه السلام من أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ومحمد فرق بين الناس رواه البخاري فى حديث طويل عن جابر فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل ان يكون ماضيا وان يكون مضارعا بحذف أحد التاءين أصله فان تتولوا أى تعرضوا عن إطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) وضع المظهر موضع الضمير ولم يقل لا يحبهم لقصد العموم والدلالة على ان التولي كفر والكفر ينفى المحبة وان المحبة مخصوصة بالمؤمنين وجاز ان يكون جزاء الشرط محذوفا وقوله تعالى فانّ اللّه لا يحبّ الكفرين مسبب له دليل عليه أقيم مقامه تقديره فان تولّوا فانّ اللّه لا يحبهم لأنه لا يحبّ الكفرين والجملة الشرطية تدل على ان التولي عن الاطاعة دليل على عدم محبة الله تعالى إياه - ومحبة العبد محفوف بالمحبتين من الله سابق ولا حق والله اعلم.(1/908)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى افتعال من الصفوة وهى الخالص من كل شىء يعنى اختار لنفسه ولمحبته ورسالته آدَمَ أبا البشر عليه السلام حتى اسجد له ملائكته واسكنه فى جنته واخرج من ذريته الأنبياء كلهم وهو أول النبيين المصطفين وَنُوحاً حين اختلف الناس وصاروا كفارا بعد ما كانوا على شريعة الحق ودين آدم عليه السلام فاختاره الله تعالى على من سواه وأهلك الكفار كلهم بدعائه وجعل ذريته هم الباقين وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ قيل أراد بال ابراهيم وال عمران أنفسهما كما فى قوله تعالى وبقيّة ممّا ترك ال موسى وال هرون يعنى موسى وهارون - وقال آخرون أراد بال ابراهيم إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وسائر أنبياء بنى إسرائيل ومحمدا صلى الله عليه وسلم - واما عمران فقال مقاتل هو عمران بن يصهر بن قاهت بن لاوى بن يعقوب والد موسى وهارون وقيل عمران بن ماثان من أولاد سليمان بن داود عليهما السلام والد مريم أم عيسى وقال الحسن ووهب كذلك لكنهما قالا أبو مريم عمران بن أشهم بن امون من أولاد سليمان بن داود وبين عمرانين الف وثمانون سنة وقيل الف وثمان مائة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 39(1/909)
سنة والظاهر ان المراد بال عمران هاهنا عمران أبو مريم لدلالة سياق الكلام عليه فان قوله تعالى إذ قالت امراة عمرن واقع فى مقام البيان لما سبق من الاصطفاء - وانما خص هؤلاء بالذكر لان الأنبياء والرسل كانوا كلهم أو أكثرهم من نسلهم عَلَى الْعالَمِينَ (33) ان كان ما ذكر شاملا لنبينا صلى الله عليه وسلم وابراهيم عليه السلام كما هو شامل لموسى وعيسى فاصطفاؤهم على العالمين أجمعين ظاهر وبه يستدل على افضلية خواص البشر على خواص الملائكة والا فالمراد بالعالمين عالمى زمانهم - قال البغوي قال ابن عباس رضى الله عنهما قالت اليهود نحن أبناء ابراهيم وإسحاق ويعقوب ونحن على دينهم فانزل الله تعالى هذه الآية يعنى ان الله اصطفى هؤلاء بالإسلام وأنتم على غير دين الإسلام وقال البيضاوي لما أوجب طاعة الرسل وبين انها الجالبة لمحبة الله عقب ذلك بيان مناقبهم تحريضا عليها وقال بعض الأفاضل لما أمرهم بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم وجعل متابعته سببا لمحبة الله وعدم اطاعته سببا لسخطه وسلب محبته أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم ورفعهم وتذليل أعدائهم واعدامهم تخويفا للمتمردين عن متابعته - فذكر اصطفاء آدم على من عداه حتى جعله مسجودا للملائكة ولعن عدوه إبليس واصطفاء نوح على أعدائه كفار أهل الأرض أجمعين حتى اهلكهم بالطوفان وجعل ذرّيّته هم الباقين واصطفاء ال ابراهيم على العالمين مع ان العالم كانوا كلهم كافرين فى زمن ابراهيم حتى جعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم واصطفاء موسى وهارون حتى القى السحرة ساجدين وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم أحد مع كثرتهم قلت وجعل متابعى عيسى عليه السلام بعد رفعه إلى السماء مع كونهم مغلوبين بالكلية غالبين إلى يوم القيامة حيث قال وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ولذا خص آدم ونوحا و(1/910)
الآلين ولم يذكر ابراهيم ونبينا سيد المرسلين إذ ابراهيم لم يغلب على العالم بالكلية وهذا الكلام لبيان ان نبينا صلى الله عليه وسلم سيغلب والله اعلم.
ذُرِّيَّةً فعّيلة من الذر وهى صغار النمل والياء للنسبة ووجه ذلك انهم استخرجوا من صلب آدم كالذر أو فعولة من الذرء بمعنى الخلق أبدلت همزتها ياء ثم قلبت الواو ياء وكسرت ما قبلها وأدغمت فى الياء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 40
و يسمى الأولاد والآباء ذرية فالاولاد ذرية لأنه ذراهم والآباء ذرية لأنه ذرا الأبناء منهم قال الله تعالى واية لهم انّا حملنا « 1 » ذرّيّتهم فى الفلك المشحون أى آباءهم - ويقع على الواحد والجمع منصوب على الحالية أو البدلية من الآلين أو منهما ومن نوح بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ مبتدا وخبر فى موضع النصب صفة لذرية يعنى اصطفى نوحا والآلين حال كونهما خلقة مستخرجة كالذر بعضها كائنة من نسل بعض أو بعضها من شيعة بعض فى التناصر واتحاد الدين كما فى قوله وانّ من شيعته لابرهيم ولو اعتبر فى الذرية معنى الاشتقاق وقد اعتمد على ذى الحال فلا يبعد ان يقال ان بعضها فاعل له ومن بعض متعلق به يعنى خلقة مخلوقة أو مستخرجة بعضها من بعض - وجاز ان يكون معنى بعضها من بعض ان عادة الله تعالى اصطفاء واحد « 2 » من قوم فلا ينبغى ان يستبعد قريش اصطفاء النبي صلى الله عليه وسلم حال كونه واحدا منهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اقوال الناس باستبعاد اصطفاء بعضهم من بعض عَلِيمٌ (34) يعلم من يصلح للاصطفاء - أو سميع بقول امراة عمران عليم بنيتها - .(1/911)
إِذْ قالَتِ إذ متعلق بعليم أو منصوب بإضمار اذكر امْرَأَتُ عِمْرانَ ابن ماثان أو ابن أشهم وكان بنو ماثان رءوس بنى إسرائيل وأحبارهم وملوكهم واسم امرأة عمران حنّة بنت قاقودا وهى كانت عقيمة وقد أسنت فبينا هى فى ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا فتحركت لذلك نفسها للولد وكانت من أهل بيت كانوا من الله بمكان فدعت الله ان يهب لها ولدا فحملت بمريم كذا أخرج ابن جرير عن ابن إسحاق وعن عكرمة نحوه رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحالية أى معتقا لخدمة بيت المقدس لا اشغله بشىء من الدنيا خالصا مفرغا لعبادة الله تعالى - وكان هذا النذر مشروعا فى دينهم فى الغلمان أخرجه ابن جرير عن قتادة والربيع كان إذا حرّر غلام جعل فى الكنيسة يكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ثم يخير ان أحب اقام فيه وان أحب ذهب حيث شاء - ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء الا ومن نسله محرّر لبيت المقدس ولم يكن يحرر الا الغلمان فلعل حنة بنت الأمر على التقدير أو طلبت ذكرا فَتَقَبَّلْ مِنِّي فتح الياء نافع وأبو جعفر - أبو محمد وأبو عمرو وأسكنها الباقون يعنى تقبل منى ما نذرته إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لقولى الْعَلِيمُ (35) بنيتي فقال لها زوجها ويحك ما صنعت ا رايت
_________
(1) فى الأصل جعلنا لعله من سباق قلم أو من الناسخ
(2) فى الأصل واحدا - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 41
ان كان ما فى بطنك أنثى لا يصلح لذلك فوقعا من ذلك فى هم فهلك عمران وحنة حامل بمريم.(1/912)
فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير لما فى بطنها وتأنيثه لأنه كان فى الواقع أنثى أو على تأويل النفس أو الحبلة قالَتْ تحسرا وقد كانت ترجوا غلاما رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى أو قالت اعتذارا إلى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ قرأ ابن عامر وأبو بكر ويعقوب بإسكان العين وضم التاء على التكلم على انه من كلام امراة عمران تسلية منها لنفسها أى لعل لله تعالى فيه سرا والأنثى كان خيرا والباقون بفتح العين واسكان التاء على الغيبة فهو استيناف من الله تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بشأنها وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى جاز ان يكون هذه الجملة من قولها اعتذارا إلى الله فى جعلها محررة لخدمة البيت يعنى ليس الذكر فى خدمة الكنيسة لقوته وصلاحيته كالانثى لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس فاللام فى الكلمتين للجنس - وجاز ان يكون من كلام الله تعالى أى ليس الذكر الذي طلبت كالانثى التي وهبت بل هى أفضل من الذكر واللام فيهما للعهد وهذا التأويل اولى من الاولى إذ لو كان على وجه الاعتذار لقالت وليست الأنثى كالذكر وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على ما قبلها من مقالتها وما بينهما اعتراض - ومعناه العابدة فى لغتهم قالت ذلك لان يجعلها الله تعالى كاسمها عابدة وفى تقديم المسند إليه اشارة إلى تخصيصها بالتسمية يعنى ليس لها اب فهى يتيمة وفيه استعطاف وَإِنِّي فتح الياء نافع وأسكنها الباقون أُعِيذُها أجيرها بِكَ وَذُرِّيَّتَها أولادها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (37) المطرود اصل الرجم الرمي بالحجارة عن أبى هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسه الا مريم وابنها متفق عليه يعنى ببركة هذه الاستعاذة - وعنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم يطعن الشيطان فى جنبيه بإصبعيه غير عيسى بن(1/913)
مريم ذهب يطعن فظعن فى الحجاب - قلت وقد صح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة حين زوجها عليا اللهم انّى أعيذها بك وذرّيّتها من الشّيطين الرجيم وكذا قال لعلى حينئذه رواه ابن حبان من حديث انس ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم اولى بالقبول من دعاء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 42
امراة عمران فارجو عصمتها وأولادها من الشيطان وعدم مسه إياهم - وحصر عدم المس فى مريم وابنها الثابت بالحديث على هذا يكون حصرا إضافيا بالنسبة إلى الأعم الأغلب - .(1/914)
فَتَقَبَّلَها بمعنى قبلها يعنى مريم من حنة مكان الذكر أو المعنى استقبلها أى أخذها فى أول أمرها حين ولدت كتعجل بمعنى استعجل رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ القبول هاهنا ليس بالمعنى المصدري والا يقال قبولا حسنا بل هو اسم لما يقبل به الشيء كالسعوة واللدود أى بوجه حسن يقبل به النذائر والقبول الحسن هو قبول المرادين أهل الاجتباء دون قبول المريدين أهل الهداية فان الله تعالى اصطفاها لنفسه وفضلها على نساء العالمين وطهرها من الذنوب ومن الحيض من غير سابقة عمل منها واجتهادها - وان كان القبول بالمعنى المصدري فتقديره بامر ذى قبول حسن وذلك الأمر هو الاختصاص وكون مبدا تعينها من مبادى نعينات أهل الاصطفاء وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مصدر من غير باب الفعل والمعنى أنبتها فنبتت نباتا حسنا فكانت تنبت فى اليوم كما ينبت المولود فى العام - أخرج ابن جرير عن عكرمة وقتادة والسدى ان حنة لما ولدت مريم لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم يومئذ يلون بيت المقدس ما تلى الحجبة من الكعبة فقالت دونكم هى النذيرة فتنافس فيها الأحبار لما كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فقال لهم زكريا انا أحقكم بها عندى خالتها وهى أشياع بنت قاقودا أم يحيى عليه السلام فابوا الا القرعة فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين رجلا إلى نهر جار قال السدى هو نهر الأردن فالقوا أقلامهم فى الماء على ان من ثبت قلمه فى الماء وصعد فهو اولى بها قيل كانوا يكتبون التورية فالقوا أقلامهم التي كانت بايديهم فارتز قلم زكريا فارتفع فوق الماء وانحدرت أقلامهم ورسبت فى النهر قاله محمد بن إسحاق وقال السدى وجماعة بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنَّه فى طين وجرت أقلامهم - وقيل جرى قلم زكريا مصعدا إلى أعلى الماء وجرى أقلامهم مع جرى الماء فذهب بها الماء - فسهمهم وقرعهم زكريا وكان رأس الأحبار ونبيهم وَكَفَّلَها قرا(1/915)
حمزة وخلف - أبو محمد والكسائي وعاصم بتشديد الفاء من باب التفعيل والفاعل هو الله تعالى لتقرره فى الأذهان أو الضمير المرفوع
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 43
مستتر فيها راجع إلى ربها والباقون بالتخفيف والفاعل زكريّاء بالمد عند الجمهور مرفوع لفظا وقرا حمزة وخلف - أبو محمد والكسائي وحفص عن عاصم بالقصر منصوب المحل بالمفعولية وأبو بكر عن عاصم بالمد منصوبا لفظا والمعنى على قراة الجمهور قام بامرها زكريا وعلى قراءة الكوفيين ضمها الله بالقرعة زكريا بن اذن بن مسلم بن صدون من أولاد سليمان بن داود عليهم السلام فبنى زكريا لها بيتا واسترضع لها - وقال محمد بن إسحاق ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبّت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا فى المسجد وجعل بابه فى وسطها لا يرقى إليها الا بالسلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كل يوم كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا بالمد والقصر كما مر فى سائر القرآن لم يعطف هذه الجملة لكونها مقررة لما قبلها اعنى تقبلها بقبول حسن أو لعدم الجامع باعتبار المسند أو المسند إليه - وكلما ظرف زمان فيه معنى الشرط منصوب بما وقع جوابه اعنى وجد الْمِحْرابَ أى الغرفة التي بنى لها والمحراب اشرف المجالس ومقدمها - ويقال أيضا للمسجد المحراب لأنه محل محاربة مع الشيطان - قال المبرد لا يكون المحراب الا ان يرتقى إليه بدرج أخرج ابن جرير عن الربيع بن انس قال كان إذ أخرج اغلق عليها سبعة أبواب فإذا دخل عليها غرفتها وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أى فاكهة فى غير حينها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف قالَ زكريا استبعادا يا مَرْيَمُ أَنَّى أى من اين وقيل من اىّ جهة لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أخرج ابن جرير عن ابن عباس ان رزقها كان ينزل من الجنة - وقال الحسن حين ولدت مريم لم تلقم ثديا قط وكان يأتيها رزقها من(1/916)
الجنة وقد تكلمت وهى صغيرة كعيسى إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا منه يحتمل ان يكون من كلامها أو من كلام الله تعالى - وهذه القصة دليل على كرامة الأولياء - وجعل ذلك معجزة لزكريا يدفعه اشتباه الأمر عليه حيث قال انى لك هذا أخرج أبو يعلى فى مسنده من حديث جابر ان فاطمة رضى الله عنها أهدت لرسول الله صلى الله
عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بهما إليها وقال هلمى يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملو بالخبز واللحم فقال أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فقال الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بنى إسرائيل ثم جمع عليا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 44
و الحسن والحسين وجميع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فاوسعت على جيرانها - .
هُنالِكَ أى فى ذلك المكان أو ذلك الوقت حين راى زكريا كرامة مريم وسعة رحمة اللّه وراى ان أهل بيته قد انقرضوا وليس له ولد يرثه العلم والنبوة وخاف مواليه أى بنى أعمامه ان يضيعوا الدين بعده دخل المحراب وغلق الأبواب ودَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ يا رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ أى من عندك وعلى خرق عادة جرت منك (حيث كانت امرأته عاقرا وهو كان شيخا كبيرا) كما تهب الرزق لمريم على خرق العادة ذُرِّيَّةً أى ولدا يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى طَيِّبَةً انّثها نظرا إلى لفظ الذرية يعنى صالحا معصوما طاهرا من الذنوب إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) أى مجيبه.(1/917)
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ قرأ حمزة وخلف - والكسائي فناديه بالألف والامالة على التذكير لان الفاعل اسم ظاهر مؤنث غير حقيقى والباقون بالتاء لتانيث لفظ الملائكة وكونها جمعا مكسرا - عن ابراهيم قال كان عبد الله يذكّر الملائكة فى القرآن - قال أبو عبيد اختار ذلك خلافا للمشركين فى قولهم الملائكة بنات اللّه وكان المنادى جبرئيل وحده أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود فوجه إيراد صيغة الجمع أى الملائكة قال المفضل بن سلمة إذا كان القائل رئيسا يجوز الاخبار عنه بالجمع لاجتماع أصحابه معه وكان جبرئيل رئيس الملائكة وقلما يبعث الا ومعه جمع فجرى على ذلك وقيل معنى نادته الملائكة أى من جنسهم كقولك زيد يركب الخيل وَهُوَ أى زكريا قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أى فى المسجد وذلك ان زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ويفتح باب المذبح فلا يدخل أحد حتى يأذن لهم فى الدخول - فبينا هو قائم يصلى فى المسجد عند المذبح والناس ينتظرون ان يأذن لهم فى الدخول إذا هو برجل شابّ عليه ثياب بيض ففزع منه وهو جبرئيل فناداه يا زكريا أَنَّ اللَّهَ قرأ حمزة وابن عامر انّ بكسر الهمزة على إضمار القول تقديره فنادته الملئكة فقالت انّ اللّه والباقون بالفتح أى نادته بان الله يُبَشِّرُكَ قرأ حمزة يبشرك بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين وكذا بابه بالتخفيف حيث وقع فى كل القرآن من بشر يبشر وهى لغة تهامة الا قوله فبم تبشّرون فانهم اتفقوا على تشديدها ووافقه الكسائي هاهنا فى موضعين وفى سبحان والكهف وعسق ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو فى عسق والباقون بضم الياء وفتح الباء وتشديد الشين من التفعيل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 45(1/918)
بِيَحْيى سمى به لان الله تعالى أحيا به عقرامه كذا قال ابن عباس وقال قتادة لان الله تعالى أحيا قلبه بالايمان والطاعة حتى لم يعص ولم بهم بمعصية مُصَدِّقاً حال مقدرة بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعنى بعيسى عليه السلام سمى به لان الله تعالى قال له كن من غيراب فكان فوقع عليه اسم الكلمة لأنه بها كان - وقيل سمى عيسى كلمة لأنه يهتدى به كما يهتدى بكلام الله - قالت الصوفية كان مبدا تعينه صفة الكلام وكان يحيى أول من أمن بعيسى وصدّقه وكان يحيى اكبر من عيسى بستة أشهر - وفى الصحيحين فى حديث المعراج انهما كانا ابني خالة وقد ذكر فيما سبق ان يحيى كان ابن خالة لمريم - وعلى تقدير صحة تلك الرواية فالقول بانهما كانا ابني خالة مبنى على التجوز كما قال عليه الصلاة لفاطمة اين ابن عمك يعنى عليا وهو ابن عم لابيها - وقد قتل يحيى قبل رفع عيسى إلى السماء - وقال أبو عبيدة أراد بكلمة من الله كتاب الله وآياته وَسَيِّداً يسود « 1 » قومه ويفوقهم فى العلم والعبادة والورع وجميع خصال الخير قال مجاهد الكريم على الله وقيل الحليم الذي لا يغضبه شىء وقال سفيان الذي لا يحسد وقيل هو القانع وقيل هو السخي وقال جنيد هو الذي جار بالكونين عوضا عن المكون وَحَصُوراً أصله من الحصر وهو الحبس والمنع فقيل كان لا يأتى النساء فقيل كان عنينا كما جاء فى الحديث قلت وان كان عنينا فليس المراد هاهنا كونه عنينا لأنه ليس بمدح والمقام مقام المدح فالاولى ان يقال انه كان منوعا حابسا نفسه عن اتباع الشهوات والملاهي - أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن عساكر عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من عبد لله يلقى الله الا أذنب الا يحيى بن زكريا فان الله يقول وسيّدا وحصورا قال وانما كان ذكره مثل هدبة الثوب وأشار بانمله - وقوله صلى الله عليه وسلم انما كان ذكره مثل هدبة الثوب ليس بيانا لكونه حصورا بل(1/919)
بيانه ما سبق اعنى كونه معصوما وهذا بيان للواقع وأخرجه ابن أبى شيبة واحمد فى الزهد وابن أبى حاتم من وجه اخر عن ابن عمر موقوفا وهو أقوى اسنادا من المرفوع - واخرج ابن أبى حاتم وابن عساكر عن أبى هريرة ان نبى الله صلى الله عليه وسلم قال كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه ان شاء يعذبه وان شاء يرحمه الا يحيى بن زكريا فانه كان سيّدا وحصورا
_________
(1) قال فى النهاية للجزرى السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم - وأصله من ساد يسود فهو سيؤد فقلبت الواو ياء لاجل الباء الساكنة قبلها فادغمت - منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 46
و نبيّا من الصّلحين ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فاخذها وقال كان ذكره مثل هذه القذاة - أخرج عبد الرزاق فى تفسيره عن قتادة موقوفا وابن عساكر فى تاريخه عن معاذ بن جبل مرفوعا ان يحيى عليه السلام مر فى صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقنا وَنَبِيًّا ناشيا مِنَ أصلاب الصَّالِحِينَ (39) يعنى النبيّين المعصومين أو كائنا من عداد من لم يأت صغيرة ولا كبيرة - .(1/920)
قالَ زكريا مناجيا إلى الله سبحانه من غير التفات إلى جبرئيل رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ صدر هذا القول منه بمقتضى الطبع استبعادا عن مقتضى العادة أو استعظاما وتعجبا كل ذلك بمقتضى الطبع فان مقتضى الطبع قد يغلب على مقتضى العقل والا فالعقل والعلم يحكمان بانه لا استبعاد فى قدرة الله تعالى ولا تعجب كما ان موسى عليه السلام اعترض على خضر بعد ما عهد منه وقال ستجدنى ان شاء اللّه صابرا ولا اعصى لك امرا - وقال عكرمة والسدى انه لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان فقال يا زكريا هذا الصوت ليس من الله انما هو من الشيطان ولو كان من الله لاوحاه إليك فقال ذلك دفعا للوسوسة وقال الحسن انه قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه يعنى باىّ وجه يكون لى غلام بان تجعلنى وامراتى شابين وتزيل عقمها أو تهب لى الولد من امراة اخرى أو تهبه إيانا مع كوننا على حالتنا الاولى وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ هذا مقلوب أى قد بلغت الكبر وشخت أو المعنى أدركني كبر السن وضعفنى وكان يومئذ ابن سنتين وتسعين سنة كذا قال الكلبي وقال الضحاك كان ابن عشرين ومائة سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة وَامْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد يستوى فيه المذكر والمؤنث قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (30) خبر مبتدا محذوف أى الأمر كذلك أى يولد لك مع كونك شيخا وامرأتك عاقرا أو خبر والمبتدا الله يعنى كذلك اللّه وبيانه يفعل ما يشاء من العجائب أو الله مبتدا والجملة بعده خبره وكذلك فى محل النصب على المصدرية يعنى اللّه يفعل ما يشاء فعلا كذلك الفعل أى مثل ما وعدناك وان كان على خلاف العادة أو على الحالية من ما يشاء.
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي فتح الياء نافع وأبو عمر وأبو جعفر - أبو محمد أسكنها الباقون آيَةً أى علامة اعلم بها وقت حمل امراتى فازيد فى العبادة شكرا لك قالَ آيَتُكَ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 47(1/921)
أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ
يعنى لا تقدر على التكلم مع الناس مع قدرتك على الذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً أى الا اشارة بنحو يد أو رأس وأصله التحريك والاستثناء منقطع وقيل متصل والمراد بالكلام ما دل على ما فى الضمير وقال عطاء أراد به صوم ثلاثة ايام لانهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا الا رمزا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً يعنى حين يظهر لك الآية شكرا وَسَبِّحْ أى صل بِالْعَشِيِّ أى من الزوال إلى ذهاب بعض الليل يعنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَالْإِبْكارِ (41) من صلوة الفجر إلى الضحى.(1/922)
وَ إِذْ قالَتِ عطف على إذ قالت امراة عمرن الْمَلائِكَةُ يعنى جبرئيل عليه السلام شفاها يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أى اختارك لنفسه بالتجليات الذاتية الدائمية التي عبرها الصوفية بكمالات النبوة وهى بالاصالة للانبياء عليهم السلام وبالتبعية والوراثة للصديقين وكانت هى صديقة قال الله تعالى وامّه صدّيقة وَطَهَّرَكِ عن الذنوب بالحفظ والمغفرة وعدم تطرق الشيطان إليها كما مر من حديث أبى هريرة برواية الشيخين وقيل طهرها من مسيس الرجال وقيل من الحيض وَاصْطَفاكِ أى فضلك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) أى عالمى زمانهم عن على قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة متفق عليه وفى رواية قال أبو كريب وأشار وكيع إلى السماء والأرض وعن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امراة فرعون رواه الترمذي وعن أبى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران وآسية امراة فرعون وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام متفق عليه - قلت لعل معنى قوله صلى الله عليه وسلم لم يكمل من النساء من الأمم السابقة الا مريم وآسية يدل عليه قوله عليه السلام وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام فان هذه الجملة تدل على فضل عائشة على مريم وآسية - وفى الصحيحين من حديث عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا فاطمة الا ترضين ان تكونى سيدة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 48(1/923)
نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد واخرج احمد والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال نزل ملك من السماء فاستأذن الله ان يسلم علىّ فبشرنى ان فاطمة سيدة نساء أهل الجنة فهذه الأحاديث تدل على ان فاطمة أفضل من مريم لان نساء أهل الجنة عام لا يحتمل التخصيص بزمان دون زمان بخلاف قوله تعالى اصطفيك على نساء العلمين فانه يحتمل ان يكون المراد منه عالمى زمانها كما قلنا لكن ورد فيما روى أبو يعلى وابن حبان والحاكم والطبراني عن أبى سعيد الخدري ان النبي صلى الله عليه وسلم قال فاطمة سيدة نساء أهل الجنة الا ما كان من مريم وروى الترمذي عن أم سلمة عن فاطمة قالت أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم انى سيدة نساء أهل الجنة الا مريم بنت عمران فهذين الحديثين يدلان على استثناء مريم من المفضولية ولا يدلان على كونها أفضل من فاطمة عليها السلام وما فى الصحيحين من حديث المسور بن مخرمة قوله صلى الله عليه وسلم فاطمة بضعة منى وعند احمد والترمذي والحاكم عن ابن الزبير نحوه يقتضى فضل فاطمة على جميع الرجال والنساء كما قال مالك لا نعدل ببضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا لكن عند جمهور أهل السنة خص منه من علم فضلهم قطعا من الأنبياء وبعض الصديقين وبقي من سواهم فى العموم والله اعلم.
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي أى أطيلي القيام فى الصلاة شكرا لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أى مع المصلين بالجماعة ولم يقل مع الراكعات لان النساء تتبع الرجال دون العكس فيكون أشمل - .(1/924)
ذلِكَ مبتدا أى ما ذكر من القصص مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أى اخباره خبره نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر وجاز ان يكون أحدهما خبرا والاخر حالا وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ للاقتراع تقرير لما سبق من كونه وحيا على سبيل التهكم لمنكريه لان اسباب العلم منحصرة فى الثلاثة العقل أو سماع الخبر أو الحس وكون القصص غير مدرك بالعقل بديهي وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم لكونه صلى الله عليه وسلم اميّا وكون الاخبار منقطعة فبقى ان يكون باحتمال العيان ولا يظن به عاقل فبيان القصص منه صلى الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 49
عليه وسلم على ما هو الواقع المعلوم عدل أهل العلم بالأخبار معجزة له صلى الله عليه وسلم ودليل قطعى على كونه نبيا وكون ما يتلو عليهم وحيا من الله تعالى والله اعلم أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ جملة استفهامية متعلقة بمحذوف دل عليه ما قبله أى يلقون أقلامهم يقولون ايّهم يكفل مريم أو ليعلموا ايّهم يكفل مريم وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (43) فى كفالتها - .(1/925)
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من إذ قالت الاولى وما بينهما معترضات ذكرت منة على النبي صلى الله عليه وسلم بالايحاء إليه وتنبيها للكفار على جهلهم وعنادهم يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ مبتدا والضمير فيه إلى الكلمة نظرا إلى المعنى فان معناه مذكر يعنى عيسى عليه السلام الْمَسِيحُ خبر لاسمه والجملة فى موضع صفة لكلمة قال فى القاموس المسيح ان يخلق اللّه الشيء مباركا أو ملعونا من الاضداد والمسيح عيسى صلى الله عليه وسلم سمى لبركته والدجال لشومه وملعونيته انتهى - وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وقيل سمى عيسى مسيحا لأنه مسح منه الاقذار وطهر من الذنوب وقال ابن عباس سمى عيسى مسيحا لأنه ما مسح ذا عاهة الا برئ وقيل سمى بذلك لأنه كان يسيح فى الأرض ولا يقيم فى المكان - فى القاموس المسيح الكثير السياحة وقال ابراهيم النخعي المسيح الصديق وهو عيسى والمسيح الكذاب وهو الدجال فهو من الاضداد كذا فى القاموس وفى الصحاح قال بعضهم المسيح هو الذي مسح احدى عينيه وقد روى ان الدجال لعنه الله ممسوح اليمنى وقيل فى عيسى ممسوح اليسرى ومعنى القولين ان الدجال قد مسحت وأزيلت عنه الخصال المحمودة من الايمان والعلم والعقل والحلم وسائر الأخلاق الحميدة وان عيسى قد مسحت وأزيلت عنه الخصال الذميمة بالكلية من الجهل والشرة والحرص والبخل وغير ذلك قال صاحب القاموس ذكرت ولاشتقاق لفظ المسيح خمسين قولا فى شرحى لمشارق الأنوار وغيره عِيسَى لفظ عبرانى قيل هو معرّب اليشوع بمعنى السيد خبر بعد خبر وجاز ان يكون خبر مبتدا محذوف أى هو عيسى وهذا علمه والمسيح لقبه والاسم أعم منهما ومن الكنية فانه عبارة عن كل ما يميز الشيء عما عداه ابْنُ مَرْيَمَ لما كانت صفة تميز له تميز الأسماء نظمت فى سلكها - ولم يقل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 50(1/926)
أسماؤه المسيح عيسى ابن مريم لان الاسم اسم جنس مضاف للاستغراق والاستغراق وان كان بمعنى كل فرد لكن يجوز حمل للمتعدد على مجموع يتضمنه الاستغراق بمعنى كل واحد نحو ما « 1 » من دابّة الّا امم أمثالكم وجاز ان يكون ابن مريم خبر مبتدا محذوف أى هو - ولا يجوز ان يكون ابن مريم صفة لعيسى فى التركيب لان اسمه عيسى فحسب وليس اسمه عيسى بن مريم وانما قال ابن مريم والخطاب لها تنبيها على انه يولد من غير اب إذ الأولاد ينسب إلى الآباء ولا ينسب إلى الام الا إذا فقد الأب والله اعلم وَجِيهاً حال مقدرة لكلمة وهى وان كانت نكرة لكنها موصوفة وتذكيره لتذكير المعنى أى شريفا رفيقا ذا جاه وقدر فِي الدُّنْيا بالنبوة وكونه مطاعا للخلائق وَالْآخِرَةِ بالشفاعة للامم وعلو درجته فى غرف الجنة وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) لله تعالى بالقرب الذاتي والتجليات الذاتية الدائمية عطف على وجيها.(1/927)
وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعنى رضيعا حال من الضمير المرفوع ليكلم وَكَهْلًا معطوف عليه يعنى يكلم الناس رضيعا وكهلا على نسق كلام الأنبياء بلا تفاوت من أول عمره إلى آخره - وفيه اشارة إلى انه يعمر ولا يموت حتى يكهل والى ان سنه لا يتجاوز الكهولة قال الحسن بن الفضل وكهلا يعنى بعد نزوله من السماء فانه رفع إلى السماء قبل سن الكهولة وقال مجاهد معناه حليما والعرب يمدح الكهولة لأنه الحالة الوسطى فى استحكام العقل وجودة الرأى والتجربة فان قبل ذلك يقل التجربة اولا يبلغ العقل إلى كماله وبعد ذلك يضعف العقل - وقوله ويكلّم النّاس عطف على ومن المقرّبين - وفى ذكر يكلّم النّاس فى المهد تسلية لمريم من خوف لوم الناس إياها على إتيانها بولد من غير زوج وَمِنَ الصَّالِحِينَ (47) جاز ان يكون معطوفا على كهلا - وان يكون معطوفا على يكلم الناس أى كائنا من الصالحين لا يتطرق إليه نوع من النقص والفساد فى الدين وذلك شأن الأنبياء فكانّ معناه ومن النبيين.
قالَتْ مريم رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ تعجب أو استبعاد عادى أو استفهام من ان يكون بتزوج أو غيره قالَ الله على لسان جبرئيل كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً أى قدّر ان يكون شىء فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) يعنى كما انه تعالى قادر على ان يخلق الأشياء بالتدريج
_________
(1) وفى القرآن وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 51
بأسباب عادى ومواد قادر ان يخلقها دفعة بلا اسباب.(1/928)
وَ يُعَلِّمُهُ قرأ نافع وأبو جعفر - أبو محمد وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة عطفا على يخلق أو على يبشرك والباقون بالنون على التكلم عطفا على ما ذكر على طريقة الالتفات - أو ابتدا تطييبا لقلبها وازاحة لهمها من خوف اللوم لما علمت انها تلد من غير زوج الْكِتابَ أى الكتابة والخط فكان احسن الناس خطا فى زمانه وقيل المراد به جنس الكتب المنزلة يعنى يعلمه علوم الكتب السماوية المنزلة وخص الكتابان لمزيد الاهتمام حيث كان الواجب عليه الاقتداء بهما فى فروع الأعمال واما فى اصول الدين فمقتضى الكتب كلها واحد وَالْحِكْمَةَ الفقه وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا منصوب بمضمر معطوف على يعلمه والتنوين للتعظيم تقديره ونجعله رسولا عظيما إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ 5 قيل كان رسولا فى حالة الصبا وقيل انما أرسل بعد البلوغ - وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه السلام وآخرهم عيسى عليه السلام أَنِّي منصوب بنزع الخافض متعلق برسولا أى رسولا بانى أو بالعطف على الأحوال المتقدمة متضمنا معنى النطق يعنى ناطقا بانى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ أى معجزة دالة على رسالتى وانما قال باية وقد جاء بايات لان الكل فى الدلالة على صدقة كايه واحدة مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون ظرفا مستقرا صفة لاية وان يكون ظرفا لغوا متعلقا بجئتكم أَنِّي فتح الياء نافع وأبو جعفر - أبو محمد وابن كثير وأبو عمرو وأسكنها الباقون وقرا نافع وأبو جعفر - أبو محمد بكسر الهمزة على الاستيناف والباقون بالفتح فيجوز نصبه على انه بدل من انّى قد جئتكم ويجوز جره على انه بدل من اية ويجوز رفعه على تقدير المبتدا أى هى انّى أَخْلُقُ اصور واقدر لَكُمْ مِنَ الطِّينِ صورة كَهَيْئَةِ الهيئة الصورة المهياة الطَّيْرِ قرأ أبو جعفر الطّائر هاهنا وفى المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ أى فى الطين أو الضمير راجع إلى الكاف فى كهيئة أى فى ذلك المماثل(1/929)
فَيَكُونُ طَيْراً قرأ الأكثرون بالجمع لأنه خلق طيرا كثيرا وقرا نافع ويعقوب وأبو جعفر طائرا على الافراد لان كل واحد منها كان طائرا - قال البغوي لم يخلق غير الخفاش وانما خص الخفاش لانها أكمل الطير خلقا لان لها ثديا وأسنانا وهى تحيض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز ما لصنع العبد فيه مدخل مما لا مدخل فيه بِإِذْنِ اللَّهِ أى بامره وقوله كن نبه به على ان إحياءه من الله تعالى لا منه وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الذي ولد
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 52(1/930)
أعمى أو الممسوح العين كذا قال ابن عباس وقال الحسن والسدى هو الأعمى وقال عكرمة هو الأعمش يعنى ضعيف البصر مع سيلان الدمع كثيرا وقال مجاهد هو الذي يبصر بالنهار دون الليل وَالْأَبْرَصَ الذي به وضح وهذان الداءان يعجز عنهما الأطباء وكان فى زمن عيسى الطب غالبا فاراهم المعجزة من جنس ذلك كما كان فى زمن موسى السحر غالبا فارى عجز كل سحار عليم وفى زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كان البلاغة فى الكلام فاعجزهم القرآن وقال فأتوا بسورة من مثله قال وهب بن منبه ربما اجتمع على عيسى من المرضى فى اليوم الواحد خمسون الفا من أطاق ان يبلغه بلغه ومن لم يطق مشى إليه عيسى وكان يدعو للمرضى والزمنى والعميان وغيرهم بهذا الدعاء اللهم أنت اله من فى السماء واله من فى الأرض لا اله فيهما غيرك وأنت جبّار من فى السموات وجبّار من فى الأرض لا جبّار فيهما غيرك وأنت ملك من فى السماء وملك من فى الأرض لا ملك فيهما غيرك وقدرتك فى الأرض كقدرتك فى السماء سلطانك فى الأرض كسلطانك فى السماء أسئلك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم انك على كل شىء قدير قال وهب هذا الفزع والجنون يقرا عليه ويكتب ويسقى ماؤه ان شاء الله تعالى يبرا وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كرر قوله بإذن اللّه دفعا لتوهم الالوهية فان الاحياء ليس من جنس الافعال البشرية قال البغوي قال ابن عباس قد أحيا اربعة انفس عازر وابن العجوز - وابنه العاشر - وسام بن نوح عليه السلام اما عازم فكان صديقا له فارسلت أخته إلى عيسى عليه السلام ان أخاك عازر يموت وكان بينه وبين عيسى مسيرة ثلاثة ايام فاتاه هو وأصحابه فوجده قد مات منذ ثلاثة ايام فقال لاخته انطلقي بنا(1/931)
الى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله فقام عازم وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي وولد له واما ابن العجوز مرّ به ميتا على عيسى على سرير يحمل فدعا عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى اهله فبقى وولد له - واما ابنة العاشر فكان والدها يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله عز وجل فاحياها وبقيت وولدت - واما سام بن نوح فان عيسى جاء إلى قبره فدعاه باسم الله الأعظم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 53(1/932)
فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون فى ذلك الزمان فقال قد قامت القيامة قال لا ولكن دعوتك باسم الله الأعظم ثم قال له مت قال بشرط ان يعيذنى الله من سكرات الموت فدعا الله ففعل وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ مما لم اعائنه فكان يخبر الرجل بما أكل البارحة وبما يأكل اليوم وبما ادخره للعشاء قال السدى كان عيسى فى الكتاب يحدث الغلمان بما صنع اباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا ورفعوا لك كذا وكذا فينطلق الصبى إلى اهله ويبكى عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقال لا تلقوا مع هذا الساحر فجمعوهم فى بيت فجاء عيسى يطلبهم فقالوا ليسوا هاهنا فقال فما فى هذا البيت قالوا خنازير قال عيسى كذلك يكونون ففتحوا عنهم فاذاهم خنازير ففشا ذلك فى بنى إسرائيل فهمت به بنوا إسرائيل فلما خافت عليه امه حملته على حمير لها وخرجت هاربة إلى ارض مصر - وقال قتادة انما هذا فى المائدة وكانت خوانا ينزل عليهم أينما كانوا كالمن والسلوى فامروا ان لا يخونوا ولا يخبؤا فخانوا وخبؤا فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منها فمسخهم الله خنازير إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من الأمور الخارقة للعادة لَآيَةً على صدق عيسى فى دعوى النبوة لَكُمْ لتهتدوا بها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) أى موفقين للايمان فامنوا - .(1/933)
وَ مُصَدِّقاً عطف على رسولا أو منصوب بفعل مقدر دل عليه قد جئتكم أى وجئتكم مصدقا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وهكذا شأن الأنبياء يصدقون الكتب السماوية كلها ويصدق بعضهم بعضا وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أى انسخ حرمة بعض ما فى التورية من اللحوم والشحوم المحرمة فيها والنسخ لا ينافى التصديق كما ان القرآن ينسخ بعضه بعضا مقدر بإضمار جئتكم أو مردود على قوله بانّى قد جئتكم باية أو معطوف على معنى مصدقا أى لا صدق ولا حل وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ جاز ان يكون المراد بالآية هاهنا آيات الإنجيل وجاز ان يقال انه تكريرا للتأكيد - ولتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ اتقوا عذاب الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 54
فى مخالفتى وتكذيبى وَأَطِيعُونِ (50) فيما أمركم به من توحيد الله وطاعته.
إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ تفصيل لما أجمل من قوله فاتّقوا اللّه وأطيعون فان فى قوله انّ اللّه ربّى وربّكم اشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد أقرّ اولا فى هذه الجملة بالعبودية على نفسه سدّا لباب الفتنة التي يأتى من قومه من قولهم ابن الله وثالث ثلاثة وفى قوله فاعبدوه اشارة إلى استكمال القوة العملية بإتيان المأمورات والانتهاء عن المناهي ثم أكد الجملتين بقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) يعنى الجمع بين الامرين هو الطريق المشهود له بالخير وهو المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم قل امنت بالله ثم استقم فى جواب من قال مر لى فى الإسلام لا اسئل منه بعدك رواه اصحاب السنن واحمد والبخاري فى التاريخ - .(1/934)
فَلَمَّا ظرف زمان فيه معنى الشرط جوابه قال من انصارى أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ أى من بنى إسرائيل الْكُفْرَ يعنى سمع منهم تكذيبه والقول بمثل عزير ابن اللّه وابصر منهم ما يدل على الكفر وفى الكلام حذف اختصار يدل على المحذوف ما مر من البشارة تقديره فولدت مريم عيسى وكلم عيسى قومه فى المهد وبلغ الكمال حتى صار نبيا عالما بالتورية والإنجيل ودعا الناس إلى الهدى والتي بالمعجزات المذكوران وأنكره بنو إسرائيل وكذبوه وأتوا بما يدل على الكفر فلما أحس عيسى منهم ذلك قالَ مَنْ أَنْصارِي فتح الياء نافع وأبو جعفر - أبو محمد وأسكنها الباقون إِلَى اللَّهِ إلى هاهنا بمعنى مع كما فى قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ أو بمعنى فى أو بمعنى اللام يعنى من انصارى مع الله أو فى الله يعنى فى سبيل الله أو لله - أو هو بمعناه ويعتبر فى النصرة معنى الاضافة يعنى من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله فى نصرى فعلى هذه الوجوه الجار والمجرور ظرف لغو - وجاز ان يكون ظرفا مستقرا على انه حال من الياء أى من انصارى ملتجيا إلى الله أو ذاهبا إلى ما امر به اوضا ما إليه قالَ الْحَوارِيُّونَ حوارى الرجل خالصته من الحور بمعنى البياض الخالص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ندب الناس يوم الخندق ثلاثا فانتدب كل مرة زبير بن العوام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لكل نبى حواريّا وحوار بي الزبير متفق عليه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 55(1/935)
و فى القاموس الحوارى الناصر أو ناصر الأنبياء والقصار والحميم سمى اصحاب عيسى به لخلوص نيتهم فى الدين ولكونهم ناصرا له كذا قال الحسن وسفيان وقيل كانوا ملوكا استنصر بهم عيسى من اليهود سموا بها لما كانوا يلبسون الثياب البيض واخرج ابن جرير عن أبى ارطاة كانوا قصارين يحورون الثياب أى يبيضونها وقال الضحاك سموا بها لصفاء قلوبهم يعنى لتطهرهم من الذنوب وقال ابن المبارك سموا به لما عليهم اثر العبادة ونورها - واصل الحور عند العرب شدة البياض وقال الكلبي وعكرمة الحواريون الأصفياء وكانوا اثنى عشر رجلا قال روح بن القاسم سالت قتادة عن الحواريين قال هم الذين يصلح لهم الخلافة وعنه قال الحواريون الوزراء وقال مجاهد والسدى كانوا صيادين السمك وقيل كانوا ملاحين نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أى أنصار دينه آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ يا عيسى يوم تشهد الرسل لقومهم وعليهم بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) فيه دليل على ان الايمان والإسلام واحد.
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ من الكتب الإنجيل وغيره.
وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ عيسى عليه السلام فى كل ما أمرنا به فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) بوحدانيتك ولانبيائك بالصدق وقال عطاء مع النبيين لان كل نبى شاهد لامته وقال ابن عباس مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لانهم يشهدون للرسل على البلاغ.(1/936)
وَ مَكَرُوا أى الذين أحس عيسى منهم الكفر حيث أراد واقتله - قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس استقبل عيسى رهطا من اليهود فلما راوه قالوا قد جاء الساحرين الساحرة فقذفوه وامه فلعنهم عيسى ودعا عليهم فمسخهم الله خنازير فلما راى ذلك يهودا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى وبادروا إليه ليقتلوه فبعث الله جبرئيل فادخله خوخة فى سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة فامر يهودا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له طيطيانوس ان يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل القى عليه شبه عيسى فلما خرج ظنوا انه عيسى فقتلوه وذلك قوله تعالى وَمَكَرَ اللَّهُ والمكر فى الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة فلا يسند إلى الله تعالى
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 56
الا على سبيل المقابلة والازدواج قال الزجاج مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمى الجزاء باسم الابتداء لأنه فى مقابلته وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) أى أقواهم وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب ..(1/937)
إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف لمكر اللّه أو لمضمر مثل وقع ذلك يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أى إلى محل كرامتى ومقر ملائكتى قال الحسن والكلبي وابن جريج معناه انى قابضك ورافعك إلى من الدنيا من غير موت قال البغوي لهذا المعنى تأويلان أحدهما انى رافعك إلى وافيا لم ينالوا منك شيئا من قولهم توفيت كذا أى استوفيته إذا أخذته تاما - والاخر انى متسلمك من قولهم توفيت منه كذا أى تسلمته - واخرج ابن جرير عن الربيع بن انس المراد بالتوفى النوم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء فيحنئذ معناه انى منيمك ورافعك إلى كما قال هو الّذى يتوفّيكم باللّيل - وقال بعضهم المراد بالتوفى الموت روى على بن أبى طلحة عن ابن عباس معناه انى مميتك قال البغوي فعلى هذا أيضا له تأويلان أحدهما ما قاله وهب توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه إليه وقال محمد بن إسحاق النصارى يزعمون الله توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه كذا أخرج ابن جرير عنه - ثانيهما ما قاله الضحاك معناه انى متوفيك بعد انزالك من السماء ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما إياك من قتل اليهود ورافعك إلى قبل ذلك والواو للجمع المطلق لا للترتيب وهذا التأويل يأباه قوله تعالى فى المائدة فلمّا توفّيتنى كنت أنت الرّقيب عليهم فانه يدل على انه قومه انما تنصروا بعد توفيه ولا شك انهم تنصروا بعد رفعه إلى السماء فظهر ان المراد بالتوفى اما الرفع إلى السماء واما التوفى قبل الرفع والظاهر عندى ان المراد بالتوفى هو الرفع إلى السماء بلا موت يشهد به الوجدان بعد ملاحظة قوله تعالى وما قتلوه وما صلبوه ولولا نفى الموت عنه لما كان من نفى القتل فائدة إذ الغرض من القتل الموت والله اعلم - عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي نفسى بيده ليوشكن ان ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض(1/938)
المال حتى لا يقبله أحد
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 57
حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها ثم قال أبو هريرة فاقرءوا ان شئتم وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية متفق عليه وفى رواية لهما كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم وفى رواية لمسلم وليتركن القلاص فلا يسعى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد - وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فى نزول عيسى قال ويهلك فى زمانه الملل كلها الا الإسلام ويهلك الدجال فيمكث فى الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلى عليه المسلمون - كذا قال البغوي وروى ابن الجوزي فى كتاب الوفاء عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض فيتزوج ويولد له ويمكث خمسا وأربعين سنة ثم يموت فيدفن معى فى قبرى قاقوم انا وعيسى بن مريم فى قبر واحد بين أبى بكر وعمر - وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعالى صل لنا فقال لا ان بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الامة رواه مسلم وفى حديث المعراج ان النبي صلى الله عليه وسلم راى عيسى بن مريم فى السماء الثانية متفق عليه وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعنى يعلونهم بالحجة والسيف فى غالب الأحوال - ومتبعوه الحواريون ومن كان من بنى إسرائيل على دينه الحق قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين صدقوه واتبعوا دينه فى التوحيد ووصيته باتباع النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد - وقيل أراد بهم النصارى(1/939)
فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة إلى الان لم يسمع غلبة اليهود عليهم وذهب ملك اليهود فلم يبق لهم ملك ودولة والملك والدولة من بنى إسرائيل فى النصارى فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ضمير المخاطب لعيسى ومن تبعه ومن
كفر به وغلّب المخاطبين على الغائبين
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 58
فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) من امر الدين ثم فصّل ذلك الحكم فقال.
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بالقتل والاسر وضرب الجزية والذل وَالْآخِرَةِ بالنار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (52) يمنعهم من عذابنا.(1/940)
وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ قرأ حفص بالياء على الغيبة والباقون بالنون على التكلم أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) أى لا يرحم الكافرين وإذا لم يرحمهم عذبهم على ما اقتضاه كفرهم - قال أهل التاريخ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة وولدت عيسى بمضىء خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على ارض بابل واوحى الله إلى عيسى وهو ابن ثلاثين سنة ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وكانت نبوته ثلاث سنين وعاشت مريم بعد رفعه ست سنوات « 1 » وفى رواية انه لمّا قتل وصلب من شبه بعيسى جاءت مريم وامراة اخرى كان عيسى دعالها فابّراها الله من الجلون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما علام تبكيان ان الله رفعنى ولم يصبنى الأخير وان هذا شىء شبّه لهم فلما كان بعد سبعة ايام قال الله عز وجل لعيسى اهبط على مريم المحد لابنها فى جبلها فانه لم يبك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها - ثم لتجمع لك الحواريون فتثبهم فى الأرض دعاة إلى الله عز وجل فاهبطه الله تعالى عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورا فجمعت له الحواريون فبثهم فى الأرض دعاة ثم رفعه الله إليه وتلك الليلة هى التي تدّخر فيها النصارى فلما أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم.
ذلِكَ مبتدا خبره نَتْلُوهُ يعنى الذي ذكر من امر عيسى ومريم والحواريين نتلوه عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب فى نتلوه - وجاز ان يكون نتلوه حالا من المشار إليه والعامل فيه معنى الاشارة والخبر من الآيات - وان يكونا خبرين وان ينتصب ذلك بمضمر يفسره نتلوه - والمراد بالآيات اما آيات القرآن أو المعجزات الدالة
_________
(1) فى بالأصل سنة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 59(1/941)
على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فى دعوى نبوته فانه لم يكن عالما بتلك القصص واخبر على ما كان عند أهل العلم منهم وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) أى القرآن ذى الحكمة وقال مقاتل الحكيم المحكم الممنوع من الباطل وقيل الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ وهو معلق بالعرش من درة بيضاء طوله ما بين السماء الأرض.(1/942)
إِنَّ مَثَلَ عِيسى يعنى شأنه الغريب عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ كشأنه ثم فسره وبين وجه التشبيه فقال خَلَقَهُ أى صور قالبه يعنى آدم مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ أى لذلك القالب كُنْ بشرا حيّا فَيَكُونُ (59) حكاية عن الحال الماضية أو المعنى قدر خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون وجاز ان يكون ثم لتراخى الخبر عن الخبر دون المخبر يعنى اخبر اولا انه خلق آدم من تراب ثم اخبر بانه انما خلقه بان قال له كن فكان يعنى لم يكن هناك اب ولا أم ولا حمل ولارضاع ولا فطام - فشأن عيسى فى الغرابة شابه شأن آدم من حيث كونه بلا اب فقط وشأن آدم اغرب منه بوجوه فشبه الغريب بالاغرب وما هو خارق للعادة بالاخرق ليكون اقطع لنزاع الخصم واحسم لمادة الشبهة - نزلت الآية فى وفد نجران لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتم صاحبنا قال ما أقول قالوا تقول انه عبد قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته القاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا وهل رايت إنسانا قط من غير اب فانزل الله تعالى لالزامهم واقحامهم هذه الآية - واخرج ابن أبى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس نحوه واخرج عن الحسن قال اتى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم راهبا نجران فقال أحدهما من أبو عيسى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتعجل حتى يأمره ربه فنزل عليه ذلك نتلوه عليك إلى قوله من الممترين فانهم كانوا يعترفون بخلق آدم بغير اب وأم من تراب - وما أجهل النصارى لعنهم الله قالوا هل رايت إنسانا قط من غير اب وما تفكّروا فى أنفسهم انهم هل راوا إنسانا تلد شاة أو شاة تلد إنسانا مع اتحاد الجنس فى الحيوانية واختلافهما فى النوع فكيف حكموا بان الله الأحد الصمد القديم لذاته الذي ليس كمثله شىء ولد عيسى جسما مخلوقا حادثا يأكل الطعام وينام ويموت بل هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (فائدة) فى هذه الآية دلالة على التفسير(1/943)
المظهري ، ج 2قسم 1 ، ص : 60
حجية القياس لان الله سبحانه نبه على الحكم بجواز خلق عيسى من غير اب قياسا على خلق آدم - .
الْحَقُّ خبر مبتدا محذوف أو فاعل لفعل محذوف يعنى هو الحق أو جاء الحق وجاز ان يكون مبتدا خبره مِنْ رَبِّكَ أى الحق المذكور من الله وعلى التقديرين الأولين من ربّك متعلق بجاء المحذوف أو حال من الضمير فى الحق فَلا تَكُنْ أيها المخاطب المنكر مِنَ الْمُمْتَرِينَ (70) الشاكّين فى امر عيسى عليه السلام كما افترت اليهود حتى بهتوا امه وافترت النصارى حتى قالوا انه ابن الله.(1/944)
فَمَنْ شرطية وجاز ان يكون استفهامية لانكار وجود من يحاجه من بعد ان النصارى عجزوا من المخاصمة حَاجَّكَ أى جادلك من النصارى فِيهِ أى فى عيسى أو فى الحق مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بان عيسى عبد الله ورسوله - وفى ذكر هذا القيد للمباهلة تنبيه على ان المسلم لا ينبغى ان يباهل الا بعد كمال اليقين فَقُلْ يا محمد تَعالَوْا امر من التفاعل من العلو قال الفراء معناه كأنَّه قال ارتفعوا قلت كأنَّه يطلب منه ان يظهر على مكان عال ليبصر ما خفى عن بصره ثم استعير وغلب استعماله فى طلب التأمل والتوجه من المخاطب بالرأى فيما خفى عنه - فحاصل المعنى هلموا بالرأى والعزم - وقد يستعمل للدعاء إلى مكان قريب من الداعي نَدْعُ مجزوم فى جواب الأمر أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ يعنى ندع كل منا ومنكم نفسه واعزة اهله من الأبناء والنساء فنضمهم إلى أنفسنا حتى يعم ما نزل بالكاذب من العذاب اجمعهم وقدمهم على النفس لان الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم ولان الأصل فى الدعاء المغائرة بين الداعي والمدعو والمغائرة بين الرجل وبين ابنائه ونسائه حقيقى وبينه وبين نفسه اعتباري فقدم الحقيقي على الاعتباري - روى مسلم والترمذي عن سعد بن أبى وقاص قال لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال اللهم هؤلاء أهل بيتي ثُمَّ نَبْتَهِلْ افتعال ومعناه التفاعل واختير الافتعال هاهنا على التفاعل لان المقصود منه جلب اللعنة إلى نفسه ان كان كاذبا ودفعها إلى خصمه ان كان صادقا وجلب الشر إلى نفسه اسرع وقوعا من دفعه إلى غيره فكان الغرض منه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 61(1/945)
اكتساب اللعنة - والبهلة بالضمة والفتحة وأصله الترك يقال بهلت الناقة إذا تركتها بلا اصرار وفى اللعينة الترك من الرحمة والبعد من رحمة الله تعالى فى الدنيا والاخرة وذلك يقتضى وقوع العذاب لان العصمة من العذاب لا يتصور الا برحمته - وفى كلمة ثم اشارة إلى ان اللائق من العاقل التأخير والتراخي فى المباهلة فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) عطف تفسيرى على نبتهل وبالفاء اشارة إلى ان وقوع العنة لا يتراخى عن الابتهال بل يعقبه بلا مهلة قال البغوي فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران دعاهم إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فى أمرنا نأتيك غدا فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى قال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبى مرسل وو الله مالا عن قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ونبت صغيرهم ولئن فعلتم ذلك لتهلكن فان أبيتم الا الاقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم فوادعوا لرجل وانصرفوا إلى بلادكم - فاتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غذا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة يمشى خلفه وعلىّ خلفها وهو يقول إذا دعوت فامّنوا - فقال اسقف نجران يا معشر النصارى انى لارى وجوها لو سالوا الله ان يزيل جبلا عن مكانه لازاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانى إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم قد راينا ان لا نلاعنك وان نتركك على دينك ونثبت على ديننا - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فان أبيتم المباهلة فاسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم فابوا قال فانى أنابذكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنا نصالحك على ان لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على ان نؤدى إليك كل عام الفى حلة الفا فى صفر والفا فى رجب فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك و(1/946)
قال والذي نفسى بيده ان العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخو قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران واهله حتى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا وكذا أخرج أبو نعيم فى الدلائل من طرق عن ابن عباس -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 62
و استدل الروافض قبحهم الله بهذه الآية على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى الله عنهم وكون علىّ عليه السلام هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا المراد بالأبناء فى هذه الآية الحسن و(1/947)
الحسين وبالنساء فاطمة وبانفسنا علىّ « 1 » فجعل الله سبحانه عليّا نفس محمد صلى الله عليه واله وسلم وأراد الله تعالى به كون على رضى الله عنه مساويا له صلى الله عليه وسلم فى الفضائل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اولى بالتصرف فى الناس من أنفسهم قال الله تعالى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ فكان علىّ كذلك فهو الامام - والجواب عنه بوجوه أحدها ان الأنفس بصيغة الجمع يدل على نفس النبي ونفس من تبعه ولا يدل ذلك على كون نفسهما واحدا مع كونه ظاهر البطلان - ثانيها انه جاز ان يكون علىّ ، أيضا مرادا بالأبناء كالحسن والحسين بعموم المجاز فان الختن يطلق عليه الابن عرفا - وثالثها انه جاز ان يكون المراد بانفسنا من يتصل به نسبا ودينا كما فى قوله تعالى ولا تخرجون « 2 » أنفسكم من دياركم وقوله تعالى تقتلون أنفسكم وقوله تعالى ظنّ المؤمنون والمؤمنات بانفسهم خيرا وقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم فحينئذ لا يلزم المساوات بينهما أصلا - ورابعها ان مساوات علىّ النبي صلى الله عليه وسلم فى جميع الصفات باطل باتفاق الفريقين والمساوات فى بعضها لا يفيد المساوات فيما نحن فيه - خامسها انه لو كانت الآية دالة على كون على اولى بالتصرف لزم كونه كذلك فى حياته صلى الله عليه وسلم وأنتم لا تقولون به لكن هذه القصة تدل على كون هؤلاء الكرام أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/948)
إِنَّ هذا يعنى ما ذكر من قصص عيسى ومريم لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ هو فصل بين اسم ان وخبرها أو مبتدا والقصص خبره والجملة خبر ان وجاز دخول اللام على الفصل لان أصلها ان تدخل على المبتدا ولذا سميت لام الابتداء وجاز دخولها على الخبر إذا لم يكن بينهما ضمير فصل وان كان هناك ضمير فصل دخلت عليه لكونه اقرب إلى المبتدا من الخبر وَما مِنْ إِلهٍ من مزيدة لتأكيد استغراق النفي ردا على النصارى فى قولهم بالتثليث إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) هذا فى التركيب نظير قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ يعنى انه تعالى لا يساويه أحد
_________
(1) فى الأصل لا تخرجوا -
(2) فى الأصل عليا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 63
فى العزة والقدرة التامة والحكمة البالغة فكيف يشاركه فى الالوهية.(1/949)
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحجج واعرضوا عن التوحيد فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) وعيد لهم تقديره فان تولّوا فانّ اللّه يعذبهم فحذف يعذبهم وأقيم عليم بالمفسدين مقامه اقامة العلة مقام المعلول فان علمه تعالى بافسادهم فى الآفاق باشاعة الكفر والمعاصي وصد الناس عن الايمان وفى أنفسهم بكفر ان المنعم وعصيانه وترك شكره ومخالفة رسوله سبب لتعذيبهم والله اعلم وفيه اشارة إلى ان التولي عن الحق إفساد والله اعلم - قال المفسرون قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا فى ابراهيم عليه السلام فزعمت النصارى انه كان نصرانيا وهم على دينه واولى الناس به وقالت اليهود بل كان يهوديا وهم على دينه واولى الناس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا الفريقين برىء من ابراهيم ودينه بل كان حنيفا مسلما وانا على دينه فاتبعوا دينه الإسلام فقالت اليهود ما تريد الا ان نتخذك ربّا كما اتخذت النصارى عيسى ربا وقالت النصارى يا محمد ما تريد الا ان نقول فيك ما قالت اليهود فى عزيز فانزل الله تعالى.(1/950)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم أهل الكتابين تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ قال البغوي العرب تسمى كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية ولم يؤنث لان المصدر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ظرف متعلق بسواء يعنى لا يختلف فيه القرآن والتورية والإنجيل أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ يعنى لا نشرك به أحدا غيره فى العبادة لا إنسانا ولا صنما ولا ملكا ولا شيطانا محل ان رفع على إضمار هو أو جريد لا من الكلمة وقيل نصب بنزع الخافض أى بان لا نعبد وَلا نُشْرِكَ بِهِ فى وجوب الوجود شَيْئاً كما فعلت اليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله فعبدوهما وقالت النصارى ثالث ثلاثة وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا أى بعض الناس بَعْضاً أى بعضهم أَرْباباً يعنى لا يطيع بعض الناس بعضا مِنْ دُونِ اللَّهِ أى بغير اذن من الله تعالى - عن عدى بن حاتم انه لما نزلت اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه قال عدى بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله قال ا ليس كانوا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 64(1/951)
يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال هو ذاك رواه الترمذي وحسنه فما كان من إطاعة الرسول فهو إطاعة الله لا غير قال الله تعالى ومن يطع الرّسول فقد أطاع اللّه وكذا ما كان من إطاعة العلماء والأولياء والسلاطين والحكام على مقتضى الشرع قال الله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وما كان منها على خلاف مقتضى الشرع فهو الاتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله عن على رضى الله عنه لا طاعة لاحد فى معصية الله انما الطاعة فى المعروف رواه الشيخان فى الصحيحين وأبو داود والنسائي وعن عمران بن حصين والحكيم بن عمرو الغفاري لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق - ومن هاهنا يظهر انه إذا صح عند أحد حديث مرفوع من النبي صلى الله عليه وسلم سالما عن المعارضة ولم يظهر له ناسخ وكان فتوى أبى حنيفة رحمة الله مثلا خلافه وقد ذهب على وفق الحديث أحد من الائمة الاربعة يحب عليه اتباع الحديث الثابت ولا يمنعه الجمود على مذهبه من ذلك كيلا يلزم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله روى البيهقي فى المدخل بإسناد صحيح إلى عبد الله بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم وإذا جاء من التابعين زاحمناهم - وذكر عن روضة العلماء قال اتركوا قولى بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول الصحابة - ونقل انه قال إذا صح الحديث فهو مذهبى - وانما قلت فى العمل بالحديث ان يكون ذلك الحديث قد ذهب إليه أحد من الائمة الاربعة كيلا يلزم العمل على خلاف الإجماع فان أهل السنة قد افترق بعد القرون الثلاثة أو الاربعة على اربعة مذاهب ولم يبق مذهب فى فروع المسائل سوى هذه الاربعة فقد انعقد الإجماع المركب على بطلان قول يخالف كلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمع أمتي على(1/952)
الضلالة وقال الله تعالى وَ(مَنْ) ... يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وأيضا لا يحتمل كون الحديث مختفيا عن للائمة الاربعة وعن أكابر العلماء من تلامذتهم فتركهم قاطبة العمل بحديث دليل على كونه منسوخا أو مأوّلا - (فائدة) لا يجوز لاحد ان يقول فى امر افتى علماء الشرع على حرمته أو كراهته ان مشائخ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 65
الصوفية سنوا كذلك ونحن نتبع سنتهم والصحيح ان الصوفية الكرام ما فعلوا قط على خلاف مقتضى الشرع وانما الفساد من جهال اتباعهم (فائدة) لا يجوز ما يفعله الجهال بقبور الأولياء والشهداء من السجود والطواف حولها واتخاذ السرج والمساجد عليها ومن الاجتماع بعد الحول كالاعياد ويسمونه عرسا عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم مرض طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه ويقول وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد - قالت فحذّر عن مثل ما صنعوا متفق عليه وكذا روى احمد والطيالسي عن اسامة بن زيد - وروى الحاكم وصححه عن ابن(1/953)
عباس لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج - وروى مسلم من حديث جندب بن عبد الملك قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل ان يموت بخمس وهو يقول الا لا تتخذوا القبور مساجد انى أنهاكم عن ذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا يعنى أهل الكتاب عن تلك الكلمة العادلة المستقيمة المستوية المتفق عليها الكتب والرسل فَقُولُوا أيها النبي والمؤمنون اشْهَدُوا يا أهل الكتاب بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) بالكتب السماوية كلها دونكم عن ابن عباس ان أبا سفيان بن حرب أخبره ان هرقل أرسل إليه فى ركب من قريش وكانوا ا تجارا بالشام فى المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادّ فيها أبا سفيان وكفار قريش فاتوه وهم بايليا فدعاهم فى مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى اما بعد فانى أدعوك بدعاية الإسلام اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فان توليت فان عليك اثم الأريسيين ويا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ متفق عليه (فائدة) قراءة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران وكتابته إلى هرقل وتسليمهم وعدم ردهم إياها بالإنكار وبالقول بان هذه الكلمة ليست فى كتبنا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 66(1/954)
حجة قاطعة على نبوته صلى الله عليه وسلم وكون تلك الكلمة مجمعا عليها الكتب والرسل فظهر ان قولهم بان عزيرا ابن الله وعيسى ابن الله انما كان بناء على آرائهم الفاسدة والتقليد دون الاستناد إلى الكتب ومن ثم احتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم بقولهم هل رايت إنسانا من غيراب - قال البيضاوي انظر إلى ما روعى فى هذه القصة من المبالغة فى الإرشاد وحسن التدرّج فى الحجاج بيّن اولا احوال عيسى وما تعاور عليه من الأطوار المنافية للالوهية ثم ذكر ما يحل عقدتهم ويزيح شبهتهم بقوله مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم فلما راى عنادهم ولجاجهم دعاهم إلى المباهلة بنوع من الاعجاز ثم لما راى انهم اعرضوا عنها وانقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد وسلك طريقا أسهل والزم بان دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى والإنجيل وسائر الأنبياء والكتب ثم لما لم يجد ذلك أيضا عليهم وعلم ان الآيات والنذر لا يغنى عنهم اعرض عن ذلك وقال اشهدوا بانّا مسلمون والله اعلم - روى ابن إسحاق بسنده المتكرر عن ابن عباس رضى الله عنهما قال أجمعت نصارى نجران وأحبار اليهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الأحبار ما كان ابراهيم الا يهوديا وقالت النصارى ما كان الا نصرانيا فانزل الله تعالى.(1/955)
يا أَهْلَ الْكِتابِ الخطاب يعم الفريقين لِمَ تُحَاجُّونَ تختصمون فِي دين إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ فحدث دين اليهود وَما أنزلت الْإِنْجِيلُ فحدث دين النصارى إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أى بعد ابراهيم بزمان طويل كان بين ابراهيم وموسى الف سنة وبين موسى وعيسى وهو اخر أنبياء بنى إسرائيل الفا سنة أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) بطلان قولكم لعلهم كانوا يدعون ان ابراهيم فى فروع الأعمال كان عاملا باحكام التورية أو الإنجيل بل ما اخترعه الفريقان بعد موت موسى ورفع عيسى وتحريفهم الكتابين وهذا هو محل النزاع بين الفريقين وظاهر البطلان فان فروع الأعمال ينسخ فى الشرائع بعد مضى الدهور على ما هو عادة الله تعالى نظرا إلى مصالح كل عصر فكيف يكون دين ابراهيم اليهودية أو النصرانية - واما فى اصول الدين وما لا يحتمل النسخ من الفروع كحرمة العبادة لغير الله تعالى والكذب والظلم فالشرائع والملل الحقة كلها متفقة عليها لا يحتمل فيها الاختلاف والله اعلم.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 67(1/956)
ها أَنْتُمْ قرأ نافع وأبو جعفر - أبو محمد وأبو عمرو حيث وقع بالمد من غير همز « 1 » - وورش اقل مد أو قنبل بالهمز من غير الف بعد الهاء والباقون بالمد والهمز - فالبزى يقصر على أصله فى المنفصل والباقون على أصولهم فى المد - فها للتنبيه على قراءة الكوفيين ومن معهم - أبو محمد والبزي وابن ذكوان وعلى قراءة قنبل أصله ءانتم أبدلت همزة الاستفهام هاء كقولهم هرقت فى ارقت فصار هانتم وكذا على قراءة ورش غير انه يبدل الهمزة الثانية الفا كما هو مذهبه عند اجتماع الهمزتين إذا كانتا مفتوحتين وعلى قراءة أبى عمرو وقالون وهشام جاز الأمر ان فان كان أصله ءانتم على الاستفهام أبدلت الهمزة الاولى هاء كما قيل على قراءة قنبل وورش وزيدت الف فاصلا بين الهمزتين على أصلهم ثم حذفت الهمزة الثانية تخفيفا على قراءة أبى عمرو وقالون وبقيت على قراءة هشام - وان كان أصله ها أنتم على الخبر فلا تغير فى قراءة هشام وعند أبى عمرو وقالون حذفت الهمزة تخفيفا فالكلام اما استفهام إنكاري - أو تنبيه عن حالهم الذي غفلوا عنه - وأنتم مبتدا وهؤُلاءِ خبره وما بعده جملة اخرى مبيّنة للاولى وجاز ان يكون هؤلاء منادى بحذف حرف النداء والجملة التالية خبر لانتم تقديره يا هؤلاء أنتم أو ها أنتم حاجَجْتُمْ أى خاصمتم وقيل هؤلاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر لانتم - قال نحاة الكوفة جاز وضع اسم الاشارة موضع الموصول يعنى ءانتم أو ها أنتم الذي جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من امر موسى وعيسى وادعيتم انكم على دينهم وقد علمتم ما كان دينهم من التورية والإنجيل وان كنتم لبستم بعض ما هو فى التورية والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وان دين موسى وعيسى سينسخ بدين محمد النبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان فافتضحتم فيه بإظهاره تعالى ما لبستموه مع علمكم بما فى التورية والإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ أيها الحمقاء(1/957)
الغافلون عن ظهور بطلان قولكم فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ من دين ابراهيم وشريعته حيث لم يذكر فى التورية والإنجيل دينه وملته وكان قبلكم بالوف سنين وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما انزل على كل نبى من الاحكام وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) الا ما علمكم الله فى كتابكم بل أنتم لا تعلمون أصلا حيث تركتم ما انزل الله عليكم ونبذتم كتاب الله وراء ظهوركم حتى لم تؤمنوا بمحمد وقد أخذ الله ميثاقكم فتفتضحون فى تلك
_________
(1) هكذا فى التيسير للداني ومعناه انه قرأ قالون وأبو عمرو وأبو جعفر بألف بعد الهاء وهمزة مسهلة وهم فى المد على أصولهم وورش لطريق الا رزق بهمزة مسهلة من غير الف ومد وبابدال الهمزة انا مع مد اللازم - أبو عبد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 68
المحاجة بالطريق الاولى إذ لا يصلح محاجة الجاهل العالم - وفيه تنبيه على ان محاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحة لكونه عالما بتعليم الله تعالى ثم بين الله تعالى دين ابراهيم فقال.
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا يعنى ما كان دين ابراهيم موافقا لدين موسى وعيسى فى كثير من الفروع وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائغة وقيل الحنيف الذي يوحد ويضحى ويختن ويستقبل الكعبة ولم يكن ذلك فى اليهود والنصارى مُسْلِماً منقاد الله تعالى فيما امر به غير متبع لهواه وأنتم لا تنقادون ما أمركم الله به حيث لا تؤمنون بالنبي الأمي الذي تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية والإنجيل وتشركون بالله فتقولون ثالث ثلاثة وتقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله فكيف تدعون انكم على دين ابراهيم وملته وَما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) بل كان من الموحدين.(1/958)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ اولى مشتق من الولي بمعنى القريب يعنى أخصهم وأقربهم دينا بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمته حيث كانوا على دينه بلا شبهة وَهذَا النَّبِيُّ محمد صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم لموافقتهم لابراهيم فى اكثر الشرائع فانهم يوحدون ويضحون ويختتنون ويصلون إلى الكعبة ويحجون ويعتمرون ويتمون بكلمات ابتلى بها ابراهيم ربّه فاتمّهنّ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) بمحمد صلى الله عليه وسلم فانهم يومنون بجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم بخلاف اليهود والنصارى - قال البغوي روى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده انه لما هاجر جعفر بن أبى طالب وأناس من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان وقعة بدر اجتمعت قريش فى دار الندوة وقالوا ان لنا فى الذين هم عند النجاشي من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثار ممن قتل منكم ببدر فاجمعوا مالا واهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوى رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبى معيط مع الهدايا الادم وغيره فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجد اله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 69(1/959)
و سلما عليه وقالا له ان قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وانهم بعثوا إليك لنحذرك هؤلاء الذين قدموا عليك لانهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم انه رسول الله ولم يتابعه منا أحد الا السفهاء وانا كنا قد ضيّقنا عليهم والجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم قالوا واية ذلك انهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك الناس رغبة عن دينك وسنتك - قال فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله فقال النجاشي مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر فقال النجاشي نعم فليدخلوا بإذن الله وذمته - فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال ا لا تسمع كيف يرطنون أى يكلمون - منه رح بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك - ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له - فقال عمرو بن العاص الا ترى انهم يستكبرون ان يسجدوا لك فقال لهم النجاشي ما منعكم ان تسجدوا لى وتحيونى بالتحية التي يحيينى بها من أتاني من الآفاق - قالوا نسجد لله الذي خلقك وملّكك وانما كانت تلك التحية ونحن نعبد الأصنام فبعث الله فينا نبيا صادقا وأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهى السلام تحية أهل الجنة فعرف النجاشي ان ذلك حق وانه فى التورية والإنجيل قال أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله قال جعفر انا قال فتكلم قال انك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وانا أحب ان أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الاخر فتسمع محاورتنا - فقال عمرو لجعفر تكلم فقال جعفر للنجاشى سل هذين الرجلين أ عبيد نحن أم أحرار قال بل أحرار كرام قال النجاشي نجوا من العبودية - ثم قال جعفر سل هما هل اهرقنا دما بغير حق فيقتص مئا قال عمرو لا و(1/960)
لا قطرة قال جعفر سل هل أخذنا اموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها قال النجاشي ان كان قنطارا فعلىّ قضاؤه قال عمرو لا ولا قيراطا - قال النجاشي فما تطلبون منهم قال عمرو كنا وهم على دين واحد وامر واحد على دين ابائنا فتركوا ذلك واتبعوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا فقال النجاشي
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 70
ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه اصدقنى - قال جعفر اما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة واما الذي تحولنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له - فقال له النجاشي تكلمت بامر عظيم فعلى رسلك ثم امر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي أنشدكم الله الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيا مرسلا - قالوا اللهم نعم قد بشرنا به عيسى(1/961)
و قال من أمن به فقد أمن بي ومن كفر به فقد كفر بي - فقال النجاشي لجعفر ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه قال يقرا علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمر بان نعبد الله وحده لا شريك له قال اقرأ علىّ مما يقرا عليكم - فقرا عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عين النجاشي وأصحابه من الدمع فقالوا زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرا عليهم سورة الكهف - فاراد عمرو ان يغضب النجاشي فقال انهم يشتمون عيسى وامه - فقال ما تقولون فى عيسى وامه فقرا عليهم سورة مريم فلما اتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثه من سواكه قدر ما يقذى العين قال والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا - ثم اقبل على جعفر وأصحابه فقال اذهبوا فانتم سيوم كلمة حبشية بمعنى امنون - منه رح بأرضى يقول امنون من سبكم أو اذاكم غرّم ثم قال ابشروا ولا تخافوا فلاد هورة « 1 » اليوم على حزب ابراهيم - قال عمرو يا نجاشى ومن حزب ابراهيم - قال هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم فانكر ذلك المشركون وادعوا فى دين ابراهيم - ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال انما هديتكم الىّ رشوة فاقبضوها فان الله ملّكنى ولم يأخذ منى رشوة قال جعفر فانصرفنا فكنا فى خير دار وأكرم جوار وانزل الله تعالى ذلك اليوم على رسوله صلى الله عليه وسلم فى خصومتهم فى ابراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل انّ اولى النّاس الآية - .
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضى الله عنهم حين دعاهم اليهود إلى دينهم - يعنى تمنت جماعة
_________
(1) الدهورة جمعك الشيء وقد فك فى مهواة كأنَّه أراد لا ضيعة عليهم ولا يترك حفظهم وتعهدهم والواو زائدة - نهاية جزرى منه رحمه الله(1/962)
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 71
من اليهود لَوْ يُضِلُّونَكُمْ عن دينكم ويردونكم إلى الكفر - لو مصدرية بمعنى ان عاملة فى المعنى دون اللفظ فى محل النصب لودّت - أو هى للتمنى بيان للوداد وَما يُضِلُّونَ أحدا إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعنى انما يعود وبال الإضلال إلى أنفسهم فيضاعف لهم العذاب والمسلمون محفوظون من شرهم بحفظ الله تعالى فلا يلزم إضلال الضال وَما يَشْعُرُونَ (69) ان اضرارهم يعود إليهم.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته فى التورية والإنجيل أو بالقران وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) أى تعترفون فيما بينكم على سبيل الكتمان انه نبى حق مذكور نعته فى التورية والإنجيل أو أنتم تعلمون بالمعجزات انه نبى حق.
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أى تخلطون الحق الذي انزل على موسى من آيات التورية بالباطل الذي كتبته ايديكم بالتحريف وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ النازل فى التورية من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) ذلك وتفعلون ما تفعلون عمدا وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضى الله عنهما قال قال عبد الله بن الضيف وعدى بن زيد والحارث بن عوف بعضهم لبعض نؤمن بما انزل على محمد وأصحابه غدوة ونكفر به عشية حتى يلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع فيرجعون عن دينهم فانزل الله تعالى فيهم يا أهل الكتب لم تلبسون الحقّ بالباطل وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون.(1/963)
وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى قوله واسع عليم آمِنُوا يعنى أظهروا الايمان باللسان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعنى بالقران وَجْهَ النَّهارِ يعنى اوله فانه أول ما يواجه وَاكْفُرُوا به آخِرَهُ يعنى اخر النهار وقولوا انا نظرنا فى كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا « 1 » ليس بذاك وظهر لنا كذبه لَعَلَّهُمْ أى المسلمون يشكّون فى دينهم ويَرْجِعُونَ (72) عن دينهم ظنّا منهم بانكم رجعتم لخلل ظهر لكم - قال البغوي قال الحسن تواطأ على ذلك اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة - وكذا أخرج ابن جرير عن السدى - وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا فى شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود وقال كعب بن الأشرف وأصحابه أمنوا بامر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم اخر النهار
_________
(1) فى الأصل محمد -
.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 72(1/964)
وَ لا تُؤْمِنُوا عطف على أمنوا بالّذى انزل يعنى لا تؤمنوا حقيقة الايمان بمواطاة القلب ولا تصدقوا لاحد إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أى لاهل دينكم - أو المعنى لا تظهروا ايمانكم وجه النهار الا لمن كان على دينكم قبل ذلك فان رجوعهم أرجى وأهم - وجاز ان يكون لا تؤمنوا بيانا لا كفروا والمعنى واكفروا اخر النهار ولا تؤمنوا اخر النهار الا لاهل دينكم قُلْ يا محمد للكفار إِنَّ الْهُدى الذي اعطى المسلمين هُدَى اللَّهِ لا تستطيعون ان تطفؤا نور الله بأفواهكم والله متم نوره فلا يضر المؤمنين مكركم - أو المعنى قل يا محمد لنفسك وللمؤمنين انّ الهدى هدى اللّه لا يضركم كيد كائد أَنْ يُؤْتى قرأ ابن كثير بالمد « 1 » على الاستفهام والباقون بلا مد على الخبر - متعلق بمحذوف يعنى مكرتم ذلك المكر حسدا أو امكرتم لان يؤتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من الكتاب والحكمة أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على يؤتى منصوب بان والضمير المرفوع عائد إلى أحد وهو وان كان مفردا لفظا لكنه جمع معنى بمعونة المقام لأنه فى حيز النفي أو الاستفهام يعنى أو مكرتم لان يغلبكم أحد عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة لكونهم على الهدى دونكم يعنى ان الحسد حملكم على ذلك المكر ولا ينبغى ذلك المكر والحسد وجاز ان يكون ان يؤتى متعلقا بلا تؤمنوا وعلى هذا ثلاث تأويلات أحدها ان يكون اللام فى لمن تبع دينكم زائدة كما فى قوله تعالى ردف لكم أى ردفكم والمستثنى منه أحد فاعل يؤتى والمستثنى مقدم عليه واو فى أو يحاجّوكم بمعنى الواو لكونه فى حيز النفي نحو لا تطع منهم اثما أو كفورا والمعنى لا تصدقوا ولا تقرّوا بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الا من تبع دينكم ولا تصدقوا بان يغلبكم أحد عند ريكم - ثانيها ان يكون اللام للانتفاع أو زائدة والاستثناء مفرغ واحد فى قوله تعالى ان يؤتى أحد مظهر موضع المضمر ابرز لحذف المرجع من الصدر والمعنى لا تصدقوا أحدا أو لا تقروا(1/965)
لاحد أى فى حق أحد الا لمن تبع دينكم يعنى الا من تبع دينكم أو الا فى حق من تبع دينكم بان يؤتى ذلك الأحد مثل ما أوتيتم أو بان يغلبكم أحد عند ربكم لانكم أصح دينا هذا على قراءة الجمهور واما على قراءة ابن كثير فمعناه أ تصدقون وتقرون بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإقرار والتصديق منكم وهذا معنى قول مجاهد وثالثها ان تكون لا تؤمنوا بمعنى لا تظهروا
_________
(1) أى بالهمزتين محققة ومسهلة والباقون بهمزة واحدة محققة - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 73(1/966)
و اللام صلة والمعنى لا تظهروا ايمانكم بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم الا لمن تبع دينكم يعنى إلا خفية لاشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين كيلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين كيلا يدعوهم إلى الإسلام - ومعناه على قراءة ابن كثير ا تظهرون عند غيركم ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم لا ينبغى ذلك الإظهار - وعلى هذه التأويلات جملة قل انّ الهدى هدى اللّه معترضة لبيان ان كيدهم لا يفيدهم ولا يضر بالمسلمين وعلى قراءة الجمهور جاز ان يكون ان يؤتى خبر انّ على ان هدى الله بدل عن الهدى واو فى أو يحاجّوكم بمعنى حتى والمعنى ان هدى الله الإيتاء لمن شاء من أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب حتى يغلبوكم يوم القيامة عند ربكم - وقيل معناه قالت اليهود لسفلتهم لا تؤمنوا الا لمن تبع دينكم ان يؤتى أى لئلا يؤتى كما فى قوله تعالى يبيّن اللّه لكم ان تضلّوا أى لئلا تضلوا يعنى لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم بالعلم ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا عرفتم ان ديننا حق ولم تؤمنوا وهذا معنى قول ابن جريح وهو ابعد التأويلات قُلْ يا محمد لليهود إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ لا بايديكم يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وقد اتى محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ (73) بمن هو أهل له.
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ ونبوته مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74).(1/967)
وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى عبد الله بن سلام وأشباهه مؤمنى أهل الكتاب مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أى مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ لاجل ديانتهم وايمانهم قال البغوي قال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضى الله عنهما ان رجلا أودع عبد الله بن سلام الفا ومائتى اوقية من ذهب فاداه وَمِنْهُمْ يعنى كعب بن الأشرف وأشباهه من كفار اليهود كذا قال مقاتل مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ قال البغوي استودع رجل من قريش فخاص بن عازورا من اليهود دينارا فخانه قرأ أبو عمرو وأبو جعفر بخلاف عنه - أو محمد وأبو بكر وحمزة يؤدّه ولا يؤدّه إليك ونؤته منها فى الموضعين وفى النساء نولّه ونصله وفى الشورى نؤته منها بإسكان الهاء فى السبعة لان الهاء وضعت موضع الجزم وهو الياء الذاهب وقرا قالون وأبو جعفر ويعقوب باختلاس كسرة الهاء اعتبروا الياء الساكنة المحذوفة موجودة والهاء بعد الحرف الساكن
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 74
يختلس حركته وكذا عن هشام بخلاف عنه - أبو محمد فى الباب كله وقرا الباقون بإشباع الكسرة لان الأصل فى الهاء بعد المتحرك الإشباع والوقف للجميع بالإسكان إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً قال ابن عباس قائما أى ملحا يقال يقوم عليه يعنى يطالبه بالالحاح والتقاضي والترافع إلى الحكام ذلِكَ أى عدم الأداء والاستحلال بِأَنَّهُمْ أى بسبب ان اليهود الكفار قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ أى فى شأن من ليس باهل الكتاب سَبِيلٌ أى سبيل مؤاخذة عند الله قالوا اموال العرب حلال لنا لانهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم فى كتابنا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم فى الدين وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ان الله أحل لهم ذلك وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) انهم يكذبون.(1/968)
بَلى يعنى ليس كما قالوا بل عليهم سبيل فى المؤمنين أو عصمة المال بالايمان أو عقد الذمة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على الله متفق عليه من حديث أبى موسى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فان هم أبوا يعنى ان كان الكفار أبوا عن الإسلام فسل هم الجزية فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم متفق عليه فى حديث طويل من حديث سليمان بن بريد عن أبيه مَنْ شرطية أو موصولة أَوْفى بِعَهْدِهِ الضمير المجرور راجع إلى من يعنى بعهده الذي عاهد رب المال بأداء الامانة - أو راجع إلى الله تعالى أى عهد الله عهد إليه فى التورية من الايمان بجميع الأنبياء وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقران وأداء الامانة وَاتَّقى الكفر والخيانة فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (72) وضع المظهر موضع الضمير اشعارا بان التقوى ملاك الأمر كله وهو يعم الوفاء بالعهد وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي ولذلك العموم ناب مناب الراجع إلى من اوفى - والجملة مستأنفة مقررة لجملة سدت بلى مسدها عن عبد الله بن عمرو ان النبي صلى الله عليه وسلم قال اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كان فيه خصلة منها كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر - متفق عليه وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اية المنافق ثلاث زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم ثم اتفقا إذا حدث
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 75(1/969)
كذب وإذا وعدا خلف وإذ اؤتمن خان - والله اعلم - روى الشيخان فى الصحيحين عن أبى وائل عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان فانزل الله تعالى تصديق ذلك.
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية - فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم أبو عبد الرحمن فقالوا كذا وكذا فقال فىّ نزلت كانت لى بير فى ارض ابن عم لى فاتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بينتك أو يمينه قلت إذا يحلف عليها يا رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله يوم القيامة وهو عليه غضبان كذا روى البغوي بسنده من طريق البخاري وفى رواية أبى داود وابن ماجة وغيرهما عن الأشعث بن قيس قال كان بينى وبين رجل من اليهود ارض فجحدنى فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أ لك بينة قلت لا قال لليهودى احلف قلت يا رسول الله إذا يحلف ويذهب بما لى فانزل الله تعالى هذه الآية وروى البخاري عن عبد الله بن أبى اوفى ان رجلا اقام سلعة وهو فى السوق فحلف بالله لقد اعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخاري لا منافاة بين الحديثين بل يحمل ان النزول كان بالسببين جميعا والمعنى ان الذين يشترون بعهد الله فى أداء الامانة وايمانهم الكاذبة ثمنا قليلا يعنى شيئا من متاع الدنيا قليلا كان أو كثيرا فانها بالنسبة إلى نعماء الجنة قليل جدا - واخرج ابن جرير عن عكرمة ان الآية نزلت فى حيى بن اخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين يكتمون ما انزل الله فى التورية فى شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوه بايديهم غيره وحلفوا انه من عند الله لئلا يفوتهم المأكل والرشى التي كانت لهم من اتباعهم - قال(1/970)
ابن حجر والآية محتملة لكن العمدة فى ذلك ما ثبت فى الصحيح - قلت سياق الكلام يقتضى صحة ما روى ابن جرير عن عكرمة والحديثين المذكورين فى الصحيحين لا ينافيان رواية ابن جرير كما لا يتنافيان لجواز كون اسباب النزول كلها جميعا والله اعلم وعن علقمة بن وائل عن أبيه قال جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 76(1/971)
الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي يا رسول الله ان هذا غلبنى على ارض لى فقال الكندي هى ارضى وفى يدى ليس له فيها حق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمى أ لك بينة قال لا قال فلك يمينه قال يا رسول الله ان الرجل فاجر لا يبالى على ما حلف عليه فليس يتورع من شىء قال ليس لك منه الا ذلك فانطلق ليحلف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض - رواه مسلم وفى رواية هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان - وفى رواية لابى داود انه صلى الله عليه وسلم قال لا يقطع أحد مالا بيمين الا لقى الله وهو اجزم فقال الكندي هى ارضه وقال البغوي روى انه لما هم الكندي ان يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرا القيس ان يحلف وأقر لخصمه ودفعها إليه أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ أى لا نصيب لهم فِي نعيم الْآخِرَةِ عن أبى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة فقال له رجل وان كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وان كان قضيبا من أراك رواه مسلم - وفى رواية قالها ثلاثا وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ قيل معناه لا يكلمهم الله كلاما يسرهم ولا ينظر إليهم نظر رحمة والصحيح ان هذا كناية عن الغضب والاعراض فكانّ قوله صلى الله عليه وسلم فى حديث عبد الله والأشعث لقى الله وهو عليه غضبان وفى حديث وائل ليلقين الله وهو عنه معرض تفسير لهذين الجملتين وَلا يُزَكِّيهِمْ أى لا يثنى عليهم والظاهر ان معناه لا يغفر الله ذنبه لأنه من حقوق العباد وفيه القصاص لا محالة - عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدواوين ثلاثة فديوان لا يعبا الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفر الله اما الديوان الذي لا يغفر الله فهو(1/972)
الشرك و
اما الديوان الذي لا يعبا الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أو صلوة تركها واما الديوان الذي لا يترك منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة رواه الحاكم واحمد وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وابى هريرة والبزار مثله من حديث انس - وان كان الآية فى اليهود فى كتمان نعت النبي صلى الله عليه وسلم فعدم المغفرة لاجل كفرهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
(77) على ما فعلوه عن أبى ذر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 77(1/973)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيمة ولا يزكّيهم ولهم عذاب اليم قال فقراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فقال أبو ذر خابوا وخسروا منهم يا رسول الله قال المسبل إزاره والمنان الذي لا يعطى شيئا الا منة والمنفق سلعته بالحلف الكاذب رواه مسلم واحمد وأبو داود والترمذي والنسائي - وعن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم قال ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لاخذه بكذا وكذا فصدّقه وهو على غير ذلك ورجل بايع اماما لا يبايعه الا للدنيا فان أعطاه منها وفى وان لم يعط منها لم يف - متفق عليه ورواه احمد والاربعة وفى رواية متفق عليها عنه مرفوعا ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم رجل حلف على سلعة لقد اعطى بها اكثر مما اعطى وهو كاذب ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم ورجل منع فضل مائة فيقول الله اليوم أمنعك فضلى كما منعت فضل ما لم يعمل يداك وعن سلمان نحوه بلفظ شيخ زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشترى الا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني والبيهقي وروى الطبراني عن عصمة بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.(1/974)
وَ إِنَّ مِنْهُمْ أى من أهل الكتاب لَفَرِيقاً طائفة وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف وحيى بن اخطب وأبو ياسر وسفنة بن عمرو الشاعر يَلْوُونَ أى يصرفون أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أى متلبسا بقراءة الكتاب عن المنزل إلى ما حرفوه لِتَحْسَبُوهُ أى لتظنوا أيها المؤمنون ذلك المحرف المفهوم من قوله تعالى يلون كائنا مِنَ الْكِتابِ المنزل وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ المنزل وَيَقُولُونَ أى اليهود تصريحا هُوَ أى ذلك المحرف كائن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيه تشنيع عليهم وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تأكيد لما سبق يعنى ما هو من الكتاب وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) انه كذب تأكيد بعد تأكيد وتسجيل عليهم بتعمد الكذب على الله قال الضحاك عن ابن عباس ان الآية نزلت فى اليهود والنصارى جميعا وذلك انهم حرفوا التورية والإنجيل والحقوا بكتاب الله ما ليس منه - أخرج إسحاق وابن جرير
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 78
و ابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي (حين اجتمعت أحبار اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام) أ تريد يا محمد ان نعبدك كما تعبد النصارى عيسى قال معاذ الله ان امر بعبادة غير الله ما لذلك بعثني الله ولا بذلك أمرني فانزل الله تعالى ما كان لبشر إلى قوله مسلمون - واخرج عبد فى تفسيره عن الحسن قال بلغني ان رجلا قال يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ا فلا نسجد لك قال لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لاهله فانه لا ينبغى ان يسجد لاحد من دون الله فانزل الله تعالى هذه الآية - وقال مقاتل والضحاك كان نصارى نجران يقولون ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا فانزل الله تعالى.(1/975)
ما كانَ جائز لِبَشَرٍ يعنى لمحمد ولا لعيسى صلى الله عليهما - والبشر اسم جنس كالانسان ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو جمعا وقد يثنى كما فى قوله تعالى أ نؤمن لبشرين مثلنا ويجمع ابشارا كذا فى القاموس وقال البغوي البشر جميع ابن آدم جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ يعنى الحكمة والسنة أو إمضاء الحكم وَالنُّبُوَّةَ « 1 » ثُمَّ يَقُولَ عطف على يؤتى منصوب بان لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أى من دون توحيد الله - وفيه اشارة إلى ان عبادة غير الله تنافى عبادة الله وعبادته منحصر فى توحيده - وان فى محل الرفع على انه اسم كان يعنى ما كان إيتاء الكتاب والنبوة وبعد ذلك القول بعبادة غير الله جائزا لبشر لمنافاة بين النبوة التي هى دعاء الناس إلى الايمان بالله وحده وهذا القول الذي هو دعاء إلى الشرك وَلكِنْ عطف على يقول بتقدير القول يعنى ولكن يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وجاز ان يكون ولكن كونوا معطوفا على مفهوم ما سبق فانه يفهم منه لا تكونوا قائلين للناس كونوا عبادا لى ولكن كونوا ربانيين مبلغين ما أتاكم ربكم - قال على وابن عباس فى تفسير قوله تعالى كونوا ربانيين كونوا فقهاء علماء وقال قتادة حكماء علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس فقهاء معلمين وقال عطاء علماء حلماء نصحا لله فى خلقه وعن سعيد بن جبير الذي يعمل بعلمه وقال أبو عبيد سمعت رجلا عالما يقول الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهى العارف بانباء الامة ما كان وما يكون وقيل الربانيون فوق الأحبار والأحبار العلماء والربانيون الذين
_________
(1) ترك فى الأصل والنبوة لعله من الناسخ - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 79(1/976)
جمعوا بين العلم والبصارة بين الناس وحاصل الأقوال الرباني الكامل المكمل فى العلم والعمل والإخلاص ومراتب القرب سمى بذلك لانهم يربون العلم ويقومون به ويربون المتعلمين لصغار العلوم قبل كبارها وكل من قام بإصلاح شىء وإتمامه فقد ربه يربه وعن على انه يرب علمه بعمله واحده ربان كما يقال ريان وعطشان ثم ضمت إليه ياء النسبة - وقيل هو منسوب إلى الرب بزيادة الالف والنون للمبالغة كاللحيانى لعظيم اللحية والرقبانى لعظيم الرقبة وطويلهما إذ لو أريد النسبة إلى اللحية والرقبة بدون المبالغة لقيل لحيى ورقبى - قال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس مات ربانى هذه الامة بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ قرأ الكوفيون وابن عامر بالتشديد من التعليم أى يعلمون الناس والباقون بالتخفيف من علم وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) أى تديمون على قراءة الكتاب ويحفظونه وجاز ان يكون معناه تدرسونه على الناس فيكون بمعنى تعلّمون من التعليم - قال فى الصحاح درس الدار معناه بقي اثرها ودرس الكتب والعلم أى تناول اثره بالحفظ - ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن ادامة القراءة بالدرس قال الله تعالى ودرسوا ما فيه وبما كنتم تدرسون يعنى تديمون القراءة وتحفظون وقوله بما كنتم متعلق بقوله كونوا وما مصدرية والمعنى كونوا ربانيين بسبب كونكم عالمين الكتاب ومعلميه الناس دائمين على قراءته وحفظه فان فائدة العلم العمل به وإصلاح نفسه وفائدة التعليم إصلاح غيره وذلك فرع إصلاح نفسه لئلا يخاطب بقوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون وقوله تعالى أ تأمرون النّاس بالبرّ وتنسون أنفسكم.(1/977)
وَ لا يَأْمُرَكُمْ قرأ نافع وأبو جعفر - أبو محمد وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالرفع على الاستيناف يعنى ولا يأمركم الله وجاز ان يكون حالا من فاعل يقول يعنى يأمركم بعبادة نفسه والحال انه لا يأمركم بل ينهى من أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً وقرا ابن عامر ويعقوب وخلف - أبو محمد وعاصم وحمزة لا يأمركم بالنصب عطفا على قوله ثم يقول ويكون لا مزيدة لتأكيد معنى النفي فى قوله ما كان لبشر ان يؤتيه اللّه الكتب والحكم والنّبوّة ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر ان يتخذ الملائكة والنبيين أربابا كما فعل قريش والصابئون حيث قالوا الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله وجاز ان يكون لا غير
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 80
زائدة والمعنى ليس له ان يأمر بعبادته ولا يأمر بل ينهى باتخاذ اكفائه من الأنبياء والملائكة أربابا أَيَأْمُرُكُمْ استفهام على التعجب والإنكار بِالْكُفْرِ يعنى بعبادة غير الله تعالى بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) بالله تعالى - ان كان الخطاب مع المسلمين المستأذنين السجود للنبى صلى الله عليه وسلم كما رواه الحسن فلا غبار عليه وكذا ان كان رد القول النصارى ان عيسى أمرهم ان يتخذوه ربا لانهم كانوا مسلمين فى زمن عيسى عليه السلام واما على تقدير كونه خطابا لليهود والنصارى القائلين أ تريد يا محمد ان نعبدك فتأويله ان هذا الخطاب على سبيل الفرض والتقدير يعنى على تقدير ان تسلموا وتنقاد والأمر محمد صلى الله عليه وسلم أ يأمركم حينئذ بالكفر بعد الإسلام - .(1/978)
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ أراد ان الله أخذ الميثاق من كل نبى ان يؤمن بمن بعده ويأمر أمته ان يتبعوه وهذا معنى قول ابن عباس وقال على بن أبى طالب لم يبعث الله نبيّا آدم ومن بعده الا أخذ عليه العهد فى امر محمد صلى الله عليه وسلم وأخذ العهد على قومه لتؤمنن به ولئن بعث وهم احياء لينصرنه - وقيل معناه أخذ الله ميثاق أهل الكتاب ففى الكلام اما حذف مضاف تقديره أخذ الله ميثاق أولاد النبيّين وهم بنو إسرائيل أهل الكتاب واما سماهم نبيين تهكما لانهم كانوا يقولون نحن اولى بالنبوة من محمد لانا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا - واما اضافة الميثاق إلى النبيين اضافة إلى الفاعل والمعنى إذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم ويؤيده قراءة ابن مسعود وابى بن كعب وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتب والصحيح هو المعنى الأول المنطوق من القراءة المتواترة فاخذ الله الميثاق من موسى ان يؤمن بعيسى ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن عيسى ان يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويأمر قومه ان يؤمنوا به ومن ثم قال عيسى يبنى اسراءيل انّى رسول اللّه إليكم مصدّقا لمّا بين يدىّ من التّورية ومبشّرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد والقراءة المتواترة لا ينافى قراءة ابن مسعود لان العهد من المتبوع عهد من التابع لَما آتَيْتُكُمْ قرأ حمزة بكسر اللام على انها جارة وما مصدرية أى لاجل ايتائى إياكم بعض الكتاب ثم مجيىء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 81(1/979)
لتؤمنن به ولتنصرنه - أو موصولة يعنى اخذه للذى اتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له والباقون بفتح اللام توطية للقسم لان أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما حينئذ يحتمل ان يكون شرطية ولتؤمنن به ساد مساد جواب القسم وجزاء الشرط جميعا والمعنى أخذ الله ميثاق النبيين واستحلفهم لئن اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتومنن به - ويحتمل ان يكون موصولة مبتدا بمعنى الذي وخبره لتؤمنن به يعنى للذى اتيتكم من كتاب ثم جاءكم رسول مصدق له لتؤمنن به قرأ نافع وأبو جعفر - أبو محمد آتيناكم على التعظيم كما فى قوله تعالى واتينا داود زبورا والآخرون بالإفراد مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ أى سنة أو فقه فى الدين ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما للكتاب الذي جاء مَعَكُمْ جملة ثم جاء عطف على الصلة والعائد فيه إلى الموصول مظهر وضع موضع المضمر وهو لما معكم تقديره مصدقا له - قيل المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لكونه مبعوثا إلى كافة الأنام وهو المستفاد من قول ابن عمرو ما ذكر من قول على - والصحيح عندى ان اللفظ عام ولا دليل على التخصيص ولا شك ان الايمان بجميع الأنبياء والقول بلا نفرّق بين أحد من رسله واجب على جميع الأمم السابقة واللاحقه وقد قال الله تعالى شرع لكم من الدّين ما وصّى به نوحا والّذى أوحينا إليك وما وصّينا به ابراهيم وموسى وعيسى ان اقيموا الدّين ولا تتفرّقوا فيه وقول على وابن عباس رضى الله عنهما بتخصيص ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لالزام أهل الكتاب المعاندين فان الكلام معهم انما كان فى امر محمد صلى الله عليه وسلم لا غير وليس المقصود من قولهما نفى الحكم عما عداه وجاز ان يكون تخصيص العهد لمحمد صلى الله عليه وسلم لاظهار فضله وفى قوله تعالى مصدّقا لما معكم اشارة إلى ان تكذيبه يستلزم تكذيب ما معكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ أى بالرسول وَلَتَنْصُرُنَّهُ بانفسكم ان أدركتموه او(1/980)
بامركم بالنصر لمن أدركه من اتباعكم ان لم تدركوه - قال البغوي حين استخرج الله الذرية من صلب آدم والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج أخذ عليهم الميثاق فى امر محمد صلى الله عليه وسلم قالَ استيناف بيان لاخذ الميثاق كأنَّه قيل كيف أخذ الله الميثاق - أو ناصب لاذ أى قال إذ أخذ الله الميثاق وعلى الأول ناصبه إذ كرع أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أى عهدى استفهام تقرير قالُوا أى الأنبياء أو هم والأمم جميعا يوم الميثاق
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 82
أَقْرَرْنا قالَ الله للرسل فَاشْهَدُوا على أنفسكم وعلى اتباعكم بالإقرار يوم القيامة وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) عليكم وعليهم وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى لملائكته فاشهدوا عليهم كناية عن غير مذكور
. فَمَنْ تَوَلَّى من اتباع الرسل بَعْدَ ذلِكَ الإقرار وهم اليهود والنصارى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (84) الخارجون من الايمان إلى الكفر هذا صريح فى ان الميثاق كان على النبيين والأمم أجمعين واكتفى بذكر المتبوعين عن الاتباع - .(1/981)
أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ معطوف على فاولئك هم الفاسقون والهمزة توسطت للانكار أو على محذوف تقديره أ يفسقون فغير دين الله يبغون - أو تقديره أ يتولون فغير دين الله يبغون وتقديم المفعول للتخصيص والإنكار للمخصص تقديره أ تخصصون غير دين الله بالطلب وفيه اشارة إلى ان طلب دين الله لا يجامع طلب غير دينه - قرأ أبو عمرو ويعقوب وحفص عن عاصم يبغون بالياء على الغيبة نظرا إلى قوله فاولئك هم الفاسقون والجمهور بالتاء على الخطاب نظرا إلى قوله اتيتكم وقيل تقديره قل لهم أ فغير دين اللّه تبغون قال البغوي ادعى كل من اليهود والنصارى انه على دين ابراهيم واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام كلا الفريقين برىء من دين ابراهيم فغضبوا وقالوا لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فانزل الله تعالى أ فغير دين اللّه يبغون وَلَهُ أى لله أَسْلَمَ أى خضع « 1 » وانقاد - والجملة حال من الله الواقع فى حيز المفعول مَنْ فِي السَّماواتِ أى الملائكة وَالْأَرْضِ أى الجن والانس طَوْعاً أى طائعين باختيارهم وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين انقادوا باختيارهم فيما أمروا به من الأوامر التكليفية والافعال الاختيارية ورضوا بقضاء الله سبحانه وأحبوا ما اجرى عليهم محبوبهم من الأوامر التكوينية وَكَرْهاً أى كارهين « 2 » بالسيف أو معاينة
_________
(1) أخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى له اسلم من فى السّموت والأرض طوعا قال اما من فى السموات فالملائكة واما من فى الأرض فمن ولد على الإسلام واما كرها فمن اتى به من سبايا الأمم فى السلاسل والاغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون - منه رحمه الله
((1/982)
2) قيل هذا يوم الميثاق حين قال الست بربّكم قالوا بلى فقاله بعضهم طوعا وبعضهم كرها وقال قتادة المؤمن اسلم طوعا فنفعه والكافر اسلم كرها فى وقت اليأس فلم ينفعه - وقال الشعبي هو استعاذتهم باللّه عن اضطرارهم قال الله تعالى فإذا ركبوا فى الفلك دعوا اللّه مخلصين له الدين - منه رح [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 83
ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل وادراك الغرق والاشراف على الموت فى الأوامر التكليفية أو مسخرين بلا اختيارهم فى الأوامر التكوينية وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قرأ حفص ويعقوب بالياء للغيبة على ان الضمير راجع إلى من والجمهور بالتاء للخطاب على نسق تبغون وكذا قرأ أبو عمرو مع انه قرأ يبغون بالغيبة على طريقة الالتفات أو لان الباغين هم المتولون والراجعون جميع « 1 » الناس - .(1/983)
قُلْ يا محمد آمَنَّا امر رسوله ان يتكلم عن نفسه على طريقة الملوك إجلالا له - أو أمره ان يخبر عن نفسه وعن متابعيه بالايمان وجاز ان يكون الخطاب لكل مخاطب منهم امر كل واحد ان يخبر عن نفسه وإخوانه المؤمنين باللّه وحده وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنى القرآن فان كان الكلام اخبارا عن جميع المؤمنين فنزوله عليهم بتوسط تبليغه النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أو يقال المنسوب إلى واحد من الجمع قد ينسب إليهم والنزول قد يعدى بالى كما فى سورة البقرة لأنه ينتهى إلى الرسل وقد يعدى بعلى لأنه من فوق وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعنى الأنبياء من أولاد يعقوب من الكتب والصحف وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى خصهما بالذكر بعد دخولهما فى الأسباط اما لمزيد فضلهما واما لان المنازعة كانت غالبا مع اليهود والنصارى فلدقع توهم مخالفة موسى وعيسى خصهما بالذكر أو المراد بما اوتى الوحى الخفي وبما انزل الوحى الجلى - أو المراد بما اوتى من المعجزات والفضائل وَالنَّبِيُّونَ كرر فى البقرة ما اوتى ولم يكرر هاهنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ عند رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق والتكذيب وَنَحْنُ لَهُ أى لله مُسْلِمُونَ (84) منقادون - .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ غير التوحيد والانقياد لحكم الله أو المراد غير دين محمد صلى الله عليه وسلم الناسخ لجميع الأديان دِيناً تميز وجاز ان يكون مفعولا ليبتغ وغير الإسلام حالا منه مقدما عليه لتنكيره فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لأنه غيرما امر الله به وارتضاه وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) لأنه معرض عن الإسلام وطالب لغيره فهو فاقد للنفع واقع فى الخسران بابطال الفطرة السليمة قال
_________
((1/984)
1) أخرج البيهقي فى الدعوات عن ابن عباس إذا استصعب دابة أحدكم أو كان سموسا فليقرأ هذه الآية فى أذنيها أ فغير دين اللّه يبغون الآية - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 84
البغوي نزلت هذه الآية وما بعدها فى اثنى عشر رجلا ارتدوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا منهم الحارث بن سويد الأنصاري.
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ إلى الجنة والثواب استفهام للانكار يعنى لا يهدى الله واستبعاد لهم عن الهداية قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ كما فعل هؤلاء الرجال اثنى عشر وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ عطف على ما فى ايمانهم من معنى الفعل يعنى بعد ان أمنوا وشهدوا - ولك ان تجعل الفعل بمعنى المصدر كما فى قوله تسمع بالمعيدي خير من ان تراه يعنى بعد ايمانهم وشهادتهم وان تقدر زمانا مضافا إلى الفعل يعنى بعد ايمانهم وزمان شهدوا - وجاز ان يكون معطوفا على كفروا لان العطف بالواو لا يقتضى الترتيب - وجاز ان يكون الجملة حالا بإضمار قد - وفيه دليل على ان الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الايمان وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أى الدلائل الواضحة كالقران وسائر المعجزات وَاللَّهُ لا يَهْدِي طريق الجنة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أى الكافرين.
أُولئِكَ مبتدا جَزاؤُهُمْ بدل اشتمال من المبتدا أو مبتدا ثان وما بعده خبره والمجموع خبر المبتدا أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ أى غضبه المستلزم لبعده من رحمته وَالْمَلائِكَةِ أى الدعاء منهم بالبعد من الرحمة وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) المراد به المؤمنون منهم أو المراد مؤمنهم وكافرهم أجمعين فان الكفار أيضا يلعنون منكرى الحق وان كانوا لا يعرفون الحق بعينه أو هم يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة قال الله تعالى يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا.(1/985)
خالِدِينَ فِيها أى فى اللعنة أو فى النار وان لم يجر ذكرها لدلالة الكلام عليها حال من الضمير فى عليهم لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) أى يمهلون.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الارتداد وَأَصْلَحُوا عطف تفسيرى على تابوا أى صاروا صالحين أى مسلمين أو أصلحوا ايمانهم وأنفسهم إذ أصلحوا ما أفسدوا فى الأرض فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يقبل توبتهم ويغفر ما فرطوا فى حقوق الله تعالى رَحِيمٌ (89) بهم يدخلهم الجنة - روى النسائي وابن حيان والحاكم عن ابن عباس قال كان رجل من الأنصار اسلم ثم ارتد ثم ندم فارسل إلى قومه ان أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى توبة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 85
فنزلت قوله تعالى كيف يهدى إلى قوله فانّ اللّه غفور رحيم فارسل إليه قومه فاسلم - واخرج ابن المنذر فى مسنده وعبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فاسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فانزل الله فيه القرآن كيف يهدى اللّه قوما كفروا إلى قوله رحيم فحملها إليه رجل من قومه فقراها عليه فقال الحارث انك والله ما علمت لصدوق وان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صدق منك وان الله لا صدق الثلاثة فرجع فاسلم فحسن إسلامه - .(1/986)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال قتادة والحسن نزلت فى اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد ايمانهم بموسى والتورية ثمّ ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقران - وقال أبو العالية نزلت فى اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رواه بعد ايمانهم بنعته وصفته فى كتبهم ثمّ ازدادوا كفرا أى ذنوبا فى حال كفرهم - وقال مجاهد نزلت فى الكفار أجمعين أشركوا بعد إقرارهم بان الله تعالى خالقهم ثمّ ازدادوا كفرا أى أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه وقال الحسن كلما نزلت اية كفروا به فازدادوا كفرا - وقال الكلبي نزلت فى اصحاب الحارث بن سويد لما رجع الحارث إلى الإسلام اقام بقيتهم على الكفر بمكة - وقال بعض الأفاضل المراد بالّذين كفروا ثمّ ازدادوا كفرا المنافقون فان كفرهم زائد على كفر المجاهدين بالكفر لانهم احتملوا مشقة إخفاء الكفر ومشقة الصلاة والصوم مع كمال كراهتهم وهذا نهاية محبة الكفر لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ ان كان المراد بالّذين كفروا ما قالوا صاحب الأقوال المتقدمة فمعناه لن تقبل توبتهم من الذنوب ما داموا على الكفر لكن توبتهم من الكفر مقبولة ما لم يغر غرفانه لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل من اصحاب الحارث بن سويد فى الإسلام قبلت توبته وان كان المراد به المنافقون على ما قال بعض الأفاضل فمعناه لن تقبل توبتهم باللسان مع إصرارهم على الكفر بالجنان وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) عن سبيل الحق.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَلم يتوبوا من الكفر حتى ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ يوم القيامة - ادخل الفاء فى خبر ان شبه الذين بالشرط وإيذانا بكون الموت على الكفر سببا لعدم القبول مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ أى قدر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 86(1/987)
ما يملؤها ذَهَباً منصوب على التميز يعنى لن يقبل منه ملء الأرض ذهبا فرضنا انه تصدق به فى الدنيا وعدم قبول ما دونها يعلم منه بالطريق الاولى فان الايمان شرط لقبول الصدقات والعبادات بل العبادة لا يكون عبادة الا بالنية المترتبة على الايمان والإخلاص وَلَوِ افْتَدى بِهِ أى يملا الأرض ذهبا فى الاخرة فرضا لا يقبل منه أيضا وجاز ان يكون معناه لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا يفتدى به من عذاب يوم القيامة ولو افتدى بمثله معه كقوله تعالى ولو انّ للّذين ظلموا ما فى الأرض جميعا ومثله معه - والمثل يحذف ويراد كثير الان المثلين فى حكم شىء واحد - وقيل الواو فى ولو افتدى به زائدة مقحمة والمعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا لو افتدى به وكون لو هاهنا للوصل لا يستقيم لأنه يقتضى كون نقيض الشرط اولى بالجزاء فيكون تقديره لن يقبل من أحدهم ملء الأرض لو لم يفتد به ولو افتدى به كما فى قوله تعالى يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار يعنى يضىء لو مسه النار ولو لم تمسسه وقد يوجه بان المراد من قوله لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لا يقبل منه فدية أصلا لان غاية ان يفتدى ملء الأرض ذهبا وذلك لا يقبل منه فكيف ما هو اقل منه فالمعنى لا يقبل منه فدية أصلا لو لم يفتد بملا الأرض بل باقل منه ولو افتدى به أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مبالغة فى التحذير واقناط لان من لا يقبل منه الفداء قلّما يعفى تكرما وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) فى دفع العذاب ومن مزيدة للاستغراق عن انس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يقول الله تعالى لاهون أهل النار عذابا يوم القيامة لو ان لك ما فى الأرض من شىء أ كنت تفتدى به فيقول نعم فيقول أردت منك أهون من هذا وأنت فى صلب آدم ان لا تشرك بي شيئا فابيت الا ان تشرك بي - متفق عليه.(1/988)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ فى القاموس البر الصلة والجنة والخير والاتساع فى الإحسان والصدق والطاعة - قلت البر المضاف إلى العبد الطاعة والصدق والاتساع فى الإحسان وضده الفجور والعقوق والبر المضاف إلى الله الرضاء والرحمة والجنة وضده الغضب
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 87
و العذاب فقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد المراد هاهنا الجنة وقال مقاتل بن حبان التقوى وقيل الطاعة وقيل الخير وقال الحسن لن تكونوا أبرارا يعنى كثير الخير والمتسع فى الإحسان والطاعة - قال البيضاوي لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضاء والجنة - فاللام على الأول للجنس وعلى الثاني للعهد - عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم بالصدق فان الصدق يهدى إلى البر والبر يهدى إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فان الكذب يهدى إلى الفجور والفجور يهدى إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا رواه مسلم واحمد والترمذي - وعن أبى بكر الصديق مرفوعا عليكم بالصدق فانه مع البر وهما فى الجنة وإياكم والكذب فانه مع الفجور وهما فى النار الحديث رواه احمد وابن ماجة والبخاري فى الأدب حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ 5 كلمة من للتبعيض والمراد بما تحبون اصناف المال كلها فان الناس يحبونها ويؤثرونها ويميل إليه القلوب فمن لم ينفق شيئا من الأموال حتى الزكوة المفروضة ما نال البر بل كان فاجرا - فبهذه الآية ثبت فرضية انفاق البعض من كل صنف من المال وثبت انه من كان عنده مال طيب ومال خبيث لا يجوز له الانفاق من الخبيث بدلا من الطيب نظيره قوله تعالى يايّها الّذين أمنوا أنفقوا من طيّبت ما كسبتم وممّا أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمّموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الّا ان تغمضوا فيه(1/989)
و القدر القليل جدا لا يجزى عن الواجب اجماعا ولان عنوان الاحبية لا يقتضى ذلك - فالاية مجملة فى مقدار الواجب من كل مال والتحق الأحاديث الواردة فى مقادير الزكوة بيانا لها بقي الكلام فى ان الآية تدل على وجوب الزكوة فى كل مال ناميا كان أو لا بالغا قدر النصاب أو لا فاضلا عن الحاجة الاصلية أو لا حال عليه الحول أو لا لكن ثبت بالآيات والأحاديث (مثل قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ - وقوله عليه الصلاة والسلام ليس فى العوامل ولا الحوامل ولا العلوفة صدقة - وقوله عليه الصلاة والسلام فى جواب من قال هل علىّ غيرها قال « 1 » لا الا ان تطوع وقوله عليه الصلاة
_________
(1) فى الأصل لا بغير قال -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 88(1/990)
و السلام لا صدقة الا عن ظهر غنى وغير ذلك - ) انه لا زكوة الّا فى السوائم أو النقدين أو عروض التجارة إذا بلغت نصابا وحال عليه الحول والا فى الزرع والثمار وانعقد عليه الإجماع - فقلنا ان هذه الآية مخصوصة بالبعض - فالمراد بالآية الزكوة كذا روى الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد والكلبي هذه الآية نسختها اية الزكوة وليس هذا القول بشىء لجواز حملها على الزكوة كما سمعت فكيف يجوز القول بالنسخ - ولو كان المراد هاهنا وجوب الانفاق من أحب الأموال كما قيل فذلك لا يقتضى عدم الوجوب فى غير ذلك الأموال ولا على وجوب مقدار سوى مقدار الزكوة فكيف يتصور النسخ على ان هذه الآية مدنية وآيات الزكوة مكيات والله اعلم وفى تعبير الأموال بما تحبون اشارة إلى ان كلما كان من الأموال أحب كان إنفاقه فى سبيل أفضل وبدلالة النص يثبت ان الواجب وان كان انفاق البعض لكن من أنفق كل ما هو أحب إليه من الأموال كان ابر الناس وأطوع والله اعلم - وقال الحسن كل انفاق يبتغى به المسلم وجه الله تعالى حتى التمرة ينال به هذا البر ومقتضى قول الحسن ان الانفاق هاهنا يشتمل الانفاق الواجب والمستحب غير ان نفى البر واطلاق الفجور لا يجوز الا عند فقد الانفاق مطلقا حتى الزكوة المفروضة - وقال عطاء لن تنالوا البر يعنى شرف الدين والتقوى حتى تنتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء عن انس بن مالك قال كان أبو طلحة اكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال انس فلما نزلت لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان الله تعالى يقول فى كتابه لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون وان أحب أموالي الىّ بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت فقال(1/991)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت فيها انى ارى ان تجعلها فى الأقربين فقال أبو طلحة افعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه - متفق عليه وجاء زيد بن الحارثة بفرس كان يحبه فقال هذا فى سبيل الله فحمل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسامة بن زيد فقال زيد انما أردت ان أتصدق به فقال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 89(1/992)
صلى الله عليه وسلم ان الله قد قبله منك أخرجه ابن المنذر عن محمد بن المنكدر مرسلا وفيه ان الفرس يقال له سبيل - ورواه ابن جرير عن عمر بن دينار مرسلا وعن أبى أيوب السجستاني معضلا قال البغوي روى عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب رضى الله عنه إلى أبى موسى الأشعري ان يبتاع له جارية من سبى جلولا يوم فتحت فدعا بها فاعجبته فقال ان الله عز وجل يقول لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فاعتقها عمر - وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال ابن عمر فذكرت ما أعطاني الله عز وجل فما كان اعجب حينئذ شىء الىّ من فلانة هى حرة لوجه الله تعالى وقال لو لا انى أعود فى شىء جعلته لله لنكحتها هذه الأحاديث والآثار تدل على ان الانفاق كما يطلق على التصدق يطلق على الاعادة والاقراض والاعتاق ونحو ذلك مما يبتغى به وجه الله أيضا وعلى ان الأفضل الانفاق على اقرب الأقارب وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ محبوب أو غيره ومن لبيان ما فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) يعنى ان الله يجازيه على حسب العمل والنية ذكر السبب اعنى العلم موضع المسبب اعنى الجزاء أو الثواب للدلالة على ان علم الكريم بإحسان عبده موجب للجزاء والثواب لا محالة وفيه غاية المبالغة فى علمه تعالى حيث لم يقل وما أنفقتم بصيغة الماضي وذكر صيغة المستقبل للدلالة على انه تعالى عالم به قبل إنفاقه صغيرا كان الانفاق أو كبيرا - وفيه اشارة إلى انه تعالى غنى عن إبداء الانفاق وتحريض على الإخفاء - قال البغوي قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم انك تزعم انك على ملة ابراهيم وكان(1/993)
ابراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته فقال النبي صلى الله عليه وسلم كان ذلك حلالا لابراهيم فقالوا كلّ ما نحرّمه اليوم كان ذلك حراما على نوح وابراهيم حتى انتهى إلينا وكانوا ينكرون نسخ الاحكام فانزل الله تعالى.
لتكذيبهم كُلُّ الطَّعامِ مصدر بمعنى المفعول معناه تناول الغذاء والمراد هاهنا الغذاء واللام للعهد يعنى كل مطعوم من الطيبات التي حرم فى التورية بظلم من الذين هادوا فلا يشتمل ذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث كالسباع ونحوها كانَ حِلًّا مصدر يقال حل الشيء حلّا نعت به فيستوى فيه المذكر والمؤنث والجمع والواحد
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 90(1/994)
قال الله تعالى لاهنّ حلّ لهم يعنى كان ذلك المطعومات حلالا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أى لاولاد يعقوب كما كان حلالا على يعقوب وأبويه ابراهيم وإسحاق إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ يعنى يعقوب عَلى نَفْسِهِ وهى لحوم الإبل وألبانها وذلك لأنه كان به عرق النساء فنذر ان شفى الله له لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحبه إليه أخرجه احمد والحاكم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا بسند صحيح - وكذا ذكر البغوي عن أبى العالية وعطاء ومقاتل والكلبي وذكر البغوي رواية جويبر عن ابن عباس انه لما أصاب يعقوب عرق النساء وصف له الأطباء ان يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه وقال البغوي قال الحسن حرم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبد الله عز وجل فسال ربه ان يجيز ذلك له فحرمه الله على ولده وقال عطية انما كان ذلك محرما عليهم بتحريم إسرائيل فانه كان قد قال ان عافانى الله لم يأكله ولد لى ولم يكن محرما عليهم من الله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ الظرف لا يجوز ان يتعلق بحرم إسرائيل كما هو الظاهر إذ لا فائدة حينئذ فى التقييد فان تحريم إسرائيل لا يتصور بعد نزول التورية ولو جعل متعلقا بكان حلا لزم قصر الصفة قبل تمامها فهو متعلق بمحذوف دل عليه ما سبق وهو كأنَّه فى جواب متى كان حلّا وتقديره كان حلّا من قبل ان تنزّل التّورية فلما نزّل التورية حرم عليهم الطيبات بظلمهم قال الله تعالى فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وقال الكلبي كانت بنوا إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله عليهم طعاما طيبا اوصب عليهم رجزا وهو الموت - (1/995)
و قال الضحاك لم يكن شىء من ذلك حراما عليهم ولا حرمه الله فى التورية وانما حرموه على أنفسهم اتباعا لابيهم ثم أضافوا تحريمه إلى الله عز وجل فكذبهم الله - وهذا ليس بشىء حيث قال الله تعالى حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وقال حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لما فى الصحيحين انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 91
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(93) امر الله سبحانه رسوله بمحاجتهم بكتابه وتبكيتهم بما فيه من انه قد حرم عليهم بظلمهم ما لم يكن محرما قبل ذلك فبهتوا ولم يأتوا بالتورية - وفيه دليل على نبوته صلى الله عليه وسلم وكونه على ملة ابراهيم عليه السلام ورد على اليهود فى منع النسخ.
فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
و قال ان اللّه حرم ذلك على نوح وابراهيم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
اى من بعد لزوم الحجة عليهم بالتورية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
الذين يكابرون الحق بعد الوضوح - .(1/996)
قُلْ يا محمد صَدَقَ اللَّهُ فى قوله انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبىّ والّذين أمنوا وكذب اليهود والنصارى فى ادعائهم انهم على دين ابراهيم وانه كان هودا أو نصارى فَاتَّبِعُوا يا هؤلاء الذين يبتغون دين ابراهيم مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى الإسلام دين محمد وأمته فانه هو ملة ابراهيم اما بناء لكمال مشابهته به أو لأنه هو ملته فى زمنه - ولم يقل فاتّبعوا ابراهيم لان الواجب اتباع هذا الدين من حيث انه يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم لا من حيث انه يتبع ابراهيم إذ لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم مثل أنبياء بنى إسرائيل الذين بعثوا لتبليغ شريعة موسى عليه السلام - والملة كالدين اسم لما شرع الله لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا بها إلى مدارج القرب وصلاح الدارين والفرق بينه وبين الدين ان الملة لا يضاف الا إلى النبي الذي يسند إليه ولا يضاف إلى الله ولا إلى احاد الامة ولا يستعمل الا فى جملة الشرائع دون احاده فلا يقال ملة الله ولا ملتى ولا ملة زيد ولا يقال للصلوة ملة الله كما يقال دين الله - واصل الملة من أمللت الكتاب كذا فى الصحاح حَنِيفاً حال من ابراهيم أى مائلا من الأديان الباطلة إلى الدين الحق - والاولى ان يقال مائلا من الافراط والتفريط إلى الاعتدال فانه كان فى دين اليهود الافراط والشدة وفى دين النصارى التفريط وَما كانَ ابراهيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) تعريض على اليهود والنصارى فانهم كانوا يشركون ومع ذلك كانوا يدعون انهم على دين ابراهيم قال البغوي قالت اليهود للمسلمين بيت المقدس قبلتنا أفضل من الكعبة واقدم وهو مهاجر الأنبياء وقال المسلمون بل الكعبة أفضل فانزل الله تعالى.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 92(1/997)
وُضِعَ لِلنَّاسِ أى وضعه الله تعالى لهم قبلة - وقيل وضع للناس يحج إليه - وقال الحسن والكلبي معناه ان أول مسجد ومعبد « 1 » وضع للناس يعبد اللّه فيه كما قال الله تعالى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ يعنى المساجد لَلَّذِي أى للبيت الذي بِبَكَّةَ قيل هى مكة نفسها والعرب يعاقب بين الباء والميم يقال نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم وقيل بكة بالباء موضع البيت أو هو مع المطاف ومكة بالميم اسم البلد سميت بكة لان الناس يتباكون فيها أى يزدحمون - وقال عبد الله بن زبير لانها تبك أعناق الجبابرة أى يدقها فلم يقصده جبار بسوء الا قصمه الله كاصحاب الفيل واما مكة سميت بها لقلة الماء واختلف العلماء فى معنى أوليته فقال ابن عمرو مجاهد وقتادة والسدى هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض خلقه الله قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحته - وقيل هو أول بيت بنى فى الأرض روى عن على بن الحسين عليه وعلى ابائه السلام ان الله وضع تحت العرش بيتا وهو البيت المعمور فامر الملائكة ان يطوفوا به ثم امر الملائكة الذين هم سكان الأرض ان يبنوا فى الأرض بيتا على مثاله وقدره فبنوه وسموه الصراح وامر من فى الأرض ان يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور وروى ان الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه فلما حجه آدم قالت الملائكة برّ حجك حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام - ويروى عن ابن عباس قال أراد به انه أول بيت بناه آدم فى الأرض أخرجه الارزقى فى تاريخ مكة وفى الصحيحين عن أبى ذر قلت يا رسول الله اىّ مسجد وضع فى الأرض اولا قال المسجد الحرام قلت ثم اىّ قال المسجد الأقصى قلت كم كان بينهما قال أربعون سنة - ثم أينما أدركتك الصلاة فصلها فان الفضل فيه وقيل هو أول بيت بناه آدم فرفع زمن الطوفان - وقيل انطمس فى الطوفان ثم بناه ابراهيم قيل ثم هدم(1/998)
فبناه قوم من جرهم ثم العمالقة ثم قريش أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي انه لما بنى ابراهيم البيت بعد ما رفع زمن الطوفان بوّاه الله مكان البيت فبعث ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس فى صورة حية فكنست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول فبناه على الأساس القديم - وقيل المراد انه أول بالشرف دون الزمان
_________
(1) فى الأصل متعبد -
فسير المظهري ، ج 2قسم 1 ، ص : 93(1/999)
يروى ذلك عن على عليه السلام - قال الضحاك أول بيت وضعت فيه البركة حيث قال الله تعالى مُبارَكاً منصوب على الحال أى ذا بركة وكثرة فى الاجر والثواب فان بعض العبادات يختص به كالحج والهدايا والعمرة وما عداها من الصلاة والصوم والاعتكاف يكثر أجرها فيه من سائر الامكنة - ومن ثم قال أبو يوسف رحمه الله من نذر ان يصلى فى المسجد الحرام ركعتين لا يجزئ عنه ان يصلى فى غيره لحديث انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة الرجل فى بيته بصلوة وصلاته فى مسجد « 1 » القبائل بخمس وعشرين صلوة وصلاته فى المسجد الذي يجمع فيه بخمس مائة صلوة وصلاته فى المسجد الأقصى بألف صلوة وصلاته فى مسجدى بخمسين الف صلوة وصلاته فى المسجد الحرام بمائة الف صلوة - رواه ابن ماجة - وروى الطحاوي عن عطاء بن الزبير قال صلوة فى مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة صلوة فى هذا - وروى عن عبد الله بن الزبير عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه مثله ولم يرفعه - وروى نحوه عن جابر بن عبد الله مرفوعا - وروى ابن الجوزي عن جابر مرفوعا بلفظ وصلوة فى المسجد الحرام أفضل من مائة الف صلوة لكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يقولان هذا لفضل محمول على الصلوات المكتوبات خاصة دون النوافل لحديث زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلوة المرء فى بيته الا المكتوبة متفق عليه - قلت والاعتكاف فى حكم الصلوات المكتوبات لأنه تربص فى المسجد لانتظار الصلوات المكتوبات فكانه فيها - وروى ابن الجوزي فى فضائل مكة عن عبد الله بن عدى بن الحمراء انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحرورة فى سوق مكة والله انك لخير ارض الله وأحب ارض الله إلى الله عز وجل ولو لا انى أخرجت منك ما خرجت وكذا روى ابن الجوزي من حديث أبى هريرة مرفوعا وَهُدىً(1/1000)
لِلْعالَمِينَ (92) لأنه قبلتهم وفيه آيات عجيبة تهدى إلى الايمان بالله ورسوله عطف على مبركا - .
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ منها ان الطير تطير فلا تعلوا فوقه - ومنها ان الجارحة تقصد صيدا خارج الحرم فإذا دخلت الصيد فى الحرم كفت عنه ومنها مَقامُ إِبْراهِيمَ
_________
(1) فى الأصل فى المسجد القبائل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 94(1/1001)
مبتدا محذوف خبره أو بدل من آيات بدل البعض من الكل وهو الحجر الذي قام عليه ابراهيم لبناء البيت حين ارتفع البناء وكان فيه اثر قدميه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي فاثر الصخرة الصماء وغوصهما فيها إلى الكعبين - وتخصيصها بهذه الآية « 1 » من بين الصخار وبقاؤه دون اثار سائر الأنبياء وحفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة كل ذلك اية - ومن ثم قيل ان مقام ابراهيم عطف بيان للايات وقيل أراد بمقام ابراهيم جميع الحرم وَمَنْ دَخَلَهُ أى الحرم كانَ آمِناً من القتل والنهب جملة ابتدائية أو شرطية معطوفة من حيث المعنى على مقام ابراهيم يعنى آيات بينات منها مقام ابراهيم ومنها الامن لمن دخل الحرم فان العرب فى الجاهلية كانت تقتل بعضهم بعضا وتغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم لا يتعرضونه كذا قال الحسن وقتادة واكثر المفسرين نظيره قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ - وقال أبو حنيفة رحمه الله معناه من دخله كان أمنا لا يجوز قتله - فمن وجب عليه القتل « 2 » قصاصا أو حدا خارج الحرم فالتجا إلى الحرم لا يستوفى منه لكنه لا يطعم ولا يبائع ولا يشارى حتى يخرج فيقتل كذا قال ابن عباس وقال الشافعي وغيره يستوفى منه القصاص وان دخل فيه واما إذا ارتكب الجريمة فى الحرم يستوفى منه عقوبته اتفاقا ومر فى تفسير قوله تعالى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ انه لا يجوز فى الحرم البداية فى القتال مع الكفار أيضا فلو غلب الكافرون ودخلوا الحرم والعياذ بالله أخرجهم بالأيدي أو ضربهم بالسياط ونحوها أو حاصرهم وحبس عنهم الطعام والشراب حتى يخرجوا عن الحرم فيقاتلهم أو يبتدءون بالقتال فيقاتلهم ثمه - فهذه الآية خبر بمعنى الأمر يعنى من دخله فامّنوه كقوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ يعنى لا ترفثوا ولا تفسقوا - وقيل معناه(1/1002)
من دخله معظما له متقربا إلى الله عز وجل كان أمنا يوم القيامة من العذاب - أخرج أبو داود الطيالسي فى مسنده والبيهقي فى شعب الايمان من حديث انس والطبراني فى الكبير والبيهقي فى الشعب من حديث سلمان والطبراني فى الأوسط من حديث جابر والدارقطني فى سننه من حديث حاطب انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مات فى أحد الحرمين
_________
(1) فى الأصل الا لاية
(2) فى الأصل قتل -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 95(1/1003)
بعث يوم القيامة أمنا من النار - واخرج الحارث بن أبى اسامة فى مسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابعث يوم القيامة بين أبى بكر وعمر ثم اذهب إلى أهل بقيع الغرقد فيبعثون معى ثم انظر إلى أهل مكة حتى يأتونى فابعث بين أهل الحرمين - واخرج أبو نعيم فى دلائل النبوة عن سالم عن أبيه موصولا واخرج الخطيب عن ملك عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احشر يوم القيامة بين أبى بكر وعمر حتى اقف بين الحرمين فيأتى أهل المدينة واهل مكة وَلِلَّهِ أى استقر له وافترض عَلَى النَّاسِ المراد بالناس الأحرار العقلاء البالغون فلا يجب الحج على المجانين والصبيان لعدم اهليتهم للخطاب ولا على العبيد بالإجماع فلو حج الكافر أو الصبى العاقل أو العبد ثم اسلم الكافر وبلغ الصبى وأعتق العبد يجب عليه حجة الإسلام ثانيا بالإجماع وسند الإجماع حديث ابن عباس ايّما صبى حج ثم بلغ الحنث فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما أعرابيّ حج ثم هاجر فعليه ان يحج حجة اخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة اخرى رواه الحاكم والمراد بالأعرابي الذي لم يهاجر من لم يسلم فان مشركى العرب كانوا يحجون قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ورواه ابن أبى شيبة فذكر نحوه وروى أبو داود مرسلا عن محمد بن كعب القرظي وفى الباب عن جابر وسنده ضعيف وهذه الأحاديث تلقته الامة بالقبول وانعقد على مقتضاه الإجماع فجاز به تخصيص الكتاب حِجُّ الْبَيْتِ قرأ أبو جعفر وحمزة وخلف - أبو محمد والكسائي وحفص بكسر حاء حجّ البيت فى هذا الحرف خاصة والباقون بالفتح والكسر لغة نجد والفتح لغة أهل الحجاز وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد وفى المدارك ان بالكسر اسم وبالفتح مصدر - والحج فى اللغة القصد والمراد هاهنا عبادة مخصوصة فيها إجمال التحق بيانه بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالآيات مثل قوله تعالى ثُمَّ(1/1004)
أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وقوله تعالى وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ونحو ذلك (مسئلة) اجمع الامة على ان الحج أحد اركان الإسلام فرض على الأعيان عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة والحج وصوم رمضان متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة « 1 » مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ أى إلى البيت سَبِيلًا الموصول بدل من الناس
_________
(1) عن عمرانه قال لو ترك الناس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصلاة - الزكوة - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 96(1/1005)
بدل البعض خصص له فلا يجب الحج على غير المستطيع والسبيل الطريق منصوب على المفعولية واليه حال منه مقدم عليه والمراد به الذهاب على طريقة جرى النهر يعنى من استطاع ذهابا إلى البيت ولاجل قصر الحكم على المستطيع اجمع العلماء على انه يشترط لوجوب الحج ان يكون الطريق أمنا والمنازل الماهولة معمورة يوجد فيه الزاد والماء وعند فوات الا من لا يجب الحج وكون البحر « 1 » بينه وبين مكة إذا كانت السلامة غالبة لا يمنع وجوب الحج عندهم خلافا لاحد قول الشافعي وكذلك يشترط عند أبى حنيفة ومالك الصحة فلا يجب عندهما على الضعيف والزمن وان كان له مال يمكن ان يستنيب من يحج عنه لأنه غير مستطيع بنفسه والحج عبادة بدنية والمقصود من العبادات البدنية اتعاب النفس فلا يحصل مقصوده بالاستنابة وقال الشافعي واحمد هو مستطيع بماله قال البغوي يقال فى العرف فلان مستطيع لبناء داروان كان لا يفعله بنفسه وانما يفعله بماله وباعوانه - قلنا هو غير مستطيع على الحج الذي هو عبارة عن اركان مخصوصة وانما هو مستطيع على الانفاق والمقصود فى البناء ليس إتيانه بنفسه بخلاف العبادات البدنية فلا يجرى فيه ذلك العرف واحتج الشافعي واحمد بحديث ابن عباس رضى الله عنهما قال كان الفضل ردف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امراة من خثعم فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الاخر فقالت يا رسول الله ان فريضة الله على عباده فى الحج أدركت أبى شيخا كبيرا لا يستطيع ان يمسك على الرحل أ فأحج عنه قال نعم وفى رواية لا يستطيع ان يستوى على الراحلة فهل تقضى عنه ان أحج عنه قال نعم وذلك فى حجة الوداع - متفق عليه والجواب انه حديث احاد لا يجوز به نسخ الكتاب المقتضى لاشتراط الاستطاعة وقد قيل فى الجواب ان معناه فريضة الله على عباده فى الحج الذي وقع بشرط الاستطاعة صادف أبى بصفة عدم الاستطاعة ا(1/1006)
فاحج عنه أى هل يجوز لى ذلك أو هل فيه اجر ومنفعة له فقال نعم وتعقب بان فى بعض ألفاظه والحج مكتوب عليه ونحوه وأجيب بانه لو صح تلك الألفاظ فهو ظن من امراة ظنت ظنا وتعقب بان النبي صلى الله عليه وسلم أجابها عن سوالها ولو كان ظنها
_________
(1) وفى فتاوى قاضيخان مذهب أبى حنيفة انه لو كان بينه وبين مكة بحر فهو مخوف الطريق يعنى لا يفترض عليه الحج وجيحون وسيحون والدجلة والفرات انهار وليست ببحار - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 97(1/1007)
غلطا لبينه لها وأجيب بانه انما أجابها عن سوالها ا فاحج عنه فقال حجى عنه لما راى من حرصها على إيصال الخير والثواب لابيها ويؤيده ما رواه عبد الرزاق من حديث ابن عباس فزاد فى الحديث حجى عن أبيك فان لم تزده خيرا لم تزده شرا - لكن جزم الحفاظ بانها رواية شاذة والاولى ان يحمل الحديث على من استقر فى ذمته صحيحا ثم طرا عليه ضعف وزمانة فانه لا يسقط عنه الحج بل يجب عليه ان يحج عنه غيره من ماله ما دام حيّا أو يوصى به عند موته وإذا مات ولم يحج يحج عنه وارثه أو يحج عنه أجنبيا من ماله ان شاء فالحج عن الغير قضاء بمثل غير معقول ثبت بهذا الحديث كما ثبت الفدية عن الصوم فى حق الشيخ الفاني بنص الكتاب - وافتراض الحج كان عام الحديبة سنه بقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وهذه قصة حجة الوداع فلعل أباه ضعف فى تلك السنين بعد الوجوب والله اعلم وكذا يشترط البصارة عند أبى حنيفة فلا يجب الحج على الأعمى وان وجد قائدا لأنه غير مستطيع بنفسه والاستطاعة بالغير غير معتبر عنده وقال أبو يوسف ومحمد والجمهور الأعمى إذا وجد قائدا يجب عليه الحج وكذا الخلاف فى وجوب الجمعة على الأعمى ولاجل اشتراط الاستطاعة يشترط عند أبى حنيفة فى حق المرأة ان يكون معها زوجها أو ذو محرم منها إذا كان بينها وبين مكة ثلاثة مراحل وقال احمد يشترط ذلك مطلقا طال المسافة أو قصرت فان لم يكن لها رجل كذلك أو كان ولا يخرج معها أو كان لا يخرج معها الا بأجرة وهى لا تقدر على الاجرة لا يجب عليها الحج وذلك لانها ممنوعة عن السفر الا ومعها زوجها أو ذو محرم منها والمهجور شرعا كالمهجور عادة فصارت غير مستطيعة - وجه قول أبى حنيفة فى اشتراط مسافة ثلاثة ايام حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تسافر المرأة ثلاثا الا معها ذو محرم - متفق عليه وفى رواية لمسلم لا يحل لامراة تؤمن بالله واليوم الاخر تسافر(1/1008)
مسيرة ثلاث « 1 » ليال الا ومعها ذو محرم - وفى رواية فوق ثلاث وفى الباب مقيدا بثلاثة ايام حديث أبى هريرة رواه مسلم والطحاوي - وفى رواية للطحاوى فوق ثلاث ليال - وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ ثلاثة ايام رواه الطحاوي - وحديث أبى سعيد الخدري رواه مسلم والطحاوي بلفظ ثلاثة ايام فصاعدا - وفى رواية لمسلم بلفظ فوق ثلاث وبلفظ اكثر من ثلاث - وقال احمد التقييد بالثلاث أو اكثر من
_________
(1) فى الأصل ثلاثة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 98(1/1009)
الثلاث اتفاقي مع ان المفهوم غير معتبر عند أبى حنيفة فكيف يستدل به على اباحة السفر فيما دون ذلك ولو كان احترازيا لتعارض رواية ثلاث برواية فوق ثلاث ووجه قول احمد فى المنع فى ما دون الثلاث انه وقع فى الصحيحين حديث أبى هريرة بلفظ مسيرة يوم وليلة وفى رواية لمسلم مسيرة يوم وفى لفظ له مسيرة ليلة وفى حديث أبى سعيد الخدري عند مسلم وغيره مسيرة يومين وعند الطحاوي مسيرة ليلتين وفى حديث أبى هريرة عند أبى داود والطحاوي لا تسافر المرأة بريدا الا مع زوج أو ذى رحم محرم ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم - وللطبرانى فى معجمه ثلاثة أميال فظهران التقييد بيوم أو يومين أو ثلاثة ايام ليس الا تمثيلا لاقل الاعداد واليوم الواحد أول العدد واقله والبريد مرحلة واحدة غالبا والاثنان أول الكثير واقله والثلاث أول الجمع واقله وقد ورد من الأحاديث بلا تقييد منها حديث ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسافر المرأة الا مع ذى محرم ولا يدخل عليها رجل الا ومعها محرم فقال رجل يا رسول الله انى أريد ان أخرج فى جيش كذا وكذا وامراتى تريد الحج قال أخرج معها - متفق عليه - وفى الباب حديث أبى سعيد الخدري وابى هريرة - وقال الشافعي جاز للمرءة ان تخرج للحج مع نساء ثقات وفى رواية مع امراة واحدة ثقة وإذا خرجت مع نساء ثقات يشترط ان يكون مع إحداهن ذو محرمها - وفى المنهاج انه لا يشترط ذلك وفى رواية عن الشافعي جاز لها الخروج من غير نساء وقال مالك لتخرج للحج جماعة من النساء ان كان الطريق أمنا والحجة عليهما ما روينا - والمراد بالاستطاعة الاستطاعة على سفر معتاد بحيث لا يلحقه حرج ومن ثم يشترط عند الجمهور ان يكون له زاد وراحلة فاضلا عما لا بد منه وعن الديون وعن نفقة عياله إلى حين عوده فان المشغول بالحاجة الاصلية كالمعدوم ولذا لا يجب فيه الزكوة ومن لا زاد له اولا(1/1010)
راحلة له لا يستطيع السفر غالبا والحرج مدفوع فى الشرع « 1 » وقال داود لا يشترط لوجوب الحج زاد ولا راحلة - وقال مالك ان كان هو ممن له عادة بالسؤال
_________
(1) وان كان الا فاقى فقيرا وتبرع ولده بالزاد والراحلة لا يثبت بها الاستطاعة خلافا للشافعى وان كان المتبرع أجنبيا له فيه قولان وقيل فى الأجنبي لا يثبت الاستطاعة قولا واحدا وله فى الولد قولان - فتاوى قاضيخان - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 99(1/1011)
او كان يمكنه ان يكتسب فى الطريق لا يشترط له الزاد وان كان قادرا على المشي لا يشترط له الراحلة وقد قال الله تعالى وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قلنا الواقع فى جواب الأمر يكون اخبارا عن الواقع ولا يكون دليلا على وجوب الحج بلا راحلة والقدرة على المشي امر خفى وقد يزول القدرة فى أثناء الطريق فلا بد من اشتراط زاد وراحلة من ابتداء السفر كيلا يفضى إلى الهلاك - واحكام الشرع عامة الا ترى انه يجوز للسلطان قصر الصلاة وإفطار الصوم فى مسافة السفر مع عدم المشقة ولا يجوز لمن يشق عليه الصوم فى ادنى من مسافة السفر - والحجة للجمهور حديث انس عن النبي صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قيل يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والراحلة « 1 » - رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين - ورواه الحاكم من طريق حماد بن سلمة وقال صحيح على شرط مسلم ورواه سعيد بن منصور فى سننه من طرق اخر صحيحة عن الحسن مرسلا - ورواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما يوجب الحج قال الزاد والراحلة قال الترمذي حسن لكن فيه ابراهيم بن يزيد الجوزي المكي قال احمد والنسائي متروك الحديث ورواه ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الزاد والراحلة - يعنى فى تفسير هذه الآية وسنده ضعيف ورواه الدارقطني من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث على بن أبى طالب وابن مسعود وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وطرقها كلها ضعيفة - ومن الحجة على وجوب التزود فى الحج قوله تعالى وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى - روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون(1/1012)
فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس فانزل الله تعالى
_________
(1) قال بعض العلماء ان كان الرجل تاجرا يعيش بالتجارة فملك مقدار ما لو رقع منه الزاد والراحلة لذهابه وإيابه ونفقة أولاده وعياله من وقت خروجه إلى وقت رجوعه ويبقى له بعد رجوعه رأس مال التجارة التي كان يتجربها كان عليه الحج والا فلا - وان كان صاحب ضيعة ان كان له من الضياع ما لو باع مقدار ما يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة عياله وأولاده ويبقى له من الضيعة قدر ما يعيش بغلة الباقي يفترض عليه الحج والا فلا - وان كان حرّاثا أكارا فملك مالا يكفى الزاد والراحلة ذاهبا وجائيا ونفقة أولاده وعياله من خروجه إلى رجوعه ويبقى له آلات الحراثين من البقر ونحو ذلك كان عليه الحج والا فلا - فتاوى قاضيخان منه رحمه الله -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 100(1/1013)
وَ تَزَوَّدُوا الآية - وَمَنْ كَفَرَ يعنى أنكر وجوب الحج كذا قال ابن عباس والحسن وعطاء - أخرج عبد بن حميد فى تفسيره عن نقيع قال قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية فقام رجل من هذيل فقال يا رسول اللّه فمن تركه فقد كفر قال من تركه لا يخاف عقوبته ولا يرجو ثوابه - نقيع تابعي فالحديث مرسل - وقال سعيد بن المسيب نزلت فى اليهود حيث قالوا الحج إلى مكة غير واجب واخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه لما نزل صدر الآية جمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارباب الملل فخطبهم وقال ان اللّه كتب عليكم الحج فحجوا فامنت به ملة واحدة يعنى المسلمين وكفرت به خمس ملل يعنى المشركين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس فنزل وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ - واخرج سعيد بن منصور عن عكرمة قال لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً الآية قالت اليهود فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه فرض على المسلمين حج البيت فقالوا لم يكتب علينا وأبوا ان يحجوا فانزل اللّه وَمَنْ كَفَرَ الآية - والظاهر انه وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتغليظا على تاركه ومعنى كفر انه لم يشكر المنعم على صحة جسمه وسعة رزقه وهذان التأويلان جاريان فى حديث أبى امامة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من لم تحبسه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا رواه البغوي والدارمي فى مسنده وأورده ابن الجوزي فى الموضوعات وتعقبه الحفاظ وحديث على عليه السلام من ملك زادا وراحلة يبلغه إلى بيت اللّه ولم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا أو نصرانيا رواه الترمذي وضعفه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) أكد اللّه سبحانه امر الحج فى هذه الآية بوجوه 1 بالدلالة على وجوبه بصيغة الخبر - 2 وابرازه فى صورة(1/1014)
الاسمية - و3 إيراده على وجه يفيد انه حق واجب لله فى رقاب الناس - 4 وتعميم الحكم اولا وتخصيصه ثانيا فانه كايضاح بعد إبهام وتكرير للمراد - 5 وتسمية ترك الحج كفرا من حيث انه فعل الكفرة - 6 وذكر الاستغناء فانه فى هذا الموضع يدل على المقت والخذلان - 7 ووضع المظهر بلفظ عام شامل لمرجع الضمير موضعه لما فيه من مبالغة التعميم والدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان والاشعار بعظم السخط
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 101
و اللّه اعلم - واضافة الحج إلى البيت يقتضى ان سبب وجوب الحج هو البيت ولذا لا يتكرر الحج فى العمر لعدم تكرر البيت - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحج مرة فمن زاد فتطوع - رواه احمد والنسائي - والبيت عبارة عن لطيفة ربانية فى بعد موهوم مهبط لتجليات ذاتية مختصة به وليس اسما لسقف أو جدارا وحجر أو تراب الا ترى انه لو نقل الحجارة والتراب إلى موضع اخر وترك ذلك المكان خاليا أو بنى بناء اخر لا يجوز السجود إلى موضع اخر بل إلى تلك العرضة الشرقاء فصورة الكعبة مع كونها من عالم الخلق امر مبطن لا يدركه حس ولا خيال بل هو مع كونه من المحسوسات ليس بمحسوس وكونه فى جهة ليس له جهة متمثل ولا مثل له هذا شأن صورت الكعبة فما ادراك ما حقيقتها سبحان من جعل الممكن مراءة للوجوب - وجعل العدم مظهرا للوجوب والوجود - وفوق حقيقة الكعبة حقيقة القرآن وفوق ذلك حقيقة الصلاة وهناك ينتهى سير السالك بتوسط النبي صلى اللّه عليه وسلم وتحصل فى تلك المقامات الفناء والبقاء وفوق ذلك مقام المعبودية الصرفة لا مجال للسير هناك الا بالنظر قف يا محمد فان اللّه يصلى كناية عن ذلك المقام واللّه هو العلام.(1/1015)
قُلْ يا محمد يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ السمعية والعقلية الدالة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم فيما يدعيه من وجوب الحج وغيره وتخصيصهم بالخطاب لان كفرهم مع علمهم بالكتاب أقبح وَاللَّهُ شَهِيدٌ والحال انه مطلع عَلى ما تَعْمَلُونَ (90) من الكفر والتحريف فيجازيكم عليها ولا ينفعكم استسرار الحق.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ تمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى عن الإسلام الذي هو الموصل إليه تعالى شأنه مَنْ آمَنَ يعنى أراد الايمان منصوب على المفعولية من تصدون يعنى تصدون عن الايمان من أراد ان يؤمن كرر الخطاب والاستفهام مبالغة فى التقريع ونفى العذر واشعارا بان كل واحد من الامرين مستقبح فى نفسه مستقل باستجلاب العذاب تَبْغُونَها أى السبل عِوَجاً أى معوجة مصدر بمعنى المفعول أو المعنى تبغون لها عوجا أى اعوجاجا - وجملة تبغون حال من فاعل تصدون - وكانت اليهود يلبسون على الناس الحق بتحريف صفة النبي صلى اللّه عليه وسلم والقول بان دين موسى مؤبد -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 102(1/1016)
و بما يحرشون بين المؤمنين ليختلف كلمتهم ويأتون الأوس والخزرج ويذكّرونهم ما كان بينهم فى الجاهلية من العداوة وَأَنْتُمْ شُهَداءُ على ما تعملون أو على ما فى التورية مكتوبا عندكم من نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وان دين اللّه هو الإسلام وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) وتختانون فى صد المؤمنين عن الايمان أخرج ابن إسحاق وأبو الشيخ وابن جرير عن زيد مرسلا وذكره البغوي انه مرّ شمّاس بن قيس اليهودي وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين على نفر من الأوس والخزرج فى مجلس جمعهم يتحدثون فغاظه ما راى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم فى الإسلام بعد ان كان بينهم فى الجاهلية من العداوة وقال ما اجتمع ملا بنى قيلة بهذه البلاد لا واللّه ما لنا معهم إذ اجتمعوا بها من قرار فامر شابّا من اليهود كان معه فقال اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكّرهم يوم بعاث وما كان قبله وانشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الاشعار وكان بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج وكان الظفر فيه للاوس على الخزرج فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قبطى أحد بنى حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج فتقاولا ثم قال أحدهم لصاحبه ان شئتم واللّه رددتها الان جذعة وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهى حرة فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين فقال يا معشر المسلمين أ بدعوى الجاهلية وانا بين أظهركم بعد إذ كرّمكم اللّه فى الإسلام وقطع به عنكم امر الجاهلية والف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا اللّه اللّه فعرف القوم انها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فالقوا السلاح من أيديهم وبكوا و(1/1017)
عانقوا بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سامعين مطيعين فانزل اللّه تعالى فى أوس وجبار ومن كان معهما.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعنى الأنصار إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى شماسا وأصحابه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ بالله ونبيه والقران كافِرِينَ (100) يعنى على اعمال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 103
الكفر قال زيد فقال جابر فما رايت قط يوما أقبح اولا واحسن آخرا من ذلك اليوم - ونزل فى شماس بن قيس يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ الآية خاطب اللّه المؤمنين بنفسه وامر رسوله بخطاب أهل الكتاب إجلالا للمؤمنين واشعارا بانهم أحقاء بان يكلمهم اللّه واخرج الفرياني وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال كانت الأوس والخزرج فى الجاهلية بينهم شر فبينما هم جلوس ذكروا ما بينهم حتى غضبوا وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت.(1/1018)
وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ عطف على يردّوكم والاستفهام للتعجب والإنكار وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ على لسان الرسول غضة طرية يعنى القرآن وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ينهاكم ويعظكم ويزيح شبهكم يعنى والحال ان الأسباب الداعية إلى الايمان المانعة من الكفر مجتمعة لكم قال قتادة فى هذه الآية علمان بينان كتاب اللّه ونبى اللّه اما نبى اللّه فقد قضى واما كتاب اللّه فابقاه اللّه رحمة منه ونعمة قلت ولكن نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرشدنا إلى من ينوبه يعده من خلفائه إلى يوم القيامة عن زيد بن أرقم قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم خطيبا فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال اما بعد أيها الناس انما انا بشر يوشك ان يأتيني رسول ربى فاجيبه وانى تارك فيكم الثقلين أولهما كتاب اللّه فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به فحث على كتاب اللّه ورغب فيه ثم قال واهل بيتي أذكركم اللّه فى أهل بيتي أذكركم اللّه فى أهل بيتي - وفى رواية كتاب اللّه هو حبل اللّه من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة رواه مسلم - ورواه الترمذي بلفظ انى تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الاخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتى أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفونى فيهما - وروى الترمذي عن جابر قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فيقول يا أيها الناس انى تركت فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا كتاب اللّه وعترتى أهل بيتي - قلت أشار النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى أهل البيت لانهم اقطاب الإرشاد فى الولايات أولهم على عليه السلام ثم ابناؤه إلى الحسن العسكري وآخرهم غوث الثقلين محى الدين عبد القادر الجيلي رضى اللّه عنهم أجمعين لا يصل أحد من الأولين والآخرين إلى درجة الولاية الا بتوسطهم(1/1019)
كذا قال المجدد رضى اللّه عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 104
ثم اولياء أمة النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلماؤها كلهم اتباع لاهل البيت داخلون فيهم بحكم الوراثة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء وَمَنْ يَعْتَصِمْ اصل العصمة المنع فكل مانع شيئا فهو عاصم والاعتصام ان يتمسك بشىء حتى يمتنع عن الهلاك بِاللَّهِ أى بدينه وبدوام التوجه إليه فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) طريق واضح لا يضل سالكه ابدا - قال البغوي قال مقاتل بن حبان كانت بين الأوس والخزرج عداوة فى الجاهلية وقتال حتى هاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة فاصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان ثعلبة بن غنم من الأوس واسعد بن زرارة من الخزرج فقال الأوس منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ومنا حنظلة غسيل الملائكة وعاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر ومنا سعد بن معاذ اهتز عرش الرحمن له ورضى اللّه بحكمه فى بنى قريظة - وقال الخزرجي منا اربعة احكموا القرآن أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم وجرى الحديث بينهما فغضبا وانشدا الاشعار وتفاخرا « 1 » فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فاتاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وانزل اللّه تعالى.(1/1020)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ اصل تقاة وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما فى تودة وتخمة والياء الفا لانفتاحها بعد حرف صحيح ساكن وموافقة الفعل - أخرج عبد الرزاق والفرياني وابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردوية فى تفاسيرهم والطبراني فى المعجم والحاكم فى المستدرك وصححه وأبو نعيم فى الحلية عن ابن مسعود موقوفا وقال أبو نعيم روى عنه مرفوعا أيضا هو ان يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى - وقال البغوي قال ابن مسعود وابن عباس هو ان يطاع فلا يعصى وهذا إجمال ما ذكر - قلت اما قوله يذكر فلا ينسى فمناطه فناء القلب واما قوله يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر فمناطه فناء النفس واطمينانه والايمان الحقيقي - فمقتضى هذه الآية وجوب اكتساب كما لات الولاية وكذا يقتضيه سبب نزوله فان تفاخر الأوس والخزرج انما كان من بقايا رذائل النفس فامروا بتهذيبها وتطهيرها عن الرذائل وتحلية القلب والنفس بمكارم الأخلاق وخشية اللّه ودوام الذكر -
_________
(1). في الأصل وتفاخروا.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 105(1/1021)
و قال مجاهدان تجاهدوا فى سبيل اللّه حق جهاده ولا يأخذكم فى اللّه لومة لائم وتقوموا للّه بالقسط ولو على أنفسكم وابائكم وأبنائكم - وعن انس قال لا يتقى اللّه عبد حق تقاته حتى يحزن لسانه - قلت وقول مجاهد وانس بيان للطريق الموصل إلى كمالات الولاية فان الرياضات والمجاهدات بقلة الطعام والمنام مع الذكر على الدوام وحفظ اللسان عن فضول الكلام المستلزم للعزلة وقلة المخالطة مع العوام وترك مبالاة الناس فى رعاية حقوق الملك العلام هى الطريقة الموصلة إلى تلك الكمالات - قال البغوي قال أهل التفسير فلما نزلت هذه الآية شق ذلك عليهم فقالوا يا رسول اللّه ومن يقوى على هذا فانزل اللّه تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت هذه الآية - قال مقاتل ليس فى ال عمران من المنسوخ الا هذه الآية - قلت ليس المراد منه ان ان حق التقوى صار منسوخا وجوبه كيف ورذائل النفس من الكبر والغضب فى غير محله والحسد والحقد والنفاق وسوء الأخلاق وجب الدنيا وقلة الالتفات إلى اللّه واشتغال القلب بغيره ما زال حراما ولا يتصور نسخ حرمتها حتى تصير مباحة - بل المراد منه ان ازالة رذائل النفس دفعة ليست فى مقدور البشر بل يتوقف ذلك جريا على عادة اللّه تعالى على مصاحبة ارباب القلوب والنفوس الزاكية والمجاهدات المذكورة فالله سبحانه رخص لعباده فى ذلك وأوجب عليهم بذل الجهد فى تزكية النفس وتصفية القلب ما استطاع فمن اعرض عن ذلك بالكلية والتفت إلى الشهوات فعليه اثم الرذائل كلها إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ومن اشتغل فى طلب الطريقة وبذل جهده فى دفع الرذائل ومات قبل تحصيل الكمالات فقد اتى بما وجب عليه وأرجو ان يغفر له ما ليس فى وسعه واللّه اعلم وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) بالإسلام الحقيقي(1/1022)
المنقادون لله تعالى فى أوامره ونواهيه مخلصون له مفوضون أموركم إليه راضون بقضائه يعنى لا تكونن على حال سوا حال الإسلام حتى يدرككم الموت فالنهى عن الفعل المقيد بحال أو وصف أو غيرهما قد يتوجه بالذات إلى الفعل نحو لا تزن فى ارض اللّه وقد يتوجه إلى القيد كما فى هذه الآية وقد يتوجه إلى المجموع دون كل واحد منهما نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن وقد يتوجه إلى كل واحد منهما نحو لا تزن حليلة جارك - عن ابن عباس رضى اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 106
عنهما قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا ايّها النّاس اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ الآية فلو ان قطرة من الزقوم قطرت على الأرض لامرّت على أهل الدنيا معيشتهم فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح - .(1/1023)
وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يعنى بدين الإسلام قال اللّه تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها أو بكتابه لقوله صلى اللّه عليه وسلم كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض وقد مرّ استعار له الحبل من حيث ان التمسك به سبب للنجاة عن التردي فى النار كما ان التمسك بالحبل سبب للنجاة عن التردي من فوق وللوثوق به والاعتماد عليه بالاعتصام ترشيحا للمجاز جَمِيعاً حال من فاعل اعتصموا أو من مفعوله اعنى بحبل اللّه أو منهما جميعا فعلى تقدير كونه حالا من الفاعل معناه حال كونكم مجتمعين فى الاعتصام يعنى خذوا فى تفسير كتاب اللّه وتأويله ما اجتمع عليه الامة ولا تذهبوا إلى خبط آرائكم على خلاف الإجماع عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم ان تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وان تعتصموا بحبل اللّه جميعا وان تناصحوا من ولى اللّه أمركم - ويسخط لكم قيلا « 1 » وقالا واضاعة المال وكثرة السؤال - رواه مسلم واحمد - وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا يجمع أمتي على ضلالة ويد اللّه على الجماعة ومن شذ شذ فى النار رواه الترمذي - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اتبعوا السواد الأعظم فانه من شذ شذ فى النار رواه ابن ماجة وعن معاذ بن جبل قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاذة والقاصية والناحية وإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة رواه احمد - وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه رواه احمد وأبو داود وعلى تقدير ان يكون حالا من المفعول فالمعنى اعتصموا بجميع كتاب اللّه ولا تقولوا نومن ببعض الكتاب ونكفر(1/1024)
ببعض فان بعض طاقات الحبل لا يقوى على الحفظ وَلا تَفَرَّقُوا عطف على ما سبق وهذه الجملة تأكيد على أحد التأويلين وتأسيس على الاخر « 2 » يعنى لا تفرقوا عن الحق باختلاف كاهل الكتاب - عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) فى الأصل قيل وقال.
(2) فى الأصل الاخرى. [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 107(1/1025)
عليه وسلم ليأتين على أمتي كما اتى على بنى إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى ان كان منهم من اتى امه علانية لكان فى أمتي من يصنع ذلك وان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم فى النار الا ملة واحدة قالوا من هى يا رسول الله قال ما انا عليه وأصحابي - رواه الترمذي وفى رواية احمد وابى داود عن معاوية ثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة وهى الجماعة وانه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى « 1 » بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله - قلت فلم يتفرق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فى خلافة أبى بكر وعمرو عثمان وأول بغى كان على الامام الحق خروج أهل المصر على عثمان رضى الله عنه - وأول اختلاف وقع فى امر الخلافة كان من معاوية غفره الله تعالى وقال كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى - وأول اختلاف وقع فى الدين اختلاف الحرورية الذين خرجوا على على عليه السلام - ثم أوقع الخلاف ورفض الحق عبد الله بن سبا منشأ الروافض - ثم ظهر مذهب الاعتزال فى زمن التابعين فتشبثوا بأذيال الفلاسفة واشتغلوا بقيل وقال وأحبوا كثرة الجدال وتركوا ظواهر كتاب الله المتعال وسنة نبيه ومذهب السلف أهل الكمال بتقليد آرائهم الكاسدة المنشئات الضلال - وَاذْكُرُوا يا معشر الأنصار نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ التي من جملتها الهداية للاسلام المودي إلى التالف إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً قبل الإسلام فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ أى صرتم بِنِعْمَتِهِ برحمته وهدايته إِخْواناً فى الدين والولاية والمحبة - قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الاخبار كانت الأوس والخزرج أخوين لاب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل فتطاولت العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة إلى ان أطفاه الله بالإسلام والف بينهم برسول الله صلى(1/1026)
الله عليه وسلم وكان بدو إسلامهم وألفتهم ان سويد بن الصامت أخا بنى عمرو بن عوف يسميه قومه الكامل القوة والصبر - نهايه منه رح لجلده ونسبه قدم مكة حاجّا أو معتمرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وامر بالدعوة فتضدى له حين سمع به ودعاه إلى ربه عز وجل والى الإسلام فقال له سويد فلعل الذي معك
_________
(1) أى يتواقعون فى الأهواء الفاسدة ويتداعون فيها تشبيها بجرى الفرس - والكلب بالتحريك داء معروف يعرض للكلب فمن عرضه قتله - نهايه - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 108(1/1027)
مثل الذي معى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذي معك قال مجلة لقمان يعنى حكمته فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها علىّ فعرضها فقال ان هذا حسن ومعى أفضل من هذا قران انزل الله عز وجل نورا وهدى فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال ان هذا القول حسن ثم انصرف إلى المدينة فلم يلبث ان قتله الخزرج قبل يوم بعاث وان قومه ليقولون قد قتل وهو مسلم ثم قدم أبو الحيسر انس بن رافع ومعه فئة من بنى الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس إليهم فقال هل لكم إلى خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال انا رسول الله بعثني إلى العباد ادعوهم ان لا تشركوا بالله شيئا وانزل علىّ الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن - فقال إياس بن معاذ وكان غلاما حدثا أى قوم هذا والله خير مما جئتم له فاخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال دعنا منك فلعمرى لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ ان هلك - فلما أراد الله عز وجل اظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فلقى عند العقبة رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا وهم ستة نفرا سعد بن زرارة - وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء - ونافع بن مالك العجلاني - وعطية بن عامر - وعقبة بن عامر - وجابر بن عبد الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنتم قالوا نفر من الخزرج قال أمن موالى يهود قالوا نعم قال أ فلا تجلسون حتى أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن - قال وكان مما صنع(1/1028)
الله لهم فى الإسلام وان اليهود « 1 » كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم وهم كانوا أهل أوثان وشرك وكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا ان نبيا الان مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد ارم فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل قال بعضهم لبعض يا قوم تعلمون والله انه النبي الذي توعدكم به اليهود فلا تسبقنكم اليه
_________
(1) فى الأصل ان يهود كان
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 109(1/1029)
فاجابوه وصدقوه واسلموا وقالوا انا قد تركنا قوما ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله ان يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك فان يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم قد أمنوا فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل اتى الموسم من الأنصار اثنا « 1 » عشر رجلا اسعد بن زرارة - وعوف ومعاذ ابنا عفراء - ورافع بن مالك العجلاني - وذكوان بن عبد القيس - وعبادة بن الصامت - وزيد بن ثعلبة - وعباس بن عبادة - وعقبة بن عامر - وعطية بن عامر فهولاء خزرجيون - وأبو الهيثم بن التيهان وعويمر بن الساعدة من الأوس فلقوه بالعقبة وهى العقبة الاولى فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء على ان لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا إلى آخره فان وفيتم فلكم الجنة وان غشيتم بشىء من ذلك فاخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة له وان ستر عليكم فامركم إلى الله ان شاء عذبكم وان شاء غفر لكم قال وذلك قبل ان يعرض عليهم الحرب فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وامره ان يقرائهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ وكان منزله على اسعد بن زرارة - ثم ان اسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطا من حوائط بنى ظفر فجلسا فى الحائط واجتمع إليهما رجال ممن اسلم فقال سعد بن معاذ لا سيد بن حضير انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما فان اسعد ابن خالى ولو لا ذلك لكفيتك وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدى قومهما من بنى عبد الأشهل وهما مشركان فاخذ أسيد بن حضير حربته ثم اقبل إلى مصعب و(1/1030)
اسعد وهما جالسان فى الحائط فلما راه اسعد بن زرارة قال لمصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله تعالى فيه قال مصعب ان يجلس أكلمه قال فوقف عليهما متشتما فقال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلا ان كان لكما فى أنفسكما حاجة فقال له مصعب أو تجلس فتسمع فان رضيت امرا قبلته وان كرهته كف عنك ما تكره
_________
(1) فى الأصل اثنى عشر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 110
قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرا عليه القرآن فقال والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه وتسهله ثم قال ما احسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم ان تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال ان ورائي رجلا ان اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسارسله اليكما الان وهو سعد بن معاذ ثم أخذ حربته فلما وقف على النادي قال له سعد ما خلفت قال كلمت الرجلين فو الله ما رايت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت - وقد حدثت ان بنى حارثة خرجوا إلى اسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك انهم عرفوا انه ابن خالك ليخفروك » (1/1031)
فقام سعد مغضبا مبادرا للذى ذكره من بنى حارثة فاخذ الحربة وقال والله ما أراك أغنيت شيئا فلما راهما مطمئنين عرف ان أسيدا انما أراد ان يسمع منهما فوقف عليهما متشتما ثم قال لا سعد بن زرارة لو لا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت أى ما قصدت - منه رح هذا منى تغشانا فى دارنا بما نكره وقد قال اسعد لمصعب جاءك والله سيد قومه ان يتبعك لم يخالفك منهم أحد - فقال له مصعب أو تقعد فتسمع فان رضيت امرا ورغبت فيه قبلته وان كرهته عزلناك ما تكره قال سعد أنصفت ثم ركز الحربة فجلس فعرض عليه الإسلام وقرا عليه القرآن فقالا فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل ان يتكلم فى اشراقه وتسهله ثم قال كيف تصنعون إذ أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين قال تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين - ثم أخذ حربته فاقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أسيد بن حضير فلما راه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم - قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون امرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة « 2 » - قال فان كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فما امسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امراة الا مسلم أو مسلمة
_________
(1) حفرت الرجل أى أجرته وحفظته وخفّرته إذ أكدت خفيرا وحاميا وتخفرت به إذا استجرت به والخفارة الزمام وأخفرت الرجل إذ انقضت عهده وذمامه والهمزة فيه للازالة أى زالت خفارته - نهايه منه رحمه الله
(2) النقيبة منحج الفعال مظفر المقال والنقيبة النفس وقيل الطبيعة والخليقة - نهايه - منه رحمه الله -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 111(1/1032)
و رجع اسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل اسعد بن زرارة فاقام عنده يدعوا الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها رجال ونساء مسلمون الا ما كان من دار بنى امية بن زيد وحطمة ووائل وواقف وذلك انه كان منهم أبو قيس ابن الاسلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق - قالوا ثم ان مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من اوسط ايام التشريق وهى بيعة العقبة الثانية قال كعب بن مالك وكان قد شهد ذلك فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه وكنا نكتم من معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر انك سيد من ساداتنا وشريف من اشرافنا وانا نرغب بك عما أنت فيه ان تكون حطبا للنار غدا ودعوناه للاسلام فاسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه فشهد معنا العقبة وكان نقيبا فبتنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلك مستخفين تسلك القطا حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بنى النجار واسماء بنت عمرو بن عدى أم منيع احدى نساء بنى سلمة فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب فقال يا معشر الخزرج (انما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها واوسها) ان محمدا صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن على مثل رأينا وهو فى عز فى قومه ومنعة فى بلده وانه قد أبى الا الانقطاع(1/1033)
إليكم واللحوق بكم فان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فانتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الان فدعوه فانه فى عز ومنعة قال فقلنا قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك ولربك ما شئت قال فتكلم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 112(1/1034)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله تعالى ورغّب فى الإسلام ثم قال ابايعكم على ان تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم فاخذ البراء بن معرور بيده ثم قال والذي بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع أزرنا « 1 » فبايعنا يا رسول الله فنحن أهل الحرب واهل الحلفة ورثناها كابرا عن كابر قال فاعترض القول (و البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم) أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله ان بيننا وبين الناس حبالا يعنى العهود وانا قاطعوها فهل عسيت ان فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ان ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لا الدم الدم والهدم الهدم أنتم منى وانا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا « 2 » كفلاء على قومهم ككفالة حواريين لعيسى بن مريم فاخرجوا اثنى عشر نقيبا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس قال عاصم بن عمرو بن قتادة ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل انكم تبايعون على حرب الأحمر والأسود فان كنتم ترون انكم إذا نهكت أى اتلفت - منه رح أموالكم مصيبة واشرافكم قتلى اسلمتموه فمن الان فهو والله ان فعلتم خزى فى الدنيا والاخرة وان كنتم ترون انكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الاشراف فخذوه فهو والله خير الدنيا والاخرة قالوا فانا ناخذه على مصيبة الأموال وقتل الاشراف فما لنا بذلك يا رسول الله ان نحن وافينا قال الجنة قالوا ابسط يدك فبسطيده فبايعوه وأول من(1/1035)
ضرب على يده البراء بن معرور ثم تتابع القوم فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرخ الشيطان من رأس العقبة بانفذ صوت سمعته قط يا أهل الحباحب هل لكم فى مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عدو الله هذا اسم شيطان - وهو الحية - منه ر ح ازبّ العقبة اسمع أى عدو الله انا والله لا فرغن لك ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا إلى رحالكم فقال العباس بن عبادة بن نضلة والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى « 3 »
_________
(1) نمنع أزرنا أى نساءنا وأهلنا كنى عنهن بالأزر وقيل أراد أنفسنا وقد يكنى عن النفس بالإزار - نهايه منه رح
(2) النقيب كالعريف على القوم المقدم عليهم الذي يتعرف اخبارهم وينقب عن أحوالهم أى يفتش وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم نقيبا على قومه وجماعته ليأخذوا عليهم الإسلام ويعرفوهم شرائطه - نهايه منه رحمه الله
(3) فى الأصل على أهل منا -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 113(1/1036)
بأسيافنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة من قريش حتى جاءونا فى منزلنا فقالوا يا معشر الخزرج بلغنا انكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وانه والله ما حى من العرب ابغض إلينا ان تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم قال فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون لهم بالله ما كان من هذا شىء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض وقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان فقلت له كلمة كانّى أريد ان أشرك القوم بها فيما قالوا يا جابرا ما تستطيع ان تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلى هذا الفتى من قريش - قال فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما الىّ قال والله لتنتعلنهما - قال يقول أبو جابر مه والله احفظت الفتى فاردد إليه نعليه - قال لا أردهما فال صالح والله ان صدق الفال لا سلبنه - قال ثم انصرف الأنصار إلى المدينة وقد شدّد العقد فلما قدموا المدينة اظهر الإسلام بها وبلغ ذلك قريشا فاذوا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه ان الله تعالى قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون فيها وأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار فاول من هاجر إلى المدينة أخو سلمة بن عبد الله المخزومي ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا إلى المدينة فجمع الله أهل المدينة اوسها وخزرجها بالإسلام وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وَكُنْتُمْ عَلى شَفا طرف حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أى متقاربين الوقوع فيها لم يكن بينكم وبين الوقوع فيها الا ان تموتوا على كفركم فَأَنْقَذَكُمْ أى اخلصكم الله بالإسلام مِنْها الضمير للحفرة أو للنار(1/1037)
او للشفا وتأنيثه لتأنيث المضاف إليه ولانه بمعنى الشفة فان شفا البير وشفتها طرفها كالجانب والجانبة وأصله شفو فقلبت الواو الفا فى المذكر وحذفت فى المؤنث كَذلِكَ التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلائله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) لتثبتوا على الهدى وتزدادوا فيه - .
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ من للتبعيض لان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الكفاية ولانه لا يصلح له كل أحد حيث يشترط له شروط من العلم والتمكن على الاحتساب وطلب من الجميع
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 114(1/1038)
خاطب الجميع وطلب فعل البعض ليدل على انه واجب على الكل حتى لو ترك الكل أثموا جميعا ولكن يسقط بفعل بعضهم وهذا شأن فروض الكفاية - وجاز ان يكون من للتبيين ويكون النهى عن المنكر واجبا على كل أحد واقله ان ينكر بقلبه يعنى كونوا أُمَّةٌ يَدْعُونَ الناس إِلَى الْخَيْرِ يعنى خير العقائد والأخلاق والأعمال التي فيها صلاح الدين والدنيا أخرج ابن مردوية عن أبى جعفر محمد الباقر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخير اتباع القرآن وسنتى - قال السيوطي معضل عن عثمان انه قرأ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويستغيثون على ما أصابهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - قلت يعنى يدعون لدفع البلاء عن الناس وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أى ما عرف من الشرع حسنه واجبا كان أو مندوبا وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعنى ما أنكره الشرع من المحرمات والمكروهات عطف الخاص على العام إيذانا بفضله وَأُولئِكَ يعنى الداعون إلى الخير والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) خاب وخسر من لم يفعل ذلك عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من راى منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه فان لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان - رواه مسلم وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المدهن فى حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصار بعضهم فى أسفلها وصار بعضهم فى أعلاها فكان الذي فى أسفلها يمر بالماء على الذين فى أعلاها فتاذوا به فاخذ فاسا فجعل ينقر أسفل السفينة فاتوه فقالوا مالك قال تاذيتم بي ولا بد لى من الماء فان أخذوا على يديه انجوه ونجّوا أنفسهم وان تركوه اهلكوه واهلكوا أنفسهم - رواه البخاري - وعن حذيفة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال والذي(1/1039)
نفسى بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله تعالى ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم ليدعوا به فلا يستجاب لكم رواه الترمذي - وعن أبى بكر الصديق قال يا أيها الناس انكم تقرءون هذه الآية .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فانى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الناس إذا راو منكرا فلم يغيروه يوشك ان يعمهم الله بعذابه - رواه ابن ماجة والترمذي وصححه وروى أبو داود نحوه وعن جرير بن عبد الله نحوه رواه أبو داود وابن ماجة - وعن عدى بن عدى الكندي قال حدثنا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 115(1/1040)
مولى لنا انه سمع جدى يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ان الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على ان ينكروه فلا ينكرون فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة رواه البغوي فى شرح السنة وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا وقعت بنو إسرائيل فى للعاصى نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم فى مجالسهم وأاكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض فلعنهم عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ - قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متكيا قال لا والذي نفسى بيده حتى تاطروهم أى تعطفوا عليهم - نهايه - منه رح اطرا العطف - منه رح رواه الترمذي وأبو داود - فان قيل هل يجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بهذه الآية على من لا يأتى بالمعروف ويرتكب المنكر قلنا نعم يجب عليه الأمر بالمعروف عبارة وإتيانه اقتضاء والنهى عن المنكر عبارة والانتهاء عنه اقتضاء كيلا يلزمه قوله تعالى أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وقوله تعالى لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ - عن اسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار فتندلق أى تخرج من مكانه الأمعاء - منه اقتابه فى النار فيطحن فيها كطحن الحمار برحاء فيجتمع أهل النار عليه ويقولون أى فلان ما شأنك أ ليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف ولم آته وأنهاكم عن المنكر واتيه - متفق عليه وعن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رايت ليلة اسرى بي رجالا يقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم - رواه البغوي فى شرح السنة والبيهقي فى(1/1041)
شعب الايمان نحوه - وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا يعنى اليهود تفرقوا على ثنتين وسبعين فرقة وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الدلائل الواضحة القاطعة من الآيات المحكمة والاخبار المتواترة المحكمة من الأنبياء ونحو ذلك كاجماع هذه الامة سواء كان ذلك الاختلاف فى اصول الدين كاختلاف أهل الأهواء مع أهل السنة أو فى الفروع المجمع عليها كمسئلة غسل الرجلين ومسح الخفين فى الوضوء وخلافة الخلفاء الاربعة واحترز بهذا القيد عن اختلاف بالاجتهاد فى ما ثبت بالادلة الظنية فان الاختلاف فيها ضرورى
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 116(1/1042)
ضرورة حطاء بعض المجتهدين فى الاجتهاد - فذلك الاختلاف بعد بذل الجهد بلا مكابرة وتعصب معفوّ بل هو رحمة وسعة للناس روى عبد بن حميد فى مسنده والدارمي وابن ماجة والعبد رى فى الجمع بين الصحيحين وابن عساكر والحاكم عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سالت ربى عن اختلاف أصحابي من بعدي فاوحى الله يا محمد ان أصحابك عندى كالنجوم بعضها أقوى من بعض - وفى رواية بعضها أضوء من بعض ولكل نور فمن أخذ بشىء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندى على هدى - ورواه الدارقطني فى فضائل الصحابة وابن عبد البر عن جابر والبيهقي فى المدخل عن ابن عباس - وروى البيهقي أيضا فى المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به ولا عذر لاحد فى تركه فان لم يكن فى كتاب الله فسنة نبى ماضية فان لم يكن سنة نبى فما قال أصحابي ان أصحابي بمنزلة النجوم فى السماء فايها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة واخرج البيهقي فى المدخل وابن سعد فى الطبقات عن القاسم بن محمد قال اختلاف اصحاب محمد رحمة لعباد الله والبيهقي عن عمر بن عبد العزيز نحوه وَأُولئِكَ الذين تفرقوا بعد القواطع لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ التنوين عوض عن المضاف إليه يعنى تبيض وجوه المؤمنين وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ اى(1/1043)
وجوه الكافرين أو التنوين للتكثير أى وجوه كثيرة ويوم منصوب على الظرفية من الظرف المستقر أى لهم أو بعظيم أو باذكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس انه قرأ هذه الآية قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة - أخرج الديلمي فى مسند الفردوس بسند ضعيف عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدع فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ يقال لهم أَكَفَرْتُمْ بالقطعيات وتفرقتم فى الدين واتبعتم تأويل المتشابهات بَعْدَ إِيمانِكُمْ بالنبي والكتاب والاستفهام للتوبيخ والتعجيب عن حالهم فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) والآية فى أهل الأهواء من هذه الامة ومن الأمم السابقة كذا قال أبو امامة وقتادة روى احمد وغيره عن أبى امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هم الخوارج - وأيضا فى أهل الأهواء حديث اسماء بنت أبى بكر قالت قال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 117
رسول الله صلى الله عليه وسلم انى على الحوض حتى انظر من يرد علىّ منكم وسيؤخذ ناس دونى فاقول يا رب منى ومن أمتي فيقال هل شعرت ما عملوا بعدك والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم - رواه البخاري وعن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسى كافرا ويمسى مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل رواه مسلم واحمد والترمذي - وقيل هذه الآية فى المرتدين - وقيل فى أهل كتاب كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ايمانهم بموسى والتورية أو بعد ايمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه وقيل فى جميع الكفار كفروا بعد ما اشهدهم الله على أنفسهم أو بعد ما تمكنوا من الايمان بالنظر إلى الدلائل.(1/1044)
وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ يعنى أهل السنة فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعنى الجنة والثواب المخلد عبر عن الجنة بالرحمة تنبيها على ان المؤمن وان استغرق عمره فى طاعة الله لا يدخل الجنة الا برحمته وفضله - عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله بمغفرة ورحمة - رواه الشيخان فى الصحيحين واحمد - وروى الشيخان عن أبى هريرة نحوه ولمسلم من حديث جابر لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار ولا انا الا رحمة من الله وقد ورد هذا أيضا من حديث أبى سعيد رواه احمد ومن حديث أبى موسى وشريك بن طارق رواهما البزار - ومن حديث شريك بن طريق واسامة بن شريك واسد بن كرز رواها الطبراني واستشكل هذا مع قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وأجيب بان للجنة منازل ودرجات ينال بالأعمال وذلك محمل الآية واما اصل دخولها والخلود فيها بفضل ورحمته وذلك معنى الأحاديث ويدل عليه قول ابن مسعود تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم رواه هناد فى الزهد وأبو نعيم عن عون بن عبد الله مثله هُمْ فِيها أى فى الرحمة أو الجنة خالِدُونَ (107) أخرجه مخرج الاستيناف للتأكيد كانّه فى جواب كيف يكونون فيها وللتنبيه على ان الرحمة نعمة والخلود نعمة مستقلة.
تِلْكَ الآيات آياتُ اللَّهِ الواردة فى وعده ووعيده نَتْلُوها عَلَيْكَ خبر بعد خبر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 118(1/1045)
متلبسة بِالْحَقِّ بحيث لا شبهة فيها وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) إذ لا يتصور منه الظلم لأنه لا يجب عليه فعل شىء ولا تركه فيظلم بترك ما وجب عليه لأنه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء - قلت والظاهر ان المراد بالظلم هاهنا ما هو ظلم من العباد فيما بينهم والمعنى ان الله لا يريد ان ينقص ثواب من عمل خيرا بفضله ولا ان يزيد فى عذاب العاصي على قدر جريمته والكفر بالله تعالى أعظم الخطايا لا ذنب فوقه فيعذب بالنار المخلدة عذابا لا يكون عذاب فوقه جزاء وفاقا.
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فهو تعليل لعدم ارادة الظلم على التأويل الأول وبيان لقدرته على اجراء وعده ووعيده على التأويل الثاني وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) فيجازى كلا على حسب وعده ووعيده - قال البغوي قال عكرمة ان مالك بن الضيف ووهب بن يهودا من اليهوديين قالا لابن مسعود ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبى حذيفة نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعونا إليه فانزل الله تعالى.(1/1046)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ اضافة صفة إلى موصوفه مثل اخلاق ثياب والمفضل منه محذوف يعنى كنتم أمة خير الأمم كلها وكان تدل على ثبوت خبرها لاسمها فى الماضي ولا يدل على عدم سابق ولا انقطاع لاحق الا بقرينة خارجية قال الله تعالى وكان اللّه غفورا رحيما فهذه الجملة دلت على خيريتهم فيما مضى ويدل على خيريتهم فى الحال والاستقبال قوله تعالى تأمرون إلخ ويحتمل ان يكون كنتم فى علم الله أو فى الذكر فى الأمم السابقة خير أمة أُخْرِجَتْ يعنى أظهرت وأوجدت والخطاب اما للصحابة خاصة كذا قال جويبر عن الضحاك وروى عن عمر بن الخطاب قال كنتم خير أمة يكون لا ولنا ولا يكون لاخرنا - وعن ابن عباس انهم هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة - وعن عمر انه قال لو شاء الله لقال أنتم ولكن قال كنتم فى خاصة اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن صنع مثل صنيعهم « 1 » كانوا خير امّة أخرجت للنّاس - واما لامة محمد صلى الله عليه وسلم عامة وكلا المعنيين ثابت بالنصوص وعلى كل منهما انعقد الإجماع فان أمة محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الأمم كلها والأفضل منهم قرن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قال الله تعالى وَلَقَدْ كَتَبْنا
_________
(1) وعن قتادة عن عمر فى قوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ انه تلا هذه الآية ثم قال يا أيها الناس من سرّه ان يكون فى الامة التي أخرجت للناس فليؤد شرط الله فيها - منه رحمه الله فى الأصل ملتبسة -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 119(1/1047)
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وقال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة حرمت على الأنبياء حتى أدخلها وحرمت على الأمم حتى يدخلها أمتي رواه الطبراني فى الأوسط بسند حسن عن عمر بن الخطاب وروى أيضا عن ابن عباس مرفوعا الجنة محرمة على جميع الأمم حتى أدخلها انا وأمتي الأول فالاول وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لارجو ان يكون من تبعني ربع أهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون ثلث أهل الجنة ثم قال أرجو ان يكون الشطر رواه احمد والبزار والطبراني بسند صحيح عن جابر وقال صلى الله عليه وسلم أهل الجنة عشرون ومائة صفا ثمانون منها من هذه الامة والباقون من سائر الأمم رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وروى الطبراني مثله من حديث أبى موسى وابن عباس ومعاوية بن جندة وابن مسعود - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل رواه الترمذي وحسنه وابن ماجة والدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده والبغوي عن أبى سعيد الخدري نحوه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل أمتي مثل المطر لا يدرى اوله خير أم آخره رواه الترمذي عن انس ورزين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده نحوه وقال عليه السلام ان الله تجاوز عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه رواه ابن ماجة والبيهقي وفى الفصل الثاني قوله صلى الله عليه وسلم خير الناس قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجىء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته رواه الشيخان فى الصحيحين والترمذي واحمد من حديث ابن مسعود والطبراني نحوه ومسلم عن عائشة نحوه والترمذي والحاكم عن عمران بن حصين نحوه وقوله صلى الله عليه وسلم لا تسبوا أصحابي فلو ان أحدكم أنفق مثل(1/1048)
أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه متفق عليه من حديث أبى سعيد الخدري وقوله عليه الصلاة والسلام ما من أحد من أصحابي يموت بأرض الا بعث قائدا ونور الهم يوم القيامة رواه الترمذي عن بريدة لِلنَّاسِ قيل هذا متعلق بخير أمة قال أبو هريرة معناه خير الناس للناس يجيئون بهم فى السلاسل فتدخلونهم فى الإسلام أخرجه أبو عمرو - قلت رجال هذه الامة اكثر إرشادا وأقوى تأثيرا فى الناس بالجذب إلى الله تعالى من رجال الأمم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 120
السابقة وكان قطب ارشاد كمالات الولاية على عليه السلام ما بلغ أحد من الأمم السابقة درجة الأولياء الا بتوسط روحه رضى الله عنه ثم كان بتلك المنصب الائمة الكرام ابناؤه إلى الحسن العسكري وعبد القادر الجيلي ومن ثم قال ووقتى قبل قلبى قد صفالى وهو على ذلك المنصب إلى يوم القيامة ومن ثم قال شعرا :
فلت شموس الأولين وشمسناه ابدا على أفق العلى لا تغرب(1/1049)
و قيل للناس متعلق باخرجت يعنى أخرجت للناس تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ استيناف لبيان خيريتهم أو خبرثان لكنتم أو صفة ثانية لامة والمراد تفضيلهم على امم موصوفين بهذه الصفات يعنى كنتم أمة كذلك خيرا من كل أمة كذلك وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قيل المراد بالايمان بالله الايمان بكل ما يجب ان يؤمن به لأنه المعتد به يدل عليه قوله تعالى ولو أمن أهل الكتب مع كونهم مؤمنين بالله وقوله عليه الصلاة والسلام فى حديث طلحة بن عبيد الله أ تدرون ما الايمان بالله وحده قالوا الله ورسوله اعلم قال شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وصيام رمضان وان تعطوا من المغنم الخمس متفق عليه وانما اخر ذكر الايمان وكان حق الايمان بالله ان يقدم لقصد الاشعار على انهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ايمانا بالله وتصديقا لا رياء فصار كأنَّه قيد للامر بالمعروف أو لقصد ارتباط قوله وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كلهم كما تؤمنون لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فانهم يدخلون حينئذ فى خير الأمم قلت وجاز ان يكون المراد بالايمان بالله الايمان الحقيقي يعنى تخلية القلب عما سواه وتزكية النفس عن الرذائل وتمرينه بالمحبة الصرفة التي لا تشوب فيها اقتضاء نفسه من الأغراض الدنيوية أو الاخروية مِنْهُمُ أى من أهل الكتاب الْمُؤْمِنُونَ ايمانا يعتد به كعبد الله بن سلام وأصحابه وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) الخارجون عن الايمان إلى الكفر هذه الجملة مبيّنة لما سبق فان المطلوب ايمان الجميع والموجود ايمان بعضهم دون أكثرهم وفيه دفع لسوء الظن بالمؤمنين منهم الذي نشاء من قوله تعالى ولو أمن إلخ.(1/1050)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً أى ضرارا يسيرا باللسان ونحوه قال مقاتل لمّا أراد رءوس اليهود السوء بمن أمن منهم عبد الله بن سلام وأصحابه انزل الله تعالى هذه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 121
الاية لتسليتهم وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ اليهود أيها المؤمنون يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ولا يضروكم بقتل أو نهب أو اسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) بل يكون النصر لكم عليهم هذه الآية بيان لقوله لن يضرّوكم وهو اخبار بالغيب وقد وقع كذلك على قريظة والنضير وبنى قينقاع وخيبر وفدك.(1/1051)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ أى اليهود الذِّلَّةُ أى الهوان وذلك بسلب العصمة عن دمائهم وأموالهم وأهليهم أَيْنَ ما ثُقِفُوا وجدوا إِلَّا متلبسين بِحَبْلٍ كائن مِنَ اللَّهِ يعنى القرآن أو دين الإسلام الحاكم بعدم تعرض الكفار المستأمنين واهل الذمة قال الله تعالى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ وقال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ عهد من المؤمنين بالأمان بعد الاستيمان أو عقد الذمة بعد قبول الجزية فالمراد بحبل الله وحبل الناس واحد ولو كان كل واحد منهما على حدة لكان الأنسب أو مقام الواو - والمستثنى منصوب على الحالية يعنى ضربت عليهم الذلة فى جميع الأحوال الا فى حال الاستيمان أو عقد الذمة وَباؤُ أى رجعوا إلى ما كانوا عليه من الموت أو الحيوة بعد الموت قال الله تعالى كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ مستوجبين له وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهى محيطة بهم « 1 » احاطة البيت المضروب على اهله يعنى ضربت عليهم البخل والحرص فان البخيل لا ينفق ماله ويكون دائما على هيئة المساكين والحريص يكون دائما فى تعب وجدّ لطلب المال قال البيضاوي اليهود غالبا فقراء مساكين ذلِكَ أى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ أى بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى انهم يعرفون كونهم ظالمين غير محقين ذلِكَ الكفر والقتل بِما عَصَوْا ربهم تعنتا وعنادا عمدا لا خطأ وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) حدود الله وقيل معناه ان ضرب الذلة فى الدنيا واستيجاب الغضب فى الاخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب على عصيانهم واعتدائهم من حيث انهم مخاطبون بالفروع أيضا قلت وعلى هذا التأويل كان المناسب(1/1052)
إيراد العاطف بين الاشارتين -
_________
(1) فى الأصل به -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 122
اخرج ابن أبى حاتم والطبراني وابن مندة فى الصحابة عن ابن عباس قال لمّا اسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن تبيعة واسد بن عبيد ومن اسلم من يهود معهم فامنوا وصدقوا ورغبوا فى الإسلام قالت أحبار يهود واهل الكفر منهم ما أمن بمحمد وتبعه الّا شرارنا ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين ابائهم وذهبوا إلى غيره فانزل الله فى ذلك.(1/1053)
لَيْسُوا سَواءً إلى قوله مِنَ الصَّالِحِينَ واخرج احمد والنسائي وابن حبان عن ابن مسعود قال اخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال اما انه ليس من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً يعنى ليست اليهود متساويين فيما ذكر من المساوى بل منهم على ضد ما ذكر بيانه قوله تعالى مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ فى الصلاة كما يدل عليه ما بعده - وقال ابن عباس أى مهتدية قائمة على امر الله لم يضيعوه - وقال مجاهد عادلة من أقمت العود فقام - وقال السدى مطيعة قائمة على كتاب الله وحدوده والمراد بهذه الامة عبد الله بن سلام وأمثاله من اليهود يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أى القرآن حال من فاعل قائمة أو صفة بعد صفة لامة آناءَ اللَّيْلِ أى ساعاته واحده انى ظرف للقيام والتلاوة وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) عطف على قائمة وجاز ان يكون حالا من فاعل قائمة ومعناه وهم يصلون قال ابن مسعود المراد به صلوة العشاء لان أهل الكتاب لا يصلونها - وعن عبد الله بن عمر قال مكثنا ذات ليلة ننتظر الصلاة العشاء الاخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل فلا ندرى الشيء شغله أو غير ذلك فقال حين خرج انكم تنتظرون صلوة ما ينتظرها أهل دين غيركم ولولا ان يثقل على أمتي لصليت بهم هذه الساعة ثم امر المؤذن فاقام الصلاة وصلى رواه مسلم قلت والظاهر ان المراد به قيام الليل دون صلوة العشاء لان سياق الآية يقتضى كون دوام حالهم ذلك رقصة تأخير صلوة العشاء واقعة حال ونزول الآية فى تلك القصة لم يذكر فى الصحيح - وأيضا صيغة يتلون للجمع والتالي فى صلوة العشاء انما هو الامام دون القوم الا مجازا - وقال عطاء المراد بامة قائمة أربعون « 1 » رجلا من أهل نجران من العرب واثنان « 2 »
_________
(1) فى الأصل أربعين
((1/1054)
2) فى الأصل اثنين -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 123
و ثلاثون « 1 » من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام وصدقوا محمّدا صلى الله عليه وسلم وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم اسعد بن زرارة والبراء ابن معرور ومحمد بن مسلمة ومحمود بن مسلمة وأبو قيس صرمة بن انس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون لما عرفوا من شرائع الحنيفة حتى جاءهم الله بالنبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه.
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ لكمال خشيتهم وقصر أملهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا بالأعمال هرما ناغضا وموتا خالسا ومرضا حابسا وتسويفا مويسا - رواه البيهقي عن أبى امامة وقوله يؤمنون وما عطف عليه صفات اخر لامة وصفهم بخصائص متضادة لخصائص اليهود فانهم كانوا منحرفين عن الحق نائمين غافلين بالليل والنهار مشركين بالله ملحدين فى صفاته واصفين اليوم الاخر بخلاف ما هو عليه آمرون بالمنكر ناهون عن المعروف يسارعون فى الشرور وَأُولئِكَ الموصوفون « 2 » بتلك الصفات على وجه الكمال مِنَ الصَّالِحِينَ (114) ممن صلحت أجسادهم بصلاح قلوبهم وزكاء نفوسهم.
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ يعنى لن نضيعه ولن ننقص ثوابه سمى ذلك كفرانا كما سمى توفية الثواب شكرا وعدى إلى المفعولين لتضمنه معنى الحرمان قرأ حمزة والكسائي وحفص بالياء على الغيبة اخبارا عن الامة القائمة على نسق ما سبق والباقون بالتاء على نسق كنتم خير امّة وأبو عمرو يرى القرائتين جميعا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) تبشير وتعليل لقوله تعالى فلن يكفروه فان علم الكريم بحسنات عبده علة للاثابة وفيه اشعار بان الصالح والمتقى اسماء للموصوفين بالصفات المتقدمة.(1/1055)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مر تفسيره فى أوائل السورة وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ (116).
َلُ ما يُنْفِقُونَ
ما مصدرية أى مثل انفاق الكفار عداوة للنبى صلى الله عليه وسلم أو مفاخرة وبطرا كانفاق كفار قريش فى الحروب أو تقربا كانفاق اليهود على علمائهم وكفار قريش للاصنام أو رياء كانفاق المنافقين ي
_________
(1) فى الأصل وثلثين -
(2) فى الأصل الموصوفين - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 124
ِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
اى برد شديد كذا فى القاموس وحكى عن ابن عباس انها السموم الحارة التي تقتل صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بالكفر والمعاصي أَهْلَكَتْهُ
يعنى كما ان الريح المذكور تهلك الحرث كذلك انفاق الكفار أموالهم تهلكهم باستجلاب الانفاق عذاب الله إليهم أو باستيصال أموالهم بلا منفعة فى الدنيا ولا فى الاخرة - وجاز ان يكون ما فى ما ينفقون موصولة والتشبيه مركبا أريد تشبيه القصة بالقصة ولذلك لم يبال بإدخال كلمة التشبيه على الريح دون الحرث ويجوز ان يراد تشبيه المال الذي أنفقوه وضيعوه بالحرث المذكور ويقدر كمثل مهلك ريح وهو الحرث ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بذلك لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(117) بارتكاب انفاق أموالهم لا على وجه يفيدهم عند الله تعالى أو بارتكاب ما استحق به أهل الحرث العقوبة - أخرج ابن جرير وابن إسحاق عن ابن عباس قال كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية فانزل الله تعالى.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً(1/1056)
البطانة السريرة ويقال الصاحب الذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به مِنْ دُونِكُمْ أى من دون المسلمين أى من هو ادنى منكم رتبة وأسفل فيه نعت للمسلمين بانهم هم الأعلون فى الدنيا والاخرة وارشاد على طلب الأعالي للمصاحبة دون الأداني فان العزلة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من العزلة - وصيغة من دونكم يشتمل أهل الأهواء أيضا من الروافض والخوارج وغيرهم فلا يجوز مباطنتهم كما لا يجوز مباطنة الكفار وقوله من دونكم متعلق بقوله لا تتخذوا أو ظرف مستقر صفة لبطانة أى لا تتخذوا من دون المسلمين بطانة أو بطانة كائنة من دونهم لا يَأْلُونَكُمْ أى لا يقصرون أى من هو على غير دينكم لكم خَبالًا شرا وفسادا بل يبذلون جهدهم فيما يورثكم شرا وفسادا منصوب على انه مفعول ثان للايألونكم على تضمين معنى المنع أو النقص أو منصوب بنزع الخافض أى لا يألونكم فى الخبال وَدُّوا ما عَنِتُّمْ ما مصدرية أى تمنوا شدة الضر والمشقة بكم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ حيث لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم فيقولون فيكم ما يسوءكم بلا اختيار وقصد وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء أَكْبَرُ مما يبدون لانهم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 125(1/1057)
يظهرون مودتكم مكرا وخديعة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الدالة على عداوتهم أو على وجوب الإخلاص لله وموالات المؤمنين ومعادات الكفار والجمل الاربعة « 1 » مستانفات على التعليل ويجوز ان يكون الثلاث الأول صفات لبطانة - وعلى كلا التقديرين التعليل بهذه الجمل أو التقييد بها يفيد ان الكافر إذا لم يكن له عداوة مع مؤمن لاجل إيمانه ولا يقصد خبالا وكان بينه وبين مؤمن مودة لقرابة أو غير ذلك لا بأس به كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أبى طالب وعباس قبل إسلامه عن عباس رضى الله عنه انه قال يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشىء فانه كان يحومك أو يغضب لك قال نعم هو فى الضحضاح فى الأصل ما اجتمع من الماء على وجه : الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعير للنار - نهايه منه رح ضحضاح من نار ولولا انا لكان فى الدرك الأسفل من النار - رواه مسلم واخرج البزار مثله عن جابر ومسلم عن حذيفة وابى سعيد الخدري إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى فانتهوا عن موالاتهم وعادوهم أو أخلصوا لله ووالوا المسلمين.(1/1058)
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ لقرابتهم منكم أو لصداقتهم وَلا يُحِبُّونَكُمْ لمخالفة فى الدين - ها للتنبيه عن غفلتهم فى خطائهم وأنتم مبتدا وأولاء خبره يعنى أنتم أولاء الخاطؤن فى محبة الكفار وما بعده جملة مبينة لخطائهم قال الرضى الجملة الواقعة بعد اسم الاشارة لبيان المستغرب ولا محل لها من الاعراب وهى مستانفة - وقال البيضاوي هو خبر ثان لانتم أو خبر لاولاء والجملة خبر أنتم وجاز ان يكون أولاء بمعنى الذي وما بعده صلته والموصول مع الصلة خبر أنتم وجاز ان يكون جملة تحبونهم حالا والعامل فيه معنى الاشارة وجاز ان يكون أولاء منادى بحذف حرف النداء وما بعده خبر أنتم يعنى أنتم يا أولاء الخاطئون بموالات الكفار تحبونهم - وجاز ان يكون أولاء منصوبا بفعل يفسره ما بعده والجملة خبر أنتم والمشار إليه باولاء الكفار والواو فى ولا يحبّونكم للحال والمعنى ها أنتم أيها المؤمنون تحبون أولاء الكفار والحال انهم لا يحبونكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ واللام للجنس أى تؤمنون بجنس الكتب كله - أو للعهد أى تؤمنون بالتورية كلها - والجملة حال من مفعول لا يحبونكم بتقدير المبتدا حتى يصح الواو للحال تقديره وأنتم تؤمنون وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلى للحصر يعنى الكفار لا يؤمنون والمعنى لا يحبونكم والحال أنتم تؤمنون بكتابهم
_________
(1) فى الأصل الأربع -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 126(1/1059)
كله فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشىء من كتابكم بل لا يؤمنون بكل التورية أيضا حيث ينكرون نعت النبي صلى الله عليه وسلم وفيه توبيخ بانهم فى باطلهم أصلب منكم فى حقكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا نفاقا آمَنَّا كما أمنتم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقران وَإِذا خَلَوْا إلى أنفسهم عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ أجل الْغَيْظِ فى الصحاح الغيظ أشد غضب وهو الحرارة التي يجدها الإنسان فى ثور ان دم قلبه يعنى يعضون انا ملهم تأسفا وتحسرا حين يرون دولتكم ولا يجدون سبيلا إلى اضراركم من أجل غيظهم عليكم أو لكراهتهم قولهم أمنا واضطرارهم إليه - وجاز ان يكون هذا مجازا عن شدة الغيظ وان لم يكن ثمه عض قُلْ يا محمد أو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم بعداوتهم وحث لهم بخطابهم خطاب الأعداء فانه اقطع للمحبة من جراحة السنان مُوتُوا أيها الكفار والمنافقون بِغَيْظِكُمْ قيل هذا دعاء عليهم بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وفيه ان المدعو عليه لا يخاطب بل الله سبحانه يخاطب فى الدعاء والظاهر انه اخبار بانكم لن تروا ما يسركم واعلام بانا مطلعون على عداوتكم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) أى بامور ذات الصدور يعنى ما فى صدورهم من الغيظ وهو يحتمل ان يكون داخلا فى المقول أى قل لهم ان الله يعلم ما فى قلوبكم فيفضحكم فى الدنيا ويعذبكم فى الاخرة ولا يفيدكم اخفاؤكم - وجاز ان يكون خارجا عنه متصلا بما قبله كالجمل اللاحقة يعنى وان لم تعلموا انهم لا يحبونكم ويعضون عليكم الأنامل فالله يعلم ذلك فعليكم اتباع ما أمركم الله به من البغض فى الله دون المحبة لاجل وصلات بينكم - .(1/1060)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ أيها المؤمنون حَسَنَةٌ نعمة من ظهور الإسلام وغلبتكم على عدوكم ونيل الغنيمة وخصب فى المعاش تَسُؤْهُمْ تحزنهم ذلك حسدا وفى لفظا المس اشعار إلى انهم يحزنون على ادنى حسنة أصابتكم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أى ما يسوءكم من إصابة عدو منكم أو حدب أو نكبة يَفْرَحُوا بِها شماتة بما أصابكم الجملة الشرطية بيان لتناهى عداوتهم متصلة بالشرطية السابقة وبينهما اعتراض وَإِنْ تَصْبِرُوا على إذا هم أو على المصائب كلها أو
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 127(1/1061)
على مشاق التكليف وَتَتَّقُوا موالاتهم وغيرها مما حرم الله عليكم لا يَضُرُّكُمْ قرأ أهل الكوفة والشام بضم الضاد والراء من الضرر مجزوم فى جواب الشرط وضمة الراء للاتباع كضمة مد واهل الحرمين والبصرة بكسر الضاد وسكون الراء للجزم من ضار يضير الأجوف كَيْدُهُمْ يعنى قصد الكفار اضراركم على سبيل الإخفاء شَيْئاً من الضر يعنى لا يضركم كيدهم بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولان المجد فى الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال جريّا على الخصم ولان المؤمن يرجو فى المصيبة ثوابها الموعود فيفرح بها أشد مما يفرح فى النعمة والعاشق بعلمه ان ما أصابه انما هو من محبوبه يلتذّ بالمصيبة اكثر مما يلتذّ بالنعمة لان مراد المحبوب ألذّ عنده من مراد نفسه عن ابن عباس قال كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال يا غلام احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سالت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشىء لم ينفعوك الا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ان يضروك بشىء لم يضروك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجف الصحف - رواه احمد والترمذي وقال حسن صحيح وعن أبى ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى لا علم اية لو أخذ الناس بها لكفتهم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواه احمد وابن ماجة والدارمي وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ربكم عز وجل لو ان عبيدى أطاعوني لاسقيت عليهم المطر بالليل واطلعت عليهم الشمس بالنهار ولم أسمعهم صوت الرعد - رواه احمد وعن صهيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان امره له كله خير وليس ذلك لاحد الا للمؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خيرا له وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له رواه مسلم(1/1062)
إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ أى الكفار من اضرارهم بالمؤمنين مُحِيطٌ (13) بعلمه فيجازيهم عليه ويحفظكم عن اضرارهم ان شاء ويجازيكم على الضراء ان أراد بكم.
وَاذكر إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم وتسوّى وهى لهم مَقاعِدَ مواطن ومواقف من الميمنة والقلب والساقة لِلْقِتالِ متعلق
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 128(1/1063)
بتبوئ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لاقوالهم عَلِيمٌ (131) لنياتهم قال الحسن هو يوم بدر وقال مقاتل يوم الأحزاب - وقال سائر المفسرين وهو الصحيح انه هو يوم أحد أخرج ابن أبى حاتم وأبو يعلى عن المسور بن مخرمة انه قال لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أحد قال اقرأ بعد العشرين ومائة من ال عمران تجد قصتنا وإذ غدوت من أهلك إلى قوله إذ همّت طائفتن منكم ان تفشلا قال هم الذين طلبوا الامان من المشركين إلى قوله وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الآية قال هو تمنى المؤمنين لقاء العدو إلى قوله أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ قال هو صاح الشيطان يوم أحد قتل محمد إلى قوله أَمَنَةً نُعاساً قال القى عليهم النوم إلى اخر « 1 » ستين اية (يعنى إلى قوله تعالى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ويتلوه قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ) قال ابن إسحاق رحمه الله وكان مما انزل الله تعالى فى يوم أحد يعنى فى شأن يوم أحد ستون اية من ال عمران فيها صفة ما كان فى يومهم ذلك ومعاتبة من غاب منهم قال مجاهد والكلبي والواقدي غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل عائشة رضى الله عنها فمشى على رجليه إلى أحد فجعل يصف أصحابه للقتال كما يقوم القدح - واخرج ابن جرير والبيهقي فى الدلائل من طريق محمد بن إسحاق عن رجاله ورواه عبد الرزاق فى مصنفه عن معمر عن الزهري ان المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ثانى عشر شوال سنة ثلاث من الهجرة وكانوا ثلاثة آلاف فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبى بن سلول ولم يدعه قط قبلها فقال هو واكثر الأنصار أقم يا رسول الله بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا إلى عدو منا قط الا أصاب منا ولادخلها علينا الا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فان أقاموا أقاموا بشر مجلس وان دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ورماههم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم(1/1064)
و ان رجعوا رجعوا خائبين فاعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأى وكان هذا رأى الأكابر من المهاجرين والأنصار وقال حمزة بن عبد المطلب وسعد بن عبادة والنعمان بن مالك فى طائفة من الأنصار رضى الله عنهم (غالبهم احداث لم يشهدوا البدر وطلبوا الشهادة وأحبوا إلقاء العدو وأكرمهم الله بالشهادة يوم الأحد) أخرج بنا يا رسول الله إلى هذه الا كلب لا يرون انا حببنا عنهم وضعفنا - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) فى الأصل إلى الأخر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 129(1/1065)
انى رايت فى منامى بقرا فاولتها خيرا ورايت فى ذباب سيفى ثلما فاولتها هزيمة ورايت انى ادخلت يدى فى درع حصينة فاولتها المدينة فان رايتم ان تقيموا بالمدينة وكان يعجبه ان يدخلوا عليهم المدينة فيقاتلوهم فى الازقة - روى احمد والنسائي والدارمي بسند صحيح بلفظ رايت فى درع حصينة ورايت بقرا تنحر فاولت ان الدرع الحصينة المدينة وان البقر خير والله - وروى البزار والطبراني عن ابن عباس قال لما نزل أبو سفيان وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه انى رايت فى المنام سيفى ذا الفقار انكسر وهى مصيبة ورايت بقرا تذبح وهى مصيبة ورايت علىّ درعى وهى مدينتكم لا يصلون إليها ان شاء الله قال ابن إسحاق وابن عقبة وابن سعد وغيرهم كانت هذه الرؤيا ليلة الجمعة - قال عروة وكان الذي راى بسيفه ما أصاب وجهه - وقال ابن هشام واما الثلم فى السيف فرجل من أهل بيتي يقتل وفى رواية ثم هززته يعنى السيف مرة اخرى فعاد احسن ما كان فإذا هو ما جاء الله به من الفتح - وقال حمزة والذي انزل عليك لا اطعم اليوم طعاما حتى أجالدهم بسيفى خارج المدينة وكان يوم الجمعة صائما ويوم السبت صائما - وقال « 1 » النعمان بن مالك يا رسول الله لا تحرمنا الجنة فو الذي نفسى بيده لادخلنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قال انى أحب الله ورسوله وفى لفظ اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله ولا أفر يوم الزحف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت فاستشهد يومئذ وحث مالك بن سنان الخدري وإياس بن عتيك على الخروج للقتال - فلما أبوا الا ذلك صلى الجمعة بالناس فوعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم ان لهم النصر ما صبروا ففرح الناس بالشخوص إلى عدوهم وكره ذلك المخرج بشر كثير وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بالناس وحضر أهل العوالي ورفعوا النساء فى الآطام ودخل بيته ومعه أبو بكر وعمر وقد صف الناس له(1/1066)
ما بين حجرته إلى منبره ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فقال للناس استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم له ما قلتم والوحى ينزل إليه من السماء فردوا الأمر إليه فما أمركم به فافعلوا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لامته ولبس الدرع أى السلاح - منه رح
_________
(1) فى الأصل وقال وقال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 130(1/1067)
فاظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل السيف من آدم واعتم وتقلد السيف - وندم الناس على إكراهه فقالوا يا رسول الله استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعوتكم إلى هذا الحديث فابيتم وما ينبغى لنبى إذا لبس لامته ان يضعها حتى يقاتل انظروا ما أمركم به فاتبعوه امضوا على اسم الله فلكم النصر ما صبرتم ووجد مالك بن عمرو النجاري قد مات ووضعوه عند موضع الجنائز فصلى عليه ثم خرج ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه السكب وتقلد القوس وسعد بن عبادة وسعد بن معاذ وكل منهما دارع والناس عن يمينه وشماله حتى « 1 » إذا انتهى إلى رأس الثنية رأى كتيبة خشنا لها رحل فقال ما هذا قالوا « 2 » هؤلاء حلفاء عبد الله بن أبى من اليهود فقال اسلموا فقيل لا فقال انا لا نستنصر باهل الشرك على أهل الشرك وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فعسكر بالشيخين وهما اطمان - وعرض « 3 » على رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكر فاستصغر غلمانا فردهم رد سبعة عشر وهم أبناء اربعة عشر وعرضوا عليه وهم أبناء خمسة عشر فاجازهم منهم عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت واسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عاذب وأبو سعيد الخدري وأوس بن ثابت الأنصاري - وأجاز رافع بن خديج بعد الرد لما قيل انه رام فقال سمرة بن جندب أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردنى وانا اصرعه فاعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصارعا فصرع سمرة رافعا فاجازه - فلما فرغ العرض وغابت الشمس اذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم اذن بالعشاء فصلى بهم وبات بالشيخين واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة فى خمسين رجلا يطوفون بالعسكر ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان السحر فصلى الصبح ثم قال اين الأدلاء من رجل يخرج بنا من كثب لا يمر بنا عليهم فقام أبو خثيمة(1/1068)
الحارثي فقال انا يا رسول الله فسلك به فى حرة بنى حارثة وبين أموالهم حتى سلك فى مال لمربع بن قنطى وكان منافقا ضرير البصر فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قام يحثو التراب فى وجوههم ويقول ان كنت رسول الله فانى لا أحل لك ان تدخل حائطى وأخذ حفنة من تراب ثم قال والله لو اعلم انى لا أصيب غيرك لضربت بها وجهك - فابتدر لا القوم
_________
(1) فى الأصل حتى انتهى.
(2) فى الأصل قال.
(3) فى الأصل وعرض رسول الله.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 131
ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر وقد بدر إليه سعد بن زبدة الأشهلي قبل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه بالقوس فشجه - وكان رسول الله خرج إلى أحد فى الف رجل وقيل فى تسعمائة وخمسين رجلا فلما بلغوا بالمهملات الخلط أى مقام خلط العسكرين - منه رح السوط انحزل عبد الله بن أبى بثلث الناس ورجع فى ثلاثمائة وقال علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم أبو جابر السلمى فقال أنشدكم فى نبيكم وفى أنفسكم فقال عبد الله بن أبى لو نعلم قتالا لاتّبعنكم وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فى سبعمائة وفرسه وفرس لابى بردة وقال ابن عقبة لم يكن مع المسلمين فرس - وهمت بنوا سلمة من الخزرج وبنوا حارثة من الأوس وكانا جناحى العسكر بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ فعصمهم الله فلم ينصرفوا فذكّرهم الله تعالى عظيم نعمته وقال.(1/1069)
إِذْ هَمَّتْ بدل من قوله إذ غدوت أو ظرف عمل فيه سميع عليم طائِفَتانِ يعنى بنى حارثة وبنى سلمة مِنْكُمْ فيه تعريض على ابن أبيّ انهم ليسوا منكم ولذا لم يذكر رجوعهم أَنْ تَفْشَلا أى ان تجبنا وتضعفا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أى محبهما أو المعنى عاصمهما عن اتباع تلك الخطرة أو المعنى والله ناصرهما ومتولى أمرهما فما لهما تفشلان ولا يتوكلان وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وتقديم الظرف للحصر يعنى فليتوكلوا عليه لا على غيره فلا يفشلوا بفرار المنافقين عن جابر بن عبد الله قال فينا نزلت هذه الآية - قالوا ما سرّنا انا لم نهم بالذي هممنا به وقد اخبر الله تعالى انه ولينا - ثم ذكّرهم ما يوجب التوكل مما يسّر لهم الله من الفتح يوم بدر وهم فى حالة قلة وذلة فقال.
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الأكثرون على ان بدرا اسم لموضع بين مكة والمدينة وقيل اسم لبير هناك قيل كانت بدر بيرا « 1 » الرجل يقال له بدر قاله الشعبي وأنكره الآخرون وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ جمع ذليل حال من الضمير - وانما قال اذلة ولم يقل ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح فانهم كانوا ثلاثمائة رجل « 2 » ومعهم سبعين بعيرا يعتقبون عليها وفرسان فرس لمقداد وفرس لزبير بن العوام فَاتَّقُوا اللَّهَ فى الثبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) ما أنعم به عليكم بتقواكم من نصره أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون فوضع الشكر موضع الانعام لأنه سببه وفيه تنبيه
_________
(1) فى الأصل بير -
(2) فى الأصل رجلا -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 132
على انه لا بد ان يكون نظر العبد فى الانعام على الشكر وانه انما يرغب فى الانعام لأنه وسيلة للشكر.(1/1070)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم على ما قال قتادة انه كان هذا يوم بدر أمدهم الله تعالى بألف من الملائكة كما قال فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف كما ذكر هاهنا - أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن أبى حاتم عن الشعبي انه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم بدر ان كرز بن جابر المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فانزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) قرأ ابن عامر بفتح النون وتشديد الزاء من التفعيل على التكثير هاهنا وفى العنكبوت انّا منزلون والآخرون بسكون النون والتخفيف من الانزال استفهام لانكار ان لا يكفيهم ذلك - وجئ بلن اشعارا بانهم كانوا كالايسين من النصر لضعهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم.(1/1071)
بَلى إيجاب لما بعد لن أى بلى يكفيهم ذلك - ثم وعدهم بالزيادة بشرط الصبر والتقوى حثّا عليهما وتقوية لقلوبهم إِنْ تَصْبِرُوا على القتال وَتَتَّقُوا خلاف ما يأمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم وَيَأْتُوكُمْ أى المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أى من ساعتهم هذه وهو فى الأصل مصدر فارت القدر فورا إذا غلت فاستعير للسرعة ثم اطلق للحال التي لا تراخى عنه والمعنى ان يأتوكم فى الحال حال ضعفكم وقوتهم - قلت الظاهر ان التقييد بالفور لا مفهوم له بل للترقى والمعنى ان يأتوكم بالتراخي بعد ما تقوون على قتالهم ينصركم الله بالطريق الاولى وان يأتوكم من فورهم هذا أيضا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ الامداد اعانة الجيش بالجيش بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) روى ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم عن الشعبي انه بلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين فلم يمد المسلمين بخمسة آلاف والله اعلم - قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم مسوّمين بكسر الواو على وزن اسم الفاعل والباقون بالفتح على وزن اسم المفعول من التسويم بمعنى الاعلام « 1 » قال قتادة والضحاك كانوا قد اعلموا بالعهن فى نواصى الخيل وإذ نابها - واخرج ابن أبى شيبة فى المصنف
_________
(1) أخرج الطبراني وابن مردوية بسند ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله تعالى مسومين أى معلمين قال ابن عباس كان سماء الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم أحد عمائم حمر - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 133(1/1072)
عن عمرو بن إسحاق مرسلا انه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه يوم بدر تسوّموا فان الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأبيض فى قلانسهم ومغافرهم « 1 » - وكذا أخرج ابن جرير وزاد وقال وهو أول يوم وضع فيه الصوف أو بمعنى الاسامة يعنى الإرسال يعنى مرسلين قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر - وقال على وابن عباس رضى الله عنهم كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم - وقال هشام بن عروة والكلبي عليهم عمائم صفر مرخاة على أكتافهم - قال قتادة فصبروا يوم بدر واتقوا فامدهم بخمسة آلاف كما وعد - وقال الحسن فهؤلاء الخمسة آلاف ردء للمؤمنين إلى يوم القيامة يعنى بشرط الصبر والتقوى وقال ابن عباس ومجاهد لم يقاتل الملائكة فى المعركة الا يوم بدر وفيما سوا ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون انما يكونون عددا ومددا - وقال جماعة وعد الله المسلمين يوم بدر ان صبروا على طاعته واتقوا محارمه ان يمدهم فى حروبهم كلها فلم يصبروا الا فى يوم الأحزاب - فامدهم حين حاصروا قريظة والنضير - قال عبد الله بن أبى اوفى كنا محاصرى قريظة والنضير ما شاء الله تعالى فلم يفتح لنا فرجعنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغسل فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل عليه السلام فقال وضعتم أسلحتكم ولم يضع الملائكة أوزارها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثم نادى فينا فقمنا حتى اتينا قريظة والنضير فيومئذ امدّنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ففتح لنا فتحا يسيرا - وقال الضحاك وعكرمة كان قوله تعالى إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية حكاية عن يوم أحد وعدهم المدد ان صبروا واتقوا فلم يصبروا وخالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يمدوا وعلى هذا قوله تعالى إِذْ تَقُولُ بدل ثان من إذ غدوت - وقال مجاهد والضحاك معنى قوله تعالى من فورهم من غضبهم هذا لانهم(1/1073)
انما رجعوا للحرب يوم أحد من غضبهم ليوم بدر وقد امدّ الله تعالى رسوله فى تلك الوقعة بجبرئيل وميكائيل لصبره وتقواه عن سعد بن أبى وقاص قال رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ومعه رجلان يقاتلان عنه عليهما ثياب بيض كاشد القتال ما رايتهما قبل ولا بعد متفق عليه والرجلان جبرئيل وميكائيل - قال محمد بن إسحاق لما كان يوم أحد
_________
(1) المغفر هو ما يلبسه الدارع على رأسه من الرادع - منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 134
انجلى القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي سعد بن مالك يرمى وفتى شاب ينبل له فلما فنى النبل أتاه به جبرئيل فنثره فقال ارم أبا إسحاق مرتين فلما انجلت المعركة سئل عن ذلك الرجل فلم يعرف.
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أى ما جعل امدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى أى بشارة لَكُمْ بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ « 1 » فلا تجزعون من كثرة أعدائكم وقلتكم فان الإنسان معتاد بتشبث الأسباب فيطمئن قلبه عند ملاحظة الأسباب بالنصر عند كثرة الأعوان وَمَا النَّصْرُ فى الحقيقة إِلَّا مِنْ « 2 » عِنْدِ اللَّهِ لا من العدة والعدد لان الأسباب كلها عادية وافعال العباد بشرا كان أو ملائكة مخلوقة لله تعالى الْعَزِيزِ الغالب الذي لا يغلب عليه أحد الْحَكِيمِ (126) الذي ينصر أو يخذل بوسط وبغير وسط على مقتضى الحكمة تفضلا من غير ان يجب عليه شىء.
(1/1074)
لِيَقْطَعَ متعلق بقوله لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أو بقوله يمددكم أو بقوله وما النّصر ان كان اللام للعهد طَرَفاً أى طائفة مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا فى القاموس الطرف الناحية وطائفة من الشيء والرجل الكريم يعنى نصركم لكى يهلك جماعة منهم فقتل من قادتهم وسادتهم يوم بدر سبعون واسر سبعون - ومن حل الآية على حرب أحد فقال قد قتل منهم يومئذ ستة عشر وكانت النصرة للمؤمنين حتى خالفوا امر رسول الله صلى الله عليه فانقلب عليهم أَوْ يَكْبِتَهُمْ فى الصحاح الكبت الرد بعنف وفى القاموس كبته يكبته صرعه وأخزاه وصرفه وكسر؟؟؟ رد العدو بغيظة واذلة قلت وهذه المعاني كلها لازمة للهزيمة وكلمة أو للتنويع لا للترديد يعنى نصركم لكى يهلك طائفة من الكفار ويهزم سائرهم فَيَنْقَلِبُوا إلى بلادهم خائِبِينَ (127) لم ينالوا شيئا مما أرادوا - روى مسلم واحمد عن انس ان النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته
_________
(1) فى الأصل به قلوبكم.
(2) عن عياض الأشعري قال شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء أبو عبيدة ويزيد بن أبى سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض وليس عياض هذا قال وقال عمر إذا كان قتالا فعليكم أبو عبيدة فكتبنا إليه انه قد جاء إلينا الموت فاستمددناه فكتب إلينا انه قد جاءنى كتابكم تستمدونى وانى أدلكم على من هو أعز نصرا واحضر جندا الله عز وجل فاستنصروه فان محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر فى اقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابى هذا فقاتلوهم ولا تراجعونى فقاتلناهم فهزمنا اربع فراسخ - منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 135
يوم أحد وشج وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال كيف يصلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فانزل الله تعالى.(1/1075)
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ شىء اسم ليس ولك خبره واللام بمعنى إلى كما فى قوله مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ ومن الأمر حال من شىء روى احمد والبخاري عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم العن فلانا وفى رواية اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحرث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن امية فنزلت هذه الآية إلى آخرها فتيب عليهم كلهم وروى البخاري عن أبى هريرة نحوه قال الحافظ ابن حجر طريق الجمع انه صلى الله عليه وسلم دعا على المذكورين فى صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد فنزلت الآية فى الامرين معا فيما وقع له وفيما نشأ عنه من الدعاء عليهم - وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أحد ما نال أصحابهم من جزع الاذان والأنوف وقطع المذاكير قالوا لئن انا لنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد فانزل الله تعالى هذه الآية - وقيل أراد النبي ان يدعوا عليهم بالاستيصال فنزلت هذه الآية وذلك لعلمه تعالى فيهم بان كثيرا منهم يسلمون لكن يشكل ما رواه مسلم من حديث أبى هريرة انه صلى الله عليه وسلم كان يقول فى الفجر اللهم العن رعلا وذكوان وعصية حتى انزل الله تعالى هذه الآية فان قصة رعل وذكوان كان بعد ذلك وهم أهل بير معونة بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين رجلا من القراء ليعلموا الناس القرآن والعلم أميرهم المنذر بن عمرو - فقتلهم عامر بن الطفيل فوجد من ذلك وجدا شديدا وقنت شهرا فى الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين - قال الحافظ ثم ظهرت لى علة فى حديث أبى هريرة هذه وان فيه إدراجا فان قوله حتى انزل الله منقطع من رواية الزهري عمّن بلغه بيّن ذلك مسلم وهذا البلاغ لا يصح - ويحتمل ان يقال ان قصة رمل وذكوان كان(1/1076)
عقيب غزوة أحد باربعة أشهر فى صفر سنة اربع من الهجرة فلعلها نزلت فى جميع ذلك وتأخير نزول الآية عن سبب نزولها قليلا غير مستبعد - وورد فى سبب نزول الآية أيضا ما أخرجه البخاري فى تاريخه وابن إسحاق عن سالم بن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 136(1/1077)
انك تنهى عن الشيء ثم تحول فحول قفاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكشف استه فلعنه ودعا عليه فانزل الله تعالى هذه الآية ثم اسلم الرجل فحسن إسلامه وهو مرسل غريب أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ان اسلموا أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فى الدنيا بالقتل والاسر وفى الاخرة بالنار ان أصروا على الكفر فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) تعليل للتعذيب قال الفراء كلمة أو فى قوله أو يتوب عليهم بمعنى حتى وقال ابن عيسى انها بمعنى الّا ان كقولك لا لزمنك أو تعطينى حقى يعنى ليس مفوضا إليك من أمرهم من التعذيب أو الانجاء شىء حتى يتوب الله عليهم بإسلامهم فتفرح به أو يعذبهم بظلمهم فتشفى منهم - وقيل يحتمل ان يكون أو يتوب عليهم معطوفا على الأمر أو على شىء بإضمار ان والمعنى ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شىء انما أنت عبد مامور بانذارهم وجهادهم والأمر كله لله قال التفتازانيّ فهو من قبيل عطف الخاص على العام وفى مثله بكلمة أو نظر وأجيب بان هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن - ولك ان تجعل الأمر بمعنى التكليف والإيجاب - والمعنى ليس ما تأمر به من عندك وليس الأمر وإيجاب الواجبات بيدك ولا التوب عليهم ولا التعذيب قلت ولو كان نزول الآية متصلا بما قبله فالظاهر ان يكون قوله أو يتوب عليهم معطوفا على قوله أو يكبتهم والمعنى نصركم الله ببدر ليقطع ويهلك طائفة من الذين كفروا بالقتل أو يكبت طائفة منهم بالهزيمة أو يتوب على طائفة منهم بالإسلام أو يعذب طائفة منهم بالأسر وأخذ الفدية فهو بيان لانواع احوال الكفار وقوله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ جملة معترضة لمنعه عن الدعاء عليهم.(1/1078)
وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا فله الأمر كله لا لغيره يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته بفضله بعد توفيقه للاسلام سواء تاب أو لم يتب وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه صريح فى نفى وجوب التعذيب عليه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) فلا تبادر بالدعاء عليهم - أخرج الفرياني عن مجاهد قال كانوا يتبايعون إلى الاجل فإذا حل الاجل زادوا عليهم وزادوا فى الاجل فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً أى زيادات مكررة فهو نهى عن الربوا مع توبيخ على ما كانوا يعملونه لا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 137
للاحتراز وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه من الربوا وغيره لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) راجين الفلاح.
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) قال البيضاوي فيه تنبيه على ان النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض لعصاة المؤمنين - قلت والظاهر ان النعت للتخصيص والنار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فيكون فيه اشارة إلى ان أكل الربوا يوجب قساوة القلب بحيث ربما يفضى إلى الكفر ويؤيده ما فى المدارك انه كان أبو حنيفة رحمه الله يقول هى أخوف اية فى القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين ان لم يتقوه فى اجتناب محارمه وقد أمد ذلك بما اتبعه من تعليق رجاء المؤمنين لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله بقوله.(1/1079)
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) راجين رحمته وعلى كلا التأويلين يعنى سواء كانت النار بالذات معدة للكافرين وبالعرض للعصاة أو كانت النار المعدة للكافرين مغائرة للنار المعدة للعصاة فى هذه الآية رد على المرجئة حيث قالوا لا يضر مع الايمان معصية قال اكثر المفسرين ان لعل وعسى من الله تعالى للتحقيق والظاهر انه لا يفيد الوجوب بل يفيد الرجاء مع بقاء الخوف وقال البيضاوي ان لعل وعسى فى أمثال ذلك دليل على عرة التوصل إلى ما جعل خبرا له.
وَسارِعُوا معطوف على أطيعوا قرأ نافع وابن عامر بحذف واو العطف والباقون بالواو إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ قال ابن عباس إلى الإسلام وروى عنه إلى التوبة قاله عكرمة وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه إلى أداء الفرائض - وروى عن انس بن مالك انها التكبيرة الاولى ومرجع الأقوال كلها إلى ما يستحق به مغفرة الذنوب الموجب للتفصى من النار ورحمة الله تعالى الموجب لدخول الجنة من الإسلام والاعتقادات الحقة والأخلاق والأعمال الصالحة وقد مر فيما سبق حديث أبى امامة بادروا بالأعمال هرما ناغضا الحديث وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا بالأعمال سبعا ما تنظرون الا فقرا منسيا أو غنى مطغيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال فانه شر منتظر أو الساعة والسّاعة أدهى وامرّ رواه الترمذي والحاكم عَرْضُهَا أى سعتها صفة للجنة السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أى كعرضهما وسعتهما وهذا على التمثيل دون الحقيقة فان أوسع
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 138(1/1080)
المسافات المكانية فى ظن العوام سعة السموات والأرض فمثل فى هذه الآية بها كما مثل فى قوله تعالى خلدين فيها ما دامت السّموات والأرض المسافة الزمانية للخلود فى الجنة بمدة دوامها يعنى عند ظنكم قال البغوي سئل انس بن مالك رضى الله عنه عن الجنة أ في السماء أم فى الأرض فقال فاى ارض وسماء تسع الجنة فقيل فاين هى قال فوق السموات السبع تحت العرش وقال قتادة كانوا يرون ان الجنة فوق السموات السبع وان جهنم تحت الأرضين السبع - أخرج أبو الشيخ فى العظيمة من طريق أبى الزعراء عن عبد الله قال الجنة فى السماء السابعة العليا (قلت يعنى فوقها) والنار فى الأرض السابعة السفلى قلت يعنى تحتها أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) حقيقة التقوى وهم الذين اتقوا من شغل قلوبهم بغير الله ومن رذائل أنفسهم ويجرى فيه التأويلان كما جريا فى النار التي أعدت للكافرين - .(1/1081)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ أى المسرة بكثرة المال وَالضَّرَّاءِ أى النقص فى الأموال كذا فى القاموس أى لا يخلون فى حال ما من الانفاق بما قدروا عليه من قليل أو كثير قال البغوي أول ما ذكر من اخلاقهم الموجبة للجنة السخاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار وجاهل سخى أحب إلى الله من عابد بخيل رواه الترمذي عن أبى هريرة وذكر البغوي بلفظ أحب إلى الله من العالم البخيل - ورواه البيهقي عن جابر والطبراني عن عائشة وعن ابن عباس مرفوعا السخاء خلق الله الأعظم رواه ابن النجار - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم السخاء شجرة من أشجار الجنة أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ يغصن منها قادة ذلك الغصن إلى الجنة والبخل شجرة من أشجار النار أغصانها متدليات فى الدنيا فمن أخذ بغصن من أغصانها قاده ذلك الغصن إلى النار رواه الدارقطني والبيهقي عن على عليه السلام وابن عدى والبيهقي عن أبى هريرة رضى الله عنه وأبو نعيم فى الحلية عن جابر رضى الله عنه والخطيب عن أبى سعيد رضى الله عنه وابن عساكر عن انس رضى الله عنه والديلمي فى مسند الفردوس عن معاوية رضى الله عنه وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق درهم مائة الف فقال رجل وكيف ذاك يا رسول الله فقال رجل له مال كثير أخذ من عرضه مائة الف درهم تصدق بها ورجل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 139(1/1082)
ليس له الا درهمان فاخذ أحدهما فتصدق به رواه النسائي وصححه وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الكظم حبس النفس عند امتلائها يعنى الكافين أنفسهم عن إمضاء الغيظ مع القدرة من كظمت القربة إذا ملاتها وشددت رأسها عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملا الله قلبه أمنا وايمانا رواه احمد وعبد الرزاق وابن أبى الدنيا فى ذم الغضب - وروى البغوي عن انس مرفوعا بلفظ من كظم غيظا وهو يقدران ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيره من اىّ الحور شاء وروى ابن أبى الدنيا عن ابن عمر مرفوعا من كف غضبه ستر الله عورته وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال الكلبي العافين عن المملوكين سوء الأدب - وقال زيد بن اسلم ومقاتل العافين عمن ظلمهم وأساء إليهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان هؤلاء من أمتي قليل الا من عصم الله - رواه الثعلبي فى تفسيره عن مقاتل والبيهقي فى مسند الفردوس من حديث ابن مالك وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (133) اللام للجنس ويدخل تحته هؤلاء أو للعهد فيكون اشارة إليهم ووضع المظهر موضع المضمر للمدح والاشارة إلى ان تلك صفات المحسنين عن الثوري الإحسان ان تحسن إلى المسيء فان الإحسان إلى المحسن متاجّرة - وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان فى الصحيحين من حديث عمر فى قصة سوال جبرئيل الإحسان ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك قلت فالمحسنون هم الصوفية ولعل كظم الغيظ كناية عن فناء النفس لان الغيظ منشاه رذائل النفس من الكبر والحسد والحقد والبخل ونحو ذلك ولعل العفو عن الناس كناية عن فناء القلب لان بفناء القلب يسقط الناس عن نظر اعتباره ويرى الافعال كلها منسوبة إلى الله تعالى فلا يرى جواز مواخذة أحد من الناس بشىء مما اتى به الا لحق الله تعالى على حسب ما امر به امتثالا(1/1083)
و تعبدا ولعل الانفاق فى السراء والضراء عبارة عن عدم اشتغال قلوبهم بامتعة الدنيا والله اعلم - لمّا ذكر الله سبحانه فى هذه الآية المتقين المحسنين العارفين عقبهم بذكر اللاحقين
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 140
بهم التائبين فقال.
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلى هذا الموصول مبتدا وجملة أولئك جزاؤهم الآية خبره - وجاز ان يكون الموصول معطوفا على المتقين أو على الذين ينفقون فعلى هذا جملة أولئك مستانفة والأظهر هو الأول قال ابن مسعود قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنوا إسرائيل أكرم على الله منا كان أحدهم إذا أذنب أصبح وكفارته مكتوبة فى عتبة بابه اجدع انفك أو اذنك افعل كذا فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعالى هذه الآية - وقال عطاء نزلت فى نبهان التمّار وكنيته أبو معبد أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا فقال لها ان هذا التمر ليس بجيد وفى البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له اتق الله فتركها وندم على ذلك فاتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية - وقال مقاتل والكلبي أخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين أحدهما من الأنصار والاخر من ثقيف فخرج الثقفي فى غزاة واستخلف الأنصاري على اهله فاشترى لهم اللحم ذات يوم فلما أرادت المرأة ان تأخذ منه دخل على اثرها وقبل يدها ثم ندم وانصرف ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه - فلما رجع عليه الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسال امرأته عن حاله فقالت لا اكثر الله فى الاخوان مثله ووصفت له الحال والأنصاري يسيح فى الجبال تائبا مستغفرا فطلبه الثقفي حتى وجده فاتى به أبا بكر رجاء ان يجد عنده راحة وفرجا وقال الأنصاري هلكت وذكر القصة فقال أبو بكر ويحك ما علمت ان الله تعالى يغار للغازى ما لا يغار للمقيم ثم لقيا عمر فقال مثل ذلك فاتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل مقالتهما(1/1084)
فانزل الله تعالى هذه الآية - واصل الفحش القبح والخروج عن الحد والمراد بالفاحشة هاهنا الكبيرة لخروجه عن الحد فى القبح والعصيان وقال جابر الفاحشة الزنى أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالصغائر أو بما دون الزنى من القبلة والمعانقة واللمس وقيل فعلوا فاحشة قولا أو ظلموا أنفسهم فعلا وقيل الفاحشة ما يتعدى إلى غيره وظلم النفس ما ليس كذلك وهذا اظهر ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يعنى ذكروا وعيد الله وان الله سائلهم فندموا وتابوا واستغفروا وقال مقاتل بن حبان ذكروا لله باللسان عند الذنوب قلت يمكن ان يقال المراد بذكر الله صلوة الاستغفار لحديث علىّ عن أبى بكر رضى الله عنهما انه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 141(1/1085)
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد مؤمن وفى رواية ما من رجل يذنب ذنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ثم يستغفر الله الا غفر الله له رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وزاد الترمذي ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام بمعنى النفي حتى صح المفرغ يعنى لا يغفر الذنوب أحد الا الله فان العافين عن الناس من الناس انما يعفون حقوقهم دون الذنوب والمعاصي التي هى حقوق الله تعالى أو يقال العافي عن الناس منهم يعفوا رجاء لمغفرة الله تعالى فهو المتجر وغافر الذنب بلا غرض ومنفعة انما هو الله تعالى والجملة معترضة بين المعطوفين لبيان سعة رحمة الله وعموم المغفرة والحث على الاستغفار والوعد بقبول التوبة وجاز ان يكون حالا بتقدير القول يعنى قائلين ومن يغفر أو معطوفة على مفعول ذكروا يعنى ذكروا الله وذكروا مغفرته وتوحده فى تلك الصفة وَلَمْ يُصِرُّوا الإصرار التقعد فى الذنب والتشدد فيه والامتناع من الإقلاع كذا فى الصحاح يعنى لم يقيموا عَلى ما فَعَلُوا من الذنوب وبهذا يظهر ان العزم على ترك الفعل شرط للاستغفار كالندم على الفعل فلا بد للاستغفار من العزم على الترك وان صدر منه بعد ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصر من استغفر وان عاد فى اليوم سبعين مرة - رواه أبو داود والترمذي من حديث أبى بكر الصديق وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس (مسئلة) الإصرار على الصغيرة تكون كبيرة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة(1/1086)
مع الإصرار رواه الديلمي فى مسند الفردوس وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) حال من الضمير فى لم يصروا يعنى تركوا الإصرار على المعصية لعلمهم كونها معصية خوفا من الله تعالى لا لكسالة أو تنفر طبعى « 1 » أو خوف من العباد أو عدم تيسر فان الجزاء انما هو على كف النفس بنية الطاعة دون عدم الفعل مطلقا لكن عدم الفعل مطلقا مانع من الجزاء المترتب على المعصية فان من العصمة ان لا تقدر وقال الضحاك وهم يعلمون الله يملك مغفرة الذنوب وقال
_________
(1) فى الأصل طبيعى
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 142
الحسين بن الفضل وهم يعلمون ان له ربا يغفر الذنوب وقيل وهم يعلمون ان الله لا يتعاظمه العفو عن الذنوب وان كثرت - وقيل يعلمون انهم ان استغفروا غفر لهم عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان عبدا أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا فاغفره لى فقال ربه اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى ثم مكث ما شاء الله ثم أذنب ذنبا فقال رب أذنبت ذنبا اخر فاغفره لى فقال اعلم عبدى ان له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدى فليفعل ما شاء متفق عليه وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل من علم انى ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح.(1/1087)
أُولئِكَ ان كانت الجملة مستانفة فالمشار إليهم المتقون والتائبون جميعا وان كان هذا خبرا للموصول فالمشار إليهم هم التائبون جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وتنكير جنات للدلالة على ان ما لهم أدون مما للمتقين الموصوفين بالصفات المذكورة فى الآية المقدمة ولذا فصل آيتهم ببيان انهم محسنون مستوجبون لمحبة الله تعالى حافظون على حدود الشرع وفصل هذه الآية بقوله وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) فان المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيله بعض ما فوت على نفسه لكن كم بين المحسن والمتدارك والمحبوب والأجير - ولعل تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة والمخصوص بالمدح محذوف أى نعم اجر العاملين المغفرة والجنات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له رواه البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس والقشيري فى الرسالة وابن النجار عن علىّ (فائدة) ولا يلزم من اعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم ان لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من اعداد النار للكافرين جزاء لهم ان لا يدخلها غيرهم - وجاز ان يقال العصاة المصرون على الكبائر يدخلهم الله الجنة بعد تطهيرهم من الذنوب بالمغفرة اما بعد العذاب بالنار فان النار فى حق المؤمن كالكير يدفع خبث الفلز واما بالمغفرة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 143
بلا تعذيب فحينئذ يلحق العاصي بالتائب فى التطهّر - قال ثابت البناني بلغني ان إبليس بكى حين نزلت هذه الآية وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى آخرها - .(1/1088)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) السنة الطريقة المتبعة فى الخير أو الشر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها واجر من عمل بها من غير ان ينقص من أجورهم شىء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير ان ينقص من أوزارهم شىء وجاز ان يكون فى الكلام حذف المضاف أى أهل سنن وقيل السنن بمعنى الأمم والسنة الامة قال الشاعر ما عاين الناس من فضل كفضلهم ولا راوا مثلهم فى سالف السنن ومعنى الآية قد مضت قبلكم طرق من الخير والشرا واهل طرق فانظروا كيف كان عاقبة طريقة التكذيب وما ال إليه امر المكذبين من الهلاك وقال مجاهد قد مضت وسلفت منى سنن فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية الكافرة بامهالى واستدراجى إياهم حتى بلغ الكتاب اجله الذي اجلته لاهلاكهم ثم أهلكتهم ونصرت انبيائى ومن تبعهم فسيروا وانظروا لتعتبروا وقال عطاء السنن الشرائع وقال الكلبي مضت لكل أمة سنة ومنهاج إذا اتبعوها رضى الله عنهم ومن كذبه ولم يتبعه أهلكه الله فانظر ما عاقبة المكذبين.
هذا أى القرآن أو قوله قد خلت أو مفهوم قوله فانظروا بَيانٌ لِلنَّاسِ عامة وَهُدىً من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) خاصة فانهم هم المنتفعون به - وقيل هذا اشارة إلى ما لخص من امر المتقين والتائبين وقوله قد خلت اعتراض للحث على الايمان والتوبة - .(1/1089)
وَ لا تَهِنُوا أى لا تضعفوا ولا تجبنوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح يوم أحد وكان قد قتل يومئذ من المهاجرين خمسة منهم حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ومن الأنصار سبعون رجلا وَلا تَحْزَنُوا على من قتل منكم وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ والحال انكم أعلى شأنا منهم فانكم ترجون من الاجر والثواب على ما أصابكم ما لا يرجوه الكفار وقتلاكم فى الجنة وقتلاهم فى النار نظيره قوله تعالى وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ قال الكلبي
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 144
امر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بطلب القوم بعد ما أصابهم من الجراح يوم أحد فاشتد ذلك على المسلمين فنزلت هذه الآية - أو المعنى أنتم الأعلون عاقبة الأمر بالنصر من الله والظفر قال ابن عباس انهزم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب فاقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم اللهم لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا الا بك - وبات نفر من المسلمين رماة فصعد والجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموا فذلك قوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) يعنى ان صح ايمانكم فلا تهنوا ولا تحزنوا فان مقتضى الايمان رجاء الثواب وقوة القلب بالتوكل على الله أو المعنى ان صح ايمانكم فانتم الأعلون فى العاقبة فانه حقّ علينا نصر المؤمنين.(1/1090)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ يوم أحد قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر قرح بضم القاف حيث جاء والباقون بالفتح وهما لغتان معناهما عض السلاح ونحوه مما يخرج البدن كذا فى القاموس وقال الفراء القرح بالفتح الجراحة وبالضم الم الجراحة فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ أى قوم الكفار من قريش قَرْحٌ مِثْلُهُ يوم بدر وهم لم يضعفوا عن معاودتكم للقتال فانتم اولى بذلك نزلت هذه الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن وليجتروا على عدوهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ يعنى اوقات النصر نُداوِلُها نصرفها بَيْنَ النَّاسِ يعنى كذلك جرت عادتنا فيكون النصر تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء والأيام صفة لتلك وهو مبتدا خبره نداولها أو الأيام خبر ونداولها حال والعامل فيه معنى الاشارة عن البراء بن عازب قال جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة وكانوا خمسين رجلا عبد الله بن جبير فقال ان رايتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وان رايتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم فهزمهم قال وانا والله رايت النساء يشتددن قد بدت خلا خلهن واسوقهن رافعات ثيابهن - فقال اصحاب عبد الله بن جبير الغنيمة أى قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنتظرون فقال عبد الله بن جبير أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا والله لناتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم صرفت وجوههم فاقبلوا منهزمين فذاك قوله تعالى وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ إذ يدعوهم الرسول
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 145(1/1091)
فى أخراهم فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثنى عشر رجلا فاصابوا منا سبعين - وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا وسبعين قتيلا فقال أبو سفيان ا فى القوم محمد ثلاث مرات فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يجيبوه ثم قال ا فى القوم ابن أبى قحافة ثلاث مرات ثم قال ا فى القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال اما هؤلاء قد قتلوا فما ملك عمر رضى الله عنه نفسه فقال كذبت والله يا عدو الله ان الذين عددت لاحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوءك فقال يوم بيوم بدر والحرب سجال انكم ستجدون فى القوم مثلة لم آمر بها ولا تسؤنى ثم أخذ يرتجز اعل هبل اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله أعلى وأجل قال ان لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا تجيبوه قالوا يا رسول الله ما نقول قال قولوا الله مولانا ولا مولى لكم رواه البخاري وغيره وفى رواية فقال أبو سفيان قد أنعمت هلم يا عمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر آته فانظر ما شأنه فجاءه فقال أبو سفيان أنشدك الله يا عمر ا قتلنا محمدا قال اللهم لا انه يسمع كلامك الان قال أنت عندى اصدق من ابن قمية وابر وقد قال ابن قمية لهم انى قتلت محمدا ثم قال أبو سفيان الا ان موعدكم بدر الصغرى على رأس الحول فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل نعم هو بيننا وبينكم موعد وانصرف أبو سفيان إلى أصحابه وأخذ فى الرحيل وروى هذا المعنى عن ابن عباس وفى حديثه قال أبو سفيان يوم بيوم وان الأيام دول والحرب سجال فقال عمر لا سواء قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار - قال الزجاج الدولة يكون للمسلمين على الكفار لقوله تعالى إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ(1/1092)
و انما كانت يوم أحد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على علة محذوفة وفائدة الحذف الإيذان بان العلة المحذوفة متعددة يطول ذكرها واللام متعلق بنداولها أى نداولها لحكم ومصالح لا يحصى وليعلم الله المؤمنين ممتازين عند الناس بالصبر والثبات على الايمان من غيرهم وجاز ان يقال المعطوف عليه غير محذوف بل هو المفهوم من قوله تعالى وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها كأنَّه قال داو لنا بينكم الأيام لان هذه عادتنا وليعلم والخلق
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 146
و الافناء من قبيل مداولة الأيام - والقصد فى أمثاله ونقائضه ليس إلى اثبات علمه تعالى ونفيه بل الى
اثبات المعلوم فى الخارج ونفيه على طريقة البرهان لان علم الله تعالى لازم للمعلوم وبالعكس ونفى المعلوم مستلزم لنفى العلم كيلا ينقلب العلم جهلا فاطلق الملزوم وأريد به اللازم فمعنى الآية ليتحقق امتياز المؤمنين من غيرهم عند الناس - وقيل معناه ليعلم الله علما يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجودا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أى يكرم ناسا منكم بالشهادة يريد شهداء أحد - أو المعنى وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بالثبات والصبر على الشدائد - أخرج ابن أبى حاتم عن عكرمة قال لما ابطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امراة ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا حى قالت فلا أبالي يتخذ الله من عباده شهداء - فنزل القرآن على ما قالت وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) الكافرين المنافقين الذين لم يظهر منهم الثبات على الايمان جملة معترضة بين المعطوفين وفيه تنبيه على ان الله لا ينصر الكافرين على الحقيقة وانما يغلبهم أحيانا استدراجا لهم وابتلاء للمؤمنين.(1/1093)
وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ التمحيض التطهير والتصفية الَّذِينَ آمَنُوا من الذنوب وَيَمْحَقَ المحق نقض الشيء قليلا قليلا الْكافِرِينَ (141) يعنى ان كانت الدولة على المؤمنين فللتميز والاستشهاد والتمحيص وان كانت على الكافرين فلمحقهم ومحو اثارهم.
أَمْ حَسِبْتُمْ أم منقطعة بمعنى بل احسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ والاستفهام للانكار وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ يعنى ولما يتحقق الجهاد من بعضكم وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) نصب بإضمار ان والواو للجمع كما فى نحو لا تأكل السمك وتشرب اللبن أو جزم للعطف على يعلم الله وحركت الميم لالتقاء الساكنين بالفتح لفتحة ما قبلها - أخرج ابن أبى حاتم من طريق العوفى عن ابن عباس ان رجالا من الصحابة كانوا يقولون ليتنا نقتل كما قتل اصحاب بدر أو ليت لنا يوما ليوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبلى فيه خيرا أو نلتمس الشهادة والجنة والحيوة والرزق فاشهدهم الله أحدا فلم يلبثوا الا من شاء الله منهم فانزل الله تعالى.
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ فى سبيل الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 147(1/1094)
او المراد به الحرب فانه سبب للموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ تشاهدوه وتعرفوا شدته فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) حال من فاعل رايتموه وفائدته بيان ان المراد بالروية روية البصر دون العلم يعنى عاينتم الموت حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم وفيه توبيخ على انهم تمنوا الحرب وتسببوا لها ثم جبنوا وانهزموا عنها أو على تمنى الشهادة فانها يستلزم تمنى غلبة الكفار - أخرج ابن أبى حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبى الله قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال ناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به واخرج ابن المنذر عن عمر قال تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول قتل محمد فقلت لا اسمع أحدا يقول قتل محمدا لاضربت عنقه فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون - واخرج البيهقي فى الدلائل عن أبى نجيح ان رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط فى دمه فقال له أشعرت ان محمدا قتل فقال ان كان محمد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت على هذه الروايات.(1/1095)
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ « 1 » يعنى ليس هو ربّا يستحيل عليه الفناء والموت وما هو يدعوا الناس إلى عبادته - فى القاموس الحمد الشكر والرضاء والجزاء وقضاء الحق والتحميد حمد الله مرة بعد مرة ومنه محمد كانّه حمد مرة بعد مرة قلت إلى ما لا نهاية لها قال البغوي محمد هو المستغرق لجميع المحامد لان الحمد لا يستوجبه الا الكامل والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه الا المستولى على الأمد فى الكمال قال حسان بن ثابت ( (شعر)) ا لم تر ان الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وامجد وشقه من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد قَدْ خَلَتْ مضت وماتت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيموت هو أيضا أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى
_________
(1) أخرج البخاري عن ابن عباس ان أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال اجلس يا عمرو قال أبو بكر اما بعد من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات - ومن كان يعبد الله فان الله حىّ قال الله وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إلى الشّكرين قال فو الله لكانّهم لم يعلموا ان الله انزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما اسمع بشرا من الناس الا يتلوها وروى عن أبى هريرة وعروة وغيرهما نحو ذلك قال ابراهيم قال أبو بكر لو منعونى عقالا اعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم ثم تلا وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ - منه رحمه الله [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 148(1/1096)
أَعْقابِكُمْ أى رجعتم إلى دينكم الأول من الكفر انكار على ارتدادهم بموته صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بموت من سبقه من الأنبياء وبقاء دينهم - وقيل الفاء للسببية والهمزة لانكار ان يجعل موته سببا لارتدادهم وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ أى يرتد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده بل يضر
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 156
و الله عز وجل أكرم من ان يثنى عليهم العقوبة فى الاخرة وما عفا الله عنه فى الدنيا فالله احكم من ان يعود بعد عفوه - .(1/1097)
إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم أو بيبتليكم أو عفا عنكم أو بمقدر كاذكر - قرأ أبو عبد الرحمن السلمى والحسن وقتادة تصعدون بفتح التاء من المجرد والقراءة المجمع عليها بضم التاء من الافعال - قال المفضل صعد واصعد وصعّد بمعنى واحد - وقال أبو حاتم اصعدت إذا مضيت حيال وجهك يعنى فى مستوى الأرض وصعدت إذا ارتقيت فى جبل وقال المبرد اصعد ابعد فى الذهاب قال البغوي كلا الامرين وقعا فكان منهم مصعد وصاعد وَلا تَلْوُونَ أعناقكم عَلى أَحَدٍ يعنى لا يلتفت بعضكم إلى بعض لشدة الدهش وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يقول الىّ عباد الله فانا رسول الله من يكر فله الجنة - الجملة فى موضع الحال فَأَثابَكُمْ فجازاكم عن فشلكم وعصيانكم عطف على صرفكم جعل الاثابة وهو من الثواب موضع العقاب على طريقة قوله تعالى فبشّرهم بعذاب اليم اشارة إلى انه تعالى عاقبكم على ما فعلتم مكان ما كنتم ترجون من الثواب غَمًّا بِغَمٍّ أى غما متصلا بغم من الاغتمام من القتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم - قيل الغم الأول فوت الغنيمة والثاني ما نالهم من القتل والجرح والهزيمة - وقيل الغم الأول ما أصابهم من القتل والجرح والثاني ما سمعوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فانساهم الغم الأول - وقيل الغم الأول اشراف خالد بن الوليد بخيل المشركين والثاني اشراف أبو سفيان عليهم وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى اصحاب الصخرة فلما راوه وضع رجل سهما فى قوسه فاراد ان يرميه فقال انا رسول الله ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح النبي صلى الله عليه وسلم حين راى من يمتنع به فاقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا فاقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا على باب الشعب فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا انهم(1/1098)
يميلون عليهم فيقتلونهم فانساهم هذا ما نالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لهم ان يعلونا اللهم ان تقتل هذه العصابة لا تعبد فى الأرض ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى انزلوهم - قلت لعل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 157
قوله تعالى سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ صار نازلا فى هذا المقام حيث القى الرعب فى قلب أبى سفيان ومن معه - قلت وجاز ان يكون الغم الثاني ما روى انه لمّا أخذ أبو سفيان وأصحابه الرحيل إلى مكة اشفق رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ان يغير المشركون على المدينة فيهلك الذراري والنساء فبعث رسول الله صلى الله عليا وسعد بن أبى وقاص لينظرا فقال ان ركبوا الإبل وجنبوا الخيل فهو الظعن وان ركبوا الخيل وجنبوا الإبل فانهم يريدون المدينة فهى الغارة والذي نفسى بيده لان ساروا عليها لا سيرن إليهم ثم لاناخرنهم فسار على وسعد وراءهم فإذا هم قد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل بعد ما تشاوروا فى نهب المدينة فقال صفوان بن امية لا تفعلوا وقيل معنى الآية فاثابكم غما بسبب غم اذقتم النبي صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والجرح والهزيمة ولا زائدة ومعناه لكى تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم - وقيل معنى الآية اثابكم غما بغم لتمتروا على الصبر فى الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت ولا على ضر لا حق - قلت وجاز ان يكون المعنى فاثابكم الله غما بغم يعنى اعطاكم الله ثواب غم متصلا بغم وأخبركم بذلك على لسان نبيكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم بل تفرحوا بثوابه - وقيل الضمير المرفوع فى اثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أى فاساءكم فى الاغتمام من اسيته بمالى أى جعلته أسوتي فيه - والباء للسببية أو البدلية يعنى اغتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نزل عليكم كما(1/1099)
اغتممتم ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ يا معشر المسلمين مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً يعنى اطمينانا فى القلوب وسكينة يدركه الصوفي عند نزول الرحمة نُعاساً بدل اشتمال من امنة - وجاز ان يكون مفعولا لا نزل وامنة حال منه مقدم عليه ولعل النعاس هاهنا عبارة عن استغراق يحصل للصوفى عند نزول الرحمة بحيث يغفل عما سواه لكمال مشابهته بالنعاس يَغْشى قرأ حمزة وخلف أبو محمد والكسائي بالتاء ردا إلى الامنة والباقون بالياء ردا إلى النعاس طائِفَةً مِنْكُمْ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 158(1/1100)
و هم المؤمنون حقا - روى البخاري وغيره عن انس ان أبا طلحة قال غشينا النعاس ونحن فى مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفى يسقط من يدى واخذه ويسقط واخذه - وقال ثابت عن انس عن أبى طلحة قال رفعت رأسى يوم أحد فجعلت ما ارى أحدا من القوم الا وهو يميل تحت جحفته من النعاس وَطائِفَةٌ مبتدا وهم المنافقون قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صفة لطائفة يعنى ألقتهم أنفسهم فى الهموم وكانوا محرومين عن نزول الامنة والسكينة عليهم - أو المعنى ما كان همهم الإخلاص أنفسهم يَظُنُّونَ خبر لطائفة بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ منصوب على المصدرية أى يظنون غير الظن الحق أى الذي يحق ان يظن به تعالى يعنى انه لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم - أو انه لو كان محمد نبيا ما قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل من غير الحق أو منصوب بنزع الخافض يعنى كظن أهل الجاهلية والشرك والجملة صفة اخرى لطائفة أو حال أو استيناف على وجه البيان لما قبله - وجملة وطائفة إلخ حال من فاعل يغشى أو من مفعوله يَقُولُونَ للرسول صلى الله عليه وسلم أو فى أنفسهم بدل من يظنون هَلْ لَنا استفهام بمعنى الإنكار مِنَ الْأَمْرِ الذي وعد الله من النصر مِنْ شَيْ ءٍ يعنى ما لنا من ما وعد نصيب قط - قيل اخبر ابن أبيّ بقتل بنى الخزرج فقال ذلك والمعنى انا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شىء - أو هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شىء أخرج ابن راهويه انه قال عبد الله بن الزبير عن أبيه الزبير بن العوام لقد رايتنى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم فما منا أحد إلا وذقنه فى صدره - والله انى لا سمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشانى ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا هاهنا فحفظتها فانزل الله فى ذلك ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً إلى قوله(1/1101)
وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قُلْ يا محمد إِنَّ الْأَمْرَ أى الحكم كُلَّهُ لِلَّهِ يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد - أو امر الغلبة الحقيقية لله وأوليائه فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ وان كان فى بعض الأحيان لم يظهر ذلك لحكمة - قرأ أبو عمر « 1 » وكلّه بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والباقون بالنصب على التأكيد والجملة معترضة يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ حال من ضمير يقولون أى يقولون مظهرين انهم مسترشدون طالبون للنصر ويقولون مخفين بعضهم إلى بعض غير ذلك يَقُولُونَ بدل من يخفون أو استيناف على وجه البيان يعنى يقولون مخفين منكرين لقولك
_________
(1) فى الأصل أبو عامر -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 159(1/1102)
انّ الأمر كلّه للّه لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ كما وعد محمد صلى الله عليه وسلم أو زعم انّ الأمر كلّه للّه ولاوليائه - أولو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح المدينة كما كان يقول ابن أبيّ وغيره ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فى اللوح المحفوظ وقدّر الله عليهم القتل إِلى مَضاجِعِهِمْ أى يخرجون إلى مصارعهم ولم ينفعهم الاقامة بالمدينة بل لا يستطيعون الاقامة وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أى ليمتحن ما فى صدوركم ويظهر سرائرها من الإخلاص والنفاق معطوف على محذوف متعلق بقوله برز تقديره لبرزوا إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء ولمصالح كثيرة وللابتلاء - أو متعلق بفعل محذوف والجملة معطوفة على جملة سابقة يعنى ثمّ انزل عليكم تقديره وفعل ذلك ليبتلى أو معطوف على قوله كيلا تحزنوا وَلِيُمَحِّصَ أى ليكشف ويميز ما فِي قُلُوبِكُمْ أو المعنى يخلص ما فى قلوبكم أيها المؤمنون من الوساوس وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (152) قبل إظهارها وغنى عن الابتلاء وانما فعل ذلك لتمرين المؤمنين واظهار حال المنافقين واقامة الحجة عليهم - .(1/1103)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ أى انهزموا منكم يا معشر المسلمين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد وقد انهزم أكثرهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم الا ثلاثة عشر كما ذكرنا ولا مع عبد الله بن جبير الا عشرة إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أى طلب زلتهم أو حملهم على الزلة يعنى المعصية بإلقاء الوسوسة فى قلوبهم قيل ازل واستزل بمعنى واحد بِبَعْضِ ما كَسَبُوا أى بشوم ذنوبهم قال بعضهم بتركهم المركز وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم وسوسة الشيطان وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ هذا هو الذي قال ابن عمر لمّا وقع بعض أهل المصر فى عثمان رضى الله عنه وذكر فراره يوم أحد وغيبته عن بدر وعن بيعة الرضوان فقال اما فراره يوم أحد فاشهد ان الله عفا عنه واما تغيبه عن بدر فانه كانت تحته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لك اجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه واما تغييه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه فبعثه إلى مكة وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى هذا يد عثمان فضرب بها على يده وقال هذه لعثمان ثم قال ابن عمر اذهب بها الان معك رواه البخاري فلا يجوز لاحد الطعن
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 160
فى الصحابة لاجل هذا الفرار وأيضا كان هذا الفرار قبل ورود النهى عنه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155).(1/1104)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعنى المنافقين عبد الله بن أبى وأصحابه فانه من تشبه بقوم فهو منهم رواه أبو داود عن ابن عمر مرفوعا والطبراني عن حذيفة مرفوعا لا سيما إذا كان وجه المشابهة موجبا للكفر كما فى ما نحن فيه فان ذلك القول انكار للقدر وهو كفر وَقالُوا كلمة قالوا صيغة ماض لكنه بمعنى الاستقبال بدليل جعل ظرفه إذا دون إذ وإذا للمستقبل وان دخل على الماضي وانما أورد صيغة الماضي لتدل على تحققه قطعا كما فى قوله تعالى إذا السّماء انشقّت لِإِخْوانِهِمْ فى النسب أو فى النفاق قال بعض المفسرين يعنى قالوا لاجل إخوانهم وفيهم لان قولهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا يدل على انهم لم يكونوا مخاطبين قلت وجاز ان يكون جعل القول لاخوانهم باعتبار بعضهم الحاضرين وضمير لو كانوا إليهم باعتبار بعضهم المقتولين أو الأموات والاسناد إلى الجميع باعتبار البعض شائع وتفسير الاخوة باخوة النفاق لا بتصور الا فى المخاطبين والا فالذين كانوا غزّى لم يكونوا منافقين غالبا إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أى ذهبوا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها وإذا متعلق بقالوا ويعتبر ذلك الزمان ممتدا وقع فيه الضرب والموت والقول - قال البيضاوي وكان حقه إذ لقوله قالوا لكنه جىء على حكاية الحال الماضي واعترض عليه بان الماضي مع إذا كلمة استقبال لا يكون للحال فكيف يصح حكاية عن الحالة الماضية بفرض وجود ذلك الزمان الان أو بفرضك متكلما فى الماضي فالاولى ما قلنا ان قالوا للاستقبال أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غازى كعاف وعفّى يعنى كانوا على سفر أو غزّى فماتوا أو قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا مقولة قالوا - وانما قالوا ذلك لعدم ايمانهم بالقدر فكذلك القدرية لِيَجْعَلَ اللَّهُ اللام للعاقبة كما فى قوله تعالى ليكون لهم عدوّا وحزنا ذلِكَ الاعتقاد الذي دل عليه القول حَسْرَةً(1/1105)
فِي قُلُوبِهِمْ قوله ليجعل اما متعلق بقالوا فالمعنى يصير عاقبة قولهم واعتقادهم ذلك حسرة واما متعلق بلا تكونوا والمعنى لا تكونوا مثلهم فى النطق بهذا القول والاعتقاد وذلك اشارة إلى ما دل عليه النهى والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة فى قلوبهم فان مخالفتكم إياهم يغمهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ لا تأثير للسفر والجهاد فى الموت ولا لضدهما فى الحيوة فانه قد يموت المقيم القاعد دون المسافر الغازي وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) تهديد للمؤمنين على مما ثلتهم على قراءة الخطاب وقرا ابن كثير وحمزة وخلف أبو محمدو الكسائي يعملون بالياء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 161
على الغيبة على انه وعيد للذين كفروا.
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ فى سبيله - قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الميم متّم متّ متنا حيث وقع من مات يمات على وزن خاف يخاف وابن كثير وأبو عمرو ابن عامر وأبو بكر بالضم حيث وقع من مات يموت على وزن قال يقول وحفص بالضم فى هذين الحرفين خاصة وفى الباقي بالكسر لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) قرأ حفص بالياء على الغيبة - والباقون بالتاء على الخطاب جواب للقسم سار مسد الجزاء للشرط يعنى ان السفر والجهاد لا تأثير له فى الموت ولا لضده فى الحيوة فان الله هو يحيى ويميت ولئن كان له نوع تأثير فى الموت على سبيل جرى العادة فما يترتب على ذلك الموت من مغفرة من الله ورحمته خير مما يجمعون من الدنيا ومنافعها لو لم يموتوا فليطلب ذلك الخير ولا يجوز التحسر على ما فات من الدنيا.
وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على أى وجه كان لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) لا إلى غيره فعليكم بذل الجهد فى تحصيل الانس به تعالى والمحبة حتى يكون حشركم إلى المحبوب وخلاصا عن سجن الفراق - .(1/1106)
فَبِما رَحْمَةٍ تقديم الجار والمجرور للحصر وما مزيدة للتأكيد ومزيد الدلالة على الحصر كائنة مِنَ اللَّهِ عليك وعلى أمتك لِنْتَ لَهُمْ أى للمؤمنين ورفقت بهم واغتممت لاجلهم بعد ما خالفوك بتوفيق الله تعالى وحسن الهامه ثم بين وجه كون ذلك اللين رحمة بقوله وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سىء الخلق جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسية لَانْفَضُّوا تفرقوا مِنْ حَوْلِكَ ولم يسكنوا إليك وحينئذ يتخلعوا عن ربقة الإسلام واستحقاق الجنة ويقل أجرك بقلة اتباعك فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما كان حقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فى حقوق الله تعالى وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ امر الحرب وغيره مما يتعلق بالمشاورة « 1 » وليس فيه عندك علم من الله تعالى استظهارا برأيهم وتطيبا لنفوسهم وتمهيد السنة المشاورة للامة - روى البغوي بسنده عن عائشة قالت ما رايت رجلا اكثر استشارا « 2 » للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم فَإِذا عَزَمْتَ على شىء بعد المشاورة فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أى فوض أمرك إليه واعتمد عليه وكان هذا شأنه عليه الصلاة والسلام ولذا قال بعد ما خرج للقتال يوم أحد لا ينبغى لنبى ان يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل يعنى بعد المشاورة اعتمد على الله تعالى لا على رأيك وآراء المتشاورين « 3 » لان بناء
_________
(1) روى عن ابن عباس وشاورهم فى الأمر أبا بكر وعمرو فى رواية عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية فى أبى بكر وعمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو اجتمعتما فى مشورة ما خالفتكما - وعن ابن عمر كتب أبو بكر إلى عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشاور فى الحرب فعليك به - وعن الضحاك قال كان عمر بن الخطاب يشاور حتى المرأة - منه رحمه الله
(2) فى الأصل استشارة -
(3) فى الأصل مستشارين -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 162(1/1107)
المشاورة استخراج ما عندهم من العلم بالأصلح بتلاحق الافكار بناء على جرى العادة ولا يعلم ما فى الواقع من الغيب الا الله تعالى - وقد يتخبط العقول فى النظر وقد يفعل الله تعالى على خرق العادة فلا وجه للاعتماد على الآراء - والتوكل ان يلتجىء إلى الله خاصة ويطلب منه ان يجعل عاقبة سعيه خيرا ويحسن الظن به فى ذلك قيل التوكل ان لا تعصى الله من أجل رزقك وهذا القول مستلزم للالتجاء ولا التجاء فى المعصية وقيل معناه ان لا يطلب لنفسك ناصرا غير الله ولا لرزقك خازنا غيره ولا لعملك شاهدا غيره - قلت وتخصيص الالتجاء والطلب منه تعالى لا يتصور بدون هذه الأمور عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة سبعون الفا من أمتي بغير حساب قيل يا رسول الله من هم قال هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون متفق عليه وكذا روى البغوي عن عمران بن حصين - وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو انكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو اخماصا وتروح بطانا رواه الترمذي وابن ماجة - فان قيل الظاهر من حديث ابن عباس ان التوكل ترك التشبث بالأسباب العادية كالاكتواء والاستراق - قلت لابل ترك الاعتماد على الأسباب الا ترى الاستيشار من باب التشبث بالأسباب فالله سبحانه امر بالاستشارة ثم امر بترك الاعتماد عليه وقوله عليه الصلاة والسلام فى الحديث وعلى ربهم يتوكلون ليس تفسيرا لقوله لا يكتوون ولا يسترقون فان العطف يقتضى المغائرة - ولعل ذلك السبعون الف لا يتشبّثون بالأسباب غالبا - أو المراد ترك التشبث ببعض الأسباب المكروهة كيف وتشبث الأسباب من لوازم هذه النشئة فان الاكل والشرب من اسباب الحيوة عادة والصلاة والصوم من اسباب دخول الجنة غالبا والواجب إتيانها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) عليه وكونه محبوبا لله تعالى هو(1/1108)
المقصد الأسنى - وأيضا التوكل على الله يفضى إلى ان ينصرهم الله ويهديهم إلى الصلاح قال الله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وقال فى الحديث القدسي انا عند ظن عبدى بي.
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أحد إذ يستحيل ان يكون المنصور من الله مغلوبا فانه يستلزم عجزه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ ومنعكم نصره فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ يعنى لا أحد ينصركم لان افعال العباد مخلوقة لله تعالى فلا يتصور حقيقة النصر من أحد على تقدير خذ لأنه منه تعالى مِنْ بَعْدِهِ أى من بعد خذ لأنه أو المعنى بعد ما جاوزتم الله فى الاستنصار لا يتصور النصر من غيره - فهذه الآية برهان على وجوب التوكل على الله عقلا بعد ما ثبت
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 163
وجوبه سمعا بصيغة الأمر وَعَلَى اللَّهِ خاصة فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) لعلمهم وايمانهم بانه لا ناصر سواه.(1/1109)
وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يغلّ بفتح الياء وضم الغين على البناء للفاعل والباقون بضم الياء وفتح الغين على البناء للمفعول - والغلول الخيانة فى الغنائم فعلى القراءة الاولى قال محمد بن إسحاق هذا فى الوحى والمعنى انه ما كان لنبى ان يكتم شيئا من الوحى رغبة أو رهبة أو مداهنة - وقيل ان الأقوياء ألحوا على النبي صلى الله عليه وسلم يسئلونه فى المغنم فانزل الله تعالى وما كان لنبىّ ان يغلّ فيعطى قوما ويمنع آخرين بل عليه ان يقسم بينهم بالسوية - واخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية فى قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فانزل الله تعالى وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعنى ان الاخذ من الغنيمة لا يحل للنبى وهو غلول - وقال الكلبي ومقاتل نزلت فى غنائم أحد حين ترك الرماة المركز للغنيمة وقالوا نخشى ان يقول النبي صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له وان لا يقسمها كالم يقسمها يوم بدر فتركوا المركز ووقعوا فى الغنائم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم الم اعهد إليكم لن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم امرى قالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل ظننتم انا تغل فلا نقسم لكم فانزل الله تعالى هذه الآية واخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن جرير عن الضحاك مرسلا انه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلايع فغنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم على من معه ولم يقسم للطلائع فنزلت هذه الآية فيكون تسمية حرمان بعض المستحقين غلولا تغليظا ومبالغة - وعلى القراءة الثانية لها وجهان أحدهما ان يكون المعنى ما كان للنبى ان ينسب إلى الغلول ويكون مرجع القراءتين واحدا - وثانيهما ان يكون معناه ما كان لنبى ان يخان يعنى ان يخونه أمته - قال قتادة ذكر لنا انها نزلت فى طائفة غلت من(1/1110)
أصحابه - واخرج الطبراني فى الكبير بسند رجاله ثقات عن ابن عباس قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشا فردت رأيته ثم بعث فردت بغلول رأس غزال من ذهب فنزلت هذه الآية وما كان لنبىّ ان يغلّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ قال الكلبي يمثل له ذلك الشيء فى النار فيقال له انزل فخذه فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ موضعه وقع فى النار ثم كلف ان ينزل إليه فيخرجه يفعل ذلك به عن أبى هريرة قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم يغنم ذهبا ولا فضة الا الأموال والثياب والمتاع قال فوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو وادي القرى وكان رفاعة بن زيد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا اسود يقال له مدعم قال فخرجنا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 164(1/1111)
حتى إذا كنا بوادي القرى فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه سهم عائر فاصابه فقتله - فقال الناس هنيئا له الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا والذي نفسى بيده ان الشملة التي أخذ يوم خيبر من الغنائم لم يصبها المقاسم يشتعل عليه نارا فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شراك أو شرا كان من ناد رواه البغوي - وفى الصحيحين عنه هذا الحديث بلفظ اهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له مدعم الحديث نحوه - وعن يزيد بن خالد الجهني انه قال توفى رجل يوم خيبر فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فزعم يزيد « 1 » ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا على صاحبكم فتغيرت وجوه الناس لذلك فزعم يزيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان صاحبكم قد غل فى سبيل الله قال ففتحنا متاعه فوجدنا خرزات من خرز اليهود ما يساوى درهمين رواه مالك وأبو داود والنسائي وعن أبى حميد الساعدي قال استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا اهدى لى فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله واثنى عليه(1/1112)
ثم قال اما بعد فانى استعمل الرجل منكم على العمل مما ولانى الله فيأتى أحدكم فيقول هذا لكم وهذا اهدى لى أ فلا جلس فى بيت أبيه وامه حتى يأتيه هديته ان كان صادقا - والله لا يأخذ أحدكم شيئا بغير حقه الا لقى الله يحمله يوم القيامة فلا اعرفن أحدا منكم لقى الله تعالى يحمل بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة يتعر متفق عليه وفى رواية ثم رفع يديه ثم قال اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت - وعن عدى بن عميرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة رواه مسلم وعن أبى هريرة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظّم الغلول وقال الا لا القين أحدكم يجىء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول يا رسول الله أغثني أقول لا املك لك من الله شيئا قد أبلغتك ثم ذكر على رقبته فرس على رقبته شاة على رقبته صامت فذكر نحوه متفق عليه - وعن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه رواه أبو يعلى والبزار - وورد نحو هذا من حديث سعد بن عبادة وهلب عند احمد وابن عمرو عائشة عند البزار وابن عباس وعبادة بن الصامت وابن مسعود عند الطبراني كلهم فى سعاة الصدقة إذا غلوا منها وعن أبى مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون
_________
(1) فى الأصل زيد - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 165(1/1113)
الرجلين جارين فى الأرض أو فى الدار فيقطع أحدهما من حق صاحبه ذراعا إذا يقطعه طوّقه من سبع ارضين يوم القيامة - وروى عن قيس بن أبى حازم عن معاذ بن جبل قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لا تصيبن شيئا بغير اذنى فانه غلول ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيمة وروى عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وجد ثم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه - وروى عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه رواه أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فى النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلها رواه البخاري وعن ابن عباس قال حدثنى عمر قال كان يوم خيبر اقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا فلان شهيد فلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا انى رايته فى النار فى بردة غلها أو عباءة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن الخطاب اذهب فناد فى الناس انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا قال فخرجت فناديت الا انه لا يدخل الجنة الا المؤمنون ثلاثا رواه مسلم ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ يعطى جزاء ما كسبت وافيا كاملا كان المناسب بما سبق ثم يوقى ما كسب لكنه عمم الحكم ليكون كالبرهان على المقصود والمبالغة فيه وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) فلا ينقص ثواب مطيعهم ولا يزاد فى عقاب عاصيهم.
أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ بالطاعة وهم المهاجرون والأنصار كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بالمعاصي والغلول وهم المنافقون وبعض الفساق وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) جهنم.(1/1114)
هُمْ يعنى من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله دَرَجاتٌ شبهو بالدرجات لما بينهم من التفاوت فى الثواب والعقاب أو المعنى هم أولوا درجات متفاوتة عِنْدَ اللَّهِ بعض المؤمنين اقرب إلى الله من بعض وبعض الكفار والعصاة فى درك أسفل من النار من بعض وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) عالم بأعمالهم فيجازيهم على حسبها - .
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ قيل المراد من أمن من قومه خاصة - وتخصيصهم مع ان نعمة البعثة عامة لسائر المؤمنين لزيادة انتفاعهم به واكتسابهم مزيد الفضل بسببه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس تبع لقريش مؤمنهم لمؤمنهم وكافرهم لكافرهم متفق عليه - وقال عليه السلام لا يزال هذا الأمر يعنى الخلافة فى قريش ما بقي منهم اثنان متفق عليه - وقيل أراد به مؤمنوا العرب كلهم لأنه ليس حى من احياء العرب إلا وله فيهم نسب الا بنى تغلب
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 166(1/1115)
قال الله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ ومعنى كونه من أنفسهم يعنى من جنسهم عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة ويكونون واقفين على حاله فى الصدق والامانة مفتخرين به - عن سلمان قال قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله قال تبغض العرب فتبغضنى رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن - وقيل أراد به جميع المؤمنين كما فى قوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يعنى من الانس دون الملائكة حتى يتحقق التأثير والتأثر لكمال المناسبة قال الله تعالى لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعنى القرآن بعد ما كانوا جهالا وَيُزَكِّيهِمْ أى يطهر قلوبهم عن العقائد الفاسدة والاشتغال بغير الله ونفوسهم عن الرذائل وأبدانهم عن الأنجاس والاخباث والأعمال القبيحة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعنى العلوم المستنبطة من الكتاب أو ما يصلح ان يكتب فى الصحف وَالْحِكْمَةَ العلوم الحقة المستحكمة التي يستفيدها الحكيم من الحكيم بلا توسط كتاب ولا بيان وَإِنْ كانُوا مخففة من المثقلة واسمه ضمير الشأن يعنى انه كانوا مِنْ قَبْلُ بعثته لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أى ظاهر.(1/1116)
أَ وَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين والهزيمة قَدْ أَصَبْتُمْ يوم بدر من الكفار مِثْلَيْها روى احمد والشيخان والنسائي عن البراء قال أصاب المشركون منا يوم أحد سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة سبعين أسيرا وسبعين قتيلا - قلت جعل الله سبحانه الأسير مثل القتيل لكونهم قادرين على قتلهم وكان قتلهم هو المرضى من الله تعالى وانما كان عدم القتل باختيارهم الفداء من عند أنفسهم - والظرف يعنى لما متعلق بقوله تعالى قُلْتُمْ متعجبين انّى هذا الهزيمة والقتل علينا ونحن مسلمون وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لانكار هذا القول والمنع عنه والجملة معطوفة على ما سبق من قصة أحدا ما على قوله لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ يعنى لقد صدقكم اللّه وعده وقلتم انى هذا حين المصيبة واما على قوله اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ ويحتمل العطف على قوله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ يعنى وجود الرسول صلى الله عليه وسلم منه منه تعالى عليكم وأنتم تريدون ان تنسبوا إليه المصيبة وتجعلوها بسببه أو معطوف على محذوف تقديره انما وعدكم النصر بشرط الصبر والتقوى لم تصبروا ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا أو تقديره أ تنازعتم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 167(1/1117)
و عصيتم الرسول وفشلتم ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا وجاز ان يكون معطوفا على القول المحذوف اشارة إلى ان قولهم كان غير واحد تقديره أ قلتم أقوالا غير واحد لا ينبغى ولما أصابتكم مصيبة قلتم انى هذا قُلْ يا محمد هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أى بما اقترفتم من المعصية بترك المركز فان الوعد كان مشروطا بالصبر والتقوى وقيل يعنى باختياركم الفداء عن أسارى بدر أخرج ابن أبى حاتم عن عمر بن الخطاب قال عوقبوا يوم أحد بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفرّ اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسر رباعيته وهشّمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فانزل الله تعالى أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ الآية وقال البغوي روى عبيدة السلماني عن على قال جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ان الله كره ما صنع قومك فى أخذهم الفداء من الأسارى وقد أمرك ان تخيّرهم بين ان يقدموا فيضرب أعناقهم وبين ان يأخذوا الفداء على ان يقتل منهم عدتهم فذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا لابل نأخذ فداهم فتقوى به على قتال عدونا ويستشهد مناعدتهم فقتل يوم أحد سبعون عدد أسارى أهل بدر فهذا قوله هو من عند أنفسكم (فائدة) روى سعيد بن منصور عن أبى الصخر مرسلا قال قتل يوم أحد سبعون اربعة من المهاجرين حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وسائرهم من الأنصار وروى ابن حبان والحاكم عن أبيّ بن كعب قال أصيب يوم أحد من الأنصار اربعة وستون ومن المهاجرين ستة - قال الحافظ وكان الخامس سعد مولى حاطب بن بلتعة « 1 » والسادس ثقيف بن عمرو الأسلمي - وروى البخاري عن قتادة قال ما نعلم حيا من احياء العرب اكثر شهيدا من الأنصار - قال قتادة حدثنا انس قال قتل منهم يوم أحد سبعون ويوم بير معونة سبعون ويوم اليمامة سبعون - ونقل الحافظ محب الطبري(1/1118)
عن مالك ان شهداء أحد خمسة وسبعون منها أحد وسبعون من الأنصار - وعن الشافعي انهم اثنان وسبعون - وسرد فى العيون اسماء شهداء أحد فبلغ ستة وتسعين من المهاجرين أحد عشر ومن الأوس ثمانية وثلاثون ومن الخزرج سبعة وأربعون - وفى العيون عن الدمياطي مائة واربعة أو خمسة وكتاب الله يدل على كونهم سبعين إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من النصر والخذلان وغيرهما قَدِيرٌ (165).
وَما أَصابَكُمْ من المصيبة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين وجمع المشركين
_________
(1) الصحيح ابن أبى بلتعة -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 168
يعنى يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو قد حصل بقضاء الله وقدره وسماه اذنا لأنه بالأمر التكويني فى قوله كن فيكون والمستحيل فى ما لا يشرع هو الأمر التكليفي دون الأمر التكويني وَلِيَعْلَمَ يعنى لمصالح كثيرة وليعلم الْمُؤْمِنِينَ (136).(1/1119)
وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا ممتازين عند الناس يعنى يتحقق امتيازهم عند الناس فيعرفوا ايمان هؤلاء وكفر هؤلاء وَقِيلَ لَهُمْ أى للمنافقين عطف على نافقوا أو كلام مبتدا تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا هذا مقولة القول يعنى قاتلوا الكفار فى سبيل الله ان استطعتم والا فادفعوهم بتكثيركم سواد المؤمنين فاستقيموا ولا تفروا أو المعنى قاتلوا فى سبيل الله بالإخلاص ان كنتم مؤمنين حقا أو ادفعوا الأعداء عن ذراريكم ان لم تقاتلوا الله تعالى قالُوا يعنى المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه فى جواب المؤمنين حين انصرفوا عن أحد وكانوا ثلاثمائة لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا هذه المصادمة قتالا لَاتَّبَعْناكُمْ لكنه ليس بقتال بل إلقاء بالأنفس فى التهلكة أو المعنى انه لو تكونوا على الحق ونعلمه قتالا فى سبيل الله لاتبعناكم أو المعنى أو نعلم انه قتال معنا لاتبعناكم لكن ليس هذا قتالا معنا ولا قصد للمشركين الا قتالا معكم أو المعنى لو نحسن قتالا لاتبعناكم فيه انما قالوه استهزاء بهم هُمْ أى المنافقون لِلْكُفْرِ اللام بمعنى إلى أى إلى الكفر يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أى إلى الايمان يعنى ان المنافقين كانوا مترددين بين الايمان والكفر كالشاة العائرة بين الغنمين ان أصابهم فى الإسلام خير اطمأنوا به وان أصابتهم فتنة انقلبوا إلى الكفر فلما كان يوم أحد يوم الفتنة صاروا اقرب إلى الكفر فانه أول يوم ظهر فيه كفرهم ونفاقهم - وقيل معناه هم لاهل الكفر اقرب نصرة منهم لاهل الايمان فان انخزالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيل للمؤمنين يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ يعنى يظهرون الإسلام بأفواههم ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ واضافة القول إلى الأفواه تأكيد لنفى صدوره عن الاعتقاد وتحقير لهم يعنى ليس لهم من الايمان الا مجرد القول وهذه الجملة بيان لحالهم مطلقا لا فى هذا اليوم ولذا فصل عما سبق وَ(1/1120)
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) من النفاق منكم.
الَّذِينَ قالُوا مرفوع بدلا من الضمير المرفوع فى يكتمون أو منصوب على الذم أو الوصف للذين نافقوا - أو مجرور بدلا من الضمير فى بأفواههم أو قلوبهم لِإِخْوانِهِمْ أى لاجل إخوانهم فى النسب وفى حقهم عمن قتل يوم أحد وَقَعَدُوا حال بتقدير قد أى قالوا قاعدين عن القتال لَوْ أَطاعُونا فى القعود ما قُتِلُوا كما لم نقتل قرأ هشام ما قتّلوا بالتشديد للتكثير والباقون بالتخفيف قُلْ لهم يا محمد فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 169
ان الحذر يدفع القدر - روى الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن خزيمة وصححه والبغوي عن جابر بن عبد الله قال لقينى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى يا جابر مالى أراك منكسرا قلت يا رسول الله استشهد أبى وترك عيالا ودينا قال أ فلا أبشرك بما لقى الله به أباك قلت بلى يا رسول الله قال ما كلم الله تعالى أحدا قط الا من وراء الحجاب وأحيا أباك وكلمه كفاحا قال يا عبدى تمن علىّ أعطيك قال يا رب أحيني فاقتل فيك الثانية قال الرب تبارك وتعالى انه قد سبق منى انهم لا يرجعون قال فانزلت فيهم.(1/1121)
وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الآية - وروى مسلم واحمد وأبو داود والحاكم والبغوي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح فى الجنة حيث شاءت وتأوى إلى قناديل من ذهب تحت العرش - فلما راوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم وراوا ما أعد الله لهم من الكرامة قالوا يا ليت قومنا راوا ما نحن فيه من النعمة وما صنع الله بنا كى يرغبوا فى الجهاد ولا ينكلوا عنه فقال الله تعالى عز وجل انا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فانزل الله تعالى وروى ابن المنذر عن انس قال لما قتل حمزة وأصحابه يوم أحد قالوا يا ليت مخبرا يخبر إخواننا الذي صرنا إليه من كرامة الله فاوحى إليهم ربهم انا رسولكم إلى إخوانكم فانزل الله تعالى لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا إلى قوله تعالى لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وقيل ان اولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء وقالوا نحن فى النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا فى القبور فانزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا قرأ هشام لا يحسبنّ بالياء للغيبة والباقون بالتاء للخطاب وقرا ابن عامر قتّلوا هنا وفى الحج بتشديد التاء فيهما لكثرة المقتولين - والباقون بالتخفيف والخطاب لاولياء الشهداء أو للرسول صلى الله عليه وسلم وجاز ان يكون خطابا للمنافقين الذين قالوا لو أطاعونا ما قتلوا ويكون حينئذ داخلا تحت قل وعلى قراءة هشام الضمير راجع إلى اولياء الشهداء وجاز اسناده إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم أو الضمير راجع إلى المنافقين الذين قالوا لو أطاعونا وجاز اسناده إلى الذين قتلوا أو المفعول محذوف لأنه فى الأصل مبتدا جائز الحذف عند القرينة وانما لا يجوز حذف أحد المفعولين بلا قرينة لأنه شطر الجملة فِي(1/1122)
سَبِيلِ اللَّهِ يعنى فى الجهاد لفظ فى سبيل الله عام يشتمل من مات فى شىء من امور الخير غير ان لفظ القتل لا يشتمله عبارة لكن بدلالة النص يدخل فيه بالطريق الاولى أو
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 170
بالمساوات أو بالقياس من جاهد فى الله مع نفسه جهادا اكبر فانه أشد وأشق من الجهاد الأصغر أَمْواتاً غير مشتعرين باللذات والنعماء بَلْ أَحْياءٌ روى أبو حاتم عن أبى العالية فى قوله تعالى بل احياء قال فى صور طير خضر يطيرون فى الجنة حيث شاءوا قال البغوي أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة روى ابن مندة عن طلحة بن عبد الله رضى الله عنه قال أردت مالى بالغابة فادركنى الليل فاويت إلى قبر عبد الله بن عمرو بن حرام فسمعت قراءة من القبر ما سمعت احسن منها فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ذاك عبد الله الم تعلم ان الله قبض أرواحهم فجعلها فى قناديل من زبرجد وياقوت ثم علقها وسط الجنة فإذا كان الليل ردت إليهم أرواحهم فلا تزال كذلك حتى إذا طلع الفجر ردت أرواحهم إلى مكانها التي كانت فيها - وعلى هذا القول يكتسب الشهيد الدرجات وثواب الطاعات بعد الموت أيضا - والشهيد لا يبلى فى القبر ولا يأكله الأرض وهذا أيضا اثر من اثار حياته روى البيهقي من طرقه عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما وابن سعد والبيهقي من طرق اخر عنه ومحمد بن عمرو عن شيوخه عن جابر قال استصرخنا إلى قتلانا يوم أحد حين اجرى معاوية العين فاتيناهم فاخرجناهم رطابا تثنى أطرافهم قال شيوخ محمد بن عمرو وجدوا والد جابر ويده على جرحه فاميطت يده عن جرحه فانبعث الدم فردت إلى مكانها فسكن الدم قال جابر فرايت أبى فى حفرته كأنَّه نائم والنمرة التي كفن فيها كما هى والخرمة على رجليه على هيئته وبين ذلك ست وأربعون سنة وأصابت المسحاة رجل رجل منهم « 1 » قال الشيوخ وهو حمزة فانبعث الدم قال أبو سعيد الخدري لا ينكر(1/1123)
بعد هذا منكر ولقد كانوا يحفرون التراب فكلما حفروا نثرة من التراب فاح عليهم ريح المسك - قال البغوي قال عبيد بن عمير مر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أحد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له ثم قرأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهد ان هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة الا فاتوهم وزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة الا ردوا عليه وروى الحاكم والبيهقي عن أبى هريرة والبيهقي عن أبى ذر وابن مردوية عن خباب بن الأرت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بمصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف عليه فدعا له ثم قرأ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية ثم قال لقد رايتك بمكة وما بها ارق حلة ولا احسن لمة منك -
_________
(1) فى الأصل فيهم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 171
((1/1124)
مسئلة) هل يبلغ غير الشهيد درجة الشهيد قلت نعم وما ورد فى فضائل الشهداء لا يقتضى نفى الحكم عمن عداهم وقد روى أبو داود والنسائي عن عبيد بن خالد ان النبي صلى الله عليه وسلم أخي بين رجلين فقتل أحدهما فى سبيل الله ثم مات اخر بعد جمعة أو نحوها فصلوا عليه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قلتم قالوا دعونا الله ان يغفر له ويرحمه ويلحقه بصاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم فاين صلاته بعد صلاته وعمله بعد عمله أو قال صيامه بعد صيامه لما بينهما ابعد مما بين السماء والأرض - وقد ذكرنا بحث مقر الأنبياء والشهداء والصديقين والمؤمنين وغيرهم فى تفسير سورة المطففين ومسئلة حيوة الشهداء فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى ذو زلفى وقرب منه تعالى قربا بلا كيف قال الشيخ الشهيد شيخى وامامى رضى الله عنه ورضى عنا بسره السامي انه يرى بنظر الكشف تجليات ذاتية على الشهداء لما بذلوا ذواتهم فى سبيل الله قال الله تعالى وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ فهم قدموا لانفسهم بدل الذوات فجزاهم الله تعالى بالتجليات الذاتية الصرفة يُرْزَقُونَ (169) من الجنة تأكيد لكونهم احياء.(1/1125)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أبهم الله سبحانه ما أتاهم لكونه بحيث لا يدركه فهم ولا يحيط بتفصيله عبارة روى ابن أبى شيبة وعبد الرزاق فى المصنف واحمد ومسلم وابن المنذر عن مسروق قال سالنا عبد الله يعنى ابن مسعود عن هذه الآيات فقال قد سالنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أرواحهم فى جوف طير خضر ولفظ عبد الرزاق أرواح الشهداء كطير خضر لها قناديل من ذهب معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ففعل ذلك ثلاث مرات وفى رواية فقال سلونى ما شئتم فقالوا يا رب كيف نسئلك ونحن نسرح فى الجنة فى أيها شئنا - فلما راوا انهم لم تتركوا من ان يسئلوا شيئا قالوا يا ربنا نريد ان ترد أرواحنا فى أجسادنا حتى نقاتل فى سبيلك مرة اخرى فلما راى ان ليس لهم حاجة تركوا وَيَسْتَبْشِرُونَ يسرون ويفرحون بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ الذين تركوهم احياء فى الدنيا على مناهج الايمان والطاعة والجهاد أو المعنى لم يلحقوا بهم فى الدرجة مِنْ خَلْفِهِمْ زمانا أو رتبة أَلَّا خَوْفٌ بدل اشتمال من الذين أى بان لا خوف عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) قيل معناه يحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ان لا خوف عليهم يعنى على الشهداء من جهتهم أى من جهة الاخوان لاجل حقوق العباد فى ذمتهم ومخاصمتهم معهم لأنه تعالى سيرضيهم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 172(1/1126)
منهم ويمنعهم عن المخاصمة - قلت ويحتمل انهم يستبشرون بإخوانهم وأحبائهم الذين لم يلحقوا بهم فى درجتهم ان لا خوف على إخوانهم ولا هم يحزنون لما اعطى الله للشهداء درجة الشفاعة فى إخوانهم واحبابهم أخرج أبو داود وابن حبان عن أبى الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الشهيد يشفع فى سبعين من أهل بيته واخرج احمد والطبراني مثله من حديث عبارة بن الصامت والترمذي وابن ماجة مثله من حديث المقدام بن معد يكرب - واخرج ابن ماجة والبيهقي عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء - وأخرجه البزار وزاد فى آخره ثم المؤذنون - قلت لعل المراد بالعلماء الذين سبقوا على الشهداء فى الشفاعة العلماء الراسخون علماء الحقيقة - يَسْتَبْشِرُونَ كرره للتأكيد أو يقال الأول بشارة بدفع الضرر وهذا بشارة بجلب النفع.(1/1127)
بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ثوابا لاعمالهم وَفَضْلٍ زيادة عليه من الله تعالى وذلك رؤية الله ومراتب قربه وتنكيرهما للتعظيم وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) قرأ الجمهور بفتح انّ عطفا على فضل فهو من جملة المستبشر به - عن أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تكفل الله لمن جاهد فى سبيل الله لا يخرجه من بيته الا الجهاد فى سبيله وتصديق كلمته ان يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من اجر وغنيمة وقال والذي نفسى بيده لا يكلم أحد فى سبيل الله والله اعلم بمن يكلم فى سبيله الا جاء يوم القيامة وجرحه تبعث دما اللون لون الدم والريح ريح المسك رواه ( « 1 » ) وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهيد لا يجد الم القتل الا كما يجد أحدكم الم القرصة « 2 » رواه الدارمي والترمذي وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب ورواه النسائي بسند صحيح ورواه الطبراني فى الوسط عن أبى قتادة بسند صحيح - والآية تدل على عدم ضياع اجر المؤمنين عامة شهيدا كان أو غيره كانّ الشهداء يستبشرون بحال جميع المؤمنين - وقرا الكسائي على انه استيناف معترض دال على ان ذلك اجر لهم على ايمانهم ومن لا ايمان له اعماله محبطة لا اجر عليها - وقيل هذه الآية نزلت فى شهداء بدر كانوا اربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين وهذا القول ضعيف وقراءة قتّلوا بالتشديد يأبى عنه لدلالتها لكثرة المقتولين - وقال قوم نزلت هذه الآية فى شهداء بير معونة وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل - وفى حاشية نقل البغوي - أبو محمد عفا عنه -
(2) القرص أخذك لحم الإنسان بإصبعيك حتى تولمه ولسع البراغيث - قاموس - منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 173(1/1128)
و عبد الله بن أبى عن انس رضى الله عنه وغيره قال قدم عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الا سنة العامري على رسول الله صلى الله عليه وسلم واهدى له فرسين وراحلتين فابى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يقبلها وقال لا اقبل هدية مشرك فاسلم ان أردت ان اقبل هديتك فلم يسلم ولم يبعد وقال يا محمد ان الذي تدعوا إليه حسن جميل فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد رجوت ان يستجيبوا لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى أخشى عليهم أهل نجد فقال أبو براء أنالهم جار فبعث المنذر بن عمر رضى الله عنه أخا بنى ساعدة فى سبعين رجلا من خيار المسلمين من الأنصار يسمون القراء وفيهم عامر بن فهيرة مولى أبى بكر فى صفر سنة اربع حتى نزلوا بير معونة وهى ارض بين ارض بنى عامر وحرة بنى سليم فبعثوا حرام بن ملحان رضى الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فى رجال من بنى عامر فقال حرام بن ملحان انى رسول رسول الله إليكم انى اشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله فامنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به فى جنبه حتى خرج من الشق الاخر فقال الله اكبر فزت ورب الكعبة ثم استصرخ عامر بن الطفيل عليهم ببني عامر فابوا ان يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا لا تخفروا جوار أبى براء فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم عصية ورعل وذكوان فاجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فاحاطوا بهم فى رحالهم فقاتلوهم حتى قتلوا كلهم الا كعب بن زيد تركوه وبه رمق فعاش حتى قتل يوم الخندق وأخذوا عمرو بن امية أسيرا فلما أخبرهم انه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل فقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم واخبر له الخبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا عمل أبى براء فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه اخفار عامر إياه روى محمد بن إسحاق كان يقول عامر بن الطفيل كان يقول من الرجل منهم لما قتل رايته رفع بين السماء و(1/1129)
الأرض حتى رايت السماء من دونه قالوا هو عامر بن فهيرة ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبى براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله - وفى الصحيحين عن قتادة عن انس ان رعلا وذكوان وعصية وبنى لحيان أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعموا انهم اسلموا واستمدوا على عدوهم فامدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء فى زمانهم كانوا يحطبون بالنهار ويصلون بالليل حتى كانوا ببئر معونة فقتلوهم وغدروا بهم فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهرا يدعو فى الصبح على احياء من احياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان - وروى احمد والشيخان والبيهقي عن انس والبيهقي عن ابن مسعود والبخاري عن عروة ان أناسا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 174(1/1130)
جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ابعث معنا رجالا يعلمون القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فتعرضوا لهم فقتلوهم قبل ان يبلغوا المكان قالوا اللهم بلغ نبينا وفى لفظ إخواننا انا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا فاوحى الله انا رسولهم إليكم انهم قد رضوا ورضى عنهم قال انس فقرأنا فيهم بلغوا عنا قومنا انا قد لقينا ربنا فرضى عنا وارضانا ثم نسخ - فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين صباحا على رعل وذكوان وعصية وبنى لحيان الذين عصوا الله ورسوله - قال البغوي فى قول انس فرفعت بعد ما قراناها زمانا وانزل الله عز وجل وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية - قلت والاختلاف وان وقع فى سبب نزول هذه الآية كما ذكرنا لكن بحسب عموم اللفظ جميع الشهداء داخلون فى حكم هذه الآية والله اعلم - ( (مسئلة)) اجمعوا على ان الشهيد لا يغسل لان شهداء أحد لم يغسلوا وامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ان ينزع الحديد والجلود وان يدفنوا بدمائهم وثيابهم رواه أبو داؤد وابن ماجة عن ابن عباس وروى النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن ثعلبة قوله صلى الله عليه وسلم زملوهم بدمائهم فانه ليس كلم يكلم فى سبيل الله(1/1131)
الا هو يأتى يوم القيامة بدماء لونه لون الدم وريحه ريح المسك وفى الباب حديث جابر رمى رجل بسهم فى صدره فمات فادرج فى ثيابه كما هو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داؤد بإسناد على شرط مسلم (مسئلة) واختلفوا فى مجنب استشهد هل يغسل أم لا فقال أبو حنيفة واحمد يغسل وقال مالك والشافعي لا يغسل لعموم قوله صلى الله عليه وسلم زملوهم بدمائهم ولنا قصة حنظلة بن أبى عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انى رايت الملائكة يغسل حنظلة بن أبى عامر بين السماء والأرض بماء المزن فى صحاف الفضة قال أبو أسيد الساعدي فذهبنا فنظرنا إليه فإذا رأسه يقطر ماء فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرته فارسل إلى امرأته فسالها فاخبرته انه خرج وهو جنب فولده يقال بنو غسيل الملائكة رواه ابن الجوزي من حديث محمد بن سعد مرسلا ورواه ابن حبان فى صحيحه والحاكم والبيهقي من حديث ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده - قال الحافظ ظاهره ان الضمير فى قوله عن جده يعود على عباد فيكون الحديث من مسند الزبير وهو الذي يمكنه السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى تلك الحال - ورواه الحاكم فى الإكليل من حديث أبى أسيد وفى اسناده ضعف ورواه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 175(1/1132)
الحاكم فى المستدرك والطبراني والبيهقي من حديث ابن عباس وفى اسناد الحاكم معلى بن عبد الرحمن متروك وفى اسناد الطبراني حجاج مدلس وفى اسناد البيهقي أبو شيبة الواسطي ضعيف - ( (مسئلة)) اختلفوا فى الصلاة على الشهيد فقال الشافعي لا يصلى عليه وقال أبو حنيفة ومالك يصلى عليه وعن احمد كالمذهبين قلنا الصلاة اما لمغفرة الذنوب أو لرفع الدرجات تكريما للميت والشهيد اولى بالتكرمة ولو كان التكريم فى ترك الصلاة كان النبي صلى الله عليه وسلم اولى به وقد صلى عليه اجماعا - والأصل هو الصلاة احتج الشافعي بحديث جابر بن عبد الله ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين رجلين من قتلى أحد فى الثوب الواحد ثم يقول أيهما اكثر قراتا فإذا أشير إلى أحدهما قدمه فى اللحد وقال انا شهيد على هؤلاء يوم القيامة وامر بدفنهم فى ثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا رواه البخاري والنسائي وابن ماجة وابن حبان وحديث انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوم أحد يكفن الرجلين والثلاثة فى الثوب الواحد ودفنهم ولم يصل عليهم رواه احمد وأبو داؤد والترمذي وقال حديث حسن والحاكم وصححه وقد أعله البخاري وقال انه غلط فيه اسامة بن زيد فقال عن الزهري عن انس ورجح رواية الليث عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب عن جابر يعنى هو الحديث الأول والله اعلم - وأجيب عن احتجاج الشافعي بانه يحتمل ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد لما كان به من الم الجراح وكسر الرباعية ولعله صلى عليهم غيره صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا الاحتمال ما روى أبو داؤد فى المراسيل والحاكم والطحاوي من حديث انس أيضا قال مر النبي صلى الله عليه على حمزة وقد مثل به ولم يصل على أحد من الشهداء غيره زاد الطحاوي قال عليه السلام انا شهيد عليكم يوم القيامة - فان قيل روى هذا الحديث الدارقطني وقال لم يقل هذه الزيادة غير عثمان بن عمرو وليست(1/1133)
محفوظة قلنا قال ابن الجوزي عثمان مخرج عنه فى الصحيحين والزيادة من الثقة مقبولة قال الطحاوي لو كان ترك الصلاة على الشهيد سنة لما صلى على حمزة فظهر انه صلى على حمزة لفضله ولم يصل على غيره لما كان به من وجع وقد ورد ما يعارض ما تقدم عدة أحاديث عن عدة من الصحابة منها حديث جابر قال فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة حين جاء الناس من القتال فقال رجل رايته عند تلك الشجرة فلما راه ورأى ما مثل به شهق وبكى فقام رجل من الأنصار فرمى عليه بثوب ثم جىء بحمزة فصلى عليه ثم بالشهداء فيوضعون إلى جانب حمزة فيصلى عليهم ثم يرفعون ويترك حمزة حتى صلى على الشهداء
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 176
كلهم وقال حمزة سيد(1/1134)
الشهداء عند الله يوم القيامة رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه الا ان فى سنده مفضل بن صدقة أبو حماد الحنفي قيل هو متروك وضعفه النسائي ويحيى لكن قال الأهوازي كان عطاء بن مسلم يوثقه وكان احمد بن محمد بن شعيب يثنى عليه ثناء تاما وقال ابن عدى ما ارى به بأسا فالحديث لا يسقط عن درجة الحسن ومنها حديث ابن عباس قال امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمزة فسجى ببردة ثم صلى عليه وكبر سبع تكبيرات ثم اتى بالقتلى فيوضعون إلى حمزة فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلوة رواه ابن إسحاق قال حدثنى من لا اتهمه عن مقسم مولى ابن عباس عنه وفى مقدمة مسلم عن شعبة عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد فسالت الحكم فقال لم يصل عليهم قال السهيلي الحسن بن عمارة ضعيف - وقال الحافظ وروى هذا الحديث الحاكم وابن ماجة والطبراني والبيهقي من طريق يزيد بن زياد عن مقسم عن ابن عباس مثله قال الحافظ يزيد فيه ضعف يسير وقال ابن الجوزي قال ابن المبارك ارم به وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك - ومنها حديث ابن مسعود نحوه يعنى صلى على حمزة سبعين صلوة رواه احمد والحديث ضعيف وقال ابن همام لا ينزل عن درجة الحسن - ومنها حديث أبى مالك الغفاري أخرجه أبو داؤد فى المراسيل انه صلّى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد عشرة عشرة فى كل عشرة حمزة حتى صلى عليه سبعين صلوة قال الحافظ رجاله ثقات وأبو مالك تابعي اسمه غزوان - وقد اعل الشافعي هذا الحديث بأنه متدافع لان الشهداء كانوا سبعين فإذا اتى بهم عشرة عشرة يكون قد صلى سبع صلوات وأجيب بان المراد انه صلى على سبعين نفسا وحمزة معهم كلهم وعند اجتماع هذه الأحاديث يثبت انه قد صلّى على قتلى أحد ووجه التطبيق بين ما روى انه صلى الله عليه وسلم لم يصل عليهم وما روى انه صلى عليهم وانه لم يصل(1/1135)
بنفسه الشريفة الا أول مرة على حمزة ثم امر الناس بالصلوة على كلهم وصلى على حمزة الصلاة مع كل من القتلى انه من أسند الصلاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد كلهم فمعناه انه امر بالصلوة فاسند إليه مجازا ومن نفى عنه الصلاة فهو على الحقيقة نظرا إلى الأكثر ومن فصّل وقال صلى على حمزة لا غير فقد اتى بما هو الواقع وفى الباب ما رواه النسائي والطحاوي عن شداد بن الهاد مرسلا ان رجلا من الاعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فامن به واتبعه وقال أهاجر معك فاوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 177(1/1136)
فلما كانت غزوة غنم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أشياء فقسم وقسم له الحديث وفيه فقال الاعرابى ما على هذا اتبعك ولكن اتبعك على ان ارمى هاهنا وأشار إلى حلقه بسهم فاموت فادخل الجنة الحديث وفيه فاتى به النبي صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهو هو قالوا نعم قال صدّق الله فصدقه وكفنه النبي صلى الله عليه وسلم فى جبته صلى الله عليه وسلم ثم قدمه فصلى عليه وكان مما ظهر من صلاته عليه اللهم ان هذا عبدك خرج مهاجرا فى سبيلك فقتل شهيدا انا اشهد عليه وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة ( (فصل)) روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر ان النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين يعنى قبيل وفاته عليه السلام وحمله البيهقي على الدعاء وليس بشىء لان الدعاء لم يكن مرة بعد ثمانى سنة وانما هى صلوة الجنازة وقد ورد فى بعض ألفاظه خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت رواه الطحاوي وغيره - فان قيل الحنفية لا يجيزون الصلاة على الميت بعد ثلاثة ايام قلت انما لا يجيزون لان الميت ينفسخ فى القبر فى ثلاثة ايام واما الشهيد فقد ثبت انه لا يأكله الأرض وهو ابدا كيوم دفنه فلا بأس بالصلوة عليه وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم و(1/1137)
الله اعلم - روى الفرياني والنسائي والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس انه قال لما رجع المشركون عن أحد قالوا لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئسما صنعتم ارجعوا فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين فانتدبوا الحديث قال محمد بن عمرو لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد يوم السبت 15 باتت وجوه الأوس والخزرج على بابه خوفا من كرة العدو فلما طلع الفجر من يوم أحد 16 اذّن بلال وخرج ينتظر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما خرج أخبره رجل مزنّى قول أبى سفيان حين بلغوا الروحاء ارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن امية يأبى ذلك عليهم ويقول يا قوم لا تفعلوا فان القوم قد حربوا وأخاف ان يجتمع عليكم من تخلف من الخزرج فارجعوا والدولة لكم فانى لا أمن ان رجعتم ان تكون الدولة عليكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارشدهم صفوان وما كان برشيد والذي نفسى بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كامس الذاهب ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر فذكر لهما فقالا يا رسول الله اطلب العدو ولا يقمحون الاقماح رفع الراس وغمض البصر - نهايه مندوح على الذرية - فامر بلالا ان ينادى ان رسول الله
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 178(1/1138)
صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج معنا الا من شهد القتال أمس قال أسيد بن حضير وبه تسع جراحات يريد ان يداويها لما سمع النداء سمعا وطاعة لله ورسوله ولم يعرج على دواء جرحه وخرج من بنى سلمة أربعون جريحا بالطفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا وبخراش بن الصمة عشر جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا وبعطية بن عامر تسع جراحات ووثب المسلمون إلى سلاحهم وما عرجوا على دواء جراحاتهم قال ابن عقبة واتى عبد الله بن أبيّ فقال يا رسول الله انا اركب معك قال لا قال ابن إسحاق ومحمد بن عمرو اتى جابر بن عبد الله فقال يا رسول الله ان مناديك نادى ان لا يخرج معنا الا من حضر القتال بالأمس وقد كنت حريصا على الحضور ولكن أبى خلفنى على أخوات لى سبع وفى لفظ تسع وقال لا ينبغى لى ولك ان نترك هذه النسوة ولا رجل معهن ولست بالذي أو ثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله تعالى يرزقنى الشهادة وكنت رجوتها فتخلفت عليهن فاستأثر على بالشهادة فأذن لى يا رسول الله أسير معك فاذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جابر فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيرى استأذنه رجال لم يحضروا القتال فابى ذلك عليهم قال ابن إسحاق ومتابعوه انما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو ليبلغهم انه خرج فى طلبهم فيظنوا بهم قوة وان الذي أصابتهم لم يوهنهم عن عدوهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد موضع من المدينة على ثمانية أميال على يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة وحمل سعد بن عبادة ثلاثين بعيرا وساق جزرا لتفحر فنحروا فى يوم الاثنين 7 أو يوم الثلاثاء 18 وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم فى النهار بجمع(1/1139)
الحطب فإذا امسوا أمران توقد النيران فتوقد كل رجل نارا فاوقدوا خمسمائة نار ولقى معبد الخزاعي وهو يومئذ مشرك وجزم أبو عمرو وابن الجوزي بإسلامه - وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما أصابك من أصحابك ولوددنا ان الله كان قد عفاك ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقى أبا سفيان بالروحاء وقد اجمعوا للرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا لقد أصبنا جلة أصحابهم وقادتهم لتكرن
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 179
على بقيتهم فلنفرغنّ عنهم فلما راى أبو سفيان معبدا قال وماوراءك قال محمد قد خرج فى أصحابه يطلبكم فى جمع لم ار مثله قط
يتخرقون عليكم تخرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه فى يومكم وندموا على صنيعهم وفيهم من الخنق عليكم شىء لم ار مثله قط قال ويلك ما تقول قال والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصى الخيل قال فو الله لقد اجمعنا الكرة عليهم لنستاصل بقيتهم قال فانى والله أنهاك عن ذلك فثنى ذلك مع كلام صفوان أبا سفيان ومن معه وقت أكبادهم فانصرفوا سراعا خائفين من الطلب - ومر بابى سفيان ركب من عبد القيس فقال اين تريدون قالوا نريد المدينة للميرة فقال فهل أنتم مبلغون عنى محمدا رسالة واحمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا ووافيتمونا قالوا نعم قال فإذا جئتموه فاخبروا انا قد اجمعنا إليه والى أصحابه لنستأصلهم بقيتهم - وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فاخبروه بالذي قاله أبو سفيان فقال رسول الله صلى الله حسبنا اللّه ونعم الوكيل فاقام رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك الاثنين 17 والثلاثاء 18 والأربعاء 19 وانزل الله تعالى.(1/1140)
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ دعاءه بالخروج للقتال مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ الجراح يوم أحد الموصول منصوب على المدح أو مبتدا خبره الجملة الواقعة بعده لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا من للبيان والمقصود من ذكر الوصفين المدح والتعليل دون التقييد لان المستجيبين كلهم كانوا محسنين متقين أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) وجاز ان يكون الموصول صفة للمؤمنين وتم الكلام على قوله مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ وما بعده ابتداء وقال مجاهد وعكرمة خلافا لاكثر المفسرين انه نزلت هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى وذلك ان أبا سفيان يوم أحد حين أراد ان ينصرف قال يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر الصغرى القابل ان شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بيننا وبينك ان شاء الله فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان من مكة فى قريش وهم الفان ومعهم خمسون فرسا حتى نزل مجنة فى ناحية مر الظهران ثم القى الله الرعب فى قلبه فبدا له الرجوع فلقى نعيم بن مسعود الا شجعى وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان يا نعيم انى وأعدت محمدا وأصحابه ان نلتقى بموسم بدر الصغرى وان هذه عام جدب ولا يصلحنا الا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لى ان لا أخرج إليها واكره ان يخرج محمد ولا أخرج انا فيزيدهم ذلك جرءة ولان الخلف من قبلهم أحب
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 180(1/1141)
الىّ من ان يكون من قبلى فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم انى فى جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ولك عندى عشرة من الإبل أضعها على يدى سهيل بن عمرو ويضمنها فضمنها سهيل - واتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبى سفيان فقال اين تريدون فقالوا واعدنا أبا سفيان بموسم بدر الصغرى ان نقتتل بها فقال بئس الرأى رايتم أتوكم فى دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم والله لا يفلت منكم أحد فكره بعض اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج واستبشر المنافقون واليهود وقالوا محمد لا يفلت من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خشى ان لا يخرج معه أحد وجاء أبو بكر وعمرو قد سمعا ما سمعا وقالا يا رسول الله ان الله مظهر دينه ومعزّ نبيه وقد واعدنا القوم موعدا لا نحب ان نتخلف فسر لموعدهم فو الله ان ذلك لخير فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسى بيده لاخرجن ولو وحدي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حسبنا اللّه ونعم الوكيل فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أصحابه وأتوا بدر الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسئلونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يريدون ان يرعبوا المسلمين فيقول المؤمنون حسبنا اللّه ونعم الوكيل حتى بلغوا بدرا وكانت موضع سوق لهم فى الجاهلية يجتمعون إليها يقوم لهلال ذى القعدة إلى ثمان ليال خلون منه فإذا مضت ثمان ليال تفرق الناس إلى بلادهم فاقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحد من المشركين وواقفوا السوق وكانت معهم تجارات ونفقات فباعوا وأصابوا للدرهم درهمين وانقلبوا إلى المدينة سالمين غانمين فحينئذ نزل قوله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ إلخ و(1/1142)
الصحيح هو القول الأول واقتضاه صنيع البخاري ورجحه ابن جرير قلت ويؤيد القول الأول سياق الآية حيث قال الله تعالى الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ مدحهم بانهم خرجوا للجهاد واستجابوا لله والرسول مع كونهم مجروحين متالمين بالجراحات وليس ذلك الا فى غزوة حمراء الأسد واما غزوة بدر الصغرى فكانت بعد سنة وحينئذ كانوا أصحاء سالمين وبعدية إصابة القرح ان لم يحمل على الفور فلا وجه لتخصيص هذه الآية بغزوة بدر الصغرى بل يصدق على غزوة الخندق وغيرها أيضا والله اعلم.
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 181(1/1143)
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ ان كان نزول الآيتين معا فيكون الّذين قال لهم النّاس بدلا من الّذين استجابوا وان كان نزولهما على التعاقب والتفرق فالموصول هاهنا أيضا اما منصوب على المدح أو خبر مبتدا محذوف تقديره هم الذين قال لهم الناس أو مبتدا خبره فانقلبوا قال اكثر المفسرين المراد بالناس هاهنا الركب من عبد القيس الذين جاءوا من أبى سفيان والنبي صلى الله عليه وسلم فى حمراء الأسد كما مرّ ذكره وقال مجاهد وعكرمة المراد بالناس هاهنا نعيم بن مسعود الأشجعي الذي جاء فى المدينة بخبر أبى سفيان والمشركين والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتجهزون لغزوة البدر الصغرى للموعد واطلق عليه الناس لأنه من جنسه كما يقال فلان يركب الخيل وما له الا فرس واحد أو لأنه انضم إليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه - والظاهر عندى ان نزول هذه الآية فى غزوة بدر الصغرى والمراد بالناس نعيم بن مسعود الأشجعي والآية الاولى نزلت فى غزوة حمراء الأسد وبينهما سنة ووجه قولى ان الظاهر نزول هذه الآية فى بدر الصغرى ان قوله إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ يدل على حدوث جمعهم الان بعد ما لم يكن وذا لا يتصور الا فى بدر الموعد واما حين انصرافهم من المدينة بعد وقعة أحد فهم كانوا مجتمعين فلا يناسبه قوله قد جمعوا لكم والله اعلم وكذا قال الامام الرازي حيث قال مدح الله تعالى المؤمنين على غزوتين يعرف أحدهما بغزوة حمراء الأسد وهى المذكورة فى الآية المتقدمة والثانية بغزوة البدر الصغرى وهى المذكورة فى هذه الآية والله اعلم إِنَّ النَّاسَ يعنى أبا سفيان وغيره من المشركين قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جموعا وآلات « 1 » الحرب فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً عطف على قال لهم النّاس والضمير المستكن لله تعالى أو للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله ان أريد به نعيم وحده - والبارز راجع إلى الموصول والمعنى انهم لم يلتفتوا ولم يضعفوا(1/1144)
و أظهروا حمية الإسلام وبهذا العمل اقتربوا إلى الله سبحانه وصعدوا مدارج الرفعة وزيادة الايمان بزيادة مدارج القرب ومن قال ان الايمان لا يزيد ولا ينقص فنظره مقصور على الايمان المجازى وَقالُوا عطف على زادهم حَسْبُنَا اللَّهُ حسب مصدر بمعنى الفاعل أى محسبنا وكافينا من احسبه إذا كفاه ويدل على انه بمعنى المحسب انه لا يستفيد بالاضافة تعريفا فى قولك هذا رجل حسبك كما لا يستفيد اسم الفاعل وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) أى نعم الموكول إليه الأمور هو المخصوص بالمدح محذوف وفى عطف
_________
(1) فى الأصل والآلات الحرب - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 182(1/1145)
نعم الوكيل وهو إنشاء على جملة حسبنا الله وهو خبر مبارزة بين الفحول فقيل العطف من الحاكي ولا عطف فى الكلام المحكي تقديره قالوا حسبنا الله وقالوا نعم الوكيل يعنى قالوا هذا القول وهذا القول والظاهر ان المحكي هو المشتمل على العطف لما روى عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم حين القى فى النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا انّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل رواه البخاري فان افراد الضمير فى قوله قالها ابراهيم يدل على ان الواو من المحكي ولو كان من الحكاية لقال حسبنا الله ونعم الوكيل قالهما ابراهيم بضمير التثنية فقال بعض الأفاضل فى توجيه العطف ان قولهم حسبنا الله كناية عن قولهم اعتمدنا على الله وقولهم نعم الوكيل كناية عن قولهم انا وكلنا أمورنا إلى الله - والصحيح عندى ان الجمل التي لا محل لها من الاعراب جاز ان يعطف بعضها على بعض من غير مبالاة بالاختلاف خبرا وإنشاء وقد ورد فى الحديث انه جاءت امراة فقالت يا رسول الله ان أبى زوجنى ابن أخيه ونعم الأب هو الحديث وقال الله تعالى أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ.(1/1146)
فَانْقَلَبُوا فانصرفوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ بما ذهبوا به معهم من المدينة من الايمان والعافية والأموال والعز وَفَضْلٍ زيادة فى الايمان بكثرة الثواب وزيادة فى الأموال بربح فى التجارة وزيادة فى العز حيث ذهبوا القتال العدو وفشل عدوهم وزيادة الأموال انما يتصور فى غزوة بدر الصغرى فانهم واقفوا هناك سوقا فاتجروا وربحوا كما ذكرنا واما فى غزوة حمراء الأسد فلم يكن هناك تجارة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ الجملة حال من فاعل لم يصبهم أى فى حال لم يصبهم أذى من جراحة أو قتل أو نهب وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط الفوز بخير الدارين قال البغوي قالوا هل يكون هذا غزوا فاعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) فيه تحسر للمتخلف وتخطية رأيه.
إِنَّما ذلِكُمُ يعنى نعيما أو أبا سفيان الشَّيْطانُ خبر وما بعده بيان شيطنته أو ما بعده صفة على طريقة ولقد امر على اللئيم يسبنى أو الشيطان صفة والخبر ما بعده وجاز ان يكون ذلكم اشارة إلى قولهم إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والشيطان خبره بتقدير المضاف يعنى ذلك القول فعل الشيطان القى فى أفواههم ليرهبوكم وتجبنوا عنهم يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 183(1/1147)
القاعدين عن الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم وجاز ان يكون أولياءه منصوبا بنزع الخافض والمفعول محذوف تقديره يخوفكم باوليائه وكذلك قراءة أبيّ بن كعب وقال السدى يعظم أولياءه فى صدوركم لتخافوهم لما قرأ ابن مسعود يخوفكم أولياءه وعلى هذين الوجهين أولياءه أبو سفيان وأصحابه فَلا تَخافُوهُمْ إذ لا قوة لاحد الا بالله الضمير المنصوب للناس الثاني على الوجه الأول وللاولياء على الوجهين الأخيرين وَخافُونِ ان لا اجعلهم غالبين عليكم كما جعلت يوم أحد فان الغلبة من عندى فلا تخالفوني فى امرى ونهيى وجاهدوا مع رسولى - اثبت الياء فى الوصل فقط أبو عمرو - وكذا أبو جعفر وفى الحالين يعقوب - أبو محمد وحذفها الباقون فى الحالين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) فان مقتضى الايمان ان يخاف الله ولا يخاف غيره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سالت فاسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم ان الامة لو اجتمعت على ان ينفعوك بشىء لا ينفعونك الا بشىء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا ان يضروك بشىء لا يضرونك الا بشىء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رواه احمد والترمذي عن ابن عباس - .(1/1148)
وَ لا يَحْزُنْكَ قرأ نافع بضم الياء وكسر الزاء من الافعال هذا وقوله تعالى ليحزننى وليحزن حيث وقع الا فى الأنبياء لا يحزنهم الفزع وقرا أبو جعفر من الافعال فى الأنبياء خاصة لا غير والباقون بفتح الياء وضم الزاء فى الكل الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ قال الضحاك هم كفار قريش وقال غيره هم المنافقون يسارعون فى الكفر بمظاهرة الكفار وهو الأصح يعنى لا يحزنك مسارعتهم فى الكفر لا خوفا على الإسلام والمسلمين لما إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ أى اولياء الله بمسارعتهم فى الكفر وانما يضرون بها أنفسهم شَيْئاً يحتمل المفعول والمصدر ولا ترحما على الكافرين لأنه يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا نصيبا فِي ثواب الْآخِرَةِ حيث كانوا مخلوقين أشقياء وكان مبادى تعيناتهم مستندة إلى اسمه المضل ونحوه فلذلك خذلهم حتى سارعوا فى الكفر وَلَهُمْ مع الحرمان عن الثواب عَذابٌ عَظِيمٌ (176).
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعنى استبدلوا الكفر بالايمان وهم أهل الكتاب كانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مجيئه فإذا جاء بالبينات اختاروا الكفر وتركوا الايمان حرصا على الدنيا وعنادا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ قرأ حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى الله عليه وسلم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 184(1/1149)
تعريضا بالذين كفروا لانهم هم الحاسبون دون النبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يحسب والباقون بالياء على الغيبة فعلى قراءة الجمهور فاعله الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله تعالى أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مفعول قائم مقام المفعولين والاملاء الامهال وإطالة العمر وتخليتهم وشأنهم وعلى قراءة حمزة الّذين كفروا مفعول وما بعده بدل منه وهو ينوب عن المفعولين أو هو المفعول الثاني على تقدير مضاف فى أحد المفعولين يعنى لا تحسبن الذين كفروا اصحاب ان الاملاء خير لانفسهم أو لا تحسبن حال الذين كفروا ان الاملاء خير لهم وما مصدرية كان حقها ان يفصل فى الخط ولكنها وقعت فى الامام متصلة فاتبع أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ استيناف لبيان علة ما تقدم من الحكم لِيَزْدادُوا إِثْماً اللام لام الارادة والآية حجة لنا على المعتزلة فى مسئلتى الأصلح وارادة المعاصي وعند المعتزلة اللام لام العاقبة وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) قال مقاتل نزلت فى مشركى مكة وقال عطاء فى قريظة والنضير عن أبى بكر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم اىّ الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله قيل فاىّ الناس شر قال من طال عمره وساء عمله رواه احمد والترمذي والدارمي - وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادى مناد يوم القيامة اين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله تعالى أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ رواه البيهقي فى الشعب - .(1/1150)
ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المخلصين بالمنافقين والخطاب لعامة المخلصين والمنافقين المختلطين فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَمِيزَ قرأ حمزة « 1 » والكسائي هاهنا وفى الأنفال بضم الياء وكسر « 2 » الميم واسكان الياء مخففة من الافعال والباقون بفتح الياء من ماز يميز يقال مزت الشّيء ميزا إذا فرقته يعنى يفرق الْخَبِيثَ الكافر مِنَ الطَّيِّبِ أى المؤمن اما بالوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أو بالوقائع مثل واقعة أحد حيث تميز فيه المنافقون بالانخذال عن المؤمنين وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ حتى تعرفوا المنافقين من المؤمنين قبل التميز من الله تعالى
_________
(1) الصحيح قرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف - أبو محمد عفا الله عنه
(2) الصحيح بضم الياء وفتح الميم وكسر الياء الثانية مشددة من التفعيل إلخ أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 185(1/1151)
وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على البعض من علوم الغيب أحيانا كما اطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على احوال المنافقين بنور الفراسة نظير هذه الآية قوله تعالى فى سورة الجن عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وقد ذكرنا بحث الاطلاع على علم الغيب فى تفسير تلك الآية - قال البغوي قال السدىّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علىّ أمتي فى صورها فى الطين كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فقالوا استهزاء زعم محمد انه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ممن لم يخلق بعد ونحن معه وما يعرفنا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام على المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال ما بال أقوام طعنوا فى علمى لا تسئلونى عن شىء فيما بينكم وبين الساعة الا نبأتكم به فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال من أبى يا رسول الله فقال حذافة فقام عمر فقال يا رسول الله رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقران اماما وبك نبيا فاعف عنا عفا الله عنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم فهل أنتم منتهون هل أنتم منتهون ثم نزل عن المنبر فانزل الله تعالى هذه الآية - قال الشيخ جلال الدين السيوطي لم اقف على هذه الرواية قلت لو صحت هذه الرواية فوجه مناسبة الآية برد قولهم ان الرسول مجتبى بالاطلاع على الغيب ليس له ان يشارك غيره معه فى هذا العلم الا بإذن الله فيما يأذنه فهو يعرف كفركم ولا يظهر لاجتبائه بتلك المعرفة فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ « 1 » بصفة الإخلاص كيلا تفضحوا وَإِنْ تُؤْمِنُوا بالإخلاص وَتَتَّقُوا النفاق والمعاصي فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179).(1/1152)
وَ لا يَحْسَبَنَّ قرأ حمزة بالتاء خطابا للنبى صلى الله عليه وسلم أو لكل من يحسب والباقون بالياء وضمير الفاعل راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى كل من يحسب وقوله الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أى يبخلون بالزكاة مفعوله الأول بتقدير المضاف أى لا تحسبن بخل الذين ليطابق المفعولين هُوَ ضمير الفصل خَيْراً لَهُمْ مفعوله الثاني وجاز ان يكون الموصول فاعلا للفعل على قراءة الجمهور والمفعول الأول محذوفا وجاز ان يكون الضمير المرفوع اعنى هو هو المفعول الأول وضع موضع الضمير المنصوب والمعنى على التقديرين لا يحسبن الذين يبخلون بالزكاة بخلهم خيرا لهم أو إيتاء الله المال خيرا لهم أو ما أتاهم الله خيرا لهم وهذا التقدير أوفق بقوله تعالى سيطوّقون ما بخلوا به بَلْ هُوَ يعنى البخل أو إيتاء الله المال أو ما أتاهم الله شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ
_________
(1) وفى الأصل ورسوله -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 186(1/1153)
ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ نزلت الآية فى ما نعى الزكوة كذا قال ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل والشعبي والسدىّ - عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له ماله يوم القيامة شجاعا اقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم تأخذ بلهزمتيه يعنى شدقيه ثم يقول انا مالك انا كنزك ثم تلا وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الآية رواه البخاري - وعن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من رجل يكون له ابل أو بقر أو غنم لا يؤدى حقها الا اتى بها يوم القيامة أعظم ما يكون وأسمنه تطاه بأخفافها وتنطحه بقرونها كلما جاءت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس متفق عليه - وروى عطية عن ابن عباس ان هذه الآية نزلت فى أحبار اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته وأراد بالبخل كتمان العلم وبقوله سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ انهم يحملون أوزارهم واثامهم وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى انه الباقي بعد فناء خلقه وهم يموتون ويتركون الأموال فيعطى أموالهم لمن يشاء من ورثتهم أو من غيرهم ويبقى عليهم الحسرة والعقوبة فمالهم يبخلون ولا ينفقون أموالهم فى سبيل الله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء للغيبة والضمير راجع إلى الذين يبخلون والباقون بالتاء خطابا للناس أجمعين أو للذين يبخلون على الالتفات خَبِيرٌ (180) فيجازى عليه - أخرج محمد بن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس انه كتب النبي صلى الله عليه وسلم مع أبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام واقام الصلاة وإيتاء الزكوة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فدخل أبو بكر ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناسا كثيرا من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فخاص بن عازورا وكان من علمائهم ومعه حبر اخر يقال له اشيع(1/1154)
فقال أبو بكر لفخاص اتق الله واسلم فو الله انك لتعلم ان محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوبا عندكم فى التورية فامن وصدق واقرض الله قرضا حسنا يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب فقال فخاص يا أبا بكر تزعم ان ربنا يستقرض أموالنا وما يستقرض الا الفقير من الغنى فان كان ما تقول حقا فان الله إذا لفقير ونحن اغنياء وانه ينهاكم عن الربوا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربوا فغضب أبو بكر وضرب وجه فخاص ضربة شديدة وقال والذي نفسى بيده لو لا العهد بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فخاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 187
يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابى بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله ان عدو الله قال قولا عظيما زعم ان الله فقير وانهم اغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فخاص فانزل الله تعالى ردا على فخاص وتصديقا لابى بكر.(1/1155)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة والسدى ومقاتل واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال أنت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم حين انزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالت اليهود ان الله فقير يستقرض منا وذكر الحسن ان قائل هذا الكلام حيى بن اخطب سَنَكْتُبُ فى كتاب الحفظة يعنى يكتب الكرام الكاتبون بامرنا نظيره وانّا له كتبون ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ قرأ حمزة سيكتب بالياء وضمها وفتح التاء على البناء للغائب المجهول وقتلهم بالرفع والباقون بالنون وضم التاء على البناء للمتكلم المعروف وقتلهم بالنصب الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ يعنى رضاءهم بفعل ابائهم الذين قتلوا الأنبياء بغير حق ضم إلى قولهم ذلك قتلهم الأنبياء تنبيها على ان هذا ليس أول جريمة منهم وَنَقُولُ فى الاخرة على لسان الملائكة جزاء لما قالوا وما فعلوا قرأ الجمهور بالتكلم على نسق سنكتب وحمزة بالغيبة يعنى يقول الله ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) فعيل بمعنى الفاعل يعنى عذاب النار المحرق كما فى عذاب اليم أو الاضافة بيانية ومعناه العذاب المحرق يقال لهم ذلك إذا القوا فيها والذوق ادراك الطعوم ويستعمل فى ادراك سائر المحسوسات مجازا - ولما كان كفر اليهود لما كلهم الرشى من اتباعهم لاجل تلك المناسبة ذكر فى الجزاء الذوق.(1/1156)
ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من القتل وغير ذلك من المعاصي وعبر بالأيدي عن الأنفس لان اكثر الأعمال المحسوسة بهن وافعال القلوب واللسان يلزمها ويظهرها اعمال الجوارح وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (187) عطف على ما قدمت ووجه سببية نفى الظلم من الله تعالى لتعذيب الكفار ان نفى الظلم يستلزم العدل المقتضى اثابة المحسن ومعاقبة المسيء فان قيل نفى الظلم لازم لذاته تعالى لان الظلم من القبائح التي يجب تنزيه الله تعالى عنه وإذا كان نفى الظلم مستلزما للعدل المستلزم لاثابة المحسن ومعاقبة العاصي يلزم وجوب الاثابة والمعاقبة وذلك مذهب المعتزلة خلافا لاهل السنة قلنا الظلم فى اللغة وضع الشيء فى غير موضعه المختص به اما بنقصان أو بزيادة واما بعدول عن وقته أو مكانه وذلك غير متصور من الله تعالى لأنه يستلزم
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 188(1/1157)
التصرف فى غير ملكه بغير اذن المالك أو على خلاف ما امره به والله سبحانه لو عذب أهل السموات والأرض بغير جرم منهم لا يكون ذلك ظلما لأنه المالك على الإطلاق يتصرف فى ملكه كيف يشاء فالظلم المنفي فى هذا المقام ليس بمعناه الحقيقي بل أريد هاهنا فعله تعالى بعبده ما يعد ظلما لو جرى فيما بينهم وان لم يكن ذلك ظلما لو صدر منه تعالى ونفى الظلم بهذا المعنى ليس بواجب عليه سبحانه بل هو مبنى على الفضل وجاز ان يقال معنى الآية ان عدم انتقام الأنبياء من الذين قتلوهم وظلموهم وكذبوهم فى صورة الظلم على الأنبياء وذلك وان لم يجب على الله تعالى فى ذاته لكن مقتضى فضله على الأنبياء الانتقام من أعدائهم وتعذيبهم فالمراد بالعبيد هاهنا الأنبياء وفيه منقبة لهم بكمال انقيادهم وعبوديتهم طوعا مثل انقياد جميع الأشياء له تعالى يسرا وكرها - وهاهنا توجيه اخر وهو ان يقال ان فيه اشارة إلى ان الكفار استحقوا العذاب بحيث لو لم يعذبهم الله تعالى لكان ظلما عليهم ومنعا لحقهم فهذه الجملة كانها تأكيد لوقوع العذاب عليهم - قال الكلبي ان كعب بن الأشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهود أو زيد بن التابوت وفخاص بن عازورا وحيى بن اخطب أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا يا محمد تزعم ان الله بعثك رسولا إلينا وانزل عليك كتابا وانّ اللّه عهد إلينا فى التورية الّا نؤمن لرسول يزعم انه من عند الله حتّى يأتينا بقربان تأكله النّار فان جئتنا به صدقناك فانزل الله تعالى.(1/1158)
الَّذِينَ قالُوا محله الجر بدلا من الموصول السابق أو الرفع بناء على انه خبر مبتدا محذوف أى هم الذين قالوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا يعنى أمرنا واوصانا فى التورية أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ أى لا نصدق رجلا يدّعى الرسالة من عند الله حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ - القربان فى الأصل كل ما يتقرب به العبد إلى الله عز وجل من نسيكة وصدقة وعمل صالح فعلان من القربة ثم صار اسما للذبيحة التي كانوا يتقربون بها إلى الله تعالى وكانت القرابين والغنائم لا تحل لبنى إسرائيل فكانوا إذا قربوا قربانا أو غنموا غنيمة جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها لها دوى وحفيف فيأكل ويحرق ذلك القربان والغنيمة فيكون ذلك علامة القبول وإذا لم تقبل بقيت على حالها - قال السدى ان الله تعالى امر بنى إسرائيل من جاءكم يزعم انه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد فإذا أتياكم فامنوا بهما فانهما يأتيان بغير قربان قال الله تعالى اقامة للحجة عليهم قُلْ يا محمد
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 189
قَدْ جاءَكُمْ يا معشر اليهود رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات سوى القربان وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من القربان كزكريا ويحيى وسائر من قتلوهم من الأنبياء فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ يعنى كذّبهم أسلافهم وقتلوهم واتبعهم أولادهم الذين كانوا فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم والرضاء بالكفر بهم فلذلك توجه إليهم هذا الاستفهام الإنكاري إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) شرط حذف جزاؤه يعنى ان كنتم صادقين فى انّ امتناعنا عن الايمان بك لاجل ذلك العهد فلم لم تؤمنوا بزكريا ويحيى وأمثالهما فإذا لم تؤمنوا بهم ظهران امتناعكم عن الايمان ليس لاجل هذا بل عنادا وتعصبا.(1/1159)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فلا تحزن فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فعلى هذا التأويل جزاء الشرط محذوف أقيم سببه مقامه وجاز ان يكون المعنى فان كذبوك فتكذيبك تكذيب لرسل من قبلك حيث أخبروا ببعثك جاؤُ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات وَالزُّبُرِ كصحف ابراهيم وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كالتورية والإنجيل وعلى التأويل الأول تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم يعنى فاصبر كما صبروا وعلى التأويل الثاني الزام لليهود فان تكذيب محمد عليه الصلاة والسلام تكذيب للذين جاءوا بالقربان - قرأ هشام بالزّبر وبالكتب المنير بزيادة الباء فيهما وهكذا خطّ هشام عليهما فى كتابه عن أصحابه عن ابن « 1 » عامر وقرا ابن ذكوان بزيادة الباء فى بالزبر وحده والباقون بغير باء فيهما - والزبر جمع زبور وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرت الشيء إذا احسنته - .
كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة أو فاجرة ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال البغوي فى الحديث انه لمّا خلق الله آدم اشتكت الأرض إلى ربها لما أخذ منها فوعدها ان يرد فيها ما أخذ منها فما من أحد الا ويدفن فى التربة التي خلق منها والحاصل انه ليست الحيوة الدنيا ونعماؤها جزاء للطاعات وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أى جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا فاجازيك على الصبر والطاعة وأجازي الكفار على تكذيب الحق - وهذه الآية أيضا تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم - ولفظا التوفية يشعر بانه قد يكون بعض الأجور قبلها قال الله تعالى وآتيناه يعنى ابراهيم أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حقر النار رواه الترمذي
_________
(1) فى الأصل أبى عامر -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 190(1/1160)
و رواه الطبراني فى الأوسط عن أبى هريرة فَمَنْ زُحْزِحَ أى ابعد عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ أى ظفر بالمطلوب ونال المراد وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أى العيش فيها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ (185) المتاع ما يتمتع وينتفع به والغرور اما مصدر من غرّه يغرّه غرا وغرورا فهو مغرور وغرّه أى خدعه وأطمعه بالباطل أو جمع غار شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به البايع على المستام ويغرّه حتى يشتريه يعنى « 1 » متاعا نظرا إلى الظاهر ولا حقيقة لها وذلك لان لذاتها مشوبة بالمكاره والالام ومع ذلك لا بقاء لها كالاحلام - قال قتادة هى متاع متروكة يوشك ان تضمحل باهلها فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم والغرور الباطل وقال الحسن هى كخضر النبات ولعب النبات لا حاصل له عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاقرءوا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا ان شئتم وظلّ ممدود ولموضع سوط من الجنة خير من الدنيا وما فيها واقرءوا ان شئتم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ رواه البغوي بسنده والفصل الأول متفق عليه عنه وكذا الفصل الثاني والثالث فى الصحيحين غير قوله اقرءوا ان شئتم ظلّ ممدود اقرءوا ان شئتم فمن زحزح الآية - .(1/1161)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ بالأمور التكليفية من الزكوة والصدقات والصوم والصلاة والحج والجهاد وبالمصائب من الجوائح والعاهات والخسران والأمراض وموت الأحباب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فى الدين وإغراء الكفرة على المسلمين أخبرهم بذلك قبل وقوعها لتؤطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال وتستعدوا للقائها - رومى ابن المنذر وابن أبى حاتم فى مسنده بسند حسن عن ابن عباس انها نزلت فيما كان بين أبى بكر وفخاص من قوله إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ كذا قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريح ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إلى فخاص بن عازورا سيد بنى قينقاع ليستمده وكتب اليه
_________
(1) فى الأصل متاع
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 191(1/1162)
كتابا وقال لابى بكر لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فجاء أبو بكر وهو متوشح بالسيف فاعطاه الكتاب فلما قرأ قال قد احتاج ربك إلى ان نمده فهم أبو بكر ان يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تفتاتن علىّ بشىء حتى ترجع فكف ونزلت هذه الآية - وذكر عبد الرزاق عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك انها نزلت فى كعب بن الأشرف فانه كان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويسب المسلمين ويحرض المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فى شعره ويشبب بنساء المسلمين - قلت وذلك بعد وقعة بدر لما راى دولة الإسلام وقتل صناديد قريش وذهب إلى مكة ينتدب المشركين لقتال النبي صلى الله عليه وسلم وقالت قريش ا ديننا اهدى أم دين محمد قال بل دينكم وهجاه حسان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وفى الصحيح فقال النبي صلى الله عليه وسلم من لى بابن الأشرف فانه قد أذى الله ورسوله شعره وقوى المشركين علينا فقال محمد بن مسلمة الأنصاري رضى الله عنه انا لك يا رسول الله هو خالى انا اقتله قال أنت افعل ان قدرت على ذلك فرجع محمد بن مسلمة فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب الا ما تعلق نفسه فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تركت الطعام والشراب قال يا رسول الله قلت قولا ولا أدرى هل أفي به أم لا فقال انما عليك الجهد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور سعد بن معاذ فقال توجه إليه وأشك له الحاجة وسله ان يسلفك طعاما فاجتمع محمد بن مسلمة وعباد بن بشر وأبو نائلة سلكان بن سلامة وكان أخا كعب من الرضاعة والحارث بن عبس والحارث بن أوس بن معاذ بعثه عمه سعد بن معاذ وأبو عبس بن حبر فقالوا يا رسول الله نحن نقتله فائذن لنا فلنقل بيننا فانه لا بدلنا ان نقول فيك قال قولوا ما بدا لكم وأنتم فى حل من ذلك فقدّموا بانائلة فجاءه فتحدث معه وتناشدوا الشعر وكان(1/1163)
ابو نائلة يقول الشعر ثم قال ويحك يا ابن الأشرف انى قد جئتك لحاجة أريد ذكرها فاكتم علىّ قال افعل قال كان قدوم هذا الرجل بلادنا بلاء عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس فقال كعب لقد كنت أخبرتك ان الأمر سيصير إلى هذا فقال أبو نائلة ان معى أصحابا أردنا ان تبيعنا طعامك ونرهنك ونوثق لك وتحسن فى ذلك قال ترهنونى ابناءكم قالوا انا نستحيى ان نعير أبناءنا فيقال هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين قال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 192(1/1164)
ترهنونى نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب ولا نأمنك واية امرأة تمتنع منك لجمالك ولكنا نرهنك الحلقة يعنى السلاح وقد علمت حاجتنا إلى السلاح قال نعم ان فى السلاح لوفاء وأراد أبو نائلة ان لا ينكر السلاح إذا راه فواعده ان يأتيه فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فاخبرهم فاجمعوا أمرهم على ان يأتوه إذا امسى لميعاده - ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء فاخبروه روى ابن إسحاق واحمد بسند صحيح عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته فى ليلة مقمرة مثل النهار ليلة اربع عشرة من شهر ربيع الأول - فمضوا حتى انتهوا إلى حصن ابن الأشرف ليلا وقال أبو نائلة لاصحابه انى فاتل شعره فإذا رايتمونى استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه فهتف به أبو نائلة وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس فوثب فى ملحفه فاخذت امرأته بناحيتها وقالت انك امرؤ محارب وان اصحاب الحرب لا ينزلون فى هذه الساعة وانى اسمع صوتا يقطر منه الدم فكلّمهم من فوق الحصن فقال انه ميعاد علىّ وانما هو ابن أختي محمد بن مسلمة ورضيعى أبو نائلة لو وجدوني نائما ما أيقظوني وان الكريم إذا دعى إلى طعنة بليل أجاب - فنزل إليهم متوشحا بملحفة يفوح منها ريح الطيب فتحدث معهم ساعة ثم قالوا يا ابن الأشرف هل لك فى ان(1/1165)
نتماشا إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه قال ان شئتم فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة فقال أبو نائلة نجد منك ريح الطيب قال تحتى فلانة من أعطر نساء العرب - قال فتأذن لى ان أهم قال نعم فادخل أبو نائلة يده فى رأس كعب ثم شم يده فقال ما رايت كالليلة طيبا أعطر قط وكان كعب يدهن بالمسك الغتيت بالماء والعنبر حتى يتلبد فى صدغيه وكان جعدا جميلا - ثم مشى أبو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها حتى اطمان إليه وسلسلت يده فى شعره - ثم عاد فاخذ بقرون رأسه حتى استمكن وقال لاصحابه اضربوا عدو الله فاختلف أسيافهم فلم تغن شيئا قال محمد بن مسلمة فذكرت مغولا « 1 » فى سيفى فاخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن الا أوقدت عليه نار قال فوضعته فى تندؤته ثم تحاصلت عليه حتى بلغت عانته ووقع عدو الله - وعند ابن سعد فطعن أبو عيس فى
_________
(1) المغول بالكسر شبه سيف قصير يشتمل به الرجل تحت ثيابه فيغطيه وقيل هو حديدة دقيقة لها حد ماض وقفا - وقيل هو سوط فى جوفه سيف دقيق يشده العاتك على وسطه ليقال به الناس - نهايه منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 193(1/1166)
خاصرته فجزوا رأس كعب وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ بجرح فى رأسه أصابه بعض اسيافنا - فخرجنا نشتد نخاف من يهود الارصاد وقد ابطا علينا صاحبنا الحارث بن أوس لجرح فى رأسه ونزفه الدم فناداهم اقرءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا بقيع الغرقد اخر الليل كبروا وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى - فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم بالبقيع كبر وعرف ان قد قتلوه - ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على باب المسجد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم افلحت الوجوه - قالوا ووجهك يا رسول الله ورموا برأسه بين يديه فحمد الله تعالى على قتله - ثم أتوا بصاحبهم الحارث فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جرحه فلم يؤذه - فرجعوا إلى منازلهم - فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه فوثب محيصة بن مسعود على شغينة رجل من تجار يهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله - وكان خويصة بن مسعود إذ ذاك لم يسلم وكان أسن من محيصة - فلما قتله جعل خويصة يضربه ويقول أى عدو الله قتلته اما والله لربّ شحم فى بطنك من ماله - قال محيصة والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك - قال لو أمرك محمد بقتلى لقتلتنى قال نعم قال والله ان دينا بلغ بك هذا العجب فاسلم خويصة - فخافت اليهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم - ولم ينطقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيّت ابن الأشرف - وعند ابن سعد فاصبحت اليهود مذعورين فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قتل سيدنا عيلة فذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه وما كان يحض عليه ويحرض فى قتاله ويؤذيه ثم دعاهم ان يكتبوا بينهم وبينه صلحا فكان ذلك الكتاب مع على رضى الله عنه (مسئلة) احتج الشافعي بهذه القصة على جواز قتل من سبّ رسول(1/1167)
الله صلى الله عليه وسلم من الكفار أو انتفصه أو أذاه سواء كان بعهد أو بغير عهد - وقال أبو حنيفة لا يقتل المعاهد بسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لان سبّه كفر والكفر لا ينافى العهد وعند أبى حنيفة انما قتل ابن الأشرف لأنه نقض العهد وذهب إلى مكة لتحريض المشركين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عاهده ان لا يعين عليه أحدا وقد اعانهم (مسئلة) لا يجوز ان يقال
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 194
ان هذا كان غدرا من محمد بن مسلمة وأبو نائلة رضى الله عنهما وقد قال ذلك رجل فى مجلس امير المؤمنين على رضى الله عنه فضرب عنقه وانما يكون الغدر بعد أمان ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته رضى الله عنهم بحال وانما كلمه فى امر البيع والرهن إلى ان تمكن منه (فائدة) وقع فى الصحيح ان الذي خاطب كعبا محمد بن مسلمة واكثر أهل المغازي على انه أبو نائلة ويمكن الجمع بينهما بان يكون كل منهما كلمه فى ذلك وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتليتم به وَتَتَّقُوا مخالفة امر الله تعالى فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) مصدر بمعنى المفعول أى من معزومات الأمور التي يجب عليها العزم أو مما عزم الله عليه أى امر به وبالغ فيه والعزم فى الأصل ثبات الرأى على الشيء نحو إمضائه وقال عطاء يعنى من حقيقة الايمان - قلت والمراد بالصبر عدم الجزع والانقياد عند ابتلاء الله العبد وترك الاعتراض عليه وذا لا ينافى الانتقام من الكفار إذا آذوا المسلمين كما دل عليه قصة ابن الأشرف لعنه الله والله اعلم - .(1/1168)
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ أى اذكر وقت أخذ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أى العلماء منهم أخذ منهم العهد فى التورية لَتُبَيِّنُنَّهُ أى الكتاب لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالياء على الغيبة فيهما والباقون بالتاء على الخطاب فَنَبَذُوهُ أى الكتاب وَراءَ ظُهُورِهِمْ يعنى ضيعوه وتركوا العمل به وكتموا ما فيه من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وَاشْتَرَوْا بِهِ أى أخذوا بدله ثَمَناً قَلِيلًا يعنى المأكل والرشى فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) ما يختارون لانفسهم قال قتادة هذا ميثاق اخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئا فليعلمه وإياكم وكتمان العلم فانه هلكة - وقال أبو هريرة يوما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشىء ثم تلا هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ - وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سئل عن علم يعلمه فكقمه الجم يوم القيامة بلجام من النار - رواه احمد والحاكم بسند صحيح - وأخرجه ابن ماجة من حديث انس - قال البغوي قال الحسن بن عمارة أتيت الزهري بعد ان ترك الحديث فالفيته على بابه فقلت ان رايت ان تحدثنى فقال ا ما علمت انى تركت الحديث فقلت اما ان تحدثنى واما ان أحدثك فقال حدّثنى فقلت حدثنى الحكم بن عيينة عن يحيى الجزار قال سمعت
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 195
على بن أبى طالب رضى الله عنه يقول ما أخذ الله على أهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ عن أهل العلم ان يعلموا قال فحدثنى أربعين حديثا - ورواه الثعلبي فى تفسيره من طريق الحارث عن أبى اسامة وهو فى مسند الفردوس من حديث على مرفوعا - .(1/1169)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أى بما فعلوا من إضلال الناس والتدليس وكتمان الحق أو من مطلق المعاصي وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالميثاق واظهار الحق والاخبار بالصدق وغير ذلك من الحسنات وجه فرحهم كون ما فعلوا بتمسكاتهم فى تكذيب نبوته صلى الله عليه وسلم وجاز ان يكون المراد بالموصول المنافقين الذين لم يفعلوا الطاعات على الحقيقة ويظهر ونهار ياء ويحبون ان يحمدوا بانهم زهاد مطيعين للّه فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ قرأ الكوفيون لا تحسبنّ فلا تحسبنّهم بالتاء على الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم وبفتح الباء على الافراد فعلى هذا المفعول الأول للفعل الأول الموصول والثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للفعل الأول وفاعله ومفعوله الأول وقرا ابن كثير وأبو عمرو بالياء للغيبة فيهما وضم الباء فى لا يحسبنّهم لان الضمير راجع إلى الذين فعلى هذا الفاعل للفعل الأول الموصول ومفعولاه محذوفان تدل عليهما مفعولا مؤكده أو المفعول الأول محذوف ومفعوله الثاني بمفازة والفعل الثاني تأكيد للاول وفاعله ومفعوله الأول يعنى لا يحسبنّ الّذين يفرحون أنفسهم بمفازة وقرا نافع وابن عامر بالياء للغيبة فى الأول على ان مفعوليه « 1 » محذوفان يدل عليهما المفعولان للفعل الثاني وبالتاء خطابا للنبى صلى الله عليه وسلم وحده فى الفعل الثاني مِنَ الْعَذابِ فى الدنيا بالفضيحة والذم والرد وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) فى الاخرة روى الشيخان وغيرهما من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف - وكذا روى البغوي من طريق البخاري عن علقمة بن وقاص ان مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل لئن كان كل امرئ منا فرح بما اوتى وأحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذ بن أجمعين فقال ابن عباس ومالكم ولهذه انما دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فسالهم عن شىء فكتموه(1/1170)
إياه فاخبروه بغيره فخرجوا قد أروه انهم اخبروه بما سالهم عنه واستجدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سالهم عنه ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ
_________
(1) فى الأصل مفعولاه
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 196(1/1171)
يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا - واخرج الشيخان عن أبى سعيد الخدري ان رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا ان يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية - واخرج عبد فى تفسيره عن زيد بن اسلم ان رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان فقال مروان يا رافع فى اىّ شىء نزلت هذه الآية لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا قال رافع أنزلت فى ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا ما حبسنا عنكم الا الشغل فلود دنا انا كنا معكم فانزل الله فيهم هذه الآية وكانّ مروان أنكر ذلك فخرج رافع من ذلك فقال لزيد أنشدك بالله هل تعلم ما أقول قال نعم قال الحافظ ابن حجر يمكن الجمع بينهما بانها نزلت فى الفريقين - وحكى الفراء انها نزلت فى قول اليهود ونحن أهل الكتاب الأول والصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد صلى الله عليه وسلم وروى ابن أبى حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه ابن جرير ولا مانع ان تكون نزلت فى ذلك أيضا - قال البغوي قال عكرمة نزلت فى فخاص واشيع وغيرهما من الأحبار يفرحون باضلالهم الناس وبنسبة الناس إياهم إلى العلم وليسوا باهل علم - وقال مجاهدهم اليهود فرحوا بما اعطى الله ال ابراهيم وهم براء من ذلك - وقال قتادة ومقاتل أتت يهود خيبر نبى الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نحن نعرفك ونصدقك وانّا على رأيكم ونحن لكم ردء وليس ذلك فى قلوبهم فلما خرجوا قال لهم المسلمون أحسنتم هكذا فافعلوا فحمدوهم ودعوا لهم فانزل الله هذه الآية .(1/1172)
وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) فيقدر على عقابهم - وفى هذه الآية رد لقولهم انّ اللّه فقير - أخرج الطبراني وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال أتت قريش اليهود فقالوا بما جاءكم موسى من الآيات قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين - وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى قالوا « 1 » كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى - فاتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت.
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما فيهما
_________
(1) فى الأصل قال -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 197
من العجائب وافاضة الوجود على ماهيات لا يقتضى لذواتها وجودها وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تعاقبهما على نسق بديع ونظام حكيم وما يتعاقبان عليه لَآياتٍ دلائل واضحة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته وإرادته وحكمته لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) لذوى العقول المنزهة عن شوائب الأوهام ووساوس الشيطان عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل لمن قراها ولم يتفكر فيها أخرجه ابن حبان فى صحيحه - وعن ابن عباس انه وقد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فراه استيقظ فتسوك وتوضأ وهو يقول انّ فى خلق السّموت والأرض حتى ختم السورة ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود ثم انصرف فنام حتى نفخ ثم فعل ذلك ثلاث مرات ست ركعات كل ذلك يستاك ويتوضأ ويقرأ هذه الآيات ثم أوتر بثلاث رواه مسلم.(1/1173)
الَّذِينَ صفة لاولى الألباب فان مقتضى العقل الاتصاف بالذكر والفكر والتسبيح والايمان والاستغفار والدعاء والتضرع إليه - ومن لم يتصف بها فهو كالانعام بل أضل منها فان الانعام يسبحون الله نوع تسبيح يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ قال البغوي قال على رضى الله عنه وابن عباس رضى الله عنهما والنخعي وقتادة هذا فى الصلاة يصلى قائما فان لم يستطع فقاعدا فان لم يستطع فعلى جنب ونظير هذه الآية فى سورة النساء فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ وحديث عمران بن حصين رضى الله عنه قال كانت بي بواسير فسالت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلوة المريض فقال صل قائما فان لم تستطع فقاعدا فان لم تستطع فعلى جنب أخرجه البخاري واصحاب السنن الاربعة زاد النسائي فان لم يستطع فمستلقيا لا يكلّف اللّه نفسا الّا وسعها - وعن على عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يصلى المريض قائما ان استطاع فان لم يستطع صلى قاعدا فان لم يستطع ان يسجد أومأ وجعل سجوده اخفض من ركوعه فان لم يستطع يصلى على جنبه الايمن مستقبل القبلة فان لم يستطع ان يصلى على جنبه الايمن صلى مستلقيا رجلاه مما يلى القبلة رواه الدار قطنى وفى اسناده حسين بن زيد ضعفه ابن المديني والحسن بن الحسن المغربي وهو متروك ومن هاهنا قال الشافعي ان المريض إذا عجز عن القيام صلى قاعدا وإذا عجز عن القعود يضطجع على جنبه الايمن مستقبل القبلة
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 198(1/1174)
فان لم يستطع استلقى على ظهره ويستقبل رجليه الكعبة حتى يكون ايماؤه فى الركوع والسجود إلى القبلة وبه قال مالك واحمد غير انه لو صلى مستلقيا وهو قادر على الصلاة على جنبه الايمن جاز عندهما خلافا للشافعى - وقال أبو حنيفة إذا عجز عن القعود صلى مستلقيا ورجلاه إلى الكعبة فان لم يستطع ان يصلى مستلقيا صلى على جنبه - قال أبو حنيفة ان هذه الآية والتي فى سورة النساء ليستافى صلوة المريض بل المراد بها عند عامة المفسرين المداومة على الذكر فى عموم الأحوال لان الإنسان قلما يخلوا عن هذه الحالات الثلاث - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب ان يرتع فى رياض الجنة فليكثر ذكر الله رواه ابن أبى شيبة والطبراني من حديث معاذ ولو سلمنا ان الآية فى صلوة المريض فهى لا تنفى صلوة المستلقى ولا تدل على الترتيب الذي ذكره الشافعي وكذا ما فى الصحيح من حديث عمران بن حصين قال ابن همام كان مرض عمران بن حصين البواسير وهو يمنع الاستلقاء ولذا لم يذكر الا ان ما رواه النسائي وزاد فيه صلوة المستلقى لو صح لكان حجة للشافعى وحديث على ضعيف لا يصلح للاحتجاج - ثم وجه قول أبى حنيفة فى تقديم الاستلقاء على الصلاة على جنبه ان المقصود الأهم فى الصلاة الركوع والسجود ولذا قال أبو حنيفة من لم يستطع الركوع والسجود ويقدر على القيام الأفضل ان يصلى قاعدا بالإيماء فان ايماءه اقرب إلى السجود خلافا للجمهور - وايماء المستلقى على ظهره إذا كان رجلاه إلى الكعبة يقع إلى الكعبة بخلاف ايماء من يصلى على جنبه مستقبلا إلى القبلة يقع إلى جهة رجليه فكان الاستلقاء اولى - وقال الشافعي ومالك واحمد القيام كالركوع والسجود فى كونه مقصودا فلا يجوز الصلاة قاعدا لمن يقدر على القيام وان لم يقدر على الركوع والسجود بل عليه ان يصلى قائما بالإيماء ولا شك ان مدة القيام فى الصلاة اكثر من مدة الركوع والسجود فمن صلى مستلقيا يكون غالب حاله(1/1175)
التوجه إلى السماء لا إلى جهة الكعبة ومن صلى على جنبه يكون غالب حاله التوجه إلى الكعبة وذلك هو المأمور به فى قوله تعالى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ والله اعلم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما أبدع فيهما وما أودع فيهما ليستدل بها على وجود صانع قادر عليم حكيم واحد لا شريك له عن على رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عبادة كالتفكر أخرجه البيهقي فى شعب الايمان وابن حبان
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 199
فى الضعفاء وضعفاه - وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء والنجوم فقال اشهد ان لك ربا و(1/1176)
خالقا اللهم اغفر لى فنظر الله إليه فغفر له رواه أبو الشيخ « 1 » ابن حبان والثعلبي - والفكر عبارة عن ترتيب امور معلومة لتحصيل مجهول فى القاموس هو اعمال النظر فى الشيء قال الجوهري فى الصحاح الفكرة قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك للانسان دون الحيوان ولا يقال الا فيما يمكن ان يحصل له صورة فى القلب ولهذا روى تفكروا فى آلاء الله ولا تتفكروا فى الله لكون الله تعالى منزها بان يوصف بصورة - وقال بعض العلماء الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر فى المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها انتهى كلام الجوهري - قلت ورد فى الحديث تفكروا فى كل شىء ولا تفكروا فى ذات الله تعالى فان بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور وهو فوق ذلك رواه أبو الشيخ فى العظمة عن ابن عباس وعنه بلفظ تفكروا فى الخلق ولا تفكروا فى الخالق فانكم لا تقدرون قدره وعن أبى ذر نحوه بلفظ تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله فتهلكوا وروى أبو نعيم فى الحلية عن ابن عباس تفكروا فى خلق الله ولا تفكروا فى الله - وروى أبو الشيخ والطبراني فى الأوسط وابن عدى والبيهقي بسند ضعيف بلفظ تفكروا فى آلاء الله ولا تفكروا فى الله فهذه الأحاديث تدل على المنع عن التفكر فى مرتبة الذات واقتصاره فى مراتب الافعال والصفات والأسماء - وبهذا يظهر امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت « 2 » الذات بلا شائبة الأسماء والصفات وقال المجدد رضى الله عنه العلم الحضوري أيضا ساقط من تلك المرتبة العليا لان جولانه إلى نفس العالم وما هو عينه يعنى إلى مرتبة العينية والاتحاد وذلك كفر الحقيقة والله سبحانه اقرب إلينا من أنفسنا فهو سبحانه وراء الوراء ثم وراء الوراء ثم وراء الوراء فى جانب القرب لا فى جانب البعد فلا سبيل للعلم الحضوري أيضا إلى تلك المرتبة الأسنى - فدوام الحضور والعلم اللدني(1/1177)
البسيط الحاصل للصوفى المتعلق بحضرت الذات وراء العلمين لا يدرى ما هو ولا يجوز اطلاق التفكر عليه الا مجازا كما اطلق عليه بعض الصوفية - وقد ورد فى الشرع التعبير عنه بالذكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله فى كل احيانه انما هو ذلك لا الذكر اللساني فانه لا يمكن استدامته - ولما
_________
(1) فى الأصل أبو الشيخ وابن حبان
(2) مسئلة امتناع تعلق العلم الحصولى بحضرت الذات بل العلم المتعلق بالذات وراء العلم الحضوري أيضا -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 200(1/1178)
كان دوام الذكر أهم وأسنى وانما الفكر طريقا إليها وصف الله سبحانه اولى الألباب اولا بدوام الذكر وبعد ذلك بالتفكر الموصل إلى علم هو كالظل له حيث قال الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ يعنى يديمون الذكر فى جميع الأحوال وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ - وأيضا فى تقديم الذكر على الفكر تنبيه بان العقل غير مستقل بافادة الاحكام الحقة ما لم يستضئ بنور الذكر والهداية من الله سبحانه رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على ارادة القول أى يتفكرون قائلين ذلك - والباطل ضد الحق كذا فى القاموس والحق قد يطلق على موجود متاصل الوجود لا يحتاج فى تحققه ووجوده ولا فى شىء من الأشياء إلى غيره وهو الله سبحانه وقد يطلق على موجود فى الخارج بلا نحت الوهم والخيال وان كان مقتبسا تحققه من الوجود الحق - وقد يطلق على موجود يشتمل وجوده على حكم ومصالح لا يكون عبثا ضائعا من غير حكمة ذاهبا بلا فائدة يترتب عليه - والباطل ضد الحق على المعاني كلها فباعتبار المعنى الأول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الا احسن القول قول لبيد كل شىء ما خلا الله باطل وجاز اعتبار المعنى الثاني فى البيت يعنى كل معبود ما خلا الله باطل الحقيقة له منحوت للوهم والخيال وباعتبار المعنى الثالث اطلق الباطل على الشيطان قال الله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ والباطل هاهنا ان كان بالمعنى الثاني فمعنى الآية ما قال أهل الحق أساسا للاستدلال على الصانع (خلافا للسوفسطائية) ان حقائق الأشياء ثابتة والعلم بها متحقق - وان كان بالمعنى الثالث فالمعنى ما خلقت الخلق عبثا بل لحكمة عظيمة دليلا على معرفتك باعثا على شكرك وطاعتك - وهذا اشارة إلى السموات والأرض وتذكيره بارادة المتفكر فيه أو لانهما فى معنى المخلوق أو إلى الخلق على انه أريد به المخلوق(1/1179)
من السموات والأرض أو أريد به التخليق وجاز ان يراد به التفكر فى خلق كل جزء من اجزائها فهذا اشارة إلى هذا الجزء - وباطلا منصوب على الحالية من هذا وجاز ان يكون باطلا بمعنى هازلا حالا من فاعل خلقت فعلى هذا قوله تعالى سُبْحانَكَ مؤكد للحال يعنى انه تعالى منزه عن الهزل لكونه رذيلة وعلى التأويل الأول اعتراض فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) للاخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه - والفاء تدل على ان خلق السموات والأرض للاستدلال والشكر والطاعة يقتضى ثواب المطيع وعذاب العاصي غالبا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 201
و العلم ينفى البطلان والعبث عنهما يستلزم الرجاء والخوف وهما يقتضيان طلب الثواب والاستعاذة من العذاب وقدم الاستعاذة لان دفع الضرر أهم من جلب النفع - وقيل دخلت الفاء لمعنى الجزاء تقديره إذا نزهناك فقنا عذاب النار.(1/1180)
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ تكرير ربنا للمبالغة فى الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها والتمسك بايفاء صفة الربوبية وباعترافهم بانه هو الذي رباهم - ومعنى خزاه قهره وكفه عن هواه وخزى كرضى وقع فى بلية وأخزاه الله فضحه كذا فى القاموس وَما لِلظَّالِمِينَ أى ما لهم يعنى لمن دخل النار وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على ان ظلمهم سبب لادخالهم النار مِنْ أَنْصارٍ (192) لان النصرة دفع بقهر ولا يتصور القهر فى مقابلة القهار والا يلزم عجزه وهو ينافى الربوبية وهذا لا ينفى الشفاعة - فان قيل قد قال الله تعالى يوم لا يجزى اللّه النّبىّ والّذين أمنوا معه ومن أهل الايمان من يدخل النار وقد قال هاهنا مَنْ « 1 » تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ فكيف التوفيق قلنا معناه فقد أخزيته ما دام هو فى النار أو المراد بالذين أمنوا معه المؤمنون الكاملون وقال انس وقتادة معناه انك من تخلده فى النار فقد أخزيته كذا قال سعيد بن منصور ان هذه خاصة لمن لا يخرج منها وروى عن جابر إخزاء المؤمن تأديبه وان فوق ذلك لخزيا - .(1/1181)
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً قال ابن مسعود وابن عباس واكثر الناس يعنى محمدا صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي يعنى القرآن فليس كل أحد يلقى النبي صلى الله عليه وسلم قلت من سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم بالتواتر فقد سمعه - أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه وفيه مبالغة ليست فى إيقاعه على المسموع وفى تنكير المنادى وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأن المنادى وشأن النداء فانه لا منادى أعظم ممن ينادى للايمان ولا نداء أعظم من ذلك النداء يُنادِي لِلْإِيمانِ النداء يعدى بالى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ ان مفسرة للنداء إذ فيه معنى القول أو مصدرية بتقدير الباء أى بان أمنوا فَآمَنَّا به فيه اشعار على ان الايمان على حقيقته يترتب على الادلة السمعية واستدل به أبو منصور الماتريدى على بطلان الاستثناء فى الايمان ووجوب القول انا مؤمن حقا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا الفاء للسببية فان الايمان سبب للمغفرة ولا يتصور المغفرة بلا ايمان ذُنُوبَنا يعنى الكبائر وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا
_________
(1) فى الأصل ومن -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 202(1/1182)
يعنى الصغائر والتفعيل للتكثير فان وقوع السيئات يغلب يعنى استرها مرة بعد اخرى وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) جمع برّا وبارّ بمعنى الصادق وكثير الخير والمتسع فى الإحسان - ومعنى التوفى مع الأبرار التوفى حال الاختصاص بصحبتهم معدودين فى زمرتهم لا المعية الزمانية فان ذلك غير متصور عادة ولا مفيد - ولم يقل وتوفنا بارين هضما لانفسهم وإعدادا لانفسهم غير بارين وفيه نهاية الخضوع وهو المحبوب عند الله تعالى - فان قيل هذا سوال الموت وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمنى الموت والدعاء به من قبل ان يأتيه كما ذكرنا فى تفسير سورة البقرة فى قوله تعالى فتمنّوا الموت ان كنتم صدقين قلنا قد ذكرنا تحقيق المسألة هناك ان التمني بالموت انما لا يجوز إذا كان لضر نزل به فى مال أو جسم أو نحوه لا مطلقا على ان المقصود من هذا الدعاء هاهنا الدعاء باستدامة وصف البر والإحسان ابدا إلى وقت الموت وحلول الاجل وليس الغرض منه السؤال بتعجيل الموت كما ان قوله تعالى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس المقصود منه النهى عن الموت فانه غير مقدور للعبد بل النهى عن حال غير حال الإسلام فى شىء من الازمنة حتى يأتيه الموت عند حلول اجله وهو مسلم - .(1/1183)
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا من الثواب فى الجنة والروية والرضاء ومراتب القرب والنصر على الأعداء فى الدنيا عَلى رُسُلِكَ على تصديق رسلك أو المعنى ما وعدتنا على السنة رسلك أو متعلق بمحذوف تقديره ما وعدتنا منزلا على رسلك وجاز ان يكون على بمعنى مع يعنى اتنا مع رسلك وشاركهم معنا فى أجرنا والغرض منه أداء حق الرسالة وتكثير فضل أنفسهم ببركة مشاركة الرسل والمراد بضمير المتكلم فى قوله ما وعدتنا معشر المسلمين يعنى اتنا ما وعدت المسلمين الصالحين فهذا السؤال ليس مبنيا على الخوف من خلف الوعد منه تعالى عن ذلك بل مخافة ان لا يكون السائل من الموعودين بسوء عاقبته نعوذ بالله منها أو لقصور فى إيمانه وطاعته وجاز ان يكون هذا السؤال تعبدا واستكانة فان الله غالب على امره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسئل عمّا يفعل وهم يسئلون وقيل لفظه دعاء ومعناه الخبر أى لتؤتينا تقديره فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا ... وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لتوتينا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ من الفضل والرحمة - وقيل انما سالوا تعجيل ما وعدهم الله من النصر على الأعداء قالوا معناه قد علمنا انك لا تخلف وعدك من النصر لكن لا صبرلنا
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 203(1/1184)
على حلمك فعجل خزيهم وانصرنا عليهم وَلا تُخْزِنا أى لا تفضحنا ولا تدخلنا النار يَوْمَ الْقِيامَةِ أى يوم القيام من القبور دفعة واحدة بان تعصمنا عن ارتكاب ما يقتضى الخزي وتغفر لنا وتستر ما صدر عنا عن أبى هريرة قال يدنى الله العبد منه يوم القيامة ويضع كتفه عليه فيسرّه من الخلائق ويرفع إليه كتابه فى ذلك السر فيقول الله عز وجل اقرأ كتابك فيمر بالحسنة فتبيض بها وجهه ويسر بها قلبه ويقول ا تعرف يا عبدى فيقول نعم أى رب اعرف فيقول انى قد قبلتها منك فبخر ساجدا فيقول ارفع رأسك وانظر فى كتابك فيمر بالسيئة فيسود بها وجهه ويوجل بها قلبه فيقول الله تعالى أ تعرف يا عبدى فيقول نعم أى رب اعرف فيقول انى اعرف بها منك انى قد غفرتها لك فلا يزال يمر بحسنة يقبل فيسجد وبسيّئة يغفر فيسجد فلا يرى الخلائق منه الا السجود حتى يناجى الخلائق بعضه بعضا طوبى لهذا العبد الذي لم يعص الله قط ولا يدرون ما قد لقى فيما بينه وبين الله مما قد وقف عليه رواه عبد الله بن احمد فى زوائد الزهد - واخرج البيهقي عن أبى موسى نحوه وفى الباب عن ابن عمر فى الصحيحين إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) بإثابة المؤمن واجابة الداعي ولمّا كان السؤال بقوله اتنا ما وعدتنا موهما لاحتمال خلف الوعد عقبه بهذه الجملة دفعا لذلك الوهم - .(1/1185)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أى طلبتهم وهو أخص من أجاب - ويعدى بنفسه وباللام كذا قال البيضاوي وقيل أجاب واستجاب بمعنى واحد أَنِّي أى بانى أو قائلا انى لا أُضِيعُ أى لا أحبط عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أيها المؤمنون مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى عن أم سلمة قالت يا رسول الله انى اسمع الله يذكر الرجال فى الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت هذه الآية أخرجه الترمذي والحاكم وصححه وابن أبى حاتم وعبد الرزاق وسعيد بن منصور بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ قال الكلبي فى الدين والنصرة والموالاة - وقيل فى النسب والانسانية فان كلكم من آدم وحواء الذكر من بطن الأنثى والأنثى من صلب الذكر فتثأب النساء على الأعمال كما يثاب الرجال - والجملة معترضة لبيان شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمال ثم فصل عمل العاملين على سبيل التعظيم فقال فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي فى طاعتى ودينى أو بسبب ايمانهم بي ومن اجلى وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا قرأ ابن عامر وابن كثير قتّلوا بتشديد التاء للتكثير قال الحسن يعنى انهم قطعوا فى المعركة والباقون بالتخفيف وقرأ حمزة والكسائي قتلوا وقتلوا بتقديم المبنى للمفعول على المبنى
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 204(1/1186)
للفاعل على عكس قراءة الجمهور وعكس الترتيب فى الذكر لا يوجب الاختلاف فى المعنى لان الواو لمطلق الجمع دون الترتيب وقيل فى وجه قراءة حمزة والكسائي ان معناه قتل بعضهم وقاتل بقيتهم ولم يهنوا وما استكانوا بقتل أصحابهم يقول العرب قتلنا بنى فلان أى بعضهم وقيل معناه قتلوا وقد قاتلوا قبل ذلك يعنى ما قتلوا منهزمين بل مقبلين على القتال والله اعلم لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ لاسترنها وأمحونها وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً قال المبرد مصدر مؤكد أى لاثيبنهم بذلك ثوابا والأظهر ان ثوابا حال من جنات وكانه أراد جعل ثوابا من عند الله جزاء فوق الجنات مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تفضلا منه على ثواب جزاء اعماله - وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة وجملة لاكفرن وما عطف عليه جواب قسم محذوف والقسم مع الجواب خبر للموصول وَاللَّهُ عِنْدَهُ فى قدرته ويختص به حُسْنُ الثَّوابِ (195) أى الثواب الحسن أو احسن الثواب الذي لا يقدر عليه غيره - أو المعنى والله تعالى درجات قربه وعنديته احسن ثوابا من الجنات وما فيها - قال البغوي كانت المشركون فى رخاء ولين من العيش يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين ان اعداء الله تعالى فيما نرى من الخير ونحن فى الجهد فانزل الله تعالى.(1/1187)
لا يَغُرَّنَّكَ الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمراد منه أمته أو الخطاب لكل أحد تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى ضربهم فى الأرض وتصرفهم فِي الْبِلادِ (196) للتجارات والمكاسب - والمعنى لا تنظر إلى ما هم فيه من السعة ولا تغتر بظاهر ما ترى من تبسطهم فى المعاش - فالنهى فى المعنى للمخاطب وانما جعل للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب للمبالغة - عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تغبطن فاجرا فانك لا تدرى ما هو لاق بعد موته ان له عند الله قاتلا لا يموت يعنى النار رواه البغوي.
فى شرح السنة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدا محذوف أى ذلك متاع قليل - أو مبتدا خبره ظرف محذوف أى لهم متاع قليل لقصر مدته وقلته كمّا وكيفا عن المسور بن شداد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الدنيا فى الاخرة الا مثل ما جعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع - رواه مسلم ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) ما مهدوا لأنفسهم يعنى جهنم.
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 205
فِيها(1/1188)
لكن للاستدراك عند النحاة أى دفع توهم نشا مما قبل وذلك التوهم ان متاع الكافرين المتنعمين فى الدنيا لمّا كان قليلا فمتاع المتقين المعرضين عن اللذات يكون اقل قليلا فقال الله تعالى لدفع ذلك التوهم لكن الّذين اتّقوا الآية يعنى ان المتقين اكتسبوا فى الدنيا ما يكون لهم وسيلة لنعماء الاخرة فهم تمتعوا من الدنيا ما لا مزيد عليه - وعند علماء المعاني لكن لرد اعتقاد المخاطب وذلك ان الكافرين يزعمون انهم متمتعون من الدنيا والمتقين فى خسران عظيم نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صفة لنزلا - والنزل ما يعد للضيف النازل من الضيافة - ففى لفظة نزلا بيان لرفعة قدر المتقين حيث جعلهم أضياف الله والكريم يجعل خير ما عنده وما يقدر عليه للضيف - ونزلا منصوب على الحال من جنات والعامل فيه الظرف - وقيل انه مصدر مؤكد والتقدير أنزلوها نزلا - وجاز ان يكون منصوبا على التميز - وقيل تقديره جعل ذلك نزلا وَما عِنْدَ اللَّهِ من الثواب ودرجات القرب والرضاء والرحمة خَيْرٌ من متاع الدنيا ومن كل شىء لِلْأَبْرارِ (198) وضع المظهر موضع المضمر للمدح والتعظيم - عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مشربة وانه لعلى حصير ما بينه وبينه شىء وتحت رأسه وسادة من آدم حشوها ليف وان عند رجليه قرطا مصبورا وعند رأسه أهب معلقة فرايت اثر الحصير فى جنبه فبكيت فقال ما يبكيك فقلت يا رسول الله ان كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله فقال اما ترضى ان تكون لهما الدنيا ولنا الاخرة - وفى رواية قلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فان فارس والروم قد وسع عليهم وهم لا يعبدون الله قال اوفى هذا أنت يا ابن الخطاب أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم فى الحيوة الدنيا - متفق عليه وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا سجن المؤمن وسنته فإذا فارق الدنيا فارق السجن والسنة(1/1189)
رواه البغوي فى شرح السنة - وعن قتادة بن النعمان ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء رواه احمد والترمذي والله اعلم - روى النسائي عن انس وابن جرير نحوه عن جابر قال لما جاء نعى النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا عليه قال يا رسول الله تصلى على عبد حبشى فانزل الله تعالى.
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية وكذا فى المستدرك عن عبد الله بن الزبير قال نزلت فى النجاشي -
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 206(1/1190)
قال البغوي لما مات النجاشي نعاه جبرئيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم النجاشي فخرج إلى البقيع وكشف له إلى ارض الحبشة فابصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر اربع تكبيرات واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلى على علج حبشى نصرانى لم يره قط وليس على دينه فانزل الله هذه الآية - وقال عطاء نزلت فى أهل نجران أربعين رجلا اثنان وثلاثون من ارض الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فامنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واخرج ابن جرير عن ابن جريح قال نزلت فى عبد الله بن سلام وأصحابه - وقال مجاهد نزلت فى مومنى أهل الكتاب كلهم وان من أهل الكتاب لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ حق إيمانه بصفاته وأسمائه دخلت اللام على اسم ان للفصل بالظرف وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التورية والإنجيل والزبور خاشِعِينَ لِلَّهِ أى خاضعين متواضعين حال من فاعل يؤمن وجمعه باعتبار المعنى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ حال بعد حال أى غير مشترين بايات التورية التي فيها نعت محمد صلى الله عليه وسلم ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله المحرفون من الأحبار لاجل المأكل أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى اجرا مخصوصا بهم زائدا على أجور غيرهم كما فى قوله تعالى أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ - وعن أبى موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب أمن بنبيّه وأمن بمحمد الحديث متفق عليه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) لعلمه بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمل روى انه تعالى يحاسب الخلق فى قدر نصف نهار من ايام الدنيا - والمراد ان الاجر الموعود سريع الوصول إليهم فان سرعة الحساب كناية عن سرعة(1/1191)
الجزاء - .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على دينكم ومشاق التكليفات ومخالفة الهوى وعلى محبة ربكم وطاعته لا تدعوها فى شدة ولا رخاء وعلى جهاد أعدائكم وعلى البليات والشدائد - قال جنيد الصبر حبس النفس على المكروه بغير جزع وَصابِرُوا يعنى غالبوا اعداء الله فى الصبر على شدائد الحرب فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 207
ما لا يَرْجُونَ(1/1192)
تخصيص بعد التعميم - والمصابرة كما يوجد فى مقابلة الكفار فى الجهاد الأصغر يوجد فى مقابلة النفس فى الجهاد الأكبر أيضا فان النفس يتحمل من الشدائد والمكاره فى طلب الدنيا وشهواتها ما لا يخفى وقد يتحمل لنيل النعيم الباقية فى الجنات العلى فلا بد للصوفى ان يتحمل اكثر من ذلك كلها فى طلب المولى جلّ وعلى وَرابِطُوا أبدانكم وخيولكم فى الثغور مترصدين للغزو - أو أنفسكم وقلوبكم وأبدانكم فى ذكر الله والطاعات وانتظار الصلاة بعد الصلاة فى المساجد وحلق الذكر واصل الربط الشد يعنى شد الخيل فى الثغور ثم قيل ذلك لكل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه وان لم يكن له مركب ثم قيل لكل مقيم على شىء يدفع عنه ما يمنعه - والمرابطة المغالبة فى الرباط على من عداه يعنى ان الأعداء يربطون لمحاربتكم فانتم غالبوهم فى ذلك - عن سهل بن سعد الساعدي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رباط يوم فى سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد فى سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها - رواه البغوي من طريق البخاري والفصل الأول فى الصحيحين عن سهل والفصل الثالث فيهما عن انس - وعن سلمان الخير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان له اجر صيام شهر مقيما ومن مات مرابطا اجرى له مثل ذلك الاجر واجرى عليه من الرزق واو من من الفتان رواه البغوي - ورواه مسلم بلفظ رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وان مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله واجرى عليه رزقه وأمن من الفتان - وأخرجه احمد وابن أبى شيبة بلفظ من رابط يوما أو ليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته الا لحاجة - وعن فضالة بن عبيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل ميت يختم على عمله الا الذي مات مرابطا فى سبيل الله فانه(1/1193)
ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر رواه الترمذي وأبو داود ورواه الدارمي عن عقبة بن عامر - وعن عثمان رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رباط يوم فى سبيل الله خير من الف يوم فيما سواه من المنازل رواه الترمذي والنسائي - وقال البغوي قال أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يكن فى زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة خلف الصلاة - ودليل هذا التأويل
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 208
حديث أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط رواه البغوي وروى مسلم والترمذي عن أبى هريرة نحوه وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الفلاح الفوز بالمحبوب بعد الخلاص من المكروه - ولعل لتغيّب المال لئلا يتكلوا على الآمال عن تقديم الأعمال - عن عثمان بن عفان من قرأ اخر ال عمران فى ليلة كتب له قيام ليلة رواه الدارمي - وعن أبى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرءوا الزهراوين البقرة وال عمران فانهما تأتيان يوم القيامة كانهما غمامتان - أو كانهما غيابتان أو كانهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما رواه مسلم وعن النواس بن سمعان قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يؤتى بالقران يوم القيامة واهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وال عمران كانهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كانها فرقان من طير صوافّ تحاجّان عن صاحبهما رواه مسلم - وعن مكحول قال من قرأ سورة ال عمران « 1 » يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى اللّيل رواه الدارمي - الحمد(1/1194)
للّه ربّ العلمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد واله وأصحابه أجمعين - وقع الفراغ من تفسير سورة ال عمران يوم الاثنين ثامن ذى القعدة سنة الف ومائة وسبع وتسعين من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم - يتلوه تفسير سورة النساء ان شاء الله تعالى -
_________
(1) وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن مليك من قرأ السورة التي تذكر فيه ال عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى تحجب الشمس لشخص - منه رحمه الله تعالى -
بتصحيح : مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى (محمد غفران مظفر نگرى).
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 209
فهرس للتّفسير المظهرى سورة ال عمران(1/1195)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة ال عمران - 2 تحقيق اسم الله الأعظم وما ورد فيه - 4 حديث ان خلق أحدكم يجمع فى بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث ونحوه - 7 بحث الآيات المحكمات والمتشابهات وتأويل المتشابهات وان ما يتعلق به التكليف لا يجوز تأخير بيانه عن وقت الحاجة إلخ 9 حديث ما من ثلب الا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ونحوه - 13 مسئلة الخلف فى الوعد محال لا فى الوعيد - 13 قصة غزوة بدر اجمالا - 14 بحث تزيين الشهوات - 17 بحث ما ورد فى نعماء الجنة وان فيها جميع ما يشتهونه - 19 السر فى ان نعيم الدنيا غير مرضية لله تعالى بخلاف نعيم الاخرة - 21 وسر شغف يعقوب بيوسف عليهما السلام - 21 مسئلة مجرد الايمان سبب لاستحقاق المغفرة وما ورد فيه - 22 الاستغفار بالأسحار - 22 حديث ينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة - 22 حديث الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله إلخ - 24 ما ورد فى قوله تعالى شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ إلخ - 24 حديث اىّ الناس أشد عذابا قال رجل قتل نبيا ورجل امر بالمنكر - 26 قوله تعالى قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ - 29 مسئلة الوجود خير محض مستفاد من الواجب وحصة الشر المستند إلى العدم ذاتى نتمكن - 30 ما ورد فى قراءة قل اللّهمّ ملك الملك - 31 فصل الحب فى الله والبغض فى الله والنهى عن ولاية الفاسق 32 مسئلة العقبة 33 حديث ان اللّه يد فى العبد فيضع عليه كتفه - 34 حديث ما منكم من أحد الا سيكلمه ربه - 35 الحب ما هو من العبد لله وما هو من الله لعبده واستلزام حب الله اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم - 37 حديث كل ابن آدم يطعن الشيطان فى جنبه غير عيسى - 41 وبيان عصمة فاطمة وأولاده عليهم السلام - 42 ذكر كرامة مريم وكرامة فاطمة - 43 ما ورد فى فضل يحيى عليه السلام 45 ما ورد فى فضائل مريم - وخديجة - وعائشة وفاطمة وآسية امرأة فرعون - 47 فضائل عيسى عليه السلام ومعجزاته 50 ما ورد فى رفع(1/1196)
عيسى عليه السلام إلى السماء ونزوله قبل القيامة 56 مسئلة حجية القياس - 60 قصة المباهلة ورد ما استدل به الروافض على نفى خلافة الخلفاء الثلاثة رضى الله عنهم - 61 ما ورد فى انه لا يجوز الاخذ بقول العلماء والصوفية فيما لا مستند لهم من الشرع - 64 حديث لا طاعة للمخلوق فى معصية الخالق - 64 مسئلة إذا صح الحديث على خلاف مذهبه يجب العمل به 64 مسئلة لا يجوز اتخاذ المساجد والسرج على القبور والطواف ونحو ذلك - 65 حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل 65 قصة هجرة جعفر إلى النجاشي ومنازعة كفار قريش معه بحضرة النجاشي - 68 اختلاف القراء فى الإشباع والاختلاس والإسكان فى يؤدّه ونؤته وأمثالها - 73 حديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا اله الا الله 74 ما ورد فى آيات المنافق - 74 حديث من حلف على يمين صبر - 75 ما ورد فى يمين الغموس 76 حديث الدواوين ثلاثة لا يعبأ به - ولا يترك شيئا ولا يغفر - 76 حديث ثلاثة لا يكلمهم الله الآية المسيل إزاره والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب وفى رواية منها رجل على فضل ماء فى فلاة يمنعه ورجل بايع اماما للدنيا - وفى رواية منها شيخ زان عائل متكبر - 77 حديث يقول الله لاهون أهل النار عذابا لو ان لك ما فى الأرض ا كنت تفتدى به قال نعم الحديث - 86 قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا وذكر الزكوة والصدقة من أحب أمواله - 86 حديث وعليكم بالصدق وإياكم والكذب - 87 اوّل بيت وضع بيت اللّه - 92 ما ورد فى فضل الصلاة فى المسجد الحرام وللاقصى وغيرهما وهل هو فى الفرائض فقط أو مطلقا - 93 ما ورد فى حرمة البيت وما فيه من الآيات - 94 مسئلة وجوب الحجج وشرائط وجوبه وما فيها من اختلاف الائمة وحجج كلمهم - 95 التغليظ فى ترك الحجج - 100 بحث صورة الكعبة وخليقة الكعبة والقران والصلاة - 101 قصة كيد اليهود لايقاظ الفتنة بين الأنصار بعد ايتلافهم 102 حديث انى(1/1197)
تارك فيكم كتاب الله واهل بيتي وذكر اقطاب الإرشاد - 103 حق التقوى بغناء القلب والنفس وغيرهما ووجوب طريقة الصوفية 104 ما ورد فى اتباع الإجماع وما ورد فى تفرق الامة إلى ثلاث وسبعين فرقة - 106 حديث ان الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا - 106 قصة بدو اسلام الأنصار وبدو ألفتهم وبيعة العقبة الاولى - 108 وبيعة العقبة الثانية - 112 ما ورد فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم - 114 حديث اختلاف العلماء رحمة يعنى
فى الضروع - 116 قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فى أهل الأهواء - 116
التفسير المظهري ج 2قسم 1 ، ص : 210(1/1198)
و كذا حديث انى على الحوض حتى انظر من يرد علىّ منكم وسيؤخذ ناس دونى - 117 حديث بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم - 117 حديث لا يدخل الجنة أحدا عمله - 117 ما ورد فى فضل هذه الامة - وفى فضل الصحابة رضى الله عنهم - 118 ذكر قوة ارشاد رجال هذه الامة - 119 حديث ا تدرون ما الايمان بالله وحده - 120 حديث تأخير صلوة العشاء - 122 النهى عن مباطنة الكفار واهل الأهواء وطلب الأعالي للمصاحبة - 124 وما يدل على جواز مودة الكفار إذ لم يكن له عداوة مع مؤمن لاجل إيمانه - 125 حديث هل نفعت أبا طالب شيئا - 125 ما ورد فى انه من يصبر ويتقى ويتوكل على الله لا يضره شىء فى الدنيا - 127 قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم للغزو يوم أحد ونزول القرآن فى غزوة أحد من قوله تعالى وَإِذْ غَدَوْتَ إلى قوله تعالى لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ ستين اية - 127 ذكر غزوة بدر مجملا - 132 ذكر محاصرة قريظة - 133 ذكر قتال جبرئيل وميكائيل يوم أحد - 133 ما روى انه صلى الله عليه وسلم لعن الكفار يوم أحد ودعا على رعل وذكران شهرا - ونزول النهى عنه - 135 النهى عن أكل الربوا وانه ربما يوجب تسارة يفضى إلى الكفر 137 حديث بادروا بالأعمال سبعا - 137 ما ورد فى فضل السخاء - 138 ما ورد فى كظم الغيظ - 139 ما ورد فى الإحسان وكونه محبوبا لله - 139 ما ورد فى الاستغفار وصلوة الاستغفار - 141 حديث ما أصر من استغفر - 141 حديث المستغفر من الذنوب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه - 141 مسئلة الإصرار على الصغيرة كبيرة - 141 قصة القتال يوم أحد .. 144(1/1199)
و من يرد بعمله نفس الشكر لا الدنيا ولا الاخرة - 151 مسئلة إنزال المصيبة بالمؤمنين تفضل من الله تعالى بهم - 155 مسئلة لا يجوز الطعن فى الصحابة لاجل الفرار يوم أحد - 160 حديث من تشبه بقوم فهو منهم - 160 ما ورد فى المشاورة - 161 بحث التوكل وما هو - 162 ما ورد فى الغلول - 163 فضائل قريش وفضائل العرب - 165 عدد شهداء أحد - 167 فضائل الشهداء - 169 مسئلة هل يبلغ درجة الشهيد غيره - 171 قصة سرية بيرمعونة - 173 مسئلة الشهيد لا يغسل اجماعا - وهل يغسل مجنب استشهد 174 مسئلة اختلاف الائمة فى الصلاة على الشهيد - 175 فصل ما ورد انه صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمانى سنة 177 قصة غزوة حمراء الأسد - 178 قصة غزوة بدر الصغرى - 180 حديث إذا سالت فسئل الله وإذا استعنت فاستعن بالله إلخ - 183 حديث اىّ الناس خير قال من طال عمره وحسن عمله اىّ الناس شر قال من طال عمره وساء عمله - 184 ما ورد فى البخل وترك الزكوة 186 حديث القبر روضة من رياض الجنة إلخ - 189 قصة سرية محمد بن مسلمة وابى نائلة لقتل كعب بن الأشرف - 191 مسئلة هل يجوز قتل الكافر المعاهد بسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم - 193 مسئلة الصبر ما هو وانه لا ينافى الانتقام من الكفار - 194 ما ورد فى كتمان العلم - 194 مسئلة صلوة المريض على جنبه أو مستلقيا - 197 تحقيق معنى الفكر وما ورد فى النهى عن التفكر فى ذات الله تعالى وامتناع تعلق العلم الحصولى بل العلم الحضوري أيضا فى مرتبة الذات وان العلم فى تلك المرتبة وراء العلمين - 199 حديث لا تغبطن فاجرا إلخ 204 حديث ما الدنيا فى الاخرة الا مثل ما جعل أحدكم إصبعه فى اليم إلخ - 204 حديث عمران كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله - 205 ما ورد فى كون الدنيا سجن المؤمن ونحو ذلك - 205 حديث صلوة الجنازة على النجاشي غائبا - 206 ما ورد فى الصبر والمصابرة والرباط وانتظار الصلاة بعد الصلاة - 207 فضائل سورة ال(1/1200)
عمران وخواتمه 25 ذيقعدة سنه 1197 ه 208 تمت فهرس سورة ال عمران إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا كتاب جليل صنف لتذكرة الشيخ الشهيد سيّدنا ومولانا ميرزا جانجانان مظهر قدس سره الموسوم بالتّفسير المظهرى منه النّساء تأليف الشيخ الأكمل بيهقى الوقت علم الهدى مولانا القاضي محمد ثناء اللّه العثماني الحنفي المظهرى النقشبندي الفاني فتى رضى الله عنه وعن ابائه ومشائخه ولد رحمه الله فى سنة ثلاث وأربعين بعد الف ومائة من الهجرة أو قبله بسنة أو سنتين بفانى فت ونشابها فحفظ القرآن وعمره سبع سنين واشتغل بعده بأخذ العلوم النقلية والعقلية فتبحر فيها ثم ارتحل إلى الدهلى فلزم العلامة البحر الفهامة مولانا الشاه ولىّ اللّه المحدث الدهلوي فسمع الحديث منه بتمامه وكماله وتفقه فيه - وأخذ الطريقة العالية النقشبندية اولا من شيخ الشيوخ مولانا خواجه محمد عابد السنامى ثم انسلك بخدمت الشهيد مولانا الشيخ ميرزا جانجانان مظهر وأخذ منه الطريقة الاحمدية بكماله ثم رجع إلى وطنه واقام به وأفنى عمره الشريف فى نشر العلوم وفصل الخصومات وإفتاء الاسئلة والف كتبا عديدة فى التفسير والفقه وغيرها تجاوز عددها من ثلاثين ولم يزل مقبلا متوجها إلى الله وازديادا مجتهدا فى الخيرات إلى ان أدركته المنية فتوفى فى غرة الرجب المرجب سنة الف ومائتين وخمس وعشرين من الهجرة على صاحبها التحية مكتبه رشيديّه سركى رود كوئه.(1/1201)
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 2
القسم الثاني من الجزء الثاني
سورة النساء
نحمدك اللّهمّ مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء وتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بيدك الخير انّك على كلّ شىء قدير ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيّئاتنا وتوفّنا مع الأبرار ، وصلّ وسلّم وبارك على حبيبك ونبيّك سيّدنا وشفيعنا ومولانا محمّد الامّىّ المبعوث إلى جميع الخلق رحمة وهدى صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى آله وأصحابه أجمعين سورة النّساء مدنيّة وآياتها مائة وستّ وسبعون روى البيهقي فى الدلائل من طرق عن ابن عباس قال نزلت سورة النساء بالمدينة وكذا أخرج ابن المنذر عن قتادة واخرج البخاري عنه ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للموجودين عند النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتبعهم الناس أجمعون اتَّقُوا رَبَّكُمُ أى العقاب بان تطيعوا الَّذِي خَلَقَكُمْ فى بدو الأمر مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم عليه السلام وَخَلَقَ عطف على خلقكم أو على محذوف تقديره خلقها وخلق مِنْها زَوْجَها يعنى حواء بالمد من ضلع من أضلاعها اليسرى ، عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم استوصوا بالنساء خيرا فانها خلقت من ضلع آدم الحديث متفق عليه ، واخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال خلق حواء من قصرى أضلاعه ، واخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن مجاهد قال خلق حواء من آدم وهو نائم فاستيقظ الحديث وجملة خلقها وخلق منها زوجها « 1 » تقرير لخلقكم من نفس واحدة ، وَبَثَّ مِنْهُما أى نشر من آدم وحواء رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً كثيرة غيركم أيها المخاطبون اكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها إذ الحكمة تقتضى ان تكون النساء اكثر من الرجال حتى أباح الله تعالى لرجل أربعا من النساء وذكّر كثيرا حملا على الجمع ورتب
_________
((1/1202)
1) أخرج إسحاق وابن عساكر عن ابن عباس قال ولد لادم أربعون ولدا عشرون غلاما وعشرون جارية منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 3
الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على كمال القدرة والنعمة المقتضيين الخشية والطاعة وفيه تمهيد للامر بالتقوى فى صلة الأرحام وأداء حقوق العباد وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على اتّقوا ربّكم كأنَّه قيل اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستجمعا لجميع صفات الكمال أو لكونه مستحقا بذاته للخشية والطاعة الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف احدى التاءين والباقون بالتشديد على ادغام التاء فى السين يعنى يسئل به بعضكم بعضا ويقول أسئلك بالله وَالْأَرْحامَ بالنصب عطفا على الله يعنى واتقوا الأرحام ان تقطعوها عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعنى قطعه الله متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فاخذت بحقوى « 1 » الرحمن فقال مه قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال أ لا ترضين ان اصل من وصلك واقطع من قطعك قالت بلى يا ربّ قال فذاك متفق عليه وعن عبد الله بن عمر وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الواصل المكافي ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها رواه البخاري وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب ان يبسط له فى رزقه وينساه له فى اثره فليصل رحمه متفق عليه وعن أبى هريرة ان الرجل قال يا رسول الله ان لى قرابة أصلهم ويقطعونى واحسن إليهم ويسيئون اليّ واحلم عنهم ويجهلون علىّ فقال لئن كنت كما قلت فكانما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك رواه مسلم وقرا حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور وهذه الآية دليل للكوفيين على جواز العطف(1/1203)
على الضمير المجرور من غير إعادة الجار فان القراءة متواترة والمعنى يتساءلون بالله وبالأرحام « 2 » ويقول للاستعطاف بالله وبالرحم افعل كذا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) حافظا مطلقا فلا تغفلوا عنه ، قال مقاتل والكلبي ان رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ يتيم له فلما بلغ اليتيم طلب
_________
(1) الحقو معقد الإزار وسمى به الإزار مجازا قال فى النهاية لما جعل الرحم شجنه من الرحمن استعار بما الاستمساك به كما يستمسك القريب بقريبه والنسيب بنسيبه والحقو فيه مجاز وتمثيل منه رحمه اللّه - [.....]
(2) أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن مجاهد تساءلون به والأرحام قال يقول أسئلك باللّه وبالرحم وكذا اخرجوا عن مجاهد وابراهيم والحسن منه رحمه الله -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 4
المال فمنعه عمه فترافعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت.(1/1204)
وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية فلما سمع العم قال اطعنا الله واطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم من يوق شح نفسه ويطع ربّه هكذا فانه يحلّ داره يعنى جنته فلما قبض الفتى ماله أنفقه فى سبيل اللّه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ثبت الاجر وبقي الوزر فقال ثبت الاجر للغلام وبقي الوزر على والده رواه الثعلبي والواحدي وذكره البغوي والخطاب للاولياء والأوصياء واليتامى جمع يتيم وهو صغير لم يكن له اب ولاجد مشتق من اليتم « 1 » بمعنى الانفراد ومنه الدرة اليتيمة ، قال البيضاوي اما على انه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ثم قلب فقيل يتامى أو على انه جمع على يتمى كاسرى لأنه من باب الآفات ثم جمع يتامى كاسرى وأسارى والاشتقاق يقتضى وقوعه على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء لكن العرف خصّصه بمن لم يبلغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الاحتلام ولا صمات يوم إلى الليل رواه أبو داود بإسناد حسن عن على فالحديث اما مبنى على العرف أو هو بيان للشريعة يعنى لا حكم اليتم بعد البلوغ ومعنى الآية أتوا أموالهم إذا بلغوا بالإجماع ولدلالة قوله تعالى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ فانه لما منع المال من السفيه مع كونه عاقلا بالغا فلأن يمنع من الصغير اولى فاليتيم فى الآية اما مورد على الأصل أو على الاتساع بقرب عهدهم بالصغر حثا على ان يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم وَلا تَتَبَدَّلُوا أى لا تستبدلوا والتفعّل بمعنى الاستفعال سائغ يقال تعجل بمعنى استعجل الْخَبِيثَ أى مال اليتيم الذي هو عليكم حرام خبيث بِالطَّيِّبِ أى الحلال من أموالكم ، قال سعيد بن جبير والزهري والسدى كان اولياء اليتامى يأخذون الجيّد من مال اليتيم ويجعلون مكانه الزدى فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها(1/1205)
المهزولة ويأخذ الدرهم الجيّد ويجعل مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم فنهوا عن ذلك وقال مجاهد معنى الآية لا تتعجل الرزق الحرام قبل ان يأتيك الرزق الحلال الموعود من اللّه وقيل معناه لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيّب الذي هو حفظها ودفعها إلى المالك وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ أى اليتامى مضمومة إِلى أَمْوالِكُمْ وقيل إلى هاهنا بمعنى مع كذا روى ابن المنذر عن قتادة إِنَّهُ أى ذلك الاكل كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
_________
(1) فى الأصل اليتيم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 5
ذنبا عظيما كذا قال ابن عباس عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات فذكر منها أكل مال اليتيم متفق عليه.(1/1206)
وَ إِنْ خِفْتُمْ أيها الأولياء أَلَّا تُقْسِطُوا أى ان لا تعدلوا وتجوروا من قسط بمعنى جار ومنه القاسطون والهمزة للسلب يعنى خفتم ان تجوروا فِي الْيَتامى اللاتي فى حجوركم إذا نكحتموهن فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ الاجنبيات غير تلك اليتامى ويطلق اليتامى على الذكور والإناث ، روى البخاري فى الصحيح عن الزهري قال كان عروة بن الزبير يحدث انه سال عائشة عن هذه الآية قال هى اليتيمة فى حجر وليها فيرغب يعنى الولي غير المحرم مثل ابن العم فى جمالها ومالها ويريد ان يتزوجها بأدنى من سنة نسائها يعنى ادنى من مهر مثلها فنهوا عن نكاحهن الا ان يقسطوا لهنّ فى إكمال الصداق وأمروا بنكاح من سواهن من النساء قالت عائشة ثم استفتى الناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فبين اللّه فى هذه الآية ان اليتيمة إذا كانت ذات جمال أو مال رغبوا ولم يلحقوا بسنتها بإكمال الصداق وإذا كانت مرغوبا عنها فى قلة الجمال والمال تركوها والتمسوا غيرها من النساء قال فكما تتركونها حين ترغبون عنها ليس لكم ان تنكحوها إذا ترغبوا فيها الا ان تقسطوا لها فى الاوفى من الصداق وتعطوها حقها وقال البغوي قال الحسن كان الرجل من أهل المدينة تكون عنده الأيتام فيهن من يحل له نكاحها فيتزوجها لاجل مالها وهى لا تعجبه كراهية ان يدخله غريب وقال عكرمة فى تفسير الآية وهى رواية عطاء عن ابن عباس انه كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر فإذا صار معدما من مؤن نسائه مال إلى مال يتيم فى حجره فانفقه فقيل لهم لا تزيدوا على اربع حتى يحوجكم إلى أخذ اموال اليتامى وقيل لمّا نزل الوعيد فى أكل اموال اليتامى كانوا يتحرجون فى أموالهم ويترخصون فى النساء ويتزوجون ما شاءوا وربما لا يعدلون فنزلت فقال(1/1207)
الله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فى حقوق اليتامى فخافوا أيضا ان لا تعدلوا بين النساء فانكحوا مقدار ما يمكنكم القيام بحقوقهن أخرجه ابن جرير وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والسدى وقيل كانوا يتحرجون عن ولاية اليتامى ولا يتحرجون من الزنى فقيل لهم ان خفتم ان لا تعدلوا فى امر اليتامى فخافوا الزنى فانكحوا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 6(1/1208)
ما طاب لكم وهذا قول مجاهد وانما عبر عنهن بما ذهابا إلى الصفة لان ما يجىء فى صفات من يعقل فكانّه قيل الطيبات من النساء أو اجراهن مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهن كما فى ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قيل معنى ما طاب لكم ما أدركت البلوغ يقال طابت التمرة أى أدركت وهذا اولى بتأويل رواه البخاري عن عائشة يعنى لا تنكحوا اليتامى وانكحوا البالغات لكن كلمة لكم يابى عنه إذ كان المناسب حينئذ فانكحوا ما طاب من النساء وقيل معناه ما حلّ لكم من النساء لان منهن المحرمات كاللاتى فى اية التحريم وهذا انسب بقول مجاهد يعنى خافوا الزنى وانكحوا ما حل لكم لكن على هذا التأويل يلزم ان يكون الآية مجملة والإجمال خلاف الأصل فالاولى ان يقال معناه ما استطاب منهن أنفسكم ومالت أنفسكم إليهن وهذا انسب بجميع التأويلات فالمعنى على قول عائشة ان خفتم ان لا تقسطوا فى اليتامى لضعفهن وعدم من يذب عنهن فوت حقوقهنّ فانكحوا ما طاب لكم من النساء فان الحامى حينئذ بحقوقهن ميلان أنفسكم إليهن سواء كانت يتيمة أو بالغة وأيضا كون المنكوحة مرغوبة للنفس امنع من وقوعه فى الزنى وأيضا يناسب ان يقال لا تزيدوا على اربع بل اقتصروا على المرغوبات فان المرغوبات قل وجودهن والله اعلم (مسئلة) ولهذا سنّ للخاطب ان ينظر إلى وجه المخطوبة وكفيها قبل النكاح اجماعا ، وقال داود بجواز النظر إلى سائر جسدها سوى السوئتين عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خطب أحدكم المرأة فان استطاع ان ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل رواه أبو داود وعن المغيرة بن شعبة قال خطبت امراة فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نظرت إليها قلت لا قال فانظر إليها فانه أحرى ان يؤدم بينكما رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ معدولة عن اعداد مكررة وهى ثنتين ثنتين وثلاث ثلاث واربع اربع وهى غير منصرفة للعدل(1/1209)
و الصفة فانها بنيت صفات
بخلاف أصولها فانها لم تبن لها ، وقيل لتكرير العدل فانها معدولة عن لفظ ثنتين وعن معناه اعنى ثنتين مرة بعد اخرى منصوبة على الحال من ما طاب مفعول فانكحوا منكرة عند البصريين وقال الكوفيون هى معرفة لامتناع دخول حرف التعريف عليها فهى منصوبة على البدلية من ما طاب ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 7
((1/1210)
مسئلة) أجاز الروافض بهذه الآية تسعا من المنكوحات وكذا نقل عن النخعي وابن أبى ليلى لاجل العطف بالواو التي هى للجمع قالوا معنى الآية فانكحوا ثنتين وثلاثا وأربعا ومجموع ذلك تسع وأجاز الخوارج ثمانى عشرة نظرا إلى تكرار المعنى وكلا القولين باطلان ، اما قول الخوارج فلان مثنى وأخواتها معدول عن عدد مكرر لا تقف إلى حد بإزاء ما يقابله لا لمكرر مرتين فمن قال لجماعة خذوا من هذه الدراهم مثنى معناه لياخذ كل رجل منكم منها درهمين درهمين وليس المعنى خذوا منها اربعة دراهم ولو كان كذلك فلا يستقيم معنى فانكحوا مثنى وثلث وربع إذ لا يتصور لجميع الناس نكاح امرأتين أو ثلاث أو اربع أو تسع أو ثمان عشرة ولذا قال صاحب الكشاف لو أفردت لم يكن معنى يعنى لو قيل فانكحوا ثنتين وثلاثا وأربعا لم يستقم المعنى واماما قالت الروافض ان المراد بها اباحة تسع لكل رجل فلانه فى عرف البليغ لا يؤدى معنى التسع بلفظ ثنتين وثلاث واربع كما لا يخفى بل المعنى انه يجوز لكل أحد نكاح ثنتين وكذا يجوز لكل نكاح ثلاث وكذا يجوز لكل نكاح اربع قال البيضاوي لو ذكرت باو لذهب تجويز الاختلاف فى العدد وفيه انه لو كان كذلك لذهب بالواو تجويز الاتفاق « 1 » والحق انه لا تفاوت فى فهم المقصود بين مثنى أو ثلث وبين مثنى وثلاث إذ لا يلتفت فى أحد الصورتين إلى اشتراط ان يكون جميع الامة على نحو واحد من هذه الاقسام المجوزة البتة أو على أنحاء مختلفة البتة وانما جىء بالواو لأنه اقرب لافادة التوزيع عند مقابلة المجموع بالمجموع - (مسئلة) لا يجوز ان يتزوج ما فوق الاربعة من النساء عند الائمة الاربعة وجمهور المسلمين وحكى عن بعض الناس اباحة اىّ عدد شاء بلا حصر لان قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ يفيد العموم ولفظ مثنى تعداد عرفى لا قيد كما يقال خذ من هذا البحر ما شئت قربة وقربتين وثلاثا ولو سلمنا كونه قيدا فالمعنى(1/1211)
اباحة نكاح ما طاب عن النساء حال كونهن مثنى وثلاث وربع وذا لا يدل على ففى الحكم عما زاد على الأربع الا بمفهوم العدد ولا عبرة بالمفهوم الا ترى ان قوله تعالى جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يدل على انه تعالى لم يجعل من الملائكة رسولا ذا « 2 » اجنحة زائدة على اربعة جناح كيف وقد صح انه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) لا يظهر وجه هذه الملازمة فان الواو لمطلق الجمع فالمعنى انكحوا أيها المخاطبون هذه الأنواع ، وهو صريح فى تجويز الجمع بين انواع القسمة منه رحمه الله فى الأصل ثلث واربع -
(2) فى الأصل ذى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 8(1/1212)
راى جبرئيل وله ستمائة جناح والأصل فى النكاح الحل على العموم لقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وقوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وقد صح انه صلى الله عليه وسلم تزوج تسعا والأصل عدم الخصوصية الا بدليل ولنا ان الآية نزلت فى قيس بن الحارث قال البغوي روى ان قيس بن الحارث كانت تحته ثمانى نسوة فلما نزلت هذه الآية قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلق أربعا وامسك أربعا قال فجعلت أقول للمرءة التي لم تلد منى يا فلانة أدبري والتي قد ولدت أقبلي فكان من النبي صلى اللّه عليه وسلم بيانا للاية وهو اعلم بمراد اللّه تعالى فظهران الأصل فى النكاح الحرمة والتضييق كما ذكرنا فى تفسير سورة البقرة فى مسئلة حرمة إتيان النساء فى أدبارهن فى تفسير قوله تعالى فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ وما قيل ان الأصل فيه الحل ممنوع وقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ المراد به ماوراء المحرمات من الأمهات وغيرهن المذكورات وذا لا يدل على العدد عموما ولا خصوصا بل على حل كل واحدة منهن وكذا قوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ الآية فان مقابلة الجمع بالجمع يقتضى انقسام الآحاد على الآحاد فظهران الآية ما سيقت الّا لبيان العدد المحلل لا لبيان نفس الحل لأنه عرف من غيرها قبل نزولها كتابا وسنة فكان ذكره هنا مقيّدا بالعدد ليس الا لبيان قصر الحل عليه أو هى لبيان الحل المقيد بالعدد لا مطلقا كيف وهو حال ممّا طاب فيكون قيدا فى العامل وهو الاحلال المفهوم من فانكحوا وأيضا عدم جواز ما فوق الأربع من النساء ثبت بحديث ابن عمران غيلان بن سلمة الثقفي اسلم وله عشر نسوة فى الجاهلية فاسلمن معه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم امسك أربعا وفارق سائرهن رواه الشافعي واحمد والترمذي وابن ماجة وحديث(1/1213)
نوفل بن معاوية قال أسلمت وتحتى خمس نسوة فسالت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال فارق واحدة وامسك أربعا فعمدت إلى اقدمهن صحبة عندى عاقر منذ ستين سنة ففارقتها رواه الشافعي والبغوي فى شرح السنة وعلى حصر الحل فى اربع انعقد الإجماع وقول بعض الناس فى مقابلة الإجماع باطل ولم يذهب إلى التعميم أحد من أهل البدع أيضا فانه حصر الخوارج فى ثمان عشرة والروافض فى تسع ، مسئلة إذا اسلم الرجل وتحته اكثر من اربع أو اختان أو أم وبنتها واسلمن معه أو هنّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 9(1/1214)
كتابيات فعند مالك والشافعي واحمد ومحمد بن الحسن انه يختار من الأكثر أربعا ومن الأختين ونحوهما واحدة وقال أبو حنيفة ان كان تزوجهن بعقدة واحدة فرق بينه وبينهن وان كان على التعاقب فنكاح من يحل سبقة جائز ونكاح من تأخر فوقع به الجمع أو الزيادة على الأربع باطل الّا فى أم وبنتها إذا دخل بهما لحرمة المصاهرة وما ذكرنا من الأحاديث وحديث الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه انى أسلمت وتحتى اختان قال اختر أيتهما شئت رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة حجة للجمهور على أبى حنيفة - (مسئلة : ) لا يجوز للعبد ان يتزوج اكثر من امرأتين عند الثلاثة وقال مالك وداود وربيعة يتزوج أربعا لشمول هذه الآية الأحرار والعبيد ، قلنا المخاطبون بهذه الآية الأحرار دون العبيد بدليل اخر الآية فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إذ لا ملك للعبيد وروى ابن الجوزي فى التحقيق عن عمر رضى اللّه عنه ينكح العبد امرأتين ويطلق طلقتين وتعتد الامة حيضتين وكذا روى البغوي فى المعالم وزاد فان لم تكن تحيض فشهرين أو شهرا ونصفا ، قال ابن الجوزي قال الحاكم اجمع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد لا ينكح اكثر من امرأتين ، رواه ابن أبى شيبة والبيهقي - فَإِنْ خِفْتُمْ أى خشيتم أيها الذين تريدون النكاح أَلَّا تَعْدِلُوا بين الأزواج المتعددة فَواحِدَةً أى فانكحوا واحدة وذروا الجمع وقرا أبو جعفر فواحدة بالرفع على انه فاعل فعل محذوف أو خبر مبتدا محذوف فتكفيكم واحدة أو فالمقنع واحدة أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعنى السراري لأنه لا يلزم فيهن من الحقوق ما يلزم فى المنكوحات ولا قسم لهن ولا حصر فى عددهن (مسئلة : ) تعليق الاختصار على(1/1215)
الواحدة أو التسرى بخوف الجور يدل على انه عند القدرة على أداء حقوق الزوجات والعدل بينهن الأفضل الإكثار فى النكاح والنكاح على التائق فرض عين اجماعا ان كان قادرا على النفقة وعلى غير التائق مسنون مستحبّ ما لم يخف الفتنة والتقصير فى أداء الحقوق ، عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فان الصوم له « 1 » وجاء متفق عليه ،
_________
(1) دق عروق الخصيتين ، قاموس 12 منه رح ، فى الأصل طليقتين 12 -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 10(1/1216)
و فى الصحيحين عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لكنى أصوم وأفطروا تزوج النساء فمن رغب عن سنتى فليس منى وعن انس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمر بالباه وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول تزوجوا الولود الودود انى مكاثر بكم الأتقياء يوم القيامة رواه احمد وعن أبى ذرّ ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعكاف بن خالد هل لك من زوجة قال لا قال ولا جارية قال لا قال وأنت موسر بخير قال وانا موسر قال أنت اذن من اخوان الشياطين ان سنتنا النكاح شراركم غرابكم واراذل موتاكم غرابكم اباء الشياطين وقال داود النكاح فرض عين على القادر على الوطي والانفاق تمسّكا بهذه الآية فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ واللّه اعلم ذلِكَ أى الاقتصار على الواحدة أو التسرّى أَدْنى من أَلَّا تَعُولُوا (3) « 1 » أى ان لا تميلوا يقال عال الميزاب إذا مال وعال الحاكم إذا جار وعول الفريضة الميل عن حدّ السهام المسمات وقال مجاهدان لا تضلوا وقال الفراء ان لا تجاوزوا ما فرض اللّه عليكم واصل العول المجاوزة ومنه عول الفرائض وقال الشافعي لا يكثر عيالكم وقال البغوي وما قاله أحد وانما يقال من كثرة العيال أعال يعيل إعالة ، قال أبو حاتم كان الشافعي اعلم بلسان العرب منا فلعله لغة ويقال هى لغة حمير وقال البيضاوي انه من عال الرجل عياله يعولهم إذا مأنهم فعبّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية وقرأ طلحة بن مصرف الّا تعيلوا فهى يؤيد قول الشافعي ولعلّ المراد بالعيال الأزواج وان أريد الأولاد فلان التسرى مظنة قلة الولد بالاضافة إلى التزوج لجواز العزل فيه كتزوج الواحدة بالاضافة إلى تزوج الاربعة ، .(1/1217)
وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ أى مهورهن سمى صداقا وصدقة قال الكلبي وجماعة هذا خطاب للاولياء أخرج ابن أبى حاتم عن أبى صالح قال كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم عن ذلك فانزل اللّه تعالى هذه الآية وكذا قال البغوي ان ولى المرأة كان إذا زوّجها فان كانت معهم فى العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيرا وان كان زوجها غريبا حملوها إليه على بعير ولم يعطوها من مهرها غير ذلك وقال الحضرمي كان اولياء النساء يعطى هذا أخته على ان يعطيه الاخر أخته ولا مهر بينهما فنهوا عن ذلك وأمروا بتسمية المهر فى العقد ويسمّى هذا النكاح شغارا -
_________
(1) أخرج ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عائشة عن النبي ص أي لا تجوروا. منه رحمه الله.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 11
((1/1218)
مسئلة : ) ونكاح الشغار باطل عند مالك واحمد وكذا عند الشافعي ان قال فى صلب العقد ان بضع كل واحدة منهما صداق الاخرى فان لم يقل ذلك بل قال زوجتك ابنتي على ان تزوجنى ابنتك بغير صداق فقال زوّجتك فالنكاح صحيح عند الشافعي أيضا ولزم المهر فيهما خلافا لمالك واحمد وهذا الخلاف مبنى على تفسير الشغار وقال أبو حنيفة العقد ان جائز ان ولزم مهر المثل فيهما على كلا الصورتين ولو قال زوّجتك بنتي على ان تزوجنى نبتك ولم يقل بغير صداق ولم يذكر الصداق فقيل جاز النكاح اتفاقا ولا يكون شغارا ولو زاد قوله على ان يكون بضع بنتي صداقا لبنتك فلم يقبل الاخر بل زوّجه بنته ولم يجعلها صداقا كان النكاح الثاني صحيحا اتفاقا والاوّل صحيحا عند أبى حنيفة دون الائمة الثلاثة احتجوا على بطلان الشغار بحديث ابن عمر رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار والشغار ان يزوّج الرجل ابنته على ان يزوّجه الاخر ابنته وليس بينهما صداق متفق عليه ورواه أيضا اصحاب السنن الاربعة وفى رواية لمسلم لا شغار فى الإسلام وجه الاحتجاج ان النفي رفع لوجوده الشرعي والنهى يقتضى فساد المنهي عنه والفاسد فى النكاح لا يفيد الملك اتفاقا وبالمعقول بان كل بضع يكون فى الشغار صداقا ومنكوحا فيكون مشتركا بين الزوج ومستحق المهر وهو باطل وأجاب الحنفية بان متعلق النهى والنفي مسمّى الشغار والمأخوذ فى مفهومه خلوه عن الصداق ، وكون البضع صداقا ونحن قائلون بنفي هذه الماهية وما صدق عليه شرعا فلا نثبت النكاح كذلك بل نبطله فبقى نكاحا سمّى فيه ما لا يصلح مهرا فينعقد موجبا لمهر المثل كالنكاح المسمّى فيه خمرا أو خنزيرا فما هو متعلق النهى لم نثبته وما أثبتناه لم يتعلق به النهى بل اقتضت العمومات صحته وقد أبطلنا كونه صداقا فبقى كله منكوحا ، وقال جماعة الآية خطاب للازواج أمروا بايتاء نسائهم الصدقات نِحْلَةً قال ابو(1/1219)
عبيدة يعنى عطاء من طيب نفس فهو منصوب على المصدرية من أتوا أو على الحال من فاعل أتوا أو من الصّدقات أى ناحلين أو منحولة من اللّه عليكم أى من خالص ما أعطاه اللّه لكم لا من مال الغير أو من مال الشبهة وقال أبو عبيدة لا يكون النحلة الّا مسمات معلومة وقال قوم عطية وهبة يعنى من اللّه تعالى ، وتفضلا منه عليهنّ فهو منصوب على انه حال من الصدقات ، ولمّا كان الصّداق عطية من اللّه تعالى على النساء
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 12(1/1220)
صارت فريضة وحقّا لهنّ على الأزواج ونظرا إلى هذا قال قتادة فريضة ، وقال ابن جريج فريضة مسماة وقال الزجاج تدينا من قولهم انتحل فلان كذا إذا دان به فعلى هذا مفعول له أو حال من الصدقات أى دينا من اللّه شرعه ، فَإِنْ طِبْنَ أى الزوجات لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ لمّا كان معنى قوله تعالى وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ أتوا كل واحدة منهن صداقها أفرد الضمير الراجع إلى الصداق المفهوم من الكلام يعنى طابت كل واحدة عن شىء من صداقها ولك ان تجعل الضمير راجعا إلى صداق ذكر فى ضمن الجمع وقيل الضمير للايتاء نَفْساً تميز عن الاسناد فى طبن يعنى ان طابت انفسهن والمعنى فان وهبن لكم من الصداق شيئا عن طيب انفسهنّ فجعل اللّه سبحانه العمدة طيب النفس للمبالغة ونقل الفعل من النفوس إلى أصحابها وعداه بعن لتضمين معنى التجافي والتجاوز وقال كلمة منه بعثا لهم على الاقتصار على الموهوب وان كان قليلا وترك الطمع فى الكل أو الكثير ، فَكُلُوهُ أى خذوه يعنى ذلك الشيء الموهوب هَنِيئاً مَرِيئاً (4) أى حلالا بلا تبعة الهنيء الطيب المساغ الذي لا ينغصه شىء وقيل ما يلتذ به الإنسان والمريء محمود العاقبة التام فى الهضم الذي لا يضرّ وهما صفتان من هنى يهنى على وزن ضرب يضرب ومرى يمرى على سمع يسمع أقيمتا مقام مصدريهما ، أو وصف مصدر محذوف أو جعلتا حالا من الضمير قرأ أبو جعفر هنيّا مريّا بتشديد الياء فيهما من غير همز وكذلك برىّ وبريّون وبريّا وكهيّة والباقون يهمزونها.(1/1221)
وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ « 1 » يعنى نسائكم وصبيانكم سماهم سفهاء استخفافا لعقولهم كذا قال الضحاك ومجاهد والزهري والكلبي وغيرهم وهو أوفق بقوله تعالى أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أى ما تقومون بها وتعيشون ، قال الضحاك بها يقام الحج والجهاد واعمال البر وبه فكاك الرقاب من النار وقال ابن عبّاس لا تعمد إلى مالك الذي خولك اللّه وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك فيكونوا هم الذين يقومون عليك ثم تنظر إلى ما فى أيديهم ولكن امسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم فى رزقهم وتربيتهم كما قال اللّه تعالى وَارْزُقُوهُمْ فِيها أى منها
_________
(1) أخرج الحاكم وصححه والبيهقي فى الشعب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ثلاثة يدعون اللّه فلا يستجاب لهم رجل كانت تحته امراة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد ورجل اتى سفيها ماله وقد قال اللّه تعالى وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 13
وَ اكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) لينا تطيب به أنفسهم وقال سعيد بن جبير وعكرمة ان هذه الآية فى مال اليتيم يكون عندك يقول اللّه سبحانه لا تؤته إياه وأنفق عليه وانما أضاف الأموال إلى الأولياء لانهم قوامها ومدبروها ، وهذا التأويل يناسب سوابق هذه الآية ولو أحقها فان الخطاب فيما سبق ولحق للاولياء وانما قال وارزقوهم فيها ولم يقل منها ليدل على ان تجعلوها مكانا لمرزقهم بان تتجروا فيها وتتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الانفاق.(1/1222)
وَ ابْتَلُوا الْيَتامى يعنى اختبروا عقولهم قبل البلوغ بان تدفعوا إليهم قليلا من المال حتى يتصرف فيه ويستبين حاله فان كان رشيدا يظهر رشده اوّل الأمر ففى هذه الآية دليل على جواز اذن الصبى العاقل فى التجارة وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه وقال الشافعي لا يجوز اذن التجارة للصبى والمراد بالابتلاء ان يكل إليه مقدمات العقد والاول اظهر حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أى صلاح النكاح والتوالد وذلك فى الغلام بالاحتلام والاحبال والانزال إذا وطى وفى الجارية بالحيض والاحتلام والحبل فان لم يوجد شىء من ذلك فيهما فباستكمال خمس عشرة سنة غلاما كان أو جارية عند مالك واحمد والشافعي وابى يوسف ومحمد وهو رواية عن أبى حنيفة وعليه الفتوى والمشهور عن أبى حنيفة باستكمال سبع عشرة فى الجارية وثمان عشرة فى الغلام وفى رواية تسع عشرة فى الغلام ، احتج الجمهور بحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود رواه البيهقي فى الخلافيات وسنده ضعيف وفى الصحيحين عن ابن عمر انه عرض على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد وهو ابن اربع عشرة سنة فلم يجزه ثم عرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فاجازه وعند احمد الإنبات أيضا علم على البلوغ وقال الشافعي هو علم فى المشركين وفى المسلمين عنه قولان وقال أبو حنيفة لا عبرة به والحجة فى الباب حديث عطية القرظي قال عرضت على النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم قريظة فشكوا فىّ فامر النبي صلى اللّه عليه وسلم ان ينظروا هل نبت بعد فنظروا فلم يجدونى أنبت فخلى عنى والحقنى بالسبي رواه اصحاب السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم فَإِنْ آنَسْتُمْ أى أبصرتم مِنْهُمْ بعد البلوغ رُشْداً أى هداية فى التصرفات وصلاحا فى المعاملات كذا قال أبو حنيفة ومالك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 14(1/1223)
و احمد وقال الشافعي صلاحا فى الدين وحفظا للمال وعلما بما يصلحه ، روى البيهقي من طريق على بن طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى آنستم منهم رشدا معناه رايتم منهم صلاحا فى دينهم بعد الحلم وحفظا لاموالهم وروى مثله الثوري فى جامعه عن منصور عن مجاهد والبيهقي من طريق يزيد بن هارون عن هشام بن حسان عن الحسن فالفاسق غير رشيد عند الشافعي رشيد عند غيره فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير عن البلوغ ، قوله فادفعوا جزاء لان الشرطية وإذا بلغوا ظرف فيه معنى الشرط متعلق بادفعوا وحتى للابتداء وما قبلها سبب لما بعدها ولا يجوز ان يكون حتى جارة متعلقا بالجملة السّابقة لان إذا لتضمنه معنى فى لا يصلح ان يدخل عليه حتى الجارة فالمعنى وابتلوا اليتامى حتى تدفعوا إليهم أموالهم إذا بلغوا النكاح وآنستم منهم رشدا فالابتلاء سبب للدفع والدفع مشروط بشرطين البلوغ وإيناس الرشد ولذا قال الشافعي ومالك واحمد وأبو يوسف ومحمد لا يدفع إليهم أموالهم ابدا ما لم يونس منهم الرشد خلافا لابى حنيفة حيث قال إذا بلغ خمسا وعشرين سنة يدفع إليه ماله لان المنع باعتبار اثر الصبا وهو فى أوائل البلوغ وينقطع بتطاول الزمان فلا يبقى المنع ، ولهذا قال أبو حنيفة لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا ، قال أبو حنيفة تنكير رشدا فى الآية يفيد التقليل يعنى نوعا من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد فإذا بلغ خمسا وعشرين سنة فقد يصير جدا فى هذا السن فلا يخلو عن نوع من الرشد فى التصرفات وان منع المال عنه بطريق التأديب ، ولا تأديب بعد هذا ظاهرا أو غالبا فلا فائدة فى المنع فلزم الدفع.
((1/1224)
مسئلة : ) السفيه الذي لا يدفع إليه ماله لا ينفذ تصرّفه القولى فى ماله مطلقا من البيع والاعتاق وغير ذلك عند الشافعي وعند محمد ينفذ ما لا يحتمل الفسخ كالعتق ولا ينفذ ما يحتمله ، كالبيع الّا بإذن وليه وعند أبى يوسف واكثر العلماء ينفذ تصرّفاته ما لم يحجر عليه القاضي ويجوز للقاضى حجره فإذا حجره القاضي لا ينفذ بيعه ولا كل تصرّف يؤثر فيه الهزل وينفذ عتقه وعلى العبد ان يسعى فى قيمته عند أبى يوسف ومحمد وعن محمد انه لا يجب السعاية وعند أبى حنيفة لا يجوز للقاضى الحجر على العاقل البالغ لاجل السفه أو الدين أو الفسق لان فيه اهدار آدميته والحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا يتحمل الا على لدفع الأدنى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 15(1/1225)
و الحجة للشافعى ومالك واحمد وغيرهم فى حجر السفيه هذه الآية فانها تدل على منع الأموال عن السفيه وهو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف بلسانه ما منع من يده وقال أبو حنيفة منع المال مفيد لان غالب السفه فى الهبات والصدقات وذلك موقوف على اليد إذ لا يتم الهبة الا بالقبض ، والحجة لابى حنيفة حديث انس ان رجلا كان فى عقدته ضعف وكان يبايع وان اهله أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه احجر « 1 » عليه فدعاه نبى اللّه فنهاه عن البيع فقال يا رسول اللّه لا اصبر عن البيع فقال إذا بايعت فقل لا خلابة رواه الترمذي واحمد وقال الترمذي هذا حديث صحيح وجه الاحتجاج ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر عليه ولم يمنع نهى تحريم وأجيب عنه بان ذلك الرجل لم يكن مبدرا قصدا بل كان يلحقه الخسران فى المبايعة لضعف عقله فامكن تداركه بقوله لا خلابة وكلامنا فى سفيه مبذر مضيع باختياره ، قال البغوي والدليل على جواز الحجر اتفاق الصحابة عليه روى الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبى يوسف القاضي عن هشام بن عروة عن أبيه ان عبد اللّه بن جعفر ابتاع أرضا سبخة بستين الف درهم فقال على لاتين عثمان فلا حجرن عليك فاتى ابن جعفر الزبير فاعلمه بذلك فقال الزبير انا شريكك فى بيعك فاتى على عثمان رضى اللّه عنهم وقال احجر على هذا فقال الزبير انا شريكه فقال عثمان كيف احجر على رجل فى بيع شريكه فيه الزبير ، وروى أبو عبيد فى كتاب الأموال بسنده عن ابن سيرين قال قال عثمان لعلى الا تأخذ على يد ابن أخيك يعنى عبد اللّه بن جعفر وتحجر عليه اشترى سبخة بستين الف درهم ما تسرنى انها لى بنعلي فذكر القصة كما مرّ ، قال البغوي فكان ذلك اتفاقا منهم على جواز الحجر حتى احتال الزبير لدفعه.
((1/1226)
مسئلة : ) إذا بلغ الصغير رشيدا ثم صار سفيها مبذّرا جاز الحجر عليه عند من أجاز الحجر عليه فيما بلغ سفيها كما يدل عليه قصة ابن جعفر رضى اللّه عنهما والحجة لهم فى جواز حجر المديون حديث كعب بن مالك عن أبيه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حجر على معاذ ماله وباعه؟؟؟ فى دين كان عليه رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي - وروى أبو داود فى المراسيل من حديث عبد الرزاق مرسلا وكذا روى سعيد فى سننه وابن الجوزي من حديث ابن المبارك عن معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مرسلا قال كان معاذ بن جبل شابا
_________
(1) فى الأصل اهجر عليه.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 16(1/1227)
سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يد اين حتى غرق ماله كله فى الدين فاتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ من أجل رسول اللّه فباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ماله حتى قام معاذ بغير شىء قال عبد الحق المرسل أصح من المتصل وقال ابن الصلاح فى الاحكام هو حديث ثابت وكان ذلك فى سنة تسع من الهجرة وجعل لغرمائه خمسة اسباع حقوقهم فقالوا يا رسول اللّه بعه لنا قال ليس لكم إليه سبيل وقال أبو حنيفة فى المديون ان القاضي لا يحجر عليه ولا يبيع ماله لأنه نوع حجر ولانه تجارة لا عن تراض وقد قال اللّه تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ولكن يحبسه ابدا حتى يبيعه فى دينه إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه والجواب عن قصة معاذ انا لا نسلم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم باع ماله ولم يرض به معاذ ومحال ان لا يرصى معاذ بفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم باع ماله برضاه فهو من باب بيع الوكيل أو الفضولي مع الاجازة اللاحقة من المالك وقول الراوي حجر على معاذ ماله واباعه زعم منه زعم بيع ماله حجرا « 1 » عليه كيف وقد أخرج البيهقي من طريق الواقدي هذا الحديث وزاد ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعثه بعد ذلك إلى اليمن ليجبره وروى الطبراني فى الكبير ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لما حج بعث معاذا إلى اليمن وانه أول من تأجر فى مال اللّه فظهر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحجر معاذا عن التصرفات ، مسئلة : إذا أفلس وفرق ماله وبقي عليه دين وله حرفة تفضل أجرتها عن كفايته قال احمد جاز للحاكم اجازته فى قضاء دينه وعنه لا يؤجره وهو قول غيره من الائمة ، احتج احمد بحديث رواه الدارقطني عن زيد بن اسلم قال رايت شيخا بالاسكندرية يقال له سرق فقلت ماذا لاسم قال اسم سمانيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولن ادعه قلت ولم سماك قال(1/1228)
قدمت المدينة وأخبرتهم ان مالى يقدم فبايعونى فاستهلكت أموالهم فاتوا إلى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال أنت سرق وباعني باربعة ابعر فقال الغرماء للذى اشترانى ما تصنع به قال اعتقه قالوا فلسنا بأزهد فى الاجر منك فاعتقونى بينهم وبقي اسمى قال ابن الجوزي قد علم انه لم يبع رقبته لأنه حر وانما باع منافعه والمعنى أعتقوني من الاستخدام قلت لا وجه لحمل هذا الحديث على الاجارة لأنه اجارة على عمل مجهول فالحديث متروك بالإجماع ،
_________
(1) فى الأصل بيع ماله عليه مجرا عليه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 17(1/1229)
وكان لرسول اللّه ولاية التصرف فى الناس ما ليس لغيره وروى مسلم عن أبى سعيد أصيب رجل فى عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فى ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال تصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال خذوا ما وجدتم وليس لكم الّا ذلك فهذا الحديث صريح انه لا سبيل إلى المديون الّا فى استيفاء ديونهم من ماله واللّه اعلم ، وَلا تَأْكُلُوها يعنى اموال اليتامى يا معشر الأولياء إِسْرافاً فى القاموس السرف محركة ضدّ القصد وفى الصحاح السرف تجاوز الحد فى كل فعل يفعله الإنسان قال اللّه تعالى فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ وقال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لكن ذلك فى الانفاق أشهر ، فيقال تارة باعتبار القدر يعنى الكثرة كما فى قوله تعالى كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا وتارة باعتبار الكيفية ولهذا قال سفيان ما أنفقت فى غير طاعة اللّه فهو سرف وان كان قليلا قال اللّه تعالى أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ، قلت فاكل مال اليتيم وان كان قليلا فهو إسراف ان كان الولي غنيا وان كان فقيرا فالتجاوز عن المعروف إسراف وافراط وَبِداراً أى مبادرة أَنْ يَكْبَرُوا فياخذوا منكم أموالهم فاسرا فاو بدارا مصدر ان فى موضع الحال وان يكبروا فى موضع المصدر منصوب المحل ببدارا يعنى لا تأكلوا مسرفين ومبادرين كبرهم ويجوز ان يكونا مفعولى « 1 » لهما أى لاسرافكم ومبادرتكم فى الاكل وجاز ان يكون ان يكبروا منصوب المحل على انه مفعول له للمبادرة أى لمبادرتكم لاجل مخافة ان يكبروا فيأخذوا من ايديكم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ أى ليمتنع من مال اليتيم فلا يأخذ منه قليلا ولا كثيرا استعف ابلغ من عف كأنَّه طلب زيادة العفة ، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انى لفقير ليس لى شىء ولى يتيم فقال كل(1/1230)
من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وعن ابن عباس ان رجلا قال لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم ان فى حجرى يتيما أ فآكل من ماله قال بالمعروف غير متاثل مالا منه ولا واق مالك بماله رواه الثعلبي والمراد اجرة عمله بقدر قيامه وهو قول عائشة وبه نأخذ وقال عطاء وعكرمة يأكل باطراف أصابعه ولا يسرف
_________
(1) فى الأصل مفعولا لهما
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 18(1/1231)
و لا يكتسى منه وقال النخعي لا يلبس الكتان ولا الحلل ولكن ما سد الجوعة ووارى العورة ولا قضاء فى هذه الأقوال كلها وقال الحسن وجماعة يأكل من تمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه وامّا الفضة والذهب فلا فان أخذ فعليه رده وقال الكلبي المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له ان يأكل من ماله شيئا وروى البغوي بسنده عن القاسم ابن محمد انه جاء رجل إلى ابن عباس فقال ان لى يتيما وان له ابلا ا فاشرب من لبن ابله فقال ان كنت تبغى ضالة ابله وتهنا جرباها وتلط حوضها وتسقيها يوم وردها فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك فى الحلب وقال الشعبي لا يأكل الا ان يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة وقال قوم المعروف القرض أى يستقرض من مال اليتيم إذا احتاج إليه فإذا أيسر قضاه وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وقال عمر بن الخطاب انى أنزلت نفسى من مال اللّه بمنزلة ولى اليتيم ان استغنيت استعففت وان افتقرت أكلت بالمعروف فإذا أيسرت قضيت فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ بعد بلوغهم وإيناس رشد منهم فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ هذا امر ارشاد وليس بواجب والاولى الاشهاد لدفع التهمة وانقطاع الخصومة واحتج الشافعي ومالك بهذه الآية على ان القيم لا يصدق فى دعواه بالدفع الا بالبينة وقال أبو حنيفة إذا لم يكن له بينة يصدق مع اليمين لأنه أمين ينكر الضمان عليه ويدل على ذلك قوله تعالى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) أى محاسبا ومجازيا وشاهدا لا حاجة إلى شاهد غيره بل يصدق الولي مع اليمين ويفوض امره إلى اللّه تعالى والباء زائدة على فاعل الفعل ، أخرج أبو الشيخ ابن حبان فى كتاب الفرائض من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال كان أهل الجاهلية لا يورثون النبات ولا الصغار من الذكور حتى يدركوا فمات رجل من الأنصار يقال له أوس بن ثابت وترك ابنتين وابنا صغيرا فجاء ابنا عمه خالد وعرفطة وهما عصبتاه(1/1232)
فأخذا ميراثه كله فاتت امرأته رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ما أدرى ما أقول فنزلت.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أى المتوارثون بالقرابة ولم يقل للنساء نصيب منه اهتماما لشأنهن مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من قوله ممّا ترك باعادة العامل وفائدته التوبيخ على عدم مبالاتهم فى القليل نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 19(1/1233)
نصب على انه مصدر مؤكد كقوله فريضة من اللّه ، أو حال من فاعل الظرف إذا المعنى ثبت لهم نصيب حال كونه مفروضا أى مقطوعا والحال فى الحقيقة قوله مفروضا لكن بحسب الظاهر جعل الحال نصيبا ومفروضا صفة له ويسمى الحال موطئة لأنه مقدمة لذكر ما هو الحال حقيقة أو على اختصاص بمعنى اعنى نصيبا مقطوعا واجبا لهم لا يجوز لاحد التبديل فيه ، وفيه دليل على ان الوارث لو اعرض عن نصيبه أو ابرا عنه لا يسقط حقه وفى الآية إجمال من وجهين أحدهما فى تعيين النصيب وثانيهما فى المراد بالاقرب وكلا الامرين ورد بيانهما من الشرع وذكر الوالدين مع دخولهما فى الأقربين اهتماما لشانهما ولانّ سبب النزول ميراث الوالد وذكر البغوي ان أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امراة يقال لها أم كحة وثلث بنات له منها فقام رجلان هما ابنا عمّ الميت واوصياه « 1 » سويد وعرفجة فاخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا وكانوا فى الجاهلية لا يرثون النساء ولا الصغار وان كان الصغير ذكرا انما كانوا يورثون الرجال ويقولون لا نعطى الا من قاتل وحاز الغنيمة فجاءت أم كحة فقالت يا رسول اللّه ان أوس بن ثابت مات وترك على بنات وانا امرأته وليس عندى ما أنفقه عليهن وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطيانى ولا بناتي شيئا وهن فى حجرى لا يطعمن ولا يسقين فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول اللّه ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوا فانزل اللّه هذه الآية فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى سويد وعرفجة لا تفرقا من مال أوس بن ثابت شيئا فان اللّه جعل لبناته نصيبا ممّا ترك ولم يبيّن كم هو حتى انظر ما ينزل فيهنّ فانزل اللّه تعالى يوصيكم اللّه فى أولادكم فلما نزلت أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سويد وعرفجة ان ادفعا إلى أم كحة الثمن والى بناته الثلثين ولكما باقى المال ، قلت ولما(1/1234)
نزل عقيبه يوصيكم اللّه لم يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة واللّه اعلم ، قال سعد وقع فى الكتب المعتبرة والروايات الصحيحة أوس بن ثابت وهو أخو حسان بن ثابت استشهد بأحد قال الشيخ جلال الدين السيوطي وفيه نظر لأنه كان أخا حسان ولم يكن لبنى العم مع الأخ سبيل ونقله ابن حجر فى الاصابة عن ابن مندة وخطّاه بانه ليس أحد من
_________
(1) فى الأصل ووصياه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 20
اخوته أوس ولا من بنى أعمامه عرفطة ولا خالدا ثم ذكر الشيخ السيوطي ان جماعة من الصحابة يسمى اوسا مع اختلاف اسماء ابائهم فلعل الذي نزل فيه الآية أحد هؤلاء واللّه اعلم.(1/1235)
وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أى قسمة المواريث أُولُوا الْقُرْبى غير الأقربين الذين لا يرثون وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أى شيئا مما ترك أو مما يقسم تصدقا عليهم قال الحسن كانوا يعطون التابوت والأواني ورث الثياب والمتاع والشيء الذي يستحيى من قسمته وقال سعيد بن جبير والضحاك هذه الآية منسوخة باية يوصيكم اللّه وقال ابن عباس والشعبي والنخعي والزهري ومجاهد وجماعة انها محكمة قال قتادة عن يحيى بن يعمر ثلث آيات محكمات مدنيات تركهن الناس هذه الآية واية الاستيذان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية فقيل الأمر للوجوب حق واجب فى اموال الصغار والكبار فان كان الورثة كبارا تولوا اعطاءهم وان كانوا صغارا اعطى وليهم وروى محمد بن سيرين ان عبيدة السلماني قسم اموال أيتام فامر بشاة فذبحت فصنع طعاما لاهل هذه الآية وقال لو لا هذه الآية لكان هذا من مالى والصحيح انه امر ندب قال ابن عباس ان كانت الورثة كبار ارضحوا لهم ويستقلوا ما يعطوا ولا يمنّوا عليهم وان كانوا صغارا اعتذر الولي أو الوصي إليهم فيقول انى لا املك هذا المال انما هو للصغار ولو كان لى منه شىء أعطيتكم وان يكبروا فسيعرفون حقوقكم وهذا القول هو المعنى من قوله تعالى وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً (8).(1/1236)
وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ الضياع ، الظاهر ان الأمر للاقوياء من الورثة وهذه الآية متصلة بقوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ الآية وقوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية يعنى ليعطى الأقوياء أنصباء النساء والضعفاء من الورثة وليرضحوا من التركة غير الورثة من الضعفاء والفقراء والمساكين وليخشوا على أولاء الضعفاء الضياع كما لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع واشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم أو المعنى ليخشوا اللّه فى تضييع ضعفاء الورثة كأنَّه تنازع الفعلان ليخش وليتقوا فى قوله تعالى فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فى اسم اللّه تعالى واعمل الثاني كما هو مذهب البصريين وحذف من الأول ولو
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 21(1/1237)
اعمل الاوّل لقيل فليتقوه ، أمرهم بالتقوى الذي هو غاية الخشيه بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدا والمنتهى وقال الكلبي هذا امر للاوصياء والأولياء بان يخشوا اللّه ويتقوه فى امر اليتامى ويحسنوا إليهم ويفعلوا بهم ما يحبون ان يفعل بذراريهم الضعاف متصل بقوله تعالى وابتلوا اليتامى ويكون قوله للرّجال نصيب إلى هنا جملا معترضات وفائدته ان ولاية اليتامى وابتلاءهم وقسمة التركة انما يتصوّر بعد دفع ما تقرر فى الجاهلية ان لا ميراث للضعفاء انما هو لمن يحارب وجاز ان يكون امرا للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصوّرين انهم لو كانوا أولادهم وبقوا خلفهم ضعافا هل يجوّزوا حرمانهم ، وقيل هذه الآية فى الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته ان أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئا أعتق واعط فلانا كذا وفلانا كذا حتى يأتى على عامة ماله فهو امر للحاضرين المريض عند الإيصاء بان يخشوا ربهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه ان يضرّبهم ويصرف المال عنهم ، أو امر للموصين بان ينظروا للورثة الضعاف الذين خافوا عليهم الضياع ولا يسرفوا فى الوصية ولا يزيدوا فى الوصية على الثلث كيلا تحجف لورثته وجواب لو خافوا ولو مع ما فى حيزه صلة للذين وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً (9) يعنى يقول الاترياء من الورثة ضعفاءهم بالشفقة وحسن الأدب أو الأولياء لليتامى قولا حسنا شفقة كما يقولون لاولادهم بالشفقة أو الحاضرون الوصية يأمروا الموصى بالتصدق دون الثلث أو الحاضرون القسمة اعتذروا إلى الفقراء أو الموصى يقول فى الوصية قولا حسنا فيوصى بما دون الثلث ويراعى فى الوصية حسن النية مع الإخلاص للّه تعالى ، قال البغوي قال مقاتل بن حبان لما أكل مرثد بن زيد رجل من غطفان مال ابن أخيه وهو يتيم صغير نزلت.(1/1238)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً مصدرا وحال أى أكلا ظلما أو ظالمين إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً ما يجر إلى النار ويؤل اليه ، فى الحديث قال النبي صلى اللّه عليه وسلم رايت ليلة اسرى بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل أحدهما قارصة على منخريه والاخرى على بطنه وخزنة جهنم يلقمونهم جمر جهنم وصخرها فقلت يا جبرئيل من هؤلاء قال الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما رواه ابن جرير
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 22(1/1239)
و ابن أبى حاتم من حديث أبى سعيد الخدري أخرج ابن أبى شيبة فى مسنده وابن أبى حاتم فى تفسيره وابن أبى حبان فى صحيحه عن أبى بردة انه صلى اللّه عليه وسلم قال يبعث اللّه قوما من قبورهم يتاجج أفواههم نارا فقيل من هم فقال ا لم تر ان اللّه يقول إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) قرأ الجمهور بفتح الياء أى يدخلونه وابن عامر وأبو بكر بضم الياء أى يدخلون النّار ويحرقون والسعير فعيل بمعنى المفعول من سعرت النار إذا لهبتها أخرج الائمة الستة عن جابر بن عبد اللّه قال عادنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فى بنى سلمة فوجدنى النبي صلى اللّه عليه وسلم لا اعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ ثم رش عليّ فافقت فقلت ما تأمرنى ان اصنع فى مالى فنزلت يوصيكم اللّه الآية واخرج احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم عن جابر قال جاءت امراة سعد بن الربيع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه هاتان بنتا سعد بن الربيع قتل معك فى أحد شهيدا وان عمتهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا تنكحان الّا ولهما مال فقال يقضى اللّه فى ذلك فنزلت اية الميراث فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى عمّهما فقال أعط لا بنتي سعد الثلثين واعظ امّهما الثمن وما بقي فهو لك قال الحافظ تمسّك من قال ان الآية نزلت فى قصة ابنتي سعد ولم تنزل فى قصّة جابر خصوصا بان جابرا لم يكن له يومئذ ولد قال والجواب انها نزلت فى الامرين معا ويحتمل ان يكون نزول اوّلها فى قصّة ابنتي سعد وآخرها وهو قوله وان كان رجل يورث كللة المتصل بهذه الآية فى قصّة جابر ويكون مراد جابر بقوله فنزلت.(1/1240)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ إلخ الآية المتصلة بها وروى له سبب ثالث أخرج ابن جرير عن السدى قال كان أهل الجاهلية لا يورّثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان لا يرث الرجل من ولده الّا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر وترك امراة يقال لها أم كحة وخمس بنات فجاءت الورثة يأخذون ماله فشكت أم كحة ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه هذه الآية فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ثم قال فى أم كحة وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ الآية وقد ورد فى قصة سعد بن الربيع وجه اخر أخرج القاضي إسماعيل
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 23(1/1241)
فى احكام القرآن من طريق عبد الملك بن محمد بن حزم ان عمرة بنت حرام كانت تحت سعد بن الربيع فقتل عنها بأحد وكان له منها ابنة فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم لطلب ميراث ابنتها ففيها نزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ يأمركم ويعهد إليكم فِي شأن ميراث أَوْلادِكُمْ وجاز ان يكون فى بمعنى اللام كما فى قوله عليه السّلام دخلت امراة النار فى هرة وهذا إجمال تفصيله لِلذَّكَرِ منهم مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ منهم إذا اجتمع الصنفان يعنى ان كان مع الأنثيين أو اكثر ذكر واحدا واكثر يعطى لكل واحد منهم مثل حظ الثنتين منهن ويعلم بدلالة النص انه ان كان ذكر واحد أو اكثر مع واحدة أنثى يعطى للانثى نصف حظ ذكر واحد ووجه تخصيص التنصيص على حظ الذكر تفضيله والتنبيه على ان التضعيف كاف للتفضيل فلا يحر منّ بالكلية وقد اشتركا فى الجهة ، هذا حكمهم عند اجتماع الصنفين وان كان الأولاد صنفا واحدا أنثى فقط فَإِنْ كُنَّ أى الأولاد وانث الضمير باعتبار الخبر أو الضمير راجع إلى بنات مذكورات فى ضمن الأولاد نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ خبر ثان أو صفة نساء يعنى زائدة على ثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ الميت منكم وَإِنْ كانَتْ المولودة المذكورة فى ضمن الأولاد واحِدَةً قرأ نافع بالرفع على ان كانت تامّة والباقون بالنصب على الخبرية فَلَهَا النِّصْفُ ولم يذكر فى الآية حكم الأنثيين فقال ابن عباس حكمهما حكم الواحدة لأنه الأقل المتيقن من النصيبين المذكورين والصحيح ان لهما الثلثان وعليه انعقد الإجماع فقيل لفظ فوق زائدة كما فى قوله تعالى فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ ويؤيده من السنة ما ذكرنا من قصّة سعد بن الربيع ونزول الآية فيهما وقيل ثبت حكمهما بالقياس على الأختين فان اللّه سبحانه جعل لاخت واحدة النصف كما جعل لبنت واحدة وجعل للاخوة والأخوات المختلطين للذكر مثل حظّ الأنثيين كما جعل للاولاد المختلطين هكذا وجعل للاختين(1/1242)
الثلثان فكذا للبنتين فثبت بالسنة والإجماع ان حكم ما فوق الثنتين من الأخوات كحكم الثنتين منهما الثابت بالنصّ وحكم البنتين كحكم ما فوقهما الثابت بالنص ولا وجه لالحاق الثنتين منهما بالواحدة ولان البنت لمّا كان حظها مع ابن واحد ذكر الثلث لا ينقص منه ابدا فمع بنت واحدة غيرها اولى ان لا ينقص حظها من الثلث واللّه اعلم والسكوت عن حكم الذكر إذا لم يكن معه أنثى يدل على
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 24
ان المال كله له لأنه اولى بالميراث من الأنثى فلا جائز حرمانه ولو كان له بعض المال لم يجز السكوت عن بيانه وقت الحاجة ولا يرث معه غيره بالعصبية لأنه اقرب العصبات فلا يترك شيئا لغيره ولانه جعل الله سبحانه للذكر مثل حظ الأنثيين وقد جعل للانثى عند الانفراد النصف فللذكر عند الانفراد ضعف النصف وهو الكل وإذا كان للولد الذكر عند الانفراد جميع المال يحجب مع ولد ذكر صلبى أولاد الابن ذكورا كان أو إناثا أو مختلطين بالإجماع (مسئلة) اجمعوا على ان أولاد الابن لهم حكم أولاد الصلب عند عدم الولد فللذكور أو ذكر منفرد منهم جميع المال ولواحدة منفردة من الإناث النصف وللاكثر منها منفردات الثلثان وللذكر مثل حظ الأنثيين عند الاختلاط ولهم عند الاختلاط مع واحدة صلبية أو اكثر ما بقي منها أو منهن للذكر مثل حظ الأنثيين كذا روى الطحاوي عن عائشة انها أشركت بين بنات ابن وبنى ابن مع بنتين وبين الاخوة والأخوات لاب مع أختين لاب وأم فيما بقي ولذكر واحدا واكثر مع بنت أو بنات جميع ما بقي منهن لقوله عليه السلام الحقوا الفرائض باهلها فما أبقت الفرائض فلا ولى رجل ذكر متفق عليه من حديث ابن عباس ولبنت ابن واحدة أو اكثر منفردات مع واحدة صلبية السدس تكملة للثلثين(1/1243)
لما رواه البخاري عن الهذيل بن شرحبيل قال جاء رجل إلى أبى موسى وسلمان بن ربيعة فسالهما عن رجل مات عن ابنة وابنة ابن واخت لاب وأم فقالا للبنت النصف وللاخت النصف وائت ابن مسعود فانه سيتابعنا فاتى ابن مسعود فقال قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ساقضى فيها بما قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكملة للثلثين وما بقي فللاخت فاتينا أبا موسى فاخبرناه بقول ابن مسعود فقال لا تسئلونى ما دام هذا الحبر فيكم ولا يرثن مع الصلبيتين لاحرازهما تمام الثلثين الا ان يكون بحذائهن أو أسفل منهن غلام فيعصبهن ، وَلِأَبَوَيْهِ أى أبوي الميت منكم لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لابويه بتكرير العامل وفائدته دفع توهم اشتراكهما فى السدس والتفصيل بعد الإجمال تأكيدا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ الميت إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكر أو أنثى صلبى أو ولد ابن غير ان الأب يأخذ السدس
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 25(1/1244)
مع أنثى عند عدم ولد ذكر بالفرض وما بقي من ذوى الفروض بالعصوبة لأنه اولى رجل ذكر بعد الأبناء وأبناء الابن فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صلبى ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ يعنى ثلث جميع المال ان لم يكن معهما وارث صاحب فرض غيرهما وثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين ان كان معهما أحد الزوجين ولا يتصور معهما غير الزوجين لان الاخوة والأخوات والجد لا يرثون مع الأب والجدة مع الام والمفروض عدم الولد ، أو المعنى وورثه أبواه فقط فلامه الثلث مما ترك بقرينة تقيد السدس به فعلى هذا يعرف ميراثهما مع أحد الزوجين بالمقايسة فكما كان للام نصف ما للاب عند عدم غيرهما تضعيفا للذكر على الأنثى مع اتحاد القرابة يعنى ثلث الكل والثلثان فكذا مع غيرهما يعنى ثلث ما بقي والثلثان عن ابن مسعود قال كان عمر بن الخطاب إذا سلك طريقا فاتبعناه وجدنا سهلا وانه سئل عن امراة وأبوين فقال للمرءة الربع وللام الثلاث ما بقي وما بقي فللاب وبه قال زيد بن ثابت ان للام ثلث ما بقي بعد فرض أحد الزوجين فى مسئلة زوج وأبوين ومسئلة زوجة وأبوين وعليه انعقد الإجماع ولو كان مكان الأب الجد فلها ثلث الكل وروى البيهقي من طريق عكرمة قول ابن عباس ان للام فى المسألتين ثلث الكل وبه قال شريح ووافقه ابن سيرين فى زوجة وأبوين وخالفه فى زوج وأبوين روى البيهقي عن النخعي انه قال خالف ابن عباس جميع أهل الفرائض فى ذلك والسكوت عن حكم الأب بعد قوله وورثه أبواه يدل على ان الباقي يعنى الثلثين للاب لأنه اولى بالميراث من الام فلا جائز حرمانه وقد نبّه على ميراثه بقوله ورثه ولو كان له بعض المال لم يجز السكوت عن بيانه ولا يرث معه غيره بالعصبية لأنه اقرب العصبات عند عدم الولد فلا يترك لغيره شيئا وهذه الآية تدل على انه لو ورثته « 1 » امه فقط بدون الأب يكون لها الثلث بالطريق الاولى ولا دليل على الزيادة(1/1245)
فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ لاب أو لام أولهما والمراد بالاخوة ما فوق الواحد اجماعا سواء كانوا ذكورا أو إناثا أو مختلطين وكذا المراد بكل جمع وقع فى باب الفرائض والوصايا اجماعا وقال ابن عباس لا يحجب الام من الثلث ما دون الثلاثة روى الحاكم وصححه ان ابن عباس دخل على عثمان فقال له محتجا بانه كيف ترد الام إلى السدس بالأخوين وليسا باخوة فقال عثمان لا أستطيع ردّ شىء كان قبلى ومضى فى البلدان
_________
(1) فى الأصل لو ورثه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 26(1/1246)
و توارث عليه الناس فاحتج عثمان بالإجماع وأجاب زيد بن ثابت بجواب اخر قالوا يا أبا سعيد ان اللّه يقول فان كان له اخوة وأنت تحجبها باخوين فقال ان العرب يسمى الأخوين اخوة - فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وهذه الآية تدل بالمفهوم المخالف وما قبله بالمفهوم الموافق ان للام مع أخ أو اخت واحدة الثلث فانه إذا كان لها مع الأب الثلث فلها مع الأخ أو الاخت الثلث بالطريق الاولى قرأ حمزة والكسائي فلامّه فى الموضعين هاهنا وفى القصص فى امّها وفى الزخرف فى امّ الكتب فى الوصل فقط بكسر الهمزة اتباعا للكسرة التي قبلها والباقون بضمها على الأصل وإذا أضيف الام إلى جمع ووليت همزته كسرة وجملته اربعة مواضع فى النحل من بطون امّهاتكم وكذا فى النور والزمر والنجم فحمزة يكسر الهمزة والميم فى الوصل والكسائي يكسر الهمزة فى الوصل ويفتح الميم والباقون يضمون الهمزة ويفتحون الميم فى الحالين - (مسئلة) اجمعوا على ان الاخوة والأخوات يحجبن الام من الثلث إلى السدس وان كانوا محجوبين بالأب وعن ابن عباس انهم يأخذون السدس الذي حجبوا عنه الام خلافا للجمهور (مسئلة) الجد الصحيح اعنى اب الأب وان علاله حكم الأب عند عدم الأب ولا شىء لاب الام لأنه لا يصلح ان يكون مكان الأب لأنه ليس من جهته ولا مكان الام لأنه ليس من جنسه ويسمّى جدا فاسدا فالجد الصحيح عصبة عند عدم الولد وله السدس مع ولد ذكر والسدس والتعصيب مع ولد أنثى وخالف حكمه حكم الأب فى انه لا يرد الام من الثلث إلى السدس أو الربع مع أحد الزوجين اجماعا واختلفوا فى انه هل يحجب الاخوة كالاب أم لا فقال أبو حنيفة يحجبهم كلهم سواء كانوا من الأب أو الام أو منهما وهو المروي عن أبى بكر وكثير من الصحابة وقال مالك والشافعي واحمد وأبو يوسف « 1 » ومحمد لا يحجب الاخوة والأخوات ان كانوا من الأبوين أو من الأب ويحجبهم ان كانوا من الام قال ابن الجوزي محتجا بعدم(1/1247)
حجبهم ان التوريث بالاخوة منصوص عليه فى القرآن فلا يثبت حجبهم الا بنصّ قلنا لو كان كذلك فلم قلتم يحجب أولاد الام مع الجدّ وهم منصوص توريثهم فى القرآن وأيضا تقولون بان ابن الابن يحجب الاخوة كلهم لقيامه مقام الابن فلم لا تقولون بحجبهم بالجد لقيامه مقام الأب ولنا قوله صلى اللّه عليه وسلم الحقوا الفرائض باهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر ولا شك ان الجد اولى من الأخ لانه
_________
(1) فى الأصل أبى يوسف -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 27(1/1248)
اصل الميت دون الأخ ولنا أيضا انه إذا اجتمع الجد مع الاخوة فلا وجه للمقاسمة لاختلاف جهة قرابتهم ولا يسقط الجد بالاخوة اجماعا حيث لم يذهب إليه أحد فيسقط الاخوة بالجد فان قيل قال الشيخ ابن حجر فيه نظر لان ابن حزم حكى أقوالا ان الاخوة تقدم على الجد فاين الإجماع قلنا بعد انقراض أهل تلك الأقوال اجتمع الامة على أحد القولين اما إسقاط الاخوة أو المقاسمة فثبت الإجماع ومذهبهم مروى عن زيد بن ثابت وحكم الجد مع الاخوة عندهم سواء كانت الاخوة لابوين أو لاب ان للجد أفضل الامرين من المقاسمة وثلث جميع المال ان لم يكن معهم ذو فرض اخر وتفسير المقاسمة ان يجعل الجد فى القسمة كاحد الاخوة وبنو العلات يدخلون فى القسمة مع بنى الأعيان إضرارا للجد فإذا أخذ الجد نصيبه فبنوا لعلات يخرجون من البين خائبين بغير شىء والباقي لبنى الأعيان للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كانت من بنى الأعيان اخت واحدة أخذت فرضها نصف الكل بعد نصيب الجد فان بقي شىء فلبنى العلات للذكر مثل حظ الأنثيين والّا فلا شىء لهم كحد واخت لابوين وأختين لاب فبقى للاختين عشر المال وتصح من عشرين ولو كانت فى هذه المسألة اخت لاب لم يبق لها شىء وإذا كان مع الجدّ والاخوة ذو فرض غيرهم فللجد حينئذ أفضل الأمور الثلاثة اما سدس جميع المال كجدّ وجدّة وبنت وأخوين فقد لا يبقى شىء كبنتين وامّ وزوج فيفرض للجدّ سدس ويزاد فى العول وقد يبقى دون السدس كبنتين وزوج فيفرض للجد سدس وتعال وقد يبقى سدس كبنتين وأم فيفوز له الجدّ ويسقط الاخوة فى هذه الصور الثلث وامّا ثلاث الباقي بعد سهم ذوى الفروض غيرهم كجدّ وجدة وأخوين واخت وامّا المقاسمة كزوج وجدّ وأخ ولا يكون الاخت لابوين أو لاب صاحبة فرض مع الجد عندهم الّا فى الاكدرية وهى زوج وأم وجدّ واخت فللزوج النصف وللام الثلث وللجد السدس وللاخت النصف فتعول الستة إلى تسعة ثم يضم الجد(1/1249)
نصيبه اعنى التسع إلى نصيب الاخت اعنى الثلث فيقسمان أثلاثا لان المقاسمة خير للجدّ وتصح المسألة من سبع وعشرين تسعة للزوج وستة للام وثمانية للجد واربعة للاخت وسميت المسألة أكدرية لانها واقعة امراة من بنى أكدر ولو كان مكان الاخت أخ أو اختان فلا عول ولا أكدرية وحينئذ لا شىء للاخوة (فائدة) وقع فى الصحابة فى مسئلة الجد مع الاخوة اختلافا كثيرا روى البيهقي عن الشعبي ان الحجاج ساله عن أم واخت وجدّ فقال اختلف فيها خمسة من
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 28
اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عثمان وعلى وابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس قال فما قال فيها عثمان قلت جعلها أثلاثا قال فما قال فيها أبو تراب قلت جعلها من ستة أسهم للاخت ثلاثة وللام سهمين وللجد سهما قال فما قال ابن مسعود قلت جعلها من ستة للاخت ثلاثة وللجد سهمين وللام سهما قال فما قال فيها زيد بن ثابت قلت جعلها من تسعة اعطى الاخت الثلاثة والجد اربعة والام سهمين وروى البيهقي من طريق ابراهيم النخعي قال كان عمر وعبد اللّه لا يفضلان أخا على جدّ وروى ابن حزم من طريقه عن عمر للاخت النصف وللام السدس وللجد ما بقي وما ذهب إليه أبو حنيفة من قول أبى بكر أوفق بالنص والقياس.
((1/1250)
مسئلة) الجدة الصحيحة عند أبى حنيفة من لم يدخل فى نسبته إلى الميّت جد فاسد ترث الجدات الصحيحات عنده وان كثرن ان كن متحاذيات غير ساقطات وقال مالك وداود لا ترث من الجدات الا اثنان أم الأب وأمهاتها وأم الام وأمهاتها والقربى منهما تحجب البعدى وهو أحد قولى الشافعي وقال احمد وهو الراجح المشهور من قولى الشافعي انه ترث منهن ثلاثا أم امّه وأم أبيه وأم جدّه وحظهن من التركة واحدة كانت أو اكثر السدس اجماعا وإذا كانت جدة ذات قرابة واحدة كام أم الأب والاخرى ذات قرابتين كام أم الام وهى أيضا أم اب الأب يقسم السدس بينهما عند أبى يوسف أنصافا باعتبار الأبدان وعند محمد أثلاثا باعتبار الجهات وفى الباب حديث قبيصة بن ذويب قال جاءت الجدة إلى أبى بكر تطلب ميراثها فقال لها مالك فى كتاب اللّه شىء ومالك فى سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شىء فارجعى حتى اسئل الناس فسال فقال المغيرة بن شعبة حضرت جدة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر هل معك غيرك فقال محمد بن مسلمة مثل ما قال المغيرة فانفذ لها أبو بكر ثم جاءت الجدة الاخرى إلى عمر تسئله ميراثها فقال هو ذلك السدس فان اجتمعتما فهو بينكما وأيهما خلت به فهو لها رواه مالك واحمد والترمذي وأبو داؤد والدارمي وابن ماجة وروى ابن وهب ان الجدّة التي أعطاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هى أم الام وهى التي جاءت إلى أبى بكر والتي جاءت إلى عمر هى أم الأب فسال الناس فلم يجد أحدا يخبره بشىء فقال غلام من بنى حارثة لم لا تورثها يا امير المؤمنين وهى لو تركت الدنيا وما فيها لورثها فورثها عمر
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 29(1/1251)
و فى المؤطا وسنن البيهقي ان الجدتين جاءتا إلى أبى بكر فاراد ان يجعل السدس للتى من قبل الام فقال له رجل من الأنصار مالك تترك التي لو ماتت وهو حى كان إياه ترث فجعل أبو بكر السدس بينهما رواه الدارقطني من طريق ابن عيينة وبين ان الأنصاري هو عبد الرحمن بن سهل ابن حارثة قالوا أم الام أتيحت مقام الام فاعطى اقل حصّتها وأم الأب أعطيت قياسا على أم الام لانها أم أحد الأبوين والحجة لابى حنيفة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اعطى السدس ثلاث جدات ثنتان من قبل الام وواحدة من قبل الأب رواه الدارقطني بسند مرسل وأبو داؤد فى المراسيل بسند اخر عن ابراهيم النخعي والدارقطني والبيهقي من مرسل الحسن وذكر البيهقي عن محمد بن نصر انه نقل اتفاق الصحابة والتابعين على ذلك الا ما روى عن سعد بن أبى وقاص انه أنكر ذلك ولا يصح اسناده عنه - (مسئلة) الام تحجب الجدات كلّها لحديث بريدة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم رواه أبو داود والنسائي وفى اسناده عبيد اللّه العتكي مختلف فيه وصححه ابن السكن - (مسئلة) الأب يحجب الجدات الابويات فقط عند الثلاثة خلافا لاحمد فى أحد قوليه وعنه مثل قول الجماعة احتج احمد بحديث ابن مسعود قال فى الجدة مع ابنها انها اوّل جدة أطعمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سدسا مع ابنها وابنها حى رواه الترمذي والدارمي قلنا ضعّفه الترمذي والحجة للجمهور ان الأقرب تحجب الأبعد واللّه اعلم ، مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق من حيث اللفظ بالظرف المستقر فى قوله تعالى فلامّه السّدس ومن حيث المعنى على سبيل التنازع لكل ظرف من الظروف المستقرة فى الجمل السابقة من قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ ... فَلَهَا النِّصْفُ ... ، لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ... ، (1/1252)
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فيقدر فى جميع ما تقدم أى هذه الأنصباء لهؤلاء الورثة من ما بقي من بعد إنفاذ وصية يُوصِي بِها قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر بفتح الصاد على البناء للمفعول والباقون بالكسر لأنه جرى ذكر الميت من قبل ورجع إليه الضمائر ان كان ثمه وصية أَوْ من بعد أداء دَيْنٍ ان كان على الميت وانما قال باو دون الواو للدلالة على ان كل واحد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 30
منهما مقدّم على الميراث سواء كان معه اخر اولا وقدم الوصية على الذين وهى متاخرة عن الدين فى الحكم لأنه مندوب إليها الجميع والدين لكونه مانعا(1/1253)
من المغفرة الظاهر باقتضاء السنة الاسلامية ان يكون على الندرة عن أبى قتادة قال رجل يا رسول اللّه أ رايت ان قتلت فى سبيل اللّه صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر يكفر اللّه عنى خطاياى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الا الدين كذلك قال جبرئيل رواه مسلم وعن عبد الله بن عمر وان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال يغفر للشهيد كل ذنب الا الدّين رواه مسلم (مسئلة) اجمعوا على انه اوّل حق يتعلق بالتركة تجهيز الميت ثم يؤدى ديونه من جميع ماله ثم ينفذ وصاياه من ثلث ما بقي من التركة بعد الدين ثم يقسم ما بقي بين الورثة عن على عليه السلام قال انكم تقرءون هذه الآية مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية رواه الترمذي وابن ماجة - (مسئلة) وتنفيذ الوصايا من الثلث لحديث سعد بن أبى وقاص قال مرضت عام الفتح مرضا أشفيت على الموت فاتانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعودنى فقلت يا رسول اللّه ان لى مالا كثيرا وليس يرثنى الا ابنتي أ فأوصي بمالى كله قال لا قلت فثلثى مالى قال لا قلت فالشطر قال لا قلت فالثلث قال الثلث والثلث كثير انك ان تذر ذرّيتك اغنياء خير من ان تذرهم عالة يتكففون الناس وانك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله الا اجرت بها حتى اللقمة ترفعها إلى فى امرأتك متفق عليه وروى الترمذي بلفظ اخر وفيه أوص بالعشر فما زلت انا قصه حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير وحديث معاذ مرفوعا بلفظ ان اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم فى حسناتكم ليجعل زكوة أموالكم رواه الطبراني بسند حسن ورواه الطبراني واحمد عن أبى الدرداء مرفوعا ورواه ابن ماجة والبزار والبيهقي عن أبى هريرة والعقيلي عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنهم آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أى لا تعلمون من انفع لكم من(1/1254)
الأصول والفروع فى الدنيا والاخرة عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا دخل الرجل الجنة سال عن أبويه وزوجته وولده فقال انهم لم يبلغوا درجتك وعملك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 31
فقال يا ربّ انى قد عملت لى ولهم فيؤمر بالحاقهم به رواه الطبراني فى الكبير وابن مردوية فى تفسيره قال البغوي قال ابن عباس أطوعكم لله عز وجلّ ارفعكم درجة يوم القيامة واللّه يشفّع المؤمنين بعضهم فى بعض فان كان الوالد ارفع درجة فى الجنة رفع إليه ولده والمكان الولد ارفع درجة رفع إليه والده لتقرّ بذلك أعينهم ولما كان الناس لا يعلمون من هو انفع لهم من الورثة لم يفوض تقسيم التركة إليهم يعنى لو كنتم تعلمون ذلك لملتم إلى ترجيح الانفع وإذا لم تعلموا فلا يجوز لكم ترجيح بعض الورثة على بعض قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجوز الوصية لوارث الا ان يشاء الورثة رواه الدارقطني من حديث ابن عباس ورواه أبو داود مرسلا عن عطاء الخراسانى ووصله يونس عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس ، والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وروى أبو داود عن أبى امامة قال سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يقول فى خطبته عام حجة الوداع ان اللّه قد اعطى كل ذى حق حقّه فلا وصية لوارث أو المعنى لا تعلمون أى المورثين انفع لكم ، من اوصى فعرّضكم للثواب بامضاء الوصية أو من لم يوص وترك لكم الأموال كلها وجملة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فى محل النصب على المفعولية من لا تدرون وهو خبر آباؤكم والجملة معترضة مؤكدة لام القسمة أو تنفيذ الوصية ، فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد منصوب بفعل واجب الحذف يسميه النحاة توكيدا لنفسه لانها مضمون جملة سابقة لا محتمل لها غيره لان الجمل المفصلة بقوله تعالى يوصيكم اللّه لا يحتمل مضمونا لها غير كونها فريضة أو مصدر منصوب بقوله تعالى يوصيكم لأنه فى معنى يفرض عليكم إِنَّ اللَّهَ(1/1255)
كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً (11) فيما فرض وقسم من المواريث وغيرها - .
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ أى زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ أى صاحب فرض أو عصبة من الأولاد سواء كان بواسطة أو بلا واسطة فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ أى للزوجات واحدة كانت أو اكثر الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ من الصلب أو ولد الابن فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 32(1/1256)
وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وكذا ترث المعتدة من الطلاق الرجعى دون البائن ان كان الزوج طلقها صحيحا وكذا ان طلقها فى مرض موته رجعيا اجماعا غير ان أبا حنيفة يقول ترث ان مات وهى فى العدة وقال احمد ترث وان انقضت عدتها ما لم تتزوج قبل موته وقال مالك ترث وان تزوجت وللشافعى اقوال كالمذاهب الثلاثة وكذا ان طلق فى مرض موته طلاقا بائنا عند أبى حنيفة واحمد الّا ان أبا حنيفة يشترط فى إرثها ان لا يكون الطلاق عن طلب منها لانها ان طلبت رضيت بابطال حقّها وللشافعى قولان اظهرهما انها لا ترث ، روى احمد عن معمر ان غيلان بن سلمة اسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اختر منهن أربعا فلما كان عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال انى لا ظن الشيطان مما يسترق من السمع سمع موتك فقذفه فى نفسك وأعلمك انك لا تمكث الا قليلا وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لاورثهن منك ولامرت بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبى رغال وحكم البخاري بصحة الموقوف منه عن الزهري عن سالم عن أبيه بخلاف اوّل القصة قلت هذا الحديث سند للاجماع على الا يراث بعد الطلاق الرجعى والحجة للجمهور على ايراثها بعد البائن ان عثمان رضى اللّه عنه ورث تماظر بنت الا صبغ بن زياد الكلبية وقيل بنت عمرو بن الشريد السلمية من عبد الرحمن بن عوف لمّا بتّ طلاقها فى مرضه ومات وهى فى العدة بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان اجماعا وقال ما اتهمته ولكن أردت السنة وبمذهبنا ذهب عمر وابنه وعثمان وابن مسعود والمغيرة ونقله أبو بكر الرازي عن على وابى بن كعب وعبد الرحمن بن عوف وعائشة وزيد بن ثابت ولم يعلم عن صحابى خلافه وهو مذهب النخعي والشعبي وسعيد ابن المسيّب وابن سيرين وعروة وشريح وربيعة بن عبد الرحمن وطاؤس بن شبرمة والثوري والحماد بن أبى سليمان والحارث - وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يعنى(1/1257)
الميت أو الوارث يُورَثُ صفة رجل فان كان المراد به الميت فالمعنى يورث منه وان كان المراد به الوارث فهو من أورث كَلالَةً خبر كان أو خبره يورث وكلالة حال من الضمير فيه وجاز ان يكون كلالة مفعولا له ان كان المراد بالكلالة قرابة ليست من جهة الولاد وهو فى الأصل مصدر بمعنى الكلال اعنى الاعياء يقال كلّ الرجل
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 33
فى مشيبه كلالا والسيف عن ضربته كلولا وكلالة واللسان عن الكلام فاستعير لقرابة ليست بالبعضية يعنى ليس أحدهما متوالدا من الاخر لانها كالة بالاضافة إليها ، ثم وصف بها من لا يرث منه والد ولا ولد ومن يرث ممن ليس له والد ولا ولد بمعنى ذى كلالة كذا قال البيضاوي وقال البغوي هو اسم للمورث الذي لا ولد له ولا والد وهو قول على وابن مسعود رضى اللّه عنهما لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكلّ عمود نسبه ، وقال سعيد بن جبير هو اسم لوارث ليس والدا للميت ولا ولده لانهم يتكلّلون الميت من جوانبه وليس فى عمود نسبه أحد كالاكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال وعليه حديث جابر حيث قال انما يرثنى كلالة أى يرثنى ورثة ليسوا لى بولد ولا والد وسئل أبو بكر عن الكلالة فقال انى ساقول فيها برأيى فان كان صوابا فمن اللّه وان كان خطأ فمنى ومن الشيطان أراه ما خلا الوالد والولد فلما استخلف عمر قال انى لاستحيى اللّه ان أرد شيئا قاله أبو بكر رواه البيهقي عن الشعبي ورواه ابن أبى حاتم فى تفسيره والحاكم بإسناد صحيح عن ابن عباس عن عمر قوله وفى حديث مرفوع عن أبى هريرة فسّر الكلالة بانها غير الوالد(1/1258)
و الولد رواه الحاكم واخرج أبو الشيخ عن البراء قال سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الكلالة قال ما خلا الوالد والولد وكذا أخرج أبو داود فى المراسيل عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عنه صلى اللّه عليه وسلم قال من لم يترك والدا ولا ولدا فورثته كلالة قلت والمراد بالوالد والولد فى تفسير الكلالة الذكر من الأصول أو الفروع حتى انه إذا كان للميت بنت أو أم فهو كلالة أيضا يدل عليه حديث جابر فان جابر بن عبد اللّه كان له عند نزول الآية بنت فقط ولم يكن له والد لان أباه عبد اللّه بن حرام مات يوم أحد قبل هذا والاخوة والأخوات ترث مع الام والبنت بالإجماع والمراد بالولد أعم من ولد الابن حتى لا يرث الاخوة مع ابن الابن بالإجماع وكذا المراد بالوالد اعمّ من الجدّ لعدم الفصل بين الوالد والولد فى تفسير الكلالة واللّه اعلم أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل ونظم الآية وان كان رجل أو امراة يورث يعنى أحدهما كلالة وَلَهُ الضمير عائد إلى رجل لأنه مذكر مبتدا به أو إلى أحدهما من رجل وامراة المذكورين وهو مذكر والجملة الظرفية معطوف على خبر كان ان كان المراد برجل الميت وان كان المراد به الوارث فالضمير عائد إلى المورث المفهوم من السياق كضمير لامه والجملة الظرفية حال من ضمير يورث والمعنى وان كان رجل أو امراة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 34(1/1259)
يورث أحدهما من الميت كلالة وهو يعنى الوارث للميّت أَخٌ أَوْ أُخْتٌ اجمعوا على ان المراد بالأخ والاخت هاهنا الأخ والاخت لام فقط يدل عليه قراءة أبيّ وسعد بن أبى وقاص روى البيهقي ان سعدا قال الراوي أظنه ابن أبى « 1 » وقاص كان يقرا وله أخ أو اخت من امّ ، وروى أبو بكر بن المنذر أيضا عن سعد كذلك وحكى الزمخشري عنه وعن أبيّ بن كعب وقيل قرأ ابن مسعود كذلك قال الحافظ ابن حجر لم أره عن ابن مسعود ومن هاهنا يظهر انه يجوز العمل بالقراءة الغير المتواترة كما هو مذهب أبى حنيفة إذا صح اسناده خلافا للشافعى فى الأصول ، قال البغوي قال أبو بكر الصديق فى خطبته الا ان الآية التي انزل اللّه فى أول سورة النساء فى بيان الفرائض أنزلها فى الولد والوالد والآية الثانية فى الزوج والزوجة والاخوة من الام والآية التي ختم بها السورة فى الاخوة والأخوات من الأب والام والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها فى اولى الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كتب اللّه فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ اجمعوا على ان أولاد الام إذا كانوا اثنين فصاعدا يشتركون فى الثلث ذكرهم وأنثاهم فى الاستحقاق والقسمة سواء واختلفوا فى مسئلة حمارية وهى زوج وأم واخوان لام وأخ لابوين فللزوج النصف وللام السدس وللاخوة من أم الثلث ولا شىء لاخ لابوين واحدا كان أو اكثر عند أبى حنيفة واحمد وداود لأنه عصبة ولم يبق من اصحاب الفرائض شىء وقال مالك والشافعي يشارك الأخ لابوين الأخوين لام فى الثلث الذي هو فرض لهما ، ذكر الطحاوي ان عمر كان لا يشرك حتى ابتلى بمسئلة فقال له الأخ لاب وأم يا امير المؤمنين هب ان أبانا كان حمارا السنا من امّ واحدة فشركهم ولذلك سمّى المسألة حمارية ورواه الحاكم فى المستدرك والبيهقي فى السنن من حديث زيد بن ثابت وصححه الحاكم وفيه أبو امية(1/1260)
بن يعلى الثقفي ضعيف ورواه من طريق الشعبي عن عمر وعلى وزيد بن ثابت انه لم يزدهم الأب إلا قربا واخرج الدارقطني من طريق وهب بن منبه عن مسعود بن الحكم الثقفي قال اتى عمر فى امراة تركت زوجها وامّها وإخوتها لامها وإخوتها لابيها وأمها فبشرك الاخوة للام الاخوة للاب والام فقال له رجل انك لم تشرك بينهم عام كذا فقال تلك على ما قضيبنا وهذه على ما قضينا وأخرجه عبد الرزاق
_________
(1) فى الأصل ابن وقاص - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 35(1/1261)
و أخرجه البيهقي من طريق ابن المبارك عن معمر لكن قال عن الحكم عن ابن مسعود وصوبه النسائي واخرج البيهقي أيضا ان عمر أشرك « 1 » بين الاخوة وان عليا لم يشرك - (مسئلة) ويسقط أولاد الام بالولد وولد الابن والأب والجد بالإجماع وانما الخلاف فى سقوط الاخوة من الأب أو منهما مع الجد كما سبق وكان القياس سقوطهم مع الام لأنه من يدلى إلى الميت بشخص فانه يسقط مع ذلك الشخص لكن تركنا القياس بالإجماع ولان الام لا ترث جميع المال مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بفتح الصاد على البناء للمفعول والباقون بكسر الصاد على البناء للفاعل أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حال من فاعل يوصى على قراءة من قرأ على البناء للفاعل وامّا على قراءة من قرأ على البناء للمفعول فهو حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه الكلام فان الفعل المبنى للمفعول يدل على فعل مبنى للفاعل كما فى قول الشاعر ليبك يزيد ضارع لخصومة أى غير مضار لورثته بالزيادة على الثلث فى الوصية أو الإقرار بدين كاذبا أو الوصية بقصد الإضرار بالورثة دون القربة عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان الرجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضار ان فى الوصية فتجب لهما النار ثم قرأ أبو هريرة من بعد وصيّة يّوصى بها أو دين غير مضارّ إلى قوله وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة وعن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطع ميراث وارثه قطع اللّه ميراثه من الجنة يوم القيامة رواه ابن ماجة ورواه البيهقي فى شعب الايمان عن أبى هريرة وعن على لان اوصى بالخمس احبّ الىّ من ان اوصى بالربع ولان اوصى بالربع احبّ الىّ من ان اوصى بالثلث رواه البيهقي وروى أيضا عن ابن عباس انه قال الذي يوصى بالخمس أفضل من الذي يوصى بالربع الحديث ( (فائدة)) قيد اللّه تعالى الوصية والدين(1/1262)
هاهنا بقوله غير مضار لا فيما سبق مع انه معتبر فى الجميع لان قرابة الولاد وحسن معاشرة الزواج مانع من الضرار غالبا وفى بنى الاخياف مظنة الضرار قوىّ فلذا قيده بذلك - ( (فصل)) الوصية منها الواجب والمندوب والمباح والحرام والمكروه فمن كان عليه من دين أو زكوة أو نذر أو حج أو فائتة صلوة أو صوم يجب عليه ان يوصى بأداء ما وجب عليه وبفدية
_________
(1) فى الأصل شرك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 36
الصلاة والصوم من ماله فينفذ الديون من جميع ماله ويقدم من الديون ما هو معروفة الأسباب على غير ذلك عند أبى حنيفة وقال الشافعي هما سواء وما عدا الدين ينفذ من ثلث ماله ولا يجوز ان يهمل مثل هذه الوصية ، عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما حق امرئ مسلم له شىء يوصى فيه يبيت ليلتين الّا ووصيته مكتوبة عنده متفق عليه وفى رواية لمسلم ثلاث ليال ومن ليس عليه واجب يستحبّ ان يوصى بالتصدّق بما دون الثلث بالعشر أو الخمس أو الربع ويباح إلى الثلث ان كان الورثة اغنياء لما مرّ من الأحاديث وان كان الورثة فقراء فحينئذ يكره الوصية تنزيها وترك الوصية اولى لما فيه من الصدقة على القريب ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهى على ذى الرحم صدقة وصلة رواه احمد والترمذي وابن ماجة والدارمي ويحرم من الوصية ما فيه مضار للورثة أو قصد الإضرار بهم وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد أى يوصيكم وصية أو منصوب بغير مضار على المفعول به يعنى حال كونه غير مضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بالزيادة أو وصية بالأولاد والأزواج والأقارب بالإسراف فى الوصية والإقرار الكاذب وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار وغيره حَلِيمٌ (12) لا يعاجل بالعقوبة.(1/1263)
تِلْكَ الاحكام فى امر اليتامى والوصايا والمواريث حُدُودُ اللَّهِ أى شرائعه التي لا يجوز التجاوز عنها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) قرأ نافع وابن عامر ندخله فى الموضعين بالنون على التكلم والباقون بالياء على الغيبة وأفرد الضمير فى يدخله فى الموضعين نظرا إلى الفظة من وخالدين وخالدا منصوبان على الحال وجمعه مرة وافراده اخرى نظرا إلى لفظة من ومعناه ولا يجوز ان يكون خالدا صفة لنار والّا لوجب إبراز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له واللّه اعلم ويذكر حكم بنى الأعيان والعملات فى اخر السورة ولنذكر هاهنا ما بقي من مسائل الفرائض اشباعا للمقام - (مسئلة) اجمعوا على انه إذا ازدادت الفرائض على سهام التركة دخل النقص على كل واحد منهم على قدر حصّته وتسمى المسألة عائلة أى مائلة عن مساوات التركة الأسهم بالتعارض
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 37 وعدم الترجيح وبالقياس على الديون إذا زادت على التركة وقد انعقد عليه الإجماع فى زمن عمر رضى اللّه عنه حين ماتت امراة عن زوج وأختين فجمع الصحابة فاستشارهم فقال ارايت لو مات رجل وترك ستة دراهم وعليه لرجل ثلاثة ولرجل اربعة أ ليس جعل المال سبعة اجزاء فاخذت الصحابة بقوله رضى اللّه عنهم ثم خالف ابن عباس بعد موت عمر فانكره فقيل له الا قلت ذلك فى حضرة عمر فقال هيبة وكان مهيبا فقيل له رأيك مع الجماعة احبّ إلينا من رأيك منفردا روى البيهقي عن ابن عباس فقال ترون الذي احصى رمل عالج عددا يجعل فى مال نصفا ونصفا وثلثا إذا ذهب نصف ونصف بالمال فاين موضع الثلث فقيل له من اوّل من عال الفرائض قال عمر وذكر القصّة قال ابن(1/1264)
عباس وايم اللّه لو قدم من قدم اللّه واخر من اخر ما عالت فريضة وكذا أخرج الحاكم وفى رواية وايها قدم اللّه قال كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة الا إلى فريضة فهذا ما قدم اللّه وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها الا ما بقي فتلك التي اخر الله فالذى قدم كالزوجين والام والذي اخر كالاخوات والبنات فإذا اجتمع من قدم اللّه ومن اخر بدئ بمن قدم فاعطى حقه كاملا فان بقي شىء كان لهن وان لم يبق شىء فلا شىء لهن وتبع ابن عباس فى هذا القول محمّد بن الحنفية - (مسئلة) اجمعوا على ان ما ابقته اصحاب الفرائض فهو لاولى رجل ذكر لما مر من الحديث ويسمى ذلك الرجل عصبة ويرث ذلك الرجل جميع المال عند عدم ذى فرض وأقربهم إلى الميت الابن ثم ابنه وان سفل ثم الأب ثم أبوه وان علا ثم الأخ لاب وأم ثم الأخ لاب ثم ابن الأخ لاب وأم ثم ابن الأخ لاب وهكذا حكم من سفل منهما ثم العم لاب وأم ثم لاب ثم ابنهما هكذا وان سفل كل منهما ثم عمّ الأب هكذا لاب وأم ثم لاب ثم ابناهما وان سفل هكذا وهكذا أعمام الأجداد إلى ما لا نهاية لها عن على قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اعيان بنى الأب والام يتوارثون دون بنى العلات يرث الرجل اخوه لابيه وامه دون أخيه لابيه رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم ولا خلاف فى هذا الا ما مرّ الخلاف فى مقاسمة الاخوة للجد (مسئلة) اجمعوا على ان من حظه النصف والثلثان من النساء تصير عصبة مع أخيها لقوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فى الأولاد والاخوة ومن ليس باهل فرض من النساء
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 38(1/1265)
و اخوه عصبة لا تصير عصبة كالعمة وبنت الأخ - (مسئلة) واخر العصبات مولى العتاقة بالإجماع روى البيهقي وعبد الرزاق انّ رجلا اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم برجل فقال انى اشتريته وأعتقته فما امر ميراثه فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان ترك عصبة فالعصبة أحق والا فالولاء لك وفى الصحيحين انما الولاء لمن أعتق ثم عصبات مولى العتاقة ولا ولاء للنساء الا ما اعتقن أو أعتق من اعتقن روى النسائي وابن ماجة من حديث ابنة حمزة ان ابنة حمزة اعتقت فمات مولاها و(1/1266)
ترك ابنته ومولاته يعنى ابنة حمزة فاعطى النبي صلى اللّه عليه وسلم ابنته النصف ولابنة حمزة النصف وروى الدارقطني والطحاوي هذا الحديث مرسلا وقال البيهقي اتفق الرواة على ان ابنة حمزة هى المعتقة دون أبيها وفى الباب عن ابن عباس رواه الدارقطني - (مسئلة) وان بقي شىء من اصحاب الفرائض وليست للميت عصبة يردّ ذلك على اصحاب الفرائض بقدر حصصهم غير الزوجين عند أبى حنيفة واحمد وقال مالك والشافعي لا يرد والباقي لبيت المال وافتى المتأخرون من اصحاب الشافعي بالرد على اصحاب الفرائض لعدم انتظام أم بيت المال نقل القاضي عبد الوهاب المالكي عن أبى الحسن ان الصحيح عن عثمان وعلى وابن عباس وابن مسعود انهم كانوا لا يورثون ذوى الأرحام ولا يردون على أحد من اصحاب الفرائض وروى الطحاوي بسنده عن ابراهيم قال عمر وعبد اللّه يورثان الأرحام قال الراوي قلت أ فكان على يفعل ذلك قال كان أشدهم فى ذلك وروى بسنده من طريقين عن سويد بن غفلة ان رجلا مات وترك ابنة وامراة ومولاة قال سويد انى لجالس عند على إذ جاءه مثل هذه الفريضة فاعطى ابنته النصف وامرأته الثمن ثم رد ما بقي على ابنته ولم يعط المولى شيئا وروى عن أبى جعفر من طريقين كان على رضى اللّه عنه يرد بقية المواريث على ذوى السهام من ذوى الأرحام وروى الطحاوي بسنده عن مسروق قال اتى عبد اللّه فى اخوة لام دام فاعطى الاخوة الثلث واعطى الام سائر المال وقال الام عصبة من لا عصبة له وكان لا يرد على اخوة لام مع الام ولا على ابنة ابن مع ابنة الصلب ولا على أخوات لاب مع اخت لاب وأم ولا على امراة ولا على جدة ولا على زوج قال الطحاوي النظر عندنا ما
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 39(1/1267)
ذهب إليه على رضى اللّه عنه دون ما ذهب إليه ابن مسعود رض ان يكون ذوو الفروض فيما يرد عليهم من فصول المواريث كذلك وان لا يقدم من قرب رحمه على من كان ابعد رحما من الميت بل يقسم بقدر حصصهم لانا قد راينا فى فرائضهم التي فرض لهم قد ورثوا جميعا بارحام مختلفة ولم يكن بعضهم بقرب رحمه اولى بالميراث ممن بعد رحمه وهذا هو قول أبى حنيفة وابى يوسف ومحمد (مسئلة) اجمعوا على انه عند اجتماع جهتى فرض وتعصيب يعتبر الجهتان « 1 » جميعا فإذا ماتت عن أبناء عم ثلاثة أحدهم أخ لام لها والاخر زوج لها يعطى السدس لاحدهم بالاخوة والنصف للثانى بالزوجية والباقي بين الثلاثة بالعصبية ويصح المسألة من ثمانية عشر خمسة منها للاول واحد عشر للثانى واثنان للثالث واختلفوا فيما إذا اجتمع جهتا فرض فقال مالك والشافعي يرث باقواهما فقط وعند أبى حنيفة واحمد يرث بهما جميعا وذا لا يتصوّر الا فى مجوسى نكح المحارم ثم اسلم أو مسلم وطى بشبهة وذلك كام هى اخت لاب بان نكح المجوسي بنته فولدت بنتا ثم نكح البنت الثانية فولدت ولدا فللولد الثالث الثانية امه وأخته لاب والاولى جدته وأخته لاب - (مسئلة) اختلفوا فى ميراث ذوى الأرحام سوى اصحاب الفروض والعصبات بعد إجماعهم على عدم توريثهم مع أحد من اصحاب الفروض سوى الزوجين واحد من العصبات الّا ما روى عن سعيد بن المسيّب ان الخال يرث مع البنت فذهب أبو حنيفة واحمد إلى توريثهم وحكى عن على وابن مسعود وابن عباس وذهب مالك والشافعي إلى عدم توريثهم ويكون المال لبيت المال قالوا حكى ذلك عن أبى بكر وعمر وعثمان وزيد والزهري والأوزاعي وافتى المتأخرون من الشافعية بتوريثهم لعدم انتظام امر بيت المال والحجة لنا فى توريث ذوى الأرحام قوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وقد ذكر البغوي عن أبى بكر انه قال فى خطبته انها نزلت فى اولى الأرحام(1/1268)
بعضها اولى ببعض ، قالوا لا دليل لكم فى هذه الآية لان الناس كانوا يتوارثون بالتبني كما تبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زيد بن حارثة وكانوا يتعاقدون فى الجاهلية على ان الرجل يرث الرجل فانزل اللّه تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ دفعا لذلك وردّا للمواريث إلى ذوى الأرحام
_________
(1) فى الأصل الجهتين -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 40(1/1269)
و قال ادعوهم لابائهم هو اقسط عند اللّه والمراد باولى الأرحام فى الآية هم العصبات واصحاب الفروض قلنا على تقدير تسليم نزول الآية لذلك العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب واللفظ عام شامل لاصحاب الفروض والعصبات وغيرهم ولنا من الأحاديث حديث امامة بن سهل ان رجلا رمى بسهم فقتله وليس له وارث إلا خال فكتب فى ذلك أبو عبيدة إلى عمر فكتب عمر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الخال وارث من لا وارث له رواه احمد والبزار وروى الطحاوي بلفظ اللّه ورسوله مولى من لا مولى له والخال وارث من لا وارث له وحديث المقدام بن معد يكرب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال الخال وارث من لا وارث له يرثه ويعقل عنه رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن حبان وحكى ابن أبى حاتم عن أبى زرعة انه حديث حسن وأعله البيهقي بالاضطراب ورواه الطحاوي بلفظ من ترك ما لا فلورثته وانا وارث من لا وارث له اعقل عنه وارثه والخال وارث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه وفى رواية مثله الا انه قال أرثه وافك عنانه والخال وارث من لا وارث له يرث ما له يفك عنانه قلت معنى قوله عليه السّلام انا وارث من لا وارث له ان من لا وارث له فما له لبيت المال والنبي صلى اللّه عليه وسلم كان متوليا لبيت المال وحديث عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الخال وارث من لا وارث له رواه الترمذي والنسائي والطحاوي وأعله النسائي بالاضطراب ورجح الدارقطني والبيهقي وقفه وحديث واسع بن حبان قال توفى ثابت بن الدحداح وكان أتيا وهو الذي ليس له اصل يعرف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعاصم بن عدى هل تعرفون له فيكم نسبا قال لا يا رسول اللّه فدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن المنذر ابن أخته فاعطاه ميراثه ، رواه الطحاوي وروى الطحاوي اثار عمر بن الخطّاب انه جعل فى العمة والخالة الثلثين(1/1270)
للعمة وو الثلث للخالة الثلثان لقرابة الأب والثلث لقرابة الام ، احتجوا بحديث أبى هريرة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة قال لا أدرى حتى يأتينا جبريل ثم قال اين السّائل عن ميراث العمة والخالة قال فاتى الرجل فقال سارنى جبرئيل لا شىء لهما ، رواه الدارقطني والحديث ضعيف قال الدارقطني لم يسنده غير مسعدة عن محمّد بن عمرو
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 41(1/1271)
و هو ضعيف وضاع للحديث والصواب مرسل وقال احمد بن حنبل حرقنا حديثه ورواه الحاكم من حديث عبد اللّه بن دينار عن ابن عمر وصححه وفى اسناده عبد اللّه بن جعفر المدني وهو ضعيف وروى الحاكم له شاهدا من حديث شريك بن عبد اللّه ان الحارث بن أبى عبيد أخبره ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم سئل عن ميراث العمة والخالة فذكره وفيه سليمان بن داؤد متروك وأخرجه الدارقطني من وجه اخر غير شريك مرسلا وحديث زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار ان رجلا من الأنصار جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه رجل هلك وترك عمته وخالته فسال النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو واقف على حماره فوقف ثم رفع يديه وقال اللهم رجل هلك وترك عمته وخالته فيسئله الرجل ويفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك ثلاث مرات ثم قال لا شىء لهما رواه الطحاوي بطرق والدارقطني والنسائي والحديث مرسل ورواه أبو داود فى المراسيل ووصله الحاكم فى المستدرك بذكر أبى سعيد وفى اسناده ضعف ووصله الطبراني فى الصغير أيضا من حديث أبى سعيد فى ترجمة محمد بن الحرث المخزومي وليس فى الاسناد من ينظر فى حاله غيره ووجه التطبيق بين الأحاديث ان النبي صلى اللّه عليه وسلم سئل اوّلا عن ميراث العمة والخالة وذلك قبل نزول قوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وحينئذ لم ينزل عليه شىء فى ذلك فقال لا شىء لهما ثم نزل توريث ذوى الأرحام فحينئذ قال الخال وارث من لا وارث له و(1/1272)
اللّه اعلم - (مسئلة) اصناف ذوى الأرحام اربعة (1) فروع الميت (2) وأصوله (3) وفروع أصله القريب (4) وفروع أصله البعيد فيحجب الاوّل الثاني والثاني الثالث والثالث الرابع ويحجب الأقرب من كل صنف الأبعد وعند الاستواء من يدنى بوارث يحجب من يدنى بذي رحم ويعتبر فى فروع الاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات قوة القرابة ان كان حيّز قرابتهم واحدة فبنت العم لابوين اولى من بنت العم لاب وعند اختلاف حيز قرابتهم لا اعتبار لقوة القرابة كعمة لاب وخالة لاب وأم لا يحجب أحدهما صاحبته يعطى الثلثان لقرابة الأب والثلث لقرابة الام روى الطحاوي عن عمر كما ذكرنا ومن له جهتا قرابة يتضاعف حظه ويقسم المال فى ذوى الأرحام باعتبار أبدانهم عند أبى حنيفة وابى يوسف والحسن وعند محمد يعتبر عدد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 42(1/1273)
أبدانهم وصفة من يدنى بهم إلى الميّت وتفصيل الكلام يقتضى بسطا لا يسعه المقام - (مسئلة) اجمعوا على ان القتل عمدا مانع من الإرث وكذا القتل خطأ عند الثلاثة وقال مالك يرث من المال القاتل خطأ دون الدية لنا عموم قوله صلى اللّه عليه وسلم القاتل لا يرث رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبى هريرة وفيه إسحاق بن عبد اللّه الهروي متروك الحديث وروى النسائي والدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه والبيهقي والدارقطني من حديث ابن عباس نحوه احتج مالك بحديث عبد اللّه بن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة قال لا يتوارث أهل ملتين والمرأة ترث من دية زوجها وماله وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدا فان قتل أحدهما صاحبه عمدا لم يرث من ديته رواه الدارقطني وفيه الحسن بن صالح مجروح وبحديث هشام بن عروة عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال الرجل يقتل وليه خطأ انه يرث من ماله ولا يرث من ديته وفيه مسلم بن على قال يحيى ليس بشىء وقال الدارقطني متروك ورواه الدارقطني من حديث سعيد بن المسيب مرسلا لا يرث قاتل عمد ولا خطأ من الدية رواه أبو داود قلنا هذه الأحاديث لا تدل على ميراث القاتل خطأ الا بالمفهوم والمفهوم ليس بحجة عندنا ثم هو يخالف الأصول وهو الميراث فى بعض التركة (مسئلة) اجمعوا على ان المسلم لا يرث الكافر ولا الكافر المسلم لقوله عليه السّلام لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم رواه الشيخان واصحاب السنن الاربعة من حديث اسامة بن زيد وحكى عن معاذ وابن المسيب والنخعي انه يرث المسلم الكافر ولا عكس كما يتزوج المسلم الكتابية من غير عكس واستثنى احمد من هذا الحكم أمرين أحدهما ان المسلم يرث عنده من معتقه الكافر بالولاء محتجا بحديث جابر مرفوعا لا يرث المسلم النصراني الا ان يكون عبده أو أمته رواه الدارقطني وقال الدارقطني روى موقوفا و(1/1274)
هو المحفوظ قلنا المراد بالعبد والامة الماذونان فى التجارة فان مالهما مال المولى اطلق عليه الميراث مجازا وامّا المعتق فليس بعبد ، وثانيهما انه إذا كان للميّت المسلم أقارب كفّارا فاسلموا قبل قسمة التركة فعنده يستحقون الميراث وفى رواية عنه لا يستحقون كمذهب الجمهور احتج احمد بحديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل قسم قسّم فى الجاهلية فهو على ما قسّم وكل قسم أدركه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 43
الإسلام فانه على قسم الإسلام رواه أبو داود وحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان من ميراث قسّم فى الجاهلية فهو على قسمة الجاهلية وما كان من ميراث أدركه الإسلام فهو على قسمة الإسلام رواه ابن ماجة وليس فى الحديثين حجة فان المعنى يقسم فى الإسلام على فرائض اللّه لا على نسق الجاهلية وكذا لا حجة لهم فيما يحتجون به من حديث عروة بن الزبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اسلم على شىء فهو له رواه ابن الجوزي - (مسئلة) يرث النصراني اليهودي وبالعكس كذا كل أهل ملتين من الكفر عند أبى حنيفة والشافعي لان الكفر ملة واحدة والأصل هو الميراث وقال مالك واحمد لا يرث لقوله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى رواه احمد والنسائي وأبو داود وابن ماجة والدارقطني من(1/1275)
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وفيه يعقوب بن عطاء ضعيف ورواه ابن حبان من حديث ابن عمر فى حديث ورواه الترمذي واستغربه من حديث جابر وفيه ابن أبى ليلى ضعيف وأخرجه البزار من حديث أبى هريرة بلفظ لا يرث ملّة من ملّة وفيه عمرو بن راشد وهو لين الحديث ورواه النسائي والحاكم والدارقطني بهذا اللفظ من حديث اسامة بن زيد قال الدارقطني هذا اللفظ فى حديث اسامة غير محفوظ ووهم عبد الحق فعزاه إلى مسلم ورواه البيهقي من حديث اسامة بلفظ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ولا يتوارث أهل ملتين وفى اسناده الخليل ابن مرة ضعيف ثم المراد بالملتين هو الإسلام والكفر واللّه اعلم (مسئلة) اجمعوا على ان الأنبياء لا يورثون وان ما تركوه صدقة يصرف فى مصالح المسلمين ولم يخالف فى هذه المسألة الا الشيعة وهم يطعنون على خير البرية بعد الأنبياء أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه انه منع فاطمة عن ميراث أبيها واحتج بحديث تفرد بروايته قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة وترك بهذا الحديث وهو من الآحاد قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ الآية مع ان هذا الحديث يعارض قوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وقوله تعالى حكاية عن زكريا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ قاتلهم الله انى يوفكون الم يعلموا ان الحديث وان كان بالنسبة إلينا من الآحاد لكنه فى حق الصديق الذي سمع بأذنه من فىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان فوق
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 44(1/1276)
المتواتر لان المحسوسات فوق المتواترات على ان ما قالوا ان الحديث تفرد بروايته أبو بكر باطل بل رواه جماعة من الصحابة منهم خذيفة بن اليمان وأبو الدرداء وعائشة وأبو هريرة وروى البخاري ان عمر رضى اللّه عنه قال بمحضر من الصحابة منهم على وعباس وعبد الرحمن بن عوف وزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص أنشدكم باللّه الذي باذنه تقوم السّماء والأرض أ تعلمون ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال لا نورث ما تركناه صدقة يريد بذلك نفسه قالوا اللهم نعم ثم اقبل على على وعباس فقال أنشدكما باللّه هل تعلمان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ذلك قالا اللهم نعم الحديث وقد صح روايات هؤلاء الصحابة فى كتب الحديث فى مسانيدهم فالحديث المذكور بالنسبة إلينا أيضا يبلغ درجة الشهرة وتلقته الامة بالقبول واجمعوا عليه وقد ورد ما يؤيد ذلك فى كتب الشيعة أيضا روى محمد بن يعقوب الرازي فى الكافي عن أبى البختري عن أبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام انه قال العلماء ورثة الأنبياء وذلك ان الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وانما أورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشىء منها فقد أخذ بحظ وافر وكلمة انما عندهم للحصر وقوله تعالى وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ المراد به ميراث العلم كما يدل عليه الآية حيث قال وورث سليمان داود وقال يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ فان قوله علمنا بيان لذلك الميراث وكذا قوله تعالى يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ المراد به ميراث العلم إذ لا يمكن ان يرث يحيى بن زكريا من جميع ال يعقوب ميراث المال وانما هو ميراث العلم واللّه اعلم.(1/1277)
وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ يعنى الزنى وهى يشتمل السحاقات أيضا لعموم اللفظ ويشتمل أيضا ان يؤتى المرأة الاجنبية فى دبرها مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا يعنى اطلبوا أيها الحكام من قاذفيهن شهداء عَلَيْهِنَّ بانا رايناهن كالميل فى المكحلة أَرْبَعَةً مِنْكُمْ يعنى رجالا اربعة من المؤمنين العدول فلا يجوز فى الحدود شهادة النساء اجماعا فَإِنْ شَهِدُوا يعنى الاربعة فَأَمْسِكُوهُنَّ فاخبسوهن فِي الْبُيُوتِ واجعلوها عَلَيْهِنَّ سجنا حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ أى يستوفى أزواجهن الْمَوْتُ يعنى ملائكة الموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ قيل أو بمعنى إلى ان لَهُنَّ سَبِيلًا (15) يعنى حكما جاريا مشروعا ، روى مسلم عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 45
لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم (فائدة) اختلفوا فى ان الإمساك فى البيت هل كان حدا فنسخ أم كان حبسا ليظهر الحد والصحيح عندى انه لم ينسخ بل اللّه سبحانه امر بالحبس إلى ان ينزل الحد فيجرى عليه وبعد نزول الحد هذا الحكم باق حتى يقام عليه الحدّ قال فى الهداية قال فى الأصل يحبسه يعنى الحاكم حتى يسئل يعنى عن عدالة الشهود وسنذكر مسائل حد الزنى فى سورة النور ان شاء اللّه تعالى.(1/1278)
وَ الَّذانِ قرأ ابن كثير هنا وفى طه انّ هذانّ وفى الحج هذانّ وفى القصص هاتينّ وفى فصلت أرنا الّذينّ بتشديد النون وتمكين مدّ الالف « 1 » قبلها فى الخمسة والباقون بالتخفيف من غير تمكين يَأْتِيانِها يعنى الفاحشة وهى الزنى أو اللواطة مِنْكُمْ فَآذُوهُما والمراد باللذان عند الأكثر الزاني والزانية وبقوله تعالى فاذوهما « 2 » قال عطاء وقتادة فعيروهما باللسان اما خفت اللّه اما استحييت اللّه وقال ابن عباس هو باللسان واليد يؤذى بالتغيير وضرب النعال وعلى تقدير كون المراد بهذه الآية الزاني والزانية يشكل انه ذكر فى الآية الاولى الحبس وذكر فى هذه الآية الإيذاء فكيف الجمع فقيل الآية الاولى فى الثيّب وهذه فى البكر وقيل هذه الآية سابقة على الاولى نزولا كان عقوبة الزناة الأذى ثم الحبس ثم الجلد والظاهر عندى انّ المراد باللذان يأتيان الفاحشة الرجال الذين عملوا عمل قوم لوط وهو قول مجاهد وحينئذ لا إشكال والإيذاء غير مقدر فى الشرع فهو مفوض إلى رأى الامام كذا قال أبو حنيفة رحمه الله يعزرهما الامام على حسب ما يرى ومن تعزيره إذا تكرر فيه الفعل والتعزير ولم ينزجر ان يقتل عند أبى حنيفة محصنا كان أو غير محصن سياسة قال ابن همام لا حدّ عليه عند أبى حنيفة لكنه يعزر ويسجن حتى يموت ولو اعتاد اللواطة قتله الامام وقال مالك والشافعي واحمد وأبو يوسف ومحمد اللواطة يوجب الحد فقال مالك واحمد فى اظهر الروايتين وهو أحد اقوال الشافعي حدّه الرجم بكل حال ثيبا كان أو بكرا وفى قول للشافعى حدّه القتل بالسيف وأرجح اقوال الشافعي وهو قول أبى يوسف ومحمد ورواية عن احمد ان حدّه حدّ الزنى يجلد البكر ويرجم المحصن لأنه فى معنى الزنى لأنه قضاء شهوة فى محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء بل هو أشدّ من الزنى لأنه حرمته منتهية(1/1279)
_________
(1) قال رحمه الله ذلك تغليبا لان تمكين الالف لا يوجد الا فى الثلاثة الأول وذلك واجب وفى الأخريين تمكين الياء وهو جائز لان حركة ما قبلها مخالف أبو محمد عفا الله عنه
(2) فى الأصل آذوهما
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 46
بالنكاح فيثبت فيه حكم الزنى بدلالة النص وبما روى البيهقي من حديث أبى موسى مرفوعا إذا اتى الرجل الرجل فهما زانيان وفيه محمد بن عبد الرحمن القشيري كذّبه أبو حاتم ورواه أبو الفتح الأزدي فى الضعفاء والطبراني فى الكبير من وجه اخر عن أبى موسى وفيه البشر بن الفضل البجلي مجهول وقد أخرجه أبو داود الطيالسي فى مسنده عنه ولابى حنيفة انه ليس بزنى لغة ولذلك اختلفت الصحابة فى موجبه وهو اندر من الزنى لعدم الداعي إليه من الجانبين فليس فى معناه ووجه قول من قال يقتل حدّا حديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به رواه احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن عكرمة عنه قال الترمذي انما يعرف من حديث ابن عباس من هذا الوجه وقال الحاكم صحيح الاسناد وقال البخاري عمرو بن أبى عمر الراوي عن عكرمة صدوق لكنه روى عن عكرمة مناكير واستنكره النسائي وقال ليس بالقوى وقال ابن معين ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس هذه وقد أخرج له الجماعة واخرج الحاكم بطرق اخر وسكت عنه وتعقبة الذهبي بان عبد الرحمن العمرى ساقط ورواه ابن ماجة والحاكم من حديث أبى هريرة واسناده أضعف من الأول بكثير كذا قال الحافظ وقال حديث أبى هريرة لا يصح وأخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمرى وعاصم متروك وقد رواه ابن ماجة أيضا من طريقه بلفظ فارجموا الأعلى والأسفل وقال ابن الصلاح فى أحكامه لم يثبت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجم فى اللواطة ولا انه حكم به فيه(1/1280)
و ثبت عنه انه قال اقتلوا الفاعل والمفعول قال أبو حنيفة ولمّا كان هذا لحديث بهذه المثابة من التردد لا يجوز به الاقدام على القتل مستمرا على انه حدّ كيف ولا يجوز عندنا الزيادة على الكتاب بحديث الآحاد وان كان صحيحا وقد ثبت بالكتاب الإيذاء وهو التعزير فان قيل كون الآية فى اللواطة لم يثبت قطعا بل قال اكثر المفسرين ان المراد به الزاني والزانية قلنا الآية تشملها لعموم لفظها وان كانت واردة فى الزناة لان الفاحشة كما يطلق على الزنى يطلق على اللواطة أيضا قال اللّه تعالى فى قوم لوط ا تأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين وفى الباب عن الصحابة روايات مختلفة روى البيهقي فى شعب الايمان من طريق ابن أبى الدنيا عن محمد بن المنكدر ان خالد بن الوليد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 47(1/1281)
كتب إلى أبى بكر انه وجد رجلا فى بعض نواحى العرب ينكح كما تنكح المرأة فجمع أبو بكر الصحابة فسالهم فكان أشدهم فى ذلك قولا على قال هذا ذنب لم يعص به الّا أمة واحدة صنع اللّه به ما علمتم نرى ان نحرقه بالنار فاجتمع رأى الصحابة على ذلك وروى ابن أبى شيبة فى مصنفه والبيهقي عن ابن عباس قال ينظرا على بناء فى القرية فيرمى منه منكوسا ثم يتبع بالحجارة وكان مأخذ هذا القول ان قوم لوط اهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك فى اتباع الهديم بهم وهم نازلون وذكر عن ابن الزبير يحبسان فى أنتن المواضع حتى يموتا وروى البيهقي عن على من طرق انه رجم لوطيا ويجمع هذه الأقوال وحديث ابن عباس المرفوع وما فى معناه ان الرجل إذا اعتاد باللواطة وتكرر منه الفعل ولم ينزجر بالتعزير يقتل باىّ وجه كان ويدل على التكرار والاعتياد لفظ المرفوع من وجدتم يعمل عمل قوم لوط ولم يقل من عمل عمل قوم لوط وبه قال أبو حنيفة واللّه اعلم ، فَإِنْ تابا عن الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فيما بعد فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا عنهما الإيذاء إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً التوبة فى الأصل بمعنى الرجوع فهى من العبد الرجوع عن المعصية ومن اللّه تعالى الرجوع عن ارادة العذاب أو هو من الله تعالى بمعنى قبول التوبة أو توفيق التوبة رَحِيماً (16) يرحم التائبين.(1/1282)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ أى الرجوع عن ارادة العذاب بالمغفرة أو قبول التوبة عَلَى اللَّهِ أى كالمتحتم عليه بمقتضى وعده لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ متلبسين « 1 » بِجَهالَةٍ قال البغوي قال قتادة اجمع اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ان كل معصية جهالة عمدا كان ا ولم يكن وكل من عصى اللّه فهو جاهل وكذا أخرج ابن جرير عن أبى العالية وقال الكلبي لم يجهل انه ذنب لكنه جهل عقوبته وقيل معنى الجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية قلت معنى الجهالة ذهوله عن عذاب اللّه عند ثوران النفس وغلبة الشهوة البهيمية أو السبعية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من للتبعيض أى يتوبون فى اىّ جزء من الزمان القريب قيل معنى القريب قبل ان يحيط السوء بحسناته فحبطها وقيل قبل ان يشرب فى قلوبهم حبّه ، فيطبع عليها ويرين السوء على قلبه وقال السدى والكلبي القريب ان يتوب فى صحته قبل مرض موته والصحيح ان المراد به فى حياته قبل حضور الموت
_________
(1) فى الأصل ملتبسبن -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 48(1/1283)
و معائنة ملائكة العذاب كذا قال عكرمة والضحاك ويدل عليه قوله تعالى حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قوله عليه الصلاة والسّلام ان الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه احمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي عن ابن عمر والحديث صحيح وعن أبى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان الشيطان قال وعزتك وجلالك لا أبرح اغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم فقال له ربّه فبعزتى وجلالى لا أبرح اغفر لهم ما استغفرونى رواه احمد وأبو يعلى وعن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تاب قبل ان تطلع الشمس من مغربها تاب اللّه عليه رواه مسلم سمى اللّه تعالى مدة العمر قريبا نظرا إلى ما بعده قال اللّه تعالى قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لاستحالة الخلف فيما وعد اللّه سبحانه وجعل على نفسه كالمتحتم فهذه الجملة كالنتيجة لما سبق وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً يعلم المخلص فى التوبة حَكِيماً (17) لا يعاقب بعد التوبة.(1/1284)
وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ وقع فى النزع وراى ملائكة العذاب قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ يعنى حين يساق روحه فحينئذ لا يقبل من كافر ايمان ولا من عاص توبة وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ فى موضع الجر بالعطف على الذين يعملون السيئات يعنى ليست التوبة للذين يموتون وَهُمْ كُفَّارٌ حال من فاعل يموتون يعنى لا يغفرهم الله ولا يرجع عن تعذيبهم أو لا يقبل توبتهم فى الاخرة حين يقولون رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ أو لا يقبل توبتهم فى الدنيا عن بعض المعاصي إذا ماتوا على الكفر بل يعذبون على الكفر وجميع المعاصي أُولئِكَ أَعْتَدْنا أى هيئنا من العتيد بمعنى الحاضر لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) تأكيد لعدم قبول توبتهم - روى البخاري وأبو داؤد والنسائي عن ابن عباس قال كان إذا مات الرجل كان أولياءه أحق بامراته ان شاء بعضهم تزوجوها وان شاءوا زوّجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً أى تأخذوهن كما
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 49(1/1285)
يؤخذ الميراث وتزوجوهن كارهات أو مكرهات عليه قرأ حمزة والكسائي كرها بضم الكاف هاهنا وفى التوبة والباقون بفتحها قال الكسائي هما لغتان وقال الفراء بالضم ما اكره عليه وبالفتح ما كان من نفسه بالمشقة قال البغوي كانوا فى الجاهلية إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فالقى ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها فصار أحق بها من نفسها ومن غيره فان شاء تزوجها بغير صداق الا الصداق الأول الذي أصدقها الميت وان شاء زوجها غيره وأخذ صداقها وان شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدى منه بما ورثته من الميّت كذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال فنهوا عن ذلك وزاد البغوي فان ماتت المرأة ورثها من القى عليها الثوب وان ذهبت المرأة إلى أهلها قبل ان يلقى عليها ولى زوجها ثوبه فهى أحق بنفسها فكانوا على هذا حتى توفى أبو قيس بن الاسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الانصارية فقام ابن له من غيرها يقال له حصن وقال مقاتل ابن حبان اسمه قيس بن أبى قيس فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدى منه فاتت كبيشة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه انّ أبا قيس توفى وورث نكاحى ابنه فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلى سبيلى فقال اقعدى فى بيتك حتى يأتى فيك امر اللّه فانزل اللّه تعالى لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ عطف على ان ترثوا منصوب بان ولا لتأكيد النفي واصل المعضل التضييق والمعنى ولا تمنعوهن من التزويج لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من المهور الخطاب للمؤمنين عامة وضمير لتذهبوا راجع إلى المخاطبين باعتبار بعض افرادهم يعنى اولياء الميّت وضمير اتيتموهنّ باعتبار بعض اخر يعنى الأزواج الأموات والمعنى ولا تعضلوهنّ أيها الأولياء لتفتدين فتذهبوا ببعض ما(1/1286)
اتاهن أزواجهن المترفين من المهور وقيل الخطاب بالنهى عن توارث النساء والعضل مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن والظاهر عندى ان الخطاب فى لا يحلّ لكم مع الأولياء وتم الكلام بقوله كرّها وهذا كلام مستانف خطاب مع الأزواج ولا تعضلوهن صيغة نهى مجزوم قال البغوي قال ابن عباس هذا فى الرجل يكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضاها
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 50(1/1287)
لتفتدى وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر فنهى اللّه عن ذلك وعلى هذا فقوله تعالى لا تَعْضُلُوهُنَّ معطوف على لا يَحِلُّ لَكُمْ عطف الجملة على الجملة لا عطف المفرد على المفرد ، فان قيل يلزم عطف الإنشاء على الاخبار قلنا قوله تعالى لا يَحِلُّ لَكُمْ وان كان اخبارا لفظا فهو إنشاء معنى ومعناه النهى عن ميراثهن وأيضا عطف الجملة على الجملة فيما لا محل لها من الاعراب مع اختلافهما خبرا وإنشاء جائز إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ قرأ ابن كثير وأبو بكر مبيّنة هنا وفى الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن والاستثناء فى محل النصب على الظرفية أو على انه مفعول له أو على انه حال من مفعول لا تعضلوهنّ تقديره لا تعضلوهن للاقتداء فى وقت الا وقت ان يأتين بفاحشة أو لا تعضلوهن لغرض الافتداء بسبب الّا لان يأتين بفاحشة أو لا تعضلوهن للافتداء ولا لغير ذلك من علة الّا لان يأتين أو فى حال من الأحوال الّا حال ان يأتين بفاحشة والفاحشة قال ابن مسعود وقتادة هى النشوز وقال الحسن هو الزنى يعنى ان المرأة إذا نشزت أو ذنت حل للزوج ان يسئلها الخلع وقد ذكرنا مسائل الخلع فى سورة البقرة وقال عطاء كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بالانصاف فى الفعل وأداء الحقوق والإحسان فى القول عطف على لا تعضلوا أو على لا يحلّ لكم وقال الحسن رجع إلى اوّل الكلام يعنى آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ لسوء المنظر أو سوء الأخلاق فاصبروا عليهن ولا تفارقوهن ولا تضاروهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ فى ذلك الشيء خَيْراً كَثِيراً (19) يعنى ثوابا جزيلا أو ولدا(1/1288)
صالحا جملة عسى مع فاعله فى الأصل علة لجزاء الشرط أقيم مقام الجزاء وفاعل عسى مجموع المعطوف والمعطوف عليه ومناط الرجاء هو المعطوف فقط والمعنى الخير مرجو عند الكراهة - .
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ يعنى تطليق امراة من غير نشوز من قبلها ولا فاحشة وتزوج امراة اخرى مكانها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ الضمير راجع إلى زوج لأنه أراد به الجمع فانه جنس يطلق على الواحد والجمع ولو لا ارادة الجمع لما استقام المقابلة بجماعة الرجال وانقسام الآحاد على الآحاد وفى أتيتم حذف مضاف تقديره واتى أحدكم إحداهن يعنى التي يريد أحدكم طلاقها قِنْطاراً أى مالا كثيرا صداقا أخرج ابن جرير عن انس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتيتم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 51(1/1289)
إحداهنّ قنطارا قال الفا ومائتين ومن هاهنا يظهر انه لا تقدير لاكثر الصداق وعليه انعقد الإجماع وبهذه الآية استدلت امراة على جواز المغالات فى المهر حين منع « 1 » عنها عمر فقال عمر كل افقه من عمر حتى المخدرات والمستحب اجماعا ان لا يغالى فيه قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه الا لا تغالوا فى صدقات النساء فانها لو كانت مكرمة فى الدنيا وتقوى عند اللّه لكان أولاكم بها نبى الله صلى اللّه عليه وسلم ما علمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نكح شيئا من نسائه ولا انكح شيئا من بناته على اكثر من اثنى عشر اوقية رواه احمد واصحاب السنن الاربعة والدارمي وروى ابن حبان فى صحيحه والخطابي عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير النساء أيسرهن صداقا وروى ابن حبان عن عائشة انه صلى اللّه عليه وسلم قال من يمن المرأة سهل أمرها وقلة صداقها وروى احمد والبيهقي أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا واسناده جيّد وعن أبى سلمة قالت سالت عائشة كم كان صداق النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كان صداقه لازواجه اثنتي عشر اوقية ونش قالت أ تدري ما النش قلت لا قالت نصف اوقية رواه مسلم فتلك خمسمائة درهم هذا صداق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لازواجه لكن أم حبيبة أصدقها النجاشي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم اربعة آلاف درهم رواه أبو داؤد والنسائي وقال ابن إسحاق عن أبى جعفر أصدقها اربعة مائة دينار وفى خلاصة « 2 » السير فى نكاح خديجة أصدقها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اثنتي عشرة اوقية من ذهب والاوقية من الذهب سبعة مثاقيل وروى احمد وأبو داود عن عائشة ان جويرية وقعت فى سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له فتخلصها ثابت من ابن عمّه بنخلات بالمدينة وكاتبها فادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما كان من كتابتها وتزوجها وكان ذلك مهرا لها وفى سبيل الرشاد ان ثابت بن قيس وابن عم له كاتبا جويرية على(1/1290)
تسع أواق من ذهب
_________
(1) عن أبى عبد الرحمن السلمى قال قال عمر بن الخطاب لا تغالوا فى مهور النساء فقالت امراة ليس لك ذلك يا عمران الله يقول وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً من ذهب قال وكذلك فى قراءة ابن مسعود فقال عمران امراة خاصمت عمر فخصمته ، وعن بكر بن عبد اللّه المزني قال قال عمر خرجت وانا أريد أنهاكم عن كثرة الصداق فعرضت لى اية من كتاب اللّه آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً ، قلت هذان الحديثان يدلان على رجوع عمر عن النهى عن المغالات فى المهر والصحيح عندى ان عمر رضى اللّه عنه نهى عن المغالات على سبيل التنزيه دون التحريم ورجع عن النهى التحريمي والله اعلم منه رحمه اللّه
(2) قيل كان صداق خديجة عشرين بكرة وقيل اربعمائة دينار ، كذا فى شرح خلاصة السير منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 52
فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أى من القنطار شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ استفهام انكار وتوبيخ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) منصوبان على الحال أو على العلة يعنى تأخذونه باهتين وآثمين أو بسبب بهتانكم وارتكابكم الإثم والبهتان الباطل من القول وقد يستعمل فى الفعل الباطل وهو المراد هاهنا ولذا فسر هاهنا بالظلم وقيل كان الرجل إذا أراد نكاح جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء.(1/1291)
وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ استفهام الإنكار عن الاسترداد بعد التقرر ووجوب الأداء والحال انه قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ يعنى أفضتم إليهن قال الشافعي يعنى دخلتم بهن فان الإفضاء عنده كناية عن الجماع ومن ثم قال الشافعي فى اظهر قوليه لا يتقرر المهر بالخلوة بدون الوطي فان طلقها قبل الوطي بعد الخلوة الصحيحة التي لا مانع فيها من الوطي طبعا ولا شرعا يجب نصف المهر عنده وقال أبو حنيفة واحمد يستقر المهر بالخلوة الصحيحة وان لم يطأ ومعنى الإفضاء الدخول فى الفضاء والفضاء فى اللغة الصحراء والمراد هاهنا المكان الخالي وقال مالك ان خلا بها وطالت مدة الخلوة استقر المهر وان لم يطأ وحد ابن القاسم الخلوة بالعام واحتج الشافعي على وجوب نصف المهر بعد الخلوة قبل الوطي بقوله تعالى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ قلنا المجاز فى قوله مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ متحتّم لان المس ليس حقيقة بمعنى الجماع فالقول بانه فى معنى الجماع تسمية الاخصّ باسم الاعمّ ليس اولى من القول بانه مجاز عن الخلوة لان الخلوة سبب للمسّ والمسّ غاية لها فهو من تسمية السبب باسم المسبب ولنا اتفاق الصدر الاوّل على وجوب كمال المهر بالخلوة سواء وطئ بها أو لا كذا نقل الشيخ أبو بكر الرازي فى أحكامه وحكى الطحاوي فيه اجماع الصّحابة وقال ابن المنذر هو قول عمر وعلى وزيد بن ثابت وعبد اللّه بن عمر وجابر ومعاذ بن جبل وابى هريرة روى البيهقي عن الأحنف عن عمر وعلى انهما قالا إذا اغلق بابا وارخى سنرا فلها الصداق كاملا وعليها العدة وفيه انقطاع وفى المؤطا عن يحيى ابن سعيد عن سعيد بن المسيّب ان عمر قال إذا أرخت الستور فقد وجب الصداق وروى عبد الرزاق فى مصنفه عن أبى هريرة قال قال عمر نحوه وروى الدارقطني عن على قال إذا اغلق بابا و(1/1292)
ارخى سترا وراى عورة فقد وجب عليه الصداق وروى أبو عبيد فى كتاب النكاح من رواية زرارة بن اوفى قال قضى الخلفاء الراشدون المهديون إذا اغلق الباب وارخى الستر فقد وجب الصّداق والعدة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 53
وروى الدارقطني فى الباب حديثا مرفوعا عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كشف خمار امراة ونظر إليها فقد وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل وفى اسناده ابن لهيعة ضعيف لكن قال ابن الجوزي ابن لهيعة قد روى عنه العلماء وأخرجه أبو داود فى المراسيل عن ابن ثوبان ورجاله ثقات والمرسل عند ناحجة وقد روى عن ابن مسعود وابن عباس كمذهب الشافعي لكن لم يصح روى البيهقي عن الشعبي عن ابن مسعود فيمن خلا بامرأة ولم يحصل وطى لها نصف الصداق وهو منقطع وروى الشافعي عن ابن عباس مثله وفى اسناده ضعف وأخرجه ابن أبى شيبة عنه من وجه اخر وكذا البيهقي وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) عهدا وثيقا عطف على افضى قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة هو قول الولي عند العقد زوجتكها على ما أخذ اللّه للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وقال الشعبي وعكرمة هو ما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال اتقوا اللّه فى النساء فانكم أخذتموهن بامانة اللّه واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه تعالى رواه مسلم من حديث جابر وروى ابن جرير من حديث ابن عمر نحوه يعنى أوثق اللّه عليكم لهن فكأنهنّ أخذن الميثاق أخرج ابن أبى سعد عن محمد بن كعب القرظي قال كان الرجل إذا توفى عن امرأته كان ابنه أحق بها ان ينكحها ان شاء ان لم تكن امه أو ينكحها من شاء فلما مات أبو قيس بن سلمة قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم يورثها من المال شيئا فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ارجعي لعل ينزل فيك شىء ورواه ابن أبى حاتم والفرياني والطبراني عن عدى بن(1/1293)
ثابت عن رجل من الأنصار نحوه بلفظ توفى أبو قيس بن الاسلمة وكان من صالحى الأنصار فخطب ابنه قيس امرأته فقالت انما اعدّك ولدا وأنت من صالحى قومك فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبرته فقال ارجعي إلى بيتك فنزلت.
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ما موصولة يعنى التي نكحها آباؤكم وانما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة وقيل ما مصدرية بمعنى المفعول مِنَ النِّساءِ بيان ما نكح على الوجهين وفائدة البيان مع ظهور ان منكوحات الآباء لا تكون الّا من النساء التعميم إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ الظاهر ان الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف فانه لا مؤاخذة عليه وقيل استثناء من المعنى اللازم للنهى كأنَّه قيل تعذبون بنكاح ما نكح
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 54(1/1294)
آباؤكم الا بما قد سلف إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً يعنى أقبح المعاصي عند اللّه لم يرخص فيه لامة من الأمم وَمَقْتاً ممقوتا للّه وعند ذى المروات كان العرب يقول لولد الرجل من امراة أبيه مقيت وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط عمرو بن امية والمقت أشد البغض وَساءَ سَبِيلًا (22) سبيل من يفعله عن البراء بن عازب رضى اللّه عنه قال مرّبى خالى ومعه لواء فقلت اين تذهب قال بعثني النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى رجل تزوج بامراة أبيه اتيه برأسه رواه الترمذي وأبو داؤد وفى رواية له وللنسائى وابن ماجة والدارمي فامرنى ان اضرب عنقه وأخذ ماله وفى هذه الرواية قال مرّ بي عمّى بدل خالى (فائدة) المراد بالآباء الأصول بعموم المجاز اجماعا حتى يحرم منكوحة الجد وان علا سواء كان الجد من قبل الأب أو من قبل الام والنكاح قيل معناه الوطي حقيقة كذا قال ابن الجوزي فى التحقيق وبناء على هذا احتج بهذه الآية على ثبوت حرمة المصاهرة فى الزنى ومعنى الآية على هذا لا تطؤا موطوات الآباء سواء كان الوطي بنكاح صحيح أو فاسدا وملك يمين أو بشبهة أو بزنى وفى القاموس النكاح الوطي والعقد له وهذه العبارة تفيد الاشتراك وفى الصحاح اصل النكاح العقد ثم استعير للجماع ومحال ان يكون فى الأصل للجماع ثم استعير للعقد لان اسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباحهم تعاطيه ومحال ان يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستقبحونه بما يستحسنوه قال اللّه تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إلى غير ذلك من الآيات والصحيح عندى ان المراد بالنكاح فى هذه الآية العقد دون الجماع للاجماع على ان منكوحة الأب التي وقع عليها عقد النكاح ولم يطأها يحرم على الابن لا خلاف فى ذلك وثبوت حرمة المصاهرة بالزنى مختلف فيه ، فحمل الآية على معنى يوجب حكما مجمعا عليه اولى من خلاف ذلك فان قيل إذا أريد بالنكاح فى الآية العقد فما وجه القول بتحريم موطوءة(1/1295)
الأب بملك اليمين مع انّ حرمتها أيضا مجمع عليه قلنا وجه ذلك دلالة النص فان المقصود من النكاح انما هو الوطي وهو سبب للجزئية فإذا كان النكاح الذي هو سبب للوطى الحلال موجبا لحرمته المصاهرة كان الوطي الحلال موجبا لها بالطريق الاولى - (مسئلة) الزنى لا يوجب حرمة المصاهرة عند الشافعي ومالك وقال أبو حنيفة واحمد يوجب
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 55
و هى رواية عن مالك وزاد احمد عليه فقال إذا اتى رجل امراة فى دبرها أو اتى رجلا فى دبره حرمت على الواطى أم المفعول به وبنته رجلا كان أو امراة وقد ذكرنا ان الاستدلال على حرمة المصاهرة بهذه الآية ضعيف فالاولى الاستدلال عليه بالقياس على الوطي الحلال لان علة التحريم كون الوطي سببا للولد ووصف الحل ملغاة شرعا بان وطى الامة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وامة المجوسية والحائض والنفساء ووطى المحرم والصائم فان كله حرام ويثبت به حرمة المصاهرة اجماعا فعلم ان المعتبر فى الأصل هو ذات الوطي من غير نظر لكونه حلالا أو حراما قال ابن همام قد روى أصحابنا فيه أحاديث منها قال رجل يا رسول اللّه انى زينت بامراة فى الجاهلية أ فأنكح ابنتها قال لا ارى ذلك ولا يصلح ان تنكح امراة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها وهو مرسل منقطع وفيه أبو بكر بن عبد الرحمن بن ابنة حكيم ومن طريق ابن وهب عن أبى أيوب عن ابن جريح ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فى الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك لا يتزوج ابنتها وهو مرسل منقطع الا ان هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرّجال ثقات انتهى كلامه احتج الشافعي بحديثين أحدهما حديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحرام لا يفسد الحلال رواه الدارقطني وفيه عثمان(1/1296)
بن عبد الرحمن الوقاصى قال يحيى بن معين ليس بشىء كان يكذب ضعّفه ابن المديني جدّا وقال البخاري والنسائي والرازي وأبو داود ليس بشىء وقال الدارقطني متروك وقال ابن حبان كان يروى عن الثقات الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به ، ثانيهما حديث ابن عمر نحو حديث عائشة رواه الدارقطني وابن ماجة وفيه عبد الله ابن عمر أخو عبيد الله قال ابن حبان فحش خطاؤه فاستحق الترك وفيه إسحاق بن محمد العروى قال يحيى ليس بشىء كذّاب وقال البخاري تركوه (مسئلة) ابن المزنية يحرم عليه منكوحة أبيه الزاني كما يحرم بنت المزنية على أبيها الزاني لانهما ابنه وبنته حقيقة لغة والخطاب انما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل كلفظ الصلاة ونحوه فيصير منقولا شرعيا وكذا إذا لا عن رجل امرأته بنفي نسب ابنه وبنته فنفى القاضي نسبهما من الأب والحقهما بالأم لا يجوز لابن الملاعنة ان ينكح منكوحة الملاعن ولا للملاعن ان ينكح ابنة الملاعنة لأنه يحتمل ان يكذب الملاعن نفسه ويدعيها فيثبت نسبهما منه ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 56
(مسئلة) مس الرجل امرأة والمرأة رجلا بشهرة له حكم الوطي عند أبى حنيفة فى وجوب حرمة المصاهرة وكذا نظره إلى فرجها الداخل ونظرها إلى ذكره بشهوة يوجب حرمة المصاهرة عنده ولو مسّ فانزل أو نظر إلى فرجها فانزل أو اولج امراة فى دبرها فانزل قيل يوجب حرمة المصاهرة عنده والصحيح انه لا يوجب الحرمة عنده أيضا وعند الائمة الثلاثة المسّ والنظر لا يوجبان الحرمة وجه قول أبى حنيفة ان المسّ والنظر سببان داعيان إلى الوطي فيقامان مقامه فى موضع الاحتياط وإذا انزل لم يبق داعيا إلى الوطي والمس بشهوة ان ينتشر الآلة لو يزداد انتشارا هو الصحيح.(1/1297)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ يعنى أصولكم على عموم المجاز وقيل الام يطلق على الأصل لغة حقيقة فى القاموس أم كل شىء أصله ومنه أم القرى مكة وأم الكتاب الفاتحة أو اللوح المحفوظ فيشتمل الجدات من قبل الأب أو الام وان علون اجماعا وَبَناتُكُمْ يعنى فروعكم كذلك على عموم المجاز فيشتمل بنات الابن وبنات البنت وان سفلن اجماعا وَأَخَواتُكُمْ تعم ما كانت منها لاب أو لام أولهما وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ تعم أخوات الأب لاحد الأبوين أولهما وأخوات الام لاحد الأبوين أولهما وتلحق بهن اجماعا عمات الأب وعمات الام وخالاتهما والعمات والخالات للجد والجدة وان علون سواء كن من قبل الأب أو من قبل الام وسواء كن اخت أبيه أو امه أو جده أوجدته لاحد الأبوين أولهما كأنّ المراد بهما على عموم المجاز الفرع القريب للاصل البعيد ويحل الفرع البعيد للاصل البعيد اجماعا كبنت العم أو العمة أو الخال أو الخالة وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ يعنى فروع الأخ والاخت بناتهما وبنات ابنائهما وبنات بناتهما وان سفلن سواء كان الأخ والاخت لابوين أو لاحدهما ، ذكر اللّه سبحانه المحرمات من النسب سبعا ويؤل امرهن إلى اربعة اصناف أصله وفرعه وفرع أصله القريب وان بعد والفرع القريب للاصل البعيد واخصر من ذلك ان يقال يحرم النكاح بين الشخصين ان يكون بينهما ولا داو يكون أحدهما فرعا لاحد أبوي الاخر وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وكذا العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الاخت من الرضاعة اجماعا على حسب ما فصلناه فى النسب لقوله صلى اللّه عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ويروى ما يحرم من الولادة متفق عليه من حديث عائشة وعن على انه قال يا رسول اللّه هل
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 57(1/1298)
لك فى بنت عمك حمزة فانها أجمل فتاة فى قريش فقال له اما علمت ان حمزة أخي من الرضاعة وان اللّه حرم من الرضاعة ما حرم من النسب رواه مسلم وعن عائشة قالت جاء عمّى من الرضاعة فاستأذن علىّ فابيت ان اذن له حتى اسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسالته فقال انه عمك فأذنى له قالت فقلت يا رسول اللّه انما أرضعتني المرأة ولم يرضعنى الرجل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه عمك فيلج عليك وذلك بعد ما ضرب علينا الحجاب متفق عليه وعن عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان عندها وانها سمعت صوت رجل يستأذن فى بيت حفصة فقالت عائشة قلت يا رسول اللّه هذا رجل يستأذن فى بيتك فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أراه فلانا لعم حفصة من الرضاع فقلت يا رسول الله لو كان فلان حيا لعمها من الرضاعة ادخل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نعم ان الرضاعة يحرم ما يحرم من الولادة رواه البغوي ، (فائدة : ) احتج أبو حنيفة ومالك بهذه الآية وبقوله عليه السّلام مطلقا يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب على ان الرضاع قل أو كثر يحرم ما يحرم من النسب وهو أحد اقوال احمد وقال الشافعي لا يحرم إلا خمس رضعات مشبعات فى خمس اوقات جائعات متفاصلات عرفا وهو القول الثاني لاحمد وعن احمد ثلاث رضعات وبه قال أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد وجه التقدير بثلاث حديث ابن الزبير عن عائشة ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا تحرم المصة والمصتان وعن أم الفضل مرفوعا بلفظ لا يحرم الرضعة أو الرضعتان وفى رواية اخرى عنها لا يحرم الاملاجة والإملاجتان وفيه قصّة وهذه الروايات رواها مسلم وكذا روى احمد والنسائي وابن حبان والترمذي من حديث ابن الزبير عن أبيه عن عائشة وأعله الطبري بالاضطراب لما روى عن ابن الزبير عن أبيه وعنه عن عائشة وعنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا(1/1299)
واسطة وجمع ابن حبّان بامكان ان ابن الزبير سمع من كل منهم وقال البخاري الصحيح عن ابن الزبير عن عائشة وذكر الزبير تفرّد به محمد بن دينار وفيه ضعف واختلاف وإسقاط عائشة فى بعض الروايات إرسال ولا بأس به ورواه النسائي من حديث أبى هريرة وقال ابن
عبد البر لا يصح مرفوعا قالوا ثبت بهذا الحديث ان الرضعة والرضعتان لا تحرمان فبقى التحريم فى ثلاث رضعات ووجه القول بالخمس حديث عائشة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 58(1/1300)
قالت كان فيما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخ بخمس معلومات فتوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهى فيما يقرا من القرآن رواه مسلم ورواه الترمذي بلفظ انزل فى القرآن عشر رضعات فنسخ من ذلك خمس وصار إلى خمس رضعات فتوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والأمر على ذلك ، قلنا حديث الآحاد لا يعارض نصّ الكتاب المتواتر وعند التعارض يقدم التحريم احتياطا وأيضا حديث عائشة كان فيما انزل من القرآن الحديث وان كان صحيحا سندا لكنه متروك لانقطاعه باطنا فانه يدل على انه صلى اللّه عليه وسلم توفى وهى فيما يقرأ مع انه ليس كذلك قطعا والا ثبت قول الروافض ذهب كثير من القرآن بعد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم وهذا القول كفر لاستلزامه انكار قوله تعالى انّا له لحفظون والتأويل بان معنى قولها توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى قارب الوفاة يقتضى نسخ الخمس قبيل الوفاة كما نسخ العشر قبل ذلك وهو الصحيح قال ابن عباس حين قيل له ان الناس يقولون الرضعة لا يحرم قال كان ذلك ثم نسخ ، وعن ابن مسعود إلى امر الرضاع إلى ان قليله وكثيره يحرم وروى عن ابن عمران القليل يحرم وعنه قيل له ابن الزبير يقول لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال قضاء اللّه خير من قضاء ابن الزبير قال اللّه تعالى وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ والتأويل بان معناه توفى صلى اللّه عليه وسلم وهى فيما يقرأ تعنى حكمها فيما يقرا غير مرضى لان القراءة انما يتعلق باللفظ دون الحكم ، (مسئلة) اجمعوا على ان الرضاع بعد مدة الرضاع لا يوجب التحريم لأنه لا يحصل التوليد والنمو بالرضاع الا فى المدة فلا يطلق بعد تلك المدة على المرضعة امّا وقال داود يوجب التحريم ابدا لحديث عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل امراة أبى حذيفة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه انى ارى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال(1/1301)
صلى اللّه عليه وسلم ارضعى سالما خمسا تحرمى عليه رواه الشافعي ورواه مسلم وغيره بغير ذكر العدد والجواب ان الإجماع يدل على كون الحديث منسوخا وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يحرم من الرضاع الا ما فتق الأمعاء فى الثدي وكان قبل الفطام رواه الترمذي من حديث أم سلمة وقال حديث صحيح وعنه عليه السّلام لا يحرم من الرضاع الا ما أنبت اللحم وانشر العظم رواه أبو داود من حديث ابن مسعود وفى الصحيحين عن عائشة قالت دخل علىّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 59(1/1302)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعندى رجل فقال يا عائشة من هذا قالت أخي من الرضاعة قال يا عائشة انظرن من اخوانكن فانما الرضاعة من المجاعة ، (مسئلة) مدة الرضاع التي يوجب فيها التحريم سنتان وبه قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والشافعي واحمد ومالك وسعيد بن المسيّب وعروة والشعبي وهو المروي عن عمر وابن عباس رواهما الدارقطني وعن على وابن مسعود أخرجهما ابن أبى شيبة وفى رواية عن مالك سنتان وشهر وفى اخرى عنه شنتان وشهران وفى اخرى عنه ما دام محتاجا إلى اللبن وقال أبو حنيفة سنتان وستة أشهر وقال زفر ثلاث سنين لنا قوله تعالى وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ جعل اللّه تعالى التمام بهما ولا مزيد على التمام وقوله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً وادنى مدة الحمل ستة أشهر فبقى للفصال سنتان وقوله تعالى وفصاله فى عامين وقوله صلى الله عليه وسلم لارضاع الّا ما كان فى الحولين رواه الدارقطني من حديث ابن عباس وقال تفرد برفعه الهيثم بن جميل وكان ثقة حافظا وكذا وثقه احمد والعجلى وقال ابن عدى كان يغلط ورواه سعيد بن منصور عن ابن عينية فوقفه ، وجه قول أبى حنيفة انه تعالى قال وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكان لكل واحد منهما بكمالها كالاجل المضروب للدينين على شخصين الا انه قام المنقص(1/1303)
فى مدة الحمل قول عائشة الولد لا يبقى فى بطن امه اكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل وفى رواية ولو بقدر ظل معزل ومثله لا يقال الا سماعا لان المقدرات لا تدرك بالرأى فبقى مدة الفصال على الظاهر وهذا ليس بشىء بوجوه أحدها ان جعل قول عائشة منقصا لمدة الحمل ليس اولى من جعل قوله عليه السّلام لارضاع بعد حولين وقوله تعالى يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ منقصا لمدة الرضاع ثانيها انه يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز فى لفظ ثلاثين شهرا حيث أريد به باعتبار الحمل اربعة وعشرون شهرا وباعتبار الفصال ثلاثون ، ثالثها انه يلزم من هذا التأويل استعمال ثلاثين فى اربعة وعشرين باعتبار الحمل مع انه لا يتجوز بشىء من اسماء العدد فى الاخر نصّ عليه كثير من المحققين لانها بمنزلة الاعلام فى مسمّياتها وذكر لقول أبى حنيفة وغيره وجه اخر انه لا بد من تغيير الغذاء لينقطع الا نبات باللبن وذلك بزيادة مدة يتعود الصبى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 60(1/1304)
فيها بغيره ولم يحد ذلك الزيادة مالك وحده زفر بحول لأنه يشتمل على فصول اربعة وقدّره أبو حنيفة بستة أشهر لأنه ادنى مدة الحمل نظرا إلى ان غذاء الجنين يغائر غذاء الرضيع ، قلنا انّ الشرع لم يحرم اطعام الرضيع غير اللبن قبل الحولين ليلزم اعتبار زيادة مدة القعود على الحولين فجاز ان يتعود بالطعام مع اللبن قبل الحولين وهو مختار ابن همام والطحاوي ، وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ اشتملت كلمة الأمهات الجدّات سواء كن من قبل الأب أو الام قريبة كانت أو بعيدة والتحقت بهن بالحديث امّهاتهن وجداتهن من الرضاع والتحقت بالنساء الموطوءات بملك اليمين أو بشبهة اجماعا والموطوءات بالزنى عند أبى حنيفة رحمه اللّه وكذا الا حنيفة الملموسة بشهوة عنده وَرَبائِبُكُمُ جمع ربيبة والربيب ولد المرأة من غيره سمّى به لأنه يربّه كما يربّ ولده فى غالب الأمر فعيل بمعنى المفعول وانما لحقته التاء لأنه صار اسما ويشتمل الربائب بعموم المجاز أو بالقياس بنات أبناء الزوجات وبنات بناتهن وان سفلن وبنات الموطوءات بملك يمين أو بشبهة ولو بواسطة أو وسائط اجماعا وبنات المزّنيات وان سفلن عند أبى حنيفة اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ هذه الصفة خارجة مخرج العادة لا مفهوم لها اجماعا وقال داود لا يحرم من الربائب الا اللاتي فى حجورهم كذا روى عبد الرزاق وابن أبى حاتم بسند صحيح عن على رضى اللّه عنه فالمراد بالإجماع الإجماع بعد القرن الأول ، مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الموصول مع الصلة صفة لنسائكم مقيدة لها اجماعا ولا يجوز ان يكون صفة للنسائين لان عامليها مختلفان ولا يجتمع عاملان على معمول واحد الّا فى رواية عن الفراء وقوله من نسائكم ظرف مستقر جاز كونها صلة للموصول الأول ويكون قوله فى حجوركم متعلّقا به وجاز كونها منصوبا على الحالية من الضمير فى حجوركم والأظهر انه حال من ربائبكم وعلى تقدير كونه حالا من ربائبكم(1/1305)
لا يجوز تعليقها بالأمهات أيضا لان كلمة من إذا علقتها بالربائب كانت ابتدائية وإذا علقتها بالأمهات لم يجز ذلك بل يجب ان تكون بيانا لنسائكم والكلمة الواحدة لا يحمل على معنيين عند جمهور الأدباء وان جوّز الشافعي عموم المشترك وأيضا يوجب كونها بيانا لنسائكم كونها حالا منها ولا يجوز ان يكون شىء « 1 » واحد حالا من ربائبكم ومن نسائكم مع اختلاف العامل فيهما عند أحد فان ربائبكم مرفوع لقيامه مقام الفاعل ونسائكم مجرور بالاضافة قال البيضاوي الّا إذا جعلتها للاتصال
_________
(1) فى الأصل شيئا واحدا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 61(1/1306)
يعنى جعلت كلمة من اتصالية لا ابتدائية ولا بيانية فلا يكون المعنيان مختلفين بل تكون من مستعملة فى القدر المشترك بينهما وهو الاتصال أى الملابسة وحينئذ يكون الظرف حالا من الأمهات والريائب وهما مرفوعان من جهة واحدة وهذا التأويل مع بعده مردود بالحديث المرفوع والإجماع عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جدّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال أيما رجل نكح امراة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها وان لم يدخل بها فلينكح ابنتها وأيما رجل نكح امراة فلا يحل له ان ينكح امّها دخل بها أو لم يدخل رواه الترمذي وقال هذا حديث لا يصح من قبل اسناده انما رواه ابن لهيعة والمثنى بن الصبّاح عن عمرو بن شعيب وهما يضعفان فى الحديث قال الشيخ ابن حجر وفى الباب عن ابن عباس من قوله أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره بإسناد قوى إليه انه كان يقول إذا طلق الرجل امراة قبل ان يدخل بها أو ماتت لم يحل له أمها ونقل الطبراني فيه الإجماع « 1 » لكن اختلفت الرواية فيه عن زيد بن ثابت ففى مسند ابن أبى شيبة عنه انه كان لا يرى بأسا إذا طلقها ويكرهها أو ماتت عنه وروى مالك عن يحيى بن سعيد عنه انه سئل عن رجل تزوج امراة ثم ماتت قبل ان يصيبها هل يحل له أمها قال لا الام مبهمة وانما الشرط فى الربائب وروى عن على كرم اللّه وجهه تقييد التحريم فيهما أخرجه ابن أبى حاتم وبه قال مجاهد وكذا روى ابن أبى شيبة وغيره عن زيد بن ثابت وابن عباس وكذا روى عبد الرزاق وابن أبى حاتم عن ابن الزبير فلو صح الرواية عن على ومجاهد وغيرهما فى تقييد التحريم فلعل المراد من قول الطبراني اجماع من بعد القرن الاوّل والثاني ، والباء فى قوله دخلتم بهن للتعدية أو للمصاحبة أى ادخلتموهن الستر أو دخلتم معهن الستر وهى كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب واللمس بشهوة والنظر إلى فرجها الداخل بشهوة حكمها حكم الجماع عند أبى حنيفة فَإِنْ(1/1307)
لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ تصريح بعد اشعار دفعا للقياس وَحَلائِلُ جمع حليلة وهى الزوجة سميت حليلة لانها تحل للزوج أو تحل فراشه ويلتحق بالزوجات الموطوءات بملك اليمين أو بشبهة اجماعا والموطوءات
_________
(1) روى ان رجلا تزوج امراة ولم يدخل بها ثم راى أمها فاعجبته فاستفتى ابن مسعود فامره ان يفارقها ثم يتزوج أمها ففعل فولدت له أولادا ثم اتى ابن مسعود المدينة فسال عمر وفى لفظ فسال اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا لا يصلح فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل انها عليك حرام ففارقها ، قلت هذا يدل على الإجماع منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 62(1/1308)
يزنى عند أبى حنيفة أَبْنائِكُمُ يشتمل بعموم المجاز الفروع من أبناء الأبناء والبنات وان بعدوا الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ خروج بهذا القيد المتبنى فانهم كانوا يطلقون الابن على المتبنى ولو مجازا أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال قلت لعطاء قوله تعالى وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قال كنا نتحدث انها نزلت فى محمد صلى اللّه عليه وسلم حين نكح امراة زيد بن حارثة قال المشركون فى ذلك فنزلت وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ ونزلت وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ونزلت ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ واما ابن الابن وابن البنت بواسطة أو بلا واسطة فلم يخرجا بهذا القيد لانهما من الأصلاب ولو بالواسطة واما الابن بالرضاع وفروعه فانهم وان خرجوا بهذا القيد لكن حرمة حلائلهم ثبتت بنص الحديث اعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وعليه انعقد الإجماع وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فى محل الرفع عطفا على أمهاتكم وبناتكم يعنى حرمت عليكم الجمع فى النكاح وفى الوطي بملك اليمين بين الأختين « 1 » بالنسب ويلتحق « 2 » بهما بنصّ الحديث الأختان بالرضاع سواء كانتا لاب أو لام أولهما من النسب أو من الرضاع ولا يحرم الزنى باحده الأختين النكاح بالأخرى كما لا يحرم نكاح الاخرى بعد موت أحدهما أو انقضاء العدة من الطلاق والتحقت به بالسنة والإجماع حرمة الجمع بين امراة وعمّتها وامراة وخالتها وكذا عمة أبيها أو أمها أو خالة أحدهما وعمات أجدادها وجداتها وان بعدن عن اىّ جهة كن ، عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجمع بين المرأة وعمّتها ولا بين المرأة وخالتها متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي والدارمي بلفظ لا تنكح المرأة على عمّتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها ولا(1/1309)
الخالة على بنت أختها لا الكبرى على الصّغرى ولا الصّغرى على الكبرى ورواه النسائي إلى قوله بنت أختها وصححه الترمذي وروى البخاري عن جابر نحوه قال ابن عبد البر طرق حديث أبى هريرة متواترة عنه وفى الباب عن ابن عباس رواه احمد وأبو داود والترمذي وابن حبان وعن أبى سعيد رواه ابن ماجة بسند ضعيف وعن على رواه البزار وعن ابن عمر رواه ابن حبان وفيه أيضا عن سعد بن أبى وقاص وزينب امراة ابن مسعود وابى امامة وعائشة
_________
(1) أخرج احمد وأبو داؤد والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيروز الديلمي انه أدركه الإسلام وتحته اختان فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم طلق أيهما شئت منه رحمه اللّه -
(2) فى الأصل التحقق -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 63(1/1310)
و أبى موسى وسمرة بن جندب وروى ابن حبان فى صحيحه وابن عدى من حديث عكرمة عن ابن عباس الحديث المذكور وزاد فى آخره انكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامهن واخرج أبو داؤد فى المراسيل عن عيسى بن طلحة قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ان تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة ورواه ابن حبان بلفظ انكن إذا فعلتن ذلك « 2 » قطعتن أرحامهن والإجماع على حرمة الجمع بين الأختين من الرضاع يدل على انه كما يحرم قطيعة وصلة الرحم يحرم قطيعة وصلة الرضاع وروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إكرام المرضعة عن أبى الطفيل الغنوي قال كنت جالسا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا قبلت امراة فبسط النبي صلى اللّه عليه وسلم رداءه حتى قعدت عليه فلما ذهبت قيل هذه أرضعت النبي صلى اللّه عليه وسلم رواه أبو داؤد والحاصل انه يحرم من النسب والرضاع ما يكون أحدهما فرعا للاخر أو ذاعا لاصله القريب ومن المصاهرة يحرم على المرأة اصول الزوج وفروعه مطلقا وعلى الرجل اصول الزوجة مطلقا وفروعها بشرط الدخول بها ولا يحرم من أقارب الزوج والزوجة بالمصاهرة ما عدى عمودى النسب الا الجمع بين امراة وفرع أصلها القريب « 1 » للاحتراز عن قطعية الرحم أو قطعية وصلة الرضاع واللّه اعلم إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ قيل استثناء من المعنى اللازم للنهى يعنى يعذبون بنكاحهن الا بما قد سلف والظاهر ان الاستثناء منقطع بمعنى لكن يعنى لكن ما قد سلف فان اللّه يغفره ولا يؤاخذ به إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) يغفرهم ويرحمهم لعذر الجهل عن الشرائع
_________
((1/1311)
2) سئل عن عمر عن جاريتين أختين توطا أحدهما بعد الاخرى قال عمر ما احبّ ان اجيزهما جميعا ونهاه واخرج مالك والشافعي عن قبيصة بن ذويب ان رجلا سال عثمان بن عفان عن الأختين فى ملك اليمين هل يجمع بينهما قال احلّتهما اية وحرمتهما اية وما كنت اصنع ذلك فخرج من عنده فلقى رجلا من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أراه على بن أبى طالب فساله عن ذلك فقال لو كان لى من الأمر شىء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا وروى هذا الشك عن على من أبى صالح عن على قال فى الأختين المملوكتين احلّتهما اية وحرّمتهما اية ولا امر ولا انهى ولا أحل ولا احرم ولا افعل انا ولا أهل بيتي رواه ابن أبى شيبة والبيهقي وروى ابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود قال تحرم من الإماء ما تحرم من الحرائر الا العدد وكذا روى عبد الرزاق عن عمار بن ياسر قلت ما روى عن على انه أحلتهما اية وحرمتهما اية ليس مبنيا على الشك بل مراده ترجيح المحرم على المبيح وقد روى عنه ابن عبد البر فى الاستذكار ان إياس بن عامر ساله ان لى أختين أمتين اتخذت إحداهن سرية وولدت لى أولادا ثم رغبت فى الاخرى فما اصنع قال تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الاخرى ثم قال انه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك فى كتاب اللّه من الحرائر الا العدد أو قال الا الأربع ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك فى كتاب اللّه من للنسب منه رحمه الله تعالى
(1) فى الأصل قطعتم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 64
قال اللّه تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً « 1 » ... حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ وقال اللّه تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.(1/1312)
وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ عطف على أمهاتكم يعنى حرمت عليكم المحصنات من النّساء أى ذوات الأزواج لا يحل للغير نكاحهن ما لم يمت زوجها أو يطلقها وتنقضى عدّتها من الوفاة أو الطلاق سمّيت المتزوجات محصنات لأنه احصنهن التزويج أو الأزواج قال البغوي قال أبو سعيد الخدري رضى اللّه عنه نزلت فى نسائكن يهاجرن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولهن ازواج فيتزوجهن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى اللّه المسلمين عن نكاحهن قلت لعل المراد من الحديث ان المرأة المهاجرة إذا كان زوجها مسلما لا يحل نكاحها وان كان فى دار الحرب لعدم اختلاف الدين حقيقة والدار حكما وامّا إذا أسلمت وهاجرت وزوجها كافر فى دار الحرب فنكاحها حلال لقوله تعالى « 2 » يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ... « (1/1313)
3 » فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ إلى قوله تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ لكن عند أبى حنيفة وصاحبيه تقع الفرقة بينها وبين زوجها بمجرد الخروج من دار الحرب لاختلاف الدارين حقيقة وحكما ولا عدة عليها بعد الفرقة عنده وعندهما عليها العدة وعند مالك والشافعي واحمد يقع الفرقة بعد ثلاث حيض من وقت إسلامها ان دخل بها وان لم يدخل بها فمن وقت إسلامها ولا اثر عندهم لاختلاف الدارين إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال عطاء أراد بهذه الاستثناء ان تكون أمته فى نكاح عبده فيجوز له ان ينزعها منه وهذا القول مردود بالإجماع والصحيح ما روى مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال أصبنا سبايا من سبى أوطاس لهن ازواج فكرهنا ان نقع عليهن ولهن ازواج فسالنا النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يقول الا ما أفاء اللّه عليكم فاستحللتم بها فروجهن واخرج الطبراني عن ابن عباس قال نزلت يوم حنين لمّا فتح اللّه حنينا أصاب المسلمون نساء من نساء أهل الكتاب لهن ازواج وكان الرجل إذا أراد ان يأتى المرأة قالت ان لى زوجا فسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فانزلت هذه الآية
_________
(1) وفى القرآن قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى إلخ [.....]
(2) فى الأصل يا ايّها النّبىّ إذا جاءكم لعله من الناسخ
(3) وفى القرآن اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ إلخ -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 65(1/1314)
فهذه الآية تدل على ان المرأة إذا سبيت مع زوجها أو بدونه وقعت الفرقة بينها وبين زوجها ويحل لمن ملكها وطيها بعد الاستبراء لما روى ان منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نادى يوم أوطاس الا لا تنكح الحبالى حتى يضعن حملهن ولا الحيالى حتى يحضن رواه ( « 1 » ) وكذا يحل للمالك تزويجها لغيره وظهران السبي يوجب الصفا للسّابى فى ملك البضع كما يوجب الصفا فى ملك الرقبة وبه قال مالك والشافعي واحمد قالوا ان سبايا أوطاس سبين مع أزواجهن وقال أبو حنيفة لا يقع الفرقة بالسبي الا إذا سبى أحد الزوجين بدون الاخر فان الموجب للفرقة عنده اختلاف الدارين حقيقة وحكما دون السبي قالت الحنفية ان مع اختلاف الدارين لا ينتظم مصالح النكاح فشابه المحرمية والسبي يوجب الصّفا فى ملك الرقبة دون ملك البضع لعدم الاستلزام بينهما وهذا استدلال فى مقابلة النص قال ابن همام روى فى سبايا أوطاس ان النساء سبين وحدهن ورواية الترمذي يفيد ذلك روى عن أبى سعيد قال أصبنا سبايا أوطاس ولهن ازواج فى قومهن فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية قلت وليس فى لفظ الترمذي ما يدل قطعا انهن كلهن سبين بغير ازواج والظاهر فيه قول الشافعي ولو صح انهن سبين كلهن بغير ازواج فالعبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب وقد ذكر اللّه سبحانه الاستثناء من ذوات الأزواج بعنوان ملك اليمين لا بعنوان اختلاف الدّارين وقالت الحنفية الآية ليست على عمومها اجماعا فان مقتضى اللفظ حل المملوكة مطلقا سواء ملكت بالسبي أو الشراء أو الإرث أو نحو ذلك ولا شك ان المشتراة المتزوجة خارجة عن هذا الحكم اجماعا فخصصنا عنها المسبيّة مع زوجها أيضا قلت لا بد لتخصيص العام وان كان ظنيا من دليل شرعى نصّ أو اجماع أو قياس ولا يجوز التخصيص بالرأى على ان الإجماع على كون الامة المشتراة المتزوجة خارجة عن هذا الحكم ممنوع قال البغوي قال ابن مسعود أراد اللّه(1/1315)
تعالى بهذه الآية ان الجارية المتزوجة إذا بيعت يقع الفرقة بينها وبين زوجها ويكون بيعها طلاقا رواه ابن أبى شيبة وابن جرير وعبد بن حميد عنه قلت يمكن ان يقال المراد بالمحصنات الجرائر ذوات الأزواج والتحق بهن بالقياس الإماء ذوات الأزواج فمعنى الآية حرّمت عليكم الحرائر ذوات الأزواج الّا ما ملكت ايمانكم بالسبي والاستيلاء عليهن فحينئذ لا يحتاج إلى تخصيص المملوكة بالشراء أو الإرث من حكم الحل لا قبل الشراء ليست من المحصنات بل من المملوكات بخلاف المسبية فانها كانت قبل السبي حرّة
_________
(1) هكذا بياض فى الأصل -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 66(1/1316)
كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكد أى كتب اللّه عليكم كتابا تحريم من ذكرن أخرج ابن جرير من طريق عبيدة عن عمر بن الخطاب فى قوله تعالى كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الأربع وابن المنذر من طريق ابن جريح عن ابن عباس قال واحدة إلى اربع فى النكاح وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص على البناء للمفعول والباقون على البناء للفاعل وضمير الفاعل راجع إلى اللّه تعالى فى كتاب اللّه معطوف على حرّمت أو على فعل مضمر الذي نصب كتاب الله فان قيل العطف يقتضى المشاركة وجملة كتاب اللّه مؤكد لما سبق من التحريم فما وجه مشاركة هذه الجملة معها فى التوكيد قلنا تحليل ماوراء ذلك يؤكد تحريم ذلك فان قيل على تقدير العطف على حرمت اىّ نكتة فى إيراد حرمت مجهولا وأحل معروفا على قراءة الجمهور قلنا التحليل انعام بخلاف التحريم فصرح بإسناد الانعام إلى ذاته دون اسناد التحريم ما وَراءَ ذلِكُمْ يعنى ما سوى المحرمات المذكورات فى الآيات السابقة وخصّ عنه بالسنة والإجماع والقياس ما ذكرنا من المحرمات فى الشرح وما فوق الأربع من النساء أَنْ تَبْتَغُوا أى تبتغوهن يعنى ما وراء ذلكم من النساء بِأَمْوالِكُمْ بنكاح أو باشتراء مُحْصِنِينَ حال من فاعل تبتغوا أى حال كونكم متعففين فان العفة تحصين الفرج عن الفاحشة والنفس عن اللوم والعقاب غَيْرَ مُسافِحِينَ حال بعد حال والسفاح الزنى من السفح وهو صبّ المنى فانه الغرض منه دون بقاء النسل وقوله أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ بدل اشتمال من قوله ما وَراءَ ذلِكُمْ لان المقصود بإسناد الحل إلى ما وَراءَ ذلِكُمْ ليس الّا ابتغاءهن بالأموال حلالا فان النساء ما وراء المحرّمات المذكورات لا تحل لاحد مطلقا بل مقيدا بنكاح صحيح « 1 » أو بملك يمين وهو المراد بالابتغاء بالأموال كما ان « 2 » فى قواك أعجبني زيد علمه ليس المقصود بالإسناد ذات زيد(1/1317)
بل علمه وجاز ان يكون قوله ان تبتغوا متعلّقا بقوله احلّ لكم بتقدير الباء يعنى أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بسبب أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ بنكاح أو باشتراء فعلى هذا
_________
(1) ومن هاهنا يظهران قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ليس بعلم يدل على حل كل امرأة غير المحرمات المذكورة ولا ظاهر فى جواز كل ابتغاء بالمال بل هو مجمل منه ما هو نكاح صحيح موجب للاحصان ومنه ما هو سفاح مما ثبت بالسنة أو الإجماع من شرائط النكاح كالشهادة أو الإعلان والولي ونحو ذلك التحقق بيانا لمجمل الكتاب فلا يرد ما قيل ان اشتراط الشهادة ونحوها يلزم فيه الزيادة على الكتاب أو تخصيص الكتاب بخبر الآحاد منه رحمه اللّه
(2) فى الأصل كما ان فى ان قولك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 67(1/1318)
يظهران المهر من لوازم النكاح لتقييد الاحلال به ويدل على ذلك قوله تعالى وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لدلالته على ان النكاح بلا مهر من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم وكان القياس عدم صحة النكاح عند انعدام التسمية لكنا تركنا القياس لقوله تعالى لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً فانها تدل على صحّة النكاح بغير التسمية فقلنا ان المهر من لوازم النكاح وأحكامه وليس من شرائطه ذكره وعليه انعقد الإجماع لكن عند الشافعي ان تزوج ولم يسم لها مهرا أو تزوج على ان لا مهر لها ومات عنها قبل ان يدخل بها لا يجب لها المهر وعند الجمهور يجب لها مهر المثل كما يجب بالدخول اجماعا لنا ان المهر وجب حقّا للشرع لما ذكرنا من تقييد الحل بالابتغاء بالأموال ولان الباء للالصاق فاللّه سبحانه أحل الابتغاء ملصقا بالمال فالقول بتراخيه إلى وجود الوطي كما قاله الشافعي فى المفوضة ترك العمل بمضمون الباء ولحديث علقمة انه سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امراة ولم يفرض لها شيئا ولم يدخل بها حتى مات فقال ابن مسعود لها مثل صداق نساءها لاوكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بروع بنت وأشق امراة منا مثل ما قضيت ففرح بها ابن مسعود رواه أبو داؤد والترمذي والنسائي والدارمي قال البيهقي جميع روايات هذا الحديث وأسانيدها صحاح فان قيل لو كان المهر من لوازم النكاح لزم ثبوته فى المفوضة ان طلقت قبل الدخول أيضا ولم يقل به أحد غير احمد فى بعض الروايات عنه حيث قال يجب نصف مهر المثل والأصح عنه كقول الجمهور انه لا يجب قلنا المتعة لها عوض عن نصف المهر ولذا قلنا بوجوب المتعة(1/1319)
لها - (مسئلة) اختلفوا فيما إذا تزوج بشرط ان لا مهر لها فقال مالك لا يصح هذا النكاح لأنه عقد معاوضة كالبيع والبيع بشرط ان لا ثمن لا يصح اجماعا فكذا النكاح قلنا ليس النكاح عقد معاوضة وانما وجب المهر حكما شرعا إظهارا لشرف المحل ولو كان عقد معاوضة كالبيع لما صح النكاح عند ترك التسمية كما لا يصح البيع عند ترك ذكر الثمن فالشرط بان لا مهر شرط فاسد وبه لا يفسد النكاح ويلغوا لشرط والثمن ركن فى البيع لا يصح البيع بدونه فافترقا - فائدة : - هذه الآية تقتضى ان المهر لا بد ان يكون مالا لان الحلّ مقيّد بالابتغاء بالأموال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 68(1/1320)
و المنافع المعلومة ملحق بالأموال شرعا ولذا جازت الاجارة بالنصوص والإجماع مع انها بيع المنافع وكان القياس يأبى عن جوازها لان المعقود عليه وهى المنفعة ليست بمال وأيضا هى معدومة واضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح لكن الشرع اعتبرها ما لا وجوز الاجارة لمكان الحاجة واقام ما ينتفع به اعنى الدار مثلا فى اجارة الدار مقام المنفعة فى حق اضافة العقد واعتبار وجوده ولما ظهر كون المنافع ملحقا بالأموال - (مسئلة) جاز ان ينكح على سكنى داره وخدمة عبده وركوب دابته والحمل عليها وزراعة ارضه ونحوها من منافع الأعيان مدة معلومه لان الحاجة إلى النكاح متحقق كالحاجة إلى الاستيجار وإمكان الدفع ثابت بتسليم محالها فصار هو ابتغاء بالمال - (مسئلة) ولو نكح ان يخدمها بنفسه سنة قال محمد يجب قيمة الخدمة لان المسمى يلحق بالأموال الا ان خدمة الزوج للزوجة تناقض مقتضى عقد النكاح لان مقتضاه المالكية والخدمة من مقتضيات المملوكية فإذا عجز عن تسليم المسمى وجب قيمته وعند أبى حنيفة وابى يوسف يجب مهر المثل لان اعتبار المنافع مالا انما كان عند إمكان التسليم فإذا امتنع للمناقضة لم يعتبر مالا فلم يصح فوجب مهر المثل - (مسئلة) ولو نكح على خدمة حرّ اخر يصح ويجب على الزوج قيمتة الخدمة اتفاقا ان لم يرض ذلك الرجل أو كانت الخدمة تستدعى مخالطتها مع رجل اجنبى (مسئلة) ولو نكح على ان يرعى الزوج غنمها أو يزرع ارضها لم يجز فى رواية لأنه من باب الخدمة والصحيح انه جاز ذلك لأنه لم يتمحض لها خدمة إذ العادة اشتراك الزوجين فى القيام على مصالح مالهما ويدل على صحته قصّة موسى وشعيب عليهما السّلام من غير بيان ففيه فى شرعنا روى احمد وابن(1/1321)
ماجة عن عتبة بن المنذر قال كنا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقرا طسم حتى بلغ قصّة موسى فقال ان موسى اجر نفسه ثمان سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه لكن هذه القصّة لا يصلح حجة الا إذا كان الغنم ملكا للبنت دون شعيب عليه السلام والظاهر خلافه (مسئلة) ولو نكح على تعليم سورة من القرآن جاز عند مالك والشافعي وهى رواية عن احمد ولم يجز عند أبى حنيفة واحمد فيجب عندهما مهر المثل وهذا الاختلاف مبنى على اختلافهم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 69(1/1322)
فى جواز الاستيجار على القرب كالحج والاذان وتعليم القرآن ونحو ذلك فمن جوّز الاستيجار عليها جوّز جعلها مهرا فى النكاح لانها من المنافع التي ألحقت بالأموال شرعا ومن لم يجوّز الاستيجار لم يجوّز جعلها مهرا وللشافعى فى اثبات جواز جعل القرآن مهرا طريقان أحدهما الاحتجاج على جواز الاستيجار على القرب مطلقا وثانيهما الاحتجاج على خصوصية هذه المسألة اعنى جعل تعليم القرآن مهرا وله فى الطريق الأول حديثان أحدهما عن أبى سعيد ان ناسا من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم أتوا على حى من احياء العرب فلم يقروهم فبيناهم كذلك إذ لدغ سيّد أولئك فقال معكم من دواء أوراق فقال انكم لم تقروا ولن نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلو لهم « 1 » قطيعا من الشاء فجعل يقرا بام القرآن ويجمع بزاقه ويتفل فبرا فاتوا بالشاء وقالوا لا نأخذ حتى نسئل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فسالوه فضحك وقال وما يدريك انها رقية خذوها واضربوا لى بسهم ثانيهما عن ابن عباس ان نفرا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّوا بماء فيه لديغ أو سليم « 2 » فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال هل فيكم راق ان فى الماء رجلا لديغا أو سليما فانطبق رجل فجاء فقرا بفاتحة الكتاب فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا أخذت على كتاب اللّه اجرا حتى قدموا المدينة فقالوا يا رسول اللّه أخذ على كتاب اللّه اجرا فقال عليه السّلام ان احقّ ما أخذتم عليه اجرا كتاب اللّه وفى رواية أصبتم واضربوا لى معكم سهما الحديثان فى الصحيحين وروى احمد وأبو داود نحو ذلك عن خارجة بن الصلت عن عمه وأجيب عن هذين الحديثين بان القوم كانوا كفارا جاز أخذ أموالهم وبان الرقية ليست قربة محضة جاز أخذ الاجرة عليها وللشافعى فى الطريق الثاني حديث سهل بن سعد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جاءته امراة فقالت يا رسول اللّه انى وهبت نفسى لك فقامت طويلا فقام رجل فقال يا رسول(1/1323)
اللّه زوّجنيها ان لم يكن لك فيها حاجة فقال هل عندك من شىء تصدقها قال ما عندى الا إزاري هذا قال التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل معك من القرآن شىء قال نعم سورة كذا وسورة كذا فقال قد زوّجتكها بما معك من القرآن وفى رواية فانطلق فقد زوّجتكها فعلمها من القرآن متفق عليه وأجيب عن هذا الحديث بانه كما انه كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم ان ينكح امراة بلا مهران وهبت نفسها له كذلك كان له ان
_________
(1) فى الأصل فجعلوهم
(2) السليم اللديغ سمى به تفولا منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 70(1/1324)
يزوجها غيره بلا مهر بعد ما وهبت نفسها له روى ابن الجوزي عن مكحول ان رسول اللّه صلى عليه وسلم زوّج رجلا على ما معه من القرآن قال وكان مكحول يقول ليس ذلك لاحد بعد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكذا ذكر الطحاوي عن ليث انه قال لا يجوز هذا بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأجاب ابن الجوزي عن هذا الحديث بانه كان لضرورة الفقر فى اوّل الإسلام ، قلت هذا كانّه ادعاء نسخ والنسخ لا يثبت بمجرد الاحتمال وكذا كونه من الخصائص ، ولابى حنيفة ومن معه فى اثبات ما ادّعوه طريقان أحدهما الاحتجاج على عدم جواز الاستيجار للقرب وثانيها فى خصوصية عدم صلوح التعليم مهرا ولهم فى الطريق الأول أحاديث منها حديث عبادة بن الصامت قال علّمت ناسا من اصحاب الصّفة الكتابة والقرآن فاهدى الىّ رجل منهم قوسا فقلت ارمى عليها فى سبيل اللّه فسالت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ان يسرّك ان تطوق طوقا من نار فاقبلها رواه احمد وأبو داؤد وفيه المغيرة قال ابن الجوزي ضعيف ومنها حديث أبى بن كعب قال علّمت رجلا القرآن فاهدى لى قوسا فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال ان أخذتها أخذت قوسا من نار فرددتها رواه ابن الجوزي ومنها حديث عبد الرحمن بن سهل الأنصاري قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول اقرءوا « 1 » القرآن ولا تغلوا « 2 » فيه ولا تجفوا « 3 » عنه ولا تأكلوا به ولا تستكبروا به رواه الطبراني ومنها حديث مطرف بن عبد اللّه ان عثمان بن أبى العاص قال يا رسول اللّه اجعلنى امام قومى قال اقتد باضعفهم واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه اجرا رواه احمد ولهم فى؟؟؟ السائق الثاني انا لو سلمنا جواز الاستيجار على القرب فتعليم القرآن خاصة لا يجوز الاستيجار عليه لان من شرائط صحة الاجارة كون العمل معلوما أو الوقت معلوما والتعليم قد يحصل بقليل العمل وقد يحصل بكثيره وأيضا التعليم يتوقف على وصف فى المتعلّم وذلك(1/1325)
ليس فى وسع المعلم فلا يجوز الاستيجار عليه وإذا ظهر عدم جواز الاستيجار عليه ظهران الشرع ما الحقه بالأموال فلا يجوز جعله مهرا لتقتييد الاحلال بابتغاء النساء بالأموال ، وحديث سهل بن سعد حديث احاد لا يجوز العمل به
_________
(1) فى الأصل اقرأ القرآن
(2) قوله لا تغلوا أى لا تجاوزوا الحد قال فى النهاية انما قال ذلك لان من أخلاقه وآدابه التي امر بها القصد فى الأمور وخير الأمور أوساطها وكلا طرفى قصد الأمور ذميم منه رحمه اللّه -
(3) لا تجفوا أى تعاهدوه ولابتعدوا عن تلاوته والجفاء البعد عن الشيء نهاية منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 71(1/1326)
فى مقابلة نصّ الكتاب اعنى قوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ قال البيضاوي قوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مفعول له لقوله تعالى احلّ لكم يعنى ليس قيدا للاحلال والمعنى أحل لكم ماوراء ذلكم ارادة ان تبتغوا النساء باموالكم بالصرف فى مهورهن أو أثمانهن فى حال كونكم محصنين غير مسافحين وانما قدر البيضاوي المضاف ليكون المفعول له فعلا لفاعل « 1 » الفعل المعلل له والصحيح انه لا حاجة إلى تقدير المضاف لان حذف حرف الجر مع ان وانّ قياس فجاز ان يقدر اللام من غير اشتراط اتحاد الفاعل ثم قال البيضاوي نظرا إلى هذا التأويل انه احتج به الحنفية على ان المهر لا بدّ ان يكون مالا ولا حجة فيه ومعنى قوله لا حجة فيه ان التحليل لفائدة عدم صرف الأموال فى السّفاح الموجب لخسران الدنيا والآخرة لا يقتضى ان لا يحصل التحصيل بدون المال ، قلت هذا التأويل يقتضى كون حل ماوراء المحرمات مطلقا وان لا يكون قوله ان تبتغوا قيدا له وليس كذلك لظهور ان الحل مقيد بالنكاح أو ملك اليمين وكون المهر لا بد ان يكون مالا امر مجمع عليه حتى ان من نكح على ميتة أو تراب أو رماد مثلا مما ليس بمال يجب عليه مهر المثل اجماعا كمن نكح بلا مهر وانما جوّز الشافعي النكاح على تعليم سورة من القرآن الحاقا له بالمال كما جوّز الاستيجار عليه وقد ذكرنا ما له وما عليه فالتأويل الصحيح هو الذي ذكرنا الذي يستنبط بها المسائل المجمع عليها واللّه اعلم - (مسئلة) من أعتق أمة وجعل عتقها صداقها بان قال اعتقتك على ان تزوجنى نفسك بعوض العتق صح العتق بالإجماع وقال احمد ان كان هذا بحضرة شاهدين صح النكاح لقصّة نكاح صفية وعنه لا يصح كقول الجمهور وهى بالخيار فى تزويجه فان تزوجته فلها مهر مثلها عند الجمهور خلافا لابى يوسف وسفيان الثوري لهما الحديث الصحيح انه صلى اللّه عليه وسلم تزوج صفية وجعل عتقها صداقها وقصّة جويرية فى سبايا بنى(1/1327)
المصطلق انها وقعت فى سهم ثابت بن قيس وابن عمّ له فكاتبها فجاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تستعينه فى كتابتها فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أقضي عنك كتابتك وأتزوجك قالت نعم قال قد فعلت رواه احمد وأبو داؤد من حديث عائشة قلنا انه نكاح بغير مال إذ رقبة الامة لا تصير ملكها فصار حكمه حكم نكاح بلا مهر فيجب مهر المثل والحديث لا يصلح حجة لان النكاح بلا مهر
_________
(1) فى الأصل للفاعل
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 72(1/1328)
كان من خصائص النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وان أبت ان تتزوجه يجب على الامة السعاية فى قيمتها عند أبى حنيفة والشافعي وابى يوسف ومحمد وقال مالك وزفر لا يجب عليها السّعاية وجه قول أبى حنيفة وصاحبيه والشافعي ان المولى اجعل العتق عوضا من البضع فإذا أبت عن التزويج بقي العتق بلا عوض ولم يرض به المولى فوجب السعاية عليها كما إذا أعتق على خدمة سنة فمات المولى يجب على العبد قيمة نفسه عند أبى حنيفة وابى يوسف وقيمة الخدمة عند محمد ووجه قول مالك وزفران العتق لمّا لم يصلح عوضا عن النكاح فبقى العتق بغير عوض فلا سعاية عليها ان أبت كما لا سعاية عليها ان اجابت وهذا القول اظهر ، (مسئلة) اكثر المهر لاحد له اجماعا لما ذكرنا فى تفسير قوله وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً واختلفوا فى اقل المهر فقال الشافعي واحمد لاحد لاقل المهر فكل ما جاز ان يكون ثمنا فى البيع جاز ان يكون صداقا فى النكاح والحجة لهما اطلاق قوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وقال أبو حنيفة ومالك اقل المهر مقدر شرعا وهو ما يقطع فيه يد السّارق مع اختلافهما فى قدر ذلك فعند أبى حنيفة عشرة دراهم أو دينار وعند مالك ربع دينار أو ثلثة دراهم احتج أبو حنيفة ومالك على كونه مقدرا من اللّه تعالى بقوله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ قالوا الفرض هو التقدير فكان المهر مقدرا شرعا فمن لم يجعله مقدرا كان مبطلا للكتاب وأسند التقدير إلى نفسه فمن جعل التقدير مفوضا إلى العبد كان مبطلا لموجب ضمير المتكلم قلنا هذه الآية فى النفقة دون المهر قال الله تعالى قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ إذ ليس للمملوكة مهر ولو ثبت بهذه الآية تقدير المهر لزم تقدير الثمن فى المملوكة أيضا ولم يقل به أحد واحتج الشافعي(1/1329)
لعدم التقدير بأحاديث منها ما ذكرنا من حديث سهل بن سعد وفيه التمس ولو خاتما من حديد وهو حديث صحيح ومنها حديث عامر بن ربيعة ان امراة من فزارة تزوجت على نعلين فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ رضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فاجازه رواه الترمذي وصححه وقال ابن الجوزي لا يصح لان فى سنده عاصم بن عبيد اللّه قال يحيى بن معين ضعيف لا يحتج بحديثه قال ابن حبان كان فاحش الخطا فترك ومنها حديث جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لو ان رجلا اعطى امراة صداقها ملا يده
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 73(1/1330)
طعاما كانت له حلالا وفى رواية بلفظ من اعطى فى نكاح ملا كف فقد استحل قال من دقيق أو طعام أو سويق رواه الدارقطني وروى أبو داود بلفظ ملا كفيه سويقا أو تمرا وفى جميع طرقه صالح بن مسلم بن رومان ضعّفه يحيى والرازي وذكر فى بعض طرقه موسى بن مسلم مكان صالح بن مسلم ولا يعرف موسى ورواه الدارقطني من حديث عبد اللّه بن مؤمل عن أبى الزبير عن جابر قال كنا تنكح المرأة على الحفنة والحفنتين قال احمد أحاديث ابن المؤمل منكر وقال يحيى هو ضعيف ومنها حديث أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انكحوا الأيامى وادوا العلائق قيل ما العلائق بينهم يا رسول اللّه قال ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيب من أراك رواه الدارقطني من طريق إسماعيل بن عياش عن برد بن سنان عن أبى هارون العبدى عنه واسمعيل بن عياش ضعّفوه قال ابن حبّان خرج عن الاحتجاج به وأبو هارون العبدى اسمه عمارة ابن جون قال حماد بن زيد كان كذابا وقال احمد ليس بشىء وقال شعبة ان اقدم فيضرب عنقى احبّ إلى من ان أحدث عنه قال السعدي كذاب مفتر وروى الدارقطني والبيهقي نحوه من طريق محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أبيه عن ابن عباس وقيل عن ابن عمر رواه الدارقطني والطبراني وقال يحيى بن معين محمد بن عبد الرحمن ليس بشىء وقال ابن حبان حدث عن أبيه بنسخه شبيها بماتى حديث كلها موضوعة وأخرجه البيهقي من حديث عمر واسناده ضعيف ايضا ، ورواه أبو داود فى المراسيل من طريق عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد(1/1331)
الرحمن السليماني مرسلا حكى عبد الحق المرسل أصح وروى البيهقي عن يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه عن جدّه من استحل بدرهم فقد استحل وأخرجه ابن شاهين بلفظ يستحل النكاح بدرهمين فصاعدا واحتج أبو حنيفة بحديث جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا لا يزوج النساء الا الأولياء ولا يزوجن الا من الأكفاء ولا مهر اقل من عشرة دراهم رواه الدارقطني والبيهقي قال ابن الجوزي روينا هذا الحديث من طرق مدارها على مبشر بن عبيد قال ابن حنبل مبشر ليس بشىء أحاديثه موضوعات كذب يضع الحديث وقال الدارقطني يكذب وقال ابن حبان يروى عن الثقات الموضوعات قال ابن همام لهذا الحديث شاهد يعضده وهو ما روى عن على موقوفا لا يقطع اليد فى اقل من عشرة دراهم ولا يكون المهر اقل من عشرة دراهم وقال محمد بلغنا ذلك عن على وعبد اللّه بن عمرو عامر
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 74(1/1332)
وإبراهيم ورواه بإسناده إلى جابر فى شرح الطحاوي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لكن فى حديث على داود الأزدي عن الشعبي عن على قال يحيى بن معين داود ليس حديثه بشىء قال ابن حبان كان داود يقول بالرجعة ثم ان الشعبي لم يسمع عن على وفى بعض طرقه غياث بن ابراهيم قال احمد والبخاري والدارقطني غياث بن ابراهيم متروك وقال يحيى كان كذابا وقال ابن حبان يضع الحديث وقد روى عن على لا مهر اقل من خمسة دراهم وفيه الحسن بن دينار قال احمد لا يكتب حديثه وقال يحيى ليس بشىء وقال أبو حاتم كذاب قلت فظهران حديث التقدير بعشرة دراهم لم يصح بل صح ما ليضاده وهو حديث سهل بن سعد ولو صح حديث التقدير بعشرة لم يجز به الزيادة على الكتاب المفيد للاطلاق وما قيل ان المهر وجب حقا للشرع وسببه اظهار الخطر للبضع ومطلق المال لا يقتضى الخطر كحبة حنظة وكسرة خبز فهو تعليل يعود على النص بالابطال فى موجبه وهو الإطلاق فيرد واللّه اعلم فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قال جماعة المراد بالاستمتاع عقد المتعة وهى عقد يراد بها ملك البضعة إلى مدة معينة بمهر معين بانت المرأة بعد انقضاء تلك المدة بلا طلاق وتستبرئ رحمها وليس بينهما ميراث ولا تسمى المرأة بها زوجة ولا الرجل زوجا روى عبد الرزاق فى مصنفه عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عبّاس انه كان يراها الان حلالا ويقرا فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال وقال ابن عباس وفى حرف أبى بن كعب إلى أجل مسمى قال وكان يقول يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة الا رحمة من اللّه يرحم اللّه بها عباده ولو لا نهى عمر ما احتيج إلى الزنى ابدا وروى ابن عبد البر انه سئل ابن عباس عن المتعة أ سفاح هى أم نكاح قال لا نكاح ولا سفاح قيل فما هى قال المتعة كما قال اللّه تعالى قلت وهل عليها حيضة قال نعم قلت ويتوارثان قال لا وروى تحليلها عن جماعة من(1/1333)
الصحابة روى النسائي والطحاوي عن اسماء بنت أبى بكر قالت فعلناها على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وروى مسلم عن جابر قال تمتعنا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وصدر خلافة عمر ولما كان اخر خلافة عمر نهانا عنها فلم نعد وروى الطحاوي عنه وعن سلمة بن الأكوع ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أتاهم فاذن فى المتعة وفى الصحيحين عن ابن مسعود قال رخص لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ننكح المرأة إلى أجل مسمى ثم قرأ يعنى ابن مسعود يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 75
و هذه الآثار لا تمنع كونها منسوخة غير اثر ابن عباس وقراءة ابن مسعود يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وروى عبد الرزاق فى مصنفه عن معاوية انه استمتع بامراة بالطائف وذكر عمرو بن شيبة فى اخبار المدينة بإسناده ان سلمة بن امية استمتع بامراة فبلغ ذلك عمر فتوعده وروى عبد الرزاق فى مصنفه عن معبد بن امية حل المتعة قال الحافظ وافتى بها من التابعين ابن جريح وطاءوس وعطاء واصحاب ابن عباس وسعيد بن جبير وفقهاء مكة(1/1334)
و لهذا قال الأوزاعي فيما رواه الحاكم عنه فى علوم الحديث يترك من قول أهل الحجاز خمس فذكر منها متعة النساء من قول أهل مكة وإتيان النساء فى أدبارهن من قول أهل المدينة (مسئلة) والإجماع انعقد على عدم جواز المتعة وتحريمها لا خلاف فى ذلك فى علماء الأمصار الا من طائفة من الشيعة والحجة على تحريم المتعة قوله تعالى وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ، إذ لا شك ان المرأة بالمتعة لا تسمّى زوجة ولذا لا توارث بينهما فان كان تأويل الآية على ما قال ابن عباس فالاية منسوخة روى مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني ان أباه حدّثه انه كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يايّها الناس انى كنت أذنت لكم فى الاستمتاع من النساء وان اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شىء منهن فليخل سبيله ولا تأخذوا ممّا اتيتموهن شيئا وروى مسلم أيضا عنه قال اذن لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمتعة فانطلقت انا ورجل إلى امراة من بنى عامر كانها بكرة عيطاء فعرضنا عليها أنفسنا فقالت ما تعطينى فقلت ردائى وقال صاحبى ردائى وكان رداء صاحبى أجود من ردائى وكنت أشبّ منه فإذا نظرت إلى رداء صاحبى أعجبها وإذا نظرت إلى اعجبتها ثم قالت أنت ورداءك يكفينى فمكثت معها ثلاثا ثم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من كان عنده شىء من النساء التي يتمتع بهنّ فليخلّ سبيلها وروى ابن ماجة بإسناد صحيح عن عمر انه خطب فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اذن لنا فى المتعة ثلاثا ثم حرّمها والله لو اعلم أحدا تمتع وهو محصن الا رجمته بالحجارة وفى رواية خطب عمر فقال ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنها لا اوتى أحد نكحها الا(1/1335)
رجمته وسئل ابن عمر عن المتعة فقال حرام فقيل له ابن عباس يفتى بها قال فهلّا تزمزم بها فى زمان عمر وروى مسلم عن سلمة بن الأكوع
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 76
قال رخص لنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام أوطاس ثلاثا ثم نهانا عنها وروى مسلم عن سبرة بن معبد أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح حين دخلنا مكة ثم لم يخرج منها حتى نهانا عنها واخرج الحازمي بسنده عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما يلى الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن تظعن فى رحالنا فجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنظر إليهن فقال من هؤلاء النسوة فقلنا يا رسول اللّه نسوة تمتعنا بهن قال فغضب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد اللّه واثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتواد عنا يومئذ الرجال والنساء فلم نعد ولا نعود إليه ابدا وروى الطحاوي عن أبى هريرة قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى غزوة تبوك فنزل ثنية الوداع فراى مصابيح ونساء يبكون فقال ما هذا فقيل نساء تمتع بهن ازواجهنّ وفارقوهن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الله حرم وأهدر المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث وفى لفظ عند الدارقطني بإسناد حسن هدم المتعة بالطلاق والعدة والميراث وروى البخاري ومسلم عن الحسن وعبد اللّه ابني محمد بن على عن أبيهما عن على انه سمع ابن عباس يلين فى متعة النساء فقال مهلا يا ابن عباس فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عنها يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية وفى رواية عن على انه قال لابن عباس انك رجل تائه وروى مسلم عن عروة بن الزبير ان عبد اللّه بن الزبير قام بمكة فقال ان ناسا أعمى اللّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل يعنى ابن عباس فانه ذهب بصره فى آخر عمره(1/1336)
فناداه يعنى ابن عباس فقال انك لجلف « 1 » جاف فلعمرى لقد كانت المتعة تفعل على عهد امام المتقين يريد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فو اللّه لان فعلتها لارجمنك باحجارك
فقال ابن أبى عمرة الأنصاري انها كانت رخصة فى اوّل الإسلام لمن اضطر إليها كالميتة والدّم ولحم الخنزير ثم احكم اللّه الدّين ونها عنها واخرج البيهقي عن الزهري انه قال ما مات ابن عباس حتى رجع عن فتواه بحل المتعة وكذا ذكر أبو عوانة فى صحيحه ،
_________
(1) الجلف الأحمق ومعناه الحقيقي الشاة المسلوخة التي قطع رأسها وقوائمها ويقال للدنى أيضا شبه الأحمق بهما والجفا البعد عن الشيء منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 77(1/1337)
و أخرج أبو داود فى ناسخه وابن المنذر والنحاس من طريق عطاء عن ابن « 1 » عطفى هذه الآية قال نسخها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... ، وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... ، وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية وكذا روى البيهقي وغيره عن ابن مسعود وأبو داود والبيهقي عن سعيد بن المسيّب قال نسخت اية الميراث المتعة وروى الترمذي عن ابن عبّاس انه قال انما كانت المتعة فى اوّل الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى انه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ قال ابن عباس فكل فرج سواهما فهو حرام قلت لعل ابن عباس انما رجع عن فتواه بعد مناظرة ابن الزبير وغيره من العلماء حين اطلع على حقيقة الأمر وظهر كونها منسوخة وقد حكى انه انما كان يفتى بإباحتها حالة الاضطرار والعنت فى الاسفار لما روى الحارمى من طريق الخطابي عن أبى المنهال عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس سارت بفتياك الركبان وقال فيها الشعراء فقال ما قالوا قلت قالوا قد قلت للشيخ لما طال محبسه يا صاح هل لك فى فتوى ابن عباس هل لك فى رخصة الأطراف أنسة يكون مثواك حتى يصدر الناس ، فقال سبحان اللّه ما بهذا أفتيت وما هى الّا كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل الا للمضطر وكذا روى ابن المنذر فى تفسيره والبيهقي فى سننه بلفظ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ لا والله ما بهذا أفتيت ولا هذا أردت ولا احللتها الا للمضطر انتهى ، وابن جريج أيضا رجع عن فتواه وروى أبو عوانة فى صحيحه عن ابن جريح انه قال بالبصرة اشهدوا انى قد رجعت عنها يعنى عن الفتوى بحل المتعة بعد ان حدثهم ثمانية عشر حديثا انه لا بأس به فان قيل وقع فى بعض روايات مسلم الرخصة(1/1338)
بالمتعة وتحريمها عام أوطاس وفى بعضها حرّمها يوم الفتح وفى الصحيحين حرمها يوم خيبر وفى بعض الروايات ورود النهى فى غزوة تبوك فكيف التوفيق قلنا غزوة أوطاس كان مقارنا بالفتح فعام أوطاس ويوم الفتح واحد والتوفيق بين يوم الفتح ويوم خيبر ان المتعة رخصت فيها مرتين ثم نسخت كل مرة واستقر الأمر على التحريم إلى يوم القيامة كذا قال ابن همام وفى صحيح مسلم باب نكاح المتعة وانه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ واستقر تحريمه إلى يوم القيامة وقال البغوي قال الربيع بن سليمان سمعت الشافعي يقول لا اعلم فى الإسلام شيئا أحل ثم حرم ثم أحل ثم حرم
_________
(1) هكذا فى الأصل لعله ابن عباس
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 78(1/1339)
غير المتعة وقال بعضهم نسخت ثلاث مرات وقيل اكثر واما غزوة تبوك فلم يرد هناك رخصة وانما فعل من فعل هناك بناء على عدم علمهم بالتحريم المؤبد ومن ثم غضب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى تمعر وجهه وخطب ونهى عن المتعة وقال الحارمى انه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن أباحها لهم قط وهم فى بيوتهم وأوطانهم وانما أباحها لهم فى اوقات بحسب الضرورات حتى حرّمها عليهم فى اخر سنينه فى حجة الوداع وكان تحريمه تابيدا يعنى بين الحرمة فى اخر سنينه فى حجة الوداع حتى استقر عليه الأمر واللّه اعلم وقال اكثر المفسرين المتعة ليست مرادة من هذه الآية بل معنى قوله فما استمتعتم به منهن ما انتفعتم وتلذدتم بالجماع من النساء بالنكاح الصحيح فاتوهن أجورهن أى مهوهن كذا قال الحسن ومجاهد واخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال الاستمتاع النكاح وهو قوله وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ، (مسئلة) قيل هذه الآية بهذا التأويل تدل على ان المرأة لا تستحق المهر الا بالدخول فهى حجّة لمالك حيث قال المرأة لا تملك الصداق الا بالدخول أو الموت دون العقد وانما تستحق بالعقد نصف المسمى خلافا للجمهور فعندهم تملك بالعقد لكن يسقط نصف المهر بالطلاق قبل الدخول بالنص قلنا الباء فى قوله تعالى أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ للالصاق فهى تدل على لصوق وجوب المال بالابتغاء يعنى العقد وتنافى تراخيه إلى الدخول كما ذكرنا ثمه وهذه الآية تدل على وجوب الأداء وعدم احتمال السقوط بالاستمتاع - ولا تدل على عدم الوجوب قبل ذلك بنفس العقد بل هو مسكوت عنه فى هذه الآية فلا تعارض بين الآيتين ولا حجة لمالك وإذا ملكت المهر بالعقد جاز لها ان تمنع الزوج من الدخول بها أو يسافر بها حتى يؤدى مهرها وجاز اعتاقها لا اعتاقه عبدا سمى مهرا واللّه اعلم ، فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أى إيتاء(1/1340)
مفروضا أو مصدر مؤكد أى فرض فريضة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فمن حمل ما قبله على المتعة قال معناه إذا عقد إلى أجل بمال فإذا تم الاجل فان شاءت المرأة زادت فى الاجل وزاد الرجل فى الاجر والا تفارقا ومن حمل على الاستمتاع بالنكاح الصحيح قال المراد به لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من ان تحطّ المرأة بعض المفروض
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 79
عن الزوج أو تهبه كله أو يزيد الرجل لها على قدر المفروض ، (مسئلة) وهذه الآية تدل على ان الزيادة فى المهر تلحق بأصل العقد وكذا الحط فللمرءة ان يطالب الزيادة كما ان لها طلب اصل المهر فهى حجة على الشافعي حيث قال الزيادة هبة مستانفة ان قبضها مضت وان لم يقبضها بطلت ، وجه الاحتجاج ان الأمر لو كان كما قال الشافعي فلا فائدة فى هذه الآية وبناء على لحوق الزيادة بأصل المهر قال احمد ان مات الزوج أو دخل بها يجب المهر كله مع الزيادة وان طلقها قبل الدخول ينتصف الزيادة مع المسمى وكذا قال أبو حنيفة غير انه قال تسقط الزيادة بالطلاق قبل الدخول ولا ينتصف لقوله تعالى وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ خصّ الوجوب بنصف المفروض فى العقد فقط وقال مالك الزيادة ثابتة ان دخل بها وان طلقها قبل الدخول فلها نصف الزيادة مع نصف المسمى وان مات قبل الدخول وقبل القبض بطلت ، (مسئلة) لو حطت المرأة بعض مهرها صح اتفاقا فلو وهبت اقل من النصف وقبض الباقي وطلقت قبل الدخول رجع الزوج عليها إلى تمام النصف عند أبى حنيفة وعند أبى يوسف ومحمد ينتصف المقبوض فقط إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً (24) فيما شرع من الاحكام.(1/1341)
وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغناء والسعة كذا فى القاموس ومعناه هاهنا الاستطاعة وهى القدرة فهو منصوب على المصدرية أَنْ يَنْكِحَ منصوب على انه مفعول به يعنى من لم يستطع منكم استطاعة ان ينكح وجاز ان يكون طولا مفعولا به ومعناه الاعتلاء وهو يلازم الفضل والغناء وان ينكح منصوبا بنزع الخافض متعلّقا بطولا يعنى من لم يستطع منكم ان يعتلى ويرتفع إلى ان ينكح وجاز ان يكون طولا علة للاستطاعة المنفية وان ينكح مفعولا به للمنفى يعنى ومن لم يستطع منكم بسبب الغناء ان ينكح وجاز ان يكون طولا بمعنى الغناء وان ينكح متعلقا بفعل مقدر صفة لطولا يعنى من لم يستطع منكم غنى يبلغ به ان ينكح الْمُحْصَناتِ أى الحرائر سميت محصنات لكونهن ممنوعات عن ذل الرق الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ تقديره فلينكح امراة كائنة مما ملكنه أَيْمانُكُمْ يعنى ايمان بعض منكم يعنى من إماء غيركم فان النكاح بمملوكة نفسه لا يجوز لعدم الحاجة إلى نكاحها كائنة مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 80(1/1342)
احتج الشافعي ومالك واحمد بهذه الآية على تحريم نكاح الامة عند طول الحرة وتحريم نكاح الامة الكتابية مطلقا لان الأمر المقدر اعنى فلينكح للاباحة فاباحة نكاح الامة مشروطة بشرط عدم طول الحرة وبشرط إيمانها لان الوصف ملحق بالشرط وعدم الشرط يوجب نفى الحكم وإذا انتفى الإباحة ثبت التحريم وهذا القول مروى عن جابر وابن مسعود روى البيهقي من طريق أبى الزبير انه سمع جابرا يقول لا ينكح الامة على الحرة وينكح الحرة على الامة ومن وجد صداق حرة فلا ينكح أمة ابدا واسناده صحيح وروى ابن المنذر عن ابن مسعود قال انما أحل اللّه نكاح الإماء لمن لم يستطع طولا وخشى العنت على نفسه قالت الحنفية اوّلا بان الاستدلال بمفهوم المخالفة غير صحيح عندنا وعدم الشرط لا يوجب نفى الحكم لان أقصى مراتب الشرط ان يكون علة وعدم العلة لا يوجب عدم المعلول لجواز وجوده بعلة اخرى فالتعليق بالشرط والتقييد بالوصف انما يوجب وجود الحكم على تقدير الشرط والوصف وتقدير عدم الشرط والوصف مسكوت عنه فان ثبت الحكم على ذلك التقدير بعلة اخرى فذاك والا فيعدم الحكم عدما اصليا لا حكما شرعيا وفيما نحن فيه اباحة نكاح الإماء مطلقا مؤمنة كانت أو كتابية سواء كان الزوج قادرا على نكاح الحرة أو لم يكن ثابت بعموم قوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وثانيا بان الاستدلال بالمفهوم عند القائلين به مشروط بان لا يكون التقييد خارجا مخرج العادة ولا يتصوّر من التقييد فائدة غير الاحتراز وهاهنا جاز ان يكون الكلام خارجا مخرج العادة فان العادة ان الرجل الحرّ لا يرغب إلى نكاح الامة الّا عند عدم طول الحرة والمسلم لا يرضى بالمعاشرة مع الكافرة ولاجل ذلك قيد المحصنات بالمؤمنات وليس ذلك القيد للاحتراز اجماعا ومن ثم قال الشافعي لا يجوز نكاح الامة مع طول الحرة الكتابية أيضا وجاز ان(1/1343)
يكون التقييد لبيان الأفضل وثالثا بانا لو سلمنا إفادة المفهوم نفى الإباحة فنفى الإباحة لا يستلزم ثبوت الحرمة بل قد يكون فى ضمن الكراهة ونحن نقول بالكراهة كما صرح فى البدائع ووجه كراهة نكاح الامة الكتابية بل الحرة الكتابية أيضا استلزامه موالات الكفار وقد نهينا عنه قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لم تر للمتحابين مثل النكاح رواه ابن ماجة عن ابن عباس وقال اللّه تعالى لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وقال لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وقال رسول اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 81
صلى اللّه عليه وسلم تنكح المرأة لاربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك متفق عليه من حديث أبى هريرة ولمسلم عن جابر ان المرأة تنكح على دينها ومالها وجمالها فعليك بذات الدّين تربت يداك ورواه الحاكم وابن حبان من حديث أبى سعيد وابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث عبد اللّه بن عمرو نحوه ووجه كراهة نكاح الإماء انها توجب ارقاق الولد والرق موت حكما وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم رواه أبو داؤد والحاكم وصححه البيهقي عن عائشة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ والتفاضل انما هو بالايمان(1/1344)
و الأعمال بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يعنى بعضكم من جنس بعض الأحرار والأرقاء كلهم من نفس واحدة آدم عليه السلام قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه قد اذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء انما هو مومن تقى وفاجر شقى الناس كلهم بنوا آدم وآدم من تراب رواه الترمذي وأبو داؤد من حديث أبى هريرة وروى احمد والبيهقي عن عقبة بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انسابكم هذه ليست بمسبة على أحد كلكم بنو آدم طف الصّاع بالصّاع لم تملؤه ليس لاحد على أحد فضل الآبدين وتقوى كفى بالرجل ان يكون بذيا فاحشا بخيلا فهذان الجملتان لتأنيس الناس بنكاح الإماء ومنعهم عن الاستنكاف منهن فَانْكِحُوهُنَّ أى الفتيات المؤمنات بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يعنى اربابهن الضمير راجع إلى الفتيات والمراد بها الإماء وهى تعم القنة والمكاتبة والمدبرة وأم الولد والأمر هاهنا للوجوب والإيجاب راجع إلى القيد يعنى لا يجوز نكاح الإماء الّا بإذن سيّدها وكذا العبد ولذلك ذكر صيغة فانكحوهن ولم يكتف بان يقول فممّا ملكت ايمانكم من فتيتكم المؤمنات بإذن اهلهنّ لان الأمر هناك للاباحة وهاهنا للوجوب ولا يجوز الجمع بين معنى الإيجاب والإباحة فى صيغة واحدة وعدم جواز نكاح الرقيق بلا اذن السيّد امر مجمع عليه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيما عبد تزوج بغير اذن مولاه فهو عاهر رواه أبو داود والترمذي من حديث جابر وقال حديث حسن وفى السّنن أيضا عن ابن عمر عنه صلى اللّه عليه وسلم إذا نكح العبد بغير اذن مولاه فنكاحه باطل (مسئله : ) اختلفوا فى ان نكاح الرقيق بغير اذن السيّد هل ينعقد ويتوقف نفاذه على اذن المولى أم لا ينعقد أصلا فقال أبو حنيفة ومالك وهى رواية عن احمد انه ينعقد موقوفا ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 82(1/1345)
و قال الشافعي لا ينعقد أصلا ، للجمهور ان العبد يتصرف باهليته وانما يشترط اذن المولى لفوات حقه فى الوطي فى الامة وشغل الذمة بالمهر فى العبد وفى الآية انما اعتبر اذن المولى دون عقده وللشافعى قوله صلى اللّه عليه وسلم فنكاحه باطل وان الباء فى الآية للالصاق فلا بد ان يكون الاذن ملاصقا بالنكاح فلا يتوقف على اذن متأخر وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ قال مالك بظاهر هذه الآية ان المهر للامة وعند الجمهور مهرها ملك لسيّدها لانها مملوكة ملحقة بالجمادات لا يتصوّر كونها مالكة وقالوا فى تأويل الآية اتوهن مهورهن بإذن أهلهن فخذف ذلك لتقدم ذكره أو المعنى أتوا مواليهنّ فخذف المضاف للعلم بان المهر للسيّد ضرورة دينية وفى هذين التأويلين ضعف لان العطف لا يقتضى مشاركة المعطوف والمعطوف عليه فى القيد المتأخر وانما الاشتراك فيما تقدم ولا بد لحذف المضاف من دليل ولا بد من نكتة لاختيار اتوهن على أتوهم مع سبق ذكر الأهل قال المحقق التفتازانيّ النكتة تأكيد إيجاب المهور والاشعار بأنها أجور الابضاع ومن هذا الجهة يسلم المهر إليهن وانما يأخذ الموالي من جهة ملك اليمين والأقرب ان يقال ان الامة مالكة للمهر يدا كالعبد المأذون والاذن فى النكاح كالاذن فى التجارة فيجب التسليم اليهنّ ، ولك ان تحمل أجورهن على نفقاتهن فتستغنى عن اعتبار الاذن بِالْمَعْرُوفِ يعنى بلا مطل ونقصان ويمكن ان يقال المراد بالمعروف ايتاءهن بإذن أهلهن فان الإيتاء بغير اذن أهلهن منكر شرعا مُحْصَناتٍ عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ زانيات جهارا وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ احباب يزنون بهن سرّا قال الحسن المسافحة هى ان كل من دعاها تبعته وذات خدن ان تختص بواحد لا تزنى الا معه والعرب كانوا يحرمون الاولى ويجوّزون الثانية قوله غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ بيان لمحصنات وقوله محصنات حال من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ وآتُوهُنَّ على سبيل(1/1346)
التنازع ، وقيد نكاحهن بالاحصان لبيان الأفضل عند أبى حنيفة والشافعي وقال احمد لا يجوز النكاح مع الزانية حرة كانت أو أمة حتى تتوب حيث قال اللّه تعالى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وسنذكر تفسيرها فى سورة النور ان شاء الله تعالى وقال مالك يكره التزويج بالزانية مطلقا وقيد إيتاء المهر بالاحصان انما جاء بناء على تقييد النكاح به لان النكاح إذا كان فى حالة الإحصان كان الأداء أيضا فى تلك الحالة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 83 غالبا نظرا على استصحاب الحال فلا يرد ان وجوب أداء المهر(1/1347)
غير مقيد بالعفة اجماعا - فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ حمرة والكسائي وأبو بكر بفتح الالف والصاد على البناء للفاعل أى حفظن فروجهنّ بالتزويج وقرا الآخرون بضم الالف وكسر الصاد على البناء للمفعول أى حفظهنّ أزواجهن والإحصان فى اللغة المنع وجاء فى القرآن بمعنى الحرية والعفة والزواج والإسلام يعتبر فى كل مقام ما يناسبه وفى كل منها نوع من المنع والمراد هاهنا التزويج لان الكلام فى الامة المسلمة والعفة تنافى قوله تعالى فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يعنى الزنى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ يعنى الحرائر أى الابكار منهن ولا يجوز ان يراد بها المتزوجات عن الحرائر لانّ حدهن الرجم وذا لا يتصوّر التنصيف فيه مِنَ الْعَذابِ يعنى الحد - (مسئلة) وحد الزنى فى الحر رجلا كان أو امراة مائة جلدة ان كان غير محصن عند أبي حنيفة رحمه اللّه لقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ، وعند الشافعي واحمد مائة جلدة وتغريب عام وقال مالك انما التغريب فى الرجال دون النساء والدليل على اثبات التغريب مع الجلد ما ذكرنا من حديث عبادة بن الصّامت البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام رواه مسلم وقد مرّ وعن زيد بن خالد قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام رواه البخاري قال مالك البكر لا يشتمل المرأة فلا يثبت التغريب فى النساء وهذا ليس بشىء فان سياق الحديث فى النساء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى خذوا عنى قد جعل اللّه لهنّ سبيلا البكر بالبكر الحديث وعدم شمول البكر المرأة ممنوع كيف وقد قال عليه السّلام البكر تستأذن وكلمة من زنى فى حديث زيد عام فى الذكر والأنثى وقال أبو حنيفة هذه زيادة على الكتاب لا يجوز بخبر الآحاد وسنذكر زيادة البحث فى هذا الباب فى سورة النور ان شاء اللّه تعالى (مسئلة) وحدّ(1/1348)
الرقيق رجلا كان أو امراة متزوجا كان أو غير متزوج خمسون سوطا عند الائمة الاربعة اما الامة فبعبارة هذا النصّ وامّا العبد فبدلالة النصّ بطريق المساوات ولا تغريب على الرقيق عند الائمة الثلاثة واحد قولى الشافعي وأصح قولى الشافعي انه يغرب نصف عام وقال أبو ثور يرجم المحصن يعنى المتزوج من الأرقاء وهذه الآية حجة للجمهور عليه لانها تدل على نصف حدّ الأحرار وذا لا يتصوّر الا فى الجلد وامّا الرجم فلا يقبل التنصيف
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 84(1/1349)
و ذهب ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير إلى انه لاحد على غير المتزوجة من الأرقاء عملا بمفهوم الشرط من هذه الآية ومفهوم الشرط غير معتبر عند أبى حنيفة وعند الائمة الثلاثة لا مفهوم للشرط فى هذه الآية بل المراد منه التنبيه على ان المملوك وان كان محصنا بالتزويج فلا رجم عليه انما حده الجلد بخلاف الحرّ وهذا الحكم العام يثبت بعموم قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم ان زنت فليجلدها الحدّ ولا يثرب عليها ثم ان زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل شعر متفق عليه من حديث أبى هريرة فان لفظ أمة نكرة فى حيز الشرط فتعم وعليه انعقد الإجماع وعن على رضى اللّه عنه قال أيها الناس اقيموا على ارقائكم الحد من أحصن منهم ومن لم يحصن فان أمة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم زنت فامرنى ان اجلدها فإذا هى حديث عهد بنفاس فخشيت ان جلدتها ان اقتلها فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال أحسنت رواه مسلم وروى عن عبد اللّه بن عياش بن أبى ربيعة قال أمرني عمر ابن الخطاب فى فتية من قريش فجلدنا ولائد من ولائد الامارة خمسين خمسين فى الزنى ذلِكَ أى شرع الحد لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ أى لمن خاف مشقة الضرب مِنْكُمْ حتى لا تقربوا الزنى وَأَنْ تَصْبِرُوا عن قضاء الشهوة ولا تقربوا الزنى خَيْرٌ لَكُمْ فى الدنيا والاخرة ، وقال اكثر المفسّرين ذلك اشارة إلى نكاح الإماء يعنى نكاح الإماء مختص بمن خشى العنت يعنى خاف الوقوع فى الزنى منكم فان الزنى سبب للمشقة فى الدنيا والاخرة وان تصبروا عن نكاح الإماء متعففين خير لكم كيلا يخلق الولد رقيقا ولا ترتكبوا الفعل المكروه قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الحرائر صلاح البيت والإماء(1/1350)
هلاكه رواه الثعلبي والديلمي فى مسند الفردوس من حديث أبى هريرة وفى التحرير انه ضعيف قلت لعل هلاك البيت بمعنى ان أولاد الإماء تكون مماليك لساداتهن فيخلوا عنهم بيوت أزواجهن وهذا التأويل يناسب قوله تعالى وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن لم يصبر عن نكاح الإماء رَحِيمٌ (25) حيث رخص لكم فى نكاح الإماء وهذه الآية على هذا التأويل حجة للشافعى ومالك على اشتراط خوف الوقوع فى الزنى لجواز نكاح الإماء فان اللام للاختصاص قال البغوي وهو قول جابر وبه قال طاؤس وعمرو بن دينار ولا يشترط ذلك عند أبى حنيفة لكنه يكره نكاح الامة عنده من غير ضرورة بمقتضى هذه الآية -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 85
((1/1351)
فائدة : ) قال الشافعي واحمد نكاح الإماء ضرورى لاستلزامه رق الأولاد ولاشتراطه بعدم طول الحرة وتقييد نكاح الامة بالايمان فلا يجوز نكاح ما فوق الواحدة من الإماء للحرّ لاندفاع الضرورة بالواحدة وقال أبو حنيفة يجوز نكاح الامة مطلقا من غير الضرورة مسلمة كانت أو كتابية عند طول الحرة وعدمه وان كان مكروها من غير ضرورة لاطلاق قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وقوله تعالى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ واستلزام رق الأولاد ولو كان علة لعدم الجواز من غير ضرورة لما جاز للعبد أيضا نكاح الامة عند القدرة على نكاح الحرة ولم يقل به أحد وأيضا يجوز للعبد نكاح الثنتين من الإماء عندكم فاولى ان يكون ذلك جائزا للحرّ فان حلّه اكثر من حلّ العبد ولذلك جاز للحرّ نكاح اربع من النساء بالنص وللعبد نكاح « 1 » ثنتين بالحديث كما مرّ وأيضا النصّ المبيح أربعا من النساء مطلق لا يجوز تقييده بالحرائر واللّه اعلم وقول مالك فى تجويز اربع من الإماء والحرائر للحرّ كقول أبى حنيفة رحمهما الله تعالى - (مسئلة) لا يجوز نكاح الامة على الحرة عند الائمة الاربعة غير ان مالكا يقول بالجواز ان رضيت الحرة خلافا لغيره ويجوز نكاح الحرة على الامة من غير إفساد فى نكاح الامة اجماعا فالائمة الثلاثة يقولون بعدم جواز نكاح الامة على الحرة لمفهوم قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا لان من كان فى نكاحه حرة فله طول الحرة وهذا الاستدلال لا يقتضى التفرقة بين الحرّ والعبد وبين رضاء الحرة وعدمه وأبو حنيفة يقول بعدم جواز نكاح الامة على الحرة لما روى سعيد بن منصور فى السنن عن ابن علية عن من سمع الحسن ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى ان تستنكح الامة على الحرة قال وتنكح الحرة على الامة ورواه البيهقي والطبري فى تفسيره بسند متصل إلى الحسن واستغربه من رواية ما مر الأحول عنه وانما المعروف رواية عمرو(1/1352)
بن عبيد عن الحسن قال الحافظ وهو المبهم فى رواية سعيد بن منصور ورواه عبد الرزاق عن الحسن أيضا مرسلا وكذا رواه ابن أبى شيبة عنه والمرسل عندنا حجة وكذا عند الشافعي إذا اعتضد بأقوال الصحابة وهاهنا قد اعتضد ، روى ابن أبى شيبة والبيهقي عن على موقوفا ان الامة لا ينبغى لها ان يتزوج على الحرة وفى لفظ لا تنكح الامة على الحرة وسنده حسن ، واخرج عن ابن مسعود نحوه وروى عبد الرزاق من طريق أبى الزبير انه سمع جابرا يقول لا تنكح الامة على الحرة وتنكح الحرة على الامة وللبيهقى نحوه ،
_________
(1) فى الأصل وللعبد نكاح نكاح ثنتين - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 86
و زاد من وجد صداق حرة فلا ينكح أمة ابدا واسناده صحيح وهو عند عبد الرزاق أيضا مفردا واخرج ابن أبى شيبة عن سعيد بن المسيّب تزوج الحرة على الامة ولا تتزوج الامة على الحرة وفى الباب حديث عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلاق العبد اثنتان الحديث إلى ان قال ويتزوج الحرة على الامة ولا يتزوج الامة على الحرة رواه الدارقطني وفيه مظاهر بن اسلم ضعيف لكن يرد على اصل أبى حنيفة هاهنا انه يلزم تخصيص الكتاب اعنى قوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بحديث الآحاد اللهم الا « 1 » ان يقال هذا الحديث تأيد بالإجماع ويجوز للعبد نكاح الامة على الحرة عند الشافعي وقال أبو حنيفة لا يجوز لاطلاق ما روينا من المرسل وكذا ما استدل به الائمة الثلاثة على عدم الجواز للحر من المفهوم موجود فى العبد أيضا واللّه اعلم.(1/1353)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أى لان يبين لكم شرائع دينكم ومصالح أموركم واللام زائدة لتأكيد معنى الاستقبال أو يقال للتعليل وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهذه الآية دليل على انّ شرائع من قبلنا ما لم يظهر كونها منسوخة فى شريعتنا واجب علينا إتيانها إذا ثبت عندنا بالكتاب والسنة ولا عبرة لرواية اليهود فانهم كفار متهمون الا إذا روى منهم مثل عبد اللّه بن سلام وكعب الأحبار بعد إيمانه وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ويغفر لكم ذنوبكم التي ارتكبتموها قبل بيانها وقيل يوفقكم للتوبة أو لاتيان ما يكفر سيئاتكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمصالح حَكِيمٌ (26) فى وضعها ، .
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرّره للتأكيد والمبالغة وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعنى الفجار فامّا من وضع شهوته فيما امر به الشرع فهو متبع للشرع دون الشهوة وقيل المراد بهم الزناة وقيل المجوس حيث يحلّون المحارم وقيل اليهود فانهم يحلّون الأخوات من الأب وبنات الأخ والاخت أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً (27) عن الحق يعنى مستحلين الحرام فانه أعظم ميلا إلى الباطل من اقتراف الذنب مع الاعتقاد بحرمته.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ولذلك شرع لكم الشريعة الحنفية السمحة السهلة وأحل بعض ما كان محرّما على من قبلكم أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن المنذر فى التفسير عن مجاهد قال مما وسّع اللّه به على هذه الامة نكاح الامة والنصرانية واليهودية وذكر فى المدارك هذا القول لابن عباس وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) لا يصبر عن الشهوات ولا يتحمل مشاق الطاعات
_________
(1) فى الأصل اللهمّ ان يقال -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 87
و كلما كان الزمان اقرب إلى الساعة ازداد فيهم الضعف ولهذا خفف اللّه عن هذه الامة ، .(1/1354)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ يعنى لا يأكل أحد منكم مال غيره من المسلمين ومن تبعهم من أهل الذمّة ولا بأس بأكل مال الحربي الغير المعاهد من غير عذر بِالْباطِلِ أى بوجه ممنوع شرعا كالغصب والسّرقة والخيانة والقمار والربوا والعقود الفاسدة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً قرأ الكوفيون بالنصب على انه خبر لتكون واسمه مضمر تقديره الّا ان تكون جهة الاكل تجارة والباقون بالرفع بالفاعلية وتكون تامة والاستثناء منقطع يعنى لكن كلوا وقت كون وجه الاكل تجارة أو وقت كون التجارة الصّادرة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما البيع عن تراض رواه ابن ماجة وابن المنذر عن أبى سعيد أى من المعطى والعاطى أو المعنى لكن اقصدوا كون وجه الاكل تجارة أو كون تجارة والتجارة البيع بالتكلم أو بالتعاطى وهو مبادلة المال بالمال والاجارة يعنى مبادلة المال بالمنافع المعلومة خصّ التجارة بالذكر من الوجوه التي بها يحل أخذ المال من الغير لانها اغلب وأطيب « 1 » عن رافع ابن خديج قال قيل يا رسول اللّه اىّ الكسب أطيب قال عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور رواه احمد وعن المقدام بن معد يكرب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من ان يأكل من عمل يديه وان نبى اللّه داود كان يأكل من عمل يديه رواه البخاري وعن عائشة انّ أطيب ما أكلتم من كسبكم وان أولادكم من كسبكم رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وهذه الآية
_________
((1/1355)
1) أخرج الاصبهانى عن أبى امامة مرفوعا ان التاجر إذا كان فيه اربع خصال طاب كسبه إذا اشترى لم يذم وإذا باع لم يمدح ولم يدلس فى البيع ولم يحلف فيما بين ذلك واخرج احمد والحاكم عن عبد الرحمن بن شبلى سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول التّجارهم الفجار قالوا يا رسول اللّه أ ليس قد أحل اللّه البيع قال بلى ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون واخرج الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان التجار يبعثون يوم القيامة فجارا الّا من اتقى الله وبرّ وصدق واخرج الترمذي وحسّنه والحاكم عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم التاجر الصدوق الامين مع النبيين والصدّيقين والشهداء وابن ماجة والحاكم عن ابن عمر مرفوعا التاجر الصدوق الامين المسلم مع الشهداء يوم القيامة واخرج الطبراني عن صفوان بن امية مرفوعا ان عون اللّه مع صالحى التجار والاصبهانى عن انس مرفوعا ، التاجر الصدوق تحت ظلّ العرش يوم القيامة ، واخرج الاصبهانى عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ان أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يدموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعيروا منه رحمه اللّه تعالى - فى الأصل بين المسلمين -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 88(1/1356)
لا تدل على نفى غير التجارة من الوجوه كالمهر والهبة والصدقة والعارية وغير ذلك لانها ليست من الباطل بل هى ثابتة بالنصوص الشرعية ، احتج الحنفية بهذه الآية على انه لا خيار فى المجلس لاحد المتبايعين بعد الإيجاب والقبول وبه قال مالك لانها تدل على جواز الاكل بالتجارة عن تراض وان كان قبل افتراقهما عن المجلس وجواز الاكل مبنى على تمام البيع وتمام البيع يقتضى عدم بقاء الخيار لاحدهما وقال الشافعي واحمد لكل واحد منهما الخيار ما لم يتفرقا عن المجلس لحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المتبايعان كل واحد بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا الّا بيع الخيار متفق عليه وعن حكيم بن خرام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينابورك لهما فى بيعهما وان كتما وكذبا محقت بركة بيعهما متفق عليه قالت الحنفية هذه أحاديث لا يجوز العمل بها على خلاف مقتضى الكتاب ومقتضى الكتاب عدم بقاء الخيار كما ذكرنا وهذه الأحاديث محمولة على خيار القبول وفيه اشارة إليه فانهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها أو يحتمله فيحمل عليه والمراد بالتفرق تفرق الأقوال كذا فى الهداية قال ابن همام كون تفرق الأقوال مرادا بالتفرق كثير فى الشرع والعرف قال اللّه تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ...(1/1357)
إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ قلت والصحيح عندى ان الآية تدل على جواز الاكل وتمام البيع قبل الافتراق من المجلس لكن لا يدل على نفى ولاية الفسخ عنهما فالاولى ان يقال بثبوت خيار المجلس للمتعاقدين كما اثبت أبو حنيفة خيار الرؤية وخيار العيب بعد تمام البيع كيلا يلزم ترك العمل بالحديث الصحيح وما قالوا انهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها ممنوع بل قبل قبول الاخر انما هو بايع واحد لا متبايعان وبعد الإيجاب والقبول ما دام المجلس باقيا حالة المباشرة قائم عرفا وشرعا لان ساعات المجلس كلها تعتبر ساعة واحدة فهما متبايعان ما دام المجلس باقيا حقيقة والقول بان المراد بالتفرق التفرق فى الأقوال قول بالمجاز مع إمكان الحقيقة على ان بعض ألفاظ الحديث يأبى عن هذا التأويل فانه روى مسلم حديث ابن عمر بلفظ إذا تبايع المتبايعان فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا فان كلمة الفاء فى قوله فكل واحد منهما بالخيار تدل على تعقيب الخيار عن التبايع وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال البيعان بالخيار ما لم يتفرقا الّا ان تكون صفقة خيار ولا يحل له ان يفارق صاحبه خشية ان يستقيله رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يتفرقن اثنان الا عن تراض
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 89(1/1358)
رواه أبو داود وعن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيّرا عرابيا بعد البيع رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح غريب فان هذه الأحاديث صريحة فى جواز الا قالة بعد البيع قبل الافتراق عن المجلس واللّه اعلم - وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ قيل معناه لا يقتل أحدكم نفسه عن ثابت بن الضحاك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من قتل نفسه بشىء فى الدنيا عذب به يوم القيامة رواه البغوي من طريق الشافعي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تردى من جبل فقتل نفسه فهو فى نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها ابدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته فى يده يتوجأ بها فى نار جهنم خالدا مخلدا فيها ابدا رواه البخاري ومسلم والترمذي بتقديم وتأخير والنسائي ولابى داود ومن جشاسما فسمه بيده يتجشأه فى نار جهنم وعن جندب بن عبد اللّه قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم جرح من رجل فيمن كان قبلكم اراب فجزع منه فأخرج سكينا فجزّ بها يده فمارقا الدم حتى مات فقال اللّه عز وجل بادرني عبدى بنفسه فحرمت عليه الجنة رواه البغوي وروى أبو داؤد وابن حبان والحاكم فى صحيحه عن عمرو بن العاص انه تأوّل هذه الآية فى التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم حيث قال احتلمت فى ليلة باردة وانا فى غزوة ذات السلاسل فاشفقت لى ان اغتسلت ان أهلك فتيمّمت ثم صليت فذكر ذلك لرسول(1/1359)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا عمرو صليت باصحابك وأنت جنب فقلت انى سمعت اللّه عز وجل يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ولم يقل شيئا وقال الحسن وعكرمة وعطاء بن أبى رباح والسدىّ معناه لا تقتلوا « 1 » إخوانكم كما قوله تعالى ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يعنى إخوانكم فى الدين وقتل المسلم من أعظم الكبائر بعد الشرك عن جرير قال قال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استنصت الناس ثم قال لا ترجعن بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض رواه البخاري وقيل معناه لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وهذا يحتمل المعنيين أحدهما ان أكل مال الغير بالباطل قتل وإهلاك لنفس الاكل لكونه موجبا لتصليته نار جهنم وثانيهما ان أكل مال الغير إهلاك لدلك الغير ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) يعنى أمركم بالحسنات ونهاكم عن السيّئات لفرط رحمته عليكم
_________
(1) عن عاصم بن بهدلة ان مسروقا اتى صفين فقام بين الصفين فقال يا أيها الناس انصتوا ارايتم لو ان مناديا يناديكم من السماء ورأيتموه وسمعتم كلامه فقال ان اللّه ينهاكم عما أنتم عليه ا كنتم منتهين قالوا سبحان اللّه قال فو اللّه نزل بذلك جبرئيل على محمد صلى اللّه عليه وسلم وما ذلك بابين عندى منه ان اللّه قال وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 90
و قيل ان معناه انه امر بنى إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون لهم توبة وكان بكم رحيما حيث لم يكلفكم به بل جعل توبتكم الندم والاستغفار.(1/1360)
وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أى أكل مال غيره أو قتل نفسا معصومة عُدْواناً أى تعديا على الغير عمدا وَظُلْماً على نفسه بتعريضها للعقاب مصدر ان فى موضع الحال أو مفعول لهما فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ندخله فى الاخرة ناراً يعنى نار جهنم وَكانَ ذلِكَ أى اصلاء النار عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) سهلا هذا الوعيد فى حق المستحل للتخليد وفى حق غيره لبيان استحقاقه دخول النار مع جواز المغفرة من اللّه تعالى ان شاء - .(1/1361)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ قال على رضى الله عنه الكبيرة كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب وكذا قال الضحاك انه ما أوعد اللّه عليه حدا فى الدنيا أو عذابا فى الاخرة قلت والكبائر على ثلاثة مراتب ، المرتبة الاولى وهى اكبر الكبائر الإشراك باللّه ويلتحق به كل ما فيه تكذيب بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم وثبت بدليل قطعى امّا تكذيبا صريحا ، بلا تأويل ويسمّى كفرا أو بتأويل ويسمى هوى وبدعة كاقوال الروافض والخوارج والقدرية والمجسمة وأمثالهم ومن هاهنا قال على وابن مسعود اكبر الكبائر الإشراك باللّه والا من من مكر اللّه والقنوط من رحمة اللّه واليأس من روح « 1 » اللّه قلت قال اللّه تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ ... ، وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ... ، إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ والمرتبة الثانية ما فيه إتلاف حقوق العباد من المظالم فى الدماء والأموال والاعراض قال سفيان الثوري الكبائر ما كان فيه المظالم بينك وبين العباد فانها اكبر ممّا بينك وبين اللّه تعالى لان اللّه كبير يغفر الذنوب جميعا كل شىء بالنسبة إليه صغير قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبى وقال اللّه تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الدواوين عند اللّه ثلاثة فديوان لا يعبأ اللّه به شيئا وديوان لا يترك اللّه منه شيئا وديوان لا يغفر اللّه امّا الديوان الذي لا يغفره اللّه فهو الشرك وامّا الدّيوان الذي لا يعبأ اللّه به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربّه من صوم تركه أو صلوة تركها فانّ اللّه تعالى يغفر ذلك
_________
((1/1362)
1) روى البزار والطبراني فى الأوسط عن ابن عباس قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما الكبائر قال الشرك بالله والياس من روح الله والامن من مكر اللّه منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 91
و يتجاوز لمن يشاء وامّا الديوان الذي لا يترك اللّه منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة رواه احمد والحاكم وروى الطبراني مثله من حديث سلمان وابى هريرة والبزار مثله من حديث انس وعن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ينادى مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد ان اللّه عز وجل قد عفا عنكم جميعا المؤمنين والمؤمنات تواهبوا لمظالم وادخلوا الجنّة برحمتي رواه البغوي وعن أبى بكرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى خطبته يوم النحر فى حجة الوداع ان دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا متفق عليه ورواه الترمذي وصححه عن عمرو بن الأحوص وعن اسامة بن شريك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا حرج الأعلى رجل اقترض عرض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وأهلك رواه أبو داؤد وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ « 1 » يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ « 2 » لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً ، بيان للمرتبتين المذكورتين الكفر والظلم على العباد وفى إيراد هذه الآية بعد قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ... ، (1/1363)
وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ اشارة إلى ان الظلم على اموال العباد وأنفسهم من أعظم الكبائر والأحاديث الصحاح التي وردت فى عدّ الكبائر انما ورد فيها غالبا المظالم من حقوق العباد والإشراك منها حديث انس وعبد اللّه بن عمرو قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس فى رواية عبد اللّه عند البخاري وفى رواية انس وشهادة الزور بدل اليمين الغموس متفق عليه وروى ابن مردوية عن انس انها سبع وزاد وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم وأكل الربوا والفرار عن الزحف ومنها حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول اللّه وماهن قال الشرك باللّه والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه الا بالحق وأكل الربوا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الرجف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات متفق عليه وفى رواية زاد ابن راهويه وغيره عقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام ومنها حديث ابن مسعود قال قال رجل يا رسول اللّه اىّ الذنب اكبر عند اللّه قال ان تدعو للّه ندّا وهو خلقك قال ثم اىّ قال ان تقتل ولدك خشية ان بطعم معك قال ثم اىّ قال ان تزنى حليلة جارك فانزل اللّه تصديقها وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ
_________
(1) فى الأصل والذين إلخ
(2) فى الأصل ولهم عذاب مهين
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 92(1/1364)
وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ الآية متفق عليه قيد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزنى بحليلة الجار لان فيه إتلاف حق الجار وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لان يزنى الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من ان يزنى بحليلة جاره رواه احمد عن المقداد بن اسود ورواته ثقات ورواه الطبراني عنه فى الكبير والأوسط ومنها حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من اكبر الكبائر ان يسبّ الرجل والديه قال وكيف يسبّ الرجل والديه قال يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه ويسبّ امه فيسبّ امه رواه البغوي وغيره ومنها حديث أبى بكرة قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم الا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قالوا بلى يا رسول اللّه قال الإشراك باللّه وعقوق الوالدين (و جلس وكان متكيا) الا وقول الزور الا وقول الزور الا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ، (فائدة) مبالغة النبي صلى اللّه عليه وسلم فى التهديد فى قول الزور لشمولها كثيرا من الكبائر الإشراك باللّه وشهادة الزور واليمين الغموس والقذف والدعوى الباطل والكذب على النبي صلى اللّه عليه وسلم فانه صلى اللّه عليه وسلم قال من كذب على متعمدا فليتبوا مقعده من النار متفق عليه والغيبة التي هى أشد من الزنى رواه البيهقي عن أبى سعيد وجابر مرفوعا والنميمة ، عن عبد الرحمن ابن غنم واسماء مرفوعا شرار عباد اللّه مشاؤن بالنميمة رواه احمد ومدح الفاسق عن انس مرفوعا إذا مدح الفاسق غضب الرب واهتز له العرش رواه البيهقي ولعن من لا يستحقه فانه من لعن شيئا ليس له أهل رجعت اللعنة عليه رواه الترمذي عن ابن عباس وأبو داؤد عنه وعن أبى الدرداء مرفوعا والطعن والفحش عن ابن مسعود مرفوعا ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش ولا البذيء رواه الترمذي وغير ذلك من المعاصي ولذلك(1/1365)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه اضمن له الجنة رواه البخاري عن سهل بن سعد وروى مالك والبيهقي عن صفوان بن سليم مرسلا انه سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ يكون المؤمن جبانا قال نعم قيل أ يكون بخيلا قال نعم قيل أ يكون كذابا قال لا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اية المنافق ثلاث وان صام وصلى وزعم انه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد اخلف وإذا اؤتمن خان رواه مسلم والبخاري نحوه وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمرو مرفوعا اربع من كن فيه كان منافقا خالصا فسير المظهري ، ج 2قسم 2 ، ص : 93(1/1366)
و من كان فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجروا للّه اعلم والمرتبة الثالثة من الكبائر ما يتعلق منها بحقوق اللّه تعالى كالزنى والشرب ، أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عمرو انه سئل عن الخمر فقال سألت عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال هى اكبر الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على امه وعمته وخالته كذا روى عبد ابن حميد عن ابن عباس ، عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق « 1 » السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فاياكم إياكم متفق عليه وفى رواية عن ابن عباس ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن رواه البخاري قلت واللواطة فى معنى الزنى وقد قال اللّه تعالى فيها أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ وأشد من السرقة قطع الطريق فان فيه قوله تعالى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية ويلحق بالسرقة التطفيف قال اللّه تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ والخيانة فبئست البطانة وهى من علامات النفاق وأعظم الذنوب من هذا الباب ما يستحقره الفاعل ويزعمه سهلا فان استحقار الذنب وان كان صغيرا يبعده عن(1/1367)
المغفرة ويدل على التمرد وربما يفضى إلى الكفر وما استعظمه وخاف عنه فهو يستحق المغفرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن يرى ذنبه كأنّ جبلا على راسه والمنافق يرى ذنبه كذباب على انفه قال به هكذا فطارت وعن انس قال انكم لتعملون أعمالا هى أدق فى أعينكم من الشعر ان كنا نعد على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الموبقات رواه البخاري واحمد مثله عن أبى سعيد بسند صحيح وبهذا التحقيق يظهر انه من قال بحصر الكبائر فى سبع ونحو ذلك فقد اخطأ وان « 2 » الصغيرة بالإصرار وكذا بالاستحقار يصير كبيرة أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير انّ رجلا سال ابن عباس عن الكبائر أ سبع هى قال هى إلى « 3 » سبعمائة اقرب الا انه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار ، وقال كل شىء عصى اللّه به فهو كبير فمن عمل شيئا
_________
(1) السرقة والخيانة والتطفيف من القسم الثاني منه رحمه اللّه
(2) أخرج الترمذي وابن أبى حاتم عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر وكذا أخرج ابن أبى شيبة عن عمرو أبى موسى وابى قتادة من قولهم منه رحمه اللّه -
(3) فى الأصل إلى السبعمائة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 94(1/1368)
منها فليستغفر الله فان اللّه لا يخلد فى النار من هذه الامة الا راجعا عن اسلام أو جاحدا فريضة أو مكذبا بقدر قلت ومعنى قول ابن عباس لا كبيرة مع استغفار المراد بالكبيرة ما تعلق منها بحقوق اللّه تعالى وامّا ما تعلق بحقوق العباد فلا بدّ فيه من ردّ المظالم واسترضاء المظلوم - (فائدة : ) أساس المعاصي كلها قساوة القلب الموجب للغفلة عن اللّه سبحانه ورذائل النفس الداعية إلى الشهوات السّبعية والبهيمية قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان فى جسد بنى آدم لمضغة إذ أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب وقال اللّه تعالى وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ولا يتصوّر التنزه عن المعاصي الّا بدوام الحضور وصفاء القلوب والنفوس وذا لا يتصوّر الا بجذب من اللّه تعالى بتوسط المشائخ فعليك التشبّث بأذيالهم فهم قوم لا يشقى جليسهم ولا يخاب انيسهم - (فائدة : ) ما قيل ان العبد يبلغ درجة لا يضره ذنب عمله ليس معناه ان بعض الناس يسقط عنهم التكاليف الشرعية ويباح لهم المحرمات فانه كفر وزندقة بل معناه ان العبد بعد تصفية القلب وتزكية النفس إذا دام حضوره لا يصدر عنه ذنب الّا نادرا وكلما صدر عنه ذنب صغير أو كبير يستعظم ذلك ويندم ويغتم كانما هلك نفسه واهله وماله وولده بحيث يصير ذلك الندم والتوبة والاغتمام موجبا لمزيد درجته ونزول الرحمة عليه أولئك يبدل الله شيئاتهم حسنات ذكر العارف الرومي قصّة إيقاظ الشيطان معاوية رضى اللّه عنه لصلوة الصبح وتلك القصّة وان لم اطلع على صحة سندها لكن يكفى للتمثيل مجرد الفرض ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده لو لم(1/1369)
تذنبوا لجاء اللّه بقوم يذنبون فيستغفرون اللّه فيغفر لهم كانّ هذا الحديث اشارة إلى هذه الحالة واللّه اعلم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعنى الصغائر مثل النظرة واللمسة والقبلة ولشباهها قال النبي صلى اللّه عليه وسلم العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدّق ذلك الفرج أو يكذّبه كل ذلك يكفرهن الصلاة والصوم والاذكار ان شاء اللّه تعالى إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهنّ إذا اجتنب الكبائر رواه مسلم وَنُدْخِلْكُمْ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 95
مُدْخَلًا كَرِيماً (31) قرأ نافع مدخلا هاهنا وفى الحج بفتح الميم والباقون بالضم وعلى كلا القرائتين يحتمل المكان فيكون مفعولا به والمصدر على ان المفعول به محذوف أى ندخلكم الجنّة الحسناء أو ندخلكم الجنة دخولا حسنا والله اعلم - قال مجاهد قالت أم سلمة يا رسول اللّه ان الرجال يغزون ولا نغزوا ولهم ضعف ما لنا من الميراث ولو كنا رجالا غزونا كما غزوا وأخذنا من الميراث ما أخذوا فنزلت.(1/1370)
وَ لا تَتَمَنَّوْا الآية كذا روى الترمذي والحاكم عن أم سلمة وصححه وقيل لما جعل اللّه عز وجلّ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فى الميراث قالت النساء نحن أحق وأحوج إلى الزيادة من الرجال لانا ضعيفات وهم أقوى واقدر على طلب المعاش فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال قتادة والسدى لما نزل قوله تعالى لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قال الرجال انا لنرجوان نفضل على النساء بحسناتنا فى الاخرة فيكون أجرنا على الضعف من اجر النساء كما فضلنا عليهن بالميراث فانزل اللّه تعالى وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لانّ ذلك التفضيل قسمة من اللّه تعالى صادرة عن حكمة وتدبير والتمني يفضى إلى الحسد ولا يفيد شيئا بل ينبغى لكل واحد بذل جهده فى كسب ما يمكنه من الحسنات فان ذلك يوجب القرب عند اللّه والفضل فى الدار الاخرة لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مكتوب لهم عند اللّه من الأموال والثواب والفضل مِمَّا اكْتَسَبُوا أى بسبب ما كسبوا من الجهاد وغير ذلك من العبادات المختصة بهم وغير المختصة بهم ومن الغنيمة والإرث والتجارة على ما قدر لهم وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ من المال والثواب مِمَّا اكْتَسَبْنَ من إطاعة الأزواج وحضانة الأولاد وحفظ الفروج وغير ذلك مما يختصّ بهن وما لا يختصّ بهن من العبادات ومن المهور والنفقات والإرث وغير ذلك على ما قدر لهن وَسْئَلُوا اللَّهَ « 1 » كثرة ثواب الدنيا والاخرة مِنْ فَضْلِهِ أى من خزائنه التي لا ينفد فانه تعالى يعطى ثواب حسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله وكذا يعطى بركة الاكساب فى الدنيا ويفضل بعضهم على بعض فى الرزق ولا يفيد التمني شيئا ولا يجوز الحسد قرأ ابن كثير والكسائي
_________
((1/1371)
1) أخرج الترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلوا الله من فضله فان اللّه يجب ان يسئل واخرج ابن جرير عن رجل من الصحابة لم يسمّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سلوا اللّه من فضله فانه يحب ان يسئل وان من أفضل العبادة انتظار الفرج واخرج احمد عن انس قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما سال رجل مسلم الله الجنة ثلاثا الّا قالت الجنة اللهم ادخله الجنة وما استجار رجل مسلم الله من النار ثلاثا الا قالت النار اللهم اجره من النار أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قال العبادة ليس من امر الدنيا منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 96
و سلوا وسل فسل يعنى الأمر الحاضر منه إذا كان قبله واو أو فاء بنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف تلك الهمزة وقرا حمزة فى الوقف على أصله والباقون بسكون السين مهموزا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32) فهو عليم بما يستحقه كل انسان من الفضائل وهذا يقتضى سبق استعداد لكل امرئ بما فضله اللّه به والاستعداد متفرع على استناد الأشياء إلى الأعيان الثابتة كما قرّره الصوفية العلية رضى اللّه عنهم - .(1/1372)
وَ لِكُلٍّ المضاف إليه محذوف والظرف متعلق بقوله جَعَلْنا أى جعلنا لكل مال أو لكل أحد من الأموات مَوالِيَ أى ورثة يحرزون الأموال ويرثون الأموات مِمَّا تَرَكَ أى تركه ظرف مستقر صفة لمال مقدر على التقدير الاوّل ولا بأس بالفصل بالعامل لان حقه التقديم وظرف لغو متعلق بفعل مقدر دلّ عليه الموالي على التقدير الثاني أى يرثون مما تركه وذلك الفعل المقدر صفة لموالى وقوله الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ على التقدير الاوّل فاعل لترك وعلى التقدير الثاني استيناف مفسّر للموالى وفاعل ترك ضمير راجع إلى كل تقديره هم الوالدان والأقربون وجاز ان يقال لكل خبر وجعلنا موالى صفة والعائد محذوف وقوله مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ صفة لمبتدا محذوف تقديره لكل جماعة من ورثة جعلناهم موالى حظ ممّا ترك الوالدان والأقربون وَالَّذِينَ « 1 » عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ معطوف على الوالدان والأقربون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ جملة مبينة عن الجملة المتقدمة وجاز ان يكون الموصول مبتدأ متضمنا بمعنى الشرط وقوله تعالى
_________
((1/1373)
1) روى أبو داود فى ناسخه عن داود بن الحصين قال كنت اقرأ على أم سعد ابنة الربيع وكانت يتيمة فى حجر أبى بكر فقرأت عليها والّذين عاقدت ايمانكم فقالت لا ولكن وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ انها نزلت فى أبى بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى ان يسلم فحلف أبو بكر انه لا يورثه فلما اسلم امره اللّه ان يورثه نصيبه قلت وعلى هذا التأويل لا حجة بالآية على ايراث مولى الموالاة روى عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن أبى مالك قال كان الرجل فى الجاهلية يأتى القوم فيعقدون له انه رجل منهم ان كان ضرّا أو نفعا أو دما فانه فيهم مثلهم ويأخذون له من أنفسهم مثل الذي يأخذون منه فكانوا إذا كان قتال قالوا يا فلان أنت منا فانصرنا وان كانت منفعة قالوا أعطنا أنت منا ولم ينصروه كنصرة بعضهم بعضا إذا استنصر وإن نزل به امر أعطاه بعضهم ومنعه بعضهم ولم يعطوه مثل الذي يأخذون منه فاتوا لنبى صلى اللّه عليه وسلم فسالوه وتحرجوا من ذلك وقالوا قد عاقدنا فى الجاهلية فانزل اللّه تعالى والّذين عاقدت ايمانكم فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يعنى أتوهم مثل الذي تأخذون منهم واخرجاه من وجه اخر عن أبى مالك قال هو حليف القوم يقول اشهدوا أمركم ومشورتكم واخرج عبد ابن حميد وابن جرير عن ابن عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم الفتح أوفوا بحلف الجاهلية فانه لا يزيد الإسلام الا شدة ولا تحدثوا حلفا فى الإسلام واخرج احمد ومسلم عن جبير بن مطعم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا حلف فى الإسلام وايّما حلف كان فى الجاهلية فلم يزده الإسلام الا شدة واخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رقعه كل حلف كان فى الجاهلية لم يزده الإسلام الا حدة وشدة واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن الزهري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حلف فى الإسلام منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 97(1/1374)
فاتوهم خبره وجاز ان يكون الموصول منصوبا بمضمر يفسّره ما بعده على طريقة زيدا فاضربه لكن على التأويل الثاني يلزم وقوع الخبر جملة طلبية وتركيب الإضمار على شريطة التفسير يفيد الاختصاص ولا اختصاص هاهنا فالاولى هو التأويل الاوّل ولا عبرة بالوقف على الأقربون فانه غير منقول عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وذلك التأويل مناسب لمذهب أبى حنيفة فان عنده يرث مولى الموالاة يعنى الأعلى دون الأسفل جميع التركة أو ما بقي بعد فرض أحد الزوجين ان لم تكن للميت عصبة ولا ذو فرض نسبى ولا ذو رحم عند أبى حنيفة رحمه اللّه وعند وجود أحد منهم لا ميراث له اجماعا وعند الجمهور كان ذلك الحكم فى الجاهلية وفى ابتداء الإسلام وكان نصيب الحليف السدس من مال الحليف ثم نسخ ذلك الحكم بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فلا يرث مولى الموالاة عندهم بحال بل يكون التركة لبيت المال عند عدم الورثة وأورد على ذلك بان النسخ يتفرع على التعارض ولا تعارض هاهنا إذ لا دلالة فى قوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ على نفى ارث الحليف والصحيح انه يدلّ على نفى ارث الحليف لان تمام الآية إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً صريح فى ان الموالي لا بدلهم من الوصية وبدون الوصية ليس لهم شىء غير ان أبا حنيفة يقول ان ارث موالى الموالاة منسوخ عند وجود أحد من اولى الأرحام ونحن نقول به وبقي ارثهم ثابتا عند عدم اولى الأرحام كيف لا وماله حقه فيصرفه إلى حيث شاء والصرف إلى بيت المال ضرورة عدم المستحق لا انه مستحق كما يقول به الشافعي لان ورثة بيت المال مجهولون والمجهول لا يصلح مستحقا (مسئلة) وللمولى الأسفل ان يسقط ولاءه عن الأعلى ما لم يعقل عنه لأنه عقد غير لازم بمنزلة الوصية وكذا للاعلى ان يتبرا عن ولائه لعدم اللزوم الا انه يشترط فى هذا ان يكون(1/1375)
بمحضر من الآخر كما فى عزل الوكيل قصدا بخلاف ما إذا عقد الأسفل مع غيره بغير محضر من الأول فحينئذ يسقط ولاؤه عن الأول وإذا عقل الأعلى عن الأسفل فحينئذ لم يكن له ان يتحول بولائه إلى غيره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33) تهديد على منع نصيبهم أخرج ابن أبى حاتم عن الحسن قال جاءت امراة إلى النبىّ صلى اللّه عليه وسلم تستعدى على زوجها انه لطمها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القصاص فانزل اللّه تعالى
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية فرجعت بغير قصاص وأخرجه ابن أبى شيبة وأبو داود فى المراسيل واخرج ابن جرير
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 98(1/1376)
عن الحسن نحوه ، وروى الثعلبي والواحدي وكذا ذكر البغوي أنها نزلت فى سعد بن الربيع وكان من النقباء وفى امرأته حبيبة بنت زيد بن أبى زهير قاله مقاتل وقال الكلبي امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك انها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال افرشته كريمتى فلطمها فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لتقتصّ منه فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ارجعوا هذا جبرئيل أتانى فانزل الله تعالى هذه الآية فقال النبىّ صلى اللّه عليه وسلم أردنا امرا وأراد الله امرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص واخرج ابن مردوية عن على قال اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له فقالت يا رسول اللّه انه ضربنى فاثرفى وجهى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس له ذلك فانزل الله تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية مسلّطون على تأديبهم وسموا الرجال قواما لذلك والقوام والقيّم بمعنى واحد والقوام ابلغ وهو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب وعلل ذلك بامرين وهبى وكسبى فقال بِما فَضَّلَ اللَّهُ أى بسبب تفضيل اللّه بَعْضَهُمْ يعنى الرجال عَلى بَعْضٍ يعنى على النساء فى اصل الخلقة بكمال العقل وحسن التدبير وبسطة فى العلم والجسم ومزيدا لقوة فى الأعمال وعلو الاستعداد ولذلك خصّوا بالنبوة والامامة والولاية والقضاء والشهادة فى الحدود والقصاص وغيرهما ووجوب الجهاد والجمعة والعيدين والاذان والخطبة والجماعة وزيادة السهم فى الإرث ومالكية النكاح وتعدد المنكوحات والاستبداد بالطلاق وكمال الصوم والصلاة من غير فتور وغير ذلك وهذا امر وهبى ولذلك الفضل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو أمرت أحدا ان يسجد لاحد لامرت المرأة ان تسجد لزوجها رواه احمد عن معاذ وعن عائشة نحوه والترمذي عن أبى هريرة وأبو داؤد عن(1/1377)
قيس بن سعد وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فى نكاحهن من المهور والنفقات الراتبة وهذا امر كسبى ثم قسمهنّ على نوعين اما النوع الأول فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ مطيعات للّه تعالى فى أداء حقوق ازواجهنّ حافِظاتٌ لما يجب عليهن حفظه من الفروج واموال الأزواج وأسرارهم لِلْغَيْبِ أى فى غيبة الأزواج أو المراد بالغيب ما غاب عن الناس من اسرار الأزواج وأموالهم الخفية واللام صلة بِما حَفِظَ اللَّهُ أخرج ابن جرير عن طلحة ابن مطرف قال فى قراءة ابن مسعود فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ فاصلحوا اليهنّ واخرج عن السدى فاحسنوا اليهنّ قرأ أبو جعفر بنصب الجلالة وما حينئذ موصولة وضمير
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 99(1/1378)
الفاعل راجع إليه والمعنى بالأمر الذي حفظ حق اللّه أو طاعة اللّه وهو التعفف والشفقة على الأزواج وقرأ العامة بالرفع وما حينئذ اما مصدرية يعنى بحفظ اللّه اياهن بالأمر على حفظ الغيب والتوفيق أو يقال اسناد الحفظ إليهن باعتبار الكسب والى اللّه تعالى باعتبار الخلق والخلق سبب للكسب وامّا موصولة يعنى بالذي حفظ اللّه لهنّ على الأزواج من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذبّ عنهنّ عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير « 1 » النساء امراة إذا نظرت إليها سرتك وان أمرتها اطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك فى مالها ونفسها ثم تلا الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ الآية رواه البغوي ورواه ابن جرير بلفظ مالك ونفسها وروى النسائي والحاكم والبيهقي فى شعب الايمان عنه قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا امر ولا تخالفه فى نفسها ولا مالها بما يكره وفى رواية تحفظ فى نفسها وماله قال السيوطي فى اكثر طرق الحديث فى نفسها وماله وكذا روى ابن ماجة من حديث أبى امامة وفى بعض الطرق فى نفسها ومالها قال الطيبي أراد بما لها مال الزوج أضاف إليها لادنى ملابسة لانها هى المتصرفة فيه ، عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المرأة إذا صلت خمسها وصامت شهرها وأحصنت فرجها واطاعت بعلها(1/1379)
فليدخل من اىّ أبواب الجنة شاءت رواه أبو نعيم فى الحلية وعن أم سلمة مرفوعا ايّما امراة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة رواه الترمذي واما النوع الثاني فقال وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أى عصيانهن وتكبرهن واصل النشوز الارتفاع ومنه النشز للموضع المرتفع قيل معنى تخافون تعلمون وفى القاموس جعل من معانى الخوف العلم ومنه وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً وقيل المراد بخوف النشوز خوف دوام النشوز والإصرار عليه ولا يجوز العقوبة قبل ظهور النشوز قلت خوف النشوز يكفى للوعظ فَعِظُوهُنَّ بالقول يعنى خوفوهن عقوبة اللّه والضرب والهجران وَاهْجُرُوهُنَّ حال كونكم فِي الْمَضاجِعِ إذا لم ينفعهن الوعظ يعنى لا تدخلوهنّ فى اللحف أو هو كناية عن الجماع أو ان يوليها ظهره فى المضجع وهو الأظهر حيث قال فى المضاجع ولم يقل
_________
(1) عن عمر قال ما استفاده رجل بعد الايمان باللّه من امرأة حسنة الخلق ودود ولود وما استفاد رجل بعد الكفر بالله شرّا من امراة سيئة الخلق حديدة اللسان وعن عمر بن الخطّاب قال النساء ثلاث امراة عفيفة مسلمة هبنة لينة ودود ولود تعين أهلها على الدهر ولا تعين الدهر على أهلها وقليل ما تجدها وامراة لم تزد على ان تلد الولد والثالثة غل قمل يجعلها الله فى عنق من يشاء وإذا أراد ان ينزعه نزعه رواه ابن أبى شيبة والبيهقي منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 100(1/1380)
عن المضاجع وَاضْرِبُوهُنَّ ان لم ينفع الهجران قال اكثر المفسّرين يعنى ضربا غير مبرج أى غير شاق وانما قيدوا بهذا لما روى مسلم عن جابر فى قصّة حجة الوداع فى خطبته صلى اللّه عليه وسلم فاتقوا اللّه فى النساء فانكم أخذتموهن بامان الله واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ولكم عليهن ان لا يوطئن فروشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرج ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف قلت وهذا حديث احاد لا يجوز تقييد مطلق الكتاب بمثله واطلاق الكتاب وسياقه يقتضى ان يكون السياسة على قدر الجريمة فان خاف نشوزها بان ظهرت اماراته منها من المخاشنة وسوء الخلق وعظها فان أظهرت النشوز هجرها فان أصرّت عليه ضربها على قدر نشوزها فان أتت بفاحشة أو تركت الصّلوة المكتوبة أو صيام رمضان أو غسل الجنابة أو الحيض بضربها أو يحبسها بقدر ما يرى ان تنزجر بها وان كان نشوزها ادنى من ذلك وأصرّت ولم تنزجر بالوعظ والهجران ضربها غير مبرج فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ من أول الأمر أو بعد ما نشرت وتابت من النشوز فَلا تَبْغُوا أى لا تطلبوا يقال بغوت الأمر إذا طلبته عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أى سبيل الإيذاء مفعول به لتبغوا يعنى اجعلوا بعد التوبة ما كان منهن من النشوز كان لم يكن لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) فلا تظلموا من تحت ايديكم واتقوا اللّه العلى الكبير فانه اقدر عليكم منكم على من تحت ايديكم أو انه تعالى مع علو شانه متجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم فانتم أحق بعفو حقوقكم عن أزواجكم ، عن عبد اللّه بن زمعة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يجامعها فى اخر اليوم متفق عليه وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه قال ان يطعمها إذا طمت ويكسوها إذا اكتسيت ولا يضرب الوجه ولا يقبح ولا يهجر الا فى البيت(1/1381)
رواه احمد وأبو داؤد وابن ماجة وعن إياس بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تضربوا إماء اللّه فجاء عمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ذئرن النساء على أزواجهن فرخص فى ضربهن فاطاف بال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نساء كثيرة يشكون أزواجهن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقد طاف بآل محمد نساء كثيرة يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم رواه أبو داود وابن ماجة والدارمي وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خيركم خيركم لاهله وانا خيركم لاهلى رواه الترمذي والدارمي ورواه ابن ماجة عن ابن عباس.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 101(1/1382)
وَ إِنْ خِفْتُمْ ايّها الحكّام شِقاقَ يعنى العداوة والخلاف لان كلا من الأعداء يفعل ما يشق على صاحبه أو يميل إلى شق اخر غير شق مختار لصاحبه بَيْنِهِما أى بين الزوجين ، أو رد ضميرهما من غير سبق المرجع لجريان ذكر ما يدل عليهما وهو النشوز لأنه عصيان المرأة عن مطاوعة الزوج أو يقال ذكر المرأة وضمير الزوج فى قوله تعالى وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ وأضيف الشقاق إلى الظرف مجازا كما فى قوله تعالى مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ والخوف بمعنى الظنّ يعنى إذا ظهر من الزوجين ما ظننتم به تباغضهما واشتبه حالهما فى الحق والباطل فَابْعَثُوا إلى الرجل حَكَماً يعنى رجلا عاقلا عادلا يصلح للحكومة مِنْ أَهْلِهِ وَابعثوا إلى المرأة رجلا اخر حَكَماً مِنْ أَهْلِها وانما قيد بكون الحكمين من أهلهما لان الأقارب اعرف ببواطن الأحوال واطلب للصلاح وهذا القيد استحبابى ولو بعثوا أجنبيين جاز فيبحث الحكمان عن أحوالهما ويعرفان الظالم منهما فان كان الظلم من الزوج امراه بامساك بمعروف أو تسريح بإحسان وان كان النشوز منها امراها باطاعة الزوج أو الافتداء روى البغوي بسنده من طريق الشافعي عن عبيدة انه قال فى هذه الآية انه جاء رجل وامراة إلى على بن أبى طالب رضى اللّه عنه ومع كل واحد منهما قيام من الناس فامرهم علىّ فبعثوا « 1 » حكما من اهله وحكما من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما ، عليكما ان رايتما ان تجمعا تجمعا وان رايتما ان تفرّقا تفرقا قالت المرأة رضيت بكتاب اللّه بما علىّ فيه ولى وقال الرجل اما الفرقة فلا فقال على كذبت واللّه حتى تقر بمثل الذي أقرت به فقال مالك يجوز لحكم الزوج ان يطلق المرأة بدون رضاء الزوج ولحكم المرأة ان يختلع بدون رضاء المرأة ويجب عليها المال إذا راى الصلاح فى ذلك حيث ملّك علىّ الحكمين الجمع والتفريق وكذّب الزوج على نفى الفرقة وعند جمهور العلماء ليس للحكمين ذلك بل(1/1383)
ان كان الزوجان وكلهما بالتطليق والخلع فعلا ذلك والا أصلحا بينهما بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ما أمكن والا شهدا عند الحاكم بظلم أحد الزوجين فجبر الحاكم الظالم منهما اما الزوج على إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وامّا الزوجة على ترك النشوز أو الافتداء وقول على للرجل حتى تقر دليل على انّ رضاه شرط للفرقة فما لم يؤكله المطلاق ويفوض امره إليه لا ينفذ طلاقه إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما الضمير الاول
_________
(1) عن ابن عباس بعثت انا ومعاوية حكمين فقيل لنا ان رأيتما ان تجمعا جمعتما وان رايتما ان تفرقا فرقتما والذي بعثهما عثمان رضى اللّه عنه منه رحمه اللّه ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 102
للحكمين والثاني للزوجين يعنى ان قصد الحكمان « 1 » إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة ، أوقع اللّه بحسن سعيهما بين الزوجين الوفاق والالفة وجاز ان يكون المراد بالإصلاح ما هو اعمّ من الوفاق والفراق يعنى ان أراد اما هو الأصلح من ابقاء النكاح أو إيقاع الطلاق يوفق اللّه بينهما ذلك الأصلح أو الضمير ان للحكمين يعنى ان قصد الإصلاح ونصر المظلوم ولم يكن ارادة أحدهما اعانة قريبة على الباطل يوفق اللّه بينهما فيتفقان على الكلمة الواحدة حتى يتم المراد أو الضميران للزوجين يعنى ان يريد الزوجان إصلاح ما بينهما أو طلبا ما هو الأصلح القى اللّه بينهما الالفة أو وفقهما اللّه بما هو الأصلح وفيه تنبيه على ان من أصلح نيته فيما يفعل أصلح اللّه عاقبة امره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما فى الضمائر وبعواقب الأمور خَبِيراً (35) بالظالم من الزوجين فيجازيه - .(1/1384)
وَ اعْبُدُوا اللَّهَ فى الصحاح العبودية اظهار التذلل والعبادة ابلغ منها لانها غاية التذلل ولا يستحقها الا من له غاية العظمة ونهاية الإفضال قلت ولهذا نهى عن الإشراك به تعالى فى العبادة وقال وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً منصوب على المفعولية والتنوين للتحقير وفيه توبيخ أى لا تشركوا به حقيرا مع عدم تناهى كبريائه إذ كل ممكن بالنسبة إلى الواجب حقير جدّا أو على المصدرية يعنى لا تشركوا به شيئا من الإشراك خفيا ولا جليا والعبادة ضربان عبادة بالتسخير لا يمكن لشىء من الممكنات الاستنكاف عنها وعبادة بالاختيار وهو المأمور به فى الآية والمراد به امتثال أوامره والانتهاء عما نهى عنه قال الصوفية العلية العبادة عبارة عن جعل العبد نفسه عديم الارادة والاختيار كالميّت بين يدى الغسّال فى امتثال أوامره ونواهيه راضيا بما قضى فيه حتى يكون فى أوامره التكليفية والتكوينية على انهج واحد قال اللّه تعالى وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ، عن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا معاذ هل تدرى ما حق الله على العباد قال قلته ورسوله اعمل قال حقه عليهم ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ا تدرى يا معاذ ما حق الناس على اللّه إذا فعلوا ذلك قال قلت اللّه ورسوله اعلم قال فانّ حق الناس على اللّه ان لا يعذبهم قال قلت يا رسول الله الا ابشر الناس قال دعهم يعملون رواه البغوي وفى الصحيحين نحوه قلت وعند الصوفية معنى لا يعذبهم ان لا يعذبهم بعذاب الهجر والفراق وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعنى أحسنوا بهما إحسانا ،
_________
(1) فى الأصل ان قصدا الحكمين [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 103(1/1385)
عن معاذ قال أوصاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعشر كلمات قال لا تشرك باللّه وان قتلت أو حرقت ولا تعقن والديك وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك الحديث رواه احمد وَبِذِي الْقُرْبى مصدر بمعنى القرابة يعنى أحسنوا بذي القرابة عن سلمان بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهى على ذى الرحم صدقة وصلة رواه احمد والنسائي وابن حبان والحاكم والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن خزيمة وصححه ولفظه وعلى القريب صدقتان صدقة وصلة وبهذه الآية يظهر وجوب نفقة الوالدين والأقارب لكن يشترط ان يكون غنيا لقوله تعالى يسئلونك ما ذا ينفقون قل العفو يعنى الفاضل عن حاجته وقال عليه السلام خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول رواه البخاري عن أبى هريرة وحكيم ومسلم عن حكيم ويشترط لوجوب نفقة الأقارب غير الوالدين كونه عاجزا عن الكسب بان يكون صغيرا أو زمنا أو امراة ولا يشترط ذلك فى الوالدين وجه الوجوب انه ليس من الإحسان ان يكون هو غنيا ويموت قريبه جوعا وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ والإحسان الواجب فى هؤلاء ان يؤتيهم زكوة ماله وما زاد على ذلك فمستحبّ عن سهل بن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا رواه البخاري وعن أبى امامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من مسح رأس يتيم لم يمسحه الا لله كان له بكل شعر تمرّ عليها يده عشر حسنات ومن احسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنت انا وهو فى الجنة كهأتين وفرق بين إصبعيه رواه البغوي وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى يعنى الجار الذي قرب جواره أو يكون جارا وذا قرابة فى النسب أو فى الدين وَالْجارِ الْجُنُبِ يعنى الجار الذي بعد جواره أو يكون جارا بلا قرابة وبلا اشتراك فى الدين عن جابر بن عبد الله قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/1386)
الجيران ثلاثة فجادله ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجارله حقان حق الجوار وحق الإسلام وجادله حق واحد حق الجوار وهو المشرك من أهل الكتاب رواه الحسن بن سفيان والبزار فى مسنديهما وأبو الشيخ فى كتاب الثواب وأبو نعيم فى الحلية وروى ابن عدى فى الكامل من حديث عبد اللّه بن عمر ونحوه والحديثان كلاهما ضعيفان وعن عائشة قالت يا رسول اللّه انّ لى جارين فالى أيهما اهدى قال إلى أقربهما منك بابا رواه البخاري وعن أبى ذر قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا طبخت عرقة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 104(1/1387)
فاكثر مائها وتعاهد جيرانك رواه مسلم وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما زال جبرئيل يوصينى بالجار حتى ظننت انه سيورثه رواه البخاري وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة هو الرفيق فى السفر وقال ابن جريح وابن زيد الذي يصحبك رجاء نفعك فيشتمل التلميذ وتلميذ استاده وقال على وعبد الله وابراهيم النخعي هو المرأة تكون مع جنبه وَابْنِ السَّبِيلِ قيل هو المسافر والأكثرون على انه الضيف عن أبى شريح الخزاعي ان النبىّ صلى اللّه عليه وسلم قال من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليقل خيرا أو ليصمت رواه البغوي وفى الصحيحين عن أبى شريح الكعبي ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة ايام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له ان يثوى عنده حتى يحرجه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليقل خيرا أو ليصمت متفق عليه وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أى العبيد والإماء ، قلت ويدخل فيه البهائم ايضا ، عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى(1/1388)
اللّه عليه وسلم للمملوك طعامه وكسوته وان لا يكلف من العمل ما لا يطيق رواه مسلم وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إخوانكم جعلهم اللّه تحت ايديكم فمن جعل اللّه أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه ممّا يلبس ولا يكلف من العمل ما يغلبه فان كلفه ما يغلبه فليعنه عليه متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا صنع لاحدكم خادمه طعامه وقد ولى حره ودخانه فليقعده معه وليأكل فان كان الطعام مشفوها قليلا فليضع به فى يده منه أكلة أو اكلتين رواه مسلم وعن أبى مسعود الأنصاري قال كنت اضرب غلاما لى فسمعت من خلفى صوتا اعلم أبا مسعود لله اقدر عليك منك عليه فالتفت فإذا هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت يا رسول اللّه هو حرّ لوجه اللّه تعالى فقال اما لو لم تفعل للفحتك النار أو لمسّنتك النار رواه مسلم وعن أم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه كان يقول فى مرضه الصّلوة وما ملكت ايمانكم رواه البيهقي فى شعب الايمان وروى احمد وأبو داؤد عن علي نحوه وعن جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه يسر اللّه حقه وادخله الجنة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 105(1/1389)
رفق بالضعيف وشفقة على الوالدين واحسان إلى المملوك رواه الترمذي وعن عبد اللّه بن عمرو قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول الله كم نعفو من الخادم فسكت ثم أعاد عليه الكلام فصمت فلما كانت الثالثة قال اعفوا عنه كل يوم سبعين مرة رواه الترمذي وروى أبو داؤد عن عبد الله ابن عمرو وعن سهل بن حنظلة قال مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال اتقوا اللّه فى هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة واتركوها صالحة رواه أبو داود وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أنبئكم بشراركم الذي يأكل وحده ويجلد عبده ويمنع رفده رواه رزاين وعن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ضرب أحدكم خادمه فذكر اللّه فارفعوا ايديكم رواه الترمذي ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ أى يبغض ذكر عدم الحبّ وأراد به البغض مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه لا يلتفت إليهم فَخُوراً (36) يتفاخر عليهم ، عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بينما رجل يتبختر فى بردين وقد أعجبته نفسه خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (كذا بياض فى الأصل) وعن ابن عمر قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جرّثوبه خيلاء متفق عليه وعن عياض بن حمار الأشجعي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان اللّه اوحى الىّ ان تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد رواه مسلم وعن جابر بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يا معشر المسلمين اتقوا اللّه فان ريح الجنة يوجد من مسيرة الف عام وانه لا يجد عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان ولا جار إزاره خيلاء وانما الكبرياء لربّ العلمين ، الحديث رواه الطبراني فى الأوسط.(1/1390)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ممّا وجب عليه بدل من من كان بدل الكل لانّ المختال الفخور يبخل عن إيفاء بنى نوعه التواضع أو لأنه أراد بالمختال هذا الفرد وجمع الموصول نظرا إلى معنى من وجاز ان يكون منصوبا على الذم أو مرفوعا على انه خبر مبتدا محذوف أى هم الذين أو مبتدا خبره محذوف تقديره الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أحقاء لكل ملامة أو أحقاء بالعذاب ويدل على التقدير الثاني التذئيل بقوله أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ الآية قرأ حمزة والكسائي بالبخل هاهنا وفى الحديد بفتح الباء والخاء والباقون بضم الباء وسكون الخاء وهما لغتان قال البغوي قال ابن عباس وابن زيد نزلت
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 106(1/1391)
الاية فى كردم بن زيد وحيى بن اخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت واسامة بن حبيب ونافع بن أبى نافع وبحرى بن عمرو من اليهود كانوا يأتون رجالا من الأنصار ويخالطونهم فيقولون لا تنفقوا أموالكم فانا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون كذا أخرج ابن إسحاق وابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس فعلى هذا المراد بالبخل البخل بالمال وقال سعيد بن جبير المراد بالبخل كتمان العلم أخرج ابن أبى حاتم من طريق عطية العوفى وهو ضعيف عن ابن عباس انها نزلت فى الذين كتموا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا بخل فوق إمساك العلم بصفة النبي صلى اللّه عليه وسلم وامر بعضهم بعضا بذلك وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعنى المال أو العلم وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ وضع الظاهر موضع المضمر اشعارا بان من هذا شأنه فهو كافر لنعمة اللّه ومن كان كافرا لنعمة اللّه هيّئنا له عَذاباً مُهِيناً (37) كما أهان النعمة بالبخل والكتمان ووضع ضمير المتكلم موضع الغائب لتفخيم العذاب ومزيد التهويل عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ولجاهل سخى احبّ إلى اللّه من عابد بخيل رواه الترمذي وعن أبى سعيد مرفوعا خصلتان لا تجتمعان « 1 » فى مؤمن البخل وسوء الخلق رواه الترمذي وعن أبى بكر الصديق عنه صلى اللّه عليه وسلم لا يدخل « 2 » الجنة خبّ « 3 » ولا بخيل ولا منان رواه الترمذي - .(1/1392)
وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ رياء مفعول له للانفاق يعنى ينفقون لان يراه الناس ويقولوا ما أجودهم والموصول معطوف على الموصول يعنى الذين يبخلون ووجه المشاركة بينهما فى الذم ان الانفاق رياء كعدم الانفاق أو ان البخل والإسراف طرفا انفاق على ما لا ينبغى بالإفراط والتفريط سيان فى استجلاب الذّم والعذاب أو مبتدا وخبره محذوف يعنى فالشيطان قرين له يدل على المحذوف قوله تعالى وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً أو معطوف على الكفرين فان الانفاق رياء كفر واشراك خفىّ ولذلك عطف عليه وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء « 4 »
_________
(1) وعن أبى بكر الصديق قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة سيّىء الملكة منه رحمه اللّه
(2) خبّ أى خدّاع وهو الجربز الذي يسعى بين الناس بالفساد منه رحمه اللّه
(3) فى الأصل لا يجتمع
(4) فى الأصل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا اغنى الشركاء. ه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 107(1/1393)
عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه وفى رواية فانا منه برىء هو للذى عمله رواه مسلم وفى حديث عمر بن الخطّاب عن معاذ مرفوعا ان يسير الرياء شرك هذه الآية نزلت فى اليهود كما ذكرنا وقال السدى فى المنافقين وقيل فى مشركى مكة المنفقين أموالهم فى عداوة النبي صلى اللّه عليه وسلم وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً صاحبا وخليلا فَساءَ قَرِيناً (38) المخصوص بالذم محذوف يعنى الشيطان ففيه تحذير عن متابعة الشيطان ومصاحبته أو المخصوص من يكن الشيطان له قرينا ففيه اشارة إلى ما فعلوه من الشرور من البخل والرياء وغير ذلك انما هو بمقارنة الشيطان وجاز ان يكون وعيدا لهم بان الشيطان يقرن بهم فى النار.
وَما ذا عَلَيْهِمْ يعنى ما الذي عليهم أو اىّ مضرة يلحقهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فان شكر المنعم حسن لذاته لا يحتمل المضرة أصلا عقلا ولا نقلا وَأَنْفَقُوا فى سبيل اللّه لتحصيل مرضات اللّه وطمع ثوابه بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف والى ما شاء اللّه مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أى شيئا قليلا من كثير رزقهم اللّه يعنى ربع العشر فى النقود أو اقل منه فى السوائم بعد ما كان نصابا فاضلا عن الحوائج فان ذلك غير شاقّ على أحد ولا حرج فيه أصلا فالاستفهام للتوبيخ على جهلهم المركب حيث يزعمون ما فيه كمال المنفعة مضرة ، وفيه تحريض على الفكر لطلب الجواب حتى يظهر لهم الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة فيما يدعو إليه الله ورسوله وتنبيه على ان المدعو إلى امر إذا علم انه لا ضرر فى ذلك الأمر ينبغى ان يجيب احتياطا فكيف عند ظهور منافعه وعوائده وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) وعيد لهم - .(1/1394)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال مفعال من الثقل والذرة هى النملة الصغيرة الحمراء وقيل الذرة اجزاء الهباء المرئية فى الكوة ولا يكون لها ثقل والمعنى ان اللّه لا يظلم شيئا وفيه اشارة إلى ان ما اعدّ اللّه تعالى للكافرين من العذاب المهين عدل ليس بظلم بل ترك تعذيبهم بعد اتلافهم حقوق اللّه تعالى من التوحيد والعبادة وحقوق الوالدين والأقربين وغيرهم كانّه ظلم بالنسبة إلى من ما منعوا عن الحقوق ويمكن ان يقال انهم استحقوا العذاب بحيث لو منعوا عن التعذيب كانوا كانهم ظلموا والظلم عبارة عن وضع الشيء فى غير محلّه وفعل شىء لا يجوز فعله وذلك غير متصور من اللّه تعالى فانه تعالى خالق الأشياء مالك الملك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 108(1/1395)
لو عذب العالمين من غير ذنب لا يكون ظلما لكن المراد هاهنا انه لا يفعل فعلا لو صدر ذلك الفعل من غيره عد ظلما يعنى انه تعالى لا ينقص من أجور الطاعات ولا يزيد فى عقاب المعاصي روى البغوي بسنده عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان الله لا يظلم المؤمن حسنة ثياب عليها الرزق فى الدنيا ويجزى بها فى الاخرة وامّا الكافر فيطعم فى الدنيا حتى إذا افضى إلى الاخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيرا رواه احمد ومسلم وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إذا خلص المؤمنون من النار وأمنوا فما مجادلة أحدكم لصاحبه فى الحق يكون له فى الدنيا باشدّ مجادلة من المؤمنين بربهم فى إخوانهم الذين ادخلوا النار قال يقولون ربّنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا قال فيقول اذهبوا فاخرجوا من عرفتم منهم فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم لا تأكل النار صورهم فمنهم من أخذته النار إلى انصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه فيخرجونهم فيقولون ربنا قد أخرجنا من امرتنا قال ثم يقول اخرجوا من كان فى قلبه وزن دينار من الايمان ثم من كان فى قلبه وزن نصف دينار حتى يقول من كان فى قلبه مثقال ذرّة قال أبو سعيد فمن لم يصدق هذا فليقرا هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً قال فيقولون ربنا قد أخرجنا من امرتنا فلم يبق فى النار أحد فيه خير ثم يقول اللّه عز وجلّ شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء وشفع المؤمنون وبقي ارحم الراحمين قال فيقبض قبضة من النّار أو قال قبضتين ناسا لم يعملوا للّه خيرا قطّ قد احترقوا حتى صاروا حمما فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصب عليهم فينبتون كما ينبت الحبّة فى حميل السيل قال فيخرج أجسادهم مثل اللؤلؤ فى أعناقهم الخاتم عتقاء اللّه فيقال لهم ادخلوا الجنّة فما تمنيتم أو رأيتم(1/1396)
شيئا فهو لكم ، قال فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العلمين قال فيقول فانّ عندى لكم أفضل منه فيقولون ربنا وما أفضل من ذلك فيقول رضائى عنكم فلا أسخط عليكم ابدا رواه البغوي بسنده وفى الصحيحين نحوه فى حديث طويل وليس فيهما قول أبى سعيد فمن لم يصدق هذا فليقرا هذه الآية وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه سيخلص رجلا من أمتي على رؤس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل مدّ البصر ثم يقول اللّه أ تنكر هذا شيئا أظلمك كتبتى الحافظون فيقول لا يا ربّ فيقول افلك عذر أو حسنة فبهت الرجل قال لا يا ربّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 109
فيقول بلى ان لك عندنا حسنة وانه لا ظلم عليك اليوم فيخرج له بطاقة فيها اشهد ان لا اله الا اللّه وان محمدا عبده ورسوله فيقول احضر وزنك فيقول يا ربّ ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فقال انك لا تظلم قال فيوضع السجلات فى كفة والبطاقة فى كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة قال فلا يثقل مع اسم اللّه شىء رواه ابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وقال قوم معنى هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ للخصم على الخصم بل يأخذ له منه ولا يظلم مثقال ذرّة يبقى له بل يثيبه عليها ويضعفها له كما قال وَإِنْ تَكُ حذف النون من غير قياس تشبيها بنون الرفع ولم يعد الواو التي حذفت لالتقاء الساكنين بعد حذف النون وهذا خلاف قياس اخر وكانهم(1/1397)
لم يعيدوها تحرزا عن صورة ابقاء حرف العلة فى اخر الكلمة مع الجازم حَسَنَةً واحدة قرأ أهل الحجاز بالرفع على ان تكون تامة وحسنة فاعلها والباقون بالمنصب على انها ناقصة وضمير الاسم راجع إلى مثقال ذرّة وانث الضمير لتانيث الخبر أو لاضافة المثقال إلى مؤنث يعنى ان يك مثقال ذرّة حسنة يُضاعِفْها أى يجعلها أضعافا كثيرة عن أبى هريرة قال والله لقد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول انّ اللّه ليضاعف الحسنة الفى الف حسنة رواه ابن جرير وابن أبى شيبة وَيُؤْتِ صاحبه مِنْ لَدُنْهُ تفضّلا زائدا على ما وعد فى مقابلة العمل أَجْراً عَظِيماً (40) قال البغوي قال أبو هريرة إذا قال اللّه اجرا عظيما فمن يقدر قدره عن ابن مسعود قال إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الأولين والآخرين ثم نادى مناد الا من كان يطلب مظلمة فليجىء إلى حقّه فليأخذ فيفرح المرء ان يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه فيأخذ منه وان كان صغيرا ومصداق ذلك فى كتاب اللّه عز وجلّ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ الآية ويؤتى بالعبد وينادى مناد على رءوس الأولين والآخرين هذا فلان فمن كان له عليه حق فليأت إلى حقّه ثم يقال له ات هؤلاء حقوقهم فيقول يا رب من اين وقد ذهبت الدنيا فيقول اللّه عزّ وجلّ لملائكته انظروا فى اعماله وأعطوهم منها فان بقي مثقال ذرّة حسنة قالت الملائكة يا ربنا بقي له مثقال ذرّة حسنة فيقول اللّه ضعّفوه لعبدى وأدخلوه بفضل رحمتى الجنة ومصداق ذلك فى كتاب اللّه عزّ وجلّ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وان كان عبدا شقيا قالت الملائكة الهنا فنيت حسناته وبقي طالبون فيقول اللّه عزّ وجلّ خذوا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 110(1/1398)
من سيئاتهم فاضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكا إلى النار رواه البغوي وكذا روى ابن المبارك وأبو نعيم وابن أبى حاتم - .
فَكَيْفَ خبر مبتدا محذوف يعنى كيف هؤلاء الكفار والاستفهام للتهويل والفاء للتفريع على مفهوم ما سبق يعنى إذا علمت ان اللّه لا يظلم على أحد بل يأخذ لكلّ صاحب حق حقه ممن ظلمه ولا يترك منه شيئا فكيف حال هؤلاء الذين لم يؤدّوا حقوق الله وحقوق العباد إِذا جِئْنا متعلق بالتهويل المستفاد من الاستفهام مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعنى نبى ذلك الامة يشهد عليهم بما عملوا من خير أو شرّ وما أجابوه وما كذبوه وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ يعنى أمتك أمة الدعوة شَهِيداً (41) يشهد النبي صلى اللّه عليه وسلم مكى جميع الامة من رآه ومن لم يره أخرج ابن المبارك عن سعيد بن المسيّب قال ليس من يوم الّا وتعرض على النبي صلى اللّه عليه وسلم أمته غدوة وعشية فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم وروى البخاري عن ابن مسعود قال قال لى النبي صلى اللّه عليه وسلم اقرأ علىّ قلت يا رسول اللّه اقرأ عليك وعليك انزل قال نعم فقرات سورة النساء حتى إذا أتيت هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً قال حسبك الان فالتفت إليه فإذا عيناه تذر فان وقيل المشار إليه بهؤلاء الأنبياء فانهم يشهدون على الأمم والنبي صلى اللّه عليه وسلم يشهد على صدقهم وقيل المشار إليه مؤمنوا هذه الامة يشهدون للانبياء على الأمم والنبي صلى اللّه عليه وسلم يصدّقهم ويزكيهم وقد ذكرنا شهادتهم على الأمم فى البقرة فى تفسير قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ.(1/1399)
يَوْمَئِذٍ يعنى يوم إذا كان كذلك يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لو للتمنى يعنى يتمنى الذين أتوا بالكفر والعصيان جميعا أو بأحدهما قرأ نافع وابن عامر تشوّى بفتح التاء وتشديد السين بإدغام تاء التفعل فى السين وحمزة والكسائي بفتح التاء وتخفيف السين على حذف تاء التفعل واصله على القراءتين تتسوى والباقون بضم التاء والتخفيف على البناء للمفعول من التفعيل قال قتادة وأبو عبيدة يعنى لو تخرقت الأرض فصاروا فيها ثمّ تسوى الأرض عليهم وقيل معناه ودوا انهم لم يبعثوا وقال الكلبي يقول اللّه للبهائم والوحوش والطيور والسباع كونوا ترابا فتسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 111
حَدِيثاً
((1/1400)
42) قال عطاء ودوا لو تسوّى بهم الأرض وانهم لم يكونوا كتموا امر محمد صلى اللّه عليه وسلم ولا نعته يعنى جملة لا يكتمون معطوف على تسوّى داخل فى التمني وصيغة المضارع بمعنى الماضي ، وقال الآخرون بل هو كلام مستانف يعنى لا يقدرون على كتمانه لان ما عملوه لا يخفى على اللّه ، وجوارحهم تشهد عليهم فعلى هذا جملة لا يكتمون معطوف على يودّ وقيل الواو للحال من فاعل يودّ يعنى يودّون ان تسوى بهم الأرض وحالهم انهم لا يكتمون من اللّه حديثا ولا يكذبونه بقولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ قال سعيد بن جبير قال رجل لابن عباس انى لاجد فى القرآن أشياء تختلف علىّ قال هات ما اختلف عليك قال فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ ... وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ وقال وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وقال وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فقد كتموا وقال أَمِ السَّماءُ بَناها إلى قوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى قوله طائعين فذكر فى هذه الآيات خلق الأرض قبل خلق السماء وقال وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فكانه كان ثم قضى فقال ابن عباس فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ هذا فى النفخة الاولى إذا نفخ فى الصور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم فى النفخة الاخرى أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ واما قوله تعالى ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ... ، (1/1401)
وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فانهم لمّا راوا يوم القيامة ان الله يغفر لاهل الإسلام ذنوبهم ولا يغفر للمشركين جحد المشركون رجاء ان يغفر لهم فقالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فيختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً وخلق اللّه الأرض فى يومين ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فى يومين آخرين ثم دحى الأرض فى يومين فخلقت الأرض وما فيها من شىء فى اربعة ايام وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أى لم يزل كذلك فلا يختلف عليك القرآن فان كلا من عند اللّه كذا أخرج البخاري وغيره وقال الحسن انها مواطن ففى موطن لا يتكلمون فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً وفى موضع يتكلمون ويكذبون ويقولون ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ وفى موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ وفى موضع يَتَساءَلُونَ وفى موضع يسئلون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 112
الرجعة واخر تلك المواطن ان يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم وهو قوله تعالى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حديثا واللّه اعلم - روى أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم عن على عليه السّلام قال صنع لنا عبد الرحمن ابن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر وذلك قبل تحريم الخمر فاخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدّمونى فقرات قل يا ايّها الكافرون اعبد ما تعبدون بحذف لا هكذا إلى اخر السّورة فانزل اللّه تعالى.(1/1402)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى يعنى لا تقربوها فى حال سكركم حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ذكر هذا القيد لتعيين حدّ السكر الذي يمنع قربان الصلاة فان قيل الشكر إذا بلغ حدا لا يعلم الرجل ما يقول فحينئذ لا يصح خطابه فكيف خوطب بالنهى عن اقتراب الصلاة قلنا الخطاب توجه بعد الصحو والمراد به النهى عن اقتراب المسكر فى اوقات الصلاة قال البغوي فكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر فى اوقات الصلاة حتى نزل تحريم الخمر يعنى اية المائدة أو يقال هذا نهى ومعناه النفي يعنى لا صلوة لكم وأنتم سكارى وحَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ غاية لنفى الصلاة على التقدير الثاني وعلى التقدير الأول حتى لتعليل النهى بمعنى كى وقال الضحاك بن مزاحم أراد به سكر النوم نهى عن الصلاة عند غلبة النوم عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلى فلير قد حتى يذهب عنه النوم فان أحدكم إذا صلى وهو ينعس لعله يذهب يستغفر فيسبّ نفسه متفق عليه ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وفى هذه الآية تنبيه على انه يجب على المصلى ان يحضر قلبه حتى يعلم ما يقول ويتعلم معانى القرآن ويتدبر فيه ويتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه واللّه اعلم واخرج الطبراني عن الاسلع قال كنت اخدم النبي صلى اللّه عليه وسلم وارحل له فقال لى ذات يوم يا اسلع قم فارحل فقلت يا رسول اللّه أصابتني جنابة وكذا روى ابن مردوية بلفظ أصابتني جنابة فى ليلة باردة فخشيت ان اغتسل بالماء البارد فاموت أو امرض فأتاه جبرئيل باية الصعيد فارانى التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقمت فيتممت ثم رحلت وكذا أخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبى حاتم عن على عليه السّلام قال هذه الآية قوله وَلا جُنُباً فى المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم انتهى وسنذكر فى سورة المائدة ان شاء اللّه تعالى انّ اوّل(1/1403)
اية
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 113
نزلت لرخصة التيمم اية المائدة وهى اسبق من هذه ولعل نزول هذه الآية لرخصة التيمم لمن خشى المرض أو الموت باستعمال الماء البارد فى ليلة باردة كما يدل عليه حديث الاسلع واللّه اعلم والجنب الذي أصابته الجنابة ويستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع فصحّ عطفه على وأنتم سكارى وفى القاموس الجنابة المنى وقالت الحنفية الجنابة فى اللغة خروج المنى على وجه الشهوة يقال اجنب الرجل إذا قضى شهوته من المرأة بالانزال وقال بعض العلماء الجنابة يطلق على مجرد الجماع انزل ا ولم ينزل نقل الحافظ ابن حجر عن الشافعي ان كلام العرب يقتضى ان الجنابة يطلق بالحقيقة على الجماع وان لم يكن معه إنزال قال فان كل من خوطب بان فلانا اجنب من فلانة يفهم انه أصابها وان لم ينزل واصل الجنابة البعد سمى الجماع جنابة لمجانبته الناس وبعده منهم فى تلك الحالة فذهب داود إلى انه لا يجب الغسل بالجماع ما لم ينزل زعما منه ان الجنابة هو خروج المنى واحتج على ذلك بحديث أبيّ بن كعب انه قال يا رسول اللّه إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل قال يغتسل ما مس المرأة منه ثم يتوضا ويصلى متفق عليه وحديث أبى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرسل إلى رجل من الأنصار فجاء ورأسه يقطر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلّنا اعجلناك قال نعم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا عجلت أو قحطت فعليك الوضوء متفق عليه وفى لفظ مسلم قصّة وفيه انما الماء من الماء - (مسئلة) واجمع الائمة الاربعة وجمهور المسلمين على وجوب الغسل بالجماع وان لم ينزل فان كانت الجنابة بمعنى الجماع كما قاله الشافعي وهو المناسب للاشتقاق فالحكم ثابت بإطلاق هذه الآية وان كانت بمعنى خروج المنى بشهوة فهذا المعنى ثابت فى الجماع امّا حقيقة وامّا حكما لان الجماع سبب لخروج المنى غالبا والذكر عند الجماع يغيب عن(1/1404)
النظر والمعنى قد يرق فلا يدرك خروجه فاقيم السبب مقام المسبّب كالنوم أقيم مقام الحدث لأنه مظنة خروج الريح غالبا ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العينان وكاء السية فإذا نامت العينان استطلق الوكاء رواه احمد وأبو داؤد وابن ماجة والدارقطني عن على وأيضا الحجة على وجوب الغسل بالجماع مطلقا الأحاديث
و الإجماع عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهد بها وجب الغسل متفق عليه وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 114(1/1405)
إذا قعد بين الشعب الأربع والزق الختان الختان فقد وجب الغسل رواه مسلم وروى الترمذي وصححه بلفظ إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل فعلته انا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاغتسلنا والحديثان اللذان احتج بهما داؤد منسوخان روى احمد واصحاب السنن عن سهل بن سعد حدثنى أبى بن كعب ان الأنصار كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم رخصها فى اوّل الإسلام ثم أمرنا بالاغتسال بعد ، صححه ابن خزيمة وابن حبّان وقال الإسماعيلي هو صحيح على شرط البخاري فان قيل جزم ابن هارون والدارقطني ان الزهري لم يسمعه عن سهل وقال الحافظ ابن حجر وقع عند أبى داؤد ما يقتضى انقطاعه فقال عن عمرو بن الحرب عن ابن شهاب حدثنى بعض من ارضى ان سهل بن سعد أخبره ان أبيّ بن كعب أخبره قلنا ان سند أبى داؤد صحيح لان الثقة إذا قال أخبرني ثقة أو من ارضى يكون الحديث صحيحا وهذا لا يستلزم ان يكون سند احمد وابن ماجة وغيرهما منقطعا لأنه يمكن ان الزهري سمعه عن ثقة عن سهل ثم لقى سهلا فحدثه ، (مسئلة) ويجب الغسل بخروج المنى أيضا اجماعا غير ان أبا حنيفة ومحمدا « 1 » ومالكا واحمد يشترطون ان يكون الخروج بدفق وشهوة عند الانفصال وقال أبو يوسف بدفق وشهوة عند الانفصال والخروج جميعا وقال الشافعي خروج المنى موجب للغسل وان لم يقارن اللذة سواء كان بتدفق أو لا - احتج الشافعي بحديث على انه صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن المذي فقال فيه الوضوء وفى المنى الغسل رواه الطحاوي وما مرّ من قوله صلى اللّه عليه وسلم انما الماء من الماء وحديث أم سلمة انها قالت جاءت أم سليم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت هل على المرأة غسل إذا احتلمت قال نعم إذا رات الماء متفق عليه قال الجمهور اللام فى قوله صلى اللّه عليه وسلم المنى والماء للعهد والمعهود ما كان منه بدفق وشهوة وقول الشافعي أحوط واللام عنده(1/1406)
للجنس (مسئلة) رؤية المستيقظ المنى أو المذي يوجب الغسل وان لم يتذكر الاحتلام والشهوة لان النوم أو ان غفلة ومظنة الاحتلام والمنى قد يرق بطول الزمان أو فساد الغذاء فالشك يبلغ إلى درجة الظن فى كونه منيا فيوجب الغسل روى الترمذي عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الرجل يرى انه قد احتلم
_________
(1) فى الأصل محمد -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 115(1/1407)
و لم يجد بللا قال لا غسل عليه وفيه عبد اللّه بن عمر يروى عن عبيد اللّه بن عمر عن القاسم بن محمّد عنها قال الترمذي ضعّفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه ، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حال متداخل من قوله جنبا استثناء من أعم أحواله أو صفة لقوله جنبا وعلى التقديرين الاستثناء مفرغ أى لا تقربوا الصلاة جنبا فى حال من الأحوال الّا حال كون الجنب مسافرين أو جنبا موصوفا بصفة من الصّفات الا بصفة كونهم مسافرين وذلك إذا لم يجد الماء أو لم يقدر على استعماله ويتيمم ويشهد له ما روينا فى شأن نزوله وتعقيبه بذكر التيمم كأنّه عبر عن المتيمّم بالمسافر لان غالب حاله عدم الماء وفيه دليل على ان التيمم لا يرفع الحدث بل يستره وبه قال جمهور العلماء وقال داؤد التيمم يرفع الحدث وكذا وقع فى بعض كتب الحنفية ان التيمم يرفع الحدث عنده وان وجدان الماء ناقض المتيمم مثل سائر نواقض الوضوء والصحيح عندى انه لا يرفع الحدث ولو كان رافعا للحدث فوجدان الماء لا يتصوّر كونه حدثا وكون وجدان الماء غاية لطهورية الصعيد يقتضى ظهور الحدث السّابق المستور لا ورود الحدث الجديد ، وجه قول داود انه يرفع الحدث قوله صلى اللّه عليه وسلم الصعيد الطيّب وضوء المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين الحديث رواه اصحاب السنن من حديث أبى ذرّ وقال الترمذي حديث صحيح وقوله صلى اللّه عليه وسلم جعلت لى الأرض كلّها مسجدا وتربتها طهورا رواه مسلم وابن خزيمة وغيرهما قلنا هذان الحديثان وما فى معناهما مبنيان على المجاز يدل على ذلك قوله صلى اللّه عليه وسلم فى اخر حديث أبى ذرّ المذكور فإذا وجد الماء فليمسّ بشرته فانه ان كان طهورا على الحقيقة لم يجب عليه استعمال الماء بعد رفع الحدث وفى الصحيحين عن عمران بن حصين ذكر قصّة وفيه امر لمجنب عند عدم الماء بالتيمم ثم إذا وجد الماء امره بالغسل ولو كان التيمم رافعا للجنابة لم يأمره بالغسل - (فائدة : ) ما ذكرنا(1/1408)
من التفسير قول على وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقال بعض المفسرين معنى هذه الآية لا تقربوا مواضع الصلاة يعنى المساجد بحذف المضاف جنبا الّا عابرى سبيل يعنى الا مجتازين من المسجد بغير مكث لما روى ابن جرير عن يزيد بن أبى حبيب ان رجالا من الأنصار كانت أبوابهم فى المسجد كانت تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّا الّا فى المسجد فانزل اللّه قوله وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وهذا قول ابن مسعود وسعيد بن المسيّب
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 116(1/1409)
و الضحاك والحسن وعكرمة والنخعي والزهري وبناء على هذا التفسير قال مالك والشافعي جاز للجنب المرور من المسجد على الإطلاق وهو قول الحسن فان اللفظ عام وان كان سبب نزول الآية خاصا يعنى ضرورة عدم وجدان الممرّ الا فى المسجد وعندنا لا يجوز المرور فى المسجد للجنب لان تأويل الآية على هذا الوجه يتوقف على تقدير المضاف والأصل عدم التقدير وأيضا لو كان معنى الآية لا تقربوا مواضع الصلاة لزم حرمة دخول مساجد البيوت للجنب ولم يقل به أحد وأيضا لا معنى لقوله لا تَقْرَبُوا مواضع الصلاة وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فانه صريح فى النهى عن قربان الصلاة ولا يمكن فى المعطوف تقدير غير ما ذكر أو قدر فى المعطوف عليه - (مسئلة) لا يجوز المكث فى المسجد عند مالك والشافعي أيضا كما لا يجوز عند أبى حنيفة وقال احمد يجوز ، لنا قوله صلى اللّه عليه وسلم وجهوا هذه البيوت عن المسجد فانى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود وابن ماجة والبخاري فى التاريخ والطبراني عن أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة وقال الحافظ رواه أبو داؤد من حديث جسرة عن أم سلمة وقال أبو زرعة الصحيح حديث جسرة عن عائشة فان قيل ضعّف الخطابي هذا الحديث فقال أفلت بن خليفة العامري الكوفي مجهول الحال وقال ابن الرفعة متروك قلنا قول ابن الرفعة مردود لم يقله أحد من ائمة الحديث بل قال احمد ما ارى به بأسا وصححه ابن خزيمة وحسنه ابن القطان فلا يضرّ ان جهله بعض الناس وهذا الحديث كما هو حجة للجمهور على احمد فهو باطلاقه حجة على الشافعي بل انما سيق(1/1410)
الكلام لمنع المرور جنبا فى المسجد واللّه اعلم - (مسئلة) لا يجوز للجنب الطواف لأنه فى المسجد ولاقراءة القرآن عند الجمهور وقال مالك يجوزان يقرا آيات يسيرة للتعوذ وقال داود يجوز مطلقا لنا قوله صلى اللّه عليه وسلم لا تقرا الحائض والجنب شيئا من القرآن وقد مرّ فى البقرة فى تفسير قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ولانه لا يجوز للجنب مس مصحف فيه نقوش دالة على القرآن كما سنذكر فى تفسير قوله تعالى لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فلان لا يجوز له إيراد حروف القرآن على اللسان اولى وامّا جواز قراءة القرآن للمحدث مع كونه ممنوعا عن المس بالنص المذكور فلان الحدث لا يسرى فى الفم بل على ظاهر البدن أو لان الحدث غالب الوقوع فلم يجعل مانعا عن القراءة دفعا للحرج بخلاف الجنابة فانها
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 117(1/1411)
نادرة وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه لم يكن يحجبه شىء من القرآن سوى الجنابة رواه احمد واصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وابن الجارود والبيهقي وصححه الترمذي وابن السكن والبيهقي وعبد الحق والبغوي فى شرح السنة وفى الصحيحين انه صلى اللّه عليه وسلم قرأ عشر آيات خواتيم ال عمران قبل الوضوء - حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهى عن قربان الصلاة للجنب غير المسافر المعذور فانه جائز له بالتيمم لما سيجيئ أو غاية لنفى الصّلوة فى حالة الجنابة ، لا يقال كيف يقع الاغتسال نهاية عدم القربان حالة الجنابة مع ان الجنابة يرتفع بالاغتسال لانا نقول كلمة حتى تدخل على ما يجاوز الجزء الأخير أيضا كما فى نمت البارحة حتى الصباح كذا هاهنا فان قيل اىّ فائدة فى هذا القيد مع انّ المقصود يعنى النهى عن الصلاة حالة الجنابة يحصل بدونه ، قلنا فائدته ، بيان ما يزيل الجنابة وسنذكر مسائل الغسل فى سورة المائدة فى تفسير قوله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ان شاء اللّه تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى جمع مريض أَوْ عَلى سَفَرٍ الاشتراط بالمرض أو السفر خرج مخرج العادة الغالبة لان فقد الماء غالبا انما يكون لمرض أو سفر فلا مفهوم لهذين الشرطين عند الجمهور وقال الشافعي ان كان صحيحا مقيما فى موضع لا يعدم الماء فيه غالبا بان كان فى قرية انقطع ماؤها يصلى بالتيمم ويجب عليه إعادتها نظرا إلى مفهوم هذين الشرطين قلنا مفهوم هذين الشرطين غير معتبر اجماعا ولذلك تجب عليه الصلاة بالتيمم بالإجماع فلا وجه لوجوب الاعادة لان سبب الوجوب واحد لا يتكرر فلا يتكرر الواجب ولكون مفهوم هذين الشرطين غير معتبر لا يجب الاعادة اتفاقا على فاقد ماء صحيح مقيم فى موضع يعدم فيه الماء غالبا - عن أبى ذرّ انه كان مقيما « 1 » بالربذة ويفقد الماء أياما فسال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال التراب كافيك ولو لم(1/1412)
تجد الماء عشر حجج وفى رواية الصعيد الطيّب وضوء المسلم ولو إلى عشر حجج رواه اصحاب السنن وصححه أبو داؤد وقوله تعالى مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ تفصيل للجنب تقدير الكلام وان كنتم جنبا مرضى أو على سفر وانما حذف قوله جنبا لما سبق ذكره وذكر السفر هاهنا مع سبق ذكره بقوله الا عابرى سبيل لبيان التسوية بينه وبين المرض بالحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال ثم عطف على المقدر يعنى جنبا قوله أَوْ جاءَ أَحَدٌ
_________
(1) فى الأصل مقيم -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 118(1/1413)
مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الغائط المطمئن من الأرض والمجيء من الغائط كناية عن الاستفراغ الحاصل بخروج البول أو البراز لان العادة ان الرجل يذهب للبول أو البراز إلى المطمئن من الأرض فالمعنى إذا أحدث أحدكم من أجل البول أو البراز - (مسئلة) هذه الآية تدل على ان الخارج من السّبيلين إذا كان معتادا ينقض الوضوء ولا تدل على ان غير المعتاد الخارج منهما ليس بناقض كما قال به مالك - (مسئلة) وعند الجمهور غير المعتاد أيضا ناقض وهى رواية عن مالك لحديث عائشة فى الاستحاضة انه صلى اللّه عليه وسلم قال لفاطمة بنت حبيش اغسلي عنك الدم وتوضئ لكلّ صلوة متفق عليه ولا على ان النجس الخارج من غير السبيلين كالقئ والدم ليس بناقض كما قاله الشّافعى وقال احمد اليسير منه ليس بناقض وعند أبى حنيفة ينقض مطلقا بشرط كونه نجسا وما ليس بسائل من الدم ليس ببخس وكذا القليل من القيء لأنه فى حكم البزاق والحجة لنا القياس على الخارج من السّبيلين لان العلة لوجوب التطهير خروج النجاسة لا غير ، فان قيل وجوب الوضوء بخروج النجاسة غير معقول فلا يجوز فيه القياس ، قلنا كون خروج النجاسة مؤثرا فى زوال الطهارة معقول والاقتصار على الأعضاء الاربعة غير معقول لكنه يتعدى بتعدي الاوّل ولنا أيضا الأحاديث منها حديث معدان عن أبى الدرداء ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قاء فتوضأ فلقيت ثوبان فى مسجد دمشق فذكرت ذلك له فقال صدق انا صببت له وضوءه ، رواه احمد عن حسين المعلم عن يحيى بن كثير عن الأوزاعي عن يعيش بن الوليد المخزومي عن أبيه عن معدان عنه قالوا قد اضطربوا فرواه معمر عن يحيى بن كثير عن يعيش عن خالد بن معدان عن أبى الدرداء والجواب ان اضطراب بعض الرواة لا يؤثر فى ضبط غيره قال الأثرم قلت لاحمد قد اضطربوا فى هذا الحديث فقال حسين المعلم يجوده وقال الترمذي حديث حسن أصح شىء فى هذا الباب ومنها حديث عائشة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه و(1/1414)
سلم قال إذا قاء أحدكم فى صلاته أو قلس فلينصرف فليتوضأ ثم ليبن على ما مضى ما لم يتكلم رواه الدارقطني من حديث إسماعيل ابن عياش حدثنى عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح عن أبيه عن عبد اللّه بن أبى مليكة عنها فان قيل قال الدارقطني الحفاظ من اصحاب ابن جريج يروونه عن ابن جريح عن أبيه مرسلا واما حديثه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 119(1/1415)
عن ابن « 1 » مليكة عن عائشة يرويه إسماعيل بن عياش قال أبو حاتم الرازي ليس بشىء قلنا قال يحيى بن معين إسماعيل بن عياش ثقة والزيادة من الثقة مقبولة ومن عادة المحدثين تقديم الإرسال ثم المرسل عندنا حجة وفى الباب أحاديث اخر ضعيفة لم نذكرها مخافة التطويل واحتج احمد على الفرق بين القليل والكثير بحديث أبى هريرة مرفوعا ليس فى القطرة ولا فى القطرتين من الدم وضوء الّا ان يكون دما سائلا وحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رخص فى دم الحيوان يعنى الدّماميل رواهما الدارقطني لكن حديث أبى هريرة فيه محمد بن الفضل بن عطية كذبه احمد ويحيى بن حبان وفى الثاني بقية يرويه بلفظ عن وهو مدلس قال الدارقطني هذا باطل احتج مالك والشافعي بحديث انس انه صلى اللّه عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه رواه الدارقطني والبيهقي وفى اسناده صالح بن مقاتل ضعيف ، قال الحافظ ابن حجر قال ابن العربي ان الدارقطني صححه وليس كذلك بل قال صالح ليس بالقوى وذكره النووي فى فصل الضعيف ، وحديث ثوبان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاء فدعا بوضوء فتوضأ فقلت يا رسول اللّه أ فريضة الوضوء من القيء قال لو كان فريضة لوجدته فى القرآن رواه الدارقطني وفيه عتبة بن السّكن متروك الحديث قال البيهقي هو منسوب إلى الوضع - أَوْ لامَسْتُمُ كذا قرأ جمهور القراء هاهنا وفى المائدة وقرا حمزة والكسائي فيهما أو لمستم النِّساءَ قال على وعائشة وابن عبّاس وأبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وقتادة كنى به الجماع وبه قال أبو حنيفة والثوري وعلى هذا التأويل لا يستقيم العطف على جنبا ان كان الجنابة بمعنى الجماع ويستقيم ان كان الجنابة بمعنى الانزال كما قالت به الحنفية وقال ابن مسعود وعمرو ابن عمر والشعبي المراد به معناه الحقيقي و(1/1416)
هو التقاء البشرتين وبناء على ذلك قالوا ينتقض الوضوء بمسّ المرأة بلا حائل بينهما ، روى عن ابن مسعود فى تفسير هذه الآية قال معناه ما دون الجماع وروى البيهقي عنه القبلة من اللمس وفيها الوضوء وروى الشافعي ومالك عن ابن عمر بلفظ من قبّل امرأته أو حبسها بيده فعليه الوضوء وبه قال احمد والزهري والأوزاعي وهى رواية عن الشافعي ان مسّ المرأة مطلقا ينقض « 2 » الوضوء وقال مالك والشافعي والليث وإسحاق وهى رواية عن احمد ان كان المسّ
_________
(1) والصحيح ابن أبى مليكة
(2) قال عمر ان القبلة من اللمس فتوضؤا منها وقال عثمان اللمس باليد منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 120(1/1417)
بشهوة والمرأة مشتهاة ينتقض الوضوء والا فلا ويشترط الشافعي ان يكون المسّ بباطن الكف قياسا على مسّ الذكر فانه يحمل المطلق على المقيّد ولو كانا فى حادثتين وقد ورد فى مسّ الذكر قوله عليه السّلام إذا افضى أحد كم بيده إلى فرجه قالوا لفظ الإفضاء يعطى هذا المعنى قلنا حديث مسّ الذكر بلفظ الإفضاء غير صحيح وإعطاء الإفضاء هذا المعنى ممنوع وحمل المطلق على المقيد فى الحادثتين باطل على أصلنا فتأويل الآية على مذهب أبى حنيفة وان كنتم جنبا يعنى قاضين الشهوة بالانزال مرضى أو على سفر أو محدثين بالخارج من السبيلين أو جامعتم ولو بلا إنزال فتيمّموا وعلى مذهب الشافعي إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أى جامعتم النساء مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أو محدثين بالخارج من السبيلين أو يمسّ المرأة فتيمّموا ولو لم يقل تقدير الكلام ان كنتم جنبا مرضى ولا يقدر هناك كلمة جنبا فلا بدّ ان يقال ان كلمة أو فى قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ بمعنى الواو فتقدير الكلام وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فعلى هذا يجب ان يكون لامستم بمعنى الجماع دون مسّ المرأة حتى يستفاد من الآية جواز التيمّم للمجنب إذ لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز وكان عمر رضى اللّه عنه بناء على عدم التقدير وزغمه اللمس بمعنى المسّ لم ير جواز التيمم للجنب كما يدل عليه قصّة منازعة عمار معه كما سيجيئ استدل ابن الجوزي على كون مسّ المرأة بشهوة ناقضا للوضوء بحديث رواه عن معاذ بن جبل انه كان قاعدا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فجاءه رجل فقال يا رسول اللّه ما تقول فى رجل أصاب من امراة لا تحل له فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من امرأته الا قد أصابه منها غير انه لم يجامعها فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصلّ وهذا الحديث لا يصلح حجة فى هذا المقام(1/1418)
لان سوال الرجل لم يكن عن نقض الوضوء بمسّ تلك المرأة بل كان سوالا عن كيفية استغفاره وما يحكم اللّه فيه من عقوبة فعلّمه النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الوضوء والصلاة يكفّران لذنبه كما ورد فى حديث أبى هريرة إذا توضأ المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة الحديث وحديث عثمان مرفوعا من توضأ وضوئي ثم صلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه وفى الصحيحين عن انس قال جاء رجل فقال يا رسول اللّه أصبت حدّا فاقم علىّ قال الراوي فلم يسئل عنه وحضرت الصلاة فصلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحديث وليس فيه الأمر بالوضوء وعن ابن مسعود قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 121(1/1419)
قال يا رسول اللّه عالجت امراة فى أقصى المدينة وانى أصبت منها ما دون ان امسّها الحديث نحو ما ذكر وزاد ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقم الصّلوة فى النّهار وزلفا من اللّيل انّ الحسنات يذهبن السّيئات ولنا حديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى وانا معترضة بين يديه « 1 » اعتراض الجنازة فإذا سجد غمزنى فقبضت رجلى وفى رواية قال الراوي والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح متفق عليه ولهذا الحديث طرق كثيرة للشيخين وغيرهما وعنها فقدته من الليل فلمسته بيدي فذهب يدى على قدمه وهو ساجد وهو يقول أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا احصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك رواه البخاري وفى رواية للطبرانى ادخلت يدى فى شعره لانظر اغتسل أم لا ، قال الحافظ ظاهر هذا السياق يقتضى تغاير القصّتين وعنها انها كانت ترجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف رواه البخاري والظاهر ان لبثه صلى اللّه عليه وسلم فى المسجد معتكفا لا يكون على غير وضوء وعنها وعن ميمونة وعن أم سلمة كان يغتسل معها من اناء واحد قلت والسنة الوضوء قبل الغسل ومن المحال ان لا يمس يده يدها وعن أبى قتادة كان يصلى وهو حامل امامة بنت زينب متفق عليه وعن عائشة كان فى حجرى وانا حائض فيقرا القرآن متفق عليه وقد توفى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فى(1/1420)
حجر عائشة ولا يجوّز العقل وفاته صلى اللّه عليه وسلم على غير طهر فهذه الأحاديث حجة لنا على من قال ان مسّ المرأة ناقض للوضوء مطلقا ولاجل هذه الأحاديث خصّص الشافعي ومن معه الآية فقالوا لا ينقض الوضوء من المسّ الّا ما كان بشهوة والحجة لنا عليهم حديث عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ رواه البزار وحسنه ورواه الترمذي وابن ماجة وغيرهم عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبى ثابت عن عروة عنها فان قيل ضعّفه البخاري وقال ان حبيبا لم يسمع عروة قلنا رواته ثقات وشهادة عدم السّماع شهادة على النفي ، ورواه احمد وابن ماجة من طريق حجاج عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة كان عليه السلام يتوضأ ثم يقبل ثم يصلى ولا يتوضأ فان قيل زينب السهمية مجهولة قلنا حديث المجهول من القرن الثاني مقبول فان قيل الحجاج مجروح قلنا تابعه الأوزاعي فى رواية الدارقطني عن عمرو وهو من أوثق الناس ورواه الدار قطنى من طريق سفيان الثوري عن أبى روق
_________
(1) فى الأصل بين يديها
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 122(1/1421)
عن ابراهيم التيمي عن عائشة فان قيل قال الترمذي لا يعرف لابراهيم سماع عن عائشة ولا يصح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذا الباب شىء قلت إمكان السماع يكفى لصحة الحديث لا معرفة السّماع على ان المرسل عندنا حجة وابراهيم تابعي ثقة ولعل مراد الترمذي انه لا شىء فى هذا الباب حديث مرفوع متصل صحيح بنفسه والا فرجال هذا المرسل ثقات فان قيل لم يروه عن ابراهيم غير أبى روق وعطية بن الحارث ولا يعلم حدث به عن أبى روق غير الثوري وابى حنيفة واختلفا فيه أسنده الثوري عن عائشة وأسنده أبو حنيفة عن حفصة وابراهيم لم يسمع منها قلنا هؤلاء الاربعة ثقات ائمة ويمكن ان ابراهيم روى حديثين مرسلين أحدهما عن عائشة والثانية عن حفصة فبلّغ للثورى حديثه عن عائشة ولابى حنيفة عن حفصة وهذه العلة ليست بقادحة عند الفقهاء وقد روى هذا الحديث عن الثوري عن أبى روق عن ابراهيم التيمي عن أبيه عن عائشة بوصل اسناده ، فان قيل قد اختلف فى لفظ الحديث فروى عثمان بن أبى شيبة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقبل وهو صائم وقال غير عثمان كان يقبل ولا يتوضأ قلنا بعد كون الرجال ثقات هذا الأمر غير قادح عند الفقهاء لامكان الجمع بين القولين بان يكونا حديثين أو يكون حديثا واحدا كأنّه قال يقبّل وهو صائم ولا يتوضأ فروى بعضهم ببعض الألفاظ وبعضهم ببعض آخر وذلك جائز عند البخاري قال الحافظ ابن حجر قال الشافعي روى سعيد بن بنانة عن محمد بن عمر ابن عطاء عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه كان يقبّل ولا يتوضأ قال الشافعي لا اعرف حال سعيد فان كان ثقة فالحجة ما روى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال الحافظ روى من عشرة أوجه أوردها البيهقي فى الخلافيات وضعّفها قلت الضعيف أيضا بتعدد الطرق يرتفع إلى درجة الحسن وقد علمت ان رواة هذه الطرق لم يتهم بالكذب وفى الباب حديث أبى امامة قال قلت يا رسول اللّه الرجل يتوضأ للصلوة(1/1422)
ثم يقبل اهله أو يلاعبها ينتقض الوضوء بذلك قال لا رواه الدارقطني فيه ركن بن عبد اللّه متروك وإذا اعتضد طرق هذا الحديث بعضها ببعض مع كونها حسنة فى نفسها أو مرسلة صحيحة صحّ انه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يتوضأ من القبلة فظهر ان مسّ المرأة ليس بناقض ولو كان ناقضا لنقل ذلك برواية أحد من الصحابة خصوصا عن أزواجه صلى اللّه عليه وسلم مع كثرتهنّ وشدّة حرصهنّ على بيان العلم وكثرة مخالطته صلى اللّه عليه وسلم وملامسته اياهن كما ترى فى حديث
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 123(1/1423)
رواه الحاكم عن عائشة ما كان يوم الّا وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأتينا فيقبل ويلمس الحديث فظهر ان المراد باللمس فى الآية انما هو الجماع وأيضا لو كان المراد باللمس ما دون الجماع لزم تقليل الفائدة مع تكثير العبارة لان جواز التيمم للمحدث يفهم من قوله تعالى أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ والمقصود من الآية بيان خليفة التراب للماء لاعدّ الأحداث لأنه قد ترك كثير من الأحداث عن الآية اتفاقا كالنوم والإغماء والجنون والخارج من غير السبيلين والقهقهة وأكل لحوم الجزور ومس الذكر فلا فائدة فى ذكر اللمس فان النوم مضطجعا ومتكيا والإغماء والجنون مطلقا حدث بالإجماع لقوله صلى اللّه عليه وسلم ولكن من غائط وبول ونوم صححه ابن خزيمة والترمذي من حديث صفوان بن عسال وكذا نوم الراكع والساجد عند مالك ونوم القائم أيضا عند الشافعي والنوم الطويل على اىّ هيئة كان عند احمد لكن عند أبى حنيفة إذا نام على حالة من احوال الصلاة لا ينقض لقوله صلى اللّه عليه وسلم ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله رواه عبد اللّه بن احمد عن ابن عباس وروى أبو داود والترمذي بلفظ لا وضوء على من نام قاعدا والبيهقي بلفظ لا يجب الوضوء على من نام جالسا أو قائما أو ساجدا ومدار الطرق على يزيد أبى خالد الدالاني وان ضعّفه بعض الائمة لكن الصحيح ما قال الذهبي انه حسن الحديث وقال احمد لا بأس به والإغماء والجنون أشد وأقوى من النوم فى الغفلة و(1/1424)
لذلك اجمعوا على انه حدث على اىّ حال كان - (مسئلة) والقهقهة فى صلوة ذات ركوع وسجود حدث عند أبى حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم من ضحك فى صلاته قهقهة فليعد الوضوء والصلاة رواه ابن عدى عن ابن عمر وفيه بقية أخرجه مسلم متابعا واختلف فيه والتحقيق انه ثقة مدلس فلو روى عن ثقة بلفظ حدثنا كما فى هذا الحديث فهو حجة وقوله صلى الله عليه وسلم فى قصة أعمى من كان منكم قهقه فليعد الوضوء والصلاة رواه الدارقطني من حديث معبد الخزاعي والصحيح انه صحابى ابن أم معبد ومن رواية الامام أبو حنيفة ووهم ابن الجوزي حيث قال وهم فيه أبو حنيفة وروى الدارقطني عن رجل من الأنصار وفيه خالد بن عبد الله الواسطي ولا نعلم أحدا طعن فيه وقال اكثر المحدثين الصحيح انه مرسل عن أبى العالية
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 124(1/1425)
و المرسل عندنا حجة ، وما احتج به الخصم من حديث جابر مرفوعا الضحك ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة ضعيف كذا قال يحيى وقال احمد ليس بشىء منكر (مسئلة) وأكل لحوم الإبل حدث عند احمد لقوله صلى اللّه عليه وسلم توضؤا من لحوم الإبل رواه اصحاب السنن من حديث البراء وصححه المحدثون وروى مسلم نحوه عن جابر واحمد نحوه عن أسيد بن حضير وذى العزة وما احتج به الخصم من حديث ابن عباس مرفوعا الوضوء مما يخرج وليس ممّا يدخل رواه الدارقطني والبيهقي ضعيف منكر - (مسئلة) ومس الذكر حدث عند مالك واحمد وكذا عند الشافعي ان كان بباطن الكف لقوله صلى الله عليه وسلم من مسّ ذكره فلا يصل حتى يتوضأ رواه الائمة الثلاثة واصحاب السنن الاربعة وغيرهم من حديث عروة عن بسرة ، قالت الحنفية هذا الحديث لا يصح وهو منقطع والتحقيق انه حديث صحيح متصل رواه عروة عن مروان عن بسرة ثم لقى بسرة فسمعه منها ورواته ، كلهم فى الصحيحين وصححه احمد والترمذي ويحيى والدارقطني وقال البخاري أصح شىء فى الباب وروى الترمذي واحمد عن زيد بن جالد مرفوعا من مسّ فرجه فليتوضأ وروى الترمذي واحمد والبيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا نحوه صححه البخاري فيما حكى عنه الترمذي وفى الباب ما روى ابن ماجة عن أبى أيوب وهو ضعيف والحاكم عن سعد بن أبى وقاص وأم سلمة والبيهقي عن ابن عبّاس وهو ضعيف والطبراني وصححه عن على بن طلق وذكر ابن مندة حديث النعمان وانس وابى بن كعب ومعاوية بن جندة وقبيصة والترمذي حديث اروى بنت انس ولابى حنيفة حديث طلق بن على قيل يا رسول اللّه أ يتوضأ أحدنا من مسّ ذكره قال هل هو الّا بضعة منك رواه احمد واصحاب السنن وصححه عمرو بن على القلاس وابن المديني وابن حبّان والطبراني وابن حزم وضعّفه الشافعي وأبو زرعة وأبو حاتم والدارقطني والبيهقي قلت لهذا الحديث خمسة(1/1426)
طرق اربعة منها ضعاف ورجال طريقة واحدة منها ثقات الا قيس بن طلق راويه عن أبيه مختلف فيه ضعفه احمد ووثقه البجلي وعن يحيى روايتين فمن قال بتوثيقه فالحديث عنده صحيح والا فضعيف والحق عندى ان الحديث حسن لكن حديث بسرة أقوى منه وفى الباب حديث أبى امامة وعصمة بن مالك وعائشة وكلها ضعاف وادعى ابن حبان ان حديث طلق منسوخ لان من رواة كون مسّ الذكر ناقضا أبو هريرة وإسلامه فى سنة ستّ وطلق اتى عند رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 125
عليه وسلم أول الهجرة وهم يؤسّسون مسجد المدينة كذا روى الدارقطني قلت سند هذه الرواية ضعيف على ان مجىء طلق اوّل الهجرة لا يدل على عدم مجيئة ثانيا بعد اسلام أبى هريرة وأيضا حديث أبى هريرة ضعيف فلا يثبت به نسخ حديث بسرة « 1 » واللّه اعلم فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أى لم تقدروا على استعماله كذا ثبت تفسيره بالسنة والإجماع ، وعدم القدرة على استعمال الماء أعم من ان يكون لعدم الماء أو لبعده ميلا أو بحيث ان ذهب إلى الماء وتوضأ غابت القافلة أو لفقد فمعز الدولة إخراج الماء من البير مثلا أو لمانع من حية أو سبع أوعد(1/1427)
و مسلّط على الماء أو خوف عطش أو لخوف حدوث مرض لشدة برد أو نقاحة أو لمرض مانع من التحرك للوضوء وعدم من يناوله أو لمرض خيف زيادته باستعمال الماء أو بالحركة أو خيف تلف نفس أو عضو وفى رواية عن الشافعي يشترط فى المرض خوف تلف نفس أو عضو - أخرج ابن أبى حاتم عن مجاهد قال نزلت هذه الآية فى رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع ان يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم يناوله فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل الله تعالى وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية واخرج ابن جرير عن ابراهيم النخعي قال أصاب اصحاب النبىّ صلى اللّه عليه وسلم جراحة فغشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها وعن عمرو بن العاص قال احتلمت فى ليلة باردة فى غزوة ذات السلاسل فاشفقت لى ان اغتسلت ان أهلك فتيمّمت ثم صليت بأصحابي الصبح فذكر ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا عمرو صليت باصحابك وأنت جنب فقلت انى سمعت اللّه عز وجل يقول وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يقل شيئا علقه البخاري ورواه أبو داود والحاكم وعن ابن عمر انه اقبل من ارضه بالجرف فحضرت العصر بمربد النعم فتيمم فمسح وجهه ويديه وصلى العصر ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد رواه الشافعي ومالك فى المؤطا مختصرا والجرف موضع على فرسخ من المدينة كذا قال أبو إسحاق والمربد على ميل من المدينة وروى البيهقي عن ابن عمر انه يكون فى السفر
_________
((1/1428)
1) هكذا فى الأصل والنقول كلها لكن عندى فيه نظر لان حديث بسرة وابى هريرة كلاهما فى شىء واحد وهو ان مسّ الذكر حدث ناقض للوضوء والبحث هاهنا فى حديث طلق هل هو منسوخ أم لا فلعل الناسخ الأول فهم بسرة سهوا فى مقام طلق واللّه اعلم 2 بو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 126(1/1429)
فيحضر الصلاة والماء منه على غلوة أو غلوتين أو نحو ذلك ثم لا يعدل إليه قلت هذا عند خوف ذهاب القافلة ولفظ العدول يقتضى كون الماء على يمينه أو يساره لا تلقاء وجهه - (مسئلة) قال الشافعي المسافر إذا فقد الماء يشترط للتيمم طلب الماء فى رحله ومن رفقائه وان كان فى صحراء لا حائل دون نظره ينظر حواليه وان كان دون نظره تل أو جدار عدل عنه لأنه تعالى قال فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ولا يقال لم يجد الا لمن طلب وقال أبو حنيفة طلب الماء من الرفيق ليس بشرط لأنه غير واجد للماء إذ ليس فى ملكه فَتَيَمَّمُوا يعنى فاقصدوا ، فى القاموس التيمم التوخي والتعمد الياء بدل من الهمزة ويممه قصده واليمامة القصد ولذلك قال أبو حنيفة رحمه اللّه النية شرط فى التيمم بخلاف الوضوء والغسل وقال زفر لا يشترط النية فى التيمم كما لا يشترط فى الوضوء والغسل والحجة عليه هذه الآية وقال الائمة الثلاثة يشترط فى الوضوء والغسل أيضا وسنذكر هذه المسألة فى سورة المائدة ان شاء اللّه تعالى صَعِيداً الصعيد اسم لوجه الأرض ترابا كان أو رملا أو جصا أو نورة أو حجرا أو غير ذلك قال الزجاج لا اعلم خلافا بين أهل اللغة فى ذلك قلت ولذلك لم يذكر البيضاوي فى تفسير الصعيد التراب مع كونه شافعيا وقال البغوي قال ابن عباس الصعيد هو التراب وفى القاموس الصّعيد التراب أو وجه الأرض وذكر فى الهداية انه فسّر ابن عباس صعيدا طيّبا أى ترابا منبتا وقال الحافظ ابن حجر لم أجده لكن روى البيهقي وابن أبى حاتم عنه أطيب الصّعيد تراب الحرث ورواه ابن مردوية فى تفسيره من حديث ابن عباس مرفوعا ولفظ أطيب يفيد ان غير تراب الحرث أيضا صعيد طيّب ، قلت ولو كان لفظ الصعيد مشتركا بين التراب ووجه الأرض كما قاله صاحب القاموس فالمراد به هاهنا وجه الأرض دون التراب بقرينة قوله تعالى فى المائدة ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ لان فى إيجاب(1/1430)
التراب المنبت حرج خصوصا على من أسكنهم اللّه بواد غير ذى زرع أو ارض سبخة أو رمل أو جبل لا يجدونه الا بحرج عظيم وأيضا يدل على التأويل بوجه الأرض حديث أبى هريرة فضلت على الأنبياء بستّ أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب واحلّت لى الغنائم وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبوة رواه مسلم والترمذي وصححه وروى الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد فضّلت و
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 127(1/1431)
بخمس ولم يذكر إعطاء جوامع الكلم وختم النبوة وزاد ادّخرت « 1 » شفاعتى لامتى والباقي نحوه وروى البيهقي بسند صحيح عن أبى امامة فضلت بأربع جعلت لى الأرض كلها ولامتى مسجدا وطهورا فايما رجل من أمتي اتى الصلاة فلم يجد ما يصلى عليه وجد الأرض مسجدا وطهورا وذكر الرسالة إلى الناس كافة والنصرة بالرعب مسيرة شهرين وحلّ الغنائم وعند احمد بلفظ فعنده طهوره ومسجده وفى رواية عمرو بن شعيب فاينما أدركتني الصلاة تمسحت وفى الصحيحين عن جابر أعطيت خمسا لم يعط أحد من الأنبياء قبلى فعدّ منها وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا وعن انس عند ابن الجارود وابن المنذر بلفظ جعلت لى كل ارض طيبة مسجدا وطهورا فان ألفاظ هذه الأحاديث كلّها تدل على ان الأرض بجميع اجزائها طهوركما هى بجميع اجزائها مسجد اجماعا فان اللام فى الأرض للجنس ، وحديث أبى امامة ونحوه ادلّ واصرح على ذلك فهذه الآية حجّة لابى حنيفة فى جواز التيمم على كل شىء من جنس الأرض سواء كان سبخة أو رملا أو حجرا بلا نقع أو غير ذلك وقال مالك يجوز بالنبات أيضا إذا كان متصلا بالأرض لاطلاق الصعيد عليه طبعا وقال أبو يوسف لا يجوز الا بالرمل أو التراب وقال الشافعي واحمد لا يجوز الا بالتراب احتجوا بحديث حذيفة بلفظ فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء رواه مسلم وبحديث على وفيه وجعل التراب لى طهورا ، قالوا هذا خاص فينبغى ان يحمل عليه العام قلنا هذا استدلال بمفهوم اللقب ومفهوم اللقب ليس بحجّة عند الجمهور وتخصيص العام بالخاص انما يتصوّر عند التعارض ولا تعارض هاهنا فان جواز(1/1432)
التيمم بالتراب لا ينفى جواز التيمم بغيره بل هو ساكت عنه وتخصيص التراب بالذكر لبيان الأفضل ، وزاد أبو يوسف جواز التيمم بالرمل لحديث أبى هريرة ان ناسا من أهل البادية أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا انا نكون بالرمال الأشهر الثلاثة أو الاربعة فيكون فينا الجنب والنفساء والحائض ولسنا نجد الماء فقال عليكم بالأرض ثم ضرب بيده على الأرض لوجهه ضربة واحدة ثم ضرب ضربة اخرى فمسح بها على يديه إلى المرفقين رواه ابن الجوزي وقال هذا الحديث لا يصحّ فان فيه المثنى بن الصباح قال احمد والرازي ليس بشىء وقال النسائي متروك طَيِّباً أى طاهرا ولا جائز ان يراد به منبتا لان طهارة الصعيد شرط بالإجماع فلو أريد به
_________
(1) فى الأصل ذخرت
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 128(1/1433)
الإنبات أيضا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولما كانت الطهارة فى الصعيد شرطا بدليل قطعىّ نصّ الكتاب والإجماع قال أبو حنيفة إذا تنجس الأرض ثم تطهر باليبس يجوز عليها الصلاة ولا يجوز بها التيمم لان ذكوة الأرض يبسها ثبت بحديث الآحاد فلا يتادّى بها ما ثبت اشتراطها بدليل قطعى وقالت الائمة الثلاثة لا يجوز عليها الصلاة أيضا وحديث ذكوة الأرض يبسها لا يعرف والمعتمد عليه عندى للحكم بطهارة الأرض بيبسها ما رواه البخاري عن حمزة بن عبد اللّه قال كانت الكلاب بتول وتقبل وتدبر فى المسجد فى زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يرشون شيئا من ذلك وهكذا فى سنن أبى داود والإسماعيلي وابى نعيم « 1 » والبيهقي واللّه اعلم فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ الباء زائدة واستيعاب الوجه بالمسح فريضة اجماعا وَأَيْدِيكُمْ اليد اسم للعضو إلى المنكب ولذلك حكى عن الزهري ان الواجب فى التيمم المسح إلى الآباط وكذا حكى عن الصحابة انهم بعد نزول هذه الآية مسحوا إلى الآباط والمناكب وذلك قبل تعليم رسول الله صلى اللّه عليه وسلم مراد اللّه تعالى بهذه الآية ، عن عمار بن ياسر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرّس بذات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقدتها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدتها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فانزل اللّه تعالى على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيّب فقام المسلمون فضربوا الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يفيضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط رواه ابن الجوزي من طريق احمد وروى ابن ماجة بلفظ فتيممنا إلى المناكب وفى رواية له فتيممنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المناكب لكن ظهر بتعليم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالإجماع ان جميع اليد ليس بمراد فهى مجمل فى المقدار فبيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان مقدار اليد فى التيمم مقدارها(1/1434)
فى الوضوء يعنى إلى المرفقين - عن عمار قال « 2 » كنت فى القوم حين نزلت اية التيمم فامرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة اخرى لليدين إلى المرفقين رواه البزار ذكر الحافظ ابن حجر فى تخريج أحاديث الرافعي ولم يطعن فيه وروى أبو داود من حديث عمار انه قال إلى المرفقين لكن فى سنده قال قتادة حدثنى محدث عن الشعبي وذلك المحدث مبهم الّا ان لفظ المحدث يدل على توثيقه فلا بأس به وقد مرّ حديث الاسلع فى شأن نزول الآية قال فارانى
_________
(1) فى الأصل أبو نعيم
(2) فى الأصل قال قال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 129(1/1435)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين لكن فى سنده ربيع ابن بدر ضعيف غير انه يعضد حديث عمار والتحق حديث عمار واسلع بيانا للاية (مسئلة) وبناء على هذا قال أبو حنيفة والشافعي الواجب فى التيمم المسح إلى المرفقين ويؤيد هذا المذهب حديث جابر قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أصابتني جنابة وانى تمعكت فى التراب فقال عليه السلام التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وفى رواية ضرب بيده الأرض فمسح وجهه ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال الدارقطني رجاله كلهم ثقات وحديث ابن الصمة قال مررت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علىّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده فمسح وجهه وذراعيه رواه الشافعي والنسائي من طريقه وقال النسائي حديث حسن فان قيل فيه أبو عصمة وتابعه أبو خارجة قال ابن الجوزي يتكلم فيهما وفيه أبو الحويرث قال الحافظ فيه من الضعف قلت هذه الثلاثة لم يتهم أحد منهم بالكذب فارتقى الحديث إلى درجة الحسن وهذا الحديث فى الصحيحين فمسح بوجهه ويديه وحديث عبد الله بن أبى اوفى سئل عن التيمم قال امر النبي صلى اللّه عليه وسلم عمارا ان يفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ثم نفضهما ومسح على وجهه ويديه وفى رواية ومرفقيه مكان يديه رواه ابن ماجة ولم يخرج الذهبي فى الضعفاء أحدا من رجال هذا السند الا انه قال عثمان بن أبى شيبة شيخ للبخارى تكلم فيه وهو صدوق فالحديث حسن وفى الباب أحاديث أخر ضعاف منها حديث ابن عمر مثل حديث ابن الصمة رواه أبو داود ومداره على محمد بن ثابت وهو ضعيف وعنه وعن عائشة قوله صلى اللّه عليه وسلم التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفى حديث ابن عمر على بن ظبيان(1/1436)
ضعّفه القطان وابن معين وقال الحاكم صدوق وروى أيضا من طريق سليمان ابن داود وهو متروك وفى حديث عائشة الحريش بن الحريث قال أبو حاتم منكر الحديث وعن ابن عمر أيضا تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ضربنا بايدينا على الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ثم ضربنا ضربة اخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف رواه الدارقطني وفيه سليمان بن أرقم متروك وفى الباب حديث أبى امامة رواه الطبراني واسناده ضعيف وقال مالك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 130(1/1437)
و احمد يجوز فى التيمم الاقتصار على ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيّه لحديث عمار قال كنت فى سرية فاجتنبت فتمعكت فى التراب فلما أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال انما يكفيك هكذا وضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بيده إلى الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه وفى رواية عنه ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فى التيمم ضربة للوجه والكفين رواهما احمد وفى الصحيحين بطرق فبعض ألفاظ البخاري انما كان يكفيك هكذا فضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بكفية الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وروى مسلم انما يكفيك ان تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك وعند البخاري يكفيك الوجه والكفين قلت حديث الصحيحين يدل على ان عمّارا وقت نزول الآية لم يعرف ان التيمم يكفى للمجنّب وانما علم حينئذ انه للمحدث ولذلك تمعك للجنابة قياسا عليه قالوا ما رواه الشيخان من حديث عمار أقوى ، قلنا وان كان أقوى من كل واحد واحد ممّا ذكرنا من الأحاديث لكن أحاديثنا لكثرة الرواة وطرق شتى صحيحة وضعيفة يبلغ فى القوة مبلغ حديث الصحيحين فتعارضا فرجّحنا بوجوه أحدها ان ما احتج به احمد متاخر عن وقت نزول الآية والمتأخر لا يصلح بيانا لمجمل الكتاب إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فلو حمل هذا الحديث على ظاهره لكان ناسخا لكتاب اللّه ولا يجوز نسخ الكتاب بحديث الآحاد فيسقط حديث الصحيحين لاجل معارضة الكتاب وامّا أحاديثنا فمنها ما هو صريح فى كونه بيانا للاية مقارنا لنزولها فالتحق بالكتاب بيانا وثانيها بان حديث الصحيحين يحتمل التأويل(1/1438)
بان يقال اطلق الكف وأريد به اليد مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكل أو يقال انما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيان صورة الضرب ونفى التمعك وليس المراد به بيان جميع ما لا بد منه للتيمم كما قال فى الغسل انما يكفيك ان تحثى على راسك ثلاث حثيات ولم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق وغسل جميع البدن لان المقصود هناك بيان عدم الحاجة إلى نقض الضفائر ثالثها بانه إذا تعارض الحديثان سقطا وعملنا بالقياس على الوضوء رابعها الاخذ بالاحتياط - (مسئلة) قال أبو حنيفة يجوز التيمم لخوف فوت ما يفوت لا إلى خلف كصلوة العيد ابتداء وبناء وصلوة الجنازة لغير الولي لا لخوف فوت الوقت والجمعة وقال مالك والشافعي لا يجوز لخوف فوت العيد والجنازة لعدم الضرورة فى إتيانهما فان صلوة العيد ليست بواجبة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 131(1/1439)
عندهما بل سنة وصلوة الجنازة فرض كفاية يتادى بغيره ويجوز لخوف فوت الوقت والجمعة لكن عند الشافعي يجب الاعادة أيضا وقال احمد لا يجوز لخوف فوت شىء منها لان طهورية الصعيد مشروطة بعدم وجدان الماء ولم يوجد والحجة لابى حنيفة انه صلى اللّه عليه وسلم تيمم لردّ السّلام كما مرّ - (مسئلة) إذا وجد الماء بعد الصّلوة فى الوقت بالتيمم لا يجب عليه الاعادة وان كان الوقت باقيا وقال عطاء وطاؤس ومكحول وابن سيرين والزهري يجب الاعادة لنا حديث أبى سعيد الخدري ان رجلين خرجا فى سفر فحضرت الصّلوة وليس معهما ماء فتيمّما صعيدا طيّبا وصلّيا ثم وجدا الماء فى الوقت فاعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الاخر فاتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذى لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلوتك وقال للذى أعاد لك الاجر مرتين رواه أبو داود والنسائي والحاكم والدارمي - (مسئلة) من كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا يغسل الصحيح ويتيمم للجريح عند الشافعي واحمد وهو المختار عندى للفتوى وقال أبو حنيفة ومالك ان كان الأكثر صحيحا يغسل الصحيح ويمسح على الجريح ولا يتيمم والا يتيمم ولا يغتسل لنا انه صحيح بعض أعضائه وهو واجد للماء من وجه فلا يسقط غسله ومريض من وجه حيث لا يقدر على استعمال الماء فى جميع بدنه فيتيمم ويؤيده حديث جابر قال خرجنا فى سفر فاصاب رجلا حجر فشجّه فى رأسه ثم احتلم فسال أصحابه هل تجدون لى رخصة فى التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتلوه قتلهم اللّه الا سالوا إذا لم يعلموا فان شفاء العي السؤال انما كان يكفيه ان يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده رواه الدارقطني ومن طريقه ابن الجوزي - (مسئلة) يجوز بتيمم واحد صلوات كثيرة ما لم يحدث أو يجد الماء وقال الشافعي واحمد يجب ان يتمم لوقت كل(1/1440)
صلوة ، لنا قوله صلى اللّه عليه وسلم الصعيد الطيّب وضوء المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمس بشرته فان ذلك خير رواه اصحاب السّنن من حديث أبى ذرّ قال الترمذي حديث صحيح احتج الشافعي بقول ابن عباس من السنة ان لا يصلى بالتيمم اكثر من صلوة واحدة رواه الدارقطني والبيهقي قال الرافعي قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة الرسول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 132
صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع وفى الباب اثر على رواه ابن أبى شيبة وعن عمرو بن العاص موقوفا انه كان يتيمم لكل صلوة وبه كان يفتى قتادة روى الدارقطني بسنده عن قتادة وكان ابن عمر يتيمّم لكل صلوة رواه البيهقي قلنا لا يصح شىء من هذه الآثار امّا اثر ابن عباس قال ابن الجوزي فيه أبو يحيى عن حسن بن عمارة وهما متروكان وقال الحسن ضعيف جدّا وامّا اثر على ففيه الحجاج بن ارطاة تركه ابن مهدى والقطان وقال احمد والدارقطني لا يحتج به وقال ابن معين والنسائي ليس بالقوى وامّا اثر عمرو بن العاص فهو منقطع بين قتادة وعمر وإرسال شديد وامّا اثر ابن عمر ففيه عامر الأحول مختلف فيه ليّنه احمد وغيره ووثقه أبو حاتم ومسلم ثم هذه الآثار لا يعارض المرفوع الصحيح وأيضا نحملها على الاستحباب وقول ابن عباس(1/1441)
من السنة يعنى مستحب ليس بواجب - (مسئلة) فاقد الطهورين لا يصلى عند أبى حنيفة ومالك وعليه القضاء عند أبى حنيفة دون مالك وعند الشافعي واحمد يصلى ويجب عليه الاعادة عند الشافعي دون احمد إذا وجد الماء لنا هذه الآية حيث قال ولا جنبا يعنى لا تقربوا الصلاة جنبا الّا عابرى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية نهى عن الصلاة جنبا وجعل غاية النهى الغسل لواجد الماء والتيمم للفاقد فبقى فاقد الطّهورين داخلا فى النهى لعدم الغاية فان قيل المسافر خارج عن النهى قلنا انما هو المسافر المتيمم ولو لا ذلك لجاز للمسافر الصلاة بغير تيمم ويمكن للشافعى ان يقول الخارج عن النهى المسافر مطلقا ثم أوجب عليه التيمم ويشترط لوجوب التيمم القدرة على الصعيد كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق فإذا لم يقدر على الصعيد سقط عنه التيمم وبقي خارجا عن النهى ولنا أيضا قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقبل اللّه صلوة الا بطهور رواه الترمذي والصلاة نكرة فى حيّز النفي فهو عام والقول بانه محمول على من يقدر على الطهور تخصيص للنصّ بلا دليل ولنا أيضا حديث عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطّاب اما تذكر انا كنا على سفر انا وأنت فاصابتنا جنابة فامّا أنت فلم تصل وامّا انا فتمعكت فى التراب فصليت فذكرت ذلك للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم فقال انما يكفيك هكذا متفق عليه حيث لم ينكر النبي صلى اللّه عليه وسلم على عمر لاجل ترك الصلاة واحتج الشافعي بحديث عائشة انها استعارت من اسماء قلادة فهلكت فارسل رسول اللّه صلى عليه وسلم ناسا من أصحابه فى طلبها فادركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 133(1/1442)
عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت اية التيمم فقال أسيد بن حضير جزاك اللّه خيرا فو اللّه ما نزل بك امر قطّ الا جعل اللّه لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة متفق عليه وفى رواية فقام رسول الله صلى اللّه عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فانزل اللّه اية التيمم فتيمّموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هى باوّل بركتكم يا ال أبى بكر قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقدة فيه والجواب ان هذا الحديث حجة لنا لا علينا حيث لم ينقل انه صلى اللّه عليه وسلم صلّى وانما فعلوا ذلك بآرائهم ولو كانت الصّلوة جائزة لما تيمّموا بعد نزول الآية وقول الشافعي بوجوب إعادة الصّلوة مع وجوب الصّلوة بلا طهور باطل على قاعدة الأصول فان سبب الوجوب الوقت واحد لا يتصوّر ان يكون سببا لتكرار الواجب وقول مالك لا قضاء عليه لأنه لا تقصير من جانبه فى ترك الصّلوة أيضا باطل لان قوله صلى اللّه عليه وسلم ما فاتكم فاقضوا امر بالقضاء عند الفوات اعمّ من ان يكون بتقصير منه اولا ، الا ترى انّ وجوب القضاء على النائم مجمع عليه مع انه لا تقصير منه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا حيث يسّر الأمر لكم ورخّص لكم غَفُوراً (43) يغفر لكم ما شربتم المسكر وصليتم فى السّكر ومع الجنابة قبل نزول هذه الآية واللّه اعلم أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قال كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوّى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمّد حتى نفهمك ثم طعن فى الإسلام وعابه وذكر البغوي عن ابن عباس قال فى رفاعة بن زيد ومالك ابن دحشم نزلت.(1/1443)
أَ لَمْ تَرَ خطاب لغير معيّن يدل عليه قوله تضلّوا وأعدائكم أو خطاب لسيّد القوم فى مقام خطابهم والرواية مجاز عن النظر والّا فالرؤية سواء كان من البصر أو القلب لا يتعدى بالى ويحتمل تضمين معنى النظر على انها روية البصر أو تضمين معنى الانتهاء سواء كانت الرؤية من البصر أو القلب ولذا عدى بالى حيث قال إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعنى يهود المدينة وتنكير نصيبا للتحقير يعنى أوتوا حظّا يسيرا من الكتاب أى التوراة وهو القراءة باللسان دون التفقه والإذعان بالجنان يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ أى الكفر بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم يستبدلونها بالهداية التي كانوا عليها قبل البعثة فانهم كانوا يؤمنون بالنبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ، أو المعنى يستبدلون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 134
الضلالة بالهداية التي تمكنوا على تحصيلها باتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أيها المؤمنون السَّبِيلَ (44) إلى الحق والاستفهام للتقرير والتعجيب والتحذير يعنى قد رأيت وعلمت عداوتهم بك وبالمؤمنين مع علمهم بكونك على الحق فاحذرهم فانّ أعدى الأعداء من أراد بكم الضلالة الموجبة للهلاك الابدى ولا تستنضحوهم فى أموركم.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ هذه الجملة تأكيد للتحذير وَكَفى بِاللَّهِ الباء زائدة فى المرفوع لتأكيد الاتصال الاسنادى بالاتصال الإضافي لافادة زيادة حرف الإلصاق لزوم الكفاية للفاعل وَلِيًّا فى النفع يلى أموركم وينفعكم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) فى دفع الضر يكفيكم مكرهم وينصركم عليهم فاكتفوا به عن غيره فى الولاية والنصرة فانه اعلم واقدر فثقوا به ولا تتولوا ولا تستنصروا غيره ووليا ونصيرا منصوبان اما على التمييز واما على الحال.(1/1444)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل متصل بما قبله بيان ل الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أو بيان لاعدائكم أو متعلق بقوله نصيرا أى ينصركم من الذين هادوا فعلى هذا قوله يُحَرِّفُونَ حال متداخل أو مترادف لما قبله وقيل مِنَ الَّذِينَ هادُوا كلام مستانف ظرف مستقر مسند إلى مقدر بعده تقديره من الّذين هادوا فريق يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة وقيل اسم جنس وليس بجمع يدل عليه تذكير الضمير الراجع إليه فى قوله تعالى عَنْ مَواضِعِهِ وأجيب بانّ تقديره يحرّفون بعض الكلم عن مواضعه واختار التفتازانيّ كونه اسم جنس وقال من نفى كونه جمعا نفى كونه جمعا اصطلاحا ومن اثبت الجمعية أراد انه جمع معنى ولؤيد كونه كلاما مستانفا قراءة ابن مسعود ومن الّذين هادوا بزيادة الواو وما فى مصحف حفصة من الّذين هادوا من يحرّقون الكلم أى يغيرونها ويزيلونها عن مواضعها التي وضعها اللّه تعالى فيها من التوراة والمراد بالكلم نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم لما روى البيهقي عن ابن عباس قال وصف الله تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم فى التورية اكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حسده أحبار يهود فغيّروا صفته فى كتابهم وقالوا لا نجد نعته عندنا وقالوا نجد النبي الأمي طويلا ازرق سبط الشعر وقالوا للسفلة هذا ليس هذا فلبسوا بذلك على الناس وانما فعلوا ذلك لان الاخبار كانت لهم ما كلمة يطعمهم إياهم السفلة فخافوا ان تؤمن السفلة « 1 » فيتنقطع
_________
(1) فى الأصل ان يومنوا السفلة [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 135(1/1445)
تلك المأكلة وقال البغوي قال ابن عبّاس كانت اليهود يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسئلونه عن الأمر فيخبرهم فيرى انهم يأخذون بقوله فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه فعلى هذا المراد بالكلم مطلق الكلم وقيل معنى تحريف الكلم من التوراة عن مواضعه تأويله على ما يشتهونه غير ما أراد الله تعالى منها كما يفعل أهل الأهواء من هذه الامة فى القرآن وجاز ان يكون معنى تحريف الكلم ان يقولوا كلمة ذات جهتين يحتمل المدح والذم والتوقير والتحقير فيظهرون المدح ويضمرون به الذم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا عطف على قوله يحرّفون وليس هذا من جملة التحريفات ان كان المراد تحريف التوراة والمعنى انهم يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم هذا فهو بيان لكفرهم حيث يقولون لا نطيعك بعد السماع وجاز ان يكون المعنى يقولون عند أصحابهم سمعنا قول محمد وعصيناه أو يكون قولهم سمعنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وعصينا عند قومهم فهو بيان لنفاقهم وجاز ان يكون هذا بيانا لبعض تحريفاتهم حيث يقولون بحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم سمعنا وهى كلمة ذات جهتين يعنى سمعنا سماع اجابة ويريدون به سماعا بلا اجابة وجاز ان يكون قوله تعالى حكاية عنهم سمعنا وعصينا كناية عن تحقق عصيانهم بعد السماع فانّ المحقق نزل منزلة القول يعنى انهم يسمعونك ثم يعصونك وَاسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ قيل كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم اسمع ثم يقولون فى أنفسهم لا سمعت دعاء عليه بالصمم أو الموت والظاهر انهم كانوا يقولون ذلك جهارا وهى كلمة ذات جهتين يحتمل التعظيم والدعاء أى اسمع غير مسمع مكروها من قولهم اسمع فلان فلانا أى سبّه ويحتمل السبّ أى اسمع منا ندعوا عليك بلا سمعت أو غير مسمع جوابا ترضاه أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لان اذنك تأبى عنه فيكون مفعولا به وَراعِنا هذه أيضا كلمة ذات(1/1446)
الجهتين فانّ معناه بالعربية ارقبنا وانتظرنا نكلمك ومعناه بالعبرانية أو السّريانية السبّ فانهم كانوا يتسابّون بما يشبه ذلك يقولون راعينا فكانوا يقولون ذلك سخرية بالدّين وهزوا برسول ربّ العالمين صلى الله عليه وسلم لعنهم اللّه أجمعين لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ مفعول له لقوله تعالى يقولون يعنى يقولون ذلك لان يفتلوا بألسنتهم الحق بالباطل والتوقير فى الظاهر بالشتم المضمر وَطَعْناً فِي الدِّينِ أى لاجل الطعن فى الدين حيث يقولون لو كان نبيّا حقّا لاخبر بما اضمرنا فيه ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 136(1/1447)
وَ لَوْ ثبت أَنَّهُمْ قالُوا سرّا وعلانية سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان قولهم سمعنا وعصينا وَاسْمَعْ بغير الحاق غير مسمع وَانْظُرْنا مكان راعنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أى اعدل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى خذلهم وابعدهم عن الهدى بِكُفْرِهِمْ أى بسبب كفرهم فذلك اللعنة موجب لعدم توفيقهم إلى ما هو خير لهم واعدل فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) منصوب على المصدرية أو على الظرفية يعنى الّا ايمانا قليلا وتصديقا لا يعبا به شرعا - وذلك الايمان ببعض الكتب وبعض الرسل أو الايمان فى الظاهر بالنفاق ويجوزان يراد بالقلة العدم وقيل معناه الا قليلا منهم كعبد اللّه بن سلام ويتجه عليه ان نصب المستثنى فى الكلام المنفي غير مختار عند النحاة وان جوّزه ابن الحاجب مع ان القراء متفقون على النصب وأيضا لا بدّ حينئذ حمل قوله تعالى لعنهم على لعن أكثرهم وقال التفتازانيّ هو استثناء من قوله تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ واللّه اعلم - أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد اللّه بن صوريا وكعب بن أسيد فقال لهم يا معشر يهود اتقوا اللّه واسلموا فو اللّه انكم لتعلمون ان الذي جئتكم به لحق فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد وأصروا على الكفر فانزل اللّه تعالى.(1/1448)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التورية آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على محمد من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التورية مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً التنوين عوض للمضاف إليه أى وجوهكم اصل الطمس ازالة الأثر والمعنى نمحوا اثار الوجوه من الانف والعين والفم والحاجب فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أى نجعلها كالاقفاء وقيل نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لان منابت شعور الآدميين فى ادبار وجوههم قال ابن عباس نجعلها كخف البعير وقال قتادة والضحّاك نعميها والمراد بالوجه العين فان قيل قد وعدهم اللّه تعالى بالطمس ان لم يؤمنوا يدل على ذلك ما روى ان عبد اللّه بن سلام رضى اللّه عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل ان يأتى اهله ويده على وجهه واسلم وقال يا رسول الله ما كنت ارى ان اصل إليك حتى يتحول وجهى فى قفائى وكذلك ما روى عن كعب الأحبار لما سمع هذه الآية اسلم فى زمن عمر فقال يا ربّ امنت يا رب أسلمت مخافة ان يصيبه وعيد هذه الآية
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 137(1/1449)
لكنهم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك قلنا قيل هذا الوعيد يأتى ويكون طمس ومسخ فى اليهود قبل قيام السّاعة وقيل كان وعيدا بشرط عدم ايمان كلهم فلمّا اسلم عبد اللّه بن سلام وأصحابه رفع ذلك من الباقين وقيل أوعدهم اللّه بأحد الامرين على سبيل منع الخلو بالطمس أو اللعن وقد لعنوا فثبت الوعيد والصحيح عندى انه يطمسهم يوم القيامة ان لم يؤمنوا - أخرج ابن عساكر والخطيب عن معاذ بن جبل ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً قال يحشر أمتي عشرة أفواج صنف على صورة القردة وصنف على صورة الخنازير وصنف على صورة الكلاب وصنف على صورة الحمر الحديث وقد ذكرنا فى تفسير تلك الآية وقال مجاهد أراد بقوله نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نتركهم فى الضلالة فيكون المراد طمس وجه القلب والرد عن بصائر الهدى لكن يرد عليه ان ذلك التأويل يقتضى كون قلوب اليهود نقية قبل ذلك وقال ابن زيد معناه نمحو اثارهم من المدينة فنردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه وهو الشام ، وقد مضى تأويله بإجلاء بنى نضير إلى أذرعات وأريحا بالشام أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ من اليهود على لسان داود وعيسى بن مريم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) نافذا كائنا لا محالة لا يقدر أحد على دفعه - أخرج الطبراني وابن أبى حاتم عن أبى أيوب الأنصاري قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ان لى ابن أخ لا ينتهى عن الحرام قال وما دينه قال يصلى ويوحّد قال استوهب منه دينه فان أبى فاتبعه منه فطلب الرجل ذلك منه فابى عليه فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال وجدته شحيحا على دينه فنزلت.(1/1450)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تعالى فى وجوب الوجود أو العبادة إذا مات وهو مشرك وامّا إذا تاب عن الشرك وأمن فيغفر له ما قد سلف منه من الشرك وغيره اجماعا لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له يعنى كأنَّه لم يصدر عنه ذلك الذنب قط قال اللّه تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ يعنى ما سوى الشرك من الذنوب صغيرة كانت أو كبيرة صدرت عنه خطأ أو عمدا وان مات مذنبا لم يتب لِمَنْ يَشاءُ تعميم المغفرة لما دون الشرك وتقييدها بالمشية مبطل لمذهب المرجئة حيث قالوا بوجوب المغفرة لكل ذنب وقالوا لا يضر ذنب مع الايمان كما لا ينفع عمل مع الشرك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 138(1/1451)
و مذهب المعتزلة حيث قيّدوا مغفرة الذنوب بالتوبة فان الآية تدل على نفى التقييد بالتوبة لان سوق الكلام للتفرقة بين حال المشرك والمذنب والتقييد بالمشية يبطل القول بوجوب المغفرة للتائب ووجوب التعذيب لغيره فان قيل التقييد بالمشية لا ينافى الوجوب بل يستلزم وجوب المشية بعد ثبوت المغفرة قلنا فحينئذ لا فائدة فى هذا التقييد ومذهب الخوارج حيث قالوا كل ذنب شرك صاحبه مخلد فى النار أخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال كنا نمسك عن الاستغفار لاهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى اللّه عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قال انى ادخرت دعوتى شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي فامسكنا عن كثير ممّا كان فى أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا قال البغوي ناقلا عن الكلبي انّ الآية نزلت فى وحشي بن حرب وأصحابه وذلك انه لمّا قتل حمزة كان قد جعل له على قتله ان يعتق فلم يوف له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على ما صنع هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا قد ندمنا على ما صنعنا وانه ليس يمنعنا عن الإسلام الا انا سمعناك تقول وأنت بمكة وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآيات وقد دعونا مع اللّه الهة وقتلنا النّفس الّتى حرم اللّه تعالى وزنينا فلو لا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ ... « (1/1452)
1 » وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآيتين فبعث بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم فلما قرءوا كتبوا إليه انّ هذا شرط شديد نخاف ان لا نعمل عملا صالحا فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية فبعث بها إليهم فبعثوا إليه انا نخاف ان لا نكون من أهل مشية فنزلت يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية فبعث بها إليهم فدخلوا فى الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فتقبل منهم ثم قال للوحشى أخبرني كيف قتلت حمزة فلمّا أخبره فقال ويحك غيب وجهك عنى فلحق الوحشي بالشام وكان بها إلى ان مات فان قيل هذه القصّة يدل على نسخ تقييد المغفرة بالمشية فيثبت مذهب المرجئة قلنا هذا التقييد لا يحتمل النسخ إذ لا يجوز وجود شىء من الأشياء مغفرة كانت أو غيرها بدون مشية اللّه لكن نزول قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فى شأن الوحشي دل على كونه من أهل المشية واللّه اعلم وقال البغوي ناقلا عن أبى مجلز عن ابن عمر انه لما نزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية قام رجل فقال والشّرك يا رسول اللّه فسكت ثم قام اليه
_________
(1) وفى القرآن إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ إلخ -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 139(1/1453)
مرتين أو ثلاثا فنزلت إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية « 1 » - وقال ناقلا عن مطرف بن عبد اللّه ابن الشخير عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا انه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فامسكنا عن الشهادات وقال حكى عن على ان هذه الآية أرجى اية فى القرآن وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى معنى الافراء الإفساد والافتراء استعمل فى الكذب والشرك والظلم كذا فى الصحاح فالمعنى فقد أفسد وكذب إِثْماً منصوب على المصدرية يعنى ارتكب الكذب والفساد كذبا وفسادا عظيما وجازان يكون منصوبا على المفعولية والمعنى على التجريد اختلق اثما عَظِيماً (48) يستحقر دونه الآثام وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام عن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثنتان موجبتان فقال رجل يا رسول الله ما الموجبتان قال من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك باللّه شيئا دخل النار رواه مسلم وعن أبى ذرّ رضى اللّه عنه قال أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليه ثوب ابيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال ما من عبد قال لا اله الا اللّه ثم مات على ذلك الّا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق على رغم انف أبى ذرّ وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وان رغم انف أبى ذرّ متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة واللّه اعلم - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة وابى مالك ومجاهد وغيرهم انه كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون انهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فانزل اللّه تعالى.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الاستفهام للتعجيب(1/1454)
_________
(1) روى أبو يعلى وابن أبى حاتم عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا الّا حلّت له المغفرة ان شاء غفر له وان شاء عذبه ان اللّه استثنى فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ واخرج أبو يعلى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز له ومن وعده على عمل عقابا فهو بالخيار واخرج الطبراني عن سلمان قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ذنب لا يغفر وذنب لا يترك وذنب يغفر فامّا الذي لا يغفر فالشرك وامّا الذي يغفر فذنب بينه وبين اللّه وامّا الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 140(1/1455)
من حال من يزكى نفسه لان غرضه من تزكية نفسه اعتلاؤه بين الناس ولا يحصل ذلك بتزكيته نفسه بل يوجب ذلك دناءة فى أعين الناس وانما يحصل الاعتلاء والزكاء بتزكية اللّه تعالى وجعله عاليا ناميا فيما بين عباده ذكر البغوي والثعلبي عن الكلبي انها نزلت فى رجال من اليهود منهم بحرى بن عمرو والنعمان بن اوفى ومرحب بن زيد أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد هل على هؤلاء ذنب فقال لا قالوا ما نحن الا كهيئتهم ما عملنا بالنهار يكفّر عنا بالليل وما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال الحسن والضحّاك وقتادة نزلت فى اليهود والنصارى حين قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ، قلت وان كان سبب نزول الآية خاصّا لكن الحكم عام وقال ابن مسعود هو تزكية بعضهم لبعض ، روى عن طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال انّ الرجل ليغدوا من بيته ومعه دينه فيأتى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا فيقول واللّه أنت لذيت وذيت فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شىء ثم قرأ ا لم تر إلى الّذين يزكّون أنفسهم (مسئلة) لا يجوز لاحد ان يزكى نفسه ويثنى عليها وينسبها إلى الطهارة من الذنوب ، وأيضا لا يجوز ان يحكم لغيره بالطهارة الأعلى سبيل حسن الظن المأمور به فان الحكم بغير العلم لا يجوز قال اللّه تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وتزكية نفسه يفضى إلى العجب والكبر المنهيين أيضا وفى نفس الأمر ما لكل أحد عند اللّه تعالى من القرب والثواب لا يعلمه الّا اللّه تعالى ولذلك قال بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي أى يحكم بالطهارة أو يطهر من الذنوب بالمغفرة ويصلح مَنْ يَشاءُ فانه القادر على التطهير وبما ينطوى عليه الإنسان هو العليم الخبير وفيه اشعار بأنه يجوز تزكية نفسه أو غيره باعلام من اللّه(1/1456)
تعالى بتوسط الوحى أو الإلهام بشرط ان لا يكون ذلك على وجه البطر والتكبر فانها من رذائل النفس وهذا هو محمل ما ورد فى الأحاديث قوله صلى اللّه عليه وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر وقد مر فى البقرة وقوله صلى اللّه عليه وسلم واللّه انى لامين فى السّماء أمين فى الأرض لمّا عرّض المنافقون بانه جارّ فى القسمة وقوله صلى اللّه عليه وسلم والله لا تجدون بعدي اعدل عليكم منى رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة واحمد عن أبى سعيد وقوله صلى اللّه عليه وسلم أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنة والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة وكذا ما ورد فى كلام الأولياء بناء على الهام من الله تعالى كقول غوث الثقلين قدمى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 141
هذه على رقبة كل ولى اللّه وَلا يُظْلَمُونَ الضمير راجع إلى من يشاء اللّه تزكيته فانهم يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم أو إلى الناس أجمعين المفهوم فى ضمن ما سبق يعنى ان اللّه لا يظلم الناس فى التزكية فتيلا بل لا يزكى الا من يستأهله ولا يترك الا من لا يستأهله أو إلى الذين يزكون أنفسهم فانهم يعاقبون على قدر جريمتهم ولا يظلمون فَتِيلًا (49) فى الصّحاح هو ما تقتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب بها المثل فى الشيء الحقير وقيل هو الخيط الذي فى شق النواة منصوب على المصدر أى لا يظلمون ظلما فتيلا أى ادنى ظلم بقدر الفتيل.(1/1457)
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ يَفْتَرُونَ أى اليهود يكذبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ انهم ابناؤه واحباؤه أو يغفرهم بالليل ما يعملون بالنهار وبالنهار ما يعملون بالليل وَكَفى بِهِ إلى بافترائهم هذا إِثْماً مُبِيناً (50) ظاهر البطلان لان بطلان كونهم أبناء اللّه واحباؤه بديهي لا يحتاج إلى دليل وقولهم هذا ظاهر فى المأثم من بين سائر اثامهم وجملة كفى به حال بتقدير قد من فاعل يفترون واللّه اعلم قال المفسّرون خرج كعب بن الأشرف فى سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد واقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل كعب على أبى سفيان فاحسن مثواه ونزلت اليهود فى دور قريش فقال أهل مكة انكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نامن ان يكون هذا مكرا منكم فان أردت ان نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وأمن بهما ففعل ذلك ثم قال كعب لاهل مكة ليجىء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدنّ على قتال محمّد ففعلوا فنزلت.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أخرج الطبراني والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس نحوه واختلفوا فى تفسير الجبت والطّاغوت فقال عكرمة هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون اللّه ويؤيّده ما روينا من القصّة وروى عنه ان الجبت بلسان الحبشة الشيطان قلت لعل ذلك الصنم سمى باسمه وقال أبو عبيدهما كل معبود يعبد من دون اللّه لكن العطف يقتضى المغايرة والتحقيق ان الجبت أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء والطّاغوت فعلوت من الطغيان والتجاوز
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 142(1/1458)
عن الحد فى الكفر والعصيان أصله طغووت قلبت اللام بالعين ثم قلبت الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار طاغوت كذا فى الصحاح والقاموس فعلى هذا جاز اطلاق الجبت على كل ما لا خير فيه والطاغوت على كل ما تجاوز الحد فى العصيان ولذا سمى بالجبت حيى بن اخطب وبالطاغوت كعب ابن الأشرف كذا قال الضحاك وقال عمرو الشعبي ومجاهد الجبت السحر والطاغوت الشيطان وقال محمد بن سيرين الجبت الكاهن والطاغوت الساحر وقال سعيد بن جبير وأبو العالية بعكس ذلك وروى البغوي بسنده عن قبيصة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال العيافة « 1 » والطرق « 2 » والطيرة « 3 » من الجبت يعنى لا خير فى شىء منها قلت فالظاهر ان المراد بالجبت هاهنا الأوثان إذ لا خير فيها أصلا وبالطاغوت شياطين الأوثان وكان لكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس روى البيهقي عن أبى الطفيل رضى اللّه عنه انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم العزى يوم فتح مكة قال أبو الطفيل فقطع خالد السمرات ثم رجع إلى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال هل رايت شيئا قال لا قال فاتك لم تهدمها فرجع خالد فلما رات السدنة خالدا انبعثوا فى الجبل وهم يقولون يا عزى خبلتيه « 4 » يا عرى عورته والا فموتى برغم فخرجت إليه امراة سوداء عريانة ناشزة الرأس تحثوا لتراب على رأسها ووجهها فجرّد خالد سيفه وهو يقول يا عزى كفرانك لا سبحانك انى رأيت الله قد هانك ، فضربها بالسيف فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال نعم تلك العزى قد يئست ان تعبد ببلادكم ابدا - كذا فى سبيل الرشاد واللّه اعلم أخرج احمد وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ا لا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه يزعم انه خير منا ونحن أهل الحجيج واهل السدانة واهل السقاية قال أنتم خير منه فنزلت فيهم إِنَّ شانِئَكَ هُوَ(1/1459)
الْأَبْتَرُ ونزلت هذه الآية وَيَقُولُونَ يعنى كعب الأشرف وأصحابه لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أبى « 5 » سفيان وغيره هؤُلاءِ يعنى
_________
(1) العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وطن نهاية منه رح
(2) الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء نهاية منه رح
(3) الطيرة التشاوم بالشيء وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما نهاية حزرى منه رحمه اللّه تعالى
(4) الخبل الجنون والفساد أصله من النقصان ثم صار الهلاك خبالا نهاية منه رحمه اللّه
(5) فى الأصل أبو سفيان -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 143
كفّار مكة أَهْدى أقوم وارشد مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم سَبِيلًا (51) دينا وطريقا واخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة حيى بن اخطب وسلام بن أبى الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبى الحقيق وأبو عمارة وهودة بن قيس وكان سائرهم من بنى النضير فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود واهل العلم بالكتب الاولى فسئلوهم أ ديننا خير أم دين محمد فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم اهدى منه وممن تبعه فانزل اللّه تعالى هذه الآية إلى قوله ملكا عظيما ، وذكر البغوي انه لمّا سال أبو سفيان كعبا عن ذلك قال كعب اعرضوا على دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقر الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين ابائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب واللّه أنتم اهدى سبيلا مما عليه محمد.(1/1460)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ابعدهم من رحمته وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ إياه فَلَنْ تَجِدَ أيها المخاطب لَهُ نَصِيراً (52) فى الدنيا فى الحروب وفى الاخرة بدفع العذاب بالشفاعة أو غيرها وفيه ردّ للاستنصار بهم ومخالفتهم مع قريش على محاربة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ثم وصف اللّه تعالى اليهود بالبخل والحسد وهما من شرّ الخصال حيث يمنعون مالهم ويتمنون زوال مال غيرهم فقال.
أَمْ لَهُمْ أى لليهود نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ أم منقطعة ومعنى الهمزة التي فى ضمنها انكار ان يكون لهم نصيب من الملك ونفى ما زعمت اليهود ان الملك سيصير إليهم أو المراد بنصيب من الملك الرياسة التي أنكر اليهود النبوة لخوف فواتها فانكر اللّه تعالى رياستهم لفقد لوازمها وهو السخاء بأبلغ الوجوه وذلك بإثبات كمال الشح فيهم وجاز ان يقال فيه تعريض بان انكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لو نفع انما ينفع لمن خاف فوت ملكه بظهور نبوته فانكار من لا نصيب له من الملك فى غاية السفه فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) يعنى ان كان لهم نصيب من الملك فاذن لا يؤتون أحدا ما يوازى نقيرا لغاية بخلهم وكما شحّهم فكيف يؤتيهم اللّه تعالى الملك وجاز ان يكون المعنى انهم لو كانوا ملوكا بخلوا بالنقير فما ظنكم بهم إذا كانوا أذلاء متفاقرين فهو بيان لغاية بخلهم والنقير هو النقرة فى ظهر النواة وهو مثل فى القلة كالفتيل ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 144
اخرج ابن أبى حاتم عن ابن عبّاس انه قال أهل الكتاب يزعم محمد انه اوتى ما اوتى فى التواضع وله تسع نسوة وليس همه الّا النكاح فاىّ ملك أفضل من هذا فانزل اللّه تعالى.(1/1461)
أَمْ بل يَحْسُدُونَ الآية أى اليهود واخرج ابن سعد عن عمر مولى عفرة ابسط منه النَّاسَ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة المراد بالناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء كما مرّ وقيل المراد به محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وقال قتادة المراد بالناس العرب حسدهم اليهود على النبوة وما أكرمهم اللّه تعالى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل المراد بالناس الناس أجمعون لان من حسد النبوة فكأنّما حسد الناس كلهم كمالهم ورشدهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعنى النبوة والكتاب ورضوان اللّه تعالى والنصر على الأعداء والإعزاز فى الدنيا والنساء وغير ذلك مما يشتهونه فى الدنيا من الحلال وجعل النبىّ الموعود منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم وأبناء جده يعنى إسماعيل وإسحاق ويعقوب وسائر أنبياء بنى يعقوب عليهم السّلام الْكِتابَ التورية والإنجيل والزبور واللام للجنس وَالْحِكْمَةَ العلم اللدني أو العلوم التي اعطوا مما سوى الكتاب وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) ملّك يوسف وطالوت وداؤد وسليمان عليهم السلام وغيرهم فلا يبعد ان يعطى محمد صلى اللّه عليه وسلم واتباعه مثل ما اعطوا أو أفضل من ذلك وقد كان لسليمان عليه السلام الف امراة ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان لداود مائة امراة ولم يكن لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم يومئذ الا تسع نسوة قال البغوي فلما قال اللّه تعالى لهم ذلك سكتوا يعنى عن ذكر كثرة نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وغير ذلك من النعماء وجازان يراد بقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً مع كثرة حسادهم وقوتهم كنمرود وفرعون وغيرهما فلم ينفع الحسد للحساد ولم يضر بالمحسودين - .(1/1462)
فَمِنْهُمْ أو من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه أو بما ذكر من حديث ال ابراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أى اعرض عنه ولم يؤمن وقال السدى الضمير المجرور فى آمَنَ بِهِ وصَدَّ عَنْهُ راجع إلى ابراهيم وذلك ان ابراهيم زرع ذات سنة وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع ابراهيم عليه السلام فاحتاج إليه الناس فكان يقول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 145
من أمن بي أعطيته فمن أمن به أعطاه ومن لم يؤمن به منعه والمعنى على هذا ان لم يوهن عدم ايمان بعض الناس بإبراهيم امر ابراهيم فكذا لا يوهن كفر هؤلاء الأشقياء أمرك وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) أى نارا مسعور لا موقدة يعذبون بها من ان يعجلوا بالعقوبة بالدنيا - .(1/1463)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كالبيان والتقرير لما سبق كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أى احترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بان يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى كقولك بدلت الخاتم قرطا أو بان يزال عنه اثر الإحراق ليعود إحساسه بالعذاب وهو المعنى من قول ابن عبّاس يبدلون جلودا بيضاء كامثال القراطيس ذكر عنه البغوي وكذا أخرج ابن أبى خاتم فى الآية عن ابن عمر واخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عمر قال قرئ عند عمر هذه الآية فقال معاذ عندى تفسيرها يبدل فى ساعة مائة مرة فقال هكذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفى رواية أبيّ مكان معاذ واخرج ابن مردوية وأبو نعيم فى الحلية من وجه اخر بلفظ تبدل فى الساعة الواحدة عشرون ومائة مرة وأخرجه البيهقي من وجه ثالث بلفظ تحرق وتجدد فى مقدار ساعة ستة آلاف مرة واخرج البيهقي عن الحسن فى الآية قال تأكل النار كل يوم سبعين الف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا - واخرج ابن أبى الدنيا عن حذيفة ان فى جهنم سباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار وسيوفا من نار وانه يبعث ملائكة يعلقون أهل النار بتلك الكلاليب بأحقابهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونهم إلى تلك السباع والكلاب كلما قطعوا عضوا عاد مكانه عضو جديد قلت يعنى عضوا جديدا من اجزاء العضو السّابق جلدا جديدا من اجزاء الجلد السّابق وقيل يخلق مكانه جلدا اخر والعذاب فى الحقيقة للنفس العاصية المدركة لالالة إدراكها فلا محذور ، قال عبد العزيز بن يحيى ان اللّه عز وجل يلبس أهل النار جلودا لا تألم فيكون زيادة عذاب عليهم كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره كما قال سرابيلهم من قطران فالسّرابيل تؤلمهم وهى لا تألم لِيَذُوقُوا أى ليدوم لهم « 1 » ذوق الْعَذابَ اسناد الذوق إلى الكفار دون الجلود يؤيد قول عبد العزيز ومن قال ان(1/1464)
العذاب للنفس العاصية واللّه اعلم - عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما بين منكبى الكافر مسيرة ثلاثة ايام
_________
(1) فى الأصل له -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 146
للراكب المسرع رواه البخاري ومسلم وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث رواه مسلم ، واخرج ابن المبارك عنه بلفظ ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعلمون لتمتلى جهنم منهم وليذوقوا العذاب وعند الترمذي والبيهقي فخذه مثل البيضاء ومقعده من جهنم ما بين مكة والمدينة وغلظ جلده اثنان وأربعون ذراعا وعند احمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عرض جلده سبعون ذراعا وعضده مثل البيضاء وفخذه مثل ورقان ، وعن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يعظم أهل النار فى النار حتى ان بين شحمة اذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وان غلظ جلده سبعون ذراعا وان فرسه مثل أحد واخرج الترمذي والبيهقي وهنا دعنه مرفوعا ان الكافر ليجر لسانه الفرسخين وعند الترمذي الفرسخ والفرسخين واخرج احمد والحاكم عن ابن عباس بين شحمة اذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة أربعين خزيفا يجرى فيه اودية من القيح والدم قيل انهار قال لابل اودية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريده حَكِيماً (56) يعاقب على وفق حكمته.(1/1465)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أخرج الحاكم وصحّحه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال مطهرة من الحيض والغائط والنخامة والبزاق واخرج هناد عن مجاهد قال مطهرة عن الحيض والغائط والبول والمخاط والبصاق والنخام والولد والمنى وعن عطاء مثله. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلّها مائة عام ما يقطعها اقرءوا ان شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ متفق عليه وزاد احمد فى آخره وان ورقها ليخمر الجنة واخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن انس فى قوله تعالى وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال هو ظل العرش الذي لا يزول والظليل صفة مشتقة من الظلّ للتأكيد كقولهم شمس شامس وليل لئيل ويوم ايوم وفيه اشارة إلى دوام نعماء الجنة واللّه اعلم - أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال ادّنى المفتاح فاتاه به فلما بسط يده قام العباس فقال يا رسول اللّه بابى أنت وامّى اجمعه لك مع السقاية وخلف عثمان يده فقال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 147
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان فقال هات بامانة اللّه فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه بردّ المفتا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 128(1/1466)
الإنبات أيضا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولما كانت الطهارة فى الصعيد شرطا بدليل قطعىّ نصّ الكتاب والإجماع قال أبو حنيفة إذا تنجس الأرض ثم تطهر باليبس يجوز عليها الصلاة ولا يجوز بها التيمم لان ذكوة الأرض يبسها ثبت بحديث الآحاد فلا يتادّى بها ما ثبت اشتراطها بدليل قطعى وقالت الائمة الثلاثة لا يجوز عليها الصلاة أيضا وحديث ذكوة الأرض يبسها لا يعرف والمعتمد عليه عندى للحكم بطهارة الأرض بيبسها ما رواه البخاري عن حمزة بن عبد اللّه قال كانت الكلاب بتول وتقبل وتدبر فى المسجد فى زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم يرشون شيئا من ذلك وهكذا فى سنن أبى داود والإسماعيلي وابى نعيم « 1 » والبيهقي واللّه اعلم فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ الباء زائدة واستيعاب الوجه بالمسح فريضة اجماعا وَأَيْدِيكُمْ اليد اسم للعضو إلى المنكب ولذلك حكى عن الزهري ان الواجب فى التيمم المسح إلى الآباط وكذا حكى عن الصحابة انهم بعد نزول هذه الآية مسحوا إلى الآباط والمناكب وذلك قبل تعليم رسول الله صلى اللّه عليه وسلم مراد اللّه تعالى بهذه الآية ، عن عمار بن ياسر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرّس بذات الجيش ومعه عائشة فانقطع عقدتها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدتها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فانزل اللّه تعالى على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيّب فقام المسلمون فضربوا الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم يفيضوا من التراب شيئا فمسحوا بها وجوههم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط رواه ابن الجوزي من طريق احمد وروى ابن ماجة بلفظ فتيممنا إلى المناكب وفى رواية له فتيممنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المناكب لكن ظهر بتعليم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالإجماع ان جميع اليد ليس بمراد فهى مجمل فى المقدار فبيّن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان مقدار اليد فى التيمم مقدارها(1/1467)
فى الوضوء يعنى إلى المرفقين - عن عمار قال « 2 » كنت فى القوم حين نزلت اية التيمم فامرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضربنا واحدة للوجه ثم ضربة اخرى لليدين إلى المرفقين رواه البزار ذكر الحافظ ابن حجر فى تخريج أحاديث الرافعي ولم يطعن فيه وروى أبو داود من حديث عمار انه قال إلى المرفقين لكن فى سنده قال قتادة حدثنى محدث عن الشعبي وذلك المحدث مبهم الّا ان لفظ المحدث يدل على توثيقه فلا بأس به وقد مرّ حديث الاسلع فى شأن نزول الآية قال فارانى
_________
(1) فى الأصل أبو نعيم
(2) فى الأصل قال قال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 129(1/1468)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التيمم ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين لكن فى سنده ربيع ابن بدر ضعيف غير انه يعضد حديث عمار والتحق حديث عمار واسلع بيانا للاية (مسئلة) وبناء على هذا قال أبو حنيفة والشافعي الواجب فى التيمم المسح إلى المرفقين ويؤيد هذا المذهب حديث جابر قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال أصابتني جنابة وانى تمعكت فى التراب فقال عليه السلام التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين وفى رواية ضرب بيده الأرض فمسح وجهه ثم ضرب يديه فمسح بهما إلى المرفقين رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال الدارقطني رجاله كلهم ثقات وحديث ابن الصمة قال مررت على النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد علىّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده فمسح وجهه وذراعيه رواه الشافعي والنسائي من طريقه وقال النسائي حديث حسن فان قيل فيه أبو عصمة وتابعه أبو خارجة قال ابن الجوزي يتكلم فيهما وفيه أبو الحويرث قال الحافظ فيه من الضعف قلت هذه الثلاثة لم يتهم أحد منهم بالكذب فارتقى الحديث إلى درجة الحسن وهذا الحديث فى الصحيحين فمسح بوجهه ويديه وحديث عبد الله بن أبى اوفى سئل عن التيمم قال امر النبي صلى اللّه عليه وسلم عمارا ان يفعل هكذا وضرب بيديه الأرض ثم نفضهما ومسح على وجهه ويديه وفى رواية ومرفقيه مكان يديه رواه ابن ماجة ولم يخرج الذهبي فى الضعفاء أحدا من رجال هذا السند الا انه قال عثمان بن أبى شيبة شيخ للبخارى تكلم فيه وهو صدوق فالحديث حسن وفى الباب أحاديث أخر ضعاف منها حديث ابن عمر مثل حديث ابن الصمة رواه أبو داود ومداره على محمد بن ثابت وهو ضعيف وعنه وعن عائشة قوله صلى اللّه عليه وسلم التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي وفى حديث ابن عمر على بن ظبيان(1/1469)
ضعّفه القطان وابن معين وقال الحاكم صدوق وروى أيضا من طريق سليمان ابن داود وهو متروك وفى حديث عائشة الحريش بن الحريث قال أبو حاتم منكر الحديث وعن ابن عمر أيضا تيممنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ضربنا بايدينا على الصعيد الطيب ثم نفضنا أيدينا فمسحنا بها وجوهنا ثم ضربنا ضربة اخرى فمسحنا من المرافق إلى الأكف رواه الدارقطني وفيه سليمان بن أرقم متروك وفى الباب حديث أبى امامة رواه الطبراني واسناده ضعيف وقال مالك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 130(1/1470)
و احمد يجوز فى التيمم الاقتصار على ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيّه لحديث عمار قال كنت فى سرية فاجتنبت فتمعكت فى التراب فلما أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال انما يكفيك هكذا وضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بيده إلى الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه وفى رواية عنه ان نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فى التيمم ضربة للوجه والكفين رواهما احمد وفى الصحيحين بطرق فبعض ألفاظ البخاري انما كان يكفيك هكذا فضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بكفية الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وروى مسلم انما يكفيك ان تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك وعند البخاري يكفيك الوجه والكفين قلت حديث الصحيحين يدل على ان عمّارا وقت نزول الآية لم يعرف ان التيمم يكفى للمجنّب وانما علم حينئذ انه للمحدث ولذلك تمعك للجنابة قياسا عليه قالوا ما رواه الشيخان من حديث عمار أقوى ، قلنا وان كان أقوى من كل واحد واحد ممّا ذكرنا من الأحاديث لكن أحاديثنا لكثرة الرواة وطرق شتى صحيحة وضعيفة يبلغ فى القوة مبلغ حديث الصحيحين فتعارضا فرجّحنا بوجوه أحدها ان ما احتج به احمد متاخر عن وقت نزول الآية والمتأخر لا يصلح بيانا لمجمل الكتاب إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة فلو حمل هذا الحديث على ظاهره لكان ناسخا لكتاب اللّه ولا يجوز نسخ الكتاب بحديث الآحاد فيسقط حديث الصحيحين لاجل معارضة الكتاب وامّا أحاديثنا فمنها ما هو صريح فى كونه بيانا للاية مقارنا لنزولها فالتحق بالكتاب بيانا وثانيها بان حديث الصحيحين يحتمل التأويل(1/1471)
بان يقال اطلق الكف وأريد به اليد مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكل أو يقال انما أراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيان صورة الضرب ونفى التمعك وليس المراد به بيان جميع ما لا بد منه للتيمم كما قال فى الغسل انما يكفيك ان تحثى على راسك ثلاث حثيات ولم يذكر فيه المضمضة والاستنشاق وغسل جميع البدن لان المقصود هناك بيان عدم الحاجة إلى نقض الضفائر ثالثها بانه إذا تعارض الحديثان سقطا وعملنا بالقياس على الوضوء رابعها الاخذ بالاحتياط - (مسئلة) قال أبو حنيفة يجوز التيمم لخوف فوت ما يفوت لا إلى خلف كصلوة العيد ابتداء وبناء وصلوة الجنازة لغير الولي لا لخوف فوت الوقت والجمعة وقال مالك والشافعي لا يجوز لخوف فوت العيد والجنازة لعدم الضرورة فى إتيانهما فان صلوة العيد ليست بواجبة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 131(1/1472)
عندهما بل سنة وصلوة الجنازة فرض كفاية يتادى بغيره ويجوز لخوف فوت الوقت والجمعة لكن عند الشافعي يجب الاعادة أيضا وقال احمد لا يجوز لخوف فوت شىء منها لان طهورية الصعيد مشروطة بعدم وجدان الماء ولم يوجد والحجة لابى حنيفة انه صلى اللّه عليه وسلم تيمم لردّ السّلام كما مرّ - (مسئلة) إذا وجد الماء بعد الصّلوة فى الوقت بالتيمم لا يجب عليه الاعادة وان كان الوقت باقيا وقال عطاء وطاؤس ومكحول وابن سيرين والزهري يجب الاعادة لنا حديث أبى سعيد الخدري ان رجلين خرجا فى سفر فحضرت الصّلوة وليس معهما ماء فتيمّما صعيدا طيّبا وصلّيا ثم وجدا الماء فى الوقت فاعاد أحدهما الوضوء والصلاة ولم يعد الاخر فاتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذى لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلوتك وقال للذى أعاد لك الاجر مرتين رواه أبو داود والنسائي والحاكم والدارمي - (مسئلة) من كان بعض أعضائه صحيحا وبعضه جريحا يغسل الصحيح ويتيمم للجريح عند الشافعي واحمد وهو المختار عندى للفتوى وقال أبو حنيفة ومالك ان كان الأكثر صحيحا يغسل الصحيح ويمسح على الجريح ولا يتيمم والا يتيمم ولا يغتسل لنا انه صحيح بعض أعضائه وهو واجد للماء من وجه فلا يسقط غسله ومريض من وجه حيث لا يقدر على استعمال الماء فى جميع بدنه فيتيمم ويؤيده حديث جابر قال خرجنا فى سفر فاصاب رجلا حجر فشجّه فى رأسه ثم احتلم فسال أصحابه هل تجدون لى رخصة فى التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتلوه قتلهم اللّه الا سالوا إذا لم يعلموا فان شفاء العي السؤال انما كان يكفيه ان يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده رواه الدارقطني ومن طريقه ابن الجوزي - (مسئلة) يجوز بتيمم واحد صلوات كثيرة ما لم يحدث أو يجد الماء وقال الشافعي واحمد يجب ان يتمم لوقت كل(1/1473)
صلوة ، لنا قوله صلى اللّه عليه وسلم الصعيد الطيّب وضوء المسلم وان لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمس بشرته فان ذلك خير رواه اصحاب السّنن من حديث أبى ذرّ قال الترمذي حديث صحيح احتج الشافعي بقول ابن عباس من السنة ان لا يصلى بالتيمم اكثر من صلوة واحدة رواه الدارقطني والبيهقي قال الرافعي قول الصحابي من السنة ينصرف إلى سنة الرسول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 132
صلى الله عليه وسلم فله حكم الرفع وفى الباب اثر على رواه ابن أبى شيبة وعن عمرو بن العاص موقوفا انه كان يتيمم لكل صلوة وبه كان يفتى قتادة روى الدارقطني بسنده عن قتادة وكان ابن عمر يتيمّم لكل صلوة رواه البيهقي قلنا لا يصح شىء من هذه الآثار امّا اثر ابن عباس قال ابن الجوزي فيه أبو يحيى عن حسن بن عمارة وهما متروكان وقال الحسن ضعيف جدّا وامّا اثر على ففيه الحجاج بن ارطاة تركه ابن مهدى والقطان وقال احمد والدارقطني لا يحتج به وقال ابن معين والنسائي ليس بالقوى وامّا اثر عمرو بن العاص فهو منقطع بين قتادة وعمر وإرسال شديد وامّا اثر ابن عمر ففيه عامر الأحول مختلف فيه ليّنه احمد وغيره ووثقه أبو حاتم ومسلم ثم هذه الآثار لا يعارض المرفوع الصحيح وأيضا نحملها على الاستحباب وقول ابن عباس(1/1474)
من السنة يعنى مستحب ليس بواجب - (مسئلة) فاقد الطهورين لا يصلى عند أبى حنيفة ومالك وعليه القضاء عند أبى حنيفة دون مالك وعند الشافعي واحمد يصلى ويجب عليه الاعادة عند الشافعي دون احمد إذا وجد الماء لنا هذه الآية حيث قال ولا جنبا يعنى لا تقربوا الصلاة جنبا الّا عابرى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية نهى عن الصلاة جنبا وجعل غاية النهى الغسل لواجد الماء والتيمم للفاقد فبقى فاقد الطّهورين داخلا فى النهى لعدم الغاية فان قيل المسافر خارج عن النهى قلنا انما هو المسافر المتيمم ولو لا ذلك لجاز للمسافر الصلاة بغير تيمم ويمكن للشافعى ان يقول الخارج عن النهى المسافر مطلقا ثم أوجب عليه التيمم ويشترط لوجوب التيمم القدرة على الصعيد كيلا يلزم التكليف بما لا يطاق فإذا لم يقدر على الصعيد سقط عنه التيمم وبقي خارجا عن النهى ولنا أيضا قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقبل اللّه صلوة الا بطهور رواه الترمذي والصلاة نكرة فى حيّز النفي فهو عام والقول بانه محمول على من يقدر على الطهور تخصيص للنصّ بلا دليل ولنا أيضا حديث عمار بن ياسر قال لعمر بن الخطّاب اما تذكر انا كنا على سفر انا وأنت فاصابتنا جنابة فامّا أنت فلم تصل وامّا انا فتمعكت فى التراب فصليت فذكرت ذلك للنبىّ صلى اللّه عليه وسلم فقال انما يكفيك هكذا متفق عليه حيث لم ينكر النبي صلى اللّه عليه وسلم على عمر لاجل ترك الصلاة واحتج الشافعي بحديث عائشة انها استعارت من اسماء قلادة فهلكت فارسل رسول اللّه صلى عليه وسلم ناسا من أصحابه فى طلبها فادركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء فلما أتوا النبي صلى اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 133(1/1475)
عليه وسلم شكوا ذلك إليه فنزلت اية التيمم فقال أسيد بن حضير جزاك اللّه خيرا فو اللّه ما نزل بك امر قطّ الا جعل اللّه لك منه مخرجا وجعل للمسلمين فيه بركة متفق عليه وفى رواية فقام رسول الله صلى اللّه عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فانزل اللّه اية التيمم فتيمّموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هى باوّل بركتكم يا ال أبى بكر قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقدة فيه والجواب ان هذا الحديث حجة لنا لا علينا حيث لم ينقل انه صلى اللّه عليه وسلم صلّى وانما فعلوا ذلك بآرائهم ولو كانت الصّلوة جائزة لما تيمّموا بعد نزول الآية وقول الشافعي بوجوب إعادة الصّلوة مع وجوب الصّلوة بلا طهور باطل على قاعدة الأصول فان سبب الوجوب الوقت واحد لا يتصوّر ان يكون سببا لتكرار الواجب وقول مالك لا قضاء عليه لأنه لا تقصير من جانبه فى ترك الصّلوة أيضا باطل لان قوله صلى اللّه عليه وسلم ما فاتكم فاقضوا امر بالقضاء عند الفوات اعمّ من ان يكون بتقصير منه اولا ، الا ترى انّ وجوب القضاء على النائم مجمع عليه مع انه لا تقصير منه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا حيث يسّر الأمر لكم ورخّص لكم غَفُوراً (43) يغفر لكم ما شربتم المسكر وصليتم فى السّكر ومع الجنابة قبل نزول هذه الآية واللّه اعلم أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضى اللّه عنهما انه قال كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لوّى لسانه وقال راعنا سمعك يا محمّد حتى نفهمك ثم طعن فى الإسلام وعابه وذكر البغوي عن ابن عباس قال فى رفاعة بن زيد ومالك ابن دحشم نزلت.(1/1476)
أَ لَمْ تَرَ خطاب لغير معيّن يدل عليه قوله تضلّوا وأعدائكم أو خطاب لسيّد القوم فى مقام خطابهم والرواية مجاز عن النظر والّا فالرؤية سواء كان من البصر أو القلب لا يتعدى بالى ويحتمل تضمين معنى النظر على انها روية البصر أو تضمين معنى الانتهاء سواء كانت الرؤية من البصر أو القلب ولذا عدى بالى حيث قال إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعنى يهود المدينة وتنكير نصيبا للتحقير يعنى أوتوا حظّا يسيرا من الكتاب أى التوراة وهو القراءة باللسان دون التفقه والإذعان بالجنان يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ أى الكفر بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم يستبدلونها بالهداية التي كانوا عليها قبل البعثة فانهم كانوا يؤمنون بالنبي الأمي المبعوث فى اخر الزمان وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ، أو المعنى يستبدلون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 134
الضلالة بالهداية التي تمكنوا على تحصيلها باتباع النبي صلى اللّه عليه وسلم وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أيها المؤمنون السَّبِيلَ (44) إلى الحق والاستفهام للتقرير والتعجيب والتحذير يعنى قد رأيت وعلمت عداوتهم بك وبالمؤمنين مع علمهم بكونك على الحق فاحذرهم فانّ أعدى الأعداء من أراد بكم الضلالة الموجبة للهلاك الابدى ولا تستنضحوهم فى أموركم.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ هذه الجملة تأكيد للتحذير وَكَفى بِاللَّهِ الباء زائدة فى المرفوع لتأكيد الاتصال الاسنادى بالاتصال الإضافي لافادة زيادة حرف الإلصاق لزوم الكفاية للفاعل وَلِيًّا فى النفع يلى أموركم وينفعكم وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) فى دفع الضر يكفيكم مكرهم وينصركم عليهم فاكتفوا به عن غيره فى الولاية والنصرة فانه اعلم واقدر فثقوا به ولا تتولوا ولا تستنصروا غيره ووليا ونصيرا منصوبان اما على التمييز واما على الحال.(1/1477)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل متصل بما قبله بيان ل الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أو بيان لاعدائكم أو متعلق بقوله نصيرا أى ينصركم من الذين هادوا فعلى هذا قوله يُحَرِّفُونَ حال متداخل أو مترادف لما قبله وقيل مِنَ الَّذِينَ هادُوا كلام مستانف ظرف مستقر مسند إلى مقدر بعده تقديره من الّذين هادوا فريق يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ جمع كلمة وقيل اسم جنس وليس بجمع يدل عليه تذكير الضمير الراجع إليه فى قوله تعالى عَنْ مَواضِعِهِ وأجيب بانّ تقديره يحرّفون بعض الكلم عن مواضعه واختار التفتازانيّ كونه اسم جنس وقال من نفى كونه جمعا نفى كونه جمعا اصطلاحا ومن اثبت الجمعية أراد انه جمع معنى ولؤيد كونه كلاما مستانفا قراءة ابن مسعود ومن الّذين هادوا بزيادة الواو وما فى مصحف حفصة من الّذين هادوا من يحرّقون الكلم أى يغيرونها ويزيلونها عن مواضعها التي وضعها اللّه تعالى فيها من التوراة والمراد بالكلم نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم لما روى البيهقي عن ابن عباس قال وصف الله تعالى محمدا صلى اللّه عليه وسلم فى التورية اكحل أعين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حسده أحبار يهود فغيّروا صفته فى كتابهم وقالوا لا نجد نعته عندنا وقالوا نجد النبي الأمي طويلا ازرق سبط الشعر وقالوا للسفلة هذا ليس هذا فلبسوا بذلك على الناس وانما فعلوا ذلك لان الاخبار كانت لهم ما كلمة يطعمهم إياهم السفلة فخافوا ان تؤمن السفلة « 1 » فيتنقطع
_________
(1) فى الأصل ان يومنوا السفلة [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 135(1/1478)
تلك المأكلة وقال البغوي قال ابن عبّاس كانت اليهود يأتون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسئلونه عن الأمر فيخبرهم فيرى انهم يأخذون بقوله فإذا انصرفوا من عنده حرفوا كلامه فعلى هذا المراد بالكلم مطلق الكلم وقيل معنى تحريف الكلم من التوراة عن مواضعه تأويله على ما يشتهونه غير ما أراد الله تعالى منها كما يفعل أهل الأهواء من هذه الامة فى القرآن وجاز ان يكون معنى تحريف الكلم ان يقولوا كلمة ذات جهتين يحتمل المدح والذم والتوقير والتحقير فيظهرون المدح ويضمرون به الذم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا عطف على قوله يحرّفون وليس هذا من جملة التحريفات ان كان المراد تحريف التوراة والمعنى انهم يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم هذا فهو بيان لكفرهم حيث يقولون لا نطيعك بعد السماع وجاز ان يكون المعنى يقولون عند أصحابهم سمعنا قول محمد وعصيناه أو يكون قولهم سمعنا عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وعصينا عند قومهم فهو بيان لنفاقهم وجاز ان يكون هذا بيانا لبعض تحريفاتهم حيث يقولون بحضرة النبي صلى اللّه عليه وسلم سمعنا وهى كلمة ذات جهتين يعنى سمعنا سماع اجابة ويريدون به سماعا بلا اجابة وجاز ان يكون قوله تعالى حكاية عنهم سمعنا وعصينا كناية عن تحقق عصيانهم بعد السماع فانّ المحقق نزل منزلة القول يعنى انهم يسمعونك ثم يعصونك وَاسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ قيل كانوا يقولون للنبى صلى اللّه عليه وسلم اسمع ثم يقولون فى أنفسهم لا سمعت دعاء عليه بالصمم أو الموت والظاهر انهم كانوا يقولون ذلك جهارا وهى كلمة ذات جهتين يحتمل التعظيم والدعاء أى اسمع غير مسمع مكروها من قولهم اسمع فلان فلانا أى سبّه ويحتمل السبّ أى اسمع منا ندعوا عليك بلا سمعت أو غير مسمع جوابا ترضاه أو اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أو اسمع كلاما غير مسمع إياك لان اذنك تأبى عنه فيكون مفعولا به وَراعِنا هذه أيضا كلمة ذات(1/1479)
الجهتين فانّ معناه بالعربية ارقبنا وانتظرنا نكلمك ومعناه بالعبرانية أو السّريانية السبّ فانهم كانوا يتسابّون بما يشبه ذلك يقولون راعينا فكانوا يقولون ذلك سخرية بالدّين وهزوا برسول ربّ العالمين صلى الله عليه وسلم لعنهم اللّه أجمعين لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ مفعول له لقوله تعالى يقولون يعنى يقولون ذلك لان يفتلوا بألسنتهم الحق بالباطل والتوقير فى الظاهر بالشتم المضمر وَطَعْناً فِي الدِّينِ أى لاجل الطعن فى الدين حيث يقولون لو كان نبيّا حقّا لاخبر بما اضمرنا فيه ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 136(1/1480)
وَ لَوْ ثبت أَنَّهُمْ قالُوا سرّا وعلانية سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان قولهم سمعنا وعصينا وَاسْمَعْ بغير الحاق غير مسمع وَانْظُرْنا مكان راعنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أى اعدل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى خذلهم وابعدهم عن الهدى بِكُفْرِهِمْ أى بسبب كفرهم فذلك اللعنة موجب لعدم توفيقهم إلى ما هو خير لهم واعدل فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) منصوب على المصدرية أو على الظرفية يعنى الّا ايمانا قليلا وتصديقا لا يعبا به شرعا - وذلك الايمان ببعض الكتب وبعض الرسل أو الايمان فى الظاهر بالنفاق ويجوزان يراد بالقلة العدم وقيل معناه الا قليلا منهم كعبد اللّه بن سلام ويتجه عليه ان نصب المستثنى فى الكلام المنفي غير مختار عند النحاة وان جوّزه ابن الحاجب مع ان القراء متفقون على النصب وأيضا لا بدّ حينئذ حمل قوله تعالى لعنهم على لعن أكثرهم وقال التفتازانيّ هو استثناء من قوله تعالى لَعَنَهُمُ اللَّهُ واللّه اعلم - أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد اللّه بن صوريا وكعب بن أسيد فقال لهم يا معشر يهود اتقوا اللّه واسلموا فو اللّه انكم لتعلمون ان الذي جئتكم به لحق فقالوا ما نعرف ذلك يا محمد وأصروا على الكفر فانزل اللّه تعالى.(1/1481)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ التورية آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على محمد من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التورية مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً التنوين عوض للمضاف إليه أى وجوهكم اصل الطمس ازالة الأثر والمعنى نمحوا اثار الوجوه من الانف والعين والفم والحاجب فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أى نجعلها كالاقفاء وقيل نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لان منابت شعور الآدميين فى ادبار وجوههم قال ابن عباس نجعلها كخف البعير وقال قتادة والضحّاك نعميها والمراد بالوجه العين فان قيل قد وعدهم اللّه تعالى بالطمس ان لم يؤمنوا يدل على ذلك ما روى ان عبد اللّه بن سلام رضى اللّه عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل ان يأتى اهله ويده على وجهه واسلم وقال يا رسول الله ما كنت ارى ان اصل إليك حتى يتحول وجهى فى قفائى وكذلك ما روى عن كعب الأحبار لما سمع هذه الآية اسلم فى زمن عمر فقال يا ربّ امنت يا رب أسلمت مخافة ان يصيبه وعيد هذه الآية
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 137(1/1482)
لكنهم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك قلنا قيل هذا الوعيد يأتى ويكون طمس ومسخ فى اليهود قبل قيام السّاعة وقيل كان وعيدا بشرط عدم ايمان كلهم فلمّا اسلم عبد اللّه بن سلام وأصحابه رفع ذلك من الباقين وقيل أوعدهم اللّه بأحد الامرين على سبيل منع الخلو بالطمس أو اللعن وقد لعنوا فثبت الوعيد والصحيح عندى انه يطمسهم يوم القيامة ان لم يؤمنوا - أخرج ابن عساكر والخطيب عن معاذ بن جبل ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً قال يحشر أمتي عشرة أفواج صنف على صورة القردة وصنف على صورة الخنازير وصنف على صورة الكلاب وصنف على صورة الحمر الحديث وقد ذكرنا فى تفسير تلك الآية وقال مجاهد أراد بقوله نَطْمِسَ وُجُوهاً أى نتركهم فى الضلالة فيكون المراد طمس وجه القلب والرد عن بصائر الهدى لكن يرد عليه ان ذلك التأويل يقتضى كون قلوب اليهود نقية قبل ذلك وقال ابن زيد معناه نمحو اثارهم من المدينة فنردها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاءوا منه وهو الشام ، وقد مضى تأويله بإجلاء بنى نضير إلى أذرعات وأريحا بالشام أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ من اليهود على لسان داود وعيسى بن مريم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) نافذا كائنا لا محالة لا يقدر أحد على دفعه - أخرج الطبراني وابن أبى حاتم عن أبى أيوب الأنصاري قال جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ان لى ابن أخ لا ينتهى عن الحرام قال وما دينه قال يصلى ويوحّد قال استوهب منه دينه فان أبى فاتبعه منه فطلب الرجل ذلك منه فابى عليه فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال وجدته شحيحا على دينه فنزلت.(1/1483)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ تعالى فى وجوب الوجود أو العبادة إذا مات وهو مشرك وامّا إذا تاب عن الشرك وأمن فيغفر له ما قد سلف منه من الشرك وغيره اجماعا لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له يعنى كأنَّه لم يصدر عنه ذلك الذنب قط قال اللّه تعالى قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ يعنى ما سوى الشرك من الذنوب صغيرة كانت أو كبيرة صدرت عنه خطأ أو عمدا وان مات مذنبا لم يتب لِمَنْ يَشاءُ تعميم المغفرة لما دون الشرك وتقييدها بالمشية مبطل لمذهب المرجئة حيث قالوا بوجوب المغفرة لكل ذنب وقالوا لا يضر ذنب مع الايمان كما لا ينفع عمل مع الشرك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 138(1/1484)
و مذهب المعتزلة حيث قيّدوا مغفرة الذنوب بالتوبة فان الآية تدل على نفى التقييد بالتوبة لان سوق الكلام للتفرقة بين حال المشرك والمذنب والتقييد بالمشية يبطل القول بوجوب المغفرة للتائب ووجوب التعذيب لغيره فان قيل التقييد بالمشية لا ينافى الوجوب بل يستلزم وجوب المشية بعد ثبوت المغفرة قلنا فحينئذ لا فائدة فى هذا التقييد ومذهب الخوارج حيث قالوا كل ذنب شرك صاحبه مخلد فى النار أخرج أبو يعلى وابن المنذر وابن عدى بسند صحيح عن ابن عمر قال كنا نمسك عن الاستغفار لاهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى اللّه عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قال انى ادخرت دعوتى شفاعتى لاهل الكبائر من أمتي فامسكنا عن كثير ممّا كان فى أنفسنا ثم نطقنا بعد ورجونا قال البغوي ناقلا عن الكلبي انّ الآية نزلت فى وحشي بن حرب وأصحابه وذلك انه لمّا قتل حمزة كان قد جعل له على قتله ان يعتق فلم يوف له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على ما صنع هو وأصحابه فكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا قد ندمنا على ما صنعنا وانه ليس يمنعنا عن الإسلام الا انا سمعناك تقول وأنت بمكة وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآيات وقد دعونا مع اللّه الهة وقتلنا النّفس الّتى حرم اللّه تعالى وزنينا فلو لا هذه الآيات لاتبعناك فنزلت إِلَّا مَنْ تابَ ... « (1/1485)
1 » وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً الآيتين فبعث بهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إليهم فلما قرءوا كتبوا إليه انّ هذا شرط شديد نخاف ان لا نعمل عملا صالحا فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية فبعث بها إليهم فبعثوا إليه انا نخاف ان لا نكون من أهل مشية فنزلت يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية فبعث بها إليهم فدخلوا فى الإسلام ورجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فتقبل منهم ثم قال للوحشى أخبرني كيف قتلت حمزة فلمّا أخبره فقال ويحك غيب وجهك عنى فلحق الوحشي بالشام وكان بها إلى ان مات فان قيل هذه القصّة يدل على نسخ تقييد المغفرة بالمشية فيثبت مذهب المرجئة قلنا هذا التقييد لا يحتمل النسخ إذ لا يجوز وجود شىء من الأشياء مغفرة كانت أو غيرها بدون مشية اللّه لكن نزول قوله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا فى شأن الوحشي دل على كونه من أهل المشية واللّه اعلم وقال البغوي ناقلا عن أبى مجلز عن ابن عمر انه لما نزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا الآية قام رجل فقال والشّرك يا رسول اللّه فسكت ثم قام اليه
_________
(1) وفى القرآن إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ إلخ -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 139(1/1486)
مرتين أو ثلاثا فنزلت إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ الآية « 1 » - وقال ناقلا عن مطرف بن عبد اللّه ابن الشخير عن ابن عمر قال كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل على كبيرة شهدنا انه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فامسكنا عن الشهادات وقال حكى عن على ان هذه الآية أرجى اية فى القرآن وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى معنى الافراء الإفساد والافتراء استعمل فى الكذب والشرك والظلم كذا فى الصحاح فالمعنى فقد أفسد وكذب إِثْماً منصوب على المصدرية يعنى ارتكب الكذب والفساد كذبا وفسادا عظيما وجازان يكون منصوبا على المفعولية والمعنى على التجريد اختلق اثما عَظِيماً (48) يستحقر دونه الآثام وهذا وجه الفرق بينه وبين سائر الآثام عن جابر رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثنتان موجبتان فقال رجل يا رسول الله ما الموجبتان قال من مات لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك باللّه شيئا دخل النار رواه مسلم وعن أبى ذرّ رضى اللّه عنه قال أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وعليه ثوب ابيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال ما من عبد قال لا اله الا اللّه ثم مات على ذلك الّا دخل الجنة قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق قلت وان زنى وان سرق قال وان زنى وان سرق على رغم انف أبى ذرّ وكان أبو ذر إذا حدث بهذا قال وان رغم انف أبى ذرّ متفق عليه وفى الباب أحاديث كثيرة واللّه اعلم - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس واخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة وابى مالك ومجاهد وغيرهم انه كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون انهم لا خطايا لهم ولا ذنوب فانزل اللّه تعالى.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ الاستفهام للتعجيب(1/1487)
_________
(1) روى أبو يعلى وابن أبى حاتم عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا الّا حلّت له المغفرة ان شاء غفر له وان شاء عذبه ان اللّه استثنى فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ واخرج أبو يعلى عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجز له ومن وعده على عمل عقابا فهو بالخيار واخرج الطبراني عن سلمان قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ذنب لا يغفر وذنب لا يترك وذنب يغفر فامّا الذي لا يغفر فالشرك وامّا الذي يغفر فذنب بينه وبين اللّه وامّا الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 140(1/1488)
من حال من يزكى نفسه لان غرضه من تزكية نفسه اعتلاؤه بين الناس ولا يحصل ذلك بتزكيته نفسه بل يوجب ذلك دناءة فى أعين الناس وانما يحصل الاعتلاء والزكاء بتزكية اللّه تعالى وجعله عاليا ناميا فيما بين عباده ذكر البغوي والثعلبي عن الكلبي انها نزلت فى رجال من اليهود منهم بحرى بن عمرو والنعمان بن اوفى ومرحب بن زيد أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا محمد هل على هؤلاء ذنب فقال لا قالوا ما نحن الا كهيئتهم ما عملنا بالنهار يكفّر عنا بالليل وما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار فانزل اللّه تعالى هذه الآية وقال الحسن والضحّاك وقتادة نزلت فى اليهود والنصارى حين قالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ، قلت وان كان سبب نزول الآية خاصّا لكن الحكم عام وقال ابن مسعود هو تزكية بعضهم لبعض ، روى عن طارق بن شهاب عن ابن مسعود قال انّ الرجل ليغدوا من بيته ومعه دينه فيأتى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّا ولا نفعا فيقول واللّه أنت لذيت وذيت فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شىء ثم قرأ ا لم تر إلى الّذين يزكّون أنفسهم (مسئلة) لا يجوز لاحد ان يزكى نفسه ويثنى عليها وينسبها إلى الطهارة من الذنوب ، وأيضا لا يجوز ان يحكم لغيره بالطهارة الأعلى سبيل حسن الظن المأمور به فان الحكم بغير العلم لا يجوز قال اللّه تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وتزكية نفسه يفضى إلى العجب والكبر المنهيين أيضا وفى نفس الأمر ما لكل أحد عند اللّه تعالى من القرب والثواب لا يعلمه الّا اللّه تعالى ولذلك قال بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي أى يحكم بالطهارة أو يطهر من الذنوب بالمغفرة ويصلح مَنْ يَشاءُ فانه القادر على التطهير وبما ينطوى عليه الإنسان هو العليم الخبير وفيه اشعار بأنه يجوز تزكية نفسه أو غيره باعلام من اللّه(1/1489)
تعالى بتوسط الوحى أو الإلهام بشرط ان لا يكون ذلك على وجه البطر والتكبر فانها من رذائل النفس وهذا هو محمل ما ورد فى الأحاديث قوله صلى اللّه عليه وسلم انا سيد ولد آدم ولا فخر وقد مر فى البقرة وقوله صلى اللّه عليه وسلم واللّه انى لامين فى السّماء أمين فى الأرض لمّا عرّض المنافقون بانه جارّ فى القسمة وقوله صلى اللّه عليه وسلم والله لا تجدون بعدي اعدل عليكم منى رواه الطبراني والحاكم بسند صحيح عن أبى هريرة واحمد عن أبى سعيد وقوله صلى اللّه عليه وسلم أبو بكر وعمر سيّدا كهول أهل الجنة والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة وكذا ما ورد فى كلام الأولياء بناء على الهام من الله تعالى كقول غوث الثقلين قدمى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 141
هذه على رقبة كل ولى اللّه وَلا يُظْلَمُونَ الضمير راجع إلى من يشاء اللّه تزكيته فانهم يثابون على زكائهم ولا ينقص من ثوابهم أو إلى الناس أجمعين المفهوم فى ضمن ما سبق يعنى ان اللّه لا يظلم الناس فى التزكية فتيلا بل لا يزكى الا من يستأهله ولا يترك الا من لا يستأهله أو إلى الذين يزكون أنفسهم فانهم يعاقبون على قدر جريمتهم ولا يظلمون فَتِيلًا (49) فى الصّحاح هو ما تقتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب بها المثل فى الشيء الحقير وقيل هو الخيط الذي فى شق النواة منصوب على المصدر أى لا يظلمون ظلما فتيلا أى ادنى ظلم بقدر الفتيل.(1/1490)
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ يَفْتَرُونَ أى اليهود يكذبون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ انهم ابناؤه واحباؤه أو يغفرهم بالليل ما يعملون بالنهار وبالنهار ما يعملون بالليل وَكَفى بِهِ إلى بافترائهم هذا إِثْماً مُبِيناً (50) ظاهر البطلان لان بطلان كونهم أبناء اللّه واحباؤه بديهي لا يحتاج إلى دليل وقولهم هذا ظاهر فى المأثم من بين سائر اثامهم وجملة كفى به حال بتقدير قد من فاعل يفترون واللّه اعلم قال المفسّرون خرج كعب بن الأشرف فى سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد واقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزل كعب على أبى سفيان فاحسن مثواه ونزلت اليهود فى دور قريش فقال أهل مكة انكم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نامن ان يكون هذا مكرا منكم فان أردت ان نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وأمن بهما ففعل ذلك ثم قال كعب لاهل مكة ليجىء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد ربّ هذا البيت لنجهدنّ على قتال محمّد ففعلوا فنزلت.
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ أخرج الطبراني والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس نحوه واختلفوا فى تفسير الجبت والطّاغوت فقال عكرمة هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون اللّه ويؤيّده ما روينا من القصّة وروى عنه ان الجبت بلسان الحبشة الشيطان قلت لعل ذلك الصنم سمى باسمه وقال أبو عبيدهما كل معبود يعبد من دون اللّه لكن العطف يقتضى المغايرة والتحقيق ان الجبت أصله الجبس وهو الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء والطّاغوت فعلوت من الطغيان والتجاوز
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 142(1/1491)
عن الحد فى الكفر والعصيان أصله طغووت قلبت اللام بالعين ثم قلبت الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار طاغوت كذا فى الصحاح والقاموس فعلى هذا جاز اطلاق الجبت على كل ما لا خير فيه والطاغوت على كل ما تجاوز الحد فى العصيان ولذا سمى بالجبت حيى بن اخطب وبالطاغوت كعب ابن الأشرف كذا قال الضحاك وقال عمرو الشعبي ومجاهد الجبت السحر والطاغوت الشيطان وقال محمد بن سيرين الجبت الكاهن والطاغوت الساحر وقال سعيد بن جبير وأبو العالية بعكس ذلك وروى البغوي بسنده عن قبيصة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال العيافة « 1 » والطرق « 2 » والطيرة « 3 » من الجبت يعنى لا خير فى شىء منها قلت فالظاهر ان المراد بالجبت هاهنا الأوثان إذ لا خير فيها أصلا وبالطاغوت شياطين الأوثان وكان لكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس روى البيهقي عن أبى الطفيل رضى اللّه عنه انه بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد لهدم العزى يوم فتح مكة قال أبو الطفيل فقطع خالد السمرات ثم رجع إلى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال هل رايت شيئا قال لا قال فاتك لم تهدمها فرجع خالد فلما رات السدنة خالدا انبعثوا فى الجبل وهم يقولون يا عزى خبلتيه « 4 » يا عرى عورته والا فموتى برغم فخرجت إليه امراة سوداء عريانة ناشزة الرأس تحثوا لتراب على رأسها ووجهها فجرّد خالد سيفه وهو يقول يا عزى كفرانك لا سبحانك انى رأيت الله قد هانك ، فضربها بالسيف فجزلها باثنتين ثم رجع إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فقال نعم تلك العزى قد يئست ان تعبد ببلادكم ابدا - كذا فى سبيل الرشاد واللّه اعلم أخرج احمد وابن أبى حاتم عن ابن عبّاس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ا لا ترى هذا المنصبر المنبتر من قومه يزعم انه خير منا ونحن أهل الحجيج واهل السدانة واهل السقاية قال أنتم خير منه فنزلت فيهم إِنَّ شانِئَكَ هُوَ(1/1492)
الْأَبْتَرُ ونزلت هذه الآية وَيَقُولُونَ يعنى كعب الأشرف وأصحابه لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة أبى « 5 » سفيان وغيره هؤُلاءِ يعنى
_________
(1) العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وطن نهاية منه رح
(2) الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء نهاية منه رح
(3) الطيرة التشاوم بالشيء وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما نهاية حزرى منه رحمه اللّه تعالى
(4) الخبل الجنون والفساد أصله من النقصان ثم صار الهلاك خبالا نهاية منه رحمه اللّه
(5) فى الأصل أبو سفيان -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 143(1/1493)
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 143
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 143
كفّار مكة أَهْدى أقوم وارشد مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم سَبِيلًا (51) دينا وطريقا واخرج ابن إسحاق عن ابن عباس قال كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبنى قريظة حيى بن اخطب وسلام بن أبى الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبى الحقيق وأبو عمارة وهودة بن قيس وكان سائرهم من بنى النضير فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار اليهود واهل العلم بالكتب الاولى فسئلوهم أ ديننا خير أم دين محمد فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم اهدى منه وممن تبعه فانزل اللّه تعالى هذه الآية إلى قوله ملكا عظيما ، وذكر البغوي انه لمّا سال أبو سفيان كعبا عن ذلك قال كعب اعرضوا على دينكم فقال أبو سفيان نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم الماء ونقر الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد فارق دين ابائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث فقال كعب واللّه أنتم اهدى سبيلا مما عليه محمد.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ابعدهم من رحمته وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ إياه فَلَنْ تَجِدَ أيها المخاطب لَهُ نَصِيراً (52) فى الدنيا فى الحروب وفى الاخرة بدفع العذاب بالشفاعة أو غيرها وفيه ردّ للاستنصار بهم ومخالفتهم مع قريش على محاربة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ثم وصف اللّه تعالى اليهود بالبخل والحسد وهما من شرّ الخصال حيث يمنعون مالهم ويتمنون زوال مال غيرهم فقال.(1/1494)
أَمْ لَهُمْ أى لليهود نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ أم منقطعة ومعنى الهمزة التي فى ضمنها انكار ان يكون لهم نصيب من الملك ونفى ما زعمت اليهود ان الملك سيصير إليهم أو المراد بنصيب من الملك الرياسة التي أنكر اليهود النبوة لخوف فواتها فانكر اللّه تعالى رياستهم لفقد لوازمها وهو السخاء بأبلغ الوجوه وذلك بإثبات كمال الشح فيهم وجاز ان يقال فيه تعريض بان انكار نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لو نفع انما ينفع لمن خاف فوت ملكه بظهور نبوته فانكار من لا نصيب له من الملك فى غاية السفه فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) يعنى ان كان لهم نصيب من الملك فاذن لا يؤتون أحدا ما يوازى نقيرا لغاية بخلهم وكما شحّهم فكيف يؤتيهم اللّه تعالى الملك وجاز ان يكون المعنى انهم لو كانوا ملوكا بخلوا بالنقير فما ظنكم بهم إذا كانوا أذلاء متفاقرين فهو بيان لغاية بخلهم والنقير هو النقرة فى ظهر النواة وهو مثل فى القلة كالفتيل ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 144
اخرج ابن أبى حاتم عن ابن عبّاس انه قال أهل الكتاب يزعم محمد انه اوتى ما اوتى فى التواضع وله تسع نسوة وليس همه الّا النكاح فاىّ ملك أفضل من هذا فانزل اللّه تعالى.(1/1495)
أَمْ بل يَحْسُدُونَ الآية أى اليهود واخرج ابن سعد عن عمر مولى عفرة ابسط منه النَّاسَ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وجماعة المراد بالناس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وحده حسدوه على ما أحل الله له من النساء كما مرّ وقيل المراد به محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وقال قتادة المراد بالناس العرب حسدهم اليهود على النبوة وما أكرمهم اللّه تعالى بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وقيل المراد بالناس الناس أجمعون لان من حسد النبوة فكأنّما حسد الناس كلهم كمالهم ورشدهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعنى النبوة والكتاب ورضوان اللّه تعالى والنصر على الأعداء والإعزاز فى الدنيا والنساء وغير ذلك مما يشتهونه فى الدنيا من الحلال وجعل النبىّ الموعود منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد صلى اللّه عليه وسلم وأبناء جده يعنى إسماعيل وإسحاق ويعقوب وسائر أنبياء بنى يعقوب عليهم السّلام الْكِتابَ التورية والإنجيل والزبور واللام للجنس وَالْحِكْمَةَ العلم اللدني أو العلوم التي اعطوا مما سوى الكتاب وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) ملّك يوسف وطالوت وداؤد وسليمان عليهم السلام وغيرهم فلا يبعد ان يعطى محمد صلى اللّه عليه وسلم واتباعه مثل ما اعطوا أو أفضل من ذلك وقد كان لسليمان عليه السلام الف امراة ثلاثمائة مهرية وسبعمائة سرية وكان لداود مائة امراة ولم يكن لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم يومئذ الا تسع نسوة قال البغوي فلما قال اللّه تعالى لهم ذلك سكتوا يعنى عن ذكر كثرة نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم وغير ذلك من النعماء وجازان يراد بقوله فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً مع كثرة حسادهم وقوتهم كنمرود وفرعون وغيرهما فلم ينفع الحسد للحساد ولم يضر بالمحسودين - .(1/1496)
فَمِنْهُمْ أو من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ بمحمد صلى الله عليه وسلم كعبد اللّه بن سلام وأصحابه أو بما ذكر من حديث ال ابراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أى اعرض عنه ولم يؤمن وقال السدى الضمير المجرور فى آمَنَ بِهِ وصَدَّ عَنْهُ راجع إلى ابراهيم وذلك ان ابراهيم زرع ذات سنة وزرع الناس فهلك زرع الناس وزكا زرع ابراهيم عليه السلام فاحتاج إليه الناس فكان يقول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 145
من أمن بي أعطيته فمن أمن به أعطاه ومن لم يؤمن به منعه والمعنى على هذا ان لم يوهن عدم ايمان بعض الناس بإبراهيم امر ابراهيم فكذا لا يوهن كفر هؤلاء الأشقياء أمرك وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) أى نارا مسعور لا موقدة يعذبون بها من ان يعجلوا بالعقوبة بالدنيا - .(1/1497)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كالبيان والتقرير لما سبق كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أى احترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بان يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى كقولك بدلت الخاتم قرطا أو بان يزال عنه اثر الإحراق ليعود إحساسه بالعذاب وهو المعنى من قول ابن عبّاس يبدلون جلودا بيضاء كامثال القراطيس ذكر عنه البغوي وكذا أخرج ابن أبى خاتم فى الآية عن ابن عمر واخرج الطبراني وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عمر قال قرئ عند عمر هذه الآية فقال معاذ عندى تفسيرها يبدل فى ساعة مائة مرة فقال هكذا سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفى رواية أبيّ مكان معاذ واخرج ابن مردوية وأبو نعيم فى الحلية من وجه اخر بلفظ تبدل فى الساعة الواحدة عشرون ومائة مرة وأخرجه البيهقي من وجه ثالث بلفظ تحرق وتجدد فى مقدار ساعة ستة آلاف مرة واخرج البيهقي عن الحسن فى الآية قال تأكل النار كل يوم سبعين الف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا - واخرج ابن أبى الدنيا عن حذيفة ان فى جهنم سباعا من نار وكلابا من نار وكلاليب من نار وسيوفا من نار وانه يبعث ملائكة يعلقون أهل النار بتلك الكلاليب بأحقابهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضوا عضوا ويلقونهم إلى تلك السباع والكلاب كلما قطعوا عضوا عاد مكانه عضو جديد قلت يعنى عضوا جديدا من اجزاء العضو السّابق جلدا جديدا من اجزاء الجلد السّابق وقيل يخلق مكانه جلدا اخر والعذاب فى الحقيقة للنفس العاصية المدركة لالالة إدراكها فلا محذور ، قال عبد العزيز بن يحيى ان اللّه عز وجل يلبس أهل النار جلودا لا تألم فيكون زيادة عذاب عليهم كلما احترق جلد بدلهم جلدا غيره كما قال سرابيلهم من قطران فالسّرابيل تؤلمهم وهى لا تألم لِيَذُوقُوا أى ليدوم لهم « 1 » ذوق الْعَذابَ اسناد الذوق إلى الكفار دون الجلود يؤيد قول عبد العزيز ومن قال ان(1/1498)
العذاب للنفس العاصية واللّه اعلم - عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما بين منكبى الكافر مسيرة ثلاثة ايام
_________
(1) فى الأصل له -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 146
للراكب المسرع رواه البخاري ومسلم وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضرس الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاث رواه مسلم ، واخرج ابن المبارك عنه بلفظ ضرس الكافر يوم القيامة أعظم من أحد يعلمون لتمتلى جهنم منهم وليذوقوا العذاب وعند الترمذي والبيهقي فخذه مثل البيضاء ومقعده من جهنم ما بين مكة والمدينة وغلظ جلده اثنان وأربعون ذراعا وعند احمد والترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عرض جلده سبعون ذراعا وعضده مثل البيضاء وفخذه مثل ورقان ، وعن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يعظم أهل النار فى النار حتى ان بين شحمة اذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وان غلظ جلده سبعون ذراعا وان فرسه مثل أحد واخرج الترمذي والبيهقي وهنا دعنه مرفوعا ان الكافر ليجر لسانه الفرسخين وعند الترمذي الفرسخ والفرسخين واخرج احمد والحاكم عن ابن عباس بين شحمة اذن أحدهم وبين عاتقه مسيرة أربعين خزيفا يجرى فيه اودية من القيح والدم قيل انهار قال لابل اودية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريده حَكِيماً (56) يعاقب على وفق حكمته.(1/1499)
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أخرج الحاكم وصحّحه عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال مطهرة من الحيض والغائط والنخامة والبزاق واخرج هناد عن مجاهد قال مطهرة عن الحيض والغائط والبول والمخاط والبصاق والنخام والولد والمنى وعن عطاء مثله. وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57) عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان فى الجنة لشجرة يسير الراكب فى ظلّها مائة عام ما يقطعها اقرءوا ان شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ متفق عليه وزاد احمد فى آخره وان ورقها ليخمر الجنة واخرج ابن أبى حاتم عن الربيع بن انس فى قوله تعالى وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال هو ظل العرش الذي لا يزول والظليل صفة مشتقة من الظلّ للتأكيد كقولهم شمس شامس وليل لئيل ويوم ايوم وفيه اشارة إلى دوام نعماء الجنة واللّه اعلم - أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال لما فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال ادّنى المفتاح فاتاه به فلما بسط يده قام العباس فقال يا رسول اللّه بابى أنت وامّى اجمعه لك مع السقاية وخلف عثمان يده فقال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 147
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هات المفتاح يا عثمان فقال هات بامانة اللّه فقام ففتح الكعبة ثم خرج فطاف بالبيت ثم نزل عليه بردّ المفتاح فدعا عثمان بن طلحة فاعطاه المفتاح ثم قال.(1/1500)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها حتى فرغ من الآية واخرج سنيد فى تفسيره عن حجاج بن جريح والأزرقي عن مجاهد قال نزلت هذه الآية فى عثمان بن طلحة أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منه مفتاح الكعبة فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية فدعا عثمان فناوله المفتاح قال وقال عمر بن الخطّاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية فداه أبى وأمي وما سمعته يتلو قبل ذلك فالظاهر انها نزلت فى جوف الكعبة وروى أيضا نحوه عن سعيد بن المسيّب وفيه خذوها يا بنى طلحة خالدة لا يظلمكموها الّا كافر وروى ابن سعد عن ابراهيم بن محمد العبدري عن أبيه ومحمد بن عمرو عن شيوخه قالوا قال عثمان بن طلحة لقينى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فدعانى إلى الإسلام فقلت يا محمد ا تعجب لك حيث تطمع ان اتبعك وقد خالفت دين قومك وجئت بدين محدث وكنا نفتح الكعبة فى الجاهلية الاثنين والخميس فاقبل يوما يريد ان يدخل الكعبة مع الناس فاغلظت عليه ونلت منه فحلم عنى ثم قال يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت فقلت لقد هلكت قريش وذلّت قال بل عمرت وعزت ودخل الكعبة فوقعت كلمة منى موقعا ظننت ان الأمر سيصير إلى ما قال فاردت الإسلام فإذا قومى يزبروننى زبرا شديدا فلما كان يوم الفتح قال لى يا عثمان ايت بالمفتاح فاتيته به فاخذه منى ثم دفعه الىّ وقال خذها خالدة تالدة لا ينزعها منكم الّا ظالم يا عثمان ان اللّه استأمنكم على بيته فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف فلما وليت نادانى فرجعت إليه فقال الم يكن الذي قلت لك فذكرت قوله لى بمكة قبل الهجرة فقلت بلى اشهد انك رسول اللّه وروى الفاكهاني عن جبير بن مطعم ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لما ناول عثمان المفتاح قال له غيّبه قال الزهري فلذلك يغيب المفتاح قلت و(1/1501)
لعل الوجه فى الأمر بتغييب المفتاح ان الناس كانوا يطمعون فى ان يكون المفتاح عندهم كما ذكرنا من رواية ابن مردوية طمع عباس فيه وروى ابن عابد والأزرقي ان عليا قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم اجمع لنا الحجابة والسقاية فنزلت هذه الآية فدعا عثمان فقال خذوها يا بنى طلحة خالدة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 148(1/1502)
مخلدة لا ينزعها منكم الّا ظالم وروى عبد الرزاق والطبراني عن الزهري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خرج من البيت قال علىّ رضى اللّه عنه انا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ما من قوم بأعظم نصيبا منا فكره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقالته ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه وقال غيّبوه وذكر البغوي انه لما دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم مكة يوم الفتح اغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المفتاح فقيل له انه مع عثمان فابى وقال لو علمت انه رسول الله لم امنعه المفتاح فلوى على رضى اللّه عنه عنقه فأخذ منه المفتاح وفتح الباب فدخل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم البيت وصلى ركعتين فلما خرج ساله العباس المفتاح ان يعطيه ويجمع له بين السّقاية والسدانة فانزل اللّه تعالى هذه الآية فامر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليا ان يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه ففعل ذلك على فقال له عثمان أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال لقد انزل اللّه فى شأنك وقرأ عليه الآية فقال عثمان اشهد ان محمّدا رسول الله وكان المفتاح معه فلما مات دفعه إلى أخيه شيبة فالمفتاح والسدانة فى أولادهم إلى يوم القيامة (فائدة : ) نزول الآية وان كان فى إعطاء المفتاح لبنى طلحة لكن الآية بعموم لفظها يفيد وجوب أداء كل امانة إلى أهلها عن انس قال قلّما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الّا قال لا ايمان لمن لا امانة له ولا دين لمن لا عهد له رواه البيهقي فى شعب الايمان وفى الصحيحين عن أبى هريرة وعبد اللّه بن عمرو مرفوعا انه صلى اللّه عليه وسلم ذكر من علامات النفاق إذا اؤتمن خان « 1 » (فائدة : ) ليس أداء الامانة منحصرا فى مال الوديعة ونحو ذلك بل كل حق
لاحد على أحد امانة
_________
((1/1503)
1) قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما يرفع من الناس الإماتة واخر ما يبقى الصلاة ورب مصل لا خير فيه رواه الحكيم عن زيد بن ثابت واخرج ابن جرير عن ابن عباس انه لم يرخص لموسر ولا لمعسر واخرج البيهقي عن ميمون ابن مهران قال ثلاثة يؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل كانت برة أو فاجرة والامانة تؤدى إلى البر والفاجر والعهد يوفى للبر والفاجر واخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رض قال ان القتل فى سبيل اللّه يكفر الذنوب كلها الا الأمانة يجاء بالرجل يوم القيامة وان كان قتل فى سبيل اللّه فيقال له ادّ أمانتك فيقول من اين وقد ذهبت الدنيا فقال انطلقوا به إلى الهاوية فينطلق به فتتمثل أمانته كهيئتها فى قعر جهنم فيحملها فيصعد بها حتى إذا ظن انه خارج بها زلت من عاتقه فهوت وهوى معها ابد الآبدين قال زاذان فاتيت البراء بن عازب فقلت اما سمعت ما قال أخوك ابن مسعود قال صدق ان اللّه يقول إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها والامانة فى الصلاة والامانة فى الغسل من الجنابة والامانة فى الحديث والامانة فى الكيل والامانة فى الوزن والامانة فى الدين وأشدّ ذلك فى الودائع منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 149(1/1504)
يجب أداؤه لاهله كما يدل عليه سبب نزول هذه الآية فلهذا قال الصوفية العلية ان الوجود وتوابعه وكل كمال فى الممكن فهو ليس لذاته بل مقتبس من مرتبة الوجوب جلّت عظمته وامانة مودعة مستعارة منه تعالى ومقتضى هذه الآية وجوب ردّ تلك الأمانات إلى أهلها « 1 » بحيث يرى نفسه عاريا منها كما ان السّلطان إذا لبس كنّاسا لباس الامارة فالواجب على الكنّاس ان يرى نفسه فى كل حين عاريا كما كان منتسبا لباسه إلى مالكه وإذا غلب على الصّوفى هذه الملاحظة وجد نفسه فى نفسه معدوما خاليا عن الوجود وعن سائر الكمالات مبدأ للشرور والمناقص وذلك هو مرتبة الفناء ثم قد ينتفى عنه هذه الرؤية المستعارة أيضا وذلك فناء الفناء ثم يرى نفسه موجودا بوجود مستعار من اللّه تعالى متصفا بصفات مضافة إليه سبحانه باقيا ببقائه وذلك مرتبة البقاء ومن هاهنا قال الله تعالى فى الحديث القدسي كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث فإذا وصل الصوفي إلى تلك المرتبة المعبر عنها بالفناء والبقاء المكنى عنها بأداء الامانة لا يتصور حينئذ ان يصدر من الصوفي تزكية لنفسه حيث يرى نفسه معدوما خاليا عن الكمالات وجاز له حينئذ التكلم بما أعطاه الله من الكمالات والتحديث بما أنعم اللّه عليه من الفضائل والمقامات والمعاملات لان الكمالات حينئذ مضافة إلى اللّه تعالى وكل ثناء واقع على تلك الكمالات راجعة إلى اللّه سبحانه ويظهر استغراق المحامد للّه وانحصار المدائح فى اللّه تعالى فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فكأنّ هذه الآية متصلة بقوله تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ « 2 » ...(1/1505)
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وما بينهما اعتراض ومعنى الآيتين لا تزكوا أنفسكم فان كمالاتكم ليست ناشية من أنفسكم بل اللّه يزكى من يشاء بإعطاء نور من أنواره ورشحة من بحار كماله واللّه يأمركم ان تؤدوا الأمانات التي عندكم من الكمالات إلى أهلها حتى لا يتصوّر منكم تزكية نفوسكم ويتاتى منكم أداء بعض محامد ربكم ومن هاهنا يظهر لك جواب ما اعترض بعض الجهال على كلمات المشائخ المشعرة بالتفاخر فانها بعد أداء الأمانات إلى أهلها ناشية على سبيل التحديث بالنعمة بإذن ربّهم على مقتضى الحكمة واللّه اعلم -
_________
(1) فى الأصل إلى اهله -
(2) هكذا فى الأصل والنقول لعله سباق قلم أو تصحيف من الناسخ لان قوله تعالى المتقدم ليس هكذا بل هو أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ نعم وقع فى سورة والنجم فلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى 2 بو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 150(1/1506)
وَ إِذا حَكَمْتُمْ الظرف متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده تقديره ويأمركم ان تحكموا بالعدل إذا حكمتم أى قضيتم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ تفسير للمحذوف لا محلّ له من الاعراب والحكم بالعدل أيضا من باب أداء الامانة والإخلال به خيانة - عن أبى ذرّ قال قلت يا رسول الله استعملني قال يا أبا ذرّ انك ضعيف وانها امانة وانها يوم القيامة خزى وندامة الا من أخذ بحقّها وادي الذي عليه فيها وفى رواية قال يا أبا ذرّ انى أراك ضعيفا وانى احبّ لك ما احبّ لنفسى لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم رواه مسلم وكذا ما يذكر بعد ذلك من إطاعة اللّه والرسول واولى الأمر أيضا امانة إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا ما نكرة منصوبة على التمييز موصوفة بيعظكم أو موصولة مرفوعة على الفاعلية أى نعم شيئا أو نعم الشيء الذي يَعِظُكُمْ بِهِ والمخصوص محذوف أى أداء الامانة والعدل فى الحكم إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بأقوالكم واحكامكم بَصِيراً (58) بما تفعلون فى الأمانات عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يرفعه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين هم الذين يعدلون فى حكمهم وأهلهم وما ولوا رواه مسلم وعن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان احبّ الناس إلى اللّه يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا امام عادل وان ابغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدّهم عذابا وفى رواية ابعدهم منه مجلسا امام جائر رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وعن عائشة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال أ تدرون من السّابقون إلى ظلّ اللّه عز وجل يوم القيامة قالوا اللّه ورسوله اعلم قال الذين إذا اعطوا الحق قبلوا وإذا سئلوه بذلوا وحكموا للناس كحكمهم لانفسهم رواه احمد وروى البيهقي فى شعب الايمان نحوه عن عمر بن الخطاب مرفوعا.(1/1507)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ روى الشيخان واصحاب السنن عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية فى عبد اللّه ابن حذافة إذ بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سرية واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خالد بن الوليد فى سرية وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدن فاصبحوا وقد هرب القوم غير رجل اتى عمّارا وقال قد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 151(1/1508)
أسلمت وشهدت ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله قال عمار ينفعك إسلامك فاقم فلمّا أصبحوا أغار خالد فقال خل عن الرجل فانه قد اسلم وهو فى أمان منى فاستبّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاجاز أمان عمار ونهاه ان يجير الثانية على امير فاستبّا عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا خالد لا تسبّ عمارا فانه من سبّ عمارا سبّه الله ومن ابغض عمارا أبغضه الله ومن لعن عمارا لعنه الله فاعتذر إليه خالد فرضى فانزل اللّه هذه الآية « 1 » ، أخرج أبو شيبة وغيره عن أبى هريرة قال هم الأمراء وفى لفظ هم أمراء السّرايا هذا لفظ عام يشتمل الملوك وأمراء الأمصار والقضاة وأمراء السّرايا والجيوش قال على رضى اللّه عنه حق على الامام ان يحكم بما انزل اللّه ويؤدى الامانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية ان يسمعوا ويطيعوا عن حذيفة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر رواه الترمذي وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم من أطاعني فقد أطاع اللّه ومن عصانى فقد عصى اللّه ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصانى متفق عليه وعن عبادة بن الصامت قال بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وان لا ننازع الأمر اهله وان نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا وان لا نخاف فى اللّه لومة لائم متفق عليه وعن انس رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال اسمع وأطع ولو لعبد حبشى كأن رأسه زبيبة رواه البخاري وعن أبى امامة قال سمعت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يخطب فى حجة الوداع فقال اتقوا اللّه وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وادّوا زكوة أموالكم وأطيعوا إذا أمركم تدخلوا جنة ربكم رواه الترمذي ويشتمل هذه الآية أيضا الزوج يأمر(1/1509)
امرأته والسيّد يأمر عبده والوالد يأمر والده عن عبد اللّه بن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالامام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته والرجل راع فى أهل بيته وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهى مسئولة عنهم وعبد الرجل راع فى مال سيّده وهو مسئول عنه فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته متفق عليه وكذا
_________
(1) عن عكرمة فى قوله تعالى أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ قال أبو بكر وعمرو عن الكلبي قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود وعن عكرمة انه سئل عن أمهات الأولاد فقال هن أحرار قيل بأيّ شىء تقول قال بالقرءان قالوا بما ذا فى القرآن قال قول اللّه عز وجل أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وكان عمر من اولى الأمر قال اعتقت وان كان سقطا عن عمران بن حصين قال كان عمر إذا استعمل رجلا كتب فى عهده اسمعوا له وأطيعوا ما عدل فيكم وعن عمر قال اسمع وأطع وان امر عليك عبد حبشى مجدع ان ضربك فاصبر وان ضربك فاصبر وان أراد امرا ينتقض دينك فقل دمى دون دينى منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 152(1/1510)
يشتمل الفقهاء والعلماء والمشائخ بل اولى لانهم ورثة الأنبياء وخازنوا احكام اللّه واحكام رسوله أخرج ابن جرير والحاكم وغيرهما عن ابن عبّاس هم أهل الفقه والدين وفى لفظ هم أهل العلم وابن أبى شيبة والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد اللّه نحوه وعن أبى العالية ومجاهد كذلك وقال اللّه تعالى وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم العلماء ورثة الأنبياء رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة من حديث كثير بن قيس وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للصحابة رضوان اللّه عليهم الناس لكم تبع وان رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون فى الدّين رواه الترمذي عن أبى سعيد الخدري واللّه اعلم (مسئلة) وهذا الحكم يعنى وجوب إطاعة الأمير مختص بما لم يخالف امره الشرع يدل عليه سياق الآية فان اللّه تعالى امر الناس بطاعة اولى الأمر بعد ما أمرهم بالعدل فى الحكم تنبيها على ان طاعتهم واجبة ما داموا على العدل ونصّ على ذلك فيما بعد فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ ، الآية قال بعض الأفاضل صيغة اولى الأمر يفيد ان متابعتهم واجبة فيما ولوه من الأمر وجعلهم اللّه تعالى واليا فيه وانما هو العدل فى الحكم ولو جعلت الأمر على الإيجاب لكان أشدّ دلالة على ذلك فان وجوب طاعتهم فيما كان لهم على الناس إيجابه فان قال الأمير أعط فلانا من مالك الفا لا يجب عليك اطاعته - (مسئلة) إذا قال القاضي قضيت على هذا بالرجم فارجمه أو بالقطع فاقطعه أو بالضرب فاضربه وسعك ان تفعل وعن محمد انه رجع عن هذا وقال لا يأخذ بقوله حتى يعاين الحجّة واستحسن المشائخ هذه الرواية لفساد الحال فى اكثر القضاة وقال الامام أبو منصور ان كان عدلا عالما يقبل قوله لانعدام تهمة الخطاء والخيانة وان كان عدلا جاهلا(1/1511)
يستفسر فان احسن التفسير وجب تصديقه والا فلا وان كان فاسقا لا يقبل الا ان يعاين سبب الحكم لتهمة الخطاء والخيانة كذا فى الهداية روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية فى عبد اللّه ابن حذافة بن قيس إذ بعثه النبي صلى اللّه عليه وسلم فى سرية كذا أخرجه مختصرا قال الداودي ان عبد اللّه بن حذافة خرج على جيش فغضب فاوقد نارا وقال اقتحموا فامتنع بعضهم وهم بعضهم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 153(1/1512)
ان يفعل قال الحافظ ابن حجر فالمقصود بنزول هذه الآية فى تلك القصّة قوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ اختلفتم - روى سعيد بن منصور وغيره عن مجاهد يعنى ان تنازع العلماء فردّوه إلى اللّه والى الرسول فِي شَيْ ءٍ مما أمركم به أميركم يعنى قال بعضكم لا يجوز لنا إطاعة الأمير فى هذا الأمر وقال بعض يجب إطاعة الأمير فَرُدُّوهُ يعنى ذلك الأمر إِلَى اللَّهِ أى إلى كتابه وَالرَّسُولِ صلى اللّه عليه وسلم ما دام حيّا والى سنته بعد وفاته والإجماع والقياس فيما لا نصّ فيه راجعان إلى الكتاب والسنة ، فان أباح الشرع ذلك الأمر أطيعوا أميركم فيه والا فلا ، عن ابن عمر رضى اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال السمع والطاعة على المرء المسلم فيما احبّ وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا امر بمعصية فلا سمع ولا طاعة متفق عليه وعن على رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا طاعة لاحد فى معصية انما الطاعة فى المعروف متفق عليه وعن عمران بن حصين والحكيم ابن عمرو الغفاري قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق رواه احمد والحاكم وصححه قال فى المدارك حكى ان مسلمة بن عبد الملك بن مروان قال لابى حازم أ لستم أمرتم بطاعتنا بقوله تعالى وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فقال أبو حازم أ ليس قد نزعت عنكم إذا خالفتم الحق بقوله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ - (مسئلة) إذا رفع إلى القاضي حكم حاكم أمضاه الا ان يخالف الكتاب كما إذا قضى بشاهد واحد مع يمين المدعى حيث يخالف قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الآية ، أو السنة المشهورة كما إذا حكم بثبوت الحل للزوج الاوّل بعد الطلقات الثلاث بنكاح الزوج الثاني بدون الوطي وهو يخالف حديث عائشة فى قصّة امراة(1/1513)
رفاعة قوله صلى اللّه عليه وسلم لا حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك وقد ذكرناه فى سورة البقرة أو الإجماع كما إذا حكم بجواز بيع متروك التسمية عامدا فانه مخالف لما اتفقوا عليه فى الصدر الاوّل فحينئذ لا يجوز امضاؤه كذا فى الهداية (مسئلة) إذا افتى المجتهد وظهران فتواه مخالف للكتاب أو السنة وجب علينا اتباع الكتاب والسنة روى البيهقي فى المدخل بإسناد صحيح إلى عبد اللّه بن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول إذا جاء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فعلى الرأس والعين وذكر عن روضة العلماء عن أبى حنيفة قال اتركوا قولى بخبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وقول الصحابة رضى اللّه عنهم ونقل عنه انه قال
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 154(1/1514)
إذا صح الحديث فهو مذهبى وجاز ان يكون قوله تعالى فان تنازعتم خطابا للائمة على سبيل الالتفات إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط مستغن عن الجزاء بما سبق ذلِكَ الرد إلى اللّه والرسول خَيْرٌ لكم من جمودكم على ما تقرر فى أذهانكم وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) مالا من تأويلكم بلا ردّ واللّه اعلم - أخرج ابن جرير عن الشعبي قال كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي أحاكمك إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه قد علم انه لا يأخذ الرشوة فى الحكم وقال المنافق نتحاكم إلى اليهود لعلمه انهم يأخذون الرشوة ويميلون فى الحكم فاتفقا على ان يأتيا كاهنا فى جهينة فيتحاكما إليه واخرج الثعلبي عن ابن عباس وابن أبى حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبى الأسود مرسلا وكذا ذكر البغوي قول الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان منافقا وسماه الكلبي بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وابى اليهودي ان يخاصمه الا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلمّا راى المنافق ذلك اتى معه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لليهودى فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال انطلق بنا إلى عمر فاتيا عمر رضى اللّه عنه فقال اليهودي اختصمت انا وهذا إلى محمد (صلى اللّه عليه وسلم) فقضى لى عليه فلم يرض بقضائه وزعم انه مخاصم إليك فقال عمر رضى الله عنه للمنافق أ كذلك قال نعم قال لهما رويدكما حتى أخرج اليكما فدخل عمر رضى اللّه عنه البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد وقال هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء اللّه وقضاء رسوله فنزلت.(1/1515)
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعنى المنافقين يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ الآية وقال جبرئيل ان عمر فرّق بين الحق والباطل فسمى بالفاروق وسمى بالطاغوت كعب بن الأشرف أو كاهن من جهينة لفرط طغيانه أو لتشبيهه بالشيطان أو لأن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضى بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج ابن أبى حاتم من طريق عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال كان الحلاس
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 155(1/1516)
ابن الصامت ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشر يدّعون الإسلام فدعاهم من قومهم من المسلمين فى خصومة كانت بينهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدعوهم إلى الكهان حكّام الجاهلية فانزل اللّه تعالى هذه الآية قال البغوي قال السّدى كان ناس من اليهود اسلموا ونافق بعضهم وكانت قريظة والنضير فى الجاهلية إذا قتل رجل من بنى قريظة رجلا من بنى النضير قتل به أو أخذ مائة وسق تمر وإذا قتل رجل من نضير رجلا من قريظة لم يقتل واعطى ديته ستين وسقا وكانت نضير وهم حلفاء الأوس « 1 » اشرف واكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج فلمّا جاء الإسلام وهاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا فى ذلك فقالت بنوا النضير كنا وأنتم اصطلحنا على ان نقتل منكم ولا تقتلون منا وديتكم ستون وسقا وديتنا مائة وسق فنحن نعطيكم ذلك فقال الخزرج هذا شىء فعلتموه فى الجاهلية لكثرتكم وقلتنا فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم اخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا فقال المنافقون منهم انطلقوا إلى أبى برزة الكاهن الأسلمي وقال المسلمون من الفريقين لابل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وابى المنافقون وانطلقوا إلى أبى برزة ليحكم فانزل اللّه تعالى اية القصاص وهذه الآية وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعنى أمروا ان يخالفوا الطاغوت ويتبرؤا عنه كما فى قوله تعالى يَوْمَ ...(1/1517)
يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ والمؤمنون أمروا بمخالفة اليهود والكهان والشياطين والتبري عنهم قال الله تعالى لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتى كاهنا فصدّقه بما يقول أو اتى امراة حائضا أو اتى امراة فى دبرها فقد برئ مما نزل على محمّد رواه احمد واصحاب السنن الاربعة بسند صحيح عن أبى هريرة وروى الطبراني بسند ضعيف من حديث واثلة من اتى كاهنا فساله عن شىء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فان صدّقه بما قال كفر وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ شيطان الانس والجنّ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً (60) عن الحق.
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أى للمنافقين الذين يزعمون انهم أمنوا ، مقولة القول تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ يعنى القرآن وَإِلَى الرَّسُولِ عطف قوله الىّ الرّسول على قوله ما انزل اللّه يدل على ان الرسول كان قد يحكم بعلمه سوى القرآن من الوحى الغير المتلو وبالاجتهاد والظرف اعنى إذا قيل لهم متعلق بقوله رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ وضع المظهر موضع المضمر للتقبيح
_________
(1) فيه نظر (أبو محمد عفا الله عنه).
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 156
و التفضيح وبيان سبب الصدّ يَصُدُّونَ يعرضون عَنْكَ إلى غيرك لطمعهم بالحكم بالباطل بالرشوة ونحوها والجملة واقع موقع الحال من المنافقين صُدُوداً (61) مصدر أو اسم للمصدر الذي هو الصدّ وفى الصحاح الصدود يكون انصرافا عن الشيء وامتناعا وقد يكون بمعنى الصرف والمنع نحو فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ - قيل لمّا قتل عمر رضى اللّه عنه المنافق جاء أولياؤه طالبين بدمه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحلفون باللّه ان أردنا بالتحاكم إلى عمر الا إحسانا يحسن عمر إلى صاحبنا وتوفيقا أى إصلاحا يصلح بين الخصمين فانزل اللّه تعالى(1/1518)
فَكَيْفَ استفهام للتعجب ، من حلفهم بعد صدّهم صدّا ظاهرا ومن انهم كيف يقدرون عليه ولا يستحيون وتقدير الكلام فكيف لا يستحيون وإِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعنى قتل عمر واحدا منهم وإذ المجرد الظرف دون الاستقبال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من الاعراض عن قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتحاكم إلى غيره ثُمَّ جاؤُكَ للاعتذار وطلب الدم عطف على أصابتهم فكيف يَحْلِفُونَ مع ظهور كذبهم حال من فاعل جاءوك بِاللَّهِ الباء امّا صلة ليحلفون أو للقسم وجواب القسم على الوجهين إِنْ أَرَدْنا بتحكيمنا غيرك إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) يعنى الا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفتك ولم نسخط لحكمك يعنى خفنا ان يحدث عداوة بالحكم المرّ وهبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان نقول يصلح بيننا فجئنا عمر ليصلح بيننا ويبقى الالفة وجاز ان يكون إذا بمعنى الاستقبال للشرط والمراد بالمصيبة العذاب من اللّه تعالى أو الانتقام من النبي صلى اللّه عليه وسلم ويدلّ على الجزاء قوله فكيف يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إلخ فوقع الشرط بين اجزاء الدال على الجزاء ، والمراد التعجّب من حلفهم فى الاستقبال وجاز ان يكون تقدير الكلام فكيف يكون حالهم أو كيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة عذاب من اللّه أو انتقام منك أو من أصحابك بما قدّمت أيديهم وقوله ثُمَّ جاؤُكَ امّا معطوف على أصابتهم أو على يصدّون وما بينهما اعتراض وكيف سوال عن حالهم عند العذاب فى الاخرة أو فى الدنيا وجاز ان يكون إذا للشرط ويحلفون جزاء للشرط والشرط والجزاء بيانا من كيفية حالهم.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فلا يفيدهم اليمين الغموس الّا غموسا فى النار فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أى عن قبول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 157(1/1519)
اعتذارهم أو عن اجابتهم فى مطالبة دم المقتول فان دمه هدر وَعِظْهُمْ ان ينتهوا من النفاق ويؤمنوا بالإخلاص وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أى فى حق أنفسهم قَوْلًا بَلِيغاً (63) يبلغ صميم قلوبهم بالتأثير قال الحسن القول البليغ ان يقول لهم انكم تقتلون على نفاقكم فانه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ وقيل هو التخويف باللّه تعالى وذكر فى الكشاف احتمال تعلق فى أنفسهم ببليغا يعنى بليغا فى أنفسهم وضعّفه البيضاوي بان معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف وأجيب بالحمل على الحذف والتفسير وجاز ان يكون معنى الآية فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أى عن عقابهم لمصلحة استبقائهم وعظهم باللسان وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ يعنى فى الخلوة فان النصح فى السرّ انفع قولا بليغا - .(1/1520)
وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ أى لالزام طاعته على الناس فانه المقصود من الرسالة بِإِذْنِ اللَّهِ أى بسبب اذنه وامره المبعوث إليهم بان يطيعوه فمن لم يرض بحكمه ولم يطعه استوجب القتل لأنه كانّه لم يقبل رسالته وَلَوْ ثبت أَنَّهُمْ أى المنافقون إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تابئين بالإخلاص وهو خبر انّ والظرف متعلق به فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ بالتوبة عن النفاق واعتذروا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالإخلاص وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ عدل عن الخطاب إلى الغيبة تعظيما لشأنه وتنبيها على انّ شأن الرسول يقتضى قبول العذر وان عظم الجرم لَوَجَدُوا اللَّهَ لعلموه تَوَّاباً قابلا للتوبة رَحِيماً (64) عليهم وجاز ان يكون وجد بمعنى صادف فحينئذ توابا منصوب على الحال ورحيما بدل منه أو حال من الضمير فيه أو حال مرادف له واللّه اعلم أخرج الائمة الستة عن الزبير بن العوام رضى اللّه عنه انه خاصم رجلا من الأنصار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك فغضب الأنصاري فقال يا رسول اللّه ان كان ابن عمتك فتلوّن وجه رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ثم قال اسق ثم احبس حتى يبلغ الجدر فاستوفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حينئذ حقّه للزبير وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير بامر فيه سعة له وللانصارى فلما احفظ الأنصاري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استوفى للزبير حقه فى صريح الحكم قال الزبير واللّه احسب قوله تعالى.
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية نزلت فى ذلك وكذا أخرج الطبراني فى الكبير والحميدي فى مسنده عن أم سلمة قالت خاصم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 158(1/1521)
الزبير رجلا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقضى للزبير فقال الرجل انما قضى له لأنه ابن عمته فنزلت قال البغوي روى ان الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبى بلتعة قلت أخرجه ابن أبى حاتم عن سعيد بن المسيب فى هذه الآية قال نزلت فى الزبير بن العوام وحاطب ابن أبى بلتعة « 1 » اختصما فى ماء فقضى النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يسقى الأعلى ثم الأسفل قلت وتسمية حاطب بن أبى بلتعة فى هذه القصّة وهم لان حاطبا لم يكن من الأنصار بل من المهاجرين شهد بدرا ولعل ذلك رجل منافق من الأوس أو الخزرج سمّى أنصاريا لكونه منهم نسبا قال البغوي لمّا خرجا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرّا على المقداد فقال لمن كان القضاء فقال الأنصاري لابن عمته ولوّى شدقه ففطن له يهودى كان مع المقداد فقال قاتل اللّه هؤلاء يشهدون انه رسول اللّه ثم يتهمونه فى قضاء يقضى بينهم وايم الله لقد أذنبنا مرة فى حيوة موسى فدعانا موسى إلى التوبة منه فقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين الفا فى طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن شماس بن قيس اما واللّه ان اللّه ليعلم منى الصدق لو أمرني محمد صلى اللّه عليه وسلم ان اقتل نفسى لفعلت وقال البغوي قال مجاهد والشعبي نزلت هذه الآية فى بشر المنافق واليهودي الذي اختصما إلى عمر الذي مرّ ذكره كما يقتضيه السياق ومعنى الآية فلا أى ليس الأمر كما فعل الذين يزعمون انهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ثم استأنف القسم فقال وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وجاز ان يكون لا زائدة كما فى لا اقسم والمعنى وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أى اختلف بينهم واختلط عليهم الأمر ومنه الشجر لالتفات أغصانه ثُمَّ لا يَجِدُوا عطف على يحكموك فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ضيقا مما حكمت به وقال مجاهد شكّا فان الشاكّ فى ضيق امره وَيُسَلِّمُوا اى(1/1522)
ينقادوا لك تَسْلِيماً (65) انقيادا طوعا بلا كره منهم.
وَلَوْ ثبت أَنَّا كَتَبْنا أى فرضنا عَلَيْهِمْ أى على الذين يزعمون انهم أمنوا ولم يرضوا بحكمك وهم المنافقون ولا جائز ان يكون الضمير راجعا إلى جميع المؤمنين الموجودين فى ذلك الزمان وهم الصّحابة رضى اللّه عنهم لان سوق الكلام فى المنافقين وكيف يتصوّر الحكم فى حق الصحابة بانه لو كتب عليهم ما فعلوه وقد مدح اللّه تعالى عليهم بقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ
_________
(1) فى الأصل هنا ابن بلتعة - [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 159(1/1523)
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وبقوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ ونحو ذلك واثنى عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقوله خير القرون قرنى وبقوله ان الله اختارني واختار لي أصحابا ولو كان الضمير عايدا إلى الصحابة لزم فضل اصحاب موسى عليه السّلام عليهم فانهم قتلوا أنفسهم حين أمروا به للتوبة ، أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ للتوبة عن اعراضهم عن حكمك إلى غيرك وان مفسرة لان فى كتبنا معنى القول أو مصدرية يعنى أمرنا بقتل أنفسهم كما أمرنا بنى إسرائيل حين عبدوا العجل أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرنا بنى إسرائيل بالخروج من مصر وجاز ان يكون المعنى امرناهم بالخروج من ديارهم للجهاد وتعريض أنفسهم على القتل فيه قرأ أبو عمرو ويعقوب بكسر النون فى ان اقتلوا وضم الواو فى أو اخرجوا للاتباع أو التشبيه بواو الجمع وقرا عاصم وحمزة بكسرهما على الأصل والباقون بضمّهما اجراء لهما مجرى همزة الوصل ما فَعَلُوهُ أى القتل أو الخروج أو المكتوب عليهم إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ قرأ ابن عامر الّا قليلا بالنصب على الاستثناء والباقون بالرفع على انّ المختار فى كلام غير موجب هو البدل وانما يفعل ذلك القليل بتوفيق اللّه تعالى ايّاهم الإخلاص بعد النفاق واللّه اعلم ، أخرج ابن جرير عن السّدى قال لمّا نزلت وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود فقال اليهودي واللّه لقد كتب اللّه علينا ان اقتلوا أنفسكم فقتلنا أنفسنا فقال ثابت واللّه لو كتب اللّه علينا ان اقتلوا أنفسكم لقتلنا أنفسنا فانزل اللّه تعالى وَلَوْ ثبت أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من متابعة الرسول ومطاوعته طوعا ورغبة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) تحقيقا لايمانهم أو تثبيتا لثواب أعمالهم ونصبه(1/1524)
على التمييز قال الحسن ومقاتل لمّا نزلت هذه الآية قال عمر وعمار ابن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم واللّه لو أمرنا لفعلنا والحمد للّه الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ان من أمتي لرجالا الايمان فى قلوبهم اثبت من الجبال الرواسي.
وَإِذاً أى إذا فعلوا ذلك عطف على قوله لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أو استيناف كأنَّه قيل ما لهم بعد التثبت فقال وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ والواو للاستيناف وأورد عليه انه لا يليق إيراد الشرط فى جواب ما يكون لهم بعد التثبت بل يكفى اتيناهم وأجيب بان
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 160
تقدير الشرط للاشارة إلى بعدهم عن التثبت لما فى لو معنى الدلالة على الامتناع وجاز ان يكون الواو للقسم تقديره واللّه إذا لَآتَيْناهُمْ وجاز ان يكون الواو للعطف على المقدر أى إذا لهم اجر التثبت وإذا لاتينهم مِنْ لَدُنَّا تفضلا زائدا على ثواب أعمالهم وثواب التثبت أَجْراً عَظِيماً (67).
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مفعول ثان مُسْتَقِيماً (68) يصلون يسلوكه إلى جناب القدس واللّه اعلم - أخرج الطبراني بسند لا بأس به وأبو نعيم والضياء وحسّنه عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه انك لاحبّ الىّ من نفسى وولدي وانى لا كون فى البيت فاذكرك فما اصبر حتى اتى فانظر إليك وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت انك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وانى ان دخلت خشيت ان لا أراك فلم يردّ النبي صلى اللّه عليه وسلم شيئا حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى.(1/1525)
وَ مَنْ يُطِعِ اللّه فى أداء الفرائض وَالرَّسُولَ فى اتباع سننه فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الآية واخرج الطبراني عن ابن عباس نحوه وابن أبى حاتم عن مسروق قال قال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ينبغى لنا ان نفارقك فانك لو متّ لرفعت فوقنا فلم نرك أخرج ابن جرير عن الربيع انّ اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم قالوا قد علمنا ان النبي صلى اللّه عليه وسلم له فضل على من أمن به فى درجات الجنة فمن اتبعه وصدقه كيف لهم إذا اجتمعوا فى الجنة ان يرى بعضهم بعضا فانزل الله هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ان الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون فى رياضها فيذكرون ما أنعم اللّه عليهم ويثنون عليه واخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن ربيعة بن كعب الاسلمىّ قال كنت أتيت النبىّ صلى اللّه عليه وسلم فاتيته بوضوئه وحاجته فقال لى سلنى فقلت يا رسول الله أسئلك مرافقتك فى الجنة قال أو غير ذلك قلت هو ذلك قال فاعنّى على نفسك بكثرة السجود واخرج عن عكرمة قال اتى فتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبى اللّه ان لنا منك نظرة فى الدنيا ويوم القيامة لا نراك فانك فى الدرجات العلى فانزل اللّه تعالى هذه الآية فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنت معنى فى الجنة ان شاء اللّه تعالى واخرج ابن جرير نحوه من مرسل سعيد بن جبير ومسروق والربيع
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 161(1/1526)
و قتادة والسدى وذكر البغوي انها نزلت فى ثوبان مولى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رضى اللّه عنه وكان شديد الحبّ لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قليل الصّبر عنه فأتاه ذات يوم قد تغير لونه يعرف الحزن فى وجهه فقال له رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ما غيّر لونك فقال يا رسول اللّه ما لى مرض ولا وجع غير انى إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك ثم ذكرت الاخرة فاخاف ان لا أراك لانك ترفع مع النبيين وانى ان دخلت الجنة كنت فى منزلة ادنى من منزلتك وان لم ادخل الجنة لا أراك ابدا فنزلت وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ذكر اللّه سبحانه للذين أنعم اللّه عليهم اربعة اصناف على ترتيب منازلهم فى القرب وحثّ كافة الناس ان لا يتاخروا عنهم ، اوّل الأصناف الأنبياء عليهم السلام الذين مبادى تعيناتهم صفات اللّه تعالى وهم المستغرقون فى التجليات الذاتية الصرفة الدائمية بلا حجاب الصفات المعبر عنها بكمالات النبوة الفائزون الراسخون فى هذا المقام بالاصالة المبعوثون لتكميل الخلائق وجذبهم إلى مراتب القرب على حسب استعداد افراد الامة وكسبهم وحسب مشية اللّه تعالى المبلّغون من اللّه تعالى أحكامه إلى الناس ما يصلح دنياهم وآخرتهم - وثانيهم الصدّيقون وهم المبالغون فى الصدق المتصفون بكمال متابعة الأنبياء ظاهرا وباطنا المستغرقون فى كمالات النبوة والتجلّيات الذاتية الصرفة الدائمية بلا حجاب بالوراثة والتبعية وثالثهم الشهداء الباذلون أنفسهم فى سبيل اللّه ليفاض عليهم نوعامن التجليات الذاتية بسبب بذلهم ذواتهم فى سبيل اللّه ورابعهم الصالحون الذين أصلحوا أنفسهم بازالة الرذائل وقلوبهم بشرب بحار الحبّ ودوام الذكر المانع عن الاشتغال بغير اللّه سبحانه وأبدانهم عن المعاصي فصلحوا لتجلّيات الظلال والافعال بعد حصول الفناء والبقاء على الكمال وتحصلوا برخا من التجلّيات الذاتية ان شاء اللّه(1/1527)
تعالى ولو من وراء حجب الصّفات وهم الذين سموا بلسان القوم بالأولياء ووعد الله سبحانه سائر المؤمنين بعد دخول الجنة معيتهم وزيارتهم على قدر ما أطاعوا اللّه ورسوله والمراد بالصّديقين هاهنا غير الأنبياء وكذا بالصالحين غير الأنبياء والصدّيقين ولذلك فسرنا بما ذكرنا والا فالصديق أعم من النبي والصالح أعم من الجميع ولذا يطلق الصديق والصالح على الأنبياء قال اللّه تعالى فى ابراهيم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وقال فى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 162
يحيى وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وفى عيسى وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ فائدة : لمّا استشهد شيخى وامامى قدسنا الله بسره السامي توجه قلبى إلى تاريخ وفاته فوقع فى قلبى بغتة هذه الآية فإذا قوله تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ تاريخ لوفاته اعنى النا « 1 » ومائة وخمسا وتسعين سنة سبحان من جعل للانسان بطاعته إلى نفسه سبيلا وَحَسُنَ أُولئِكَ الأصناف
الاربعة المذكورون رَفِيقاً (69) نصب على التميز أو الحال ولم يجمع لاطلاقه على الواحد والجمع.(1/1528)
ذلِكَ يعنى مرافقتهم مع المنعم عليهم من غير عمل كاعمالهم الْفَضْلُ صفة لاسم الاشارة أو خبره مِنَ اللَّهِ خبر أو حال وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) بسبب ذلك اللحوق والمرافقة وانما هى المحبّة يعنى ان المحبّة التي هى سبب للحوق المحبّ بالمحبوب من غير عمل كعمله امر لا يعلمه الا الله تعالى ولا يظهر ذلك على الكرام الكاتبين أيضا عن انس ان رجلا قال يا رسول اللّه الرجل يحب قوما ولم يلحق بهم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم المرء مع من احبّ رواه احمد والشيخان وكذا فى الصحيحين عن ابن مسعود وعن انس قال قال رجل يا رسول الله متى السّاعة قال ويلك ما اعددت لها قال ما اعددت لها الا انى أحب اللّه ورسوله قال أنت مع من أحببت قال انس فما رايت المسلمين فرحوا بشئ بعد الإسلام فرحهم بها متفق عليه ، وجاز ان يكون المشار إليه بذلك مرتبة الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعنى انهم لم ينالوا تلك الدرجة الا بفضل من الله دون عملهم فان سبب وصولهم إلى اللّه تعالى الاجتباء غالبا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاربوا وسدّدوا واعلموا انه لا ينجو أحد منكم بعمله قالوا ولا أنت يا رسول اللّه قال ولا انا الا ان يتغمدنى اللّه برحمة منه وفضل متفق عليه - .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر والحذر كالاثر والأثر والمثل والمثل ما يحذر به من العدو من السّلاح وغيره فَانْفِرُوا اخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ « 2 » جماعات متفرقات جمع ثبة ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) مجتمعين على حسب المصالح.
وَإِنَّ مِنْكُمْ عطف على خذوا حذركم عطف قصّة على قصّة أو معترضة إلى قوله فليقاتل لَمَنْ اللام للابتداء دخلت على اسم ان للفصل بالخبر
_________
(1) فى الأصل الف ومائة وخمس وتسعون سنة
((1/1529)
2) روى عن ابن عبّاس فى قوله انفروا ثبات قال عشرة فما فوقها وعن مجاهد قال فرقا قليلا منه رحمه الله ، فى الأصل مذكورين -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 163
لَيُبَطِّئَنَّ جواب قسم محذوف تقديره ان منكم والله ليبطئن يعنى يتخلفون عن الجهاد ويتثاقلون وهم المنافقون من بطّا بمعنى ابطا وهو لازم أو المعنى يثبطون غيرهم عن الجهاد كما ثبّط ابن أبى ناسا يوم أحد من بطّا منقولا من بطوء كثقّل من ثقل فَإِنْ أَصابَتْكُمْ أيها المؤمنون مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة قالَ ذلك المنافق المبطئ قال أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ مع المؤمنين شَهِيداً (72) حاضرا فلم يصبنى ما أصاب المؤمنين.(1/1530)
وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ من فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ أكد الفعل تنبيها على فرط تحسّرهم كَأَنْ مخففة من المثقلة اسمه ضمير الشأن محذوف لَمْ تَكُنْ قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب بالتاء على التأنيث والباقون بالياء على التذكير بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ جملة معترضة بين ليقولنّ والمقولة وهو التمني للتنبيه على ضعف عقيدتهم وان قولهم هذا قول من لا مواصلة بينكم وبينه وانما يريد المال بمرافقتكم ويحسدون على ان تفوزوا أو حال عن الضمير فى ليقولن أو داخل فى المقول أى يقول المبطئ فيما بينهم ومع ضعفة المسلمين كان لم تكن بينكم وبين محمد مودة حيث لم يستعن بكم فتفوزوا كما فازوا يا قوم لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ أى مع المؤمنين فى الوقعة وقيل يا اطلق للتنبيه مجازا فَأَفُوزَ منصوب على جواب التمني فَوْزاً عَظِيماً (73) فاخذ من الغنيمة حظّا وافرا قال البغوي جملة كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ متصلة بالجملة الاولى تقديره فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ... كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ قال البيضاوي وهو ضعيف إذ لا يفصل بين بعض الجملة بما لا يتعلق بها لفظا ومعنى - .(1/1531)
فَلْيُقاتِلْ عطف على خذوا حذركم وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وجاز ان يكون الفاء جزائية والتقدير ان بطّا هؤلاء المنافقون فليقاتل فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ أى يبيعون الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وهم المخلصون الباذلون أنفسهم فى طلب الاخرة فالموصول مرفوع على الفاعلية وقيل يشرون هاهنا بمعنى يشترون أى يختارون الدنيا على الاخرة وهم المنافقون يعنى ينبغى لهم ان يؤمنوا بالإخلاص ويتركوا ما يصنعون من النفاق ويقاتلوا فى سبيل اللّه كيلا يكون عليهم حسرة فى الدنيا والاخرة وجاز ان يكون الموصول فى محلّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 164
النصب على المفعولية والمراد به الكفار والمنافقون الذين يختارون الدنيا على الاخرة والضمير المرفوع فى فليقاتل راجع إلى الذين أمنوا الذين خوطبوا بقوله خذوا حذركم وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) فى الاخرة ، وعد المقاتل بالأجر العظيم على اجتهاده فى إعلاء كلمة الله سواء قتل فلم يتيسر له الاعلاء لما بذل ما فى وسعه من الجهد أو غلب وحصل له الملك والغنيمة فان إحرازه الغنائم لا ينقص من اجره شيئا إذا لم يكن همته المال بل إعزاز الدين فحسب عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انتدب الله لمن خرج فى سبيله لا يخرجه الا ايمان بي وتصديق برسلى ان ارجعه بما نال من اجر وغنيمة أو ادخله الجنة متفق عليه والترديد لمنع الخلو - وعنه قال قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم مثل المجاهد فى سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بايات اللّه لا يفتر من صيام ولا صلوة حتى يرجع المجاهد فى سبيل الله وفى رواية حتى يرجعه الله إلى اهله بما يرجعه من غنيمة واجر أو يتوفاه فيدخله الجنة - .(1/1532)
وَ ما لَكُمْ مبتدا وخبر لا تُقاتِلُونَ حال والعامل فيه الظرف المستقر والمعنى أى شىء ثبت لكم تاركين القتال والاستفهام للانكار على الترك والاستبطاء فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على اسم اللّه أو على سبيل اللّه يعنى فى سبيل الله وفى خلاص المستضعفين « 1 » بحذف المضاف أو فى سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن أيدي المشركين بمكة ويجوز نصبه على الاختصاص فان سبيل الله يعمّ أبواب الخير وتخليص ضعفاء المسلمين من أيدي الكفار أعظمها مِنَ الرِّجالِ الضعفاء وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الذين كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا الَّذِينَ يدعون اللّه ويَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعنى مكة الظَّالِمِ صفة لقرية من حيث اللفظ وذكّر لاسناده إلى ظاهر مذكّر مذكور بعده اعنى أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلى أمرنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) يمنع المشركين عنا فاستجاب اللّه دعاءهم وفتح مكة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وولى عليهم عتاب بن أسيد جعله اللّه لهم نصيرا ينصف المظلوم
_________
(1) أخرج البخاري عن ابن عباس قال كنت انا وأمي من المستضعفين منه رح.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 165
من الظالم.(1/1533)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ موصل إلى اللَّهِ يعنى طاعته وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فى طاعة الشيطان وسبيل يلحقهم بالشيطان فى دركات جهنم فَقاتِلُوا ايّها المؤمنون أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ أى جنوده وهم الكفار ثم شجعهم بقوله إِنَّ كَيْدَ أى مكر الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) فانه لا يقدر الّا على الوسوسة قال يوم بدر للكفار لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فلما راى الملائكة هرب وخذلهم ونكص على عقبيه وَقالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ واللّه اعلم - أخرج النسائي والحاكم عن ابن عباس ان عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة فقالوا يا نبى اللّه كنا فى عزّ ونحن مشركون فلمّا أمنا صرنا اذلة فقال انى أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله اللّه إلى المدينة امره بالقتال فحينئذ جبن بعض الناس فكفوا أيديهم فانزل اللّه تعالى.(1/1534)
أَ لَمْ تَرَ استفهام للتعجب ومناط التعجب تقاعد فريق منهم عن القتال وخشيتهم عن الناس عند الأمر بالقتال بعد تصديهم كلهم للقتال عند الأمر بالكف والتصدي يفهم من الأمر بالكف لان الكف انما يتحقق فيما يتصدى له المكفوف إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ قال البغوي عن الكلبي ان المراد بهم عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مطعون الجحمي وسعد بن أبى وقاص وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذى كثيرا قبل ان يهاجروا ويقولون يا رسول اللّه ائذن لنا فى قتالهم فانهم قد آذونا فيقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتال فانى لم اومر بقتالهم وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ واشتغلوا بما أمرتم به وفيه تنبيه على ان الجهاد مع النفس لاصلاح قلبه ونفسه مقدم على الجهاد مع الكفار فان الاوّل لاصلاح نفسه وهو أهم من الثاني الذي هو الإصلاح « 1 » لغيره واخلاء العالم الكبير عن الفساد ولذلك جعل اللّه تعالى الأول من الفروض على الأعيان والثاني من الفروض على الكفاية فَلَمَّا هاجروا إلى المدينة وكُتِبَ فرض عَلَيْهِمُ الْقِتالُ مع المشركين شق ذلك على بعضهم وجبنوا كما يقول اللّه تعالى إِذا للمفاجاة جواب لمّا فَرِيقٌ مبتدأ مِنْهُمْ صفة يَخْشَوْنَ النَّاسَ خبره كَخَشْيَةِ اللَّهِ اضافة
_________
(1) في الأصل لإصلاح لغيره.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 166(1/1535)
المصدر إلى المفعول فى محل النصب على المصدرية يعنى يخشون من الناس خشية كخشيتهم من الله أو على حال من فاعل يخشون يعنى يخشون الناس حال كونهم مثل أهل خشية اللّه منه أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه ان جعلته حالا أى حال كونهم أشدّ خشية من أهل خشية اللّه منه لا ان جعلته مصدرا لان افعل التفضيل إذا نصب ما بعده لم يكن من جنسه بل حينئذ معطوف على اسم اللّه تعالى أى كخشية اللّه أو كخشية أشدّ خشية من خشية اللّه واو للتخيير لا للشكّ أى ان قلت ان خشيتهم الناس كخشية اللّه فانت مصيب وان قلت انها أشد فانت مصيب لأنه حصل مثلها وزيادة - وهذا الكلام مبنى على التجوز فانهم لمّا تقاعدوا عن الحرب باستيلاء النفس جبنا ولم يسارعوا إلى امتثال امر اللّه تعالى فى قتالهم قيل فيهم يخشون الناس اكثر من خشية اللّه إطلاقا للسبب اعنى شدة الخشية على المسبب اعنى التقاعد وعدم الامتثال بالأمر وهذا لا يستلزم ان يكون فى الواقع خشيتهم من الناس اكثر من خشيتهم من اللّه فانه كفر بل قد يكون ارتكاب المعصية من سؤلة النفس والغفلة عن عذاب الله والطمع فى غفرانه لا من الاعتقاد بان الناس أشدّ عذابا من اللّه واقدر وبناء على ظاهر هذه الآية قالت الخوارج مرتكب الكبيرة كافر فان الآية تدل على ان القاعدين « 1 » عن الجهاد يخشون من الناس أشد من خشية اللّه واستدلوا على ذلك من العقليات ان العاقل إذا تيقن ان الحية فى هذا الحجر لا يدخل يده فى ذلك الحجر قطعا وإذا ادخل يده فيه يعلم منه قطعا انه لم يتيقن يكون الحية فيه فكذا من ارتكب كبيرة يعلم انه لم يؤمن بايات الوعيد ولو تيقن بوقوع العذاب على الكبيرة لم يرتكبها وبما ذكرنا اندفع هذا الاستدلال وظهران الآية مبنى على المجاز وَقالُوا « 2 » رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ فنقتل لَوْ لا أَخَّرْتَنا هلا أمهلتنا فى الدنيا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلى زمان الموت فنموت على الفرش ذكر(1/1536)
الجملتين بلا عطف ليدل على انّ قولهم تارة كذا وتارة كذا وليسا بكلام واحد وليس هذا سوالا عن وجه الحكمة فى إيجاب القتال فانها معلومة بل هو تمنى واستزادة فى مدّة الكف عن القتال حذرا عن الموت ويحتمل انهم ما تفوهوه ولكن قالوه فى أنفسهم فحكى اللّه تعالى عنهم قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا أى منفعتها والاستمتاع بها قَلِيلٌ من منافع الاخرة ومع ذلك سريع التقضي وان طال فلا يفيدكم استزادة العمر وان زاد فرضا وَثواب
_________
(1) وفى الأصل القاعدون
(2) فى الأصل قالوا -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 167
الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ثواب الدنيا وأبقى لِمَنِ اتَّقى من الشرك والعصيان فاستزادوا ثواب الاخرة بالتقوى عن التقاعد وامتثال امر الله تعالى فى الجهاد وكانه جواب عن قولهم لم كتبت علينا القتال يعنى كتبنا لتكثير تمتيعكم هذا على تقدير كون قولهم لم كتبت سؤالا عن وجه الحكمة وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) يعنى لا تنقصون ادنى شىء من ثوابكم فلا ترغبوا عنه أو المعنى لا تنقصون من اجالكم المقدرة بالقتال - قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء لتقدم الغيبة والباقون بالتاء للخطاب ونزلت ردّا لقول المنافقين الذين قالوا فى قتلى أحد لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا.(1/1537)
أَيْنَ ما تَكُونُوا ما زائدة لتأكيد معنى الشرط فى اين يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ فى قصورا وحصون مرتفعة وقال قتادة معناه فى قصور محصنة وقال عكرمة مجصّصة والشيد الجصّ وفى إيراد هذه الآية فى هذا المقام اشعار إلى جواب قولهم لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يعنى بالقتال لا يستعجل الاجل والحذر لا يبعد الاجل ولا يرد القدر - ولمّا قالت اليهود والمنافقون بعد قدوم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه نزلت وَإِنْ تُصِبْهُمْ أى المنافقين واليهود حَسَنَةٌ أى خصب ورخص فى السعر وزيادة فى الأموال والأولاد يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لنا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ قحط أو بلية يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أى من شومك وان كان الفاعل هو اللّه تعالى قُلْ يا محمد كُلٌّ أى كل واحد من الحسنة والسيئة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بخلقه على حسب إرادته تفضلا أو انتقاما على مقتضى حكمته ولا يجوز من اللّه تعالى الانتقام من أحد بشوم غيره فنسبتهم السيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بسبب شومه مع انغماسهم فى الكفر والمعاصي ظاهر البطلان فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ الكافرين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ يعنى لا يقربون الفهم والتفقه فضلا من ان يفقهوا حَدِيثاً (78) يعنى القرآن فانهم لو فهموه وتدبروا معانيه لعلموا ان الخير والشرّ كل من عند الله وان الله لا يعذب أحدا بعمل غيره اولا يفهمون حديثا ما كالانعام أو شيئا حادثا فيتفكروا فيما صدر عنهم من الأعمال هل هو حسنة يوجب الانعام
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 168
او سيئة يقتضى النقمة.(1/1538)
ما أَصابَكَ ايّها الإنسان مِنْ حَسَنَةٍ نعمة فَمِنَ اللَّهِ أنعم عليكم تفضلا منه من غير استحقاق عليه سبحانه واستيجاب فان كل ما فعله انسان من الطاعة لو سلم صدوره عنه غير مشوب بالمعصية قابلا للقبول وان كان عامرا لجميع أوقاته فهو مخلوقة للّه تعالى نعمة منه تعالى حيث حماه عما لا يرضى عنه ووفقه لمرضاته مستوجب على العبد الشكر على توفيقه فكيف يقتضى عليه استحقاق شىء من ثواب الدنيا أو الاخرة مع ان الوجود وتوابعه (مما يتوقف عليه صدور الطاعة وما لا يتوقف عليه) نعماء من اللّه تعالى لا تعد ولا تحصى لا يمكن ان يكون ذلك الطاعة بإزائه شكرا لها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحد يدخل الجنة الا برحمة اللّه قيل ولا أنت قال ولا انا متفق عليه من حديث أبى هريرة وَما أَصابَكَ ايّها الإنسان مِنْ سَيِّئَةٍ بلاء فَمِنْ نَفْسِكَ روى ابن المنذر عن مجاهد انه كان فى قراءة أبيّ بن كعب وابن مسعود ما أصابك من سيّئة فمن نفسك وانا كتبتها عليك أى من شامة نفسك استجلابا لا من شامة غيرك يعنى خلق اللّه تعالى تلك المصيبة والبلاء انتقاما لبعض معاصيك وجزاء لسيئاتك فان كان الإنسان كافرا كان أنموذجا لبعض ما يعدله من العقاب وان كان الإنسان مؤمنا كان كفارة لذنوبه وباعثا لرفع درجاته عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مصيبة تصيب المسلم الا كفر اللّه بها عنه حتى الشوكة يشاكها متفق عليه وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من نصب أو وصب حتى الشوكة يشاكها الا كفر الله من خطاياه متفق عليه وعن أبى موسى ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا تصيب عبدا نكبة فما فوقها وما دونها الا بذنب وما يعفو اكثر رواه الترمذي ففى هذه الآية جواب عن نسبتهم السوء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا منصوب على المصدرية أو الحالية وقصد(1/1539)
به التؤكيد ان علق الجار بالفعل وان علق برسولا قصد به التعميم كما فى قوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ وفى هذه الجملة أيضا ردّ على قولهم هذه من عندك حيث نسبوا الشوم إليه عليه السّلام وما هو الا رسول من اللّه تعالى أرسل رحمة عامّة للناس أجمعين وانما حرم الكفار من الرحمة وأصابهم ما أصابهم من النقمة فى الدنيا والاخرة بشوم أنفسهم حيث لم يطيعوا رسول اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 169
صلى اللّه عليه وسلم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) يشهد على رسالته فى الدنيا بنصب المعجزات وعند اختصامهم عند اللّه يوم القيامة كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الإلزام الكفار وتعذيبهم فان الملك يومئذ للّه الواحد القهار يحكم بعلمه لا حاجة حينئذ إلى شهادة غيره واللّه اعلم - قال البغوي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد احبّ الله فقال بعض المنافقين ما يريد هذا الرجل الا ان نتخده ربّا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم فانزل اللّه تعالى.
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه فى الحقيقة مبلغ والأمر هو الله تعالى وَمَنْ تَوَلَّى عن طاعتك فلا تهتم فَما أَرْسَلْناكَ يا محمد عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) حال من الكاف يعنى انما عليك البلاغ وعلينا الحساب ما أرسلناك لحفظ أعمالهم ومحاسبتهم.(1/1540)
وَيَقُولُونَ أى المنافقون إذا امرتهم بشىء طاعَةٌ يعنى أمرنا طاعة كان حقها النصب على المصدرية يعنى نطيعك طاعة لكن رفع للدلالة على الدوام والثبات فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغام التاء فى الطاء والباقون بالإظهار ومعنى بيّت غيّر وبدّل والتبييت بمعنى التبديل كذا قال قتادة والكلبي وقال الأخفش معنى بيّت قدر تقول العرب للشىء إذا قدر قد بيت يشبهونه ببيت الشعراء أو ببيت مبنى وقال أبو عبيدة والقتيبي معناه قدروا ليلا غير ما أعطوك العهد نهارا من البيتوتة مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ الضمير فى تقول راجع إلى طائفة يعنى زورت طائفة منهم خلاف الذي قالت عندك من الطاعة وجازان يكون للخطاب يعنى زورت طائفة منهم خلاف الذي قلت أيها النبي وعهدت إليهم وَاللَّهُ يَكْتُبُ يعنى كتبة الله من الملائكة تكتب باذنه ما يُبَيِّتُونَ ليوفى عليهم جزاء تزويرهم أو المعنى يكتب الله فى جملة ما يوحى إليك حتى تطلع على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعنى لا تلتفت إليهم فالاعراض بمعنى قلة المبالاة والتجافي عنهم أو المعنى لا تعاتبهم ولا تخبر بأسمائهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فى الأمور كلّها وفى شأنهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81) إذا فوضت إليه أمرهم ينتقم لك منهم ولا يضرونك بشىء.
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ أى المنافقون ويتاملون فى الْقُرْآنَ نظمه ومعانيه وينظرون ما فيه من الغرائب حتى يظهر لهم انه ليس من جنس كلام البشر فيحصل لهم الايمان ويذرون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 170(1/1541)
النفاق واصل التدبر النظر فى ادبار الشيء فيه دليل على صحة القياس وَلَوْ كانَ هذا القرآن مختلقا كائنا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما زعم الكفار لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) من تناقض المعنى وتفاوت النظم بحيث يكون بعضه فصيحا وبعضه ركيكا وبعضه صعب المعارضة وبعضه دون ذلك ومطابقة بعض احباره المستقبلة دون بعض لنقصان القوة البشرية وامّا الناسخ والمنسوخ فليس من باب الاختلاف بل النسخ بيان لمدة الحكم الذي اختلف بناء على اختلاف الأحوال فى الحكم والمصالح بحسب اختلاف الزمان واللّه اعلم - قال البغوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السّرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقون يستخبرون عن حالهم فيحدّثون به قبل ان يحدّث به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيضعّفون به قلوب المؤمنين وقيل كان ضعفة الرأى من المسلمين إذا بلغهم خبر السّرايا أو أخبرهم الرسول بما اوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف اشاعوا ذلك الخبر وتكون فيه مفسدة فانه إذا سمع الخصم الا من يسعى فى حفظ نفسه وإذا سمع الخوف يسعى فى القتال والفساد فانزل اللّه تعالى.(1/1542)
وَإِذا جاءَهُمْ أى المنافقين أو ضعفة الرأى من المسلمين أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أى الفتح والسلامة أَوِ الْخَوْفِ أى الهزيمة والاختلاف أَذاعُوا بِهِ اشاعوه وَلَوْ رَدُّوهُ أى ذلك الخبر إِلَى الرَّسُولِ صلى اللّه عليه وسلم وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أى ذوى الرأى من الصحابة كابى بكر وعمر وعثمان وعلى سموا باولى الأمر لانهم بصراء بالأمور أو لانهم يؤمرون منهم غالبا أو لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم يستشار منهم قبل ان يأمر الناس بشىء أو يأمر الناس بالاقتداء بهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امّا وزير أى من أهل الأرض فابو بكر وعمر رواه الترمذي عن أبى سعيد وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر رواه الترمذي لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ الاستنباط الاستخراج يقال استنبط الماء إذا استخرجه يعنى يستخرجون بانظارهم ما يليق بذلك الأمر من الاشاعة أو الإخفاء والمراد بالذين يستنبطون هم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأولوا الأمر من أصحابه فههنا وضع المظهر موضع المضمر وكان المقام تعلموه والعلم هاهنا بمعنى المعرفة يقتضى مفعولا واحدا ، ومنهم حال من الذين والمعنى لعلم المستنبطون من النبي واولى الأمر ما يليق بذلك الخبر أو
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 171(1/1543)
المراد بالمستنبطين هم المذيعون ومنهم على هذا صلة للفعل والمعنى لعلم المذيعون الذين يستخرجون العلم من النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ما يليق بذلك الأمر وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الاضافة للعهد يعنى لولا فضل اللّه ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ بالكفر والضلال إِلَّا قَلِيلًا (83) استثناء من ضمير المخاطب - أو استثناء مفرغ يعنى اتباعا قليلا يعنى لاتبعتم الشيطان الّا بعضا « 1 » منكم بحسن الرأى والعصمة من اللّه تعالى كزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وهذا نوع اخر من فضل الله أو لاتبعتم الشيطان الا اتباعا قليلا فى بعض الأمور والحاصل ان عصمتكم عن اتباع الشيطان غالبا مستفاد من الرسول والقران حيث لا يكفى عقولكم فى معرفة حسن كثير من الأشياء وقبحه فلا تستعجلوا فى اشاعة الاخبار أيضا من غير اذن منه صلى اللّه عليه وسلم روى مسلم عن عمر بن الخطاب قال لما اعتزل النبي صلى اللّه عليه وسلم نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصا ويقولون طلّق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نساءه فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتى لم يطلّق رسول الله صلى اللّه عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ الآية فكنت انا استنبط ذلك الأمر واللّه اعلم ولمّا ذكر اللّه سبحانه ما فعل المبطئون وما قالوا إذا جبنوا امر اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالقتال ولو كان وحده ووعده بالنصر ونبه ان تقاعد عيره لا يضره ولا مؤاخذة عليه بفعل غيره فقال.(1/1544)
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وان قعدوا عن الجهاد وتركوك وحدك لا تُكَلَّفُ أنت إِلَّا نَفْسَكَ إلا فعل نفسك لا يضرك مخالفتهم وتقاعدهم « 2 » قال البغوي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم واعد أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى فى ذى القعدة فلمّا بلغ الميعاد دعا إلى الخروج
_________
(1) فى الأصل بعض
(2) أخرج ابن سعد عن خالد بن معدان ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال بعثت إلى النّاس كافة فان لم يستجيبوا لى قالى العرب فان لم يستجيبوا لى فالى الفرس فان لم يستجيبوا لى فالى بنى هاشم فان لم يستجيبوا لى فالىّ وحدي منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 172
فكرهه بعضهم فانزل اللّه تعالى هذه الآية كذا أخرج ابن جرير عن ابن عباس « 1 » وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على القتال إذ ما عليك الا البلاغ والتحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى قتالهم فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى بدر الصغرى فى سبعين راكبا وأنجز اللّه وعده فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وقد مرّ القصة فى ال عمران وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً صولة وأعظم سلطانا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) تعذيبا من قريش ومن غيرهم فيه تهديد لمن لم يتبع الرسول خوفا من الكفار قال البغوي الفاء فى قوله تعالى فقاتل جواب عن قوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ... فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ - واللّه اعلم - .(1/1545)
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حق مسلم ودفع بها عنه ضررا أو جلب نفعا لوجه اللّه تعالى يَكُنْ لَهُ أى للشافع نَصِيبٌ مِنْها وهو ثواب الشفاعة قال مجاهد هى شفاعة بعضهم لبعض ويؤجر الشفيع على شفاعته وان لم يشفّع كذا روى ابن أبى حاتم « 2 » وغيره عن الحسن وعن أبى موسى قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا جاءه رجل يسئل أو طلب حاجة اقبل علينا بوجهه فقال اشفعوا توجرؤا ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء متفق عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على الخير كفاعله رواه البزار عن ابن مسعود والطبراني عنه وعن سهل بن سعد - (فائدة) ومن الشفاعة الحسنة الدعاء لمسلم عن أبى الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا الرجل لاخيه بظهر الغيب قالت الملائكة أمين ولك بمثل ذلك ، وقال ابن عبّاس الشفاعة الحسنة الإصلاح بين الناس وقيل هو حسن القول فى الناس ينال به الثواب والخير ، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً الموجبة للحرمان وقال ابن عباس هى المشى بالنميمة وقيل هى الغيبة واساءة القول فى الناس ينال به الشرّ يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ أى حظ مِنْها أى من وزرها - عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمن بشرط كلمة لقى اللّه مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه رواه ابن ماجة وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) قال ابن عباس أى مقتدرا من اقات على الشيء إذا قذر
_________
(1) أخرج ابن أبى حاتم وابن عبد البر عن سفيان بن عيينة قال سمعت ابن شبرمة يقراها عسى اللّه ان يكف من بأس الذين كفروا قال سفيان وهى فى قرأته ابن مسعود منه
(2) فى الأصل كذا ابن أبى حاتم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 173(1/1546)
و اشتقاقه من القوت فانه يقوّى البدن وقال مجاهد شاهدا وقال قتادة حافظا وقيل مقيتا لكل حيوان أى معطيا له قوته -
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ التحية مصدر حياك الله على الاخبار ثم استعمل للدعاء بذلك وكانت العرب تقول حياك الله أى أطال حياتك أو نحو ذلك ثم أبدل ذلك بعد الإسلام بالسّلام وجعل اللّه تحية بيننا بالسّلام عن عمران بن حصين قال كنا فى الجاهلية نقول أنعم اللّه بك عينا وأنعم صباحا فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك رواه أبو داود وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق اللّه آدم على صورته طوله ستون ذراعا فلمّا خلقه قال اذهب فسلّم على أولئك النفر وهم نفر من الملائكة جلوس فاسمع ما يحيونك فانها تحيتك وتحيّة ذريتك فذهب فقال السّلام عليكم فقالوا السّلام عليك ورحمة اللّه قال فزادوه ورحمة اللّه متفق عليه فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها أى ردوا مثلها على حذف المضاف ، الأمر للوجوب وكلمة أو للتخيير فالواجب فى جواب السّلام ردّ مثلها لأنه ادنى الامرين ويستحبّ الرد بأحسن منها بزيادة الرحمة والبركة - وكلما زاد فى السّلام أو فى الجواب كان اكثر ثوابا وأفضل ، عن عمران بن حصين ان رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليكم فرد عليه فجلس فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم عشر ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه فقال عشرون ثم جاء اخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته فرد عليه فجلس فقال ثلثون رواه الترمذي وأبو داود وعن معاذ بن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه وزاد ثم اتى اخر فقال السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ومغفرته ، فقال أربعون هكذا يكون الفضائل رواه أبو داود وقيل كمال الزيادة السلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته روى ان رجلا سلم على ابن عباس فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا آخر فقال ابن عباس ان(1/1547)
السلام انتهى إلى البركة ذكره البغوي وروى احمد فى الزهد وابن أبى حاتم والطبراني فى الكبير وابن مردوية من حديث سلمان الفارسي ان رجلا قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السلام عليك فقال وعليك السلام ورحمة اللّه وبركاته وقال اخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال وعليك السلام قال الرجل نقصتنى فاين ما قال اللّه وتلا الآية فقال انك لم تترك لى فضلا فرددت عليك مثله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 174(1/1548)
قلت وهذا الحديث يدل على ان قوله وعليك السّلام يكفى فى جواب من قال السّلام عليك ورحمة اللّه وبركاته اما لان المماثلة فى نفس السّلام يكفى وامّا لان اللام فى وعليك السلام للعهد فتضمن فى الجواب ما كان مذكورا فى كلام البادي بالسلام من الرحمة والبركة (مسئلة) وإذا سلم على جماعة وردّ واحد منهم يسقط عن الباقين لأنه فرض كفاية كذا فى السراجية - عن على بن أبى طالب رضى اللّه عنه قال يجزى عن الجماعة إذا مروا ان يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس ان يرد أحد هم ذكره البغوي فى المصابيح موقوفا ورواه البيهقي فى شعب الايمان مرفوعا وروى أبو داود وقال ورفعه الحسن بن على وهو شيخ أبى داود وامّا إذا سلّم على واحد من الجماعة بعينه فيقول يا فلان السلام عليك أو عليكم فحينئذ يجب على ذلك الرجل الجواب ولا يسقط برد غيره من الجماعة وكذا لا يسقط عن الجماعة برد واحد من غيرهم ، كذا فى بيان الاحكام - (مسئلة) البداية بالسّلام مسنون وهو احسن وأفضل عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا اولا أدلكم على شىء إذا فعلتم تحاببتم أفشوا السلام بينكم رواه مسلم ، وعن عبد اللّه بن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم البادي بالسلام برىء من الكبر رواه البيهقي فى شعب الايمان وعن أبى امامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان اولى الناس بالله من بدا بالسلام رواه احمد والترمذي وأبو داود وعن عبد الله بن عمرو رضى اللّه عنهما ان الرجل سال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم اىّ الإسلام خير يعنى اىّ خصال الإسلام خير قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تطعم الطعام وتقرا السلام على من عرفت ومن لم تعرف متفق عليه مسئلة - يسلم الراكب على الماشي والماشي(1/1549)
على القاعد والقليل على الكثير روى الشيخان فى الصحيحين هذا اللفظ من حديث أبى هريرة مرفوعا وزاد البخاري فى رواية ويسلم الصغير على الكبير مسئلة ويسلم على الغلمان والنساء لحديث انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم متفق عليه ، وحديث جرير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على نسوة فسلم عليهن رواه احمد وفى فتاوى الغرائب ان السّلام يكره على المرأة الشابّة والأمر دوان سلما لا يجب الجواب قلت وهذا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 175(1/1550)
عند خوف الفتنة (مسئلة : ) ويسلم على أهل بيته حين يدخل عن انس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا بنى إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك رواه الترمذي (مسئلة) وان دخل بيتا ليس فيها أحد فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فان الملائكة يردون عليه كذا فى الشرعة قال اللّه تعالى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ، (مسئلة : ) يسن السّلام قبل الكلام لحديث جابر مرفوعا السّلام قبل الكلام رواه الترمذي (مسئلة : ) وسن ان يسلم على الأخ المسلم كلما لقيه وان حالت بينهما شجرة أو جدار جدّد السلام عليه لحديث أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا لقى أحدكم أخاه فليسلم عليه فان حالت بينهما شجرا وجدارا وحجر ثم لقيه فليسلم عليه رواه أبو داود (مسئلة : ) ويسن السلام أيضا عند الوداع عن قتادة قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا دخلتم بيتا فسلّموا على اهله فإذا خرجتم فاودعوا اهله بالسلام رواه البيهقي فى الشعب مرسلا وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلّم فان بدا له ان يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الاولى بأحق من الاخرة رواه الترمذي وأبو داود (مسئلة : ) إذا بلّغ رجل بتسليم من الغائب فليقل للمبلغ عليك وعليه السّلام روى غالب عن أبيه عن جدّه قال بعثني أبى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال اتيه فاقرأه السّلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عليك وعلى أبيك السّلام رواه أبو داود (مسئلة : ) لا يجوز البداية السّلام على الكفار لقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام فإذا لقيتم أحدهم فى طريق فاضطروه إلى أضيقه رواه مسلم عن أبى هريرة وان كان فى القوم اختلاط « 1 » من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود يسلم عليهم رواه(1/1551)
الشيخان من حديث اسامة بن زيد مرفوعا لكن ينوى بالسلام المسلمين منهم كيلا يلزم بداية السّلام على الكافر مسئلة : لا بأس برد السلام على أهل « 2 » الذمّة لكن لا يزيد على قوله وعليك لقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليه عن انس - (مسئلة : ) لا يجب رد السّلام فى الصلاة والخطبة بل لا يجوز ويبطل
_________
(1) فى الأصل اخلاط -
(2) قال ابن عباس من سلم عليك من خلق اللّه فاردد عليه وان كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ذلك بان اللّه يقول إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ الآية رواه ابن أبى شيبة والبخاري فى الأدب المفرد وغيرهما منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 176(1/1552)
صلاته ولا يجب فى قراءة القرآن جهرا ورواية الحديث ومذاكرة العلم والاذان والاقامة وجاز جوابه فى تلك المواضع إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86) أى محاسبا مجازيا وقال مجاهد حفيظا يعنى يحاسب اللّه تعالى على كل شىء من حقوق العباد كالسّلام وتشميت العاطس وغير ذلك عن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمن على المؤمن ست خصال يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويسلم عليه إذا لقيه ويشمّته إذا عطس وينصح له إذا غاب أو شهد رواه النسائي وروى الترمذي والدارمي عن على عليه السلام نحو ذلك وذكر السادس ويحبّ له ما يحبّ لنفسه ولم يذكر وينصح له والمال واحد وعن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال وإياكم والجلوس بالطرقات فقالوا ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها قال فإذا أبيتم الّا المجلس فاعطوا الطريق حقه قالوا وما حق الطريق يا رسول اللّه قال غضّ البصر وكف الأذى وردّ السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر متفق عليه وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذه القصّة قال وارشاد السبيل رواه أبو داود وعن عمر رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى هذه القصّة قال وتعينوا الملهوف وتهدوا الضال رواه أبو داود (مسئلة) ومن تمام التحية المصافحة والمعانقة قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم تمام تحيّاتكم بينكم المصافحة رواه احمد والترمذي عن أبى امامة - وعن أبى ذرّ قال ما لقيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قط إلا صافحني وبعث الىّ ذات يوم ولم أكن فى أهلي فلما جئت أخبرت فاتيته وهو على سرير فالتزمنى وكانت تلك أجود وأجود رواه أبو داود وعن الشعبي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تلقى جعفر بن أبى طالب فالتزمه وقبّل ما بين عينيه رواه أبو داود والبيهقي فى الشعب مرسلا وفى شرح السنة عن البياضي متصلا وكذا روى(1/1553)
فى شرح السنة عن جعفر بن أبى طالب قال تلقانى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فاعتنقنى وعن عطاء الخراسانى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تصافحوا يذهب الغلّ وتهادّوا تحابوا وتذهب الشحناء رواه مالك مرسلا وعن البراء بن عازب المسلمان إذا تصافحا لم يبق بينهما ذنب إلا سقط رواه البيهقي فى شعب الايمان - .
اللَّهُ مبتدا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اما خبر مبتدا والجملة معترضة مؤكدة لتهديد قصد
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 177
بما قبلها وما بعدها وقوله تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ خبر بعد خبر عديل لقوله تعالى حسيبا أو يقال اللّه مبتدا والتهليل جملة معترضة وخبر المبتدا ليجمعنكم أى واللّه ليحشرنهم من القبور إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أى مفضين إليه أو فى يوم القيامة والقيام والقيامة كالطلاب والطلابة وهى قيامهم للحساب لا رَيْبَ فِيهِ أى فى اليوم أو فى الجمع حال من اليوم أو صفة للمصدر أى جمعا وَمَنْ أَصْدَقُ يعنى لا أحد اصدق مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) قولا هذه الجملة بمنزلة التعليل لقوله لا ريب فيه فانّ اخباره تعالى لا يحتمل تطرق الكذب إليه بوجه من الوجوه لأنه نقص مستحيل على اللّه تعالى فما ثبت بقوله تعالى فهو حق لا ريب فيه قرأ حمزة والكسائي اصدق وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاء - أخرج البخاري وغيره عن زيد بن ثابت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما خرج إلى أحد رجع ناس ممّن خرج معه فكان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم فنزلت.(1/1554)
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ قوله « 1 » فئتين حال عاملها الظرف المستقر يعنى لكم أو معنى الفعل أى ما تصنعون حال كونكم فئتين وفى المنفقين حال من فئتين أى متفرقين فيهم أو من الضمير أى فما لكم تفترقون فيهم ومعنى الافتراق يستفاد من فئتين والفاء للتفريع على كونه تعالى اصدق حديثا يعنى فما لكم تختلفون فيه لم لا تفوضون الأمر إلى من هو اصدق حديثا فاعتقدوا بما أخبركم وامتثلوا بما يأمركم واخرج سعيد بن منصور وابن أبى حاتم عن سعد بن معاذ قال خطب « 2 » رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال من لى بمن يوذينى ويجمع فى بيته من يوذينى فقال سعد بن معاذ ان كان من الأوس قتلناه وان كان من إخواننا من الخزرج امرتنا فاطعناك فقام سعد بن عبادة فقال ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولقد عرفت ما هو منك فقام أسيد بن حضير فقال انك
_________
(1) نقل الناسخ فى الأصل على حاشيته حديثا انها طيبة إلخ وأشار ان موضعه بعد قوله تعالى فِئَتَيْنِ فنقله الناقلون هاهنا لكن السياق السياق يأتى عن ذلك وعندى ان موضع هذا الحديث بعد قول الرجال الذين خرجوا من المدينة شاكين من وبائها وحماها أو بعد قول ناس من قريش ولكنا اجتوينا المدينة إلخ فلهذا الوجه نقلناه على حاشية ص 834 2 بو محمد عفا اللّه عنه -
(2) واخرج ابن أبى حاتم عن زيد بن اسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال كيف ترون فى الرجل يجادل بين اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسئ القول لاهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد برّاها اللّه ثم قرأ ما انزل الله فى براءة عائشة فنزل القرآن فى ذلك فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ منه رحمه اللّه [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 178(1/1555)
يا ابن عبادة منافق وتحبّ المنافقين فقام محمد بن مسلمة فقال اسكتوا أيها الناس فانّ بيننا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يأمرنا فننفذ امره فانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج احمد عن عبد الرحمن بن عوف رضى اللّه عنه ان قوما من العرب أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة فاثابهم وباء المدينة وحماها فاركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا ما لكم رجعتم قالوا أصابنا وباء المدينة « 1 » فقالوا ما لكم فى رسول اللّه أسوة حسنة فقال بعضهم نافقوا وقال بعضهم لم ينافقوا فانزل اللّه تعالى هذه الآية وفى اسناده تدليس وانقطاع قال البغوي قال مجاهدهم قوم خرجوا إلى المدينة واسلموا ثم ارتدوا واستأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة فاختلف المسلمون فيهم فقيل هم منافقون وقيل هم مؤمنون وقال بعضهم هم ناس من قريش قدموا المدينة واسلموا ثم ندموا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى تباعدوا من المدينة فكتبوا إلى رسول اللّه صلى اللّه انا على الذي فارقناك عليه من الايمان ولكنا اجتوينا المدينة واشتقنا إلى ارضنا ثم انهم خرجوا فى تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين فقال بعضهم نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لانهم رغبوا عن ديننا وقالت طائفة كيف تقتلون قوما على دينكم بان لا يذروا ديارهم فنزلت وقال بعضهم هم قوم اسلموا بمكة ولم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين فنزلت وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ أى ردّهم إلى الكفر اصل الركس ردّ الشيء مقلوبا بِما كَسَبُوا أى عملوا الردة واللحوق بدار الحرب أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أى تجعلوه من المهتدين أو تقولوا هؤلاء مهتدون وقد أضلّهم الله وفى الآية دليل على ان خالق افعال العباد هو الله تعالى والكسب من العبد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ(1/1556)
سَبِيلًا (88) طريقا إلى الحقّ - .
وَدُّوا تمنوا أولئك الذين رجعوا إلى الكفر لَوْ يعنى ليتكم تَكْفُرُونَ بيان للوداد كَما كَفَرُوا أى كفرا ككفرهم فَتَكُونُونَ سَواءً مستوين معهم فى الضلال عطف على تكفرون ولو نصب على جواب التمني لجاز من جهة النحو لكنه لا يجوز لأنه لم يرد فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ منع عن موالاتهم حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ معكم
_________
(1) فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انها طيبة وانها تتفى الخبث كما تنفى النار خبث الفضة منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 179
بعد ايمانهم صابرا محتسبا لا لغرض من اغراض الدنيا قال عكرمة الهجرة على ثلاثة أوجه هجرة المؤمنين فى اوّل الإسلام وهجرة المنافقين وهى الخروج فى سبيل الله مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صابرا محتسبا وهجرة سائر المؤمنين عمّا نهى اللّه عنه فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الايمان أو عن الهجرة بعد الايمان فان الهجرة يومئذ كانت فريضة فَخُذُوهُمْ أسارى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
كسائر الكفرة وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا كرّر النهى عن الولاية للتأكيد أو يقال السابق نهى عن اتخاذهم اولياء قبل الاخذ وهذا عن موالاتهم بعد الاخذ وَلا نَصِيراً (89) وهذا دليل على عدم جواز الاستنصار بالكفار ذكر الزهري ان الأنصار استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما رجع ابن أبيّ عن أحد فى الاستعانة بحلفائهم من يهود المدينة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخبيث لا حاجة لنا بهم.(1/1557)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ استثناء من قوله فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ فان قيل ما وجه صحة الاعتراض بين المستثنى والمستثنى منه مع انه لا مدخل له فى الاستثناء قلنا قوله تعالى لا تتخذوا ذكر تأكيدا للقتل كأنَّه قيل فاقتلوهم ولا تتركوا قتلهم بطمع الولاية والنصرة والمعنى الّا الذين يتصلون وينتهون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ قال البغوي وهم الاسلميون وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وادع هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة ان لا يعينه ولا يعين عليه ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجاء إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال كذا روى ابن أبى حاتم عن مجاهد واخرج ابن أبى حاتم وابن مردوية عن الحسن ان سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال لمّا ظهر النبي صلى اللّه عليه وسلم على أهل بدر وأحد واسلم من حولهم قال سراقة بلغني انه يريدان يبعث خالد بن الوليد إلى قومى بنى مدلج فاتيته فقلت أنشدك النعمة بلغني انك تريد ان تبعث إلى قومى وانا أريد ان توادعهم فان اسلم قومك اسلموا ودخلوا فى الإسلام وان لم يسلموا لم يخشين مغلوب قومك عليهم فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيد خالد فقال اذهب معهم فافعل ما تريد فصالحهم خالد على ان لا يعينوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وان أسلمت قريش اسلموا معهم وانزل اللّه إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فكان من وصل إليهم كان منهم على عهدهم واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال نزلت إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 180
مِيثاقٌ(1/1558)
فى هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفى بنى خزيمة بن عامر بن عبد مناف وقال الضحاك عن ابن عباس هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا فى الصلح والهدنة وقال مقاتل هم خزاعة أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة أى الا الذين وصلوا إلى قوم أو جاءوكم أو الا الذين يصلون إلى قوم أو يجيئونكم أو عطف على صفة قوم يعنى الا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو قوم كافين عن القتال والاول اظهر لقوله فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فان ترك التعرض للاعتزال عن القتال لا للاتصال بالمعتزلين حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد أو بيان لجاءوكم وقيل صفة لمحذوف أى جاءوكم قوما حصرت أى ضاقت صدورهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أى عن ان أو لأن أو كراهة ان يقاتلوكم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ يعنى ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم وعن قتال قومهم قريشا معكم وهم بنوا مدلج كانوا عاهدوا ان لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشا ان لا يقاتلوهم نهى اللّه تعالى عن قتال المرتدين إذا لحقوا بالمعاهدين لان من انضمّ إلى قوم معاهدين فلهم حكمهم فى حقن الدّماء لان قتالهم يستلزم قتال المعاهدين ولا يجوز ذلك وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بازالة الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ ولم يكفوا عنكم ، أعاد اللام تنبيها على انه جواب مستقل ويس المجموع جوابا واحدا فانّ التسليط لا يستلزم المقاتلة بل بعد التسليط يتوقف المقاتلة على مشية الله تعالى وفى هذه الآية اشارة إلى منة الله تعالى على المؤمنين حيث القى الرعب فى قلوب أعدائهم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أى اعتزلوا قتالكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الصلح والانقياد فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) طريقا إلى الاخذ والقتل وذلك الطريق هو اباحة دمائهم - .(1/1559)
سَتَجِدُونَ قوما آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ فلا تتعرضوا لهم وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فلا يتعرضوا لهم قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس هم اسد وغطفان كانوا حاضرى المدينة تكلموا بالإسلام رياء وهم غير مسلمين وكان الرجل يقول له قومه بماذا أسلمت فيقول امنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء وإذا لقوا اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا انا على دينكم يريدون بذلك الامن من الفريقين كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 181(1/1560)
اى دعوا إلى الكفر أو إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أى قلبوا وأعيدوا فى الفتنة أقبح قلب وإعادة فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ عطف على يعتزلوا وَكذا قوله يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أى ان لم يعتزلوا قتالكم ولم ينقادوا لكم بطلب الصلح ولم يكفوا أيديهم عن الشر فَخُذُوهُمْ أسارى وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أى حيث مكنتم منهم وظفرتم بهم وَأُولئِكُمْ أى أهل هذه الصفة جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) أى حجة ظاهرة اذنا بالقتل والقتال لظهور عداوتهم وانكشاف حالهم فى الكفر والغدر والإضرار بالمسلمين - واللّه اعلم قال البغوي ان عياش بن ربيعة المخزومي انى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فاسلم ثم خاف ان يظهر إسلامه لاهله فخرج هاربا إلى المدينة وتحصن فى أطم من اطامها فجزعت امه لذلك جزعا شديدا وقالت لا بنيها الحارث وابى جهل ابني هشام وهما أخواه لامه والله لا يظلنى سقف ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى تأتونى به فخرجا فى طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبى انيسة حتى أتوا المدينة فاتوا عياشا وهو فى الأطم وقالا له انزل فان امّك لم يؤويها سقف بيت بعدك وقد خلفت ان لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها ولك الله علينا لانكرهك على شىء ولا نحول بينك وبين دينك فلما ذكروا له جزع امّه وأوثقوا باللّه نزل إليهم وأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه « 1 » بنسعة فجلده كل واحد منهم مائة جلدة ثم قدموا به على امه فلما أتاها قالت واللّه لا أخليك من وثاقك حتى تكفر بالذي امنت به ثم تركوه موثقا مطروحا فى الشمس ما شاء اللّه فاعطاهم الذي أرادوا فاتاه الحارث بن زيد فقال يا عياش ا هذا الذي كنت عليه فو اللّه لان كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقالته فقال واللّه لا ألقاك خاليا ابدا الّا قتلتك ثم(1/1561)
انّ عيّاشا اسلم بعد ذلك وهاجر ثم اسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرا يومئذ ولم يشعر بإسلامه فبينا عيّاش يسير بظهر قبا إذ لقى الحارث فقتله فقال الناس ويحك أى شىء صنعت انه قد اسلم فرجع عياش
_________
(1) النسعة بالكسر سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره وقد ينسج عريضة على صدر البعير - نهاية يعنى نوادر منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 182
الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال يا رسول الله قد كان من امرى وامر الحارث ما قد علمت وانى لم أشعر بإسلامه حتى قتلته واخرج ابن جرير عن عكرمة قال كان الحارث بن زيد بن عامر بن لوى يعذب عياش بن أبى ربيعة مع أبى جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فقتله بالسيف وهو يحسب انه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت.(1/1562)
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً الآية واخرج نحوه عن مجاهد والسدى واخرج ابن إسحاق وأبو يعلى والحارث بن أبى اسامة وأبو مسلم الكحى عن القاسم بن محمد نحوه واخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه ومعنى الآية ما كان لمؤمن من حيث انه مؤمن أى ما وقع له ولا يقع عنه ولا يوجد ولا يحصل على يديه ان يقتل مؤمنا بغير حق فان ذلك من أعظم محظورات دينه وإيمانه مانع عنه فهو اخبار بعدم صدور قتل المؤمن من المؤمن والمقصود منه المبالغة كأنَّه نزل ايمان من قتل مؤمنا متعمدا لكمال نقصانه منزلة العدم وهو المعنى من قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقتل حين يقتل وهو مؤمن رواه البخاري عن ابن عباس مرفوعا وفى الصحاح ان الشيء إذا كان وصفا لازما لشىء قليل الانفكاك عنه يستعمل هناك كان كما فى قوله تعالى كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ... ، (1/1563)
كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً قلت فعلى هذا إذا كان الشيء منفكا عنه غالبا نادر الحصول أو عديم الحصول يستعمل هناك ما كان كما فى قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ مع ان اللّه تعالى عذبهم يوم أحد بالقتل والهزيمة حين اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من مخالفة امر النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هو نفى ومعناه النهى كما فى قوله تعالى ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِلَّا خَطَأً منصوب على الحالية أو العلية أو المصدرية يعنى كائنا على اىّ حال الا خاطئا أو لاجل شىء الا للخطأ أو قتلا الا قتلا خطأ فالاستثناء مفرغ وجاز ان يكون استثناء من قوله لمؤمن ، لا يقال المختار حينئذ الجرّ مع ان القراء اتفقوا على النصب لان المختار مع الفصل الكثير بين المستثنى والمستثنى منه النصب على الاستثناء صرح به الشهيد ووافقه الرضى وجاز ان يكون الاستثناء منقطعا لان قوله ان يقتل يدل على قتل العمد كما هو شأن الافعال الاختيارية فقتل الخطأ غير داخل فيما سبق والمعنى لكن ان قتله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 183(1/1564)
خطأ فجزاؤه كذلك وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً اعلم ان القتل نوعان قتل عمد وقتل خطأ وقد ذكرنا تفسير العمد على اختلاف الأقوال وحكمه من القصاص ووجوب المال وكيفية القصاص فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ ، بقي الكلام هناك فى انه هل تجب الكفارة فى قتل العمد أم لا فقال أبو حنيفة ومالك لا تجب وقال الشافعي تجب وعن احمد روايتان كالمذهبين قال الشافعي وجبت الكفارة فى القتل خطأ بهذه الآية فتجب بالقتل عمدا بالطريق الاولى وعن واثلة بن الأسقع قال اتينا النبي صلى اللّه عليه وسلم فى صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل فقال أعتقوا عنه رقبة يعتق لكل عضو منه عضوا منه من النار كذا ذكره الرافعي قلنا الحديث رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم ولفظهم قد استوجب فقط ولم يقولوا النار بالقتل فلا حجة فيه ودلالة النصّ ممنوع لان القتل عمدا كبيرة محضة لا يمكن الطهارة عنه بالكفارة ولو كان كذلك لا نفتح باب القتل عمدا بخلاف الخطأ فانه دائر بين العصيان بترك الحزم وإتيان المباح فيمكن الطهارة منه بامر دائر بين العبادة والعقوبة وهذا هو الفرق بين اليمين الغموس والمنعقدة فى وجوب الكفارة فى الثاني دون الأول عندنا « 1 » وامّا القتل خطأ فعلى اقسام أحدها شبيه العمد واختلفوا فى تفسيره فقال أبو حنيفة هو القتل عمدا بما ليس موضوعا للقتل وقال أبو يوسف ومحمد هو القتل عمدا بما يلبث غالبا وقال الشافعي هو ضربه عمدا ضربا لا يموت به غالبا فمات فمن ضرب سوطا أو سوطين عمدا فمات فهو شبيه العمد بالاتفاق ومن ضرب بسوط صغير ووالى حتى مات فهو عمد عند الشافعي وشبيه بالعمد عند أبى حنيفة وصاحبيه ومن ضرب بحجر عظيم أو خشبة عظيمة لا تلبث غالبا فهو عمد عند الكل وشبيه بالعمد عند أبى حنيفة قال أبو حنيفة لا قصاص ولو رماه بابا قبيس وما هو شبيه بالعمد فى النفس فهو عمد فيما دون(1/1565)
النفس اجماعا احتج أبو حنيفة بقوله
_________
(1) ولنا أيضا على عدم الكفارة فى القتل عمدا واليمين الغموس ما رواه ابن أبى شبية والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من لقى الله لا يشرك به شيئا وادي ركوة ماله طيبة نفسه محتسبا وسمع وأطاع فله الجنة وخمس ليس لهن كفارة قتل النفس بغير حق وبهت مؤمن والفرار من الزحف ويمين صابرة يقطع بها ما لا بغير حق منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 184(1/1566)
صلى اللّه عليه وسلم الا ان قتل الخطأ شبه العمد قتل السوط والعصا وسيأتى وجه الاحتجاج ان السوط والعصا يعم الصغير والكبير قال الجمهور العصا لا يطلق الا على الصغير عرفا واللّه اعلم ، وثانى انواع الخطأ ما اخطأ فى القصد وهو ان يرمى شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي أو حربيّا فإذا هو مسلم وثالثها ما اخطأ فى الفعل وهو ان يرمى غرضا فاصاب مؤمنا ، رابعها ما اجرى مجرى الخطأ مثل النّائم ينقلب على رجل مؤمن فقتله خامسها القتل بالتسبيب كحافر بئر وواضع حجر فى غير ملكه وحكم جميع الاقسام المذكورة وجوب الدية على العاقلة اجماعا لأنه قتل لم يجب فيه القصاص فوجب الدية تحرّزا عن اهدار دم معصوم وأيضا حكم جميعها وجوب الكفارة على القاتل وحرمانه عن الإرث اجماعا الا عند أبى حنيفة فى القتل بالتّسبيب لأنه ليس بقتل حقيقة لأنه تصرف فى الجثة ولم يوجد وانما وجد التصرف فى محل اخر ووجه قول الجمهور ان الشرع أنزله قاتلا حتى وجبت الدية اجماعا فعموم قوله تعالى وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يقتضى وجوب الكفارة أيضا كيف ومقتضى الآية ان الدية قد يجب فى القتل وقد لا يجب بخلاف الكفارة فانه يجب لا محالة وأيضا الكفارة لدفع الإثم فالقول بوجوب الكفارة على النائم إذا انقلب على رجل فقتله مع انه صلى اللّه عليه وسلم قال رفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى استيقظ الحديث وعدم وجوبها على من حفر بيرا فى غير ملكه ظلما حتى مات بالوقوع فيه مؤمن غير مرضى (مسئلة : ) وفى رواية عن أبى حنيفة لا يجب الكفارة فى الشبيه بالعمد ذكر فى الكفاية شرح الهداية انه قال الجرجاني وحدت رواية عن أصحابنا ان الكفارة لا يجب فى شبه العمد ، قلت وهذا هو الأظهر لان القصاص انما سقط هناك بشبهة من جهة الآلة واما المعصية فكمالها انما يبتنى على القصد فى قتل المؤمن فإذا كان بالقصد فهو كبيرة محضة بل أقبح من القتل بالسّيف الا ترى انه لا(1/1567)
يجوز قتل من وجب قتله بالقصاص الا بالسّيف قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد شفرته وليرح ذبيحته رواه احمد ومسلم واصحاب السنن الاربعة من حديث شدّاد بن أوس وقوله تحرير رقبة خبر مبتدا محذوف تقديره فجزاؤه تحرير رقبة واجب على القاتل والتحرير الاعتاق والحر العتيق الكريم من الشي ء ،
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 185(1/1568)
قال فى القاموس الحر خيار كل شىء سمى به لان الكرم والخير فى الأحرار والرقبة عبر بها عن النسمة كما عبر عنها بالرأس وتحرير الرقبة يقتضى ان يكون كاملا فى الرقبة فلا يجوز اعتاق أم الولد حيث استحقت العتق ولا يجوز بيعها قال عليه السلام أعتقها ولدها وكذا لا يجوز اعتاق المدبّر عند أبى حنيفة ويجوز عند الشافعي حيث لا يجوز بيعه عند أبى حنيفة ويجوز عند الشافعي ويجوز اعتاق المكاتب ما لم يؤد شيئا عند أبى حنيفة لان الكتابة يحتمل الفسخ برضائهما ولا يجوز عند الشافعي كما لا يجوز عتق من ادى بعض مكاتبته اتفاقا ولا يجوز اعتاق المجنون والأعمى والأخرس والاصمّ الذي لا يسمع أصلا ومقطوع اليدين أو الرجلين أو يد ورجل من جانب واحد لان فائت جنس المنفعة كالهالكة معنى ويجوز اعتاق مقطوع أحد اليدين واحد الرجلين من خلاف والأعور والأعمش والأبرص والارمد لأنه ناقص المنفعة لا فائدة به ويجوز اعتاق العنين والحصى والمجبوب لان منفعة النسل زائد على ما يطلب من المماليك وكذا يجوز اعتاق الامة الرتقاء والقرناء لبقاء منفعة الاستخدام (مسئلة : ) يشترط لوجوب الكفارة ان يكون القاتل عاقلا بالغا مسلما لانها عبادة فيشترط لها ما يشترط لسائر العبادات وقال الشافعي لا يشترط شيئا من ذلك قياسا على ضمان الأموال كالدية قلنا هذا قياس مع الفارق (مسئلة : ) يشترط للكفارة عند الشافعي رحمه الله الاعتاق باختياره فلو اشترى أباه بنية الكفارة لا يجوز عنده وعند أبى حنيفة يشترط اقتران النية بسبب اختياري موجب للعتق فيجوز عنده إذا نوى الكفارة عند شراء قريبه وكذا إذا وهب له أو اوصى له ونوى ولو ورث أباه أو ابنه ونوى الكفارة عند ذلك لا يجوز اجماعا مُؤْمِنَةٍ اجمعوا على اشتراط الايمان فى كفّارة القتل بناء على هذا النصّ دون(1/1569)
كفارة اليمين والظهار والصوم لكن يكفى ان يكون محكوما بإسلامها فلو أعتق صغيرا أحد أبويه مسلم جاز وروى ابن المنذر وابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال يعنى بالمؤمنة من قد عقل الايمان وصام وصلى وكل رقبة فى القرآن لم تسم مؤمنة؟؟؟
يجوز المولود فما فوقه ممن ليس له امانة ، كذا أخرج عبد الرزاق عن قتادة وقال فى حرف أبيّ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لا يجزى فيها صبىّ - وَدِيَةٌ عطف على تحرير رقبة يعنى جزاؤه دية قال فى القاموس الدية بالكسر حق القتيل وهى مجملة فى المقدار ومن يجب عليه بيّنه النبي صلى اللّه عليه وسلم (مسئلة : ) يجب الدية على العاقلة والقاتل كاحدهم عند أبى حنيفة وعند الشافعي لا يجب على القاتل شىء منها وهذا يعنى وجوب الدية على العاقلة وان كان غير ظاهر الاستنباط من القرآن لكنه ثبت بالسنة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 186(1/1570)
المشهورة والإجماع عن أبى هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما فى بطنها فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان دية جنينها غرة عبدا ووليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وفى لفظ جعل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة وغرة لما فى بطنها وأحاديث الآحاد بمصاعدة الإجماع يقوى قوة الكتاب روى البيهقي من طريق الشافعي انه قال وجدنا عامّا فى أهل العلم ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى فى جناية الحر المسلم على الحرّ خطأ مائة من الإبل على عاقلة الجاني وعامّا فيهم أيضا انها فى ثلاث سنين فى كل سنة ثلثها ، وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال من السنة ان تنجم الدية فى ثلاث سنين وممّا حكى عن الشافعي يستفاد الإجماع كذا نقل الترمذي فى جامعه وابن المنذر وروى ابن أبى شيبة وعبد الرزاق والبيهقي من طريق الشعبي عن عمر وهو منقطع ان عمر بن الخطاب جعل الدية الكاملة فى ثلاث سنين وجعل نصف الدية فى سنتين وما دون النصف فى سنة ، وكذا روى البيهقي أيضا عن على من رواية يزيد بن أبى حبيب وهو منقطع وفيه ابن لهيعة - (مسئلة) لا يجب على العاقلة ما يجب من المال فى قتل العمد بالصلح أو بعفو بعض الورثة أو غير ذلك بل فى مال القاتل وأيضا لا يجب على العاقلة ما ثبت بإقرار القاتل ولا فى قتل العبد سواء كان العبد قاتلا أو مقتولا وكل ذلك فى مال الجاني روى الدار قطنى والطبراني فى مسند الشاميين من حديث عبادة « 1 » بن الصّامت ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا واسناده واه فيه محمد بن سعيد كذاب والحارث بن نبهان منكر الحديث وروى الدارقطني والبيهقي عن عمر موقوفا العبد والعمد والصلح والاعتراف لا يعقله العاقلة وهو منقطع وفى اسناده عبد الملك بن حسين ضعيف قال البيهقي و(1/1571)
المحفوظ عن عامر عن الشعبي من قوله وروى البيهقي عن ابن عباس لا يحمل العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك وفى المؤطا عن الزهري مضت السنة ان العاقلة لا يحمل شيئا من ذلك وروى البيهقي عن أبى الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة نحوه ، (مسئلة : ) العاقلة قبيلته وعصباته عند الشافعي وعند أبى حنيفة أهل ديوانه فان لم يكن من أهل الديوان فقبيلته ويضم الأقرب فالاقرب وللمعتق عاقلة المعتق ولمولى الموالاة مولاه وعاقلة مولاه (مسئلة) لا يزاد على رجل واحد
_________
(1) فى الأصل عبادة الصامت -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 187(1/1572)
من العاقلة على اربعة دراهم فى كل سنة عند أبى حنيفة وفى رواية عنه فى ثلاث سنين على اربعة دراهم وقال الشافعي على نصف دينار (مسئلة : ) ومن لا عاقلة له فدية مقتوله فى بيت المال ، (فصل) فى مقدار الدية (مسئلة) : اجمعوا على ان فى شبيه العمد دية مغلظة وهو الواجب فى العمد إذا سقط القصاص بعارض قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عقل شبه العمد مغلّظا مثل قتل العمد ولا يقتل صاحبه وذلك ان ينزو الشيطان بين الناس فيكون رميا فى عميا فى غير فتنة ولا سلاح رواه احمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وفى غيرها من انواع الخطاء دية مخففة ولا تغليظ الا فى الإبل توقيفا والدية المغلظة عند أبى حنيفة وابى يوسف مائة من الإبل ارباعا خمس وعشرون بنت مخاض وكذا بنت لبون وكذا حقة وكذا جزعة وعند محمد والشافعي وغيرهما ثلاثون جذعة وثلاثون حقة وأربعون ثنية كلها خلفات فى بطونها أولادها احتج الشافعي ومن معه بحديث عبد اللّه بن عمرو ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الا انّ دية قتل شبه العمد قتل السّوط والعصا فيه مائة منها أربعون فى بطونها أولادها رواه احمد وأبو داؤد والنسائي وصحّحه ابن حبّان وروى الترمذي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد اللّه بن عمرو من قتل متعمدا سلّم إلى اولياء المقتول فان أحبوا قتلوا وان احبّوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين « 1 » خلفة فى بطونها أولادها وعن عبادة بن الصّامت الا ان فى الدية العظمى مائة من الإبل منها أربعون خلفة فى بطونها أولادها رواه الدارقطني والبيهقي وفى اسناده انقطاع قال أبو حنيفة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفس المؤمن مائة من الإبل وكون الناقة ذات حمل فى بطنها ولدها لا يعلم يقينا ولو علمت فالحمل حيوان من وجه وله عرضة الانفصال ففى إيجاب الخلفات الحاملات إيجاب للزيادة على ما قدره الشرع يعنى المائة(1/1573)
و هذا استدلال فى مقابلة النصّ والظاهر ان المراد بكونها فى بطنها ولدها صلاحها لذلك واللّه اعلم (مسئلة : ) والدية المخففة من الإبل أخماس فعند أبى حنيفة واحمد عشرون جذعة وعشرون حقة وعشرون بنت لبون وعشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض وعند مالك والشافعي كذلك لكن ابن لبون مكان ابن مخاض ، والحجة لابى حنيفة واحمد ما روى احمد واصحاب السّنن والبزار والدارقطني والبيهقي من حديث حجاج بن ارطاة
_________
(1) فى الأصل أربعون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 188(1/1574)
عن زيد بن جبير عن حشف بن مالك عن ابن مسعود قال قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة واحتج مالك والشافعي بما رواه الدارقطني عن أبى عبيدة ان أباه يعنى ابن مسعود قال دية الخطأ أخماس عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون أبناء لبون ذكور قال الدارقطني هذا اسناد حسن ورواته ثقات وامّا حديث حشف بن مالك فضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بوجوه أحدها انه مخالف لما رواه أبو عبيدة عن أبيه بالسند الصحيح وأبو عبيدة اعلم بحديث أبيه ومذهبه من حشف بن مالك وابن مسعود اتقى لربّه وأشحّ على دينه من ان يروى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قضى يقضاء ويفتى بخلافه قال وحشف رجل مجهول لم ير وعنه الّا زيد بن جبير ثم لا يعلم أحد رواه عن زيد غير الحجاج بن ارطاة وهو رجل مدلس ثم قد رواه عن الحجاج أقوام فاختلفوا عنه ، وقال ابن الجوزي يعارض قول الدارقطني هذا ان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فكيف جاز له ان يسكت عن ذكر هذا وكيف يقال عن الثقة مجهول واشتراط المحدثين ان يروى عنه اثنان لا وجه له وقال الحافظ ابن حجر تعقب البيهقي الدارقطني وقال وهم الدارقطني فيه والجواد قد يغتر قال وقد رايته فى جامع سفيان الثوري عن منصور عن ابراهيم عن عبد اللّه ، وعن أبى اسحق عن علقمة عن عبد اللّه ، وعن عبد الرحمن بن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي عن أبى مجلد عن أبى عبيدة عن عبد اللّه وعند الجميع بنى مخاض واللّه اعلم ، (مسئلة) والدية من الذهب الف دينار ومن الورق اثنا عشر الف درهم عند احمد وقال أبو حنيفة عشرة آلاف درهم وقال الشافعي الأصل الإبل فان عدمت فعلى قولين أحدهما يعدل إلى الف دينار أو اثنى عشر الف درهم والثاني إلى قيمتها حين القبض زائدة وناقصة والدية من الذهب الف دينار يثبت من حديث(1/1575)
ابى بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وسنذكره وفى المدية من الورق حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم انه جعل الدية اثنى عشر الفا رواه اصحاب السّنن من حديث عكرمة واختلف فيه على عمرو بن دينار فقال محمد بن مسلمة الطائفي عنه عن عكرمة عن ابن عبّاس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال سفيان بن عيينة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 189
عن عمرو بن دينار عن عكرمة مرسلا كذا رواه عبد الرزاق فى مصنفه قال ابن أبى حاتم عن أبيه المرسل أصح قال ابن حزم هكذا رواه مشاهير اصحاب ابن عينية ووجه قول أبى حنيفة ان الدراهم كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزن ستة وهى الان من زمن عمر وزن سبعة فاثنا عشر الفا على وزن ستة تقارب عشرة آلاف وزن سبعة ووجه قول الشافعي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقوّم على أهل القرى فإذا غلت رفع فى قيمتها وإذا اهانت نقص من قيمتها رواه الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عنه ورواه أبو داود والنسائي من حديث محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه - (مسئلة) لا يثبت الدية الا من هذه الأنواع الثلاثة عند الجمهور وقال أبو يوسف ومحمد واحمد منها ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان لحديث عطاء عن جابر بن عبد اللّه قال فرض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى الدية على أهل الإبل مائة من الإبل وعلى أهل البقرة مائتى بقرة وعلى أهل الشاة الفى شاة وعلى أهل الحلل مائتى حلية رواه أبو داود وابن الجوزي من طريقه وسكت عن الطعن فيه ورواه أبو داود فى المراسيل عن عطاء قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا - (مسئلة : ) دية ما دون النفس عامتها مذكور فى حديث أبى بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن وكان(1/1576)
فى كتابه ان من اعتبط « 1 » مؤمنا قتلا فانه قوديده الا ان يرضى اولياء المقتول وفيه ان الرجل يقتل بالمرأة وفيه فى النفس الدية مائة من الإبل وعلى أهل الذهب الف دينار وفى الالف إذا اوعب جذعة الدية مائة من الإبل وفى الأسنان الدية وفى الشفتين الدية وفى البيضتين الدية وفى الذكر الدية وفى الصلب الدية وفى العينين الدية وفى اليدين مائة من الإبل وفى اليد خمسون وفى الرجلين الدية وفى الرجل الواحد نصف الدية وفى المامومة ثلث الدية وفى الجائفة ثلث الدية وفى المنقلة خمس عشرة من الإبل وفى كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل وفى السنّ خمس من الإبل رواه النسائي والدارمي وفى رواية مالك فى العين خمسون وفى الموضحة خمس اختلف أهل الحديث فى صحة هذا الحديث قال أبو دلود فى المراسيل قد أسند هذا الحديث ولا يصح وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي ونقل عن احمد انه قال أرجو أن
_________
(1) اعتبط أى قتله بلا جناية منه ولا جريمة توجب قتله وكل من مات بغير علة فقد اعتبط ومات فلان عبطة أى شابا ضحيحا وعبطت الناقة ذبحت من غير مرض ، نهاية منه رحمه الله
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 190(1/1577)
يكون صحيحا وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الائمة لا من حيث الاسناد بل من حيث الشهرة فقال الشافعي فى رسالته لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم انه كتاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الاسناد لأنه أشبه التواتر فى مجيئه لتلقى الناس له بالقبول والمعرفة وقال الحاكم قد شهد عمر بن عبد العزيز وامام عصره الزهري بالصّحة لهذا الكتاب ثم ساق ذلك بسنده إليهما واخرج عبد الرزاق بسنده عن سعيد بن المسيّب قضى أبو بكر فى الجائفة إذا أنفذت فى الجوف بثلثي الدية ، كذا روى ابن أبى شيبة وروى الدارقطني موقوفا عن زيد بن ثابت فى الهاشمة عشر من الإبل وكذا أخرج عنه عبد الرزاق والبيهقي وروى مرفوعا ولا يصح وروى ابن أبى شيبة والبيهقي عن ابن أبى إسحاق عن مكحول ان النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل فى الموضحة خمسا من الإبل ولم يوقت فيما دون ذلك شيئا وروى عبد الرزاق عن شيخ له عن الحسن ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقض فيما دون الموضحة بشىء ورواه البيهقي عن ابن شهاب وربيعة وابى الزناد وإسحاق بن أبى طلحة مرسلا وجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أصابع اليد والرجل سواء وقال الأسنان سواء الثنية والضرس سواء وهذه وهذه سواء رواه أبو داود والبزار بتمامه وابن ماجة مختصرا وابن حبان وفى صحيح البخاري بلفظ هذه وهذه سواء يعنى الخنصر والإبهام ولابى داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه بلفظ الأصابع والأسنان سواء فى كل إصبع عشر من الإبل وفى كل سنّ خمس من الإبل وروى ابن أبى شيبة عن أبى خالد عن عوف سمعت شيخا فى زمن الحجاج وهو أبو المهلّب عمّ أبى قال رمى رجل رجلا بحجر فى رأسه فى زمن عمر فذهب سمعه وعقله ولسانه وذكره فلم يقرب النساء فقضى فيه عمر بأربع ديات و(1/1578)
هو حىّ (مسئلة) دية المرأة على النصف من دية الرجل نفسا وجرحا وقال الشافعي ما دون الثلث لا ينصف ثم رجع الشافعي عن هذا القول إلى قول الجمهور وروى الشافعي عن محمد بن الحسن عن أبى حنيفة عن حماد عن ابراهيم عن عليّ قال عقل المرأة على النصف من عقل الرجل فى النفس وما دونها وروى سعيد بن منصور عن زكريا وغيره عن الشعبي ان عليا كان يقول جراحات النساء على النصف من دية الرجل فيما قل وكثر وروى البغوي عن على بن الجعد عن
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 191(1/1579)
شعبة عن الحكم عن الشعبي عن زيد بن ثابت قال جراحات الرجال والنساء سواء إلى الثلث فما زاد فعلى النصف وقال ابن مسعود الا السن والموضحة فانهما سواء وقال علىّ على النصف وروى سعيد بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن ابراهيم عن عمر انّ الخنصر والإبهام سواء وان جراح الرجال والنساء سواء فى الأسنان والموضحة وما خلى ذلك فعلى النصف كذا روى البيهقي عن سفيان عن جابر عن الشعبي عن شريح قال كتب الىّ عمر فذكر نحوه وروى النسائي من رواية إسماعيل بن عباس عن ابن جريح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عقل المرأة كعقل الرجل إلى ثلث الدية فاختار مالك قول زيد بن ثابت وعمرو ابن مسعود ومن معهم وقال الشافعي كان مالك يذكر انه السنة وكنت أتابعه عليه وفى نفسى منه شىء ثم ظهر انه ، يريد انه سنة أهل المدينة فرجعت عنه وكان قول على أعجبها إلى الشعبي واختاره الجمهور لان حال المرأة انقص من حال الرجل ومنفعتها اقل وقد ظهر اثر النقصان فى التنصيف فى النفس اجماعا فكذا فى أطرافها واجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوقه (مسئلة) دية العبد قيمته ودية الامة قيمتها بالغا ما بلغ عند الشافعي وابى يوسف وكذا عند أبى حنيفة ومحمد غير انهما قالا إذا كان قيمة العبد عشرة آلاف أو اكثر والامة خمسة آلاف أو اكثر ينقص من كل واحد منهما عشرة دراهم وجراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته ، روى(1/1580)
البيهقي عن عمر وعلىّ انهما قالا فى الحر يقتل العبد عليه ثمنه بالغا ما بلغ وروى عبد الرزاق ان عمر جعل فى العبد ثمنه كعقل الحرّ فى ديته وفيه انقطاع وروى ابن أبى شيبة عن على واخرج الشافعي بسند صحيح إلى الزهري جراح العبد من قيمته كجراح الحرّ من ديته وجه قول أبى حنيفة انه تعالى قال وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يعم الحرّ والعبد ولذا تجب الكفارة بقتل العبد فما وجب بقتل العبد خطأ انما هودية وضمان نفسه من حيث الآدمية فلا يجوز ان يكون زائدا أو مساويا لدية الحرّ بل يجب ان يكون ناقصا عنه الا ترى ان دية الحرة مع كمال آدميتها ينقص من دية الحرّ فدية العبد وهو آدمي من وجه ومال من وجه اولى ان ينقص ولو غصب عبدا قيمته عشرون الفا وهلك فى يده يجب قيمته بالغا ما بلغت بالإجماع لان ضمان الغصب بمقابلة المالية لا غير - (مسئلة : ) إذا جنى العبد جناية خطأ قيل لمولاه امّا ان تدفعه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 192(1/1581)
بها أو تفديه وقال الشافعي جنايته فى رقبته يباع فيها الا ان يقضى المولى الأرش وفائدة الاختلاف فى اتباع الجاني بعد العتق أو المولى قال الشافعي انما يطالب العبد بعد العتق دون المولى وقال أبو حنيفة ان اعتقه بعد العلم بالجناية كان المولى مختارا للفداء وان أعتق قبل العلم بالجناية يجب على المولى الأقل من الأرش والقيمة واللّه اعلم - مُسَلَّمَةٌ مؤداة إِلى أَهْلِهِ أى أهل المقتول يعنى ورثة يصرفونها مصارف تركته فى تجهيزه وما بقي فى أداء ديونه ثم ما بقي فى إنفاذ وصاياه من الثلث وما زادان شاءوا وما بقي يقسم بين الورثة كسائر المواريث إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يعنى ان يعفوا إلى الورثة أو المقتول بعد الجرح قبل ان يموت سمى اللّه سبحانه العفو صدقة للحثّ عليه والتنبيه على فضله قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل معروف صدقة رواه البخاري من حديث جابر ومسلم من حديث حذيفة وأيضا فيه حث على ادائه لمن يستنكف عن قبول الصّدقة فانها من أوساخ الأموال استثناء مفرغ متعلق بمحذوف أى واجبة على عاقلته أو بمسلّمة وهو فى محل النصب على انه حال من العاقلة أو الأهل أو على انه ظرف زمان يعنى واجبة على العاقلة كائنين على اىّ حال كانوا الا حال تصدّق ورثة القاتل عليهم أو مسلمة إلى اهله كائنين على أى حال الا حال تصدّقهم على العاقلة أو مسلمة فى كل زمان الأزمان تصدقهم على العاقلة فَإِنْ كانَ القتيل مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ يعنى الكفار والعدو يطلق على الواحد والجمع وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أى فجزاؤه تحرير رقبة مؤمنة فقط دون الدية قالوا معناه إذا كان الرجل المسلم فى دار الحرب لم يهاجر إلينا بعد إسلامه أو هاجر ثم رجع إلى دار الحرب مسلما فقتله مسلم خطأ تجب الكفارة بقتله للعصمة المؤثمة بالإسلام ولا يجب الدية لان العصمة المقومة بالدار ولم يوجد ولان العاقلة انما تعقل لتركهم النصرة و(1/1582)
لا نصرة لهم فى دار الحرب أخرج ابن المنذر عن جرير بن عبد اللّه البجلي انّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من اقام مع المشركين فقد برئت منه الذمّة وقيل المراد منه إذا كان المقتول مسلما فى دار الإسلام وهو من نسب قوم كفار وقرابته فى دار الحرب حرب للمسلمين كما كان الحارث ابن زيد فالواجب فيه تحرير رقبة مؤمنة فقط وليس فيه دية لأنه ليس بين قومه وبين المسلمين
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 193
عهد فلا سبيل لهم للوجوب على المسلمين ولانه لا وراثة بين المسلم والكفار والاوّل أصح لان المقتول إذا لم يكن له وارث فديته يوضع فى بيت المال وعموم الآية يرجّح الأخير وَإِنْ كانَ « 1 » القتيل مِنْ قَوْمٍ كفّار بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من المعاهدين واهل الذمة فَدِيَةٌ يعنى فجزاؤه دية واجبة على عاقلة القاتل مُسَلَّمَةٌ مؤداة إِلى أَهْلِهِ أى ورثة المقتول وذا لا يتصوّر الا إذا كان المقتول كافرا ذمّيّا أو معاهدا أو مسلما كان له وارث مسلم والا فديته توضع فى بيت المال قال فى المدارك فيه دليل على ان دية الذمّى كدية المسلم قلت لا دليل فيه لان الدية لفظ مجمل ورد بيانه من النبي صلى اللّه عليه وسلم مختلفا كما ذكرنا من الاختلاف فى دية الرجل والمرأة والحرّ والعبد فكذا جاز الاختلاف بين دية المسلم والكافر (مسئلة) دية المسلم و(1/1583)
الكافر سواء عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال مالك دية الكافر من اىّ نوع كان ستة آلاف درهم يعنى نصف دية المسلم على قوله وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني اربعة آلاف درهم ودية المجوسي وكذا الوثني ثمانى مائة درهم وقال احمد ان كان القتل عمدا فديته على المسلم مثل دية المسلم فى ماله وان كان خطأ فعنه روايتان كقولى مالك والشافعي فى الكتابي واما دية المجوسي والوثني فثمانى مائة درهم ، احتج مالك بحديث عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جدّه قال خطب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح الحديث بطوله وفيه لا يقتل مؤمن بكافر ودية الكافر نصف دية المسلم وفى رواية دية المعاهد نصف دية الحرّ رواه أبو داود وكذا روى الترمذي وقال السيوطي حسن ، وروى احمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بطريقين لفظ أحدهما دية الكافر نصف دية المسلم ولفظ الآخر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى ان عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلم ووجه قول الشافعي فى أهل الكتابين حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال كانت قيمة الدية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثمان مائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ودية
_________
(1) أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى حاتم والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي فى سننه عن ابن عباس فى قوله فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ قال كان الرجل يأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيسلم ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم وهم مشركون فيصيبه المسلمون خطأ فى سرية إذا أغارت فيعتق الذي يصيبه رقبة وفى قوله وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ قال كان الرجل يكون معاهدا وقومه أهل عهد فيسلم إليهم ديته ويعتق الذي أصابه رقبة منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 194(1/1584)
اهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين قال فكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال ان الإبل قد غلت قال ففرضها عمر على أهل الذهب الف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر الف درهم وعلى أهل البقرة مائتى بقرة وعلى أهل الشاء الفى شاة وعلى أهل الحلل مائتى حلة ، قال وترك دية أهل الذمّة لم يرفعها فيما رفع من الدية رواه أبو داود وروى الشافعي عن فضيل بن عياص عن منصور بن المعتمر عن ثابت الحداد عن ابن المسيّب ان عمر مضى فى دية اليهودي والنصراني باربعة آلاف درهم وفى دية المجوسي ثمان مائة درهم وكذا روى الدارقطني بسنده عن سعيد بن المسيّب وروى البيهقي من طريق الشافعي عن سفيان عن صدقة ابن بشار قال أرسلنا يعنى صدقة إلى سعيد بن المسيب يسئله عن دية المعاهد قال قضى فيه عثمان باربعة آلاف درهم وروى البيهقي والدارقطني عن عمر فى المجوسية اربعمائة درهم وروى ابن حزم فى الإيصال من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبى الخير عن عقبة بن عامر ان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال دية المجوسي ثمانى مائة درهم وكذا أخرج الطحاوي وابن عدى والبيهقي واسناده ضعيف من أجل ابن لهيعة قال عقبة بن عامر قتل رجل فى خلافة عثمان كليا يصيد لا يعرف مثله فى الكلاب فقوّم ثمانى مائة درهم فالزمه عثمان بتلك القيمة فصار دية المجوسي قيمة الكلب وروى البيهقي من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبى حبيب عن ابن شهاب ان عليّا وابن مسعود كانا يقولان فى دية المجوسي ثمانى مائة درهم والحجة لابى حنيفة حديث ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال دية الذمّى دية المسلم رواه الطبراني فى الأوسط وذكر فى الهداية بلفظ دية كل ذى عهد فى عهده الف دينار قال صاحب الهداية وكذا قضى أبو بكر وعمر قلت اما حديث ابن عمر فرواه الدارقطني أيضا وقال لم يروه عن نافع عن ابن عمر غير أبى بكر القرشي عبد اللّه بن عبد الملك النهدي وهو متروك وقال هذا الحديث(1/1585)
باطل لا اصل له وكذلك قال ابن حبان هذا باطل لا اصل له من كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولا يحل الاحتجاج بابى بكر وروى الدارقطني أيضا حديث اسامة بن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل دية المعاهد كدية المسلم وقال فيه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصى متروك وروى الدارقطني أيضا حديث ابن عباس قال جعل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم دية العامريين دية المسلم قال أبو بكر بن عياش روايه كان لهما عهد قال الدارقطني
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 195(1/1586)
فيه أبو سعيد سعيد بن المرزبان البقّال قال يحيى ليس بشىء ولا يكتب حديثه وقال القلاس متروك وامّا اثر عمر فروى عبد الرزاق فى مصنفه عن رباح عن عبيد اللّه عن حميد عن انس انّ يهوديا قتل عيلة فقضى عمر باثنى عشر الف درهم ورباح ضعيف وروى الطحاوي والحاكم من حديث جعفر بن عبد اللّه بن الحكم ان رفاعة بن اشمول اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته الف دينار واحمد رحمه اللّه حمل ما احتج به أبو حنيفة على القتل عمدا وما احتج به غيره على القتل خطأ والله اعلم وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فى مال القاتل ان كان القاتل واجدا للرقبة مالكا لها أو قادرا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلا عن الديون وعن حوائجه الاصلية فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة فَصِيامُ يعنى فالواجب على القاتل فى جميع الصّور المذكورة صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فمن أفطر يوما فى خلال الشهرين بلا عذر أو نسى النية أو نوى صوما اخر وجب عليه الاستيناف اجماعا لاشتراط التتابع وان أفطرت المرأة بحيض فلا استيناف عليها اجماعا ومن أفطر بعذر مرض أو سفر يجب عليه الاستيناف عند الجمهور خلافا لاحد قولى الشافعي وهو القديم منه كذا روى ابن أبى حاتم عن مجاهد فان عجز عن الصّوم لا يجزيه الإطعام عند أبى حنيفة ومالك وأصح قولى الشافعي وقال الشافعي فى أحد قوليه واحمد يجزيه قياسا على الظهار كذا روى ابن أبى حاتم عن مجاهد قلنا هو قياس من غير جامع وفى مورد النصّ والمذكور فى الآية كل الواجب تَوْبَةً منصوب على العلية أى شرع ذلك له لكى يتوب اللّه عليه أو على المصدرية أى تاب الله(1/1587)
عليكم توبة أو فليتب توبة أو على انه بحذف المضاف حال من الصّيام ان جعل فاعلا للظرف ومن ضميره فى الظرف ان جعل مبتدا والمعنى فعليه صيام شهرين والتوبة بمعنى ان الصيام سبب لقبول التوبة ولك ان تجعل النصب على المدح فيكون مدحا للصيام بجعله توبة مِنَ اللَّهِ صفة للتوبة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بحال من قتل حَكِيماً (92) فيما قدّر واللّه اعلم قال البغوي ان مقيس بن ضبابة الكندي اسلم هو واخوه هشام فوجد أخاه هشاما قتيلا فى بنى النجار فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه رجلا من بنى فهر إلى بنى النجار ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمركم ان علمتم قاتل هشام ابن ضبابة ان تدفعوا إلى مقيس فيقتصّ منه وان لم تعلموا ان تدفعوا إليه ديته فابلغهم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 196
الفهري ذلك فقالوا سمعا وطاعة للّه ولرسوله ما نعلم له قاتلا لكنا نؤدى ديته فاعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فاتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبة اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخر فشدخه ثم ركب بعيرا وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا فنزل.(1/1588)
وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً من حيث انه مؤمن يعنى سخطا لايمانه أو مستحلا لقتله كما قتل مقيس فهريا مُتَعَمِّداً وما ذكر البغوي من قصّة مقيس يمكن الاستدلال به على أبى حنيفة فى ان القتل بالمثقل أيضا من قبيل العمد وقد قال أبو حنيفة هو شبه العمد ويمكن الجواب عنه على رواية الجرجاني ان شبه العمد من حيث الإثم حكمه حكم العمد ولذا قلنا لا كفارة له وانما خالف العمد فى سقوط القصاص لتمكن الشبهة من جهة الآلة ومقتضى هذه الآية الإثم دون القصاص ، (فائدة : ) قال البغوي مقيس ابن ضبابة هو الذي استثناه النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة عمن امّنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة واخرج ابن جرير من طريق ابن جريح عن عكرمة ان رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس ابن ضبابة فاعطاه النبي صلى اللّه عليه وسلم الدية فقبلها ثم وثب على قاتل أخيه فقتله فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا أومنه فى حل ولا حرم فقتل يوم الفتح فقال ابن جريح فيه نزلت هذه الآية وهذه الرواية مرسلة ظاهرا لكن روى أبو داود عن عكرمة انه قال كل شىء أقول لكم فى التفسير فهو عن ابن عباس فعلى هذا يكون متصلا وهذه الرواية تدل على ان قاتل هشام كان معروفا ولعل ذلك القتل كان خطأ حيث حكم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالدية ورواية البغوي تدلّ على ان القاتل لم يعلم والحكم فى مثل ذلك القسامة والدية ومسائل القسامة وشرائطها والاختلاف فيها يقتضى بسطا لا حاجة إلى ذكره هاهنا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها لاجل كفره لازما لسخطه من الايمان أو لاستباحته القتل أو المراد بالخلود المكث الطويل أخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان جازاه وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ طرده من الرحمة وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) روى الشيخان عن ابن عباس انه لا يقبل نوبة قاتل المؤمن عمدا وقال البغوي حكى عن ابن عباس(1/1589)
ان قاتل المؤمن عمدا لا توبة له فقيل له ا ليس قد قال الله تعالى ولا يقتلون « 1 » النّفس الّتى حرّم اللّه الّا بالحقّ إلى ان قال وَمَنْ يَفْعَلْ
_________
(1) فى الأصل ولا تقتلوا بصيغه النهى لكنه سهو - أبو محمد عفا الله عنه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 197(1/1590)
ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ فقال كانت هذه فى الجاهلية وذلك ان ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا ان الذي تدعونا « 1 » إليه لحسن لو تخبرنا ان لما عملنا كفارة فنزل وَالَّذِينَ لا « 2 » يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فهذه أولئك وامّا التي فى النساء فالرجل إذا عرف الإسلام بشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم وروى عن ابن عبّاس خلافه ذكر فى التفسير انه قال ابن عبّاس فجزاؤه جهنم خالدا فيها لو جازاه اللّه لكنه يتفضل عليه ولا يخلده لايمانه واخرج سعيد ابن منصور والبيهقي فى السنن عن ابن عباس ان رجلا أتاه فقال ملأت حوضى انتظرت بهيمتى ترد عليه فقال لم استيقظ الا برجل قد اسرع ناقته وثلم الحرض وسال الماء فقمت فزعا فضربته بالسّيف فامره بالتوبة قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان بن عيينة قال كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا لا توبة له فإذا ابتلى رجل قالوا له تب قلت وجه الجمع بين القولين لابن عباس وغيره من أهل العلم ان قتل العمد جناية على حق العبد وجناية على حق الله تعالى فقولهم لا توبة له معناه لا توبة له فى حق العبد وفيه القصاص لا محالة امّا فى الدنيا أو فى الاخرة كما ينطق به النصوص وهو المعنى من قوله صلى اللّه عليه وسلم كل ذنب عسى اللّه ان يغفره الا من مات مشركا أو من يقتل مؤمنا متعمدا رواه أبو داود من حديث أبى الدرداء ورواه النسائي وصححه الحاكم عن معاوية وامّا قول العلماء بقبول التوبة فمعناه تفيد التوبة لاستدراك حق اللّه تعالى وقال زيد بن ثابت لما نزلت التي فى الفرقان وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللينة فنسخت اللينة وأراد بالتغليظ هذه الآية والقول(1/1591)
بان هذه الآية ناسخة لما فى الفرقان زعم من زيد بن ثابت رضى اللّه عنه إذ لا تدل هذه الآية على انه لا توبة له بل المذكور فى هذه الآية جزاء القتل عمدا وذا لا يتصوّر الّا إذا لم يتب ومات فان تاب فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له اعنى فى حق اللّه تعالى وامّا فى حق العبد فلا بد فيه ردّ المظالم واسترضاؤه ، (فائدة) احتجت المعتزلة بهذه الآية على خلود مرتكب الكبيرة فى النار والخوارج على انّ مرتكب الكبيرة كافر وامّا أهل السنة والجماعة فياوّلون هذه الآية كما ذكرنا للاجماع على ان المؤمن لا يخلد فى النار وان مات بلا توبة وان الكبيرة لا يخرج المؤمن من إيمانه مستندا ذلك الإجماع
_________
(1) فى الأصل تدعون -
(2) فى الأصل والذين يدعون 853
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 198(1/1592)
على ما تواتر من الكتاب والسنة من قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وقد ذكرنا الكلام فى تفسيره فى موضعه وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى حيث ذكر عنوان القاتل بقوله الَّذِينَ آمَنُوا وقوله صلى اللّه عليه وسلم من قال لا اله الا الله دخل الجنة وان زنى وان سرق متفق عليه عن أبى ذرّ - وقوله صلى اللّه عليه وسلم من مات لا يشرك باللّه دخل الجنة رواه مسلم عن جابر وقوله صلى اللّه عليه وسلم بايعونى على ان لا تشركوا باللّه شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين ايديكم وأرجلكم ولا تعصوا فى معروف فمن وفى منكم فاجره على اللّه ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فى الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره اللّه فهو إلى اللّه ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه فبايعناه على ذلك متفق عليه من حديث عبادة بن الصّامت ، (فصل) فيما ورد فى القاتل عمدا ، عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اوّل ما يقضى بين الناس يوم القيامة فى الدّماء متفق عليه وعنه قال رجل يا رسول اللّه اىّ الذنب اكبر قال ان تدعو للّه ندّا وهو خلقك قال ثم اىّ قال ان تقتل ولدك خشية ان يطعم معك الحديث متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجتنبوا السبع الموبقات وعدّ منها قتل النفس التي حرم اللّه الّا بالحق متفق عليه وفى حديث عن بن عبّاس مرفوعا لا يقتل حين يقتل وهو مؤمن رواه البخاري وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لزوال الدنيا أهون عند اللّه من قتل رجل مسلم رواه الترمذي والنسائي ورواه ابن ماجة عن البراء بن عازب وروى النسائي من حديث بريدة قتل المؤمن أعظم عند اللّه من زوال الدّنيا وعن أبى سعيد وابى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه(1/1593)
و سلم قال لو ان أهل السّماء والأرض اشتركوا فى دم مؤمن لاكبّهم اللّه فى النار رواه الترمذي وعن عبد اللّه بن عمرو قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول ما اطيبك وما أطيب ريحك وما أعظمك وما أعظم حرمتك والذي نفسى بيده لحرمة المؤمن أعظم من حرمتك ماله ودمه رواه ابن ماجة وعن أبى الدرداء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يزال المؤمن معتقا صالحا ما لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلّح رواه أبو داود وعن أبى هريرة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 199
من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقى اللّه وهو مكتوب بين عينيه آيس من رحمة اللّه ، رواه ابن ماجة وروى الطبراني من حديث ابن عباس نحوه وابن الجوزي عن أبى سعيد الخدري نحوه وأبو نعيم فى الحلية عن عمر بن الخطاب موقوفا نحوه واللّه اعلم ، روى البخاري والترمذي والحاكم وغيرهم عن عكرمة عن ابن عباس قال مرّ رجل من بنى سليم بنفرس اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا ما سلم علينا الا ليتعوّذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزلت.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذاضَرَبْتُمْ(1/1594)
يعنى سافرتم وذهبتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ للجهاد فَتَبَيَّنُوا قرأ حمزة والكسائي فى الموضعين هاهنا وفى الحجرات بالتاء المثناة الفوقانية والثاء المثلثة من التثبت أى قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر وقرا الباقون بالتاء المثناة الفوقانية والباء الموحدة والياء المثناة التحتانية والنون من التبيّن يقال تبينت الأمر إذا تامّلته ، وطلبت بيانه يعنى لا تعجلوا قبل وضوح الأمر ذكر البغوي من طريق الكلبي عن ابن عبّاس ان اسم المقتول مرداس بن نهيك من أهل فدك وكان مسلما ولم يسلم من قومه غيره فسمعوا بسرية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تريدهم وكان على السرية رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا واقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين فلما راى الخيل خاف ان يكونوا غير اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فالجأ غنمه إلى عاقول من جبل وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبرون فلما سمع التكبير عرف انهم من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فكبر ونزل وهو يقول لا اله الا اللّه محمد رسول اللّه السّلام عليكم فتغشاه اسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فوجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من ذلك وجدا شديدا وقد كان قد سبقهم قبل ذلك الخبر قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتلتموه ارادة ما معه ثم قرأ هذه الآية على اسامة بن زيد فقال يا رسول اللّه استغفر لى فقال فكيف بلا اله الا اللّه قالها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاث مراة قال اسامة رضى الله عنه فما زال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعيدها حتى وددت انى لم أكن أسلمت الا يومئذ ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لى بعد ثلاث مرات وقال أعتق رقبة كذا روى الثعلبي من طريق الكلبي وروى أبو ظبيان عن اسامة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 200(1/1595)
رضى اللّه عنه قال قلت يا رسول اللّه انما قال خوفا من السّلاح قال ا فلا شققت عن قبله حتى تعلم أ قالها أم لا واخرج البزار من وجه اخر عن ابن عبّاس قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية فيها المقداد فلمّا أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير فقال اشهد ان لا اله الّا اللّه فقتله المقداد فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم كيف لك بلا اله الا اللّه غدا وانزل اللّه تعالى هذه الآية واخرج احمد والطبراني وغيرهما عن عبد اللّه بن أبى حد رد الأسلمي وروى ابن جرير نحوه من حديث أبى عمرة قال عبد الله بن أبى حدرد بعثنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة ومحلم بن حثامة بن قيس الليثي فمرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي فسلم علينا فحمل عليه محلم فقتله « 1 » فلمّا قدمنا النبي صلى اللّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يعنى هذه الآية واخرج ابن مندة عن جزء بن الحدرجان قال وفد أخي فداد إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم انا مؤمن فلم يقبلوا منه فقتلوه فبلغنى ذلك فخرجت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية فاعطانى النبي صلى اللّه عليه وسلم دية أخي واخرج ابن جرير من طريق السدى وعبد من طريق قتادة وابن أبى حاتم من طريق ابن لهيعة عن أبى الزبير انّ قوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ كذا قرأ نافع وابن عامر وحمزة ومعناه الاستسلام والانقياد وقرا الباقون السّلام يعنى السلام عليكم وقيل المراد بكلا القرائتين هو القول بالسلام عليكم نزلت فى مرداس وهذا شاهد حسن لما رواه الثعلبي وغيره عن ابن عباس لَسْتَ مُؤْمِناً وانما فعلت ذلك متعوّذا تَبْتَغُونَ حال من الضمير فى تقولوا مشعر بما هو سبب لترك التثبت وطلب البيان عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أى منافعها من المال والغنيمة سمّى به لفنائه والعرض اسم(1/1596)
لما لا دوام له فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ فى الدنيا والاخرة يغنيكم فى الدنيا عن مثل هذه الافعال لاجل المال واعدّ فى الاخرة اجورا كثيرة لمن أمن واتقى كَذلِكَ كُنْتُمْ الكاف فى كذلك خبر كان
_________
(1) واخرج ابن جرير عن ابن عمر قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن حثامة مبعثا فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم إحنة فى الجاهلية فرماه محلم بسهم فقتله فجاء الخبر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليستغفر له فقال لا غفر الله لك فقام وهو يتلقى دموعه سردته فما مضت به ساعة حتى مات فدفنوه فلفظته الأرض فجاءوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن اللّه أراد ان يعظهم ثم طرحوه فى جبل والقوا عليه الحجارة فنزلت هذه الآية منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 201(1/1597)
قدم عليها مِنْ قَبْلُ أى قبل هذا حين دخلتم فى الإسلام وقلتم كلمة التوحيد فعصمت بها دماؤكم وأموالكم من غير ان يعلم مواطاة قلوبكم بألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالايمان والاستقامة فى الدين أو المعنى كذلك كنتم قبل الهجرة تأمنون فى قومكم من المؤمنين بلا اله الا اللّه فمن اللّه عليكم بالهجرة وقال قتادة كذلك كنتم ضلالا من قبل فمن اللّه عليكم بالإسلام ووفقتم بقول لا اله الا اللّه وقال سعيد بن جبير كذلك كنتم تكتمون ايمانكم من المشركين فمن الله عليكم بإظهار الإسلام فَتَبَيَّنُوا كرر الأمر بالتثبت والتبيين امّا لتأكيد امر التثبت وتعظيمه وتأكيد ترتب الحكم على حالهم حيث علل الحكم بالمذكور من حالهم ثم قرع عليه فتأكد الترتيب ويقال هذا متفرع على قوله فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يعنى فتثبتوا فى أخذ الغنيمة وتبيّنوا حتى يظهر لكم ان هذه الغنيمة هل هى مسوقة إليكم من عند اللّه تعالى حلالا أم هو محرم من اعراض الحيوة الدنيا أو يقال الأمر بالتبيين والتثبت اولا لنفى العجلة فى القتل حتى يظهر منه امارة الإسلام وثانيا لنفى العجلة فى القتل بعد ظهور امارات الإسلام حتى يظهر كفره ونفاقه إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) عالما بأعمالكم وأغراضكم فيجازيكم على أعمالكم على حسب أغراضكم ونياتكم ، (فائدة : ) فى هذه الآية دليل على صحة ايمان المكره لاجراء احكام الدنيا عليه وان المجتهد قد يخطى وان خطأه مغفوران كان بلا تقصير منه فى طلب الحق وان المجتهد يجب عليه التثبت والتبين وكمال الجهد ولا يلتفت إلى ما لاح له فى اوّل نظره وانه إذا اتى بما وجب عليه من التثبت والتبين فهو ماجور وان اخطأ فى اجتهاده وانه لا يجوز الحكم بكفر من قال لا اله الا اللّه مع انه مشترك بين الكتابي والمسلم ولا يعجل فى قتله حتى يتبين امره واللّه اعلم إذا راى الغزاة فى بلد أو قرية(1/1598)
شعار الإسلام فالواجب ان يكفوا عنهم فان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا غزى قوما فان سمع اذانا كفّ عنهم وان لم يسمع أغار عليهم وروى البغوي من طريق الشافعي عن ابن عصام عن أبيه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا بعث سرية قال إذا رايتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلن أحدا واللّه اعلم روى البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي عن زيد بن ثابت والبخاري عن البراء بن عازب والطبراني عن زيد بن أرقم وابن حبان من حديث ابن عاصم والترمذي عن ابن عباس نحوه
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 202
ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم املى على زيد بن ثابت.(1/1599)
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال زيد فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملئها علىّ فقال يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجلا أعمى وفى حديث ابن عباس قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم انا عميان فانزل اللّه تعالى عليه وفخذه على فخذى يعنى على فخذ زيد بن ثابت فثقلت علىّ حتى خفت ان ترض فخذى ثم سر عنه فانزل الله تعالى مكانه لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الجهاد مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فى موضع الحال من القاعدين أو من الضمير الذي فيه غَيْرُ بالرفع صفة للقاعدين أو بدل منه وغير هاهنا اكتسب التعريف لان غير اولى الضرر هو من لا ضرر له فلا يرد ان ابدال النكرة من المعرفة يقتضى نعتها والتوجيه بان القاعدين معرفة فى حكم النكرة لأنه لم يقصد به قوم بأعيانهم ضعيف لان المعرفة وان كان فى حكم النكرة لكن لا يوصف بشىء مما يوصف به النكرة الا بجملة فعلية فعلها مضارع كما فى قوله ولقد امر على اللئيم يسبنى ، وقرا نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على الاستثناء ونصبه على الحال مشكل لكونه معرفة أُولِي الضَّرَرِ فى الصحاح الضر سوء الحال امّا فى نفسه لقلة العلم والفضل والعفّة وامّا فى بدنه لعدم جارحة أو نقص فيها وامّا فى حالة الظاهر من قلة مال أو جاه وفى القاموس الضرر سوء الحال كالضر ومنه الضرير فى ذاهب البصر قلت والمراد هاهنا غير اولى الزمانة أو المرض أو الضعف فى البدل أو البصر أو المال بقرينة قوله تعالى وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يعنى لا مساوات بينهم وبين غير المجاهدين بانفسهم وأموالهم من غير عذر وامّا غير المجاهدين بعذر الزمانة أو العمى أو نحو ذلك من الأمراض وغيرها أو عدم وجدان ما ينفقون فى سبيل اللّه من الأموال فهم قد يساوون المجاهدين فى سبيل الله إذا كان نيتهم المجاهدة لو قدروا عليها روى(1/1600)
البخاري عن انس وابن سعد عنه وعن جابران رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال ان فى المدينة لا قواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد الا كانوا معكم قالوا يا رسول اللّه وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر وروى مقسم عن ابن عباس قال لا يستوى القاعدون من المؤمنين عن بدر والخارجون إلى بدر فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ المؤمنين
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 203(1/1601)
غير اولى الضرر لان المعرفة إذا أعيدت معرفة فالثانية « 1 » عين الاولى دَرَجَةً منصوب بنزع الخافض أى بدرجة أو على المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل كأنَّه قيل فضلهم تفضيلة كقولهم ضربته سوطا أو على الحال بمعنى ذوى درجة والجملة موضحة للجملة السّابقة من نفى الاستواء وانما لم يقتصر على هذه الجملة مع كونه مغنية عن نفى المساوات لان نفى المساوات يتضمن التفضيل اجمالا ودلالة وفى التفصيل بعد الإجمال والتصريح بعد الدلالة مزيد التأكيد والتمكن فان قيل عدم مساوات من عمل بطاعة اىّ طاعة كان ومن لم يعملها بديهي غير مخفى فاىّ فائدة فى بيانه قلنا فائدته التنبيه على ذلك والترغيب فى الجهاد والاولى ان يقال انه قد يتاتى فى حالة القعود عن الجهاد من الطاعات بفراغ القلب وأداء حقوق اللّه تعالى وحقوق الناس ما لا يتاتى فى حالة الجهاد فيوهم ذلك فضل القاعد على المجاهد ففائدة هذه الآية دفع ذلك التوهم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل المجاهد فى سبيل اللّه كمثل الصّائم القائم القانت بايات اللّه لا يفتر من صيام ولا صلوة حتى يرجع المجاهد فى سبيل اللّه متفق عليه وَكُلًّا أى كل واحد من المجاهدين والقاعدين بلا عذر وَعَدَ اللَّهُ المثوبة الْحُسْنى يعنى الجنّة بايمانهم فيه دليل على ان الجهاد فرض على الكفاية ولو كان فرضا على الأعيان لاستحق القاعد العقاب دون الثواب ، (فصل) اجمعوا على انه إذا كان الكفار قارين فى بلادهم فعلى الامام ان لا يخلو سنة من السنين عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطلا لان النبي صلى اللّه عليه وسلم والخلفاء الراشدون لم يهملوا الجهاد فإذا قام على الجهاد فئة من المسلمين بحيث حصل بهم دفع شرّ الكفار وإعلاء كلمة اللّه تعالى سقط عن الباقين وحينئذ لا يجوز للعبد ان يخرج إلى الجهاد بغير(1/1602)
اذن المولى ولا للمرءة بغير اذن الزوج ولا للمديون بغير اذن الدائن ولا للولد إذا منعه أحد أبويه لان بغيرهم مقنعا فلا ضرورة إلى ابطال حقوق العباد وان لم يقم به أحد اثم جميع الناس الا اولى الضرر منهم واجمعوا على انه يجب على أهل كل قطر من الأرض ان يقاتلوا من يلونهم من الكفّار فان عجزوا ساعدهم الأقرب فالاقرب وكذا إذا تهاونوا مع القدرة يجب القيام به على الأقرب فالاقرب إلى منتهى الأرض (مسئلة) واجمعوا على انه إذا التقى
_________
(1) فى الأصل فالثانى عين الاول
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 204(1/1603)
الصفان وجب على المسلمين الحاضرين الثبات وحرم عليهم الفرار الا ان يكونوا متحرفين لقتال أو متحيّزين إلى فئة أو يكون الكفار اكثر من ضعف عدد المسلمين فيباح لهم الفرار لكن الثبات حينئذ أفضل ، (مسئلة : ) يشترط للجهاد الزاد والراحلة مع سلامة الأسباب والآلات عند الائمة الثلاثة إذا تعين الجهاد على أهل بلد وكان بينهم وبين موضع الجهاد مسافة سفر وقال مالك لا يشترط ذلك لنا قوله تعالى غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ومن لا زاد له ولا راحلة فهو من أهل الضرر وقوله تعالى وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية (مسئلة) واجمعوا على انه إذا هجم العدو دار قوم من المؤمنين يجب على كل مكلّف من الرجال حرا كان أو عبدا غنيا كان أو فقيرا ممّن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروج إلى الجهاد وحينئذ يكون من فروض الأعيان فلا يظهر فيه حق العبد كالمولى والدائن والأبوين كما فى الصلاة والصوم وقال أبو حنيفة تخرج المرأة أيضا بغير اذن زوجها فان وقع بهم الكفاية سقط عمّن ورائهم وان لم يقع بهم الكفاية يجب على من يليهم اعانتهم وان قعد من يليهم يجب على من ورائهم الأقرب فالاقرب واللّه اعلم ، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ فى سبيل اللّه باموالهم وأنفسهم عَلَى الْقاعِدِينَ المؤمنين غير اولى الضرر أَجْراً عَظِيماً (95) منصوب على المصدرية لان فضّل بمعنى اجر أو على انه المفعول الثاني له لتضمنه معنى الإعطاء كأنَّه قيل وأعطاهم زيادة على القاعدين اجرا عظيما.(1/1604)
دَرَجاتٍ فى القرب والجنة كائنة مِنْهُ تعالى وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً كل واحد من الثلاثة بدل من اجرا الدرجات لغير المذنب والمغفرة للمذنب والرحمة يعمّهما وجاز ان ينصب درجات على المصدر كقولهم ضربتهم أسواطا واجرا على الحال منها تقدمت عليها لكونها نكرة ومغفرة ورحمة على المصدرية بإضمار فعليهما كرّر تفضيل المجاهدين وبالغ فيها اجمالا وتفصيلا حيث أومى إلى التفضيل اوّلا بنفي المساوات ثم صرح بالتفضيل مجملا بقوله درجة ثم فضل تفصيلا بقوله أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ترغيبا فى الجهاد وتعظيما لامره ، ولا تنافى فى توحيد الدرجة اوّلا وتكثيرها ثانيا لان المراد تفضيل كل مجاهد على كل قاعد اولا وفيما بعد تفضيل الجميع على الجميع ومقتضاه انقسام الآحاد على الآحاد أو لأن المراد اختلاف حال المجاهدين فمنهم من فضل بدرجة ومنهم من فضل بدرجات وقيل أراد بقوله فَضَّلَ اللَّهُ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 205
الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ(1/1605)
درجة فى الدنيا من الغنيمة والظفر والسلطنة وجميل الذكر وأفرد الدرجة تحقيرا لما فى الدنيا وأراد بقوله فضّل اللّه الثاني ما أعد اللّه لهم فى الاخرة وقيل المراد بالدرجة الاولى ارتفاع منزلتهم عند اللّه تعالى وبالدرجات منازلهم فى الجنة وقيل المجاهدون الأولون من جاهد الكفار لهم درجة والآخرون من جاهد نفسه أعد اللّه لهم اجرا عظيما درجات القرب منه تعالى ومغفرة ورحمة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المجاهد يعنى المجاهد الكامل من جاهد نفسه فى طاعة اللّه والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب رواه البيهقي فى شعب الايمان عن فضالة وقيل القاعدون فى الآية الاولى اولى الضرر منهم فضل اللّه المجاهدين عليهم درجة لان المجاهدين باشروا الجهاد مع النية واولى الضرر من القاعدين كانت لهم نية ولم يتيسّر لهم الجهاد وكلا من المجاهدين والقاعدين المعذورين وعد اللّه الحسنى على نياتهم كذا قال مقاتل والقاعدون الثاني غير معذورين فضل اللّه المجاهدين عليهم اجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة عن أبى سعيد الخدري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يا أبا سعيد من رضى باللّه ربّا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة قال فعجب لها أبو سعيد فقال أعدها عليّ يا رسول اللّه ففعل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واخرى يرفع اللّه بها للعبد مائة درجة فى الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال وما هى يا رسول اللّه قال الجهاد فى سبيل اللّه الجهاد فى سبيل اللّه رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أمن باللّه ورسوله واقام الصّلوة وصام رمضان كان حقا على اللّه عز وجل ان يدخله الجنة جاهد فى سبيله أو جلس فى ارضه التي ولد فيه قالوا يا رسول اللّه أ فلا نبشر الناس بذلك قال ان فى الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين فى سبيله ما بين كلّ درجتين كما بين السّماء و(1/1606)
الأرض فإذا سالتم اللّه فاسئلوا الفردوس فانه اوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر انهار الجنة رواه البخاري وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لذنوبهم رَحِيماً (96) بهم يعطيهم درجات عظام واللّه اعلم ذكر البغوي ان ناسا من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا منهم قيس بن الفاكة بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار وروى البخاري عن ابن عبّاس انّ ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 206
على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأتى السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل قلت قوله يكثر سواد المشركين يدل على انهم لم يكونوا يقاتلون وأخرجه ابن مندة وسمى منهم فى روايته قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو القيس بن الفاكة بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو ابن امية سفيان وعلى بن امية بن خلف وذكر شأنهم انهم خرجوا إلى بدر فلما راوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا غرّ هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر قلت وهذه الرواية يعنى قوله دخلهم شكّ يدل على ارتدادهم ونظم القرآن لا يدل على كفرهم وأخرجه ابن أبى حاتم وزاد فيهم الحارث ابن ربيعة بن الأسود والعاص بن عتبة بن حجاج واخرج الطبراني عن ابن عباس قال كان قوم
بمكة قد اسلموا فلما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كرهوا ان يهاجروا وخافوا واخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال كان قوم من أهل مكة قد اسلموا وكانوا يخفون الإسلام فاخرجهم المشركون معهم يوم بدر فاصيب بعضهم فقال المسلمون هؤلاء كانوا مسلمين فاكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت.(1/1607)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ يحتمل الماضي والمضارع بحذف أحد التاءين والتوفى قبض الروح الْمَلائِكَةُ قيل أراد به ملك الموت وحده لما ورد فى قوله تعالى قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ والعرب قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع والصحيح انه أراد ملك الموت وأعوانه لما روى احمد والنسائي من حديث أبى هريرة بطوله وفيه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا احتضر المؤمن أتت ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون اخرجى راضية مرضية عنك إلى روح اللّه وريحان وربّ غير غضبان الحديث وامّا الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسيح فيقولون اخرجى ساخطة مسخوطة عليك إلى عذاب اللّه عز وجل الحديث وروى احمد عن البراء بن عازب حديثا طويلا وفيه ان العبد المؤمن إذا كان فى انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل إليه ملائكة بيض الوجوه كأنّ وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ثم جلسوا منه مد البصر ثم يجىء ملك الموت عليه السّلام حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجى إلى مغفرة من اللّه ورضوان قال فيخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها فى ذلك الكفن وذلك الحنوط الحديث وانّ العبد الكافر
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 207(1/1608)
إذا كان فى انقطاع من الدنيا واقبال من الاخرة نزل إليه من السّماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون معه مدّ البصر ثم يجىء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة اخرجى إلى سخط من اللّه قال فتفرق فى جسده فينزعها كما ينزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها فى يده طرفة عين حتى يجعلوها فى تلك المسوخ الحديث وفى رواية ابن جرير وابن المنذر وابن عباس انه لما نزلت هذه الآية كتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة وانه لا غنى لهم فخرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فكتب إليهم المسلمون بذلك فقالوا نخرج فان اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فلحقوهم فنجامنهم من نجا وقتل من قتل فنزلت ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا الآية ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك فريضة الهجرة والمقام بدار الشرك وارتكاب معصية موافقة الكفار حال من الضمير المفعول قال البغوي قيل لم يكن يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم الّا بالهجرة ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا هجرة بعد فتح مكة رواه أبو داود واحمد بسند صحيح عن مجاشع بن مسعود وابن جرير عن الضحاك والصحيح ان الهجرة من دار الكفر على من قدر عليها فريضة محكمة بالإجماع غير منسوخة وهذه الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن فيه اقامة شرائع الإسلام ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا هجرة بعد فتح مكة ان مكة بعد الفتح صارت دار الإسلام ولم تبق الهجرة من مكة بعد الفتح واجبة ومن هاجر من مكة بعد الفتح لا يعدّ من المهاجرين ولا يدرك ثوابهم وكون الهجرة فريضة لا يستلزم عدم قبول إسلامهم والحكم بانهم ليسوا بمؤمنين بل يقتضى عصيانهم وترك موالاتهم ، قال الله تعالى والّذين أمنوا ولم يهاجروا ما لكم من(1/1609)
ولايتهم من شىء حتّى يهاجروا وان استنصروكم فى الدّين فعليكم النّصر الّا على قوم بينكم وبينهم ميثاق قالُوا أى الملائكة توبيخا ، جملة قالوا خبر انّ والعائد محذوف أى قالوا لهم وجاز ان يكون حالا من الملائكة بتقدير قد أو من الضمير المنصوب فى تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بتقدير قد والضمير أى وقد قالوا لهم فِيمَ كُنْتُمْ مقولة قالوا أى فى اىّ شىء كنتم فى الإسلام كما يدل عليه إقراركم به أم فى الكفر كما يدل عليه مقامكم مع الكفار وموافقتكم بهم بلا عذر قالُوا يعنى المتوفين الذين تركوا فريضة الهجرة هذا خبر انّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 208
على تقدير كون ما قبله حالا وجملة مستانفة على تقدير كونه خبر ان كانّه فى جواب السائل ما قالت المتوفون إذا قالت الملائكة ما ذكر فاجيب بانهم قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أى ارض مكة لم نقدر على مقاومة الكفار ومخالفتهم أو كنا عاجزين عن اظهار الدين وإعلاء كلمته قالُوا أى الملائكة تكذيبا لهم وتبكيتا جملة مستانفة فى جواب ما قالت الملائكة حين اعتذر المتوفون أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها يعنى(1/1610)
كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى ارض لا تمنعون فيها من اظهار الإسلام ومخالفة الكفار وإعلاء كلمة اللّه كما فعل المهاجرون إلى المدينة والحبشة ونصب فتهاجروا على جواب الاستفهام فَأُولئِكَ أى المتوفون ظالمى أنفسهم مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الفاء للتعقيب والسببية يعنى لاجل تركهم الهجرة مأويهم جهنم وذا لا يستلزم الكفر ولا الخلود فى جهنم والجملة معطوفة على جملة قبلها مستنتجة منها وجاز ان يكون جملة فاولئك خبر ان والفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط وما قبله حال أو استيناف وَساءَتْ مَصِيراً (97) مصيرهم أو جهنم قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من فر بدينه من ارض إلى ارض وان كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيقه أبوه ابراهيم ونبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخرجه الثعلبي من حديث الحسين مرسلا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن رواه البخاري وغيره وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الإسلام بهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله رواه مسلم عن عمرو بن العاص - .(1/1611)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ استثناء منقطع لعدم دخولهم فى الموصول وضميره والاشارة إليه فانهم ليسوا بظالمى أنفسهم إذ لا وجوب الا بعد القدرة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها مِنَ الرِّجالِ كالشيخ الفاني والمريض والضعيف والزمن الذي لا يستطيع السفر راجلا ولا يقدر على الراحلة وذى عيال لا يستطيع نقلهم ويخاف عليهم الضياع ان هاجر بدونهم وَالنِّساءِ فانهن مستضعفات غالبا وَالْوِلْدانِ يعنى الصبيان ذكرهم فى الاستثناء مبالغة فى الأمر والاشعار بانهم على صدد وجوب الهجرة إذا بلغوا وقدروا على الهجرة أو المراد بالولدان أولياؤهم فان أولياءهم إذا قدروا على نقلهم من دار الشرك وجب عليهم ذلك والا فهم من المستضعفين
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 209(1/1612)
و لم يذكر العبيد فان العبد إذا كان قادرا على الهجرة يجب عليه ذلك ولا يمنعه حق المولى لان حقوق العباد لا تظهر فى الفروض على الأعيان قال محمد بن إسحاق فى رواية يونس بن بكير حدثنى عبد اللّه بن المكرم ومحمد بن يحيى عن شيوخه قال نادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعنى إذا حاصر الطائف ايّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا سماهم الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الشافعي فى سبيل الرشاد وروى احمد عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من خرج إلينا من العبيد فهو حر فخرج العبيد فيهم أبو بكرة فاعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفى الصحيحين عن أبى عثمان النهدي قال سعد وهو اوّل من رمى بسهم فى سبيل الله وأبو بكرة « 1 » كان بسور حصن الطائف نزل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ثالث ثلاثة وعشرين من الطائف فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة واغتاظوا على غلمانهم فاعتقهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودفع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله وأمرهم ان يقرءوهم القرآن واعلموهم السنن فلما أسلمت ثقيف تكلمت اشرافهم فى هؤلاء المعتقين منهم الحارث بن كلدة يردونهم فى الرق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك عتقاء الله لا سبيل إليهم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً الحيلة الحذق وجودة النظر والقدرة على التصرف يعنى لا يقدرون على الهجرة ولا يجدون أسبابها وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) أى لا يعرفون السبيل بنفسه ولا يجدون الدليل.(1/1613)
فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ذكر اللّه سبحانه صيغة الاطماع ولفظ العفو إيذانا بان ترك الهجرة امر خطير حتى ان المعذور أيضا ينبغى ان لا يأمن ويترصد الفرصة ويتعلق بها قلبه وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) قال ابن عباس كنت انا وأمي ممن عذر الله يعنى من المستضعفين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين فى الصلاة ، روى البخاري وغيره عن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قال سمع اللّه لمن حمده فى الركعة الاخيرة من صلوة العشاء قنت اللهم انج عياش بن أبى ربيعة اللهم انج الوليد بن الوليد اللهم انج سلمة بن هشام اللهم انج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهمّ اجعلها سنين كسنى يوسف
_________
(1) فى الأصل أبا بكرة
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 210(1/1614)
وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً قال على بن أبى طلحة عن ابن عباس مراغما أى متحولا يتحول إليه مشتق من الرغام وهو التراب وقيل طريقا يراغم قومه أى يفارقهم على رغم أنوفهم وهو أيضا من الرغام بمعنى التراب وقال مجاهد متزحزحا عما يكره وقال أبو عبيد المراغم المهاجر يقال راغمت قومى أى هاجرتهم وهو المضطرب والمذهب فى القاموس المراغمة الهجران والتباعد والمراغم بالضم وفتح الغين المذهب والمهرب والحصن والمضطرب وَسَعَةً فى الرزق والمعاش وسعة فى الصدر بالأمن وزوال الخوف واظهار الدّين قال البغوي روى انه لما نزلت هذه الآية سمعها رجل من بنى ليث شيخ كبير مريض يقال له جندع بن ضمرة فقال والله ما انا ممن استثنى اللّه عز وجل وانى لاجد حيلة ولى من المال ما يبلّغنى المدينة وابعد منها واللّه لا أبيت الليلة بمكة أخرجوني فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فادركه الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات فبلغ خبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا لو وافى المدينة لكان أتم واوفى اجرا وضحك المشركون فقالوا ما أدرك هذا ما طلب واخرج ابن أبى حاتم وأبو يعلى بسند جيّد عن ابن عباس قال خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لاهله احملوني فاخرجونى من ارض المشركين إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمات فى الطّريق قبل ان يصل النبي إلى صلى اللّه عليه وسلم فنزلت وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً حال من الضمير فى يخرج إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أى إلى حيث امر اللّه ورسوله ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل بلوغه مهاجره عطف على يخرج فَقَدْ وَقَعَ أى ثبت والوقوع بمعنى الوجوب وهو مجاز عن تأكيد حصول الاجر بوعد اللّه تعالى إذ لا يجب على اللّه شىء أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ(1/1615)
اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) واخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير عن أبى ضمرة الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة فلما نزلت إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ الآية فقال انى بلغني وانى لذو حيلة فتجهز مريدا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فادركه الموت بالتنعيم فنزلت هذه الآية واخرج ابن جرير نحو ذلك عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدىّ والضحّاك وغيرهم سمى فى بعضها ضمرة بن العيص وفى بعضها العيص بن ضمرة وفى بعضها جندب بن ضمرة الجندعي وفى بعضها الضمري وفى بعضها
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 211(1/1616)
رجل من بنى ضمرة وفى بعضها رجل من خزاعة وفى بعضها من بنى ليث وفى بعضها من بنى كنانة وفى بعضها من بنى بكر واخرج ابن سعد فى الطبقات عن يزيد بن عبد اللّه بن قسيط ان جندع بن ضمرة الضمري الجندعي كان بمكة فقال لبنيه أخرجوني من مكة فقد قتلنى غمّها فقالوا إلى اين فاومى بيده نحو المدينة يريد الهجرة فخرجوا به فلمّا بلغوا اضاءة بنى عمارة مات فانزل اللّه تعالى فيه هذه الآية واخرج ابن أبى حاتم وابن مندة والباوزدى فى الصحابة عن هشام بن عروة عن أبيه ان الزبير بن عوام قال هاجر خالد بن حرام إلى ارض الحبشة فنهشه حيّة فى الطريق فنزلت فيه هذه الآية واخرج الأموي فى مغازيه عن عبد الملك بن عمير قال لمّا بلغ اكتم بن صيفى مخرج النبي صلى اللّه عليه وسلم أراد ان يأتيه فابى قومه ان يدعوه قال فليأت من يبلّغه عنى ويبلّغنى عنه فانتدب له رجلان فاتيا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالا نحن رسل اكتم بن صيفى وهو يسئلك من أنت وما أنت وبما جئت فقال انا محمد بن عبد اللّه وانا عبد اللّه ورسوله ثم تلا إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ الآية فاتيا اكتم فقالا له ذلك فقال أى قوم انه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا فى هذا لامر رؤساء ولا تكونوا اذنابا فركب بعيره متوجها إلى المدينة فمات فى الطريق فنزلت فيه هذه الآية وهذا مرسل واسناده ضعيف واخرج أبو حاتم فى كتاب المعمرين من طريقين عن ابن عباس انه سئل عن هذه الآية فقال نزلت فى اكتم بن صيفى قيل فاين الليثي قال كان هذا قبل الليثي بزمانة هى(1/1617)
خاصة عامة ، (فائدة : ) قالوا كل هجرة لطلب علم أو حج أو جهاد أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة أو زهدا أو ابتغاء رزق طيّب فهى هجرة إلى اللّه ورسوله ومن أدركه الموت فى طريقه فقد وقع اجره على اللّه واللّه اعلم - أخرج ابن جرير عن على قال سال قوم من بنى النجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه انا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فانزل اللّه تعالى.
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أى سافرتم فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى اثم كذا فى القاموس أَنْ تَقْصُرُوا أى فى ان تقصروا مِنَ الصَّلاةِ الرباعية دون الثنائية والثلاثية اجماعا إلى ركعتين والجار والمجرور صفة لمحذوف أى شيئا من الصلاة عند سيبويه ومفعول لتقصروا بزيادة من عند الأخفش وهاهنا ابحاث البحث الاوّل فى مقدار مسافة السفر المرخص للقصر وقد مرّ هذا البحث فى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 212(1/1618)
سورة البقرة فى رخصة إفطار الصّوم (البحث الثاني) فى انه هل يجوز الإتمام فى السفر أم لا ، فقال أبو حنيفة وبعض اصحاب مالك لا يجوز قال البغوي وهو المروي عن عمر وعلى وابن عمر وجابر وابن عباس وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك وقال الشافعي واحمد وهو المشهور من مذهب مالك انه يجوز قال البغوي وهو المروي عن عثمان وسعد بن أبى وقاص والحجة للشافعى ظاهر هذه الآية فان نفى الجناح يقال فى الرخص لا فيما يكون حتما وحديث عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقصر فى السفر ويتم ويفطر ويصوم رواه الشافعي وابن أبى شيبة والبزار والدارقطني وقال الدارقطني اسناده صحيح واعترض عليه بانه من رواية مغيرة بن زياد عن عطاء بن « 1 » رباح وقد ضعّفه احمد وقال أبو زرعة لا يحتج بحديثه لكن ابن الجوزي أخرجه من طريق عمر بن سعيد عن عطاء والمغيرة بن زياد قد وثقه وكيع ويحيى بن معين وحديث عبد الرحمن بن اسود عن عائشة قالت خرجت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى عمرة فى رمضان فافطر وصمت وقصر وأتممت فقلت بابى أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت قال أحسنت يا عائشة رواه النسائي والدارقطني وحسنه والبيهقي وصححه واعترض عليه بان عبد الرحمن بن اسود دخل على عائشة وهو صغير لم يسمع منها وقال الدارقطني دخل عليها وهو مراهق وفى تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك وروى الدارقطني هذا الحديث عن عبد الرحمن بن اسود عن أبيه عن عائشة واختلف قول الدارقطني فيه فقال فى السير اسناده حسن وقال فى العلل المرسل أشبه واعترض عليه أيضا بانه صلى اللّه عليه وسلم لم يعتمر فى رمضان باتفاق اصحاب السير لكن قوله فى عمرة رمضان فى رواية الدارقطني وليس فى رواية غيره واللّه اعلم احتج أبو حنيفة بحديث يعلى بن امية قال سالت عمر بن الخطّاب قلت ليس عليكم جناح ان تقصروا من الصّلوة ان خفتم ان يفتنكم الّذين(1/1619)
كفروا وقد أمن الناس فقال لى عمر عجبت منه فسالت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق اللّه بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم وحديث انس بن مالك رجل من بنى عبد اللّه بن كعب ليس له رواية عن النبي صلى اللّه عليه وسلم غير هذا الحديث قال أغارت علينا خيل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فوجدته يتغذى فقال ادن فكل فقلت انى صائم فقال ادن أحدثك عن الصوم ان اللّه وضع عن المسافر الصّوم
_________
(1) ابن أبى رباح [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 213(1/1620)
و شطر الصلاة وعن الحامل والموضع الصوم فيالهف نفسى ان لا أكون طعمت من طعام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رواه ابن الجوزي من طريق الترمذي والشافعي احتج بهذا الحديث لمذهبه حيث قرن الصوم بالصّلوة ورخصة المسافر فى فطر الصوم رخصة التخيير اجماعا ، وجه احتجاج أبى حنيفة ان الوضع هو الاسقاط لكن استعماله فى رخصة الصوم يدل على ان المراد به هاهنا التخيير ولو مجازا والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز حتى يقال انه فى حق الصوم للتخيير وفى حق الصلاة للاسقاط ووجه احتجاج أبى حنيفة بحديث يعلى بن امية عن عمر انّ التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض وان كان المتصدق ممن لا يلزم وطاعته كولى القصاص إذا عفى فممّن يلزم طاعته اولى وان الأمر بقبول الصدقة للوجوب واحتج أبو حنيفة أيضا بأثر عمر بن الخطاب قال صلوة السفر ركعتان وصلوة الأضحى ركعتان وصلوة الفطر ركعتان وصلوة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى اللّه عليه وسلم أخرجه النسائي وابن ماجة واثر ابن عباس قال فرض اللّه الصّلوة على نبيكم فى الحضر أربعا وفى السّفر ركعتين وفى الخوف ركعة رواه مسلم واثر عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين فاقرت صلوة السّفر وزيد فى صلوة الحضر متفق عليه وفى لفظ قال الزهري قلت لعروة فما بال عائشة تتم فى السفر قال انها تاوّلت كما تاوّل عثمان وفى لفظ للبخارى فرضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم لمّا هاجر النبي صلى اللّه عليه وسلم فرضت أربعا فتركت صلوة السفر على الأول وبحديث ابن عمر قال صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه اللّه وقد قال اللّه تعالى لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ رواه البخاري وفى الصحيحين بلفظ صحبت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فكان لا يزيد فى السفر(1/1621)
على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك وأيضا فيهما عنه صلى اللّه عليه وسلم صلى بمنى ركعتين وأبو بكر بعده وعمر بعد أبى بكر وعثمان صدرا من خلافته ثم ان عثمان صلى بعده أربعا وبما روى احمد ان عثمان صلى بمنى اربع ركعات فانكر الناس عليه فقال أيها الناس انى تاهلت بمكة منذ قدمت وانى سمعت رسول اللّه صلىاللّه عليه وسلم يقول من تاهل فى بلد فليصل صلوة المقيم وجه الاحتجاج ان انكار الناس على عثمان فى إتمامه وبيانه العذر بالتأهل بمكة دليل واضح على انه لا يجوز الإتمام ولو جاز
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 214(1/1622)
لما أنكروا عليه ولما اعتذر بالتأهل بل ببيان التخيير - وأجيب عن الآثار بان اثر عمر بن الخطاب ان صلوة السفر ركعتان تمام فى الاجر غير قصر يعنى لا نقصان فى صلوته وكيف يقول عمر غير قصر مع انه تعالى يقول فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا فانه صريح فى كونه قصرا وحديث الآحاد وان كان مرفوعا ساقط فى مقابلة نصّ الكتاب فكيف الموقوف واثر ابن عباس متروك بالإجماع حيث لم يذهب أحد إلى ان الصّلوة فى الخوف ركعة واثر عائشة لا يجوز العمل به لان عمل الراوي على خلاف ما يرويه جرح فى الحديث ولا شك ان عائشة كانت تتم فى السفر وروت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم رخصة التخيير فيجب ان يحمل قولها تركت صلوة السفر على الأول على من ان من اختار الركعتين فكانّ الصلاة تركت فى حقه على الحالة الاولى وامّا حديث ابن عمر فشهادة على النفي وحديث عائشة شهادة على الإثبات فهو اولى أو يقال معناه لم يزد على ركعتين غالبا وأيضا ذكر ابن عمران عثمان صلى صدرا من خلافته ركعتين ثم صلى أربعا ولم يذكر انكار الناس عليه وهذا دليل التخيير وأيضا قوله لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ تدل على الاولوية دون الوجوب وانكار الناس على عثمان واعتذاره جاز ان يكون لترك الاولى واحتج الحنفية بالمعقول بان الشفع الثاني لا يقضى ولا يأثم بتركه وهذا اية النافلة بخلاف الصوم فانه يقضى وبخلاف الحج على الفقير فانه يصير فريضة إذا دخل الميقات وان التخيير بين الواجبات لا يكون الا لنوع يسر فى كلا الامرين كما فى صوم(1/1623)
رمضان للمسافر فان فيه أيضا نوع يسر بسهولة فى الصوم مع الناس ما ليس فى انفراده ولا كذلك فى الاثنين والأربع فان اليسر فى الاثنين متيقن وامّا جمعة السافر وظهره فكل واحد منهما جنس اخر من الصلاة وفى كل منهما نوع يسر حيث يشترط فى الجمعة ما لا يشترط فى الظهر والتخيير بلا مراعاة يسر للمكلّف مناف لشأن العبودية وأجيب بان التخيير بين القليل والكثير مفيد فاختيار القليل لليسر واختيار الكثير لزيادة الاجر وزيادة الاجر فى الأربع لا يوجب نقصانا فى الثنتين نظيره القراءة فى الصلاة فان المصلى مخيّربين ان يقرا ادنى ما يجوز به الصلاة وحينئذ لا نقصان فى صلوته وبين ان يقرا القرآن كله فى ركعة وكلّما قرأ فى الصلاة وان كان جميع القرآن وقع من الفريضة لأنه فرد من افراد المأمور به حيث قال اللّه تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ويرد عليه ان تقريركم هذا يدل على ان الإتمام للمسافر أفضل واكثر ثوابا من القصر
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 215(1/1624)
كما انّ زيادة القراءة فى الصلاة أفضل اجماعا وانما يكره الزيادة على القدر المسنون فى حقّ الامام رعاية للقوم وامّا فى المنفرد وكذا فى حق الامام إذا كان القوم راغبين فلا كراهة اجماعا لكن القصر فى السفر أفضل من الإتمام اجماعا وما روى عن الشافعي من أحد قوليه ان الإتمام أفضل فقد رجع عنه وأجاب الحنفية عن استدلال الشافعي بهذه الآية ان الناس لما كانوا الفوا بالإتمام كان مظنة ان يخطر ببالهم ان عليهم نقصانا فى القصر فنفى عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمانوا إليه نظيره قوله تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ورد بان هذا ترك بظاهر الآية من غير موجب فلا يجوز واللّه اعلم البحث الثالث ان سفر المعصية يبيح القصر عند أبى حنيفة لعموم هذه الآية وقالت الائمة الثلاثة لا يبيح وليس لهم ما يمكن التعويل عليه من الحجة البحث الرابع إذا فارق المسافر بيوت المصر صلى ركعتين عند الائمة الاربعة وفى رواية عن مالك إذا كان من المصر على ثلثة أميال وحكى عن الحارث بن ربيعة انه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين فى منزله وفيهم الأسود وغير واحد من اصحاب عبد اللّه وعن مجاهد انه كان إذا خرج نهارا لم يقصر حتى يدخل الليل وان خرج ليلا لم يقصر حتى يدخل النهار ، لنا ان الاقامة يتعلق بدخول المصر فالسفر يتعلق بخروجها وروى ابن أبى شيبة عن على رضى اللّه عنه انه خرج من البصرة فصلى الظهر أربعا يعنى قبل التجاوز عن بيوت المصر ثم قال لو جاوزنا هذا الحصن لصلينا ركعتين وكذا إذا رجع من السفر وأراد دخول بلده صلى ركعتين ما لم يدخل بيوت مصره فإذا دخل البيوت صلى أربعا اجماعا ذكر البخاري تعليقا قال خرج على فقصر وهو يرى البيوت فلمّا رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها يريد انه صلى ركعتين والكوفة بمراء منهم وروى عبد(1/1625)
الرزاق قال أخبرنا الثوري عن وفا بن إياس الأسدي قال خرجنا مع على ونحن ننظر الكوفة فصلى ركعتين ثم رجعنا فصلى ركعتين وهو ينظر إلى القرية فقلنا له الا نصلى أربعا قال لا حتى ندخلها البحث الخامس فى انه فى أثناء السفر إذا نوى فى بلد أو قرية اقامة اربعة ايام غير يومى الدخول والخروج صلى أربعا عند مالك والشافعي ، وعن احمد ان نوى اقامة مدة يفعل فيها اكثر من عشرين صلوة أتم وقال أبو حنيفة لا يتم حتى ينوى اقامة خمسة عشر يوما فى مصر أو قرية ولا عبرة بنية الاقامة فى الصحراء والاخبية
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 216
لنا ما صح انه صلى اللّه عليه وسلم دخل مكة فى حجة الوداع صبيحة رابعة ذى الحجة يوم الأحد فلما كان يوم التروية ثامن ذى الحجة يوم الخميس توجه إلى منى وبعد طلوع الشمس من يوم عرفة توجه إلى عرفة فإذا فرغ من الحج بات بالمحصّب ليلة الأربعاء ثم طاف عليه السّلام طواف الوداع سحرا قبل الصبح وخرج صبيحة وهو اليوم الرابع عشر فتمت عشر ليال واقام بمكة إلى يوم التروية اربعة ايام ولياليها كوامل فظهر بذلك بطلان قول مالك والشافعي دون قول احمد حيث صلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بمكة عشرين صلوة لا مزيد عليه احتج أبو حنيفة بالآثار أخرج الطحاوي عن ابن(1/1626)
عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفى نفسك ان تقوم خمس عشرة ليلة فاكمل الصلاة بها وان كنت لا تدرى متى تظعن فاقصرها وروى ابن أبى شيبة بسنده عن مجاهد ان ابن عمر كان إذا جمع على اقامة خمسة عشر أتم وقال محمد فى كتاب الآثار ثنا أبو حنيفة ثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن ابن عمر قال إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على اقامة خمسة عشر يوما فاتمم الصلاة وان كنت لا تدرى متى تظعن فاقصر مسئلة : - لو دخل مصرا يريد ان يخرج غدا أو بعد غد أو متى أنجز حاجته ولم ينو مدة الاقامة حتى بقي على ذلك سنين قصرا بدا كذا قال الجمهور وهو أحد اقوال الشافعي وفى قول يقصر اربعة عشر يوما وأرجح أقواله يقصر سبعة عشر ويتم ثمانية عشر لحديث ابن عباس قال سافر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سفرا فصلى سبعة عشر يوما ركعتين ركعتين قال ابن عباس فنحن نصلى إلى سبعة عشر ركعتين ركعتين فإذا قمنا اكثر من ذلك صلينا أربعا رواة الترمذي وقال هذا حديث صحيح ولا حجة فيه لأنه اتفقت الا قامة تلك المدة والظاهر لو زادت دام القصر وقد روى احمد وأبو داود عن جابر قال اقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة وروى عبد الرزاق بسنده ان ابن عمر اقام بآذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ورواه البيهقي بسند صحيح وروى البيهقي بسنده ان ابن عمر قال ارتج علينا الثلج ونحن بآذربيجان ستة أشهر فى غزاة فكنا نصلى ركعتين وفيه انه كان مع غيره من الصحابة يفعلون ذلك واخرج عبد الرزاق عن الحسن قال كنا مع عبد الرحمن بن سمرة ببعض بلاد فارس سنين فكان لا يجمع ولا يزيد على ركعتين واخرج عن انس بن مالك انه كان مع عبد الملك بن مروان بالشام
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 217(1/1627)
شهرين فيصلى ركعتين ركعتين مسئلة : - الملاح إذا سافر فى سفينة فيها اهله وماله وكذا المكاري الذي يسافر دائما يقصر عند الثلاثة لاطلاق النص وقال احمد لا يقصر - مسئلة نية الاقامة من أهل الكلاء وهم الاخبية قيل لا يصح والصحيح انهم مقيمون لان الاقامة اصل فلا يبطل بالانتقال من مرعى إلى مرعى (مسئلة) إذا اقتدى المسافر بمقيم فى جزء من صلاته أتم أربعا عند الجمهور وقال مالك ان أدرك ركعة من صلوته أتم والا فلا وقال إسحاق بن راهويه يقصر المسافر خلف المقيم روى احمد عن موسى بن سلمة قال كنا مع ابن عباس بمكة فقلت انا إذا كنّا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا صلينا ركعتين قال تلك سنة أبى القاسم صلى اللّه عليه وسلم مسئلة من فاته صلوة الحضر فقضاها فى السفر قضاها تامّة قال ابن المنذر لا اعرف فيه خلافا الّا شيئا يحكى عن الحسن والمزني انه يقصر وان فاتته صلوة فى السفر فقضاها فى الحضر يقصر عند أبى حنيفة ومالك واحد قولى الشافعي وعند احمد يتم وهو أصح قولى الشافعي (مسئلة) ان صلى المسافر بالمقيمين صلى ركعتين وأتم المقيمون صلاتهم اجماعا عن عمران بن حصين قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح فاقام بمكة ثمان عشر ليلة لا نصلى الا ركعتين يقول يا أهل مكة صلّوا أربعا فانا قوم سفر رواه الترمذي وصححه - إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ أى ينالكم بمكروه من قتل أو جرح أو اسر أو سلب مال ، الَّذِينَ كَفَرُوا هذا شرط استغنى عن الجزاء بما سبق يعنى ان خفتم الفتنة من الكفّار فاقصروا من الصلاة فالخوف شرط لجواز القصر بظاهر هذا النصّ وبه قالت الخوارج والإجماع على انه ليس بشرط بل الكلام خارج مخرج الغالب فان غالب اسفار النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مظنة الخوف فلا حكم لهذا الشرط كما فى قوله تعالى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً وقد تظاهرت السنن على قصر الصلاة(1/1628)
فى حالة الامن كما ذكرنا حديث يعلى بن امية عن عمر وروى الشافعي عن ابن عبّاس قال سافر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين مكة والمدينة أمنا لا يخاف الّا اللّه يصلى ركعتين - وعن حارثة بن وهب الخزاعي صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحن اكثر ما كنا قطّ وامنة بمنى ركعتين متفق عليه وقيل قوله ان
خفتم متصل بما بعده من صلوة الخوف منفصل عما قبله وهذا وان كان بعيدا من حيث النظم لكنه قريب من حيث المعنى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 218(1/1629)
إذ الخوف فى صلوة الخوف شرط قطعا اجماعا ولم يذكر فيما بعد ويؤيده ما قال البغوي انه روى عن أبى أيوب الأنصاري انه قال نزل قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ هذا القدر ثم بعد حول سالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صلوة الخوف فنزل إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ الآية قال البغوي ومثله فى القرآن كثير يجىء الخبر بتمامه ثم ينسق عليه خبر اخر هو فى الظاهر كالمتّصل به وهو منفصل عنه كقوله تعالى الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وهذه حكاية عن امراة العزيز وقوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ اخبار عن يوسف عليه السّلام واخرج ابن جرير عن على عليه السلام قال سال قوم من بنى نجار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قالوا يا رسول اللّه انا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فانزل اللّه تعالى وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى اللّه عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم فهلا شددتم عليهم فقال قائل منهم ان لهم اخرى مثلها فى اثرها فانزل الله بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله عَذاباً مُهِيناً قلت فعلى هذا جزاء الشرط محذوف يدل عليه ما بعده يعنى إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فلا تتركوا الحزم والجهاد فى حالة الصلاة إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) ظاهر العداوة واخرج احمد والحاكم وصححه والبيهقي فى الدلائل عن أبى عياش الزرقي قال كنا مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا(1/1630)
المشركون عليهم خالد بن وليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي صلى اللّه عليه وسلم الظهر فقالوا قد كانوا على حالة لو أصبنا غرتهم ثم قالوا يأتى عليهم الان صلوة هى احبّ إليهم من أبنائهم وأنفسهم قال فنزل جبرئيل بهذه الآية بين الظهر والعصر.
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية قال فحضرت فامرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخذوا بسلاح قال فصففنا خلفه صفين قال ثم ركع فركعنا جميعا ثم رفع فرفعنا جميعا ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصّف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلمّا سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا فى مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء قال ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 219(1/1631)
ثم سجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم انصرف فصلّاها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بنى سليم وروى مسلم صلوة الخوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل هذا من حديث جابر قوله تعالى وَإِذا كُنْتَ يا محمد حاضرا فِيهِمْ وأنتم تخافون العدو قيدنا بهذا القيد للاجماع على كون الحكم مقيدا به وان كان قوله تعالى ان خفتم الآية متصلا بما بعده كما قيل فهو قرينة على هذا التقييد وعلى هذا جاز ان يكون هذه الآية معطوفة على قوله ان خفتم والشرط مجموع الامرين الخوف وكونه صلى اللّه عليه وسلم فيهم وبناء على اشتراط كونه صلى الله عليه وسلم فيهم كما ينطق به ظاهر النصّ قال أبو يوسف رحمه اللّه انّ صلوة الخوف كانت مختصة به صلى اللّه عليه وسلم غير مشروع بعده وعامة العلماء على انها ثابت الحكم بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم والائمة نواب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى كل عصر فكان الخطاب متنا ولا لكل امام وهذا جرى على عادة القرآن فى الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم وان كان المقصود جميع الامة كما فى قوله تعالى فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ والحجة على جواز صلوة الخوف بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الصحابة رضوان اللّه عليهم أجمعين صلوا صلوة الخوف بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم من غير نكير بعضهم على بعض فصار اجماعا روى أبو داود انهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة كابل فصلى بنا صلوة الخوف وروى عن على عليه السّلام انه صلاها يوم الصفين وذكر الرافعي انه صلى المغرب صلوة الخوف ليلة الهرير بالطائفة الاولى ركعة وبالثانية ركعتين وقال البيهقي يذكر عن جعفر ابن محمّد عن أبيه ان عليا صلى المغرب صلوة الخوف ليلة الهرير وقال الشافعي وحفظ عن علىّ انه صلى صلوة الخوف ليلة الهرير كما روى صالح بن خوات عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وروى البيهقي من طريق قتادة عن أبى العالية عن(1/1632)
ابى موسى الأشعري انه صلى صلوة الخوف بأصبهان وروى البيهقي عن سعد بن أبى وقاص انه صلى صلوة الخوف بحرب مجوس بطبرستان ومعه الحسن ابن على وحذيفة بن اليمان وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وروى أبو داود والنسائي من طريق ثعلبة بن زهرم قال كنا مع سعيد بن العاص فقال أيكم صلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الخوف فقال حذيفة انا فصلى مع هؤلاء ركعة ومع هؤلاء ركعة فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ يعنى فاجعلهم طائفتين فليقم أحدهما معك
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 220
فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ قال مالك يجب حمل السّلاح فى صلوة الخوف وهو أحد قولى الشافعي وقال اكثر العلماء الأمر للاستحباب فَإِذا سَجَدُوا يعنى إذا أتم المصلون ركعة مع الامام وجاز ان يكون معناه فإذا صلوا اطلق السجود وأريد به الصلاة بتمامها تسمية الكل باسم الجزء فَلْيَكُونُوا أى المصلون مِنْ وَرائِكُمْ أيها الائمة إلى تجاه العدو وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فى محل الرفع صفة لطائفة فَلْيُصَلُّوا أى تلك الطائفة الاخرى مَعَكَ يحتمل ان يراد بالصلوة الصلاة بتمامها وان يراد بالصلوة الركعة الثانية وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ المراد بالحذر ما يتحذر به من العدو كالدرع والجنة وبالسّلاح ما يقاتل به - اعلم انه روى صلوة الخوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم على وجوه أحدها ما ذكرنا من حديث أبى عياش الزرقي وحديث جابر قصة صلاته صلى اللّه عليه وسلم بعسفان إذا كان العدو بيننا وبين القبلة ثانيها ما رواه الشيخان فى الصحيحين عن جابر قال أقبلنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرقاع وفيه فصلى بطائفة ركعتين ثم تاخروا فصلى بالطائفة الاخرى ركعتين قال فكانت لرسول اللّه صلى(1/1633)
اللّه عليه وسلم اربع ركعات وللقوم ركعتان متفق عليه وهذا الحديث يحتمل الوجهين أحدهما انه صلى اللّه عليه وسلم صلى أربعا بتسليمة واحدة وكل طائفة صلى معه ركعتين ركعتين وثانيهما ان النبي صلى اللّه عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين وسلم على كل ركعتين كذا وقع صريحا فى حديث جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى بالناس صلوة الظهر فى الخوف ببطن نخل فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم ثم جاء طائفة اخرى فصلى بهم ركعتين رواه البغوي من طريق الشافعي وشيخ الشافعي مجهول لكن وثقه الشافعي فقال أخبرني الثقة أبو عليّة أو غيره ، عن يونس عن الحسن عن جابر ورواه ابن الجوزي من طريق الدارقطني عن عنبسة عن الحسن عن جابر قال ابن الجوزي لا يصح قال يحيى بن معين عنبسة ليس بشىء وقال النسائي متروك وقال أبو حاتم كان يضع الحديث وروى هذا الحديث أبو داود وابن حبان والحاكم والدارقطني من حديث أبى بكرة ففى رواية أبى داود وابن حبان انها الظهر وفى رواية الدارقطني انها المغرب وأعلها ابن القطّان بان أبا بكرة اسلم بعد وقوع صلوة الخوف قال الحافظ هذا ليس بعلة فانه يكون
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 221(1/1634)
مرسل الصحابي ثالثها ما رواه الشيخان عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عن من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع واخرج البخاري بطريق اخر عن صالح بن خوات عن سهيل بن أبى حثمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما وأتموا لانفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الاخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالسا واتمّوا لانفسهم ثم سلم بهم رابعها ما رواه الترمذي والنسائي عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نزل بين ضحنان وعسفان فقال المشركون لهؤلاء صلوة هى احبّ إليهم من ابائهم وأبنائهم وهى العصر فاجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة وان جبرئيل اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فامره ان يقسّم أصحابه شطرين فيصلى بهم ويقوم طائفة اخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فيكون لهم ركعة ولرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ركعتان رواه الترمذي والنسائي وهكذا قال البغوي انه روى عن حذيفة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى صلوة الخوف صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا قال البغوي ورواه زيد بن ثابت وقال كانت للقوم ركعة ركعة وللنبى صلى اللّه عليه وسلم ركعتان وتاوّله قوم على صلوة شدة الخوف وقالوا الفرض فى هذه الحالة ركعة واحدة خامسها ما رواه البخاري فى الصحيح عن سالم بن عمر عن أبيه قال غزوت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى لنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم يصل فجاءوا فركع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين وروى نافع نحوه وزاد فان كان(1/1635)
خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا ارى قال ابن عمر ذلك الّا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وليس فى رواية ابن عمر هذه اىّ الطّائفتين يتم صلاته اوّلا بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واختار أبو حنيفة من وجوه صلوة الخوف هذا الوجه الأخير ولم يجوّز سواه وقال يذهب الطائفة الثانية بعد سلام الامام وجاه العدو ويجىء الطائفة الاولى فيتم صلاته اوّلا ثم يجىء الطائفة الثانية فيتم صلاته
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 222
ويسلم لما ذكر محمد فى كتاب الآثار هكذا من رواية أبى حنيفة قول ابن عباس والموقوف فيه كالمرفوع ولم يجوّز سواه اما الوجه الثاني صلاته عليه السّلام ببطن نخل فهو يستلزم اقتداء المفترض بالمتنفل قال الطحاوي انه كان فى وقت كانت الفريضة تصلى مرتين ثم نسخ ذلك ولو كانت الفريضة مشروعة تكرارها لما احتيج إلى شرع صلوة الخوف مع المنافى وامّا الوجه الثالث صلاته(1/1636)
صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فهو يستلزم ان يركع المؤتم ويسجد قبل الامام وذلك لم يعهد وان انتظار الامام المأموم على خلاف مقتضى الامامة وامّا الوجه الرابع صلاته صلى اللّه عليه وسلم بين ضحنان وعسفان يكون للقوم ركعة واحدة فمتروك العمل بالإجماع لانهم اتفقوا على ان الخوف لا ينقص عدد الركعات وامّا الوجه الاوّل صلاته صلى اللّه عليه وسلم بعسفان حين كان العدو بينه وبين القبلة فهو مخالف لكتاب اللّه تعالى حيث قال اللّه تعالى فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وفى هذا الوجه تقوم الطائفتان جميعا وقال اللّه تعالى وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وفى هذا الوجه انهم قد صلوا وقال الشافعي واحمد ومالك جميع الصفات المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم فى صلوة الخوف معتد بها وانما الخلاف فى الترجيح وقال احمد بن حنبل ما اعلم فى هذا الباب الّا حديثا صحيحا واختار الشافعي من الوجوه المذكورة اربعة أوجه واحمد ثلاثة ان كان العدو بينه وبين القبلة فالمختار عندهما الوجه الأول صلاته بعسفان وان كان فى جهة غير جهة القبلة فالمختار عند الشافعي امّا الوجه الثاني صلاته عليه السلام ببطن نخل واقتداء المفترض بالمتنفل صحيح عنده خلافا لاحمد وامّا الوجه الثالث صلاته عليه السّلام بذات الرقاع وعند احمد هو المختار فحسب قالوا هذا الوجه أشدّ موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلوة وابلغ للحراسة عن العدو وذلك لان اللّه تعالى قال فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أى إذا صلوا ثم قال وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا وهذا يدل على ان الطائفة الاولى قد صلوا وقال فليصلّوا معك ، ومقتضاه ان بصلوا تمام الصلاة وظاهره يدل على ان كل طائفة تفارق الامام بعد تمام الصلاة وفيه الاحتياط لامر الصلاة من حيث انه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط لامر الحرب من حيث انهم إذا(1/1637)
لم يكونوا فى الصلاة كان أمكن للحرب والهرب ان احتاجوا إليه والوجه الرابع للشافعى وهو الثالث لاحمد حين يلتحم القتال ويشتد الخوف فيصلى كيف أمكن راكبا و
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 223
ماشيا ويعذر فى ترك القبلة وفى الأعمال الكثيرة لحاجة وان عجز عن ركوع وسجود اومأ والسجود اخفض وقال أبو حنيفة لا يجوز الصلاة فى حالة القتال ماشيا والقتال والعمل الكثير يفسد الصلاة عنده ويجوز الصلاة راكبا يومى ايماء أو قائما على قدميه وقد مرّت هذه المسألة فى سورة البقرة فى تفسير قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً - (فائدة) قال الحافظ رويت صلوة الخوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم على اربعة عشر نوعا ذكرها ابن حزم فى جزء مفرد بعضها فى صحيح مسلم ومعظمها فى سنن أبى داود وذكر الحاكم منها ثمانية انواع وابن حبان تسعة مسئلة يجوز صلوة الخوف فى الحضر عند الجمهور خلافا لمالك فيصلى بكل طائفة ركعتين ويصلى المغرب بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة واللّه أعلم - وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أى يتمنون لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ عطف على تغفلون أى يحملون ويشدون عليكم مَيْلَةً واحِدَةً بجملتهم وكلمة لو للتمنى والجملة بيان للوداد وجاز ان يكون لو مصدرية والجملة فى محل النصب على انه مفعول ودوا وهذا بيان ما لاجله أمروا بأخذ السلاح والصلاة بهذه الكيفية واللّه اعلم ، قال الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غزى محاربا وبنى انمار فنزلوا ولا يرون من العدو واحدا فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى ظل شجرة فبصر به غويرث بن الحارث المحاربي فقال(1/1638)
قتلنى الله ان لم اقتله ثم انحدر من الجبل ومعه السيف قد سلّه من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الان قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم قال اللهم اكفنى غويرث بن الحارث بما شئت ثم أهوى بالسيف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليضربنه فانكب بوجهه من زلّخة « 1 » زلّخها بين كتفيه وندر سيفه فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخذ ثم قال يا غويرث من يمنعك
منى الان قال لا أحد قال تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك قال لا ولكن اشهد ان لا أقاتلك ابدا ولا أعين عليك عدوا فاعطاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سيفه فقال غويرث
_________
(1) زلخة بضم الزاء وتشديد اللام وفتحها وجع يأخذ فى الظهر لا يتحرك الإنسان من شدته واشتقاقها من الزلخ وهو الزلق نهاية - منه رحمه اللّه وفى القرآن ودّ
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 224(1/1639)
واللّه لانت خير منى قال النبي أجل انا أحق بذلك منك فرجع غويرث إلى أصحابه فقالوا ويلك ما منعك منه قال لقد أهويت إليه بالسّيف لاضربنه فو اللّه ما أدرى من زلخنى بين كتفى فخررت بوجهي وذكر حاله فنزل قوله تعالى وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يبلّ السلاح أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى لا تستطيعون حمل السّلاح لثقلها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ أى فى ان تضعوا وقع الشرط فى خلال جملة تصلح للجزاء فحذف الجزاء استغناء تقدير الكلام وان كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى فلا جناح عليكم فى ان تضعوا أسلحتكم ، رخص اللّه سبحانه فى وضع الأوزار بعذر المطر أو المرض وذلك يدل على ان الأمر بأخذ السلاح فيما سبق للوجوب كما قال مالك والشافعي دون الاستحباب وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من التحصن بالحصن أو التحيز إلى المنعة فى مثل هذه الحالة أمرهم فى تلك الحالة بأخذ الحذر كيلا يهجم عليهم العدو فان حفظ الأنفس عن الضياع بلا فائدة (يعود إلى إعلاء كلمة اللّه) واجب وهذه الجملة اعنى الأمر بأخذ الحذر فى مثل تلك الحالة وجه المناسبة للاية بما ذكرنا من شأن نزولها كأنّ اللّه سبحانه ارشد نبيه صلى اللّه عليه وسلم ان لا يبعد عن المعسكر وحده لحاجة الإنسان عند خوف العدو إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فى الدنيا بالقتل والاسر وفى الاخرة بالنار وفيه وعد للمؤمنين بالنصر على الكافرين بعد الأمر بالحزم ليتقوى قلوبهم وليعلموا ان الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم بل لان الواجب التشبث بالأسباب على مقتضى جرى العادة وان تحافظوا على التيقظ والتدبر مع التوكل على الله ثم الكلبي فى الرواية المذكورة قال وسكن الوادي فقطع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الوادي إلى أصحابه وأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية واخرج البخاري عن ابن عباس قال نزلت إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ(1/1640)
كُنْتُمْ مَرْضى فى عبد الرحمن بن عوف كان جريحا يعنى رخص هو لاجل الجرح فى وضع الاسلحة.
فَإِذا « 1 » قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أى فرغتم منها يعنى من صلوة الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ يعنى فدوموا على الذكر بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير وغير ذلك فى جميع الأحوال عن عائشة قالت كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يذكر اللّه على كل احيانه رواه أبو داود والظاهر ان المراد بالآية والحديث دوام الحضور بالقلب إذ لا يتصور دوام الذكر باللسان
_________
(1) فى الأصل وإذا -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 225(1/1641)
و قيل المراد به إذا فرغتم من صلوة الخوف فاذكروا اللّه يعنى صلوا قياما فى حالة الصحة وقعودا أو على جنوبكم بحسب الطاقة فى حالة المرض أو الزمانة أو الجرح أو الضعف أو المراد إذا أردتم الصلاة فى حالة الخوف فصلوا قياما ان قدرتم عليه وقعودا ان عجزتم عن القيام وعلى جنوبكم ان عجزتم عن القعود فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أى سكنت قلوبكم بزوال الخوف فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فعدلوا واحفظوا أركانها وشرائطها ولا يجوز حينئذ فى الصلاة ما يجوز فى حالة الخوف إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أى مكتوبا مفروضا مَوْقُوتاً (103) محدودا بالأوقات لا يجوز إخراجها عنها ما أمكن كأنَّه تعليل لتشريع صلوة الخوف والصلاة قاعدا أو راقدا عند العذر ولا دليل فى هذه الآية على جواز الصلاة فى حالة الحرب والمسابقة كما قال به الشافعي واستدل عليه البيضاوي بهذه الآية لأنه لو كانت الصلاة جائزة فى حالة المسابقة لذكرها كما ذكرها قاعدا وعلى الجنوب فإذا لم يذكر فالاصل عدم الجواز والآية مجملة فى الأوقات ورد بيانها بالسنة ، مسئلة اجمعوا على انّ وقت الظهر بعد الزوال إلى وقت العصر والعصر إلى غروب الشمس الا انه يكره تحريما بالإجماع بعد اصفرار الشمس والوقت المختار عند الشافعي ان لا يؤخر العصر عن مصير الظل مثلين ووقت المغرب بعد غروب الشمس والعشاء بعد غروب الشفق إلى طلوع الفجر لكن المختار بالإجماع ان لا يؤخر العشاء بعد نصف الليل والفجر بعد طلوع الصبح المعترض إلى طلوع الشمس واختلفوا فى اخر وقت الظهر والمغرب فالجمهور على ان وقت الظهر إلى بلوغ ظل كل شىء مثله سوى فىء الزوال والمغرب إلى غروب الشفق خلافا لابى حنيفة فى اخر الظهر حيث قال إلى المثلين وخلافا لمالك والشافعي فى أحد قوليه فى اخر المغرب حيث قالا لا يؤخر المغرب فى الاختيار عن غروب الشمس والأصل فى الباب حديث امامة جبرئيل عن ابن عباس ان النبي صلى(1/1642)
اللّه عليه وسلم قال امّنى جبرئيل عند البيت مرتين فصلى بي الظهر فى الاولى منهما حين كان الفيء مثل الشراك ثم صلى العصر حين كان كل شىء مثل ظله ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم ثم صلى العشاء حين غاب الشفق ثم صلى الفجر حين « 1 » برق الفجر وحرم الطعام على الصّائم وصلى المرة الثانية الظهر حين صار ظل كل شىء مثله كوقت العصر بالأمس وصلى العصر حين صار ظل كل شىء مثليه ثم المغرب بوقته الأول والعشاء الاخر حين ذهب ثلث الليل ثم صلى الصبح حين اصفرت الأرض ثم التفت
_________
(1) فى الأصل حتى
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 226(1/1643)
الىّ جبرئيل فقال يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت فيما بين هذين رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح وابن حبان فى صحيحه والحاكم وقال صحيح الاسناد لكن فيه عبد الرحمن بن الحرث ضعّفه احمد والنسائي وابن معين وأبو حاتم ووثقه ابن سعد وابن حبان وقد توبع عليه أخرج عبد الرزاق عن العمرى عن عمرو بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه قال ابن دقيق العبد هى متابعة حسنة وصححه أبو بكر بن العربي وابن عبد البر وقد روى حديث امامة جبرئيل عن عدة من الصحابة منهم جابر بمعناه وفيه فصلى العشاء فى اليوم الثاني حين ذهب نصف الليل أو قال ثلث الليل قال البخاري أصح حديث فى المواقيت حديث جابر وعن بريدة قال انّ رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال له صل معنا هذين يعنى اليومين فلمّا زالت الشمس امر بلالا فاذن ثم امره فاقام الظهر ثم امره فاقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية ثم امره فاقام المغرب حين غابت الشمس ثم امره فاقام العشاء حين غاب الشفق ثم امره فاقام الفجر حين طلع الفجر فلما كان اليوم الثاني امره فابرد بالظهر فابردها فانعم ان يبردها وصلى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان وصلى المغرب قبل ان يغيب الشفق وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل وصلى الفجر فاسفرها ثم قال اين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل انا يا رسول اللّه قال وقت صلاتكم بين ما رايتم رواه مسلم وعن أبى موسى نحو حديث بريدة وفيه اخّر النبي صلى اللّه عليه وسلم المغرب يعنى فى اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق رواه مسلم وعن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل كل شىء كطوله ما لم يحضر العصر ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ووقت المغرب ما لم يغب « 1 » الشفق ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط ووقت الفجر من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس(1/1644)
رواه مسلم ، وفى حديث أبى هريرة اوّل وقت المغرب حين تغرب الشمس واخر وقتها حين تغيب الأفق وان اوّل وقت العشاء الاخرة حين تغيب الأفق وان اخر وقتها حين ينتصف الليل وان اوّل وقت الفجر حين يطلع واخر وقتها حين تطلع الشمس رواه الترمذي من حديث محمد بن فضيل عن الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة وخطأ البخاري رفعه وهذه الأحاديث حجة للجمهور على مالك والشافعي فى ان اخر وقت المغرب إلى ان يغيب الشفق واما اخر وقت العصر إلى غروب الشمس فمستفاد من قوله تعالى إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ فَقالَ
_________
(1) فى الأصل ما لم يغرب
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 227(1/1645)
إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وقوله صلى اللّه عليه وسلم من أدرك ركعة من الصبح قبل ان تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل ان تغرب الشمس فقد أدرك العصر متفق عليه من حديث أبى هريرة وامّا اخر وقت العشاء ما لم تطلع الفجر فلم يوجد فى شىء من الأحاديث صحيح ولا ضعيف لكن اختلف الأحاديث الصحاح فيه روى عن ابن عباس وابى موسى الأشعري وابى سعيد الخدري انه صلى اللّه عليه وسلم آخرها إلى ثلث الليل وروى عن أبى هريرة وانس انه صلى اللّه عليه وسلم آخرها حتى انتصف الليل وروى ابن عمر انه صلى اللّه عليه وسلم آخرها حتى ذهب ثلثا اللّيل وروت عائشة انه اعتم بها حتى ذهب عامة الليل وكل هذه الأحاديث فى الصحيح قال الطحاوي يفيد مجموع هذه الأحاديث ان الليل كله وقت لها لكن على ثلاث مراتب إلى الثلث أفضل والى النصف دونه وما بعده دونه ، ثم ساق بسنده إلى نافع بن جبير قال كتب عمر إلى أبى موسى الأشعري وصل العشاء اىّ الليل شئت ولا تغفلها وعند مسلم فى قصّة ليلة التعريس عن أبى قتادة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس فى النوم تفريط انما التفريط ان يؤخر صلوة حتى يدخل وقت الاخرى وهذا يدل على ان وقتها إلى طلوع الفجر وقد اجمعوا على انه إذا اسلم الكافر أو طهرت الحائض أو بلغ الصبى وقد بقي من الليل شىء يجب عليه العشاء وامّا أحاديث امامة جبرئيل وامامة النبي صلى اللّه عليه وسلم للسّائل عن وقت الصّلوة فمحمولة على المختار من الوقت ما لا كراهة فيه ولذا قال أبو حنيفة رحمه اللّه تأخير المغرب عن اوّل الوقت مكروه تنزيها لا تحريما لما صحّ عنه صلى اللّه عليه وسلم انه اخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق وتأخير العشاء عما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم والعصر إلى اصفرار الشمس مكروه تحريما وأشدّ كراهة تأخير العصر إلى الاصفرار لورود النهى عن(1/1646)
الصّلوة فى ذلك الوقت وكونه منسوبا إلى الشيطان وامّا ما ورد فى حديث امامة جبرئيل اخر وقت العصر حين صار ظل كل شىء مثليه فمنسوخ من قوله صلى اللّه عليه وسلم وقت العصر ما لم تصفى الشمس وامّا اخر وقت الظهر فلم يوجد فى حديث صحيح ولا ضعيف انه يبقى بعد مصير ظل كل شىء مثله ولذا خالف أبا حنيفة فى هذه المسألة صاحباه ووافقا الجمهور واحتج أبو حنيفة بما مرّ من حديث بريدة فلما كان اليوم الثاني امره فامره « 1 » فابرد بالظهر فابردها فانعم ان يبردها ولقوله صلى اللّه عليه وسلم إذا اشتد الحرّ فابردوا بالصلوة فان شدة الحرّ من فيح جهنم رواه الستة قال أبو حنيفة وأشدّ الحر
_________
(1) هكذا فى الأصل -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 228(1/1647)
فى ديارهم فى هذا الوقت حين صار ظل كل شىء مثله فكان حديث الإبراد ناسخا لحديث امامة جبرئيل فانه اوّل أحاديث الباب وإذا ثبت بقاء وقت الظهر بعد صيرورة الظل مثل الشيء نسخا لامامة جبرئيل بحديث الإبراد ثبت نسخ حديث امامة جبرئيل فى حق اوّل وقت العصر أيضا لانّ قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً يقتضى كون « 1 » الوقت لكل صلوة وقتا على حدة ولذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما التفريط ان يؤخر صلوة حتى تدخل وقت الاخرى لكن امامة جبرئيل فى اليوم الثاني العصر عند صيرورة ظل كل شىء مثليه يفيد انه وقته ولم ينسخ فيستمر ما علم ثبوته من بقاء وقت الظهر إلى ان يدخل هذا الوقت المعلوم كونه وقتا للعصر وهذا الاستدلال ضعيف جدّا ودلالة حديث الأبرار على بقاء وقت الظهر بعد المثل ممنوع بل الأبرار امر إضافي وشدة الحرّ انما يكون عند الزوال وبعض الأبرار يحصل قبيل بلوغ الظل مثل الشيء ولو كان الحرّ فى ديارهم حين بلوغ ظل الشيء مثله أشد مما قبله لكان مقتضى الأمر بالابرار تعجيل الصلاة فى اوّل الوقت واللّه اعلم (مسئلة) الشفق الحمرة عند الجمهور وهو رواية عن أبى حنيفة رحمه الله والمشهور من مذهبه انه البياض التي بعد الحمرة لان اللفظ مشترك بينهما ولا يزول وقت المغرب ولا يدخل وقت العشاء بالشك ولان الأحوط ذلك فانه لا يجوز الصلاة قبل الوقت ويجوز بعده احتج الجمهور بقوله صلى اللّه عليه وسلم الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة رواه ابن عساكر فى غرائب مالك من حديث عتيق بن يعقوب عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا ورواه ابن عساكر من حديث أبى حذافة عن مالك وقال حديث عتيق أمثل اسنادا وصحح البيهقي وقفه وذكر الحاكم فى المدخل حديث أبى حذافة وجعله مثالا لما رفعه المخرجون من الموقوفات ورواه ابن خزيمة فى صحيحه من حديث محمد بن يزيد الواسطي عن شعبة عن قتادة عن(1/1648)
ابى أيوب عن ابن عمر ورفعه وقت المغرب إلى ان يذهب حمرة الشفق قال ابن خزيمة ان صحّت هذه الرواية بهذا اللفظ اغنت عن جميع الروايات لكن تفرّد بها محمد بن يزيد وانما قال فيه اصحاب شعبة ثور الشفق مكان حمرة الشفق قال الحافظ ابن حجر محمد بن يزيد صدوق وقال البيهقي روى هذا الحديث عن عمرو على وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وابى هريرة ولا يصح فيه شىء واللّه اعلم ذكر البغوي ان أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا يوم أحد بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) فى الأصل كون لكل صلوة -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 229
طائفة فى اثارهم فشكوا الم الجراحات فانزل اللّه تعالى.(1/1649)
وَ لا تَهِنُوا أى لا تضعفوا ايّها المؤمنون فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ فى طلب الكفار بالقتال إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ الم الجراحات فَإِنَّهُمْ أى الكفار يَأْلَمُونَ من الجراحات كَما تَأْلَمُونَ يعنى ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختصّ بكم وَتَرْجُونَ من الاجر والثواب مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ أى الكفار فينبغى ان تكونوا ارغب فى القتال منهم واصبر وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأعمالكم وضمائركم حَكِيماً (104) فيما يأمر وينهى والله اعلم ، ما ذكر البغوي يدل على ان الآية نزلت فى غزوة حمراء الأسد ويدل عليه قوله تعالى إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ وقال البيضاوي نزلت فى بدر الصغرى ولا دليل عليه ولم يذكر اصحاب السير نزول هذه الآية فى أحد الغزوتين ولا يدل عليه سياق الكلام بل ذكروا فيه نزول الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الآية اية ال عمران واللّه اعلم ، روى الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان قال كان أهل بيت يقال لهم بنوا أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله « 1 » بعض العرب يقول قال فلان كذا وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة فى الجاهلية والإسلام وكان الناس انما طعامهم بالمدينة التمر والشعير فابتاع عمّى رفاعة بن زيد حملا من الدرر « 2 » مك فجعله فى مشربة « 3 » له فيها سلاح ودرع وسيف فعدى « 4 » عليه من تحت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسّلاح فلما أصبح أتاني عمّى رفاعة فقال يا ابن أخي انه قد عدى علينا فى فى ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا فى الدار وسالنا فقيل لنا راينا بنى أبيرق استوقد وافى هذه الليلة ولا نرى فيما نرى الأعلى بعض طعامكم فقال بنوا أبيرق ونحن نسئل فى الدار واللّه ما نرى صاحبكم الّا لبيد بن سهيل رجل منا له صلاح واسلام فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال انا(1/1650)
اسرق فو اللّه ليخالطنكم هذا السيف أو لتبيننّ هذه السرقة قالوا إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسالنا فى الدار حتى لم نشك انهم أصحابها فقال لى عمّى يا ابن أخي لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فاتيته فقلت أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمّى فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فامّا الطعام
_________
(1) أى ينسبه إليهم من النخلة بمعنى النسبة بالباطل نهاية
(2) الدقيق الحرارى نهاية منه رح
(3) بالضم والفتح الغرفة نهاية منه رح
(4) أى سرق ماله وظلم نهاية منه رح
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 230
فلا حاجة لنا فيه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سانظر فى ذلك فلما سمع بنوا أبيرق أتوا « 1 » رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه فى ذلك فاجتمع فى ذلك أناس من أهل الدار فقالوا يا رسول اللّه ان قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت نا أهل اسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا يثبت قال قتادة فاتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم اسلام وصلاح ترميهم بالسرقة فلم نلبث ان نزل القران.(1/1651)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ الآيات إلى قوله عظيما ، فلما نزل القرآن اتى رسول اللّه بالسلاح فرده إلى رفاعة ولحق بشير المشركين فنزل على سلافة بنت سعد فانزل الله وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى إلى قوله ضللا بعيدا ، قال الحاكم صحيح على شرط مسلم واخرج ابن سعد فى الطبقات بسنده عن محمود بن لبيد قال عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عمّ قتادة بن النعمان فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين باداتهما فاتى قتادة النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره بذلك فدعا بشيرا فساله فانكر ورمى بذلك لبيد بن سهيل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ الآيات فلما نزل القرآن فى بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا فنزل على سلافة بنت سعد فجعل يقع فى النبي صلى اللّه عليه وسلم وفى المسلمين فنزل القرآن فيه وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع وكان ذلك فى شهر الربيع الثاني سنة اربع من الهجرة وقال البغوي روى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس وأخرجه ابن جرير عنه قال نزلت هذه الآية فى رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق بنى ظفر بن الحارث سرق درعا من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع فى جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فى الجراب حتى انتهى إلى الدار ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد السمين فالتمست الدرع من عند طعمة فحلف واللّه ما أخذها وماله بها علم فقال اصحاب الدرع لقد راينا اثر الدقيق حتى دخل داره فلما خلف تركوه واتبعوا اثر الدقيق إلى منزل اليهودي فاخذوه فقال اليهودي دفعها الىّ طعمة بن أبيرق فجاء بنوا ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وسالوه ان يجادل عن صاحبهم وقال له انك ان لم تفعل افتضح صاحبنا فهمّ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ان يعاقب اليهودي وقال(1/1652)
البغوي ويروى عن ابن عبّاس رواية اخرى انّ
_________
(1) فى الأصل وأتوا -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 231
طعمة سرق الدرع فى جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه وحمل الدرع إلى بيته فلما أصبح صاحب الدرع جاء على اثر النخالة إلى دار زيد السمين فاخذه وحمله إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فهمّ النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يقطع يد زيد اليهودي وقال البغوي قال مقاتل ان زيد السمين أودع درعا عند طعمة فجحدها طعمة فانزل اللّه تعالى هذه الآية إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ متلبسا بِالْحَقِّ أى بالأمر والنهى والعلوم الحقة لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ قال البيضاوي الرؤية ليست بمعنى العلم والا لاستدعى ثلثة مفاعيل والروية بمعنى الابصار ظاهر الانتفاء فالمعنى بما عرفك اللّه واوحى إليك وقال بعض الأفاضل يمكن حمله على معنى العلم بحذف مفعوله الثاني والثالث أى بما علمكه اللّه حقا وهو وان كان محتاجا إلى زيادة الحذف لكنه غنى عن التجوز قلت والظاهر عندى ان الرؤية بمعنى العلم وما الموصولة عبارة عن مضمون جملة يتعلق بها العلم والضمير العائد إلى الموصول محذوف فى حكم المذكور مغنى عن المفعولين لقيام مضمون الجملة مقامها كأنَّه قيل لتحكم بين الناس بكون طعمة سارقا ولبيد أو زيد « 1 » بريا وهذه الآية دليل على ان النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن يعمل بالمظنون لكنها لا ينفى الاجتهاد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه إذا حصل للنبى صلى اللّه عليه وسلم ظن بالاجتهاد وقرر اللّه سبحانه ولم يطلعه على الخطأ ظهر عنده بيقين انه الحق بخلاف المجتهد ويؤيده ما روى عن عمرو بن دينار ان رجلا قال لعمر احكم بما أراك اللّه قال مه انما هذا للنبى صلى الله عليه وسلم خاصّة وجاز ان(1/1653)
يكون هذا الحكم عاما ويقال ان المجتهد إذا ظهر عنده الحكم بدليل ظنى من خبر الآحاد أو القياس فالعمل به واجب بدلائل قطعية من الكتاب والسنة والإجماع ما لم يظهر دليل راجح يخالفه فالحكم المظنون عند المجتهد بعد بذل جهده وان كان غير معلوم عنده انه فى نفس الأمر لكنه معلوم عنده انه واجب « 2 » العمل وقال الشيخ أبو منصور رحمه اللّه معنى الآية بما ألهمك الله بالنظر فى الأصول المنزلة وقال فيه دليل على جواز الاجتهاد فى حقه
_________
(1) فى الأصل لبيدا أو زيدا
(2) وعن ابن وهب قال قال لى مالك الحكم الذي يحكم بين الناس على وجهين فالذى حكم بالقران والسنة الماضية فذلك الحكم الواجب والصّواب والحكم الذي يجتهد فيه العالم نفسه فيما لم يأت فيه شىء فلعله ان يوافق والثالث التكلف لما لا يعلم فما أشبه ذلك ان لا يوافق منه رحمه الله.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 232
وَ لا تَكُنْ عطف على أنزلنا بتقدير القول يعنى وقلنا لا تكن أو عطف على الكتاب لكونه منزلا يعنى أنزلنا إليك الكتاب وأنزلنا إليك لا تكن لِلْخائِنِينَ يعنى لاجلهم وللذب عنهم والمراد بهم بنوا أبيرق خَصِيماً (105) للبراء وهم لبيد بن سهيل أو زيد السمين اليهودي.
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ممّا قلت لقتادة بن النعمان كذا فى رواية الترمذي والحاكم عن قتادة وقال البغوي استغفر اللّه مما هممت به من معاقبة اليهودي وقال مقاتل استغفر اللّه من جدالك عن طعمة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) لمن استغفره - .
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
اى يخونونها فان وبال خيانتهم يعود عليهم أو جعل المعصية خيانة لانفسهم لما جعلت ظلما عليها والضمير لابن أبيرق وأمثاله اوله ولقومهم حيث شاركوه فى الإثم وسالوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يجادل عنه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُ(1/1654)
اى يبغض مَنْ كانَ خَوَّاناً
اى مبالغا فى الخيانة مصرّا عليها أَثِيماً
(107) بانكار الحق والكذب ورميه بالسرقة البريء منه قيل انه خطاب مع النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد به غيره كقوله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ قال البغوي الاستغفار فى حقّ الأنبياء على أحد الوجوه الثلاثة امّا لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته أو لمباح جاء فى الشرع تحريمه فتركه والاستغفار معناه السمع والطاعة لحكم الشرع.
يَسْتَخْفُونَ
« 1 » أى يستترون حياء وخوفا من الفضيحة يعنى قوم بنى أبيرق مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
اى لا يستحيون من اللّه وهو أحق ان يستحيى منه وأحق ان يخاف الفضيحة لديه أو لا يمكنهم الاستخفاء من اللّه تعالى وَهُوَ مَعَهُمْ
لا يخفى عليه سرهم ولا طريق معه الا ترك ما يستقبحه ويؤاخذ عليه إِذْ يُبَيِّتُونَ
اى يزورون ليلا ويتقولون وقد مر معنى التبييت فى قوله تعالى بيّت طائفة ما لا يَرْضى
الله مِنَ الْقَوْلِ
قال البغوي ذلك ان قوم طعمة قالوا فيما بينهم نرفع الأمر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فانه يسمع قول طعمة ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع قول اليهودي لأنه كافر فلم يرض اللّه بذلك القول وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
(108) لا يفوت منه شىء -
_________
(1) عن ابن حميد وابن أبى حاتم عن ابن مسعود موقوفا من صلى صلوة عند الناس لا يصلى بها إذا خلا فهى استهانة استهان بها ربّه ثم تلا هذه الآية يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ منه رحمه الله [.....]
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 233
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
أنتم مبتدا وهؤلاء منادى بحذف حرف النداء وما بعده خبر المبتدا أو يقال هؤلاء خبر مبتدا وقوله جادَلْتُمْ(1/1655)
الى آخره جملة مبيّنة بوقوع هؤلاء خبرا وصلة عند من يجعله موصولا عَنْهُمْ
يعنى عن ابن أبيرق وأمثاله وقومه والجدال شدة المخاصمة من الجدل وهو شدة الفتل وهو يريد قتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج وقيل الجدال من الجدالة بمعنى الأرض فكأنّ كل واحد من الخصمين يريد إلقاء صاحبه على الأرض فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
يعنى لا أحد يجادل اللّه عن أمثال ابن أبيرق إذا أراد تعذيبهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
(109) محاميا يحميهم ويدفع عنهم عذاب الله لان من وكل إليه الأمر يحافظ عليه وأم فى مثل هذا الموضع حيث وقع بعده حرف استفهام مثل أم ما ذا كنتم وأم كيف ينفع ليست بمتصلة ولا منقطعة بل هى بمعنى بل ويجوز الحمل على أحد معنييه بتأويل.
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
« 1 » قبيحا يسوء به غيره أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يختص به وقيل المراد بالسوء ما دون الشرك وبالظلم الشرك وقيل الصغيرة والكبيرة ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ
« 2 » لَّهَ بالتوبة ورد المظالم يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
لذنوبه رَحِيماً
(110) متفضلا عليه فيه حث لابن أبيرق وقومه على التوبة والاستغفار.
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
صغيرا أو كبيرا فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
حيث يتضرر به نفسه لا يتعدى وباله إلى غيره وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً
بما كسب عبده حَكِيماً
(111) فى مجازاته.
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
صغيرة أو ما لا عمد فيه أَوْ إِثْماً
كبيرة أو ما كان عن عمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
كما رمى ابن أبيرق لبيدا أو زيد السمين ووحد الضمير لمكان أو فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
اى كذبا يبهت « 3 » ويتحير به العقول وَإِثْماً
ذنبا مُبِيناً
(112) ظاهرا بسبب رمى البريء وتبرئة النفس الخاطئة
_________
((1/1656)
1) أخرج ابن راهويه فى مسنده عن عمر بن الخطاب قال لمّا نزلت مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً لبثنا ما ينفضا طعام ولا شراب حتى انزل الله بعد ذلك وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
منه رحمه الله -
(2) روى من طرق متعددة عن على قال سمعت أبا بكر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من عبد أذنب ذنبا فقام فتوضأ فاحسن وضوءه ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه الا كان حقا على الله ان يغفره لأنه يقول وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً رواه ابن أبى حاتم وابن السنى وابن مردوية منه رحمه اللّه
(3) عن زيد بن اسلم ان عمر بن الخطاب اطلع على أبى بكر وهو يمد لسانه قال ما تصنع يا خليفة رسول اللّه قال ان هذا الذي أورد فى الموارد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ليس شىء من الجسد الا يشكو ذرب اللسان على حدته منه رحمه اللّه -
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 234
وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ
ايها النبي وَرَحْمَتُهُ
اى عصمته ولطفه من الاطلاع على سرّهم لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
اى بنوا ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
فى القضاء بالتزوير ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن ابن أبيرق والجملة جواب لو لا وليس القصد فيه إلى نفى همّهمبل إلى نفى تأثيره فيه كانّه نزل وجود الهمّ منزلة العدم لعدم تأثيره وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
فان ضرر اضلالهم انما يعود إليهم وَما يَضُرُّونَكَ
بعصمة الله مِنْ شَيْ ءٍ
منصوب المحل على المصدرية أى شيئا من الضرر كان مقتضى الظاهر وما أضلوا الا أنفسهم وما أضرّوك من شىء عدل إلى المضارع لحكاية الحال وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ
اى القرآن وَالْحِكْمَةَ(1/1657)
اى العلوم الحقة بالوحى الغير المتلوّ وَعَلَّمَكَ
العلوم بالاسرار والمغيبات قال قتادة علمه الله بيان الدنيا والاخرة من حلاله وحرامه ليحتج بذلك على صحة ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
جملة وانزل اللّه وعلّمك جملة حالية بتقدير قد متعلق بنفي الإضلال ونفى الضرر على سبيل التنازع وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
(113) إذ لا فضل أعظم من النبوة واللّه اعلم.
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ النجوى السرّ كذا فى القاموس وناجيته ساررته قال فى الصحاح أصله ان تخلو به فى نجوة من الأرض يعنى ما ارتفع منها وقيل أصله من النجاة وهو ان يعاونه على ما فيه خلاصة قال البغوي النجوى هو الاسرار فى التدبير وقيل النجوى ما يتفرد بتدبيره قوم سرّا كان أو جهارا ويؤيّده قوله تعالى وَأَسَرُّوا النَّجْوى ومعنى الآية لا خير فى كثير ممّا يزور به بينهم وجاز ان يكون المصدر بمعنى الفاعل والمراد به الرجال المتناجون كما فى قوله تعالى وَإِذْ هُمْ نَجْوى والضمير المجرور عائد إلى قوم ابن أبيرق الذين يستخفون من الناس إذ هم يبيون ما لا يرضى اللّه من القول وقال مجاهد الآية عامّة فى حق جميع الناس فعلى تقدير عوده إلى قوم ابن أبيرق قوله تعالى إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ الاستثناء منقطع لان من امر بصدقة غير داخلين فيهم وعلى تقدير عود الضمير إلى جميع الناس استثناء متصل من الضمير المذكور وقيل هذا استثناء من قوله كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ فان كان النجوى بمعنى الفاعل فلا خفاء فيه وان كان بمعنى المصدر يقدر المضاف فى المستثنى يعنى لا خير فى كثير من نجويهم الّا نجوى من امر بصدقة ويرد عليه ان هذا الاستثناء لا يجوز لأنه مثل جاءنى كثير من الرجال الّا
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 235(1/1658)
زيد لعدم الجزم بدخول زيد فى كثير ولا فى خروجه فلا يصح المتصل ولا المنقطع وأجيب بان المراد لا خير فى كثير من نجوى واحد منهم الا نجوى من امر وهذا الجواب لا يتأتى إذا كان النجوى بمعنى المتناجى إذ لا معنى لان يقال لا خير فى كثير من متناجى كل واحد منهم والظاهر ان الّا هاهنا بمعنى غير صفة كما فى قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا أَوْ مَعْرُوفٍ أى ما يعرف حسنها شرعا من اعمال البر قيل المراد القرض واعانة الملهوف وصدقة التطوع وبالصدقة الزكوة المفروضة أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ عطف على معروف تخصيص بعد تعميم لمزيد الاهتمام أو يقال قد يباح لاجل الإصلاح بين الناس ما ليس بمعروف فى غيره كالكذب عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط وكانت من المهاجرات الأول قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا متفق عليه عن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة قال قلنا بلى قال إصلاح ذات البين وإفساد ذات البين هى الحالقة رواه أبو داود والترمذي وقال هذا حديث صحيح وعن اسماء بنت يزيد قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل الكذب الّا فى ثلاث كذب الرجل امرأته ليرضيها والكذب فى الحرب والكذب ليصلح بين الناس رواه احمد والترمذي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أى الأمر بأحد هذه الأشياء أو أحد هذه الأشياء المذكورة يعنى الصدقة وأختيه والظاهر هو الأول واختار البيضاوي الثاني وقال بنى الكلام على الأمر ورتّب الجزاء على الفعل ليدل على انه لما دخل الأمر فى زمرة الخيّرين كان الفاعل ادخل فيهم وان العمدة والغرض هو الفعل والأمر وصلة إليه ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ قيد الفعل به لان من فعل رياءا وسمعة لم يستحق الاجر انما الأعمال بالنيات متفق عليه من حديث عمر(1/1659)
مرفوعا فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ قرأ حمزة وأبو عمرو بالياء على الغيبة والباقون بالتاء « 1 » على الخطاب أَجْراً عَظِيماً (114) يستحقر فى جنبه اعراض الدنيا روى الشيخان فى الصحيحين واحمد عن أبى شريح الخزاعي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فليقل خيرا أو ليصمت وروى البيهقي عن انس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأ تكلم فغنم أو سكت فسلم
_________
(1) الصحيح بالنون على التكلم
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 236
و لما ذكر اللّه سبحانه جزاء المستثنيين الخيار عقبه جزاء من بقوا بعد الاستثناء « 1 » من الشرار فقال.(1/1660)
وَ مَنْ يُشاقِقِ أى يخالف مشتق من الشق كانّ كلا من المتخالفين فى شق غير شق الاخر الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أى بعد ما ثبت عنده بدليل قطعىّ وظهر ما حكم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم قيد بهذا احترازا عمّن خالف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ولم يبلغه الخبر بما حكم به الرسول أو بلغه بطريق اتهم بعض رواته أو اخطأ المجتهد فى فهم مراده بعد بذل الجهد وقيل معنى خالف الرسول انه ارتد عن الدّين بعد ظهور التوحيد وصدق الرسول بالمعجزات كما حكى عن طعمة وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أى غير ما هم عليه أجمعون من اعتقاد أو عمل ولا بأس بمخالفة البعض إذا وافق البعض لقوله عليه السلام أصحابي كالنجوم بايهم اقتديتم اهتديتم نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أى نجعله فى الدنيا واليا لما تولى من الضلال وو نخلى بينه وبين ما اختاره من الكفر وقيل معناه نكله فى الاخرة إلى ما اتكل عليه فى الدنيا كما فى الصحيحين عن أبى سعيد الخدري وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص فى حديث طويل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة اذن مؤذن ليتبع كل أمة ما كانت تعبد فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب الا يتساقطون فى النار وَنُصْلِهِ أى ندخله جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) جهنم « 2 » أو التولية عن الحق قال البغوي نزلت هذه الآية فى طعمة ابن أبيرق وذلك انه لما ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليد والفضيحة هرب إلى مكة وارتد عن الدين فقال اللّه تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ الآية وهذه الآية دليل على حرمة مخالفة الإجماع لأنه تعالى رتّب الوعيد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين ولا وجه لكون أحدهما سببا له دون الاخر والا للغا ذكر الاخر ولا لكون مجموعهما سببا لان المشاقة محرمة بانفرادها بالنصوص القطعية فظهر ان كل واحد منهما سبب للوعيد فثبت ان اتباع(1/1661)
غير سبيلهم محرم فثبت ان اتباع سبيلهم واجب لان الإنسان لا محالة سالك سبيلا روى البيهقي والترمذي عن ابن عمرو ابن عباس قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجمع اللّه هذه الامة على الضلالة
_________
(1) فى الأصل بعد الثنيا
(2) عن مالك قال كان عمر بن عبد العزيز يقول من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وولاه الأمر من بعدة سننا الاخذ بها تصديق بكتاب اللّه واستكمال بطاعته وقوة على دين الله ليس لاحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر فيها خالفها من اقتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن يخالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه اللّه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 237
ابدا ويد الله على الجماعة ومن شذ شذ فى النار واللّه اعلم قال البغوي روى ان طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بنى سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاظ فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع ان يدخله ولا ان يخرج حتى أصبح فاخذ ليقتل فقال بعضهم دعوه فانه قد لجا إليكم فتركوه فاخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض مطاعهم فهرب فطلبوه فاخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه فصار قبره تلك الحجارة وقيل انه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فاخذ فالقى فى البحر وقيل انه نزل فى حرة بنى سليم فكان يعبد صنما لهم إلى ان مات فانزل اللّه تعالى فيه.(1/1662)
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ من الصغائر والكبائر بالتوبة وبلا توبة لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فى وجوب الوجود وتاصله أو فى العبادة شيئا فَقَدْ ضَلَّ عن سبيل الحق ضَلالًا بَعِيداً (116) لا يمكن وصوله إلى النجاة والمغفرة وقال البغوي قال الضحاك عن ابن عباس رضى اللّه عنهما ان هذه الآية السابقة نزلت فى شيخ من الاعراب جاء إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا نبى اللّه انى شيخ منهمك فى الذنوب الا انى لم أشرك باللّه شيئا منذ عرفته وامنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم اواقع المعاصي جرءة على اللّه وما توهمت انى أعجز الله هربا وانى لنادم تائب مستغفر فما ذا حالى ، وكذا أخرج الثعلبي عنه والله اعلم قال البغوي ونزل فى أهل مكة قوله تعالى.
إِنْ يَدْعُونَ أى ما يعبدون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء هو العبادة ثم قال وقال رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي الآية رواه احمد واصحاب السنن الاربعة ، ولان من عبد شيئا دعاه لحوائجه ومصالحه مِنْ دُونِهِ تعالى إِلَّا إِناثاً قال اكثر المفسرين معناه الّا أوثانا ووجه تسميتها بالإناث اما لان العرب كانوا يزعمونها إناثا ويسمونها بأسماء الإناث اللات والعزى ومناة ونحوها ويقولون ربة بنى فلان وأنثى بنى فلان لما روى عبد الله بن احمد فى زوائد المسند وابن المنذر وابن أبى حاتم عن أبى بن كعب انه قال الّا إناثا قال مع صنم جنية وامّا لأنه لا حقيقة لها الا اسماءها قال اللّه تعالى ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها فاعتبرت إناثا باعتبار تأنيث أسمائها وامّا لانها كانت
التفسير المظهري ج 2قسم 2 ، ص : 238(1/1663)
جمادات والإناث يطلق على الجمادات لغة فى القاموس الإناث جمع الأنثى كالاناثى والموات كالشجر والحجر وصغار النجوم فهذا اطلاق لغوى أصلي من غير تجوّز كما قيل فى كتب النحو الضمير بالألف والتاء ونون الجماعة لغير العقلاء فى الأصل يقال سفن جاريات ونخل باسقات وصرن الأيام ليالى وانما جعل ضمير جماعة النساء بها لتنزيلهن منزلة غير العقلاء لنقصان عقلهن وقال الحسن وقتادة الّا إناثا أى مواتا لا روح فيه سماها إناثا لانها تخبر عن الموات كما تخبر عن الإناث أو لان الإناث أدون الجنسين كما ان الموات أرذل من الحيوان وعلى هذين الوجهين الإطلاق مجازى وقرأ ابن عباس الّا اثنا جمع الأوثان جمع وثن قلبت الواو همزة وقال الضحاك أراد بالإناث الملائكة فانهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله قال اللّه تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً وذلك انه كان فى كل وثن شيطانا يتزا أى للسدنة والكهنة ويكلمهم كما ذكرنا فيما سبق وقيل المراد به إبليس فانه هو الذي أمرهم بعبادتها فعبادتها طاعته وعبادته مَرِيداً (117) المارد والمريد الذي لا يعلق بخير واصل التركيب للملاسة ومنه صرح ممرد وغلام امرد والمراد هاهنا العاتي الخارج عن طاعة الله.(1/1664)