بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : تفسير المظهرى
المؤلف : مظهرى محمد ثناء الله
الموضوع : تحليلى
القرن : 13
اللغة: عربى
ناشر: مكتبة رشديه
المطبعة : باكستان
سنة الطبع : 1412 هـ
تحقيق : غلام نبى تونسى(1/1)
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 2
الجزء الأول
سورة الفاتحة
مكيّة وهي سبع آيات خمسة وعشرون كلمة مائة وثلثة وعشرون حرفا ربّ يسّر وتمّم بالخير
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
فاتحة الكتاب وأم القرآن سميت بهما لانها اصل القرآن منها يبدا - وهى السبع المثاني لانها سبع آيات بالاتفاق وتثنى في الصلاة وقيل أنزلت مرتين - بمكة والمدينة - والأصح انها مكية قبل سورة حجر - روى ابن جرير عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال هى أم القرآن وهى فاتحة الكتاب وهى السبع المثاني انتهى - وهى سورة الكنز روى إسحاق بن راهويه عن على رضى اللّه عنه قال حدثنا نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم انها أنزلت من كنز تحت العرش - وهى سورة الشفاء لما سنذكر في الفضائل انها شفاء من كل داء
بِسْمِ أسقطت الالف لكثرة استعمالها وطولت الباء عوضا - قال البغوي قال عمر بن عبد العزيز طولوا الباء واظهر والسين ودور والميم تعظيما لكتاب اللّه عز وجل - والاسم مشتق من السمو دون الوسم بدلالة سمى وسميت والمراد به المسمى أو الاسم نفسه - والباء للمصاحبة أو الاستعانة أو التبرك - والاستعانة يكون بذكر اللّه متعلق بمقدر بعدها لما في قوله تعالى بسم اللّه مجريها - وليتحقق الابتداء بالتسمية تحقيقا - روى عبد القادر الرهاوي في الأربعين عن أبى هريرة عنه صلى اللّه عليه وسلم كل امر ذى بال لم يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم اقطع - يعنى بسم اللّه اقرأ اللَّهِ قيل جامد - والحق انه مشتق « 1 » من اللّه بمعنى المعبود حذفت الهمزة وعوضت عنها الالف واللام لزوما ومن أجل
_________
(1) الاولى ان يقال مأخوذ من اللّه بمعنى المعبود فان الحذف والتعويض لا يسمى اشتقاقا في عرفهم - منه رحمه اللّه - الخطبة من الناشر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 3(1/1)
التعويض « 1 » اللازم قيل يا اللّه - إذ لا معنى للاشتقاق إلا كون اللفظين شاركين في المعنى والتركيب - ثم جعل علما لذات الواجب الوجود المستجمع للكمالات المنزه عن الرذائل ولذا يوصف ولا يوصف به - ويقال للتوحيد لا الله الا اللّه وقد يطلق على الأصل فيقال وهو اللّه في السّموت وفي الأرض الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) مشتقان من الرحمة بمعنى رقة القلب المقتضى للتفضل والإحسان - واسماء اللّه تعالى انما تؤخذ باعتبار الغايات دون المبادي فانها انفعالات - قيل هما للمبالغة بمعنى واحد - والحق ان الرحمن ابلغ لزيادة البناء ولذا اختص باللّه دون الرحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان أحدهما ارقّ من الاخر والزيادة قد يعتبر بالكمية فيقال رحمن الدنيا ورحيم الاخرة فان الرحمة في الاخرة للمتقين وقد يعتبر بالكيفية فيقال رحمن الدنيا والاخرة ورحيم الدنيا فان نعم الاخرة في الاخرة للمتقين وقد يعتبر بالكيفية فيقال رحمن الدنيا والاخرة ورحيم الدنيا فان نعم الاخرة كلّها جليلة - وفي الدنيا حقيرة وجليلة وقدّم الرحمن لاختصاصه باللّه كالاعلام ولتقدم عموم الرحمة فى الدنيا وهى مقدم بالزمان - ذهب قراء المدينة والبصرة وأبو حنيفة وغيره من فقهاء الكوفة إلى انها ليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور والافتتاح بها للتيمن فقيل وليست من القرآن - والحق انها من القرآن أنزلت للفصل روى الحاكم وصححه على شرطهما عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعرف فصل السورتين حتى ينزل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ورواه أبو داؤد مرسلا وقال والمرسل أصح وسئل محمد بن الحسن عنها فقال ما بين الدفتين كلام اللّه تعالى قلت ولو لم تكن من القرآن لما كتبوها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن كما لم يكتبوا أمين - والدليل على انها ليست من الفاتحة ما رواه الشيخان عن انس قال صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم و(1/2)
خلف أبى بكر وخلف عمر فلم يجهر أحد منهم ببسم اللّه الرحمن الرحيم - وما سنذكر من حديث أبى هريرة قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين في الفضائل وما رواه احمد ان عبد اللّه بن مغفل قال سمعنى أبى وانا فى الصلاة اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد للّه ربّ العلمين فلما انصرف قال يا بنى إياك والحدث فى الإسلام فانى صليت خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يفتتحون القرآن ببسم اللّه الرحمن الرحيم ولم ار رجلا قط ابغض إليه الحدث منه - ورواه الترمذي فقال
_________
(1) مجرد التعويض لا يصلح علة لذلك والا لا نتقض بالناس ونحوه فلا بد في تتميم الكلام من قيد اخر - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 4(1/3)
فيه صليت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وعمر وعثمان ولم يسمع منهم أحد يقولها - وذهب قراء مكة والكوفة واكثر فقهاء الحجاز إلى انها من الفاتحة دون غيرها من السور وانما كتبت عليها للفصل لما روى الحاكم وقال اسناده صحيح عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ قال هى أم القرآن وقال بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الآية السابعة قراها علىّ ابن عباس كما قراتها ثم قال بسم الرحمن الرحيم الآية السابعة ولما روى الترمذي عن ابن عباس قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفتتح صلاته ببسم اللّه الرحمن الرحيم - قلت في الحديث الأول قول ابن عباس بسم اللّه الرحمن الرحيم الآية السابعة ظن « 1 » منه ليس بمرفوع وما رواه الترمذي ليس اسناده بقوى - وذهب جماعة إلى انها من الفاتحة وكذا من كل سورة الا سورة التوبة وهو قول الثوري وابن المبارك والشافعي لانها كتبت فى المصحف بخط « 2 » سائر القرآن - قلت وهذا يدل على انها من القرآن لا من السورة كيف وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه قال سورة من القرآن ثلاثون اية في سورة الملك - وسنذكر هناك ان شاء اللّه تعالى - ولا يختلف العادون انه ثلاثون اية من غير بسملة.(1/4)
الْحَمْدُ هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها فهو أعم من الشكر فى المتعلق فان الشكر يخص النعمة وأخص منه في المورد فان الشكر من اللسان والقلب والجوارح ولذا قال عليه السلام الحمد رأس الشكر ما شكر اللّه عبد لا يحمده - رواه عبد الرزاق عن قتادة عن عبد اللّه بن عمرو - والمدح أعم من الحمد مطلقا لأنه على مطلق الجميل - والتعريف للجنس اشارة إلى ما يعرفه كل أحد - أو للاستغراق إذ الحمد كله له تعالى وهو خالق افعال العباد وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وفيه دليل على انه تعالى حىّ قادر مريد عالم حتى يستحق الحمد لِلَّهِ اللام للاختصاص يقال الدار لزيد - والجملة الخبرية الاسمية دالة على استمرار الاستحقاق قصد بها الثناء بمضمونها وفيه تعليم وتقديره قولوا الحمد للّه حتى يناسب قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرّبّ بمعنى المالك يقال رب الدار لمالكه ويكون بمعنى التربية وهو التبليغ إلى الكمال تدريجا وصف به كالصوم والعدل ولا يقال على غيره تعالى الا مقيدا كرب الدار وفيه دليل على ان العالم محتاج في البقاء أيضا - والعلمين جمع
_________
(1) كون الآيات توقيفية لا مجال للعقل فيها امر مقرر عندهم فكيف يظن بابن عباس هذا الظن مع ان للموقوف حكم المرفوع فى أمثال ذلك - قلت المسألة إذا كانت روايات الصحابة فيها مختلفة لا يجوز هناك ان يقال للموقوف حكم المرفوع كذا في اصول القوم الطريق في أمثال ذلك ذكر الروايات - منه نور اللّه مرقده.
(2) أى كتبت على كل سورة اولا بخط سائرها فهو يدل على انها جزؤ من كل سورة - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 5(1/5)
عالم لا واحد له في الاستعمال من لفظه - والعالم اسم لما يعلم به الصانع كالخاتم وهو الممكنات بأسرها قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ يعنى موسى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا وجمع بملاحظة أجناس تحته وغلّب العقلاء - وقال وهب للّه ثمانية عشر الف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب الا كفسطاط في صحراء - وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وقيل العالم اسم لذوى العلم من الملائكة والثقلين وتناول غيرهم استتباعا.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) أجاز القراء فيه الروم وقفا وكذا في كل مكسور - فيه دليل على ان البسملة ليست من الفاتحة كيلا يلزم التكرار « 1 » وقيل كرر للتعليل.
ملك يوم الدّين (4) قرأ عاصم والكسائي ويعقوب مالك والآخرون ملك وقرا أبو عمرو الرّحيم ملك بإدغام الميم في الميم وكذالك يدغم كل حرفين متحركين من جنس واحد - أو مخرج واحد - أو قريبى المخرج - امّا إذا كانا مثلين في كلمتين فذلك واقع فى سبعة عشر حرفا - الا في مواضع عديدة وهى الباء والتاء والثاء والحاء المهملة والراء والسين المهملة والعين وعشرة أحرف بعدها نحو لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ثالِثُ ثَلاثَةٍ لا أَبْرَحُ حَتَّى فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ إِنَّكَ كُنْتَ بِنا جَعَلَ لَكُمُ يَعْلَمُ ما أَحْسَنُ نَدِيًّا إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ إِنَّهُ هُوَ ولا تمنع صلة الهاء نُودِيَ يا مُوسى إذا لم يكن الحرف الأول تاء المتكلم أو المخاطب كنْتُ تُراباً
...(1/6)
فَأَنْتَ تُكْرِهُ ولا منونا نحو واسِعٌ عَلِيمٌ ولا مشددا نحو فَتَمَّ مِيقاتُ والمواضع العديدة المستثناة منها يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ لا يدغم فيه أبو عمرو لاخفاء النون قبلها اتفاقا - ومنها كل موضع التقيا فيه مثلان بسبب حذف وقع في اخر الكلمة الاولى نحو يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ إِنْ يَكُ كاذِباً يَخْلُ لَكُمْ ففى هذه الكلمات لابى عمرو وجهان الإظهار والإدغام ومنها عند البعض آلَ لُوطٍ والصحيح ادغامه ومنها واو هو إذا كان الهاء مضموما على قراءة أبى عمرو ووقع بعده واو نحو هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وذلك في ثلاثة عشر موضعا فاختلف في ادغامه لكن رواية الإدغام أقوى ومنها واو هو إذا كان الهاء ساكنا على قراءته وهو ثلاثة « 2 » مواضع فَهُوَ وَلِيُّهُمُ وَهُوَ واقِعٌ
_________
(1) منقوض هو بنحو فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وغيرها من الآيات التي كرر تكرارها - قلت تكرار فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يستحسنه الفصحاء والشعراء كما يكون في الشعر ترجيعا واما التكرار بلا نسق فليس من هذا القبيل كما لا يخفى على من له ادنى تأمل - منه رحمه اللّه
(2) الصحيح خمسة مواضع - أبو محمد عفا اللّه عنه وفي القرآن وَما يَعْلَمُ إلخ في الأصل الاحرف في الأصل لك.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 6(1/7)
قال بعضهم فيها الإظهار بلا خلاف وقال بعضهم بخلاف والإظهار أقوى « 1 » - هذا إذا كان المثلان فى كلمتين واما إذا كانا في كلمة واحدة فلم يأت عنه الإدغام الا في موضعين مناسككم فى البقرة وما سلككم في المدثر هذا ادغام المثلين - واما ادغام المتقاربين في كلمة واحدة فالقاف تدغم في الكاف إذا كان قبلهما متحرك وبعدهما ميم نحو يَرْزُقُكُمْ بخلاف مِيثاقَكُمْ ونَرْزُقُكَ وحكى الخلاف في ادغام طَلَّقَكُنَّ ولا يدغم غيره - وفي كلمتين تدغم ستة عشر حرفا إذ لم يكن منونا ولا تاء مخاطب ولا مجزوما ولا مشددا - الحاء تدغم في العين في زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وروى ادغامها في العين حيث التقيا « 2 » نحو ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ... الْمَسِيحُ عِيسَى ... فَلا جُناحَ عَلَيْهِما والقاف في الكاف وبالعكس عند تحرك ما قبلهما نحو خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ ...(1/8)
لَكَ قُصُوراً بخلاف فَوْقَ كُلِّ وَتَرَكُوكَ قائِماً والجيم في التاء في كلمة ذِي الْمَعارِجِ تعرج وفي الشين فى أَخْرَجَ شَطْأَهُ والشين في السين في ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا والضاد في الشين في لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ والسين في الزاء في إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وفي الشين في الرَّأْسُ شَيْباً والدال تدغم في حروف عشرة حيث جاءت نحو الْمَساجِدِ تِلْكَ عَدَدَ سِنِينَ الْقَلائِدَ ذلِكَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ يُرِيدُ ثَوابَ تُرِيدُ زِينَةَ نَفْقِدُ صُواعَ مِنْ بَعْدِ ظلم داوُدُ جالُوتَ وفي دارُ الْخُلْدِ جَزاءً خلاف ولم يلق الدال طاء في القرآن ولم تدغم الدال مفتوحة بعد ساكن بحرف بغير التاء فلا تدغم لِداوُدَ سُلَيْمانَ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ آلَ داوُدَ شُكْراً آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بعد ظلم بَعْدَ ثُبُوتِها وتدغم كاد تزيغ بعد توليدها ولا ثالث لهما - والتاء تدغم في تلك العشرة الا في التاء من باب المثلين وقد مر ذكره وكذا في الطاء حيث جاءت ولم يلق التاء دالا الا والتاء ساكنة نحو أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما وذلك واجب الإدغام - نحو الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً الذَّارِياتِ ذَرْواً بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ولا ثانى له والنّبوّة ثمّ يقول إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً الْمَلائِكَةُ صَفًّا والْمَلائِكَةُ ظالِمِي فى النساء والنحل ليس غيرهما عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ والتاء لم تقع
_________
(1) عند النحاة لا عند القراء - أبو محمد عفا اللّه عنه
(2) وذلك شاذ.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 7(1/9)
مفتوحة بعد ساكن الا وهو حرف خطاب ولا ادغام فيه الا في مواضع وقعت بعد الف فمنها لا خلاف في ادغامه وهو أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وفي الباقي خلاف نحو حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها - وأيضا خلاف في بعض تاء مكسورة آتِ ذَا الْقُرْبى ولْتَأْتِ طائِفَةٌ وفي جِئْتَ شَيْئاً مكسور التاء خلاف في ادغامه مع انه تاء خطاب ولا خلاف في الإظهار إذا كانت مفتوحة جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً والثاء تدغم في خمسة أحرف حيث جاءت نحو حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَوَرِثَ سُلَيْمانُ وَالْحَرْثِ ذلِكَ وليس غيره وحَيْثُ شِئْتُمْ وحَدِيثُ ضَيْفِ وليس غيره والذال في السين والصاد فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فى الكهف في موضعين - مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً - واللام تدغم في الراء وبالعكس الا إذا انفتحا بعد ساكن فتدغم نحومَثَلِ رِيحٍ(1/10)
هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ لا نحو فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ لكن لام قال إذا كان الراء بعده تدغم وان كان مفتوحا بعد ساكن قالَ رَبِّ قالَ رَجُلانِ قالَ رَبُّكُمْ والنون تدغم في اللام والراء إذا تحرك ما قبلها نحو إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ خَزائِنَ رَحْمَةِ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ تَبَيَّنَ لَهُمُ لا إذا سكن ما قبلها نحو يَخافُونَ رَبَّهُمْ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ الا نون نحن تدغم في اللام حيث جاءت وان كانت بعد ساكن نحو نَحْنُ لَهُ وفَما نَحْنُ لَكَ وهو عشر مواضع والميم المتحرك ما قبلها إذا كان بعدها باء تسكن وتخفى - والباء في يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ حيث اتى تدغم في الميم وهى خمسة مواضع سوى ما فى البقرة فانه ساكن الباء في قراءة أبى عمرو وفيه الإدغام الصغير - وحيث ما يجوّز أبو عمرو الإدغام الكبير فله هناك ثلاثة أوجه اخر الإشمام والروم والإظهار غير ان الإشمام يقع في الحروف المضمومة فقط والروم في المضمومة والمكسورة دون المفتوحة والإشمام عبارة عن ضم الشفتين كقبلة المحبوب اشارة إلى الضمة والروم عبارة عن الإخفاء والتلفظ ببعض الحركة لكن الإشمام والروم عنده في سائر الحروف غير الباء مع الميم وبالعكس نحو نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يَعْلَمُ ما أَعْلَمُ بِما كانُوا والإدغام لا يتاتى « 1 » إذا كان قبل الحرفين حرف ساكن صحيح نحو خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بَعْدِ ظُلْمِهِ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا دارُ الْخُلْدِ جَزاءُ لاجتماع الساكنين فالادغام
_________
(1) هذا عند المتأخرين والنحاة واما عند المتقدمين فالادغام المحض أصح قال المحقق والإدغام الصحيح هو الثابت عند قدماء الائمة من أهل الأداء والنصوص مجتمعة عليه - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 8(1/11)
هناك بنطق بعض الحركة وهو الإخفاء والروم والتعبير هناك بالإدغام تجوز اما إذا كان الساكن حرف مد أو لين صح الإدغام نحو فِيهِ هُدىً وقالَ لَهُمْ ويَقُولُ رَبَّنا وقَوْمُ مُوسى وكَيْفَ فَعَلَ واللَّهُ أَعْلَمُ - الملك والمالك قيل معناهما واحد الرّبّ مثل فرهين وفارهين وحذرين وحاذرين والحق ان المالك من الملك بالكسر بمعنى الرب يقال مالك الدار ورب الدار والملك من الملك بالضم بمعنى السلطان هما صفتان له تعالى والقراءتان متواترتان فلا يجوز ان يقال الملك هو المختار - وقيل الملك والمالك بمعنى القادر على الاختراع من العدم إلى الوجود فلا يطلق على غيره تعالى الا مجازا - ويوم الدّين يوم القيامة والدين الجزاء ومنه كما تدين تدان وهو مثل مشهور وحديث مرفوع رواه ابن عدى في الكامل بسند ضعيف وله شاهد مرسل عند البيهقي واخرج احمد عن مالك ابن دينار انه في التورية والديلمي عن فضالة بن عبيدة مرفوعا انه في الإنجيل وقال مجاهد يوم الدين أى الحساب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أى الحساب المستقيم وقيل القهر منه دنته فدان أى قهرته فذل أو الإسلام أو الطاعة فانه يوم لا ينفع فيه الا الإسلام والطاعة - وانما خص ذلك اليوم بالذكر لان في غيرها من الأيام قد يطلق الملك لغيره تعالى مجازا - ولان فيه إنذار ودعوة إلى القول ب إِيَّاكَ نَعْبُدُ أضاف الصفة إلى الظرف اجراء له مجرى المفعول به نحو يا سارق الليلة ومعناه الماضي على طريقة نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ فان المتيقن كالواقع فصح وقوعها صفة للمعرفة واجراء هذه الصفات على اللّه تعالى للتعليل على انه الحقيق بالحمد ومن لم يتصف بتلك الصفات لا يستأهل الحمد فضلا ان يعبد والتمهيد لقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقوله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يدل على الاختيار وينفى الإيجاب بالذات والوجوب عليه قضية لسوابق الأعمال ثم لما ذكر الحقيق بالحمد ووصفه بصفات عظام مميزة عن(1/12)
سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خاطب بذلك فقال.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) أجاز القراء فيه الروم والإشمام في حالة الوقف وكذا في كل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 9
مضموم - والمعنى يا من هو بالصفات المذكورة نخصك بالعبادة والاستعانة عليها وعلى جميع أمورنا - ومن عادة العرب التفنن في الكلام والالتفات من الغيبة إلى الخطاب وبالعكس ومن التكلم إليهما وبالعكس تنشيطا للسامع - والعبادة أقصى الخضوع والتذلل ومنه طريق معبد أى مذلل والضمير في الفعلين للقارى ومن معه - وفيه اشعار على التزام الجماعة - وقدم المفعول للتعظيم والاهتمام والحصر قال ابن عباس معناه نعبدك ولا نعبد غيرك - رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من طريق الضحاك عنه وقيل الواو في وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ للحال أى نعبدك مستعنين بك - .
اهْدِنَا أى أرشدنا بيان للمعونة المطلوب - أو افراد لما هو المقصود الأعظم - والهداية دلالة بلطف ولذلك يستعمل في الخير - وأصله ان يعدى باللام أو إلى وقد يعدى بنفسه - وهذا الدعاء من المؤمنين ومن النبيّ صلى اللّه عليه وسلم مع كونهم على الهداية لطلب التثبت أو طلب مزيد الهداية فان الألطاف والهدايات من اللّه تعالى لا تتناهى على مذهب أهل السنة الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) قرأ ابن كثير برواية قنبل الصراط معرفا باللام ومضافا في الفاتحة وسائر القرآن وكذا منكرا حيث اتى بالسين على الأصل لأنه من سرط الطّعام أى ابتلعه - والطريق يسرط السابلة والباقون بالصاد وهو لغة قريش - وقرا خلف كلها بين الصاد والزاء وكذا خلاد هاهنا خاصة - والمستقيم المستوي والمراد طريق الحق - وقيل ملة الإسلام « 1 » - والقولان أخرجهما ابن جرير عن ابن عباس.(1/13)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ (5) بدل من الأول بدل الكل وفائدته التوكيد والتنصيص على ان طريقهم هو المشهود عليه بالاستقامة والمراد بالذين أنعمت عليهم كل من ثبّته اللّه تعالى على الايمان والطاعة مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ - قرأ حمزة عليهم - إليهم - لديهم - حيث وقع بضم الهاء وصلا ووقفا والباقون بكسرها - وضم ابن كثير كل ميم جمع مشبعا في الوصل إذا لم يلقها ساكن - وقالون يقول
_________
(1) قال أبو العالية والحسن في تفسير اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صراط رسول اللّه وصاحباه - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. وقال اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 10(1/14)
بالتخيير في الإشباع وعدمه لقيها ساكن اولا « 1 » - وورش يشبع عند الف القطع فقط - وإذا تلقته الف الوصل وقبل الهاء كسر أو ياء ساكنة نحو بِهِمُ الْأَسْبابُ وعَلَيْهِمُ الْقِتالُ ضم الهاء والميم حمزة والكسائي - وكسرهما أبو عمرو - وكذلك يعقوب إذا انكسر ما قبله - والآخرون ضموا الميم على الأصل وكسروا الهاء لاجل الياء والكسرة - وفي الوقف يكسر الهاء عند الكل لكسرة ما قبلها أو الياء الا ما ذكرنا خلاف حمزة ويعقوب أبو محمد في الكلمات الثلث غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) بدل من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ - أى المنعم عليهم هم السالمون من الغضب والضلال - أو صفة له مبينة أو مقيدة ان اجرى الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود - كما في قول الشاعر ولقد امرّ على اللّئيم يسبّنى - أو جعل غير معرفة لاضافته إلى ماله ضد واحد فيتعين - يقال عليكم بالحركة غير السكون - وعليهم في محل الرفع نائب مناب الفاعل - ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي - كأنَّه قال لا المغضوب عليهم - والغضب ثوران النفس لارادة الانتقام وإذ أسند إلى اللّه أريد به المنتهى - والضلالة ضد الهداية وهو العدول عن الطريق الموصل وله عرض عريض - أخرج احمد في مسنده - والترمذي وحسنه - وابن حبان في صحيحه وغيرهم عن عدى بن حاتم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ان المغضوب عليهم اليهود وان الضالين النصارى - واخرج ابن مردوية عن أبى ذر نحوه - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم التفسير بذلك عن ابن عباس - وابن مسعود - والربيع ابن انس - وزيد بن اسلم - قال ابن أبى حاتم - لا اعلم في ذلك خلافا بين المفسرين - واللفظ عام يعم الكفار والعصاة والمبتدعة - قال اللّه تعالى في القاتل عمدا - وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ - وقال - فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ - وقال - الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ(1/15)
الدُّنْيا - والسنة عند ختم الفاتحة ان يقول أمين مفصولا - وأمين مخفف غير مشدد - جاء ممدودا ومقصورا قال البغوي قال ابن عباس معناه اسمع واستجب - واخرج الثعلبي عنه قال سالت النبي صلى اللّه عليه وسلم عنه فقال افعل - روى ابن أبى شيبة في مصنفه والبيهقي فى الدلائل عن أبى ميسرة ان جبرئيل عليه السلام اقرأ النبىّ صلى اللّه عليه وسلم الفاتحة فلما قال وَلَا الضَّالِّينَ قال له قل أمين - وروى أبو داود في سننه عن أبى زهير أحد الصحابة
_________
(1) هذا التعميم من سباق قلم أو من الناسخ لان الإشباع قبل الساكن ممنوع - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 11
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 11
قال - أمين مثل الطابع على الصحيفة خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات ليلة فاتينا على رجل قد ألح في المسألة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أوجب ان ختم - فقال رجل من القوم باىّ شىء يختم فقال أمين - واخرج أبو داود - والترمذي - والدارقطني - وصححه ابن حبان - كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا قرأ ولا الضّالّين قال أمين - وفي الصحيحين عن أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قال الامام وَلَا الضَّالِّينَ فقولوا أمين فان الملائكة تقول أمين - وان الامام يقول أمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
فصل فى فضائل الفاتحة(1/16)
عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده ما انزل في التورية ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها - وانها لهى السبع المثاني التي أتاني اللّه عز وجل - رواه الترمذي وقال حسن صحيح - والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم - وعن ابن عباس قال بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده جبرئيل إذ سمع نقيضا من فوقه فرفع جبرئيل عليه السلام بصره إلى السماء فقال هذا باب فتح من السماء ما فتح قط قال فنزل منه ملك فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ابشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرا حرفا منها الا أعطيته - رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى - قسّمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين فنصفها لى ونصفها لعبدى ولعبدى ما سال - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - يقول العبد الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه حمدنى عبدى - يقول العبد الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه اثنى علىّ عبدى - يقول العبد مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول اللّه تعالى مجدنى عبدى - يقول العبد إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول اللّه هذه الآية بينى وبين عبدى ولعبدى ما سال - يقول العبد اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ يقول فهؤلاء لعبدى ولعبدى ما سال - رواه مسلم - وعن عبد الملك بن عمير مرسلا قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فاتحة الكتاب شفاء من كل داء - رواه الدارمي في مسنده والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح - وعن عبد اللّه بن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الا أخبرك بأخير سورة نزلت في القرآن
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 12(1/17)
قلت بلى يا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فاتحة الكتاب واحسبه قال فيها شفاء من كل داء - وعنه - فاتحة الكتاب شفاء من كل شىء الا السام - والسام الموت - رواه الخلعي فى فوائده - وعن أبى سعيد بن المعلى - أعظم سورة في القرآن الحمد للّه رب العلمين - رواه البخاري والبيهقي والحاكم من حديث انس - أفضل القرآن الحمد للّه رب العلمين - وروى البخاري في مسنده من حديث ابن عباس - فاتحة الكتاب تعدل ثلثى القرآن - وعن أبى سليمان قال مر بعض اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل قد صرع فقرأ بعضهم في اذنه بام القرآن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - هى أم القرآن وهى شفاء من كل داء - رواه الثعلبي من طريق معاوية بن صالح عنه - وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا - فاتحة الكتاب شفاء من السم - رواه سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب - وعنه قال - كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت ان سيد الحي سليم فهل معكم راق فقام معها رجل فرقاه بام الكتاب فبرىء فذكر للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقال وما كان يدريه انها رقية - رواه البخاري - ورواه أبو الشيخ وابن حبان في الثواب عنه وعن أبى هريرة معا - وعن السائب بن يزيد قال - عوّذنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بفاتحة الكتاب فىّ تفلا - رواه الطبراني في الأوسط - وعن انس - إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقد امنت كل شىء الا الموت - رواه البزار.
سورة البقرة
مدنيّة أخرج البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة والنّساء الّا وانا عنده وهى مائتان وسبع « 1 » وثمانون اية وستة الف ومائة واحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة وعشرون الف وخمسمائة حرف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(1/18)
الم (1) قيل في المقطعات في أوائل السور انها اسماء السور - وقيل هى مزيدة للتنبيه على انقطاع كلام واستيناف كلام اخر - وقيل هى اشارة إلى كلمات منها اقتصرت عليها اقتصار الشاعر فقلت لها قفى فقالت لى قاف - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن
_________
(1) عند أهل البصرة اما عند أهل الكوفة فمائتان وست وثمان اية - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 13(1/19)
ابى العالية - الالف آلاء اللّه - واللام لطفه - والميم ملكه - واخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عنه الر وحم ون مجموعها الرحمن - وعن ابن عباس ان الم معناه انا اللّه اعلم - وقال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس المص انا اللّه اعلم وافصل والر انا اللّه ارى والمر انا اللّه اعلم وارى - وقيل اشارة إلى مدد أقوام وآجال بحساب الجمل - روى البخاري في تاريخه وابن جرير من طريق ضعيف انه صلى اللّه عليه وسلم لما اناه اليهود تلا عليهم الم البقرة فحسبوا فقالوا كيف ندخل في دين مدته احدى وسبعون سنة - فتبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا فهل غيره فقال المص والر - والمر - فقالوا خلطت علينا فلا ندرى بايها نأخذ - ورد هذه الأقوال بان كونها اسماء السور مستلزم لوقوع الاشتراك في الاعلام من واضع واحد وذلك ينافى المقصود بالعلمية - وأيضا التسمية بثلاثة اسماء فصاعدا مستنكر وأيضا تسمية بعض السور دون بعض بعيد - وبان هذه الألفاظ لم تعهد مزيدة للدلالة على الفصل والاستيناف - وان كان كذلك كانت على كل سورة - وبان الاقتصار على بعض حروف الكلمة غير مستعمل واما الشعر فشاذ على ان في الشعر قوله قفى في السؤال قرينة على ان قولها قاف من وقفت بخلاف أوائل السور إذ لا قرينة هناك على ان الالف من الآء اللّه - واللام لطفه ونحو ذلك - وما روى عن بعض الصحابة والتابعين فمصروف عن الظاهر والا فهى اقوال متعارضة - وتخصيص حرف بكلمة من الكلمات المشتملة على تلك الحروف دون غيرها ترجيح بلا مرجح وبان تبسم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فهم اليهودي - الظاهر انه صلى اللّه عليه وسلم تعجب على جهله - وقيل انه مقسم بها لشرفها من حيث انها بسائط اسماء اللّه تعالى - ومادة خطابه وهذا التأويل يحوج إلى إضمار أشياء لا دليل عليها واختار البيضاوي ان حروف التهجي لما كانت عنصر الكلام وبسائطه التي يتركب(1/20)
منها افتتحت السور بطائفة منها إيقاظا لمن يتحدى بالقران وتنبيها على ان المتلو عليهم كلام منظوم مما ينظمون منه كلامهم فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا عن الإتيان بمثله وليكون أول ما يقرع الاسماع مستقلا بنوع من الاعجاز - فان النطق بأسماء الحروف من الأمي معجزة كالكتابة سيما وقد روعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الفائق في فنه حيث أورد اربعة عشر اسماء نصف عدد أسامي الحروف في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 14(1/21)
مشتملة على انصاف جميع أنواعها من المهموسة والمجهورة والشديدة والرخوة وغيرها كما ذكر تفصيله - وأيضا الكلام غالبا يتركب من تلك الحروف الاربعة عشر دون البواقي - قال والمعنى ان هذا المتحدى به مؤلف من جنس هذه الحروف - والحق عندى انها من المتشابهات « 1 » وهى اسرار بين اللّه تعالى وبين رسوله صلى اللّه عليه وسلم لم يقصد بها إفهام العامة بل إفهام الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومن شاء افهامه من كمل اتباعه قال البغوي قال أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه في كل كتاب سر وسر اللّه تعالى في القرآن أوائل السور - وقال علىّ رضى اللّه عنه ان لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي - وحكاه الثعلبي عن أبى بكر وعن علىّ وكثير - وحكاه السمرقندي عن عمرو وعثمان وابن مسعود رضى اللّه عنهم أجمعين وحكاه القرطبي عن سفيان الثوري - والربيع بن خثعم - وابى بكر ابن الأنباري - وابن أبى حاتم وجماعة من المحدثين - قال السجاوندى المروي عن الصدر الأول في الحروف التهجي انها سر بين اللّه وبين نبيه صلى اللّه عليه وسلم - وقد يجرى بين المحرمين كلمات معميات يشير إلى اسرار بينهما - وقيل انّ اللّه تعالى استأثر بعلم المقطعات والمتشابهات ما فهمه النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أحد من اتباعه - وهذا بعيد جدّا فان الخطاب للافهام فلو لم يكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل أو الخطاب بالهندي مع العربي - ولم يكن القرآن باسره بيانا وهدى - ويلزم أيضا الخلف في الوعد بقوله تعالى - ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ - فانه يقتضى ان بيان القرآن محكمه ومتشابهه من اللّه تعالى للنبى صلى اللّه عليه وسلم واجب ضرورى - وروى عن ابن
عباس انا من الراسخين في العلم وانا ممن يعلم تأويله - وكذا
_________
((1/22)
1) المتشابه فيه قولان أحدهما انه يرجى نيل المراد منه بضرب من التأويل والتأمل والثاني انه لا يرجى نيل المراد منه فعلى القول الأول الرسول وغيره في ذلك سواء والادلة التي ذكرت هاهنا يؤيد هذا القول وعلى القول الثاني هو مختار الحنفية رحمهم اللّه أيضا الرسول وغيره سواء والادلة المذكورة مخدوشة عندهم فينبغى تفصيل المذهبين وكذا دليل كل من الفريقين مع الجواب عن دليل المخالف حتى ينتظم الكلام - قلت المتشابه التي يشتبه على السامع العارف باللغة المراد بحيث لا يدرك بالطلب ولا بالتأمل الا بعد بيان من الشارع فان بينه النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى ظهر المراد منه سميت مجملا على اصطلاح الأصوليين كالصلوة والزكوة والحج والعمرة واية الربوا ونحو ذلك وان لم يوجد البيان والتعليم من النبي صلى اللّه عليه وسلم سميت متشابها على اصطلاحهم - والمتشابه بهذا المعنى أخص من المتشابه بالمعنى المذكور سابقا فالمقطعات واليد والوجه والاستواء على العرش من هذا القبيل - واختلف كلام العلماء في هذا النوع فقيل يمكن تأويله وقيل لا يمكن تأويله بل يجب الايمان به وتفويض المراد منه إلى اللّه سبحانه فقيل استأثر اللّه سبحانه بعلمه ما فهم النبي صلى اللّه عليه وسلم مراده ولا أحد من اتباعه وبه قال اكثر العلماء وقيل بل فهمه النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن شاء افهامه من اتباعه وهو سر بين اللّه وبين رسوله صلى اللّه عليه وسلم وهو المختار عندى وما يدل على هذا من اقوال الصحابة مذكور في الكتاب - منه برد اللّه مضجعه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 15(1/23)
عن مجاهد وادعى المجدد للالف الثاني رضى اللّه عنه (من الامة المرحومة التي لا يدرى أولها خير أم آخرها ولعل آخرها فوجا هى اعرضها عرضا وأعمقها عمقا وأحسنها حسنا) ان اللّه تعالى اظهر عليه تأويل المقطعات واسرارها لكنها مما لا يمكن بيانها للعامة فانه ينافى كونها سرّا من اسرار اللّه تعالى واللّه تعالى أعلم - وقيل انها اسماء اللّه تعالى أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردوية في الأسماء والصفات عن ابن عباس وسنده صحيح - وروى ابن ماجة عن على رضى اللّه عنه انه كان يقول يا كهيعص اغفر لى - وعن الربيع بن انس كهيعص معناه من يجير ولا يجار عليه - وقيل انها اسماء القرآن أخرجه عبد الرزاق عن قتادة قالوا ولذلك اخبر عنها بالكتاب والقران قلت ان كانت اسماء للّه تعالى كانت دالة على بعض صفاته تعالى - كسائر اسماء الصفات - وكذا ان كانت اسماء للقران كانت دالة على بعض صفات القرآن كما ان لفظ القرآن والفرقان والنور والحيوة والروح والذكر والكتاب تدل على صفة من صفاته - وعلى كلا التقديرين فدلالة تلك الألفاظ ليست مما يفهمه العامة بل هى مختصة بفهم المخاطب ومن شاء اللّه تعالى تفهيمه - والحكم بانها من اسماء اللّه تعالى لا يتصور الا بعد فهم معناها - فهذان القولان على تقدير صحتهما راجعان إلى ما حققناه انها اسرار بين اللّه تعالى وبين رسوله صلى اللّه عليه وسلم لا يفهمه غيره الا من شاء اللّه من كمل اتباعه وكذلك قوله تعالى - يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - وقوله تعالى - الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ - ونحو ذلك مما يستحيل حملها على ظواهرها التي تتبعها الذين في قلوبهم زيغ من المجسمة - فان كلا منها تدل على صفة من صفات اللّه تعالى بحيث فهمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبعض الكمل من اتباعه - وتوضيح(1/24)
ذلك ان للّه تعالى صفاتا غير متناهية « 1 »
_________
(1) قال البغوي انه قال ابن عباس قالت اليهود أ تزعم انا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ثم تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فانزل اللّه هذه الآية يعنى كلمات علمه وحكمته تعالى غير متناهية ومن هاهنا قال العلماء معلومات اللّه تعالى غير متناهية وكما ان علومه تعالى غير متناهية وان كان ذلك اللاتناهى بعدم تناهى تعلقاتها - فكذلك جزئيات سائر صفاته تعالى غير متناهية وأيضا حصر الصفات فيما يعلمه الناس ممنوع كيف وما ذكر فى المتن من الحديث الصحيح يدل على ان من أسمائه تعالى ما استأثر بعلمه لم يعلّمه أحدا من خلقه فمن الجائز ان يعلم اللّه سبحانه رسوله من أسمائه وصفاته بالمقطعات ما لم يعلمه قبله غيره - عدم تناهى الصفات انما هو بمعنى عدم تناهى تعلقاتها وحمل الكلمات على الصفات مستبعد كل البعد ولا يجب وضع اللفظ بإزاء كل تعلق تعلق حيث يقدح تناهيها في ادراك الصفات بل اللفظ انما يوضع بإزاء معنى كلى تنطبق على جزئيات غير متناهية - ثم عدم وضع اللفظ بإزاء معنى من المعاني لا يوجب عدم درا ذلك المعنى لجواز ان يتصور المعنى من غير توسط اللفظ ولا امتناع التصور بالكنه يوجب عدم اللفظ إذ التصور بالوجه كاف - ان كان استفادة العلم الضروري بهذه الحروف بطريق الدلالة الوضعية عاد الاشكال بأصله إذ تلك الدلالة ليست موجودة لانها ليست بوضع العرب مع ان القرآن عربى وان كان لا بطريق الدلالة الوضعية بل بمجرد المقابلة ولزوم الروية يلزم الدرك من الحروف ما لها وضع وكلا الشقين محال قلت واضع الأسماء واللغات كلها هو اللّه سبحانه دون الناس - وكان ابتداء التعليم من اللّه سبحانه بالإلهام أو البيان والا يلزم التسلسل فعلى هذا يمكن ان يكون هذه الحروف المقطعات في(1/25)
علم اللّه تعالى موضوعة للمعانى دالة عليها بالوضع فالهم اللّه سبحانه نبيه صلى اللّه عليه وسلم معنى تلك الحروف وصفتها كما الهم آدم عليه السلام معانى سائر الأسماء - منه رحمه اللّه [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 16
حيث قال اللّه تعالى - لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي - وقال عز من قائل - وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ - ولا شك ان الألفاظ الموضوعة بإزاء المعاني متناهية - والعقول قاصرة عن درك كنه ذات اللّه تعالى وكنه صفاته - وانما يتصور دركه بنوع من المعية الذاتية أو الصفاتية الغير المتكيفة - هيهات هيهات عن فهم العوام بل الخواص مع دركهم لا يدركون ذلك الدرك في مرتبة الذات حيث قال رئيس الصديقين شعر - العجز عن درك الإدراك ادراك - والبحث عن سر الذات اشراك - غير ان بعض صفاته تعالى لما شارك صفات الممكنات في الغايات أو بعض وجوه المشاكلات عبر عنها بالأسماء التي تدل على صفات في المخلوقات كالحيوة والعلم والسمع والبصر والارادة والرحمة والقهر وغيرها فزعم البشر انه فهمها وفي الحقيقة لم يفهم الا بعض وجوهها - وبعضها ليست بهذا المثابة - فمنها ما استأثر اللّه تعالى بعلمه - ومنها ما افهمه الخواص من خلقه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في دعائه اللّهم انى أسئلك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك - رواه ابن حبان فى صحيحه - والحاكم في المستدرك واحمد - وأبو يعلى في حديث ابن مسعود لمن أصابه هم - والطبراني فى حديث أبى موسى فلعل اللّه سبحانه من ذلك الأسماء الخفية عن العامة التي لم يوضع بإذائها ألفاظ في لغاتهم علّم والهم بعضها لنبيه صلى اللّه عليه وسلم و(1/26)
من شاء من اتباعه بهذه الحروف وخلق فيهم علما ضروريا مستفادا من هذه الحروف كما علم آدم الأسماء وخلق فيه علما ضروريا من غير سبق علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى كيلا يلزم التسلسل - ويتجلى تلك الأسماء والصفات على النبي صلى اللّه عليه وسلم بتلاوة هذه الحروف - قال شيخى وامامى قدسنا اللّه بسره السامي انه يظهر بنظر الكشف القرآن كله كأنَّه بحر ذخار للبركات الالهية ويظهر تلك الحروف في ذلك البحر كانها عيون فوارات تفور ويخرج منها البحر - فعلى هذه المكاشفة لا يبعد ان يجعل هذه الحروف اسماء للقران كانّ القرآن تفصيل لذلك الإجمال واللّه اعلم بمراده - وهذا التوجيه لا ينافى ما اختاره البيضاوي فان القرآن لكل اية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع - ويروى لكل حرف حد ولكل حد مطلع رواه البغوي من حديث ابن مسعود فكما ان هذه الحروف في الظاهر عنصر للقران وبسائطه وغالب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 17
ما يتركب منه - وفيه لطائف الإيراد ووجوه الاعجاز - كذلك المراد من تلك الحروف إجمال للقران وعيون فوارات واسرار بين اللّه وبين رسوله لا يطلع عليه أحد الا المخاطب أو من في معناه واللّه سبحانه اعلم - .(1/27)
ذلِكَ الْكِتابُ - أى هذا الكتاب الذي يقرأه محمد صلى اللّه عليه وسلم ويكذّب به المشركون فالمشار إليه ما سبق نزوله من القرآن على سورة البقرة أو القرآن كله الذي سبق بعضه فذلك مبتدأ والكتاب خبره أى الكتاب المعهود الموعود - أو الكتاب الكامل الذي يستأهل ان يسمى كتابا - أو صفة وخبره ما بعده - وقيل هذا فيه مضمر أى هذا الذي يوحى إليك ذلك الكتاب الذي وعدنا انزاله في التورية والإنجيل - أو وعدناك من قبل بقولنا - إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا - فذلك خبر مبتدأ محذوف والكتاب صفته - والكتاب مصدر بمعنى المكتوب واصل الكتب الضم والجمع يقال للجند كتيبة لاجتماعها سمى به لأنه قد جمع في الكتاب حرف إلى حرف - أو لأنه مما يكتب - والاشارة بذلك وهى للبعيد تعظيما لشأنه لا رَيْبَ فِيهِ لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب فيه العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا - وقيل خبر بمعنى النهى أى لا ترتابوا فيه - ولا لنفى الجنس وفيه خبره - أو فيه صفته وللمتقين خبره وهدى نصب على الحال - أو الخبر محذوف كما في لا ضير - وفيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير لا ريب فيه فيه هدى والاولى ان يقال انها جمل متناسقات يقرر اللاحقة السابقة ولذا لم يعطف - ف ذلِكَ الْكِتابُ ملة تفيد انه الكتاب المنعوت بغاية الكمال حيث لا رَيْبَ فِيهِ - وكذا قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ - قرأ ابن كثير فيه بالإشباع في الوصل وكذلك كل هاء ضمير الغائب قبلها ساكن يشبعها وصلا بالياء ان كان الساكن ياء والا بالواو نحو منه كما يشبع القراء كلهم كل هاء قبلها متحرك مكسور ياء نحو به أو غير مكسور واوا نحو يضربه له ما لم يلقها ساكن فإذا لقيها ساكن سقط مدة الإشباع لاجتماع الساكنين اجماعا - نحو عليه الكتب وله الحكم غير ان الكلمة إذا كانت ناقصة حذف آخرها لاجل الجزم نحو يؤدّه ونولّه - ونصله - فالقه - ويتّقه - ويأته - ويرضه وبقي ما قبل الهاء متحركا(1/28)
ففيها خلاف القراء نذكرها في مواضعها ان شاء اللّه تعالى فقرا بعضهم بالإشباع نظرا إلى تحرك ما قبلها وبعضهم بالاختلاس نظرا إلى كون الحركة عارضية وتنبيها على الحرف المحذوف وبعضهم بالسكون لحلوله محل المحذوف هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) أى هو هدى فهو جملة ثالثة يؤكد كونه حقا لا ريب فيه - أو يكون كل جملة منها يستتبع السابقة اللاحقة استتباع الدليل للمدلول فانه لما كان بالغا حد الكمال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 18(1/29)
لا يسوغ فيه الريب فيكون البتة هدى - وهدى مصدر بمعنى الدلالة على الطريق الموصل أو الدلالة الموصلة إلى المقصود بمعنى الهادي - أو ذكر مبالغة كزيد عدل - وتخصيص الهدى بالمتقين اما على المعنى الأول فلانهم هم المنتفعون به وان كانت الدلالة عامة ولذا قال - هُدىً لِلنَّاسِ - واما على الثاني فظاهر لأنه لا يكون دلالة موصلة الا لمن صقل عقله كالغذاء الصالح ينفع الصحيح دون المريض ولذا قال - شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً - والمتقى من يقى نفسه عما يضره في الاخرة من الشرك وذلك أدناه - ومن المعاصي وذلك أوسطه - ومن الاشتغال بما لا يعينه ويشغله عن ذكر اللّه تعالى وذلك أعلاه وهو المراد بقوله تعالى - حَقَّ تُقاتِهِ - وقال ابن عمر التقوى ان لا ترى نفسك خيرا من أحد - وقال شهر بن حوشب - المتقى الذي يترك ما لا بأس به - حذرا عما به بأس - روى الشيخان وابن عدى عن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه - الا وان لكل ملك حمى الا وان حمى اللّه في ارضه محارمه الا وان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسدت الجسد كله الا وهى القلب - وروى الطبراني في الصغير الحلال بين والحرام بين فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك - قلت صلاح القلب المذكور في الحديث هو المعبّر باصطلاح الصوفية بفناء القلب وهو أول مراتب الولاية وهو المستلزم لصلاح الجسد والاتقاء عن المشتبهات حذرا من ارتكاب المحرمات - فالتقوى لازم للولاية قال اللّه تعالى - إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وفي الآية سمى المشارف للتقوى متقيا مجازا على طريقة من قتل
قتيلا - .(1/30)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ - صفة مقيدة للمتقين ان فسر بالتقوى عن الشرك والا فموضحة مشتملة على اصول الأعمال من الايمان فانه رأس الأمر كله - والصلاة فانها عماد الدين - والزكوة فانها قنطرة الإسلام أو مادحة - أو مبتدأ وخبره أُولئِكَ عَلى هُدىً - قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وورش يومنون بالواو بدلا عن الهمزة - وكذلك أبو جعفر يترك كل همزة ساكنة ويبدلها واوا بعد ضمة - وياء بعد كسرة الا في انبئهم - ونبّئهم - ونبّئنا - وأبو عمرو كلها الا ما كان السكون فيه للجزم نحو يهيّئ أو يكون فيه خروج من لغة إلى لغة كالمؤصدة - ورءيا -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 19
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 19(1/31)
و ورش كل همزة ساكنة في فاء الفعل الا تؤى - وتؤويه - ولا يترك الهمزة في عين الفعل الا باب الرّؤيا وما كان على وزن فعل مسكور العين - والايمان في اللغة التصديق كما في قوله تعالى وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا - وذلك يكون بالقلب واللسان وفي الشرع التصديق بالقلب واللسان جميعا بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلم قطعا - ولا يعتبر التصديق بالقلب بدون اللسان الا في حالة الإكراه - قال اللّه تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ - وقال يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ - وقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ - ولا يعتبر التصديق باللسان بدون القلب أصلا قال اللّه تعالى - وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ - واما الأعمال فغير داخلة في الايمان ولذا صح عطف يُقِيمُونَ الصَّلاةَ على يُؤْمِنُونَ وعطف آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ - روى مسلم في الصحيح عن عمر بن الخطاب قال بينا نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال يا محمد أخبرني عن الإسلام - قال الإسلام ان تشهد ان لا الله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه وتقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إليه سبيلا - قال صدقت فعجبنا له يسئله - ويصدقه - قال أخبرني عن الايمان - قال ان تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وتؤمن بالقدر خيره وشره - قال صدقت قال فاخبرنى عن الإحسان - قال ان تعبد ربك كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك - قال فاخبرنى عن الساعة - قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل - قال فاخبرنى عن اماراتها - قال ان تلد الامة ربتها - وان ترى(1/32)
الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان - قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال لى يا عمر أ تدري من السائل - قلت اللّه ورسوله اعلم - قال فانه جبرئيل أتاكم يعلمكم دينكم - ورواه أبو هريرة مع اختلاف وفيه - إذا رايت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض في خمس لا يعلمهن الا اللّه ثم قرأ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية - متفق عليه وهذا الحديث تدل على ان الإسلام اسم لما ظهر من الأعمال - وكذا قوله تعالى - قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا - ويطلق الإسلام أيضا على الايمان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 20
كما في قوله تعالى قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فهو في اصطلاح الشرع مشترك فى المعنيين - والغيب مصدر وصف به للمبالغة كالشهادة قال اللّه تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ والمراد به ما غاب عن أبصارهم من ذات اللّه وصفاته والملائكة والبعث والجنة والنار والصراط والميزان وعذاب القبر وغير ذلك فهو واقع موقع المفعول به للايمان والباء صلة - أو بمعنى الفاعل وقع حالا من فاعل يؤمنون يعنى يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين في حضور المؤمنين خاصة دون الغيبة وقيل عن المؤمن به - روى عن ابن مسعود انه قال ان امر محمد صلى اللّه عليه وسلم كان بيّنا لمن راه والذي لا الله غيره ما من أحد قط أفضل ايمانا من ايمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ إلى قوله الْمُفْلِحُونَ - وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أى يحافظون على حدودها وشرائطها وأركانها وصفاتها الظاهرة من السنن والآداب والباطنة من الخشوع والإقبال - من اقام العود إذا قومه - أو يديمونها ويواظبون عليها - من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة والصلاة أصله الدعاء و(1/33)
سميت بها لاشتمالها عليه قرأ ورش بتغليظ اللام إذا تحرك بالفتح بعد الصاد - أو الطاء - والظاء - نحو الصّلوة - ومصلّى - وأظلم - والطّلاق - ومعطّلة - وبطل - ونحو ذلك وقرا الباقون بالترقيق الا في لفظه اللّه خاصة إذا انفتح أو انضم ما قبله فيفخمونه « 1 » أجمعون - وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) الرزق في اللغة الحظ قال اللّه تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ - ويطلق على كل ما ينتفع به الحيوان والانفاق في الأصل الإخراج عن اليد والملك ومنه نفاق السوق حيث يخرج فيه السلعة والمراد به صرف المال في سبيل الخير هذه الآية في المؤمنين من مشركى العرب - .
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعنى القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التورية والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام - هم المؤمنون من أهل الكتاب - كذا أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس رضى اللّه عنهما - فعلى هذا الآيتان تفصيل للمتقين - أو المراد بهم هم الأولون من قبيل قوله شعر إلى الملك القوم وابن الهمام - وليت الكتيبة في المزدحم - على معنى انهم الجامعون بين الايمان بما يدركه العقل جملة وإتيان الشرائع وبين الايمان بما لا طريق إليه غير السمع أو من قبيل عطف الخاص على العام
_________
(1) فى الأصل فيفخمون 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 21(1/34)
كقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ - تعظيما لشأنهم - روى الشيخان عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب أمن بنبيه وأمن بمحمد الحديث - والانزال نقل الشيء من الأعلى إلى الأسفل ويلحق المعاني بتوسط لحوقه الذوات الحاملة لها كجبرئيل - أو المراد العلو والسفل في الرتبة انزل من علم اللّه تعالى إلى علم البشر يقصر أبو جعفر وابن كثير ويعقوب والسوسي كل مد وقع بين كلمتين وقالون والدوري يمد ويقصر والباقون بمدونها ولذا سمى هذا المد المنفصل مدا جائزا بخلاف المتصل الواقع في كلمة واحدة نحو السّماء فانهم اتفقوا على مده فيسمى واجبا لكنهم اختلفوا في مقدار المتصل والمنفصل فابن كثير وأبو عمرو وقالون يمدون على قدر ثلث حركات وابن عامر والكسائي على قدر اربع حركات وعاصم على قدر خمس حركات وورش وحمزه على قدر ست حركات هذا في المد الذي يقع بعد المدة همزه - اما إذا وقع بعده ساكن نحو وَلَا الضَّالِّينَ والم فجميع القراء اتفقوا على مده على قدر ست حركات ويسمى مدا لازما - الا إذا كان الساكن لعارض الوقف فاتفقوا على ان القاري مخير في مده على قدر حركتين أو اربع حركات اوست حركات وفيما كان الساكن في الأصل مضموما نحو نَسْتَعِينُ يمدونها إلى سبع « 1 » حركات - واللّه اعلم - وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أى بالدار الاخرة سميت الدنيا لدنوّها - والاخرة لتاخرها فهما صفتان في الأصل غلبتهما الاسمية فصارا اسمين - والإيقان إتقان العلم بنفي الشك عنه نظرا واستدلالا - فلا يسمى اللّه موقنا - قرأ ورش بنقل حركت الهمزة إلى اللام وحذف الهمزة وكذلك كل ما وقع الهمزة أول كلمة - والسابق عليه حرف ساكن غير مدولين من اخر كلمة اخرى فانه يلقى حركت الهمزة على الساكن قبلها ويحذفها سواء كان الساكن نون تنوين أو لام تعريف أو غير ذلك نحو مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ(1/35)
كانُوا - ومُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا - وكُفُواً أَحَدٌ - وبِالْآخِرَةِ الْأَرْضِ - الْأُولى - واستثنى اصحاب يعقوب عن ورش من ذلك كِتابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ - واختلفوا فى الْآنَ في موضعين وعاداً الْأُولى - ثم ورش يمد مدّا قصيرا ومتوسط أو طويلا على هذه المدة - وكذا على كل مدة وقع بعد الهمزة سواء كانت الهمزة ثابتة نحو أمن - وأوحى - وإيمانا - أو محذوفة بعد نقل الحركة نحو بالاخرة - وقل اوحى - ومن أمن أو مبدلة نحو هؤلاء الهة فقرا ورش هؤلاء يالهة بالابدال والمد أو مسهلة نحو جاء ال - الا ياء إسرائيل تحرزا عن ثلث مدات في
_________
(1) لا فرق عند القراء في المضموم وغيرها 12 أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 22
بنى إسرائيل - وبعضهم لا يرون لورش المد الا في الثابتة - وقرا حمزة من رواية خلف بالسكتة على اللام وكذا على كل ساكن غير مدة وقع اخر الكلمة وبعده همزة يسكت عليه سكتة لطيفة من غير قطع نحو من أمن - وهل اتيك - وعليهم ءانذرتهم ابني آدم وخلوا إلى شيطينهم - الاخرة - الأرض - وعنه السكتة على لام التعريف وشىء وشيئا لا غير - وقدم الضمير للحصر أى هم الموقنون بالاخرة دون غيرهم من أهل الكتاب لعدم مطابقة اعتقادهم الواقع حيث قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى ونحو ذلك - .(1/36)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ - الجملة في محل الرفع ان جعل أحد الموصولين منفصلا عن المتقين كأنَّه نتيجة للاحكام بالصفات المذكورة فان اسم الاشارة كاعادة الموصوف بصفاته - ففيه إيذان بان تلك الصفات موجبة لهذا الحكم - وفي كلمة على إيذان على تمكنهم وو استقرارهم على الهداية - ونكر هدى للتعظيم وأكّد التعظيم بان اللّه معطيه وموفقه وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) أى الفائزون بالمطلوب هذا اللفظ وما يشاركه في الفاء والعين من فلق وفلذ وفلى يدل على الشق والقطع كانّ المفلح انشق من غيره وصار بينهما بون بعيد - أو صاروا مقطوعا لهم بالخير في الدنيا والاخرة كرر اسم الاشارة تنبيها على ان اتصافهم بتلك الصفاة يقتضى كل واحدة من الاثرتين ووسط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين بخلاف قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ - أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ - وهم ضمير يفصل الخبر عن الصفة ويؤكد النسبة ويفيد الاختصاص - أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر أولئك - وتمسك المعتزلة بان الحصر تدل على خلود مرتكب الكبيرة في النار - ورد بان المراد المفلحون الكاملون في الفلاح ويلزم منه عدم كمال الفلاح لمن ليس مثلهم لا عدم الفلاح مطلقا - ثم لما ورد ذكر خاصة - عباد اللّه وأوليائه في ضمن ذكر الكتاب أو مستقلا ان جعل الموصول منفصلا عن المتقين - عقبهم أضدادهم المردة ولم يعطف لاختلاف السياق - .
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا - الكفر لغة ستر النعمة وفي الشرع ضد الايمان وستر نعمة اللّه - سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ - خبران - وسوآء اسم بمعنى الاستواء نعت به كما ينعت بالمصادر - وما بعده مرفوع على الفاعلية كأنَّه قيل مستو عليهم إنذارك وعدمه -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 23(1/37)
او خبر لما بعده بمعنى انه إنذارك وعدمه سيان عليهم - والفعل وقع مخبرا عنه باعتبار المعنى التضمني أى الحدث مجازا - وانما عدل عن المصدر إلى الفعل لايهام التجدد - والهمزة وأم جردتا عن معنى الاستفهام وذكر التقرير معنى الاستواء وتأكيده - والانذار التخويف من عذاب اللّه واقتصر عليه لان دفع الضرر أهم من جلب النفع - قرأ ورش بابدال الهمزة الثانية الفا - وقالون وابن كثير وأبو عمرو يسهّلون الثانية بين بين لكن قالون يدخل الفا بينهما مع التسهيل - وهشام يدخل الفا بينهما من غير تسهيل - والباقون يحققون الهمزتين من غير إدخال - وكذلك المقال في كل همزتين مفتوحتين في كلمة واحدة - وذكر في التيسير مذهب هشام كقالون - واما إذا اختلفتا بالفتح والكسر فى كلمة نحواء ذا كنّا ترابا فالحرميان وأبو عمرو يسهلون الثانية وقالون وأبو عمرو يدخلان قبلها الفا والباقون يحققون الهمزتين واختلف الرواية عن هشام في إدخال الالف بينهما ففى رواية يدخل مطلقا - وفي رواية لا الا في سبعة مواضع - أ إنّكم في الأعراف وفصلت أ إنّ لنا لاجرا في الأعراف والشعراء - وفي مريم أَإِذا ما مِتُّ - وفي الصّافّات أَإِنَّكَ وأَ إِفْكاً - وإذا اختلفتا بالفتح والضم فى كلمة فالحرميان وأبو عمرو يسهلون الثانية - وقالون يدخل بينهما الفا - وهشام كقالون في ص أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ وفي القمر أَأُلْقِيَ - وكالجمهور في ال عمران قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ والباقون يحققون ولا رابع لها - لا يُؤْمِنُونَ (6) جملة مفسرة لاجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء فلا محل لها أو حال مؤكدة أو بدل عنه - أو خبر انّ والجملة قبلها اعتراض بما هو علة الحكم - .(1/38)
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ - فلا تعى خيرا - والقلب هو المضغة وقد يطلق على المعرفة والعقل قال اللّه تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ - اعلم ان اللّه تعالى خالق الأشياء كلها اعراضها وجواهرها - والأسباب اسباب عادية يخلق اللّه تعالى عقيبها المسببات فاللّه سبحانه بعد استعمال الحواس من السمع والبصر وغيرهما يخلق علما بالمحسوسات وبعد استعمال الذهن فى ترتيب المقدمتين يخلق علما بالنتيجة جريا على عادته - ولو شاء لا يخلق ويتعطل الحواس ويتخبظ الذهن - ولو شاء يحصل العلم بالمحسوس ولا يفيد ذلك العلم اثرا في القلب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء - ثم قال اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك - رواه مسلم عن
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 24(1/39)
عبد اللّه بن عمرو - فاللّه سبحانه لمّا لم يردان يطهر قلوب الكفار صرفهم عن التفكر في الآيات ولم يخلق فى قلوبهم تأثرا بالايمان واليقين بعد رؤية الآيات والمعجزات وعبر عن ذلك وعن عدم التأثر بالختم - والطبع - والاغفال - والاقساء - والغشاوة مجازا - أو مثل قلوبهم ومشاعرهم بأشياء ضرب عليها الحجاب - أو يقال ان المراد بالختم ما يخلق اللّه تعالى من السواد على القلوب باقتراف المعاصي - روى البغوي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها وان زاد زادت حتى تعلو قلبه - فذلكم الرين الذي ذكر اللّه في كتابه كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ - قلت وسواد القلب المذكور هو المعبر فيما مر من الحديث بفساد القلب - حيث قال وإذا فسدت فسدت الجسد وهو ضد صلاح القلب ولما كان حال ذنب المؤمن كذلك فما بال الكافر - وعبر عن احداث هذه الهيئة بالطبع - والاغفال والاقساء ونحوها - والختم في اللغة الكتم - سمى به الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه لأنه كتم له - والبلوغ آخره سمى به نظرا إلى انه اخر فعل يفعل في إحرازه - وَعَلى سَمْعِهِمْ - أى أسماعهم وحده للامن عن اللبس واعتبار الأصل فانه مصدر في أصله والمصادر لا يجمع - معطوف على قلوبهم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً - ولمّا كان درك السمع والقلب من جميع الجهات جعل مانعهما من جنس واحد وهو الختم بخلاف البصر فانه مختص بالمقابلة فجعل مانعها الغشاوة المختصة بجهة المقابلة - وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ - جمع بصر وهو ادراك العين وقد يطلق مجازا على القوة الباصرة وعلى العضو وكذا السمع امال أبو عمرو والدوري عن الكسائي كل الف بعده راء مجرور في لام الفعل نحو وعلى أبصارهم وصلا ووقفا وكذا اثارهم - والنّار - و(1/40)
الغار - وبقنطار - وبدينار - والأبرار - وشبهه وتابعهما أبو الحارث فيما تكررت فيه الراء من ذلك نحو الأشرار - الأبرار - وقرا ورش كل ذلك بين بين وتابعه حمزة فيما كان الراء فيه مكررا وعلى قوله القهّار حيث وقع ودار البوار لا غير - وامال ابن ذكوان إلى حمارك والحمار في البقرة والجمعة لا غير - والغشاوة ما يشتمل على الشيء فيغطيه مرفوع على انه مبتدأ أو فاعل للظرف وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) فى الاخرة والعذاب من أعذب الشيء إذا امسك أى عقابا يمنع الجاني عن المعاودة ثم اتسع فاطلق على كل الم وان لم يكن عقابا مانعا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 25
و قيل من التعذيب بمعنى ازالة العذب - والعظيم ضد الحقير يعنى إذا قيس مع ما يجانسه قصر عنه جميعه - .(1/41)
وَمِنَ النَّاسِ روى عن أبى عمرو امالة فتح النّاس في موضع الجر حيث وقع بخلاف عنه وصلا ووقفا مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ أى بيوم القيامة نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبى بن سلول - ومعتب بن قشير - وجدّ بن قيس وأصحابهم وأكثرهم من اليهود - والناس أصله أناس فحذفت الهمزة وعوض عنها حرف التعريف ولذا لا يجمع بينهما - جمع انسان - وقيل اسم جمع إذ لم يثبت فعال من ابنية الجمع - مشتق من انس لانهم يستأنسون بينهم - أو انس لانهم ظاهرون مبصرون - كما سمّى الجنّ لاجتنانهم واللام فيه للجنس ومن موصوفة إذ لا عهد - وقيل للعهد والمعهود هم الذين كفروا - أو من موصولة أريد بها ابن أبى وأمثاله حيث دخلوا في الكفار المختوم على قلوبهم واختصوا بزيادة الخداع - وتخصيص الذكر بالايمان باللّه واليوم الاخر لما هو مقصود الأعظم من الايمان وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) انكار لما ادعوه وكان أصله وما أمنوا حتى يطابق قولهم في تصريح الفعل دون الفاعل لكنه عكس مبالغة في التكذيب لان إخراجهم من المؤمنين ابلغ من نفى الايمان في ماضى الزمان ولذلك أكد النفي بالباء.(1/42)
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا - الخدع ان توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه - من قولهم خدع الضب إذا توارى في حجره وأصله الإخفاء - وخداعهم مع اللّه أى مع رسوله بحذف المضاف - أو من حيث ان معاملتهم مع الرسول معاملتهم مع اللّه من حيث انه خليفته قال عز وجل - مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ - وقال عز من قائل - الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - وهو بمعنى يخدعون وصيغة المفاعلة للمبالغة فان الفعل مع المقابل ابلغ أو ان صورة صنيعهم مع اللّه من اظهار الايمان مع ابطان الكفر وصنع اللّه معهم بإجراء احكام الإسلام عليهم مع انهم أخبث الكفار وامتثال الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين امر اللّه في إخفاء حالهم واجراء احكام الإسلام عليهم صورت صنيع المتخادعين وهو بيان ليقول أو استيناف بذكر ما هو الغرض منه - وَما يَخْدَعُونَ - قراءة الحرميين وابى عمرو وما يخادعون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فانه لا يخفى على اللّه خافية - وهو يطلع نبيه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين فهم غروا أنفسهم حيث
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 26
او هموا أنفسهم انهم أمنوا من العذاب والفضيحة فضرر خداعهم راجع إليهم دون غيرهم - وَما يَشْعُرُونَ (9) أى لا يحسّون لتمادى غفلتهم - الشعور الاحساس بالمشاعر إلى الحواس جعل رجوع الضرر إليهم كالمحسوس الذي لا يخفى الا على ماؤف الحواس.(1/43)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ - لا المرض ما يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال ويضعفه ويفضيه إلى الهلاك - ويطلق على الاعراض النفسانية من الجهل والحسد والكفر وسوء العقيدة مجازا فانه مانع من نيل الفضائل ومفضى إلى الهلاك الابدى - وهم كانوا على أخبث الاعراض النفسانية وكانوا أيضا متالمين على فوت الرياسة واستعلاء شأن المحسودين من المؤمنين فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بتقوية تلك الاعراض الخبيثة بالختم والرين - وإنزال الآيات - فكلما كفروا باية ازدادوا كفرا - أو نصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتفضيحهم - قرأ حمزة بامالة زاد وكذا جاء وشاء - وران - وخاف - وخاب - وطاب - وحاق - حيث « 1 » وقع وزاغ - فى والنجم وزاغوا في الصف لا غير - سواء اتصلت هذه الافعال بضمير اولا إذا كانت ثلاثية ماضية وتابعه ابن ذكوان على امالة جاء وشاء حيث وقعا وزاد هاهنا خاصة وقيل حيث وقع وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) أى مولم وصف به العذاب مبالغة بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) ما مصدرية - قرأ الكوفيون بالتخفيف أى بكذبهم في قولهم امنّا - والباقون بالتشديد أى بتكذيبهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم في السّرّ - .(1/44)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ - الفساد ضد الصلاح يعمان كل ضار ونافع - وفسادهم في الأرض هيجان الحروب بمخادعة المسلمين وممالاة الكفار عليهم بإفشاء الاسرار وتعويق الناس عن الايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران - قرأ الكسائي وهشام - قيل - وغيض - وجىء - وحيل - وسيق - وسيئت وسىء بالاشمام ووافق ابن عامر في الأربع الاخيرة ووافق نافع في الأخيرين - والمراد بالاشمام هاهنا ان ينحا بكسر فائها نحو الضمة واليا نحو الواو - وقيل بضم الفاء مشبعة - وقيل مختلسا - وقيل بل ايماء بالشفتين إلى ضمة مقدرة مع اخلاص الكسرة - والاول أصح والباقون بالكسرة قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) وهم كاذبون ردّ للناصح على سبيل المبالغة بكلمة انما أو قالوا ذلك فيما بينهم تصور والفساد بصورة الصلاح لما زين لهم سوء أعمالهم.
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ
_________
(1) ضاق أيضا منهم - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 27
لا يَشْعُرُونَ (12) ردّ لما ادعوه ابلغ ردّ كما ادّعوه لانفسهم مع تعريض للمؤمنين بأبلغ الوجوه بالاستيناف وحرف التنبيه المفيدة للتحقيق وكلمة ان وتعريف الخبر وضمير الفصل والاستدراك بلا يشعرون.(1/45)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى المهاجرين والأنصار - أو من أمن من اليهود كعبد اللّه بن « 1 » سلام - هذا من تمام النصح - فان الاعراض عن الفساد والإتيان بشرائع الايمان كمال الإنسان - وكما أمن الناس في محل النصب على المصدرية وما مصدرية أو كافة كما في ربّما قالُوا فيما بينهم أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ والسفه خفة العقل وضده الحلم - وقيل السفيه من تعمد بالكذب - وانما سفهوهم اعتقادا لفساد رأيهم أو تحقيرا لشأنهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ فانهم مع ما كانوا يرون من المعجزات ويعرفون من التورية أهملوا عقولهم وأنكروا الرسول صلى اللّه عليه وسلم فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ وفيه رد ومبالغة كما سبق - قرأ الحرميان وأبو عمرو السّفهاء الا في الوصل خاصة بتسهيل الهمزة الثانية - وكذا كل ما اجتمعا في كلمتين واختلف حركتهما نحو من الماء أو ممّا - وشهداء إذ حضر - ومن يشآء إلى صراط - وجاء امّة وحكم التسهيل ان يجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها ما لم ينفتح وينكسر ما قبلها أو ينضم فانها تبدل مع الكسرة ياء مفتوحة وو مع الضمة واو مفتوحة والمكسورة المضموم ما قبلها تبدل واوا مكسورة والباقون يحققونهما وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) انما ذكر هاهنا لا يعلمون وفيما قبله لا يشعرون لان الوقوف على امور الدين يحتاج إلى فكر واما الفساد فيدرك بالحس وادنى التفات - .(1/46)
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار وما صدرت به القصة سبق لبيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم وَإِذا خَلَوْا من خلوت بفلان واليه إذا انفردت معه - أو من خلاك دم أى عداك ومنه القرون الخالية إِلى شَياطِينِهِمْ أى روسائهم قال ابن عباس - وهم خمسة نفر من اليهود كعب بن اشرف بالمدينة - وأبو بردة في بنى اسلم وعبد الدار في جهينة - وعوف بن عامر في بنى اسد - وعبد اللّه بن السوداء بالشام - والشيطان المتمرد العاتي من الجن والانس قال اللّه تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وقال مِنَ الْجِنَّةِ
_________
(1) وعن ابن عباس - كما أمن أبو بكر وعمر وعثمان وعلى - منه نور اللّه مرقده
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 28
وَالنَّاسِ - أو المراد الكهنة ولا يكون كاهن الا ومعه الشيطان تابع له والشيطان - مشتق من شطن أى بعد يقال بيرشطون أى بعيد العمق سمى لامتداده في الشر وبعده من الخير - أو من شاط أى بطل ومن أسمائه الباطل - وحينئذ النون زائدة قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ فى الدين والاعتقاد خاطبهم بالجملة الاسمية المؤكدة بان للدلالة على تحقيق ثباتهم على ما كانوا إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) تأكيد لما قبله لان المستهزئ بالشيء المستخف به مصر على خلافه - أو بدل منه لأنه من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر - أو استيناف كانّ الشياطين قالوا لهم لما قالوا انّا معكم ان صح ذلك فما لكم تدعون الايمان فاجابوا - والاستهزاء السخرية والاستخفاف - هزأت واستهزأت كاجبت واستجبت بمعنى وأصله الخفة ناقة تهزئ أى تسرع قرأ أبو جعفر مستهزون - ويستهزون - واستهزوا - وليطفوا ليواطوا - ويستنبؤنك وخطون - وخاطين - ومتّكون - ومتّكين - فمالون - والمنشون - بترك الهمزة فيهن.(1/47)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ أى يجازيهم على استهزائهم سمى الجزاء به للمقابلة قال البغوي قال ابن عباس - هو ان يفتح لهم باب من الجنة فإذا انتهوا إليه سد عنهم وردوا إلى النار - وقيل هو ان يجعل للمؤمنين نور يمشون به على الصراط فإذا وصل المنافقون إليه حيل بينهم وبين المؤمنين قال اللّه تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ الآية - قال الحسن - معناه ان اللّه يظهر على المؤمنين نفاقهم انتهى - واخرج ابن أبى الدنيا في كتاب الصمت عن الحسن - ان المستهزءين بالناس يفتح لاحدهم باب إلى الجنة فيقال هلم هلم فيجىء فإذا أتاه غلق دونه فما يزال كذلك الحديث - وهذا مرسل جيد وانّما استونف ولم يعطف ليدل على ان اللّه تعالى كاف في مجازاتهم لا حاجة للمومنين ان يعارضوهم ولم يقل اللّه مستهزئ بهم لتجدد الاستهزاء بهم حينا بعد حين - أَوَلا يَرَوْنَ « 1 » أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ - وَيَمُدُّهُمْ يتركهم ويمهلهم - من مدّ الجيش إذا زاده وقوّاه أصله الزيادة - والمد والامداد واحد غير ان المد كثير امّا يستعمل في الشر والامداد في الخير كما في أمددناكم باموال وبنين - فِي طُغْيانِهِمْ - أى تجاوز الحد في العصيان والكفر - أماله الكسائي حيث وقع - يَعْمَهُونَ (15) يترددون - العمه في البصيرة كالعمى في البصر.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الضَّلالَةَ - الكفر - بِالْهُدى بالايمان - فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ
_________
(1) فى القرآن أ فلا ترون المؤلف عفا الله عنه.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 29(1/48)
التجارة طلب الربح أى الفضل على رأس المال بالبيع والشراء - وأسند الربح إليها مجازا لتلبسها بالفاعل أو لانها سبب الريح كالفاعل وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) بالتجارة إذ المقصود من التجارة حصول الربح مع سلامة رأس المال - وهم ضيعوا رأس المال وهى الفطرة وما حصلوا الفضل بإدراك الحق ونيل الكمال - .(1/49)
مَثَلُهُمْ - المثل - والمثل - والمثيل - بمعنى النظير - ثم قيل للقول السائر الممثل مضربة بمورده ولا يضرب الا ما فيه غرابة ثم استعير لكل حال غريب أى حالهم الغريب كَمَثَلِ الَّذِي أى الذين كما في قوله وخضتم كالّذى خاضوا وانما جاز ذلك دون القائم مقام القائمين لأنه غير مقصود بالوصف بل الجملة التي هى صلة - ولانه ليس باسم تام بل كالجزء منه وحقه ان لا يجمع وليس الذين جمعه بل ذو زيادة تدلّ على زيادة المعنى ولذا جاء بالياء ابدا - اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ النار - ما حَوْلَهُ أى المستوقد - ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ جواب لمّا ولم يقل بنارهم لان النور هو المقصود - واسناد الفعل إلى اللّه لان الكل بفعله - أو لان الإطفاء حصل بسبب خفى - أو سماوى - أو للمبالغة - أو الجواب محذوف للايجاز وعدم الالتباس كما في قوله تعالى - فَلَمَّا « 1 » ذَهَبُوا بِهِ - والجملة استيناف جواب سائل يقول ما بالهم شبّههم « 2 » - بحال من استوقد فانطفت ناره - أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان والضمير على هذين الوجهين للمنافقين - وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) ذكر الظلمة وجمعها ونكرها ووصفها بانه لا يتراى فيها شىء للمبالغة في بيان شدته كانها ظلمات متراكمة - ولما تضمن ترك معنى صير جرى مجرى افعال القلوب - وترك مفعول لا يبصرون - كانّ الفعل غير متعد بمعنى لا يقع منهم الابصار - والآية مثل ضربه اللّه لمن أتاه ضربا من الهدى فاضاعه ولم يتوصل به إلى نعيم الابد فبقى متحيرا متحسرا تقريرا وتوضيحا لما تضمنته الآية الاولى - فانهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحق باستبطان الكفر - أو مثل لايمانهم من حيث انه يعود عليهم بحقن الدماء والأموال ومشاركة المسلمين في المغانم - والاحكام بالنار ولذهاب اثره باهلاكهم في الاخرة أو افشاء حالهم في الدنيا بإطفاء اللّه إياه.(1/50)
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أى هم صم بكم عمى - يعنى الّذى استوقد نارا - لما ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلمات
_________
(1) فى الأصل ولمّا 12
(2) فى الأصل شبّهتهم 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 30
ادهشتهم واختلت حواسهم فالكلام على الحقيقة - وان كان ضمير بنورهم راجعا إلى المنافقين فالمعنى انهم لما لم يصيخوا إلى الحق وأبوان ينطقوا به وان يتبصّروا الآيات ويتفكّروا فيه صاروا كانهم انتفت مشاعرهم وقواهم - وإطلاقها عليهم من قبيل التمثيل دون الاستعارة - لان المستعار له يعنى كلمة هم وان كان محذوفا لفظا لكنه منطوق حكما ففات شرط الاستعارة - والآية نتيجة التمثيل. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أى هم متحيرون فلا يدرون كيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه - أو انهم لا يعودون عن الضلالة إلى الهدى الذي ضيعوه.(1/51)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ - أى كاصحاب صيب وهو فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر لنزوله وفيه مبالغة - فان الصوب فرط الانسكاب والصيغة للمبالغة والتنكير للتفخيم - وكلمة أو للتساوى في الشك ثم اتسع فيها فاطلق للتساوى من غير شك يعنى التشبيه بالقصتين سواء - فانت مخير في التشبيه بايتهما شئت - كما قيل أنت مخير في خصال الكفارة - وتعريف السماء للدلالة على ان الغمام مطبق بافاق السماء كلها فان كل أفق منها يسمى سماء وقيل معناه السحاب فان ما علاك سماء - واللام لتعريف الجنس لكن الظواهر دالة على ان المطر من السماء قال اللّه تعالى - وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً - وقال - مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ - واخرج ابن حبان عن الحسن - انه سئل عن المطر من السماء أم من السحاب قال من السماء انما السحاب علم - واخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال - المطر يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا - فيجتمع في موضع يقال له الأثرم فيجىء السحاب السود فيدخله فيشربه فيسوقه اللّه حيث شاء - واخرجا عن عكرمة قال ينزل المطر من السماء السابعة - فِيهِ أى الصيب أو السماء - والسماء يذكر ويؤنث قال اللّه تعالى - السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ - و- انْفَطَرَتْ - ظُلُماتٍ ظلمة تتابع القطر والسحاب والليل - وَرَعْدٌ وهو الصوت الذي يسمع منه - وَبَرْقٌ وهو النار التي تخرج منه وهما مصدران ولذلك لم يجمعا - قال على - وابن عباس واكثر المفسرين الرعد اسم ملك يسوق السحاب والبرق لمعان سوط من نار يزجر به الملك السحاب - وقيل الصوت زجر السحاب وقيل تسبيح الملك - قال مجاهد الرعد اسم الملك ويقال لصوته - وجعل المطر مكانا للرعد والبرق لانهما في منحدره - وارتفاعهما بالظرف - يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ الضمير راجع إلى اصحاب صيب فانه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 31(1/52)
منوى معنى - امال الكسائي آذانهم - وآذاننا - وطغيانهم حيث وقع - واطلق الأصابع موضع الأنامل مبالغة والجملة استيناف كأنَّه قيل كيف حالهم مع ذلك الشدة مِنَ أجل الصَّواعِقِ متعلق بيجعلون - والصعق شدة الصوت بحيث يموت من يسمعها أو يغشى عليه - ويطلق على الموت والغشي الحاصل بها - قال اللّه تعالى - فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ - والصواعق جمع صاعقة والتاء للمبالغة - أو مصدرية - ويقال لكل عذاب مهلك صاعقة - والمراد به هاهنا قصفة رعد هائل مع نار لا تمر بشىء الا أهلكته - أو المراد به الرعد حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له ليجعلون - وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به - ولا يخلصون من عذابه بالخداع - يميل أبو عمرو والكسائي في رواية الدوري فتحة الكاف من الكفرين إذا كان بعد الراء ياء حيث وقع وقرا ورش ذلك بين بين.(1/53)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استيناف كأنَّه قيل ما حالهم مع تلك الصواعق - وكاد لمقاربة الخبر من الوجود لعروض سببه لكنه لم يوجد لفقد شرط أو مانع فهى خبر محض بخلاف عسى فانه رجاء وإنشاء - والخطف الاستلاب بسرعة كُلَّما تدل على التكرار أَضاءَ لَهُمْ لازم بمعنى لمع - أو المفعول محذوف أى نور لهم ممشى مَشَوْا فِيهِ لحرصهم على المشي دون الوقوف ولذلك ذكر كلما مع الاضاءة دون الاظلام - وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وقفوا - واظلم أيضا جاء لازما ومتعديا - وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ان يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق - حذف لدلالة الجواب لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فان الرعد والبرق وان كانا في الظاهر سببين لذهاب السمع والبصر لكن تأثير الأسباب كلها في الحقيقة بمشية اللّه تعالى - فالسبب الحقيقي هو المشية والجواهر والاعراض وافعال العباد كلها مخلوقة للّه تعالى - مرتبطة بمشيته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) تصريح وتقرير لما سبق والشيء مصدر شاء يطلق بمعنى الفاعل أى الشاءى - ...
فيتناول الباري تعالى قال اللّه تعالى - قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ - وبمعنى المفعول أى الشيء وجوده وهو الممكن ومنه قوله تعالى - خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ - فهو على عمومه - وحمزه يسكت على الياء من شىء وشيئا في الوصل خاصة - والقدرة التمكن من إيجاد الشيء - والقادر هو الذي ان شاء فعل وان شاء لم يفعل « 1 » وفي القدير مبالغة - قلما يوصف به غير الباري تعالى -
_________
(1) الأول وان لم يشأ لم يفعل لان عدم الفعل ليس لاجل المشية بل عدم المشية كاف فيه - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 32(1/54)
تمثيل لحال المنافقين من الحيرة والشدة بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف وبرق خاطف وخوف من الصواعق - أو يقال شبّه المنافقين باصحاب الصيب - والدين القويم والقران بالصيب - وقال - فيه ظلمت - يعنى مانعة من السير عليه وهى المحن والمكاره من العبادات والجهاد وترك الشهوات روى مسلم واحمد والترمذي عن انس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات - وروى الترمذي وأبو داود - والنسائي عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال - لما خلق اللّه الجنة قال لجبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها والى ما أعد اللّه تعالى لاهلها فيها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لا يسمع بها أحد الا دخلها - ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لقد خشيت ان لا يدخلها أحد - قال فلما خلق اللّه النار قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها قال فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها - فحفها بالشهوات ثم قال يا جبرئيل اذهب فانظر إليها - فذهب فنظر إليها فقال أى رب وعزتك لقد خشيت ان لا يبقى أحد الا دخلها - وقال اللّه تعالى - إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وفيه رعد يعنى آيات مخوفة من عذاب اللّه وبرق يعنى فتوح ومغانم كثيرة يأخذونها فيسهل به السير على الطريق ويدفع ظلمة المكاره أو الحجج الواضحة الداعية إلى السلوك على الطريق المستقيم والمسهلة للمكاره - يجعلون أى المنافقون أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ من أجل الرعد والصّواعق قائلين - لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ - حذر الموت بالمحن والمشقات ان أمنوا - وبالقتال ان جاهدوا كما قال في حالهم - فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ(1/55)
الْمَوْتِ - أو لانهم يزعمون ان سدهم آذانهم عن سماع آيات العذاب ينجيهم من عذاب اللّه كما ان الأحمق إذا هوله الرعد ويخاف صواعقه يسد آذانه مع انه لا خلاص له منها بسد الاذان وكما ان الإرنب إذا راى صائدا مقبلا ولا يرى منه مفرا يغمض عينيه زعما منه ان عدم رؤيته ينجيه من قتله - وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ لا يفوتهم ما كتب عليهم من المحن والعذاب في الدنيا بالفضيحة وغيرها وفي الاخرة بالعذاب السرمدي - اولا يفيدهم ولا ينجيهم سد الاذان من الآيات المخوفة عن وقوع العذاب كما لا ينجى الأرنب تغميض العين من الصائد بل يعينه عليه - يكاد البرق - أى الفتوح والمغانم وشوكة الإسلام لاجل حرصهم على الدنيا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 33(1/56)
يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ أو الحجج الواضحة يخطف أبصارهم المؤفة وآرائهم الزائغة التي بها يبصرون الباطل حقا والحق باطلا - على ما زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ - فحينئذ يرون الحق حقا والباطل باطلا فيؤمنوا كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ البرق وظهر الفتح والدولة للمسلمين وراوا حجة الإسلام واضحة مشوا فيه واتبعوا سبيل المؤمنين - وإذا اظلم البرق أى لم يظهر الفتح وأدركوا المحنة نسوا الحجة الواضحة وقاموا ووقفوا عن سلوك والطريق - نظيره قوله تعالى - وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ - وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ المؤفة بقصيف الرعد وأعطاهم السمع والابصار الصحيحة - نظيره قوله تعالى - وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ - أخرج ابن جرير من طريق السّدى الكبير عن أبى مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود - وناس من الصحابة - قال كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المشركين فاصابهما هذا المطر الذي ذكر اللّه فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابهما الصواعق جعلا أصابعهما في آذانهما من الفرق ان ندخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما - وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه - وإذا لم يلمع لم يبصرا - فاتيا مكانهما يمشيان فجعلا يقولان ليتنا قد أصبحنا فتأتى محمدا صلى اللّه عليه وسلم فنضع أيدينا في يده فاتياه فاسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما - فضرب اللّه شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة - وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى اللّه عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبي(1/57)
صلى اللّه عليه وسلم ان ينزل فيهم أو يذكروا بشىء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان « 1 » الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما - وإذا أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكانوا إذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة أو فتحا مشوا فيه وقالوا ان دين محمد صلى اللّه عليه وسلم حينئذ صدق واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهما البرق وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد صلى اللّه عليه وسلم وارتدوا كفارا - كما قام ذانك المنافقان حين اظلم عليهما البرق - انتهى رواية ابن جرير - قلت ويحتمل ان يكون الظلمات عبارة عن المتشابهات التي لا سبيل للاراء إلى دركها - والبرق عن المحكمات التي تساعده الآراء - فالمؤمنون من أهل السنة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا - والَّذِينَ
_________
(1) فى الأصل ذانك المنافقين الخارجين يجعلان 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 34(1/58)
فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ سدوا آذانهم عن وعيد حرمة ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ حذر الموت - وهو القول بما لا يساعده آراؤهم ولا يوافق مذهبهم حيث يزعمونه موتا وجعلوا القرآن تابعا لارائهم الكاسدة - فكلّما أضاء لهم وأدرك عقولهم مشوا فيه وأمنوا به وإذا اظلم عليهم ولم تساعده عقولهم قاموا عن الايمان به ووقفوا لديه وابتغوا تأويله على حسب آرائهم الكاسدة - فمنهم من لم يدرك عقله موجودا لا يكون جسما ولا يكون كمثله شىء أنكر التنزيه وصار مجسما - ومنهم من أنكر الروية - ومنهم من أنكر عذاب القبر ووزن الأعمال والصراط ونحو ذلك - ومنهم من أنكر كون القرآن كلام اللّه غير مخلوق فصاروا اثنتين وسبعين فرقة - روافض - وخوارج - واهل الاعتزال والمجسمة ونحو ذلك قائلين نومن ببعض الكتاب ونكفر ببعض - وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ حيث جعلوا كتاب اللّه تعالى تابعا لارائهم وعلى هذا التقدير قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ شامل لاثنين و « 1 » سبعين فرقة من أهل الأهواء الذين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ يدّعون الايمان ويقولون آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ بجميع ما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم وانزل اللّه تعالى فى كتابه وتواتر به الاخبار - يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا - بتأويلاتهم النصوص - وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ بل يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وزيغ - فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وزيغا حيث القى الشيطان في قلوبهم التأويلات الفاسدة - وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ على اللّه ويكذّبون ظاهر النصوص - وَ(1/59)
إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتحريف الكلم عن مواضعه وتعويج الدين القويم قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ يعنى اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم واهل بيته وجمهور الناس وهم أهل السنة والجماعة فانهم اكثر الناس وللاكثر حكم الكل ويد اللّه على الجماعة رواه الترمذي عن ابن عباس
_________
(1) مجرد هذا القول وان كان شاملا لكن بعض المعطوفات عليه مثل قوله وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الآية مختص بمن يجوز التقية في مذهبه من أهل الأهواء دون من يجاهر بها - فلا يصح الشمول لجميع الفرق - قلت عدم شمول بعض المعطوفات لجميع الفرق لا ينافى نزول الآيات في جميع أهل الأهواء كما ان قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ شامل للرجعيات والبائنات وقوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ مختص بالرجعيات - وأيضا المختص ببعض الفرق انما هو وجوب التقية واما جواز التقية عند استيلاء المخالفين وخوف القتل فغير مختص حتى انه جاز عند أهل السنة أيضا التقية عند استيلاء الكفار وخوف القتل حيث قال اللّه تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وقال اللّه تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ - ولا شك ان اللّه سبحانه لكن أهل الحق أهل السنة والجماعة في البلاد وجعل أهل الأهواء مغلوبين مقهورين غالبا خائفين على أنفسهم وأموالهم فكلهم يقولون بحضور أهل السنة خوفا منهم على حسب عقائدهم - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 35(1/60)
مرفوعا - قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ فانه لا يساعد عقائدهم الآراء قالوا ذلك في شأن الصحابة صريحا كالروافض والخوارج ينسبون اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم واهل بيته إلى السفه والكفر أو قالوا ذلك دلالة حيث خالفوهم وزعموا ان تلك العقائد غير معقولة - وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا الآية بيان لما في تلك المذاهب من التقية خوفا من الذين استخلفهم اللّه تعالى في الأرض غالبا - ومكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم على حسب وعده - وقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً يحتمل ان يكون مثلا للفريقين من المنافقين واهل الأهواء وايمان أهل الأهواء ولمعان نوره مقتصر على ما حول المستوقد وقربه يعنى فى الدنيا حيث يلتبس الحق بالباطل فإذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم - ويحتمل ان يكون مثلا للمنافقين خاصة واصحاب الصيب مثل أهل الأهواء وكلمة أو للتوزيع كما في قوله تعالى أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ - واللّه تعالى أعلم فان قيل كيف يتصور حمل هذا المثل على أهل الأهواء ولم يكونوا في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قلت خطابات القرآن عامة للموجودين ومن سيوجد اجماعا - أ ليس قوله تعالى فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ في حق أهل الأهواء - فان قيل نزول هذه الآيات كان في حق المنافقين كما تدل عليه الأحاديث وتفاسير السلف - قلت نعم لكن خصوص المورد لا يقتضى تخصيص عموم اللفظ - فالايات وان كانت نازلة في حق المنافقين لكنها بعموم ألفاظها شاملة لاهل الأهواء واللّه تعالى أعلم - .(1/61)
يا أَيُّهَا النَّاسُ - خطاب لجميع الناس من أهل الخطاب عموما الموجودين ومن سيوجد تنزيلا لهم منزلة الموجودين لما تواتر من دينه صلى اللّه عليه وسلم ان مقتضى أحكامه وخطابه شامل للقبيلتين تابت إلى يوم القيمة وكذا كل جمع أو اسم جمع محلى باللام ويدل عليه استدلال الصحابة بعمومها شائعا قال ابن عباس - يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب أهل مكة ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب أهل المدينة فان أهل مكة لمّا كان أكثرهم كفارا والمؤمنون كانوا هناك قليلا خاطب بما يعم القبيلتين - واهل المدينة لما كان أكثرهم مؤمنون خاطبهم بعنوان الايمان إظهارا لشرفهم اعْبُدُوا رَبَّكُمُ فان التربية باعثة للعبادة وشكر المنعم وان كان اللّه تعالى في نفسه مستحقا لها - والخطاب بوجوب العبادة شامل للمؤمنين والكفار - فالكفار مأمورون بها بعد إتيان شرطه من الايمان - وقال ابن عباس - ما ورد في القرآن من العبادة فمعناه التوحيد فالكفار مأمورون بإتيانها والمؤمنون
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 36(1/62)
بالثبات عليها - الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة جرت للتعظيم والتعليل - والخلق إيجاد الشيء على غير مثال سبق - وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يتناول كل ما تقدم الإنسان - والجملة خرجت مخرج المقرر عندهم لاعترافهم به قال اللّه تعالى - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ - أو لتمكنهم من العلم بأدنى تأمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) حال من فاعل اعبدوا أى راجين الوقاية من عذاب اللّه - وحكم اللّه من ورائكم يفعل ما يشاء فان الايمان يقتضى الخوف والرجاء أو راجين ان تدخلوا في زمرة المتقين على ان التقوى هو التنزه عن المحرمات المستلزم لاتيان الواجبات بل التبرؤ عن كل شىء سوى اللّه تعالى - أو من مفعول خلقكم يعنى مرجوا منكم التقوى أى في سورة من يرجى منه نظرا إلى كثرة الدواعي إليه - وقيل تعليل أى لكى تتقوا - قال البيضاوي وهو ضعيف لم يثبت في اللغة - قال سيبويه - لعلّ وعسى حرفا ترج - وهى من اللّه تعالى واجب - قلت ان كان كذلك لزم وجود التقوى من الناس « 1 » كلهم وليس كذلك اللهم الا ان يقال المراد خلقكم واجبا صدور التقوى منكم ولو من بعضكم - وتعليل العبادة بالنعم السابقة تدل على ان الثواب فضل من اللّه تعالى غير مستحق بالعبادة فانه كالاجير استوفى اجره قبل عمله وعلى ان الطريق إلى معرفته تعالى النظر فى صنعه يعنى إلى معرفة صفاته - واما معرفة ذاته فامر وهبى - .(1/63)
الَّذِي جَعَلَ أى صيّر لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أى بساطا ذلولا يمكن عليها القرار صفة ثانية أو مدح منصوب أو مرفوع أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا - وَالسَّماءَ اسم جنس يقع على الواحد والكثير - بِناءً مصدر سمى به المبنى يعنى قبّة مضروبة عليكم - وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فان المطر ينزل من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض عطف على جعل - فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ خروج الثمار بقدرة اللّه تعالى لكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ظاهرا عادة - ومن للتبعيض أو التبيين - ورزقا مفعول بمعنى المرزوق ولكم صفة له - أو رزقا مصدر للتعليل ولكم مفعوله أى رزقا إياكم - فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أى أمثالا تعبدونهم كعبادة اللّه - أو أضدادا واللّه برىء من المثل والضد - والجملة متعلق باعبدوا - نهى معطوف عليه أو نفى منصوب بإضمار أن جواب له - أو منصوب بلعل كما في قوله تعالى -
_________
(1) لا يخفى ان مدلول لعل على تقدير كونه للوجوب لزوم وجود التقوى من كلهم فلا محذور فيه لامران فليفهم قلت العبادة عبارة عن إتيان امور تدل على الخضوع من الواجبات والمندوبات والتقوى عبارة عن الاجتناب عما نهى اللّه وكلا الامرين متفاوتان كما يدل عليه ترتيب التقوى على العبادة ولا لزوم بينهما فان من الناس من يأتى بالعبادات ويفرط فيها حتى يبلغ الزهد ولا ينتهى انتهاء كليا عما نهى عنه قال اللّه تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها - فلزوم وجود التقوى من العابدين كلهم أيضا ممنوع الا ترى إلى بعض الزهاد من الجهال يعملون الرياضات الشاقة والعبادات ويتركون الجمع والجماعات - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 37(1/64)
لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ - والمعنى ان تتقوا ان لا تجعلوا للّه أندادا - أو متعلق بالذي جعل ان كان استينافا على انه نهى وقع خبرا على تأويل مقول فيه لا تجعلوا والفاء للسببية ادخلت لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى من جعلكم بهذه النعم ينبغى ان لا يشرك - وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) حال من ضمير تجعلوا - ومفعول تعلمون مطرح - أى حالكم انكم من أهل العلم والرأى لو تأملتم ادنى تأمل ما أشركتم - والمقصود منه التوبيخ دون التقييد أو المفعول محذوف أى وأنتم تعلمون أى ان خالق هذه الأشياء واحد حيث تعترفون قال اللّه تعالى - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ - ثم لما بين اللّه سبحانه طريق معرفته التوحيد وهو النظر في صنعه - بين طريق معرفة رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم وحقيّة القرآن المشتمل على جميع الايمائيات فقال.(1/65)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ شك مِمَّا نَزَّلْنا يعنى نجما نجما بحسب الوقائع - وهذا موجب لريبهم قياسا على كلام الشعراء وقولهم لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً - فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه - ازاحة للشبهة وإلزاما للحجة عَلى عَبْدِنا - محمد صلى اللّه عليه وسلم أضاف إلى نفسه تنويها لذكره - وتنبيها على انقياده لحكمه - فَأْتُوا امر تعجيز بِسُورَةٍ وهى قطعة من القرآن معلومة الأول والاخر منقولة من سور المدنية لانها محيطة بطائفة من القرآن - أو من السورة بمعنى الرتبة فانه يحصل بها للقارى رتبة وشرف - والمراد بقدر سورة وهى ثلث آيات قصار - مِنْ مِثْلِهِ صفة سورة أى كائنة من مثله - والضمير لما نزل ومن للتبعيض أو للتبيين أو زائدة - أى مثله في البلاغة وحسن النظم - أو لعبدنا ومن للابتداء أى كائنة من مثل هذا الرجل الأمي - أو صلة فاتوا والاول اولى كيلا يوهم إمكان صدوره من غير الأمي والقران معجز في نفسه - لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً - وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها وتزعمون انها تشهد لكم يوم القيامة أو ادعوا ناسا يحضرونكم - مِنْ دُونِ اللَّهِ أى دون أوليائه يعنى فصحاء العرب ليشهدوا لكم ما أتيتم به مثله فان العاقل لا يرضى لنفسه ان يشهد بصحة ما اتضح فساده - إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) انه من كلام البشر والجواب محذوف دل عليه ما قبله.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فيما مضى وَلَنْ تَفْعَلُوا معترضة بين الشرط والجزاء - وفيه اخبار بالغيب اعجاز اخر فَاتَّقُوا أى لما ظهر انه معجز فامنوا به واتقوا بالايمان النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا أى ما يوقد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 38(1/66)
به النار النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أو المضاف محذوف أى وقودها احتراق الناس والحجارة أخرج عبد الرزاق - وسعيد بن منصور - وابن جرير - وابن المنذر - والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن مسعود وابن جرير عن ابن عباس واخرج مثله ابن أبى حاتم عن مجاهد وابى جعفر ولم يحك خلافا في الصدر الأول - انها حجارة الكبريت الأسود - وقيل جميع الحجارة لتدل على عظم تلك النار - وقيل أراد به الأصنام - وذكر اللّه تعالى ان وهى للشك مكان إذا - فانه تعالى لم يكن شاكا تهكما بهم أو خطابا معهم على حسب ظنهم فان العجز قبل التأمل لم يكن متحققا عندهم أُعِدَّتْ أى هيئت لِلْكافِرِينَ (24) استيناف أو حال بإضمار قد من النار لا من ضمير وقودها للفصل بالخبر - عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال - ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم - متفق عليه وعن النعمان بن بشير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشرا كان من نار يغلى منهما دماغه كما يغلى المرجل ما يرى ان أحدا أشد منه عذابا وانه لاهونهم عذابا - متفق عليه - وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أوقد على النار الف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها الف سنة حعى ابيضت - ثم أوقد عليها الف سنة حتى اسودت فهى سوداء مظلمة - رواه الترمذي - وعن النعمان بن بشير قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول - أنذرتكم النار أنذرتكم النار - فما زال بقولها حتى لو كان في مقامى هذا سمعه أهل السوق وحتى سقطت خميصة كانت عليه عند رجليه - رواه للدارمى وفي الآية والأحاديث دليل على ان النار موجودة الان - .(1/67)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على الجملة السابقة على ما جرت به العادة الالهية من تشفيع الترهيب بالترغيب وبالعكس لا عطف الفعل نفسه حتى يطلب المشاكلة أو على فاتّقوا يعنى فامنوا فاتقوا النار واستبشروا بالجنة ولم يخاطبهم بالبشارة صريحا تفخيما لشأنهم بعد الايمان والتقوى وإيذانا بانهم احقّاء ان يبشروا ويهنئوا - والبشارة الخير السّارّ - واما قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ - فعلى التهكم وقيل يستعمل في الخير والشر لكن في الخير اغلب وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهى من الصفات الغالبة الجارية مجرى الأسماء والأعمال الصالحة ما حسّنه الشرع - وتأنيث الصالحات على تأويل الخصلة - قال البغوي قال معاذ رض - العمل الصالح الذي فيه اربعة أشياء العلم والنية والصبر والإخلاص - وقال عثمان بن عفان وعملوا الصّلحت أى أخلصوا الأعمال عن الرياء - وفيه دليل على ان الأعمال خارج عن الإيمان - واشعار
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 39(1/68)
بان السبب التام في استحقاق البشارة الجمع بين الوصفين أَنَّ لَهُمْ منصوب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه أو مجرور بإضماره جَنَّاتٍ جمع جنة بمعنى البستان سميت لاجتنانها بالأشجار - تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أى تحت أشجارها ومساكنها الْأَنْهارُ أى ماؤها على الإضمار - أو المجاز أو أسند الجري إليها مجازا - وفي الحديث انهار الجنة تجرى من غير أخدود - أخرجه ابن المبارك - وابن جرير والبيهقي - واللام للجنس كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا صفة ثانية لجنات أو خبر مبتدأ محذوف أى فهم قالوا أو جملة مستانفة تزيح حال أثمارها - وكلّما منصوب على انه ظرف لقالوا ورزقا مفعول به - ومن الاولى والثانية للابتداء أو الثانية للبيان وقعتا موقع الحال أى كل حين رزقوا أى أطعموا مرزوقا مبتدأ من الجنة مبتدأ من ثمرة أو ذلك المرزوق ثمرة فصاحب الحال الاولى رزقا وصاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال - وهذا اشارة إلى نوع ما رزقوا المستمر بتعاقب افراده - أو كان المضاف في الخبر محذوفا أى هذا مثل الذي رزقنا فحذف المثل اشعارا على استحكام الشبه كأنَّه هو بعينه مِنْ قَبْلُ أى من قبل هذا يعنى في الدنيا جعلت متشابهة بثمار الدنيا كيلا يتنفر الطباع عن غير المألوف - ويظهر المزية - وقيل الثمار في الجنة متشابهة في اللون مختلفة في الطعم والداعي لهم على تكرار هذا القول كلما رزقوا فرط تبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللذة والتشابه البليغ في الصورة - وَأُتُوا بِهِ بالرزق مُتَشابِهاً وعلى الأول الضمير راجع إلى ما رزقوا في الدارين - والجملة اعتراض يقرر ما سبق - قال ابن عباس ومجاهد متشابها في الألوان مختلفا في الطعوم - وقال الحسن وقتادة متشابها يشبه بعضها بعضا في الجودة يعنى ثمار الجنة كلها خيار لا رذالة فيها - روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه(1/69)
و سلم - أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون ولا يبزقون يلهمون الحمد والتسبيح كما يلهمون النفس طعامهم جشاء ورشحهم المسك - رواه مسلم - وللاية محمل اخر ان يكون المعنى هذا ثواب الذي رزقنا من قبل في الدنيا من المعارف والأعمال نظيرة في الوعيد ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - روى الترمذي عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان الجنة طيبة التربة عذبة الماء وانها قيعان وان غراسها هذه يعنى التسبيح والتحميد والتكبير - قوله تعالى وأتوا به بالرزق متشابها أى مماثلا لمعارفهم وطاعاتهم في الشرف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 40
و المزية متفاوتا على حسب تفاوت أعمالهم - روى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مائة عام - وعن عبادة بن الصامت نحوه وفيه ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض - ذكره صاحب المصابيح في الصحاح ورواه الترمذي وَلَهُمْ فِيها أى في الجنان أَزْواجٌ نساء من حور العين وقال الحسن - هن عجائزكم الغمص العمش طهرن من قذرات الدنيا - مُطَهَّرَةٌ من الغائط والبول والحيض والبصاق والمخاط والمنى وكل قذر ومن مساوى الأخلاق فان التطهير يستعمل في الأجسام والافعال والأخلاق - والمطهرة ابلغ من طاهرة ومتطهرة للاشعار بان اللّه طهرهن - والزوج يقال للذكر والأنثى وفي الأصل يقال لماله قرين من جنسه كزوج الخف - وَهُمْ فِيها فى الجنان خالِدُونَ (25) دائمون لا يموتون فيها ولا يخرجون منها - لما(1/70)
ذكر اللّه سبحانه نعماء الجنة أزال عنهم خوف الزوال فانه منغض للنعمة روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ان أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد كوكب درّى في السماء اضاءة لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يتفلون ... ولا يمتخطون امشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الالوة وأزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء - متفق عليه وعن أبى سعيد رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أول زمرة تدخل الجنة يوم القيمة صورة وجوهم صورة القمر ليلة البدر والزمرة الثانية على لون احسن الكواكب فى السماء لكل رجل منهم زوجتان على كل زوجة سبعون حلة ... يرى مخ سوقهن دون لحومها ودمائها وحللها - رواه الترمذي وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ان امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على الأرض لاضاءت ما بينهما - ولملئت ما بينهما ريحا - ولنصيفها على راسها خير من الدنيا وما فيها - رواه البخاري - وعن اسامة بن زيد يقول قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الأهل من مشمر للجنة وان الجنة لا خطر لها هى ورب الكعبة نور يتلالا وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد .. وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام ابد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وصبرة ونعمة في محلة عالية بهيئة - قالوا نعم يا رسول اللّه نحن المشمرون لها قال قولوا ان شاء اللّه رواه البغوي - وروى عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل الجنة جرد - مرد كحلى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 41(1/71)
لا يفنى شبابهم ولا يبلى ثيابهم - وروى مسلم نحوه - وعن على رضى اللّه عنه قال ان في الجنة لسوقا ليس فيها بيع ولا شرى الا الصور من الرجال والنساء وإذا اشتهى الرجل صورة دخلها وان فيها لمجتمع حور العين ينادين بصوت لم يسمع الخلائق بمثلها نحن الخالدات فلا نبيد ابدا - ونحن الناعمات فلا نبوس ابدا ونحن الراضيات فلا نسخط فطوبى لمن كان لنا وكناله أو نحن له - رواه البغوي - وروى الترمذي نحوه عنه مرفوعا وروى احمد بن منيع عن أبى معاوية نحوه مرفوعا - وروى مسلم عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثوا في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا فنقول لهم أهلوهم واللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا فيقولون وأنتم واللّه لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا - قلت ولما كان مطمح نظر أهل الدنيا في النعماء منحصرا على المساكن والمطاعم والمناكح اقتصر اللّه تعالى ونبيه صلى اللّه عليه وسلم غالبا في الذكر عليها وفي الحقيقة نعماء أهل الجنة أجل وأعلى - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى اعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - واقرؤا ان شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ - متفق عليه وعنه مرفوعا - موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها - متفق عليه وعن أبى سعيد مرفوعا - يقول اللّه أحل عليكم رضوانى فلا أسخط بعده ابدا - متفق عليه - وروى مسلم في حديث طويل عن جابر بن عبد اللّه مرفوعا فيرفع الحجاب فينظرون إلى وجه اللّه فما اعطو شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ - وعن ابن عمر - قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادنى اهل(1/72)
الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة الف سنة وأكرمهم على اللّه من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية ثم قرأ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ - رواه احمد والترمذي - أخرج ابن جرير عن السدى الكبير بأسانيده انه لما ضرب اللّه تعالى هذين المثلين للمنافقين قوله مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً وقوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ - قال المنافقون اللّه أعلى وأجل من ان ان يضرب هذه الأمثال فانزل
اللّه سبحانه.
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً وقيل ان اللّه تعالى ذكر الهة المشركين فقال وإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً وذكر كيدهم فجعله كبيت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 42(1/73)
العنكبوت فقالوا ارايت اللّه ذكر الذباب والعنكبوت أخرجه الواحدي من طريق عبد الغنى عن ابن عباس وعبد الغنى واه جدّا - والآية مدنية ومعارضة المشركين كانت بمكة - فالاول أصح اسنادا ومعنى - والحياء انقباض النفس من القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة وهو الجراة وعدم المبالاة بالقبائح والخجل وهو انحصار النفس عن الفعل مطلقا - وإذا وصف به الباري تعالى كما جاء في الحديث - ان اللّه يستحيى من ذى الشيبة المسلم ان يعذبه - أخرجه البيهقي في الزهد عن انس - وابن أبى الدنيا عن سلمان - وحديث ان اللّه حيى كريم إذا رفع إليه العبد يديه ان يردهما صفرا - رواه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن سلمان فالمراد به الترك اللازم للانقباض - وإيراد لفظ الحياء هاهنا مع انه ترك مخصوص بالقبيح - وضرب المثل ليس بقبيح مبنى على المقابلة لما وقع في كلام الكفرة واستقر في أذهانهم نحو جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها - وضرب المثل احتمال وأصله وقع شىء على اخر - وان بصلتها مجرور عند الخليل بإضمار من - ومنصوب عند سيبويه بافضاء الفعل إليه بعد حذفها - وما ابهامية يزيد للنكرة إبهاما ويسد عنها طريق التقييد - أو مزيدة وضعت لان يذكر مع غيرها فتزيد له قوة - والبعوض فعول من البعض بمعنى القطع غلب على صغار البق كانها بعض البق والتاء للوحدة - وهو عطف بيان لمثلا - أو مفعول ليضرب - ومثلا حال أو هما مفعولاه لتضمنه معنى الجعل - فَما فَوْقَها عطف على بعوضة - ومعناه ما زاد عليها في الجثة كالذباب والعنكبوت يعنى لا يستحيى عن ضرب المثل بالبعوض فضلا عما هو اكبر منه - أو ما فوقها في الحقارة يعنى ما دونها في الجثة فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أى المثل أو ان يضرب هو الْحَقُّ الثابت على ما ينبغى الذي لا يجوز إنكاره يقال ثوب محقق أى محكم نسجه فان الشيء الحقير لا بد ان يمثل بالحقير - كالعظيم بالعظيم وان(1/74)
كان الممثل أعظم من كل عظيم كائنا مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فلا يعلمون ذلك لكمال جهلهم فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا ما استفهامية مبتدأ وذا بمعنى الذي مع صلته خبره - أو المجموع اسم واحد بمعنى أى شىء منصوب المحل على المفعولية - والارادة صفة ترجح أحد المقدورين على الاخر وفي هذا استحقار ومثلا منصوب على التميز أو الحال يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جواب ما ذا أى إضلال كثير وإهداء كثير - وكثرة كل فريق بالنظر إلى أنفسهم ووضع الفعل موضع المصدر للاشعار بالحدوث والتجدد يعنى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 43
كلما نزلت اية فامنت به قوم فاهتدوا وكفرت به قوم فضلوا - وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (26) الخارجين عن حد الايمان وعن امر اللّه تعالى يقال فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها والفسق في اصطلاح الشرع ارتكاب الكبيرة وله درجات ثلث أعلاها الكفر بما يجب الايمان به فان الكفر أعظم الكبائر وهو المراد بالفسق في القرآن غالبا - ثانيها انهماك الكبائر - ثالثها ارتكاب الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة مستقبحا إياها.(1/75)
الَّذِينَ صفة للفاسقين للذم وتقرير الفسق - أو للتقييد ان كان المراد بالفاسقين أعم من الكفار والعصاة يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ الذي عهد إليهم في التورية ان يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويبينوا نعته ولا يكتمونه أو الذي عهد إليهم بقوله - أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى - والنقض في الأصل فسخ تركيب الحبل يستعمل في ابطال العهد لان العهد يستعار له الحبل لما فيه ارتباط المتعاهدين - مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ - أى العهد - والميثاق مصدر بمعنى الوثوق - أو اسم لما وثق به العهد من الآيات والكتب ومن للابتداء فان ابتداء النقض بعد الميثاق وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ - ان يوصل بدل من الضمير المجرور أى امر اللّه بان يوصل الايمان بالأنبياء كلهم ويقال لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ - وهم يقطعونه ويقولون نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض - أو يقطعون كل ما امر اللّه به ان يوصل كالارحام وغيرها وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمعاصي والكفر بالقران وبمحمد صلى اللّه عليه وسلم ويهلكون الحرث والنسل أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) المغبونون حيث اشتروا الفساد بالصلاح - ولما ذكر أوصاف الكفار ومقالاتهم الخبيثة خاطبهم على سبيل الالتفات باستفهام إنكاري عن الحالة التي يقع عليها الكفر لان كل حالة معتورة عليهم من الأحوال الموت والحيوة بعدها - والموت بعدها - والحيوة بعدها والرجوع إلى اللّه تعالى وغيرها من الأحوال حادثة صادرة من الواجب الوجود مقتضية للايمان به تعالى نعمة من اللّه مقتضية لشكره دون كفرانه ففيه انكار وتوبيخ على كفرهم بأبلغ الوجوه فقال.(1/76)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ مع فيام الدلائل على وجوده وَكُنْتُمْ أَمْواتاً - عناصر واغذية واخلاطا ونطفا وعلقات ومضغات وأجساد « 1 » ابلا روح - وفيه دليل على ان الإنسان وان كان مركبا من الاجزاء العشرة - خمسة منها من عالم الخلق - العناصر الاربعة والنفس الحيواني
_________
(1) فى الأصل أجساد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 44
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 44
المنبعثة عنها وخمسة من عالم الأمر - القلب والروح والسر والخفي والأخفى كما يظهر بالفراسة « 1 » الصحيحة الاسلامية لكن العمدة فيها العناصر الاربعة لا سيما عنصر التراب ولذا قال اللّه تعالى - خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ - ويقول الكافر أى الشيطان ا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً(1/77)
- ولذا اختص الإنسان بروية اللّه سبحانه دون غيره - ويزعمون المشاهدة القلبية كالمطروح في الطريق - فَأَحْياكُمْ بتأليف الأرواح الخمسة وتوديعها فيكم وعطف بالفاء لعدم التراخي بين الاحياء والموت اللازم للعناصر - ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد انقضاء اجالكم - وعد الاماتة الاولى من النعم لان الوجود بعد العدم خير محض فلمناسبة بالموجود الحقيقي - والاماتة الثانية لكونها وصلة إلى الحيوة الابدية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يوم ينفخ في الصور واما في القبر فليس بحياة فان الحيوة عبارة عن تأليف الاجزاء العشرة وليست في القبور - وانتفاؤها لا ينافى الثواب والعذاب في القبر فانهما على بسائط الاجزاء ولا سبيل إلى إنكاره لمن يؤمن بقوله تعالى - وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ - وقوله تعالى - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ - وقوله صلى اللّه عليه وسلم - ان الجبل ينادى الجبل باسمه أى فلانا هل مربك أحد ذكر اللّه فإذا قال نعم استبشر الحديث - رواه الطبراني عن ابن مسعود - وقوله تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها - وليس المراد التسبيح والسجود بدلالة الحال لان قوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ - و
_________
((1/78)
1) الفراسة الصحيحة الاسلامية انما يدل على ان هنالك شيئا غير الجسد يسمى بالقلب تارة وبالروح اخرى وبالسر مرة وبالخفي اخرى فهى جهات واعتبارات للنفس لا انها حقائق - مجازة بجبالها واجزاء اولية من الإنسان بل الآيات والأحاديث والآثار كلها ناطقة بانحصار الإنسان في جزئين جسم وروح وان تركب الجسم من اجزاء اخر ثانوية والروح اعتبر باعتبارات فافهم - لا يخفى ان الثواب والعقاب في القبر انما هو للمكلف المطيع أو العاصي وبسائط الاجزاء ليست بمكلفات ولو جاز الجزاء للاجزاء المكلف من دون التأليف لجاز يوم القيامة أيضا فلا يحتاج إلى الحشر وغاية ما يثبت من الآيات والأحاديث ان لبسائط الاجزاء شعورا أو حياة بمعنى الإدراك لا ان لها تكليفا وجزاء وثوابا وعقابا بل يستفاد منها انها غير مكلفة ولا ينال منها العصيان فلابد من تتميم مد الكلام ليصح - قلت دلالة الآيات والأحاديث على انحصار الإنسان في الجزئين ممنوع بل قوله تعالى قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تدل على ان الروح امر مجرد ليس من قبيل الأجسام ولا يحيط به علم العوام وحديث براء بن عازب وابى هريرة وغيرهما مرفوعا إذا حضر المؤمن أنت ملائكة الرحمة بحرير بيضاء وأكفان الجنة فيقولون أيتها النفس الطيبة اخرجى إلى مغفرة اللّه ورضوانه فتخرج تسيل كما تسيل الماء من السقاء فيجعلونها في ذلك الكفن - وإذا حضر الكافر يقول أيتها النفس الخبيثة اخرجى إلى منحط اللّه وغضبه فيجعلونها في المسوح يدل على ان النفس امر جسمانى حتى يجعل في الحرير أو المسوح ومن هذا قال المحققون ان النفس جسم لطيف منبعث من العناصر الاربعة سار في سائر البدن فالروح يتعلق ويمتلى في النفس كما تمتلى الشمس في المراءة ويتصرف في البدن بتوسط النفس لاجل سريانها فيه وعند الموت ينزع النفس من البدن فحينئذ ينقطع تعلق الروح بالبدن ولا يزال(1/79)
تعلق الروح بالنفس ابدا وهى أى النفس تعذب في القبر ويتالم به الروح وهى المشار إليه بانا وهى المكلف بالتكليفات الشرعية لكن يشترط سريانها في البدن هذا واما تعدد لطائف عالم الأمر فالشرع عنه ساكت ويثبت ذلك بكشف الأولياء وكلامهم فيه مختلف منهم من لم بظهر عليه منها الا واحد فزعم انه شىء واحد يسمى تارة بالقلب وتارة بالروح ونحو ذلك كما قال المعترض ومنهم من ظهر عليه منها اثنان أو ثلثة أو اربعة وظهر على المجدد رض خمسة لكل منها كالات على حدة فمن شاء زيادة الوقوف فليطالع كلام المجدد رض والمعتبر انما هو شهادة الإثبات والاختلاف مبنى على حدة البصيرة ورفعة الدرجة وفوق كل ذى علم عليم - منه نور اللّه مرقده -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 45
قوله تعالى وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ - يأبى عنه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) بعد الحشر فيجزيكم بأعمالكم - قرأ يعقوب ترجعون في كل القرآن بفتح التاء والياء على صيغة المبنى للفاعل - والآية مدنية خطاب بالكفار والمنافقين من اليهود العالمين بالبعث والنشور - وان كان خطابا لمنكرى البعث فذلك لتمكنهم من العلم بالبعث بعد نصب الدلائل على صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم وللتنبيه على ان من أحياهم اولا قادر على ان يحييهم ثانيا.(1/80)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أى لانتفاعكم في الدنيا في مصالحكم بوسط أو بغير وسط وفي دينكم بالاستدلال والاعتبار ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بيان للنعمة الاخرى مرتبة على الاولى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قال ابن عباس واكثر المفسرين من السلف أى ارتفع إلى السماء - فهو من المتشابهات نحو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى - وقال ابن كيسان والفراء وجماعة النحويين أى اقبل على خلق السماء وقصد من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير ان يلوى على شىء - قال البيضاوي كلمة ثم لعله لتفاوت ما بين الخلقتين وفضل خلق السماء على خلق الأرض كقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا - لا للتراخى في الوقت فانه يخالف ظاهر قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها - فانه تدل على تأخر دحوى الأرض المتقدم على خلق ما فيها من خلق السماء وتسويتها وذكر البغوي في تفسير قوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها - انه قال ابن عباس خلق اللّه الأرض بأقواتها من غير ان يدحوها قبل السماء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ثم دحى الأرض بعد ذلك - وقيل معناه والأرض مع ذلك دحيها كقوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ أى مع ذلك - وذكر البغوي في حم السجدة - خلق الأرض في يومين يوم الأحد والاثنين وقدر فيها أقواتها في يومين يوم الثلثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين اربعة ايام فقال وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ...(1/81)
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ يوم الخميس والجمعة - وهذا هو المستفاد من اقوال السلف واللّه تعالى أعلم - فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أى خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدوع - وهن ضمير السماء ان فسرت بالاجرام لأنه جمع أو في معنى الجمع وسبع سموت بدل منه - والا فمبهم تفسيره ما بعده كقولهم ربّه رجلا - فان قيل أ ليس اصحاب الارصاد اثبتوا تسعة أفلاك كلية منها الفلك الا طلس فلك الافلاك وفلك الثوابت الفلك التاسع « 1 » لا جزء لهما - واثبتوا للافلاك السبعة اجزاء منها ما هو مركب من ثلثة أفلاك خارج المركز وفيه الكوكب ومثمما حاويا ومتمما محويا ومنها ما هو مركب من خمسة خارج المركز ومتممين حاويين وكذا محويين وأفلاك اخر
_________
(1) الصحيح الثامن لعله تحريف من الناسخ 12 [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 46(1/82)
غير مجوفة ارتكزت فيها الكواكب المتحيرة يسمونها - فلك التدوير - قلت انما اثبتوا عدد الافلاك بعدد حركات الكواكب - فانهم لما راوا جميع الكواكب والشمس دائرة في يوم وليلة اثبتوا فلك الافلاك حاوية على جميع الافلاك محركة لكلها بالقسر من المشرق إلى المغرب - ولما راوا حركة جميع الكواكب سوى السبعة على نسق واحد وحركات السبعة على أنحاء مختلفة في السرعة والبطء وفي العرض من البروج الشمالية إلى الجنوبية وبالعكس اثبتوا على حسب حركاتها اعداد الافلاك - ولما راوا حركة السيارات غير الشمس تارة سريعة وتارة بطية وتارة إلى المشرق وتارة إلى المغرب وتارة متوقفة « 1 » ولذا يسمونها متحيرة أثبتوا التدويرات - فارتقى عدد الافلاك إلى قريب من ثلثين - من أراد الاطلاع عليه فليرجع إلى علم الهيئة - وهذا اعنى اثبات الافلاك على حسب حركات الكواكب باطل مبنى على امور باطلة - منها ادعاؤهم بامتناع الخرق والالتيام على الاجرام الفلكية - ومنها ان الافلاك كلها متلاصقة بعضها ببعض كتلاصق قشور البصل بعضها على بعض - وذلك يستلزم تحرك الافلاك جميعها بحركة فلك الافلاك قسرا وغير ذلك - وكل ذلك باطل فان انشقاق السماء جائز عقلا واجب سمعا - قال اللّه تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ - ونحو ذلك وكذا عدم تلاصق السموات وبعد ما بين كل سمائين ثابت شرعا عن أبى هريرة قال بينما نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم جالس وأصحابه إذا اتى عليهم سحاب فقال نبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل تدرون ما هذا قالوا اللّه ورسوله اعلم قال هذه العنان هذه روايا الأرض يسوقها اللّه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه - ثم قال هل تدرون ما فوقكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال فانها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ثم قال هل تدرون ما بينكم وبينها قالوا اللّه ورسوله اعلم قال بينكم وبينها خمسمائة عام ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك قالوا اللّه ورسوله اعلم قال سما ان بعد ما(1/83)
بينهما خمس مائة سنة ثم قال كذلك حتى عدّ سبع سموات ما بين كل سمائين ما بين السماء والأرض - ثم قال هل تدرون
_________
(1) لا يظهر جهة التوقف على هذه المقدمة فانه لو فرض الانفصال فيما بين سطوحها لا وجبت الحركات أفلاكا متفاصلة بعددها نعم لزوم تحرك المحوى من تحرك الحاوي انما يتم على التلاصق دون التفاصل وهو امر اخر وراء تعدد الافلاك - قلت وجه التوقف على كون الافلاك متلاصقة انهم زعموا ان لكل كوكب وكذا للشمس والقمر حركتان حركة قسرية تابعة لحركة الفلك التاسع بها يتم دورانها في يوم وليلة وعليها ابتناء الليل والنهار - وحركة طبعية إلى المشرق بها يظهر اختلاف حركاتها وعليها ابتناء اختلاف الفصول واختلاف الشهور وغير ذلك بل لكل كوكب بالقسر حركات شتى أحدها ما ذكر بقسر فلك الافلاك ثانيها بعدد المتممات الحاوية والمحوية وحركة الطبعي للمتحيرات انما هى حركة تدويراتها وما ليس له تدوير فالحركة الطبعي حركة فلكها الذي ذلك الكوكب مرتكز فيه والحركة القسرية لا يتصور بدون التلاصق وعندى في تحقيق هذا المقام مقال لا يسعه المقام وحاصله ان الكواكب والشمس والقمر كلها في السماء الدنيا ولكل منها حركة على حدة مختلفة كل في فلك يسبحون سباحة السمك في الماء ليس شىء منها بقسر فلك اخر - ويرتبط باختلاف حركات الكواكب اختلاف الليل والنهار والفصول وغير ذلك ولهذا الكلام طول لا يسعه المقام - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 47(1/84)
ما فوق ذلك قالوا اللّه ورسوله اعلم قال ان فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السمائين - ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا اللّه ورسوله اعلم قال انها الأرض - ثم قال هل تدرون ما تحت ذلك قالوا اللّه ورسوله اعلم قال ان تحتها ارض اخرى ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع ارضين بين كل ارضين مسيرة خمسمائة سنة ثم قال والذي نفس محمد بيده لو انكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على اللّه ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ - رواه احمد والترمذي وقال الترمذي - قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية تدل على انه أراد لهبط على علم اللّه وقدرته وسلطانه - وعلم اللّه في كل مكان وهو على العرش كما وصف نفسه في كتابه - قلت قوله « 1 » صلى اللّه عليه وسلم لهبط على اللّه من المتشابهات كما انه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى من المتشابهات ولعل مراده صلى اللّه عليه وسلم لهبط على عرش اللّه بحذف المضاف وهذا يدل على كون العرش وكذا ما فيه من السموات السبع كرويا حاويا لجميع جهات الأرض حتى انكم لو دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على السموات السبع وعلى عرش اللّه - والصوفية العلية كما اثبتوا معيّة لا كيف لها وتجليات « 2 » خاصا للّه سبحانه على قلب المؤمن وهو عرش اللّه سبحانه فى العالم الصغير - واثبتوا تجليا مخصوصا بالكعبة الحسناء بيت اللّه واختصاصا برب هذا البيت كذلك اثبتوا تجليا خاصا رحمانيا على العرش وهو قلب للعالم الكبير وذلك التجلي هو المومى إليه بقوله تعالى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ومن ثم قيل تجوزا لهبط على اللّه - كما قال اللّه تعالى - يسعنى قلب عبدى المؤمن - وروى الترمذي وأبو داود من حديث العباس وفيه - ان بعد ما بينهما يعنى السماء والأرض اما واحدة واما اثنان أو ثلث وسبعون سنة والسماء التي فوقها(1/85)
كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ودركهن مثل
_________
(1) غرض الترمذي أيضا انه من المتشابهات وانه ماول لكنه ذكر تأويلا لا يتوقف على كروية الافلاك والعرش وأيضا تأويله مطرد في جميع ما ورد من أمثاله في الأحاديث والآثار فالفضل المتقدم - وقراءة الآية تدل على ان المراد ما ذكره الترمذي فليفهم قلت نعم غرض الترمذي أيضا انه من المتشابهات وانه ماول وما ذكر الترمذي من التأويل لا يتوقف على كروية الافلاك وأيضا تأويله مطّرد - لكن غرض المصنف ان كروية الافلاك المشهود عليها ببداهة الحسن ودوران الشمس والقمر لا ينافى هذا الحديث بل هذا التأويل الذي ذكرت يصاعده - فالتأويل الذي به يطابق النقل الحس والعقل اولى وليس فيه رد القول الترمذي وليس بيان احتمال آخر كما تدل عليه كلمة لعل - ولم يقل بل الصواب ونحو ذلك حتى يظهر منه رد قول الترمذي واللّه اعلم - منه رحمه اللّه
(2) أقول لا معنى للتجلى عند التحقيق الا ظهور الصفات من العلم والقدرة وغيرها على وجه يكون مكشافا وعنوانا للذات فلا نزاع فيما بين الصوفية وغيرهم الا في اللفظ - قلت حمل كلام العقلاء على النزاع اللفظي بعيد من العقلاء - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 48(1/86)
ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء ثم اللّه فوق ذلك - قلت هذا الاختلاف الوارد في الأحاديث في مسافة البعد اما باختلاف اعتبار السائرين - أو المراد كثرة البعد لا تعيين المسافة - وقوله اما واحدة واما اثنان أو ثلث شك الراوي - واللّه اعلم طال الكلام وحاصل المرام ان علم الهيئة باطل أساسا وبناء - والجائز عقلا والثابت شرعا ان الكواكب كلها مرتكزة في السماء الدنيا - قال اللّه تعالى وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ - كُلٌّ فِي فَلَكٍ أى فلك واحد يسبحون - حسب ارادة اللّه تعالى فى السرعة والبطوء والجهة كما يسبح السمك في الماء فحينئذ لا حركة للسموات واللّه اعلم - قال اللّه تعالى وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) فيه تعليل كأنَّه قال لكونه عالما بكنه الأشياء كلها خلق ما خلق على النمط الأتم الأكمل الانفع - قرأ أبو جعفر وأبو عمرو والكسائي وقالون وهو وهى بسكون الهاء إذا كان قبل الهاء واو كما هاهنا ونحو وهى تجرى بهم - أو قاء أو لام نحو فهو وليّهم - انّ اللّه لهو الولىّ - فهى كالحجارة - لهى الحيوان - زاد الكسائي وقالون كلمة ثم نحو ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ - وقال البغوي ان في ان يملّ هو أيضا اسكن الكسائي وقالون لكن المشهور عند القراء عدم الإسكان هناك بالإجماع كذا قال الشاطبي - .(1/87)
وَاذكر إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ - تعداد لنعمة ثالثة - فان خلق آدم وتفضيله على الملائكة نعمة تعم ذريته وفيه حث على الإتيان باوامره تعالى - والانتهاء عن مناهيه قال البغوي خلق اللّه السماء والأرض والملائكة والجن واسكن الملائكة السماء - والجن الأرض - فمكثوا زمانا طويلا في الأرض - ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فافسدوا واقتتلوا - فبعث اللّه إليهم جندا من الملائكة يقالهم الجن وهم خزان الجنان اشتق لهم اسما من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علما - فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف اللّه عنهم العبادة - واعطى اللّه إبليس ملك الأرض وملك سماء الدنيا وخزانة الجنة فكان يعبد اللّه تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه ما أعطاني اللّه هذا الملك الا لانى أكرم الملائكة عليه فقال اللّه تعالى له ولجنده إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً - ومما ذكر البغوي يظهران إبليس كان من الملائكة كما يدل عليه ظاهر الاستثناء - فان قيل روى مسلم عن أبى هريرة قال - أخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيدي فقال خلق اللّه التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 49(1/88)
و خلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس - وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في اخر الخلق واخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل - وهذا الحديث يدل على ان خلق آدم بعد خلق الأرض يوم سابعة فكيف يتصور مكث الجن زمانا طويلا في الأرض ثم طردهم إلى شعوب الجبال وسكونة إبليس وجنوده من الملائكة زمانا طويلا - ثم قوله تعالى لهم إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً - قلت لا دليل في الحديث على ان المراد بالجمعة التي خلق فيها آدم أول جمعة بعد خلق الأرض لعل ذلك الجمعة بعد مضى الدهور - ولو لا هذا التأويل لزم خلق السموات والأرض في سبعة ايام والثابت بالقران خلق السموات والأرض في ستة ايام واللّه اعلم - والمراد بالخليفة آدم عليه السلام فانه خليفة اللّه في ارضه لاقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه وهداية عباده وجذبهم إلى اللّه واعطائهم مراتب قربه تعالى وذلك لا لاحتياج من اللّه تعالى إلى الخليفة بل لقصور المستخلف عليهم عن قبول فيضه وتلقى امره بغير وسط - وكذلك كل نبى بعده خليفة اللّه قالُوا تعجبا واستخبارا عن مراشد أمرهم لا اعتراضا وحسدا فانهم عباد مكرمون أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ - وهم ذرية آدم - وانما عرفوا ذلك بأخبار من اللّه تعالى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ حال مقررة لجهة الاشكال والمعنى أ تستخلف العصاة ونحن معصومون احقّاء بالخلافة - والتسبيح تبعيد اللّه عن السوء من سبح في الأرض والماء أى بعد - وبحمدك في موضع الحال أى متلبسين « 1 » بحمدك على ما وفقتنا لتسبيحك وَنُقَدِّسُ لَكَ - والتقديس أيضا بمعنى التسبيح ويقال قدس إذا طهر أى بعد عن الاقذار - واللام زائدة أى نقدسك - أو المعنى نقدس أى نطهر أنفسنا عن الذنوب لاجلك - كانهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك بالتسبيح وسفك الدماء بالتقديس - سئل(1/89)
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أى الكلام أفضل قال ما اصطفى اللّه لملائكته سبحان اللّه وبحمده - رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى ذر - وهو صلوة الخلق وعليها يرزقون رواه ابن أبى شيبة عن جابر والبغوي عن الحسن قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وانّى بفتح الياء والباقون بالسكون - ان الملائكة كانوا يعلمون بأخبار من اللّه تعالى ان من البشر صالحين وعصاة وكفارا فلا جرم زعموا ان الملائكة أفضل منهم لكونهم كلهم معصومين لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فاستخلافهم اولى واستخلاف البشر موجب للفساد كما وقع من شرارهم - ولم يعلموا ان اللّه تعالى يستودع في قلوب بعضهم - محبة ذاتية
_________
(1) فى الأصل ملتبسون -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 50(1/90)
منه تعالى موجبة للمعية الذاتية والمحبوبية الصرفة كما نطق به رأس المحبوبين - المرء مع من أحب - رواه الشيخان من حديث ابن مسعود وانس وابن حبان عن انس وفي الحديث القدسي - لا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحببته فإذا أجبته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به الحديث - ويكون لهم قرب ومنزلة من اللّه تعالى لا يتصور لغيرهم - بحيث يكون التقرب إلى عباد اللّه الصالحين موجبا للتقرب إليه تعالى روى مسلم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ان اللّه تعالى يقول يوم القيامة يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى قال يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين قال اما علمت ان عبدى فلانا مرض فلم تعده اما علمت انك لوعدته لوجدتنى عنده - يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى الحديث - اعلم انه قد تقرر عند الأكابر من الصوفية ان ضوء الشمس كما يتحملها الأرض لكثافتها دون غيرها من عناصر الخلق كذلك التجلي الذاتي لا يتحملها الا عنصر التراب واما غيرها من العناصر فلنوع من الكثافة التي فيها يتحمل التجليات الصفاتية دون الذاتية واما لطائف عالم الأمر فلا نصيب لها الا من التجليات الظلية - والإنسان لما كان مركبا من اللطائف العشرة التي هى اجزاء العالم الكبير ولم يجتمع في شىء من افرادها الا بعضها كان هو أهلا للخلافة وحاملا للامانة التي عرضها اللّه تعالى عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً على نفسه بتحمل ما لم يتحمله غيره جهولا لعظمة المحمول ومسمى بالعالم الصغير صورة واكبر من الكبير معنى - حيث قال اللّه تعالى لا يسعنى ارضى ولا سمائى ولكن يسعنى قلب عبدى المؤمن - فخلق اللّه تعالى آدم من أديم الأرض أى وجهها بان قبض من جميع ألوانها وعجنت بالمياه المختلفة وسواه ونفخ فيه الروح أخرج احمد وأبو داود والترمذي و(1/91)
صححه وابن جرير وابن المنذر وابن مردوية والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى موسى الأشعري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوا آدم منهم الأحمر والأبيض وبين ذلك - والسهل والحزن - والخبيث والطيب - قلت والحكمة فيه استجماع استعداده - قال البغوي - لمّا قال اللّه تعالى إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالت الملائكة - ليخلق ربنا ما يشاء فلن يخلق خلقا أكرم منا عليه - وان كان فنحن اعلم منه لانا خلقنا قبله وراينا ما لم يره - فاظهر اللّه تعالى فضله عليهم.
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماء َ كُلَّها
قال أهل التفسير المراد اسماء الخلائق - قال البغوي قال ابن عباس ومجاهد وقتادة علمه اسم كل شىء حتى القصعة والقصيعة - وقيل اسم ما كان ويكون
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 51(1/92)
الى يوم القيمة - وقال الربيع بن انس اسماء الملائكة - وقيل اسماء ذريته - وقيل صفة كل شىء قال أهل التأويل علم آدم جميع اللغات ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة - قلت وهذه الأقوال ليست بمرضية عندى فان مدار الفضل على كثرة الثواب ومراتب القرب من اللّه تعالى دون هذه الأمور - ولو كان هذه الأمور مدارا لفضله لزم فضله على خاتم النبيين صلى اللّه عليه وسلم فانه قال أنتم اعلم بامور دنياكم - ولم يكن عليه السلام عالما بجميع اللغات - وعندى ان اللّه تعالى علم آدم الأسماء الالهية كلها - فان قيل الأسماء الالهية غير متناهية قال اللّه تعالى لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي - وقال سبحانه وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ - فكيف يحيط به علم البشر الممكن المتناهي - وقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أسئلك بكلّ اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك - رواه ابن حبان - والحاكم - وابن أبى شيبة والطبراني - واحمد في حديث ابن مسعود وابى موسى الأشعري يدل على ان اللّه تعالى استأثر عنده ببعض الأسماء لم يعلّمها أحدا - قلت المراد « 1 » ان اللّه تعالى علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا فانه لما حصل له معية بالذات تعالت وتقدست حصل له بكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته مناسبة تامة ومعية بحيث انه كلما توجه إلى اسم من أسمائه وصفة من صفاته يتجلى له ذلك الاسم والصفة كما انه إذا حصل لرجل ملكة في علم من العلوم كان بحيث كلما يتوجه إلى مسئلة من مسائله يحضر تلك المسألة - وليس المراد العلم التفصيلي حتى يلزم المحذور - فان قيل لم يقل بما قلت أحد من المفسرين - فهو قول في القرآن بالرأى وذلك غير جائز - روى(1/93)
البغوي بطرق عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قال في القرآن برأيه - وفي رواية من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار - قلت قال البغوي قال شيخنا الامام قد جاء الوعيد فى حق من قال في القرآن برأيه وذلك فيمن قال من قبل نفسه شيئا من غير علم يعنى التفسير وهو
_________
(1) على هذا لا يظهر فضيلة آدم عليه السلام بالنسبة إلى الملا الا على والكروبيين فان ولاية الملا الا على ومن في طبقتهم ارفع بكثير على اكثر الولايات البشرية لا سيما الولاية الاسرائيلية فانها شقيقة الولاية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية - وكل ذلك مصرح به في مكتوبات الشيخ الاجل الرباني مجدد الالف الثاني قدس اللّه روحه - قلت الظاهر من كلام المجدد رضى اللّه عنه ان ولاية الملائكة ارفع درجة من ولاية الأنبياء وليس افضلية الأنبياء على الملائكة الا بالنبوة فان الولايات كلها راجعة إلى تجليات الصفات - والتجليات الذاتية مختصة بالنبوة ومهبط التجلي الذاتي عنصر الطين ولخلو الملائكة من عنصر الطين اختص النبوة بالبشر وبالنبوة تفضلت الأنبياء على الملائكة وبها لبس خلعة الخلافة وبها وبالقرب الذاتي علم آدم الأسماء كلها علما اجماليا واللّه اعلم - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 52(1/94)
الكلام في اسباب نزول الآية وشأنها - وقصتها وذلك لا يجوز الا بالسماع بعد ثبوته من طريق النقل - واصل التفسير من التفسرة وهى الدليل من الماء الذي ينظر فيها الطبيب فيكشف عن علة المريض كذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصتها - فاما التأويل وهو صرف الآية إلى معنى محتمل موافق لما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط فقد رخص فيه لاهل العلم - واشتقاق التأويل من الأول وهو الرجوع يقال أولته فال أى صرفته فانصرف - روى البغوي عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انزل القرآن على سبعة أحرف لكل اية منها ظهر وبطن ولكل حد مطلع - وروى الطبراني عنه بلفظ - انزل القرآن على سبعة أحرف لكل حرف منها ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع - قال البغوي - قوله لكل حد مطلع - أى مصعد يصعد إليه من معرفة علمه - يقال المطلع الفهم - وقد يفتح اللّه على المتدبر والمتفكر في التأويل والمعاني ما لا يفتح على غيره وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ انتهى حاصل كلامه « 1 » - قلت وما مر من اقوال المفسرين ليس شيئا منها مرفوعا - ولا مما لا يدرك بالرأى حتى يكون في معنى المرفوع بل تأويلات لمعنى الأسماء على حسب آرائهم ومن ثم ترى الاختلاف وما ذكرت لك كذلك - وأيضا قول ابن عباس علّمه اسم كل شىء حتى القصعة والقصيعة - وما قيل علّمه اسماء ما كان وما يكون واسماء ذريته وصفة كل شىء لا ينافى تعليمه الأسماء الالهية وهى أفضل مما كان ويكون هو الأول ما كان شىء قبله والاخر لا يكون فيء بعده والظاهر لا شىء فوقه والباطن لا شىء دونه - وانما اقتصر ابن عباس على ذكر اسماء الممكنات خطابا لافهام العوام وكذلك شأن الأكابر يتكلمون الناس على قدر عقولهم واللّه اعلم ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ قال المفسرون الضمير راجع إلى المسميات المذلول عليها ضمنا إذ التقدير اسماء المسميات فحذف المضاف إليه و(1/95)
عوض عنه اللام كما في قوله تعالى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وتذكير الضمير لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء - وإذا قلت المراد بالأسماء الأسماء الالهية فالضمير راجع إلى آدم وجمع الضمير
_________
(1) قال الشيخ شهاب الدين السهروردي رضى اللّه عنه في العوارف - يخالج اسرى ان يكون المطلع ليس بالوقوف بصفاء الفهم على دقيق المعنى - وغامض السر في الآية لكن المطلع ان يطلع عند كل اية على شهود المتكلم بها لانها مستودع وصف من أوصافه ونعت من نعوته فيتجدد له التجليات بتلاوة الآيات وسماعها - وقال المجدد رضى اللّه عنه في مكتوبه المائة والعشرين من المجلد الثالث - انه يخطر ببالي ان الظهر نظم القرآن البالغ إلى حد الاعجاز والبطن تفسيره وتأويله على اختلاف صفاء الفهم على دقيق المعاني وغامض السر والحد نهاية مراتب الكلام وهو شهود المتكلم بها وهو التجلي النعتى المنبئ عن عظيم الجلال والمطلع ما فوق ذلك التجلي النعتى وهو التجلي الذاتي المعرى عن النسبة والاعتبارات فلابد من الخطوتين خطوة من النظم الدال إلى المدلول الذي هو الصفة والخطوة الثانية من الصفة إلى الموصوف - وما ذكر الشيخ السهروردي قدس سره الا الخطوة الاولى وأتم بها هذا السير وقال الشيخ في العوارف - نقل عن جعفر الصادق رضى اللّه عنه انه خر مغشيا عليه وهو في الصلاة فسئل عن ذلك فقال ما زلت اردد الآية حتى سمعتها من المتكلم بها - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 53(1/96)
للتعظيم - أو المراد بآدم هو واللّه كما يقال ربيعة ومضر - كذا قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ فى سورة يونس - ولعل اللّه سبحانه عرض عليهم آدم ونسمات الأنبياء من ذريته حين أخرجهم من ظهره وأخذ منهم الميثاق واشهدهم على أنفسهم وأخذ من النبيين من محمد صلى اللّه عليه وسلم ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم الصلاة والسلام أخذ منهم ميثاقا غليظا وهذا انسب من إرجاع الضمير إلى المسميات - لان المسميات غير مذكورة فيما قبل - والضمير للمذكرين العقلاء فلابد فيه من تكلفات - وقرا أبى بن كعب عرضها - وقرا ابن مسعود عرضهنّ - وعلى تينك القراءتين الضمير راجع إلى الأسماء - فَقالَ تبكيتا لهم وتنبيها على عدم صلاحيتهم للخلافة أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ المشار إليه هى المسميات على تقرير المفسرين وعلى ما قلت المشار إليه آدم واللّه والاضافة لادنى ملابسة أى الأسماء التي علمت هؤلاء - حديث كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد - رواه الطبراني عن ابن عباس وأبو نعيم في الحلية وابن سعد عن أبى الجدعاء يدل على ان اللّه سبحانه علمه ما علمه واصطفاه نبيّا بالتجليات الذاتية المختصة بالأنبياء أصالة حين كان آدم بين الروح والجسد يعنى حين تركب روح آدم بجسده فان التجليات الذاتية البحتية كانت مشروطة بالجسد الترابي فإذا صار لادم جسد واستقر نسمات ذريته في ظهره صاروا أهلا لها - إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) انى لا اخلق خلقا الا وكنتم أكرم علىّ منه وأفضل واعلم - قرأ قنبل وورش بجعل الهمزة الثانية من هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ياء ساكنة - وقالون والبزي يجعلان الاولى ياء مكسورة وأبو عمرو يسقطها والباقون « 1 » يحققون الهمزتين وكذا في كل همزتين مكسورتين اجتمعتا من كلمتين - وفي رواية عن ورش انه يجعل الثانية ياء مكسورة هاهنا وفي النور عَلَى الْبِغاءِ إِنْ(1/97)
أَرَدْنَ تَحَصُّناً واما في غيرهما فكقنبل - واما إذا اجتمعتا مفتوحتين من كلمتين نحو جاءَ أَجَلُهُمْ فورش وقنبل يجعلان الثانية مدة كما في المكسورة - وقالون والبزي وأبو عمرو يسقطون الاولى والباقون يحققون الهمزتين واما إذا اجتمعتا مضمومتين من كلمتين وذلك في موضع واحد في الأحقاف أَوْلِياءُ أُولئِكَ فحكمه حكم المكسورة ورش وقنبل يجعلان الثانية واوا ساكنة وقالون والبزي يجعلان الاولى واوا مضمومة وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما.
قالُوا إقرارا بالعجز واعترافا لفضل البشر واستحقاقهم الخلافة واظهار الشكر نعمة ما كشف لهم الحكمة في خلقه سُبْحانَكَ أى نسبحك سبحانا عن خلو افعالك عن الحكم والمصالح لا عِلْمَ لَنا
_________
(1) وقرأ أبو جعفر ورويس بتحقيق الاولى وتسهيل الثانية - أبو محمد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 54
لا نحيط بشىء من علمك إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بخلقك الْحَكِيمُ (32) فى أمرك وله معنيان وهو القاضي العدل والمحكم للامر لا يتطرق إليه الفساد فلما اعترفوا بعجزهم أنعم اللّه عليهم و.(1/98)
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ الضمير في بأسمائهم على قول المفسرين راجع إلى المسميات - واما على ما قلت فراجع إلى الملائكة أى انبئهم بالأسماء التي في وسعهم تعلمها - أو التي قدرنا لهم تعلمها - ولم يقل باسمائكم لان تعلم الأسماء كلها لا يمكن الا اجمالا بالوصول إلى حضرت الذات وذلك مختص بالبشر دون الملائكة فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه استذكار لقوله - أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ قرأ الحر ميان وأبو عمرو انّى بفتح الياء وكذلك يفتحون كل ياء إضافته بعدها الف قطع مفتوحة الا أحرفا معدودة تذكر في مواضعها ان شاء اللّه تعالى - ويفتح نافع وأبو عمرو عند الالف المكسورة أيضا الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء اللّه تعالى والباقون لا يفتحون الا أحرفا معدودة تذكر ان شاء اللّه تعالى وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ قال الحسن وقتادة يعنى قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها - وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) قالا قولهم لن يخلق اللّه خلقا أكرم عليه منا - قال البغوي قال ابن عباس - هو ان إبليس مر على جسد آدم وهو ملقى بين مكة والطائف لا روح فيه فقال لامر ما خلق هذا ثم دخل في فيه وخرج من دبره وقال انه خلق لا يتماسك لأنه أجوف ثم قال للملائكة الذين معه ان فضل عليكم وأمرتم بطاعته ماذا تصنعون قالوا نطيع امر ربنا - فقال إبليس في نفسه واللّه لئن سلطت عليه لاهلكنه ولئن سلط علىّ لا عصينه فقال اللّه تعالى وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعنى ما تبديه الملائكة من الطاعة وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ يعنى ما كتم إبليس من المعصية وفي الآية دليل على ان خواص البشر وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة وهم الرسل منهم كما ذهب أهل السنة والجماعة إليه - واما ما قالوا ان عوام البشر اعنى الأولياء منهم الصالحون المتقون أفضل من عوام(1/99)
الملائكة فثابت بالسنة - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤمن أكرم على اللّه من بعض ملائكته - رواه ابن ماجة - وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لمّا خلق اللّه آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الاخرة قال اللّه تعالى لا اجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحى كمن قلت له كن فكان - رواه البيهقي في شعب الايمان - ويدل على أفضليتهم اختصاصهم برؤية اللّه سبحانه في الجنة دون الملائكة - فان قيل روية اللّه سبحانه في الجنة غير مختص بالأولياء بل يكون لجميع المؤمنين وان كانت على قدر تفاوت درجاتهم فمنهم من يراه غدوة وعشية ومنهم من يراه كل جمعة أو بعد سنة أو نحو ذلك
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 55(1/100)
فيلزم من ذلك افضلية جميع المؤمنين وان كانوا فساقا على عوام الملائكة فان المؤمنين كلهم يدخلون الجنة ولو بعد العذاب قال اللّه تعالى - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ - وقال عليه الصلاة والسلام يخرج من النار من قال لا الله الا اللّه وفي قلبه وزن برة من خير أو من ايمان ويخرج من النار من قالها وفي قلبه وزن ذرة من خير أو من ايمان - متفق عليه من حديث انس - وقال ما من عبد قالها ثم مات على ذلك الا دخل الجنة وان زنى وان سرق - وان زنى وان سرق - وان زنى وان سرق - على رغم انف أبى ذر - رواه مسلم من حديث أبى ذر - والقول بافضلية الفساق على المعصومين لا يجوز عقلا ولا شرعا قال اللّه تعالى - أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - قلت دخول الجنة للفساق لا يتصور الا بعد المغفرة سواء كانت المغفرة بعد العقاب بمصائب الدنيا أو بعذاب في القبر أو بعذاب فى النار أو بغير شىء من ذلك بالتوبة أو بغير التوبة فضلا من اللّه تعالى وبعد المغفرة لم يبق فسق ولا معصية بل التحقوا بالأولياء المتقين الصلحاء وان كانت مراتب الأولياء أعلى وأجل فحينئذ لا محذور في أفضليتهم على الملائكة واللّه اعلم - وأيضا في الآية دليل على ان علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة وانهم يستفيدون من البشر - واما قوله تعالى - وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ - فمقتضاه عدم الترقي من مقام إلى مقام - يعنى من مقام الأسماء والصفات إلى مقام الذات فانه لا يجوز وصولهم إلى مقام الذات بخلاف
البشر فان له ترقيات من مقام الحجب والحرمان إلى مقام الظلال ومنها إلى مقام الصفات والأسماء والشئونات ومنها إلى مقام الوصول إلى الذات وفي ذلك الوصول درجات واعتبارات لا يسعه المقال والمقام - .(1/101)
وَ اذكر إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ - قرأ أبو جعفر للملائكة اسجدوا بضم التاء بإعطاء حركت همزة الوصل وكذلك قل ربّ احكم بضم الباء والباقون بالكسر - والسجود في الأصل التذلل وفي الشرع وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة - والمأمور به اما المعنى الشرعي فالمسجود له يكون بالحقيقة هو اللّه تعالى - وجعل آدم قبلة تفخيما لشأنه واعترافا لما أنكروا اولا من فضله - ويدل على ارادة هذا المعنى الشرعي ما رواه احمد ومسلم من حديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى ويقول يا ويله امر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار - واللام في لادم حينئذ بمعنى إلى كما في قول حسان في مدح الصديق (شعر) أ ليس أول من صلى لقبلتكم واعرف الناس بالقران والسنن أو جعل آدم سببا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 56(1/102)
لوجوب السجود توبة لما صدر عنهم صورة الاعتراض - واللام حينئذ للسببية نحو صل لدلوك الشمس واما المعنى اللغوي وهو التواضع والتذلل لادم تحية وتعظيما كسجود اخوة يوسف قال البغوي - هذا القول أصح قال ولم يكن فيه وضع الوجه على الأرض انما كان انحناء فلما جاء الإسلام أبطل ذلك بالسلام - قلت لعلهم انما أمروا بتعظيم آدم شكرا له وأداء لحقه في التعليم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - من لم يشكر الناس لم يشكر اللّه - رواه احمد والترمذي وصححه من حديث أبى سعيد - فَسَجَدُوا يعنى الملائكة كلهم أجمعين إِلَّا إِبْلِيسَ هذا يدل على ان إبليس كان من الملائكة لصحة الاستثناء كما مر عن ابن عباس فعلى هذا لا يكون الملائكة كلهم معصومين بل الغالب منهم العصمة كما ان بعضا من الانس معصومون والغالب منهم عدم العصمة - وقيل كان جنيا نشأ بين الملائكة ومكث فيهم ألوف سنين فغلبوا عليه ويحتمل كون الجن أيضا مامورين بالسجود مع الملائكة لكنه استغنى عن ذكرهم بذكر الملائكة لان الأكابر لما أمروا بالسجود فالاصاغر اولى - ولعل ضربا من الملائكة كانوا متحدى الحنس بالشياطين مختلفين بالعوارض وما روى مسلم عن عائشة خلقت الملائكة من نور وخلقت الجن من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم - يحمل على اختلاف حقيقة بعض الملائكة من حقيقة الجن دون بعضهم وهم الذين لا يوصفون بالذكورة والأنوثة ولا يتوالدون - أو يقال النّار والنور حقيقة واحدة والامتياز بينهما بالتهذيب والصفاء وبدونه - وقوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً - وهو قولهم الملائكة بنات اللّه دليل على اتحاد حقيقتهما واللّه اعلم بحقيقة الحال - أَبى امتنع من السجود وَاسْتَكْبَرَ من ان يعظّم آدم - أو يتخذه وصلة في عبادة ربه - وَكانَ فى علم اللّه أو صار مِنَ الْكافِرِينَ (34) باستقباحه امر اللّه تعالى إياه بالسجود لادم اعتقادا منه انه أفضل من آدم(1/103)
حيث قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لا بترك الواجب وحده - .
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ - قال البغوي ان آدم لم يكن له في الجنة من يجانسه فنام نومة فخلق اللّه زوجته حواء من قصيرى شقه الأيسر فلما هب من نومه راها جالسة عند رأسه كاحسن ما خلق اللّه فقال لها من أنت قالت زوجتك خلقنى اللّه لك تسكن الىّ واسكن إليك - وانما لم يخاطبهما اولا تنبيها على انه هو المقصود بالحكم وَكُلا مِنْها رَغَداً واسعا كثيرا حَيْثُ شِئْتُما اين شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) منع عن قرب الشجرة مبالغة في النهى عن أكله لان قرب الشيء يورث داعية وميلانا إلى ذلك الشيء فيلهيه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 57
عما هو مقتضى العقل والشرع - فالاقتراف بما هو يقرب إلى المعصية مكروه والشجرة هى السنبلة على قول ابن عباس ومحمد بن كعب - والعنب على قول ابن مسعود والتين على قول ابن جريح والكافور على قول علىّ وقال قتادة شجرة العلم وفيها من كل شىء - فقيل وقع النهى على جنس من الشجرة - وقيل على شجرة مخصوصة - والظَّالِمِينَ أى الضّارّين أنفسكما بالمعصية واصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أى اصدر زلتهما عن الشجرة أى بسبب الشجرة ومن أجل أكلها - أو ازلّهما أى اذهبهما أى أبعدهما عن الجنة ويعضده قراءة حمزة فازالهما أى نحاهما - والشيطان من الشطن بمعنى البعد سمى به لبعده من الخير والرحمة - واختلفوا في انه كيف لقى إبليس آدم بعد ما قيل له فَاخْرُجْ ...(1/104)
فَإِنَّكَ رَجِيمٌ - قال البغوي ان إبليس أراد أن يدخل الجنة ليوسوس آدم وحواء فمنعته الخزنة - فاتته الحية وكانت صديقة لابليس وكانت من احسن الدواب لها اربع قوائم كقوائم البعير وكانت من خزان الجنة فسالها إبليس ان يدخله في فمها فادخلته فمرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فادخلته الجنة - وكذا أخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس وابى العالية ووهب بن منبه ومحمد بن قيس - وقال الحسن انما راهما على باب الجنة لانهما كانا يخرجان منها - وقال البغوي وقد كان آدم لما دخل الجنة قال لو ان خلدا - فلما دخل الشيطان الجنة وقف بين آدم وحواء وهما لا يعلمان انه إبليس فبكى وناح نياحة احزنتهما وهو أول من ناح - فقالا ما يبكيك قال ابكى عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة فوقع ذلك في أنفسهما واغتما فقال إبليس هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ فابى ان يقبل منه فقاسمهما باللّه إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فاغترا وما ظنا ان أحدا يحلف باللّه كاذبا - فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها - وكان سعيد بن المسيب يحلف باللّه ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن حواء سقته الخمر فلما أسكر قادته إليها فاكل - فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم قال ابن عباس وقتادة قال اللّه تعالى لادم الم يكن فيما أبحتك من الجنة مندوحة عن الشجرة قال بلى يا رب ولكن ما ظننت ان أحدا يحلف بك كاذبا - وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال اللّه تعالى يا آدم ما حملك على ما صنعت - قال يا رب زينته لى حواء قال فانى أعقبتها ان لا تحمل الا كرها ولا تضع الا كرها وديتها في الشهر مرتين - فرنت حواء عند ذلك فقيل عليك الرنة وعلى بناتك - وَقُلْنَا اهْبِطُوا أى انزلوا إلى الأرض يعنى آدم وحواء وإبليس والحية - بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حال استغنى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 58(1/105)
عن الواو بالضمير أى متعادين - روى البغوي عن عكرمة عن ابن عباس قال - لا اعلم الا رفع الحديث انه كان يأمر بقتل الحيات وقال من تركهن خشية أو مخافة ثائر فليس منا - وفي رواية - ما سالمناهن منذ حاربناهن - وروى عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان بالمدينة جنا قد اسلموا فان رايتم منهم شيئا فاذنوه ثلثة ايام فان بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فانه شيطان - وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ موضع قرارا واستقرار وَمَتاعٌ أى تمتع إِلى حِينٍ (36) إلى انقضاء اجالكم - .
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قرأ ابن كثير آدم بالنصب وكلمت بالرفع يعنى جاءت الكلمات آدم من ربه وكانت سبب توبته - وقرا الباقون بالعكس أى تعلّم - والكلمات رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا الآية - كذا قال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن وقيل غير ذلك من كلمات الدعاء والاستغفار والتضرع قال ابن عباس - بكى آدم وحواء مائتى سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوما - ولم يقرب آدم حواء مائة سنة وروى عن يونس بن حباب وعلقمة بن مرثد قالا ولو ان دموع أهل الأرض جمعت لكان دموع داود اكثر حيث أصاب الخطيئة - ولو ان دموع داود مع دموع أهل الأرض جمعت لكان دموع آدم اكثر - قال شهر بن حوشب بلغني انه مكث ثلاثمائة سنين لا يرفع رأسه حياء من اللّه عز وجل - فَتابَ عَلَيْهِ أى قبل توبته - والتوبة عبارة عن الاعتراف بالذنب والندم عليه والعزم على ان لا يعود - واكتفى بذكر آدم لان حواء كانت تبعا له في الحكم ولذلك طوى ذكر النساء في اكثر القرآن والسّنن إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجاع على عباده بالمغفرة - واصل التوبة الرجوع فمن العبد الرجوع من المعصية ومن اللّه الرجوع عن العقوبة إلى المغفرة الرَّحِيمُ (37) المبالغ في الرحمة.(1/106)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً - قيل الهبوط الأول من الجنة والثاني من السماء إلى الأرض - وقيل كرر للتأكيد أو لاختلاف المقصود فان المقصود من الأول العقاب على المعصية ومن الثاني التكليف - وجميعا حال في اللفظ تأكيد في المعنى فلا يستدعى اجتماعهم فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الفاء للعطف وان حرف شرط وما زائدة أكدت به ان - ولذلك حسن تأكيد الفعل بالنون وان لم يكن فيه معنى الطلب يعنى ان يأتى لكم منى هدى يعنى رسول وكتاب - الخطاب به إلى ذرية آدم فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الشرط الثاني مع جزائه جزاء للشرط الأول
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 59
و انما جاء بان حرف الشك لأنه محتمل في نفسه غير واجب عقلا - امال الكسائي هداى ومثواى - ومحياى - حيث وقع ورءياك في أول يوسف خاصة - وأبو عمرو ورش قرأ رءياك خاصة بين بين - قال البيضاوي كرر لفظ الهدى ولم يضمر لأنه أراد بالثاني أعم من الأول وهو ما اتى به الرسل واقتضاه العقل أى تبع ما أتاه مراعيا فيه ما شهده العقل - فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) على ما خافوا فان الخوف على المتوقع والحزن على الواقع - أو المعنى لا خوف عليهم فى الاخرة بحلول مكروه ولا هم يحزنون في الاخرة بفوات محبوب نفى عنهم العذاب واثبت لهم الثواب على ابلغ الوجوه - قرأ يعقوب فلا خوف بالفتح باعمال لا والآخرون بالرفع والتنوين.(1/107)
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عطف على من تبع كأنَّه قال ومن لم يتبع هداى بل كفروا به وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بالقران وغيره من الكتب أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ يوم القيامة هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) لا يخرجون منها ولا يموتون فيها - فى القصة دليل على ان الجنة مخلوقة وانها في جهة عالية وان عذاب النار للكفار مخلد تمسكت الحشوية بهذه القصة على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام قالوا كان آدم نبيا وارتكب المنهي عنه - وأجيب بانه لم يكن نبيا حينئذ والمدعى يطالب بالبرهان - أو كان النهى للتنزيه وانما سمى نفسه ظالما وخاسرا لأنه ظلم نفسه وخسر حظه بترك الاولى - أو انه فعل ناسيا لقوله تعالى - فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً - لعله لما قاله إبليس ما نهاكما ربّكما وقاسمهما أورث فيه ميلانا طبعيا ثم انه كف نفسه عنه مراعاة لحكم اللّه إلى ان نسى ذلك وزال شعوره بشرب الخمر فحمله الطبع عليه وانما عوتب بترك التحفظ عن اسباب النسيان - ولعله وان حط عن الامة لم يحط عن الأنبياء لعظم قدرهم - ويحتمل ان يكون رفع الخطاء والنسيان خاصة لهذه الامة - وسيجيئ المسألة اخر السورة - أو فعله بسبب خطاء في اجتهاده حيث ظن النهى للتنزيه - أو الاشارة إلى عين تلك الشجرة فتناول من غيرها من نوعها وكان المراد في النهى الاشارة إلى النوع وانما جرى عليه ما جرى على طريق السببية المقدرة دون المؤاخذة كتناول السم على الجهل واللّه اعلم - ولما ذكر اللّه تعالى دلائل التوحيد والنبوة وخاطب الناس عامة وعدّ انعاماته العامة - خاطب بنى إسرائيل خاصة وذكّرهم النعماء التي اختصت بهم لان السورة مدنية وكان غالب الخطاب في المدينة مع اليهود لانهم كانوا أهل علم والناس تبع لهم فلو اعترفوا بالنبوة اعتراف غيرهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 60
بتقليدهم وكان حجة على غيرهم - فقال.(1/108)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ أى أولاده والابن من البناء لأنه مبنى أبيه ولذلك ينسب المصنوع إلى الصانع - ويقال أبو الحرب وبنت فكر - وإسرائيل لقب يعقوب عليه السلام ومعناه بالعبرية عبد اللّه وايل هو اللّه - وقيل صفوة اللّه - وقرا أبو جعفر إسرائيل بغير همزة اذْكُرُوا احفظوا - والذكر يكون بالقلب وباللسان فانه دليل على ذكر القلب وقيل اشكروا لان فى الشكر ذكرا - قال الحسن - ذكر النعمة شكرها - نِعْمَتِيَ لفظها واحد ومعناها جمع الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ - قيد النعمة بهم حتى يحملهم على الرضاء والشكر - واما النعمة على غيرهم فقد يوجب الغيرة والحسد قال قتادة هى النعم التي خصت بها بنوا إسرائيل من فلق البحر وانجائهم من فرعون باغراقه وتظليل الغمام في التيه - وإنزال المن والسلوى - وبعث الأنبياء فيهم - وجعلهم ملوكا وإنزال التورية وغيرها - وقال غيره هى جميع النعم على العباد وَأَوْفُوا بِعَهْدِي بالايمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بالاثابة - والعهد يضاف إلى المعاهد والمعاهد - ولعل اولا أضاف إلى الفاعل وثانيا إلى المفعول فان اللّه تعالى عهد إليهم بالايمان ووعدهم بالثواب - أو في كليهما أضاف إلى المفعول أى أوفوا بما عاهدتمونى أوف بما عاهدتكم - أخرج ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس قال - أوفوا بعهدي في اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم أوف بعهدكم في رفع الاصار والاغلال - قال البغوي قال الكلبي عهد اللّه إلى بنى إسرائيل على لسان موسى انى باعث في بنى إسماعيل نبيا اميا فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتى به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين وهو قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى في امر محمد صلى اللّه عليه وسلم - قلت وهذا قوله تعالى في جواب ما قال موسى رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ - إلى قوله إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ(1/109)
عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ - الآية - وقال قتادة ومجاهد أراد بها ما ذكر في المائدة وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً إلى ان قال لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الآية - وقال الحسن هو قوله وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ - فهو شريعة التورية - قلت وان هذين القولين راجعان إلى ما قال ابن عباس والكلبي فان في الأول وآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ - وكذلك شريعة التورية حاكمة بالايمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 61(1/110)
و الا فهى منسوخة وَإِيَّايَ منصوب بفعل مقدر بعده يفسّره فَارْهَبُونِ (40) فخافون في نقض العهد وفي كل فعل وترك - والرهبة خوف معه تحرز - وهذا أكد في إفادة التخصيص من ايّاك نعبد لما فيه من تقديم المفعول وتكريره وتكرير الفعل تقديرا ولفظا والفاء الجزائية - تقدير الكلام ان كنتم راهبين فاياى ارهبوا فارهبونى - والآية متضمنة للوعد والوعيد دالة على وجوب الشكر والوفاء بالعهد وان المؤمن ينبغى ان لا يخاف أحدا الا اللّه - اثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبون فاتّقون - واخشون كلها وجملتها احدى وستون ياء لا غير - واثبت نافع في رواية ورش منها في الوصل سبعا وأربعين وفي رواية قالون عشرين - واختلف عن قالون في اثنين وهما التّلاق - والتّناد - فى غافروا ثبت ابن كثير في الوصل والوقف احدى وعشرين واختلف عنه في ست تقبّل دعاء في ابراهيم - يدع الدّاع في القمر - بالواد - وأكرمن - وأهانن في الفجر فاثبت الخمس البزي في الحالين - واثبت قنبل انّه من يتّق في يوسف في الحالين وبالواو في الفجر في الوصل فقط وفيه خلاف عنه واثبت أبو عمرو من ذلك في الوصل خاصة أربعا وثلثين وخير في أكرمن وأهانن - واثبت الكسائي ياءين يوم يأت في هود وما كنّا نبغ في الكهف لا غير - واثبت حمزة في الوصل خاصة وتقبّل دعاء في ابراهيم - وفي الحالين أ تمدّونن في النمل لا غير وحذف كلهن عاصم واختلف عنه في يائين في النمل فما ءاتان اللّه فتحها حفص فى الوصل وأثبتها ساكنة في الوقت وفي الزخرف يعباد لا خوف فتحها أبو بكر في الوصل و
أسكنها في الوقف وشعبة بحذف الاولى كحفص في الاخرى - واثبت ابن عامر في رواية هشام ثمّ كيدون في الأعراف وفي رواية ابن ذكوان في الكهف فلا تسئلنى - وسياتى جميع ما ورد من ذلك الاختلاف في أماكنها ان شاء اللّه تعالى - .(1/111)
وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ يعنى القرآن عطف تفسيرى على أوفوا أو تخصيص بعد التعميم فان الايمان هو العمدة في الوفاء بالعهود مُصَدِّقاً أى موافقا في القصص وبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم ونعته وفي الوعد والوعيد والدعوة إلى التوحيد - والايمان بالأنبياء بلا تفريق بينهم وبما جاءوا به من ربهم والى امتثال الأوامر والانتهاء عن المناهي - أو شاهدا على كونها من اللّه تعالى لِما مَعَكُمْ من الكتب الالهية التورية وغيرها - وفي التقييد بكون القرآن مصدّقا لمّا معهم تنبيه على ان اتباعها يوجب الايمان به ولذلك عرّض بقوله وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 62(1/112)
بل الواجب ان تكونوا أول من أمن به كما ان ورقة بن نوفل لما كان عالما بالتورية صار أول من أمن به - فالمراد به التعريض دون الحقيقة كقولك اما انا فلست بجاهل فلا يقال كيف نهوا عن التقدم في الكفر مع سبق مشركى مكة فيه - أو المراد ولا تكونوا أول كافر من أهل الكتاب أو أول من كفر بما معه فان الكفر بالقران كفر بما يصدقه - قلت أو المراد بالاولية الاولية بالذات « 1 » يعنى كونهم سببا لكفر غيرهم فان ايمان العلماء والأحبار والرؤساء سبب لايمان غيرهم وكفرهم سبب لكفر غيرهم - فلذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الا ان شر الشرار شرار العلماء - وان خير الخيار خيار العلماء رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم عن أبيه - والمعنى لا تكونوا سببا لكفر اتباعكم فيكون عليكم اثم الأريسيين وأول كافر خبر من ضمير الجمع بتأويل أول فريق - أو بتأويل أول فريق - أو بتأويل لا يكن كل واحد منكم أول كافر كقولك كسانا حلة - وأول افعل لا فعل له من لفظه - وقيل أصله أوال من وال على وزن سأل أبدلت همزته واوا من غير قياس أو ااول من أول قلبت الهمزة واوا وأدغمت - قال البغوي نزلت الآية في كعب بن اشرف وأصحابه من علماء اليهود وَلا تَشْتَرُوا أى لا تستبدلوا بِآياتِي أى بالايمان بايات القرآن اولا تستبدلوا بايات التورية ببيان نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم ثَمَناً أى عرضا من الدنيا قَلِيلًا فان اعراض الدنيا وان جلت فهى قليلة رذيلة بالاضافة إلى ما يفوتهم من حظوظا لاخرة وذلك ان رؤساء اليهود وعلماءهم كانت لهم مأكلة يصيبونها من سفلتهم وجهّالهم يأخذون كل عام منهم شيئا معلوما من ذروعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا فواتها ان بينوا صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم واتبعوه - فاختاروا الدنيا على الاخرة وغير وانعته وكتموا اسمه وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) بالايمان واختيار الاخرة على الدنيا - وهذا مثل فايّاى فارهبون - غير ان في الآية (1/113)
السابقة خطاب لعوام بنى إسرائيل ولذا فصلت بالرهبة التي هى مقدمة التقوى وفي الثانية خطاب لعلمائهم ولذلك فصلت بالتقوى الذي هو منتهى الأمر - .
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ اى
_________
(1) لا يخفى ان الاولية بالذات يستلزم التقدم بحسب الزمان أو المعية بحسبه فالاشكال بسبق مشركى مكة فيه باق كما كان ويحتاج في بيان سببية كفرهم لكفر غيرهم من التخصيص باتباعهم وهو تطويل للمسافة بلا طائل قلت كفر أهل الكتاب سبب لكفر غيرهم من الأميين حيث يزعمون لو كان الإسلام حقّا لما تركه أهل الكتاب فهو سبب لثبات مشركى مكة على كفرهم - فسبق كفر مشركى مكة بالزمان لا ينافى اولية كفر أهل الكتاب بالذات وكونه سببا لكفرهم يعنى لثباتهم على الكفر واللّه اعلم - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 63
لا تخلطوا - واللبس الخلط وقد يلزمه جعل الشيء مشتبها بغيره - يعنى لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالباطل الذي تكتبونه بايديكم من التغير حتى لا يمين بينهما - وقال مقاتل ان اليهود أقرّوا ببعض صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتموا بعضا ليصدّقوا فى ذلك فالحق إقرارهم وبيانهم والباطل كتمانهم - وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم داخل تحت حكم النهى أى لا تكتموا - أو منصوب بإضمار ان بعد الواو للجمع أى لا تجمعوا بين لبس الحق بالباطل وكتمان الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) انه نبى مرسل وانكم تكتمون صفته فانه أقبح فان الجاهل قد يعذر - .(1/114)
وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أى صلوة المسلمين وزكاتهم - فيه دليل على ان الكفار مخاطبون بالفروع - والزكوة مشتق من زكا الزرع إذ انما - أو من تزكّى أى تطهر فان فيه تطهير المال وتنميته قال اللّه تعالى - يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ - وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) مع المصلين محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه - ذكر بلفظ الركوع وهو ركن من اركان الصلاة لان صلوة اليهود لم يكن فيه ركوع - وفيه حث على الصلاة بالجماعة (مسئلة) الجماعة ركن عند داود - وقال احمد فريضة وليست بركن وعند الجمهور سنة مؤكدة قريب من الواجب يترك سنة الفجر مع كونها أكد السنن عند خوف فواتها - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صلوة الجماعة تفضل صلوة الفرد بسبع وعشرين درجة - متفق عليه من - حديث ابن عمر.
أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ - أى بالطاعة وفيه تقرير مع توبيخ وتعجيب والبرّ التوسع في الخير مشتق من البر وهو الفضاء الواسع يتناول كل خير - قال البغوي نزلت في علماء اليهود وذلك ان الرجل منهم كان يقول لقريبه وحليفه من المسلمين إذا ساله عن امر محمد صلى اللّه عليه وسلم اثبت على دينه فان امره حق وقوله صدق - وكذا أخرج الواحدي عن ابن عباس - وقيل هو خطاب لاحبارهم حيث أمروا اتباعهم بالتمسك بالتورية وهم خالفوا التورية وغيروا نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم فيه - وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ تتركونها من البر كالمنسيات - وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ التورية وفيها نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته وفيها الوعيد على العناد ومخالفة القول العمل وترك البر أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) قبح صنعكم أو أ فلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون قبح عاقبته - والعقل في الأصل الحبس ومنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 64(1/115)
عقال الدابة - فان العقل يمنع الإنسان عما يضره يعنى ما تفعلون مخالف للعلم والعقل - روى البغوي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال رايت ليلة اسرى بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء خطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب - وروى أيضا عن اسامة بن زيد قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول - يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق اقتابه فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أى فلان ما شأنك الست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر قال كنت أمركم بالمعروف ولا اتيه وأنهاكم عن المنكر واتية - قال البيضاوي المراد بالآية حث الواعظ على تزكية النفس وتكميله لا منع الفاسق عن الوعظ فان الإخلال بأحد الامرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالاخر - قلت فمعنى قوله تعالى. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ان معصية العالم اكبر مقتا عند اللّه من معصية الجاهل لا ان امره بالمعروف ممقوت - واللّه اعلم ثم لمّا أمرهم اللّه تعالى بما شق عليهم من ترك الرياسة والاعراض عن الدنيا ارشدهم بما يعينهم على ذلك ويكفيهم في إنجاح حوائجهم فقال.(1/116)
وَ اسْتَعِينُوا على ما يستقبلكم من الحوائج وانواع البلاء بِالصَّبْرِ بانتظار النجح والفرح توكّلا على اللّه وحبس النفس عن الجزع فانه لا يغنى من القدر شيئا وحبس النفس عن المعاصي وعلى الطاعات فانه تعالى يقول ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ - وقال مجاهد أراد بالصبر الصوم ومنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وذلك ان الصوم يزهده في الدنيا والصلاة يرغبه في الاخرة - وَالصَّلاةِ قيل الواو بمعنى على أى استعينوا بالصبر على الصلاة - قال اللّه تعالى - وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها - أو هى بمعناها وللصلوة مدخلا فى دفع الهموم وإنجاح الحوائج - روى احمد وأبو داود وابن جرير من حديث عبد العزيز أخي حذيفة بن اليمان انه عليه الصلاة والسلام - كان إذا خرّ به امر فزع إلى الصلاة - ويجوز ان يراد بها الدعاء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من كانت له حاجة إلى اللّه أو إلى أحد من بنى آدم فليتوضأ وليحسن وضوءه ثم ليصل ركعتين ثم يثنى على اللّه ويصلى على النبي صلى اللّه عليه وسلم - وليقل لا الله الا اللّه الحليم الكريم سبحان اللّه رب العرش العظيم الحمد للّه رب العلمين أسئلك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بر والسلامة من كل اثم لا تدع لى ذنبا الا غفرته ولا هما الا فرجته
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 65(1/117)
و لا حاجة هى لك رضا الا قضيتها يا ارحم الراحمين - رواه الترمذي من حديث عبد اللّه بن أبى اوفى - والحاكم في المستدرك نحوه - وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أى الاستعانة بهما - أو جملة ما أمروا بها ونهوا عنها - أو كل واحد من الخصلتين كما في قوله تعالى - كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أى كل واحدة منهما أو الصلاة ان كانت الواو في والصّلوة بمعنى على وقيل خصت الصلاة برد الضمير إليها لعظم شأنها - أو استجماعها ضروبا من الصبر كما قال اللّه تعالى - وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ - ان رضاء الرسول داخل في رضاء اللّه تعالى وقيل معناه استعينوا بالصبر وانه لكبير وبالصلوة وانها لكبيرة أى ثقيلة شاقة فحذف أحدهما اختصارا إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ (45) والخشوع السكون ومنها الخشعة للرملة المتطأمنة - وهو في الصوت والبصر قال اللّه تعالى - خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ - وقال - خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ - والخضوع اللين والانقياد - ولذلك يقال الخشوع بالجوارح والخضوع بالقلب - والمراد المؤمنين الساكنين إلى طاعة اللّه تعالى الخائفين المتواضعين - .(1/118)
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أى يتوقعون لقاء اللّه أو يستيقنون به - قال البغوي - الظن من الاضداد يكون شكا ويقينا يعنى مشترك بينهما - أو يقال اطلق على اليقين مجازا لما شابهه في الرجحان قلت وفي إيراد لفظ الظن هاهنا دون العلم واليقين اشعار بان من كان غالب ظنه انه ملاقى اللّه وان اللّه تعالى مجازيه على اعماله فالعقل الصحيح يهوّن عليه الصبر على الطاعة وعن المعصية مخافة الضرر الا ترى ان من كان غالب ظنه ان ماء القدح مسموم فهو يصبر على مشقة العطش ولا يشرب من ذلك الماء وكذا من كان غالب ظنه ان ما في القدح يورث الشفاء والقوة فهو يصبر على مرارته ويشربه - فكيف من كان يؤمن باللّه وبجزائه فانه يستحقر المشقة نظرا إلى تحصيل رضائه وعظم جزائه بل يستلذ بامتثال امر المحبوب وتوقع لقائه ومن ثم قال عليه الصلاة والسلام جعلت قرة عينى في الصلاة - أخرجه الحاكم والنسائي - أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أى معاينوه يرونه في الاخرة - والصلاة معراج المؤمن تكون للعبد وسيلة إلى رؤية اللّه قال اللّه تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وعن ربيعة بن كعب قال كنت أبيت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتيته بوضوئه وحاجته فقال لى سل فقلت أسئلك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك قال هو ذاك قال فاعنّى على نفسك بكثرة السجود - رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - اقرب ما يكون العبد إلى الرب وهو ساجد -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 66
رواه مسلم وقيل المراد باللقاء الصيرورة والحشر إليه - . وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) فيجازيهم بأعمالهم - وملاحظة الرجوع إلى اللّه يهون الصبر عليه ولذلك سن للمصاب قول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ - .(1/119)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرره للتأكيد وتذكير التفضيل وهو أجل النعم وربطه بالوعيد الشديد وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ يريد تفضيل ابائهم الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام وبعده ما لم يغيروا دينهم - فضلهم اللّه تعالى بما سنح عليهم من النبوة والكتاب والايمان والعلم والأعمال الصالحة والملك والعدالة ومناصرة الأنبياء وانما عد نعمة عليهم لان فضل الآباء يوجب شرفا في الأبناء - وفيه حثهم على تحصيل ذلك الفضل إذ لم يكن فضلهم الا باتباع الوحى والأنبياء والكتاب ويمكنهم تحصيله باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم والقران وفيه اتباع موسى والتورية عَلَى الْعالَمِينَ (47) أى على عالمى زمانهم كذا أخرج ابن جرير عن مجاهد وابى العالية وقتادة - أو على من لم يستجمع ذلك الفضائل من العالمين.(1/120)
وَ اتَّقُوا يَوْماً أى ما فيه من العذاب لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ كافرة - للايات والأحاديث الدالة على الشفاعة لاهل الكبائر وعليه انعقد الإجماع شَيْئاً من الحقوق فنصبه على المفعولية أو لا تجزى شيئا من الجزاء فنصبه على المصدرية - وقيل لا تغنى شيئا من الإغناء وقيل لا تكفى شيئا من الشدائد - والعائد محذوف تقديره لا تجزى فيه ومن لم يجوز حذف العائد قال اتسع فيه فحذف الجار وأجري مجرى المفعول به ثم حذف وَلا يُقْبَلُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالتاء المنقوطة من فوق والباقون بالياء فان الفاعل مؤنث غير حقيقى يجوز فيه التذكير والتأنيث مِنْها أى من العاصية أو من الشافعة شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أى فدية وقيل البدل وأصله التسوية وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) يمنعون من عذاب اللّه تعالى - والضمير لما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة فى سياق النفي الدالة على العموم والكثرة - أريد بالآية نفى ان يدفع العذاب عن أحد من الكفار أحد بوجه من الوجوه - فانه اما ان يكون قهرا فهو النصرة - أو بلا قهر مجانا وهو الشفاعة - أو بأداء ما كان عليه وهو ان يجزى عنه أو بغيره وهو ان يعطى عنه عدلا - والآية نزلت ردا لما كانت اليهود تزعم ان آباءهم يشفعهم - .
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ - أى اسلافكم تفصيل لما أجمله من النعم عطف على نعمتى عطف الخاص
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 67(1/121)
على العام وفيه منة عليهم حيث نجوا بنجاتهم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أى اتباعه واهل دينه أصله أهل بدليل اهيل خص بالاضافة إلى العظماء من الأنبياء والملوك - وفرعون لقب لملك العمالقة وكان فرعون موسى وليد بن مصعب بن الريان عمّر اكثر من اربعمائة سنة - وفرعون يوسف ريان وكان بينهما اكثر من اربعمائة سنة - يَسُومُونَكُمْ يكلفونكم ويذيقونكم - واصل السوم الذهاب في طلب الشيء وقيل معناه يصرفونكم في اصناف العذاب كالابل السائمة في البرية وذلك ان فرعون جعل بنى إسرائيل أصنافا في الأعمال يبنون ويحرثون - ويحملون الأثقال - ويؤدون الجزية والنساء يغزلن لهم سُوءَ الْعَذابِ أى أشده وسواه وهو مصدر ساء يسوء - مفعول ليسومونكم والجملة حال من الضمير في نجينكم - أو من ال فرعون - أو منهما جميعا يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ بيان ليسومونكم ولذلك لم يذكر بالعطف بل على البدل وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ - قال البغوي وذلك ان فرعون راى في منامه كانّ نارا أقبلت من بيت المقدس وأحاطت بمصروا حرقت لكل قبطى بها ولم يتعرض لبنى إسرائيل فهاله ذلك وسال الكهنة عن رؤياه فقالوا يولد في بنى إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك - كذا أخرج ابن جرير عن السدى - قال البغوي - فامر فرعون بقتل كل غلام يولد في بنى إسرائيل وجمع القوابل فقال لهن لا يولد غلام من بنى إسرائيل الا قتل ولا جارية الا تركت حتى قيل انه قتل في طلب موسى اثنى عشر الف صبى - وقال وهب - بلغني انه ذبح تسعون الفا « 1 » - ثم اسرع الموت في مشيخة بنى إسرائيل فدخل رءوس القبط على فرعون وقالوا ان الموت قد وقع في بنى إسرائيل فيذبح صغارهم ويموت كبارهم فيوشك ان يقع العمل علينا فامر فرعون ان يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها وموسى في السنة التي يذبحون فيها وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ البلاء معناه الاختبار فتارة تكون بالشدة والعذاب يختبر(1/122)
مصابرتهم - وتارة بالنعمة والرخاء يختبر به شكرهم قال اللّه تعالى - وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً - فالواجب الشكر عند الرخاء والصبر عند الشدة - والمشار إليه بذلكم اما انجاؤهم من ال فرعون فالمراد به الثاني - واما سومهم سوء العذاب فالمراد به الأول مِنْ رَبِّكُمْ بتسليط فرعون أو ببعث موسى وتوفيقه تخليصكم عَظِيمٌ (49) صفة بلاء - .
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فلقناه بدخولكم - وقيل معناه فرقنا لكم وذلك انه لما دنا هلاك فرعون وامر اللّه موسى ان يسرى ببني إسرائيل امر موسى قومه ان يسيروا بالليل ويسرّجوا
_________
(1) فى الأصل تسعون الف 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 68(1/123)
فى بيوتهم - واخرج اللّه كل ولد زنا في القبط من بنى إسرائيل إليهم وبالعكس والقى الموت على القبط واشتغلوا بدفنهم حتى أصبحوا وطلعت الشمس وخرج موسى في ستمائة الف أو اكثر - وكانوا دخلوا مصر مع يعقوب اثنين وسبعين إنسانا - فلما أرادوا السير في الليل ضرب عليهم التيه فلم يدراين يذهبون - فسال مشيخة بنى إسرائيل فقالوا ان يوسف لما حضره الموت أخذ على اخوته عهدا ان لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم فسالهم عن قبره فلم يعلموا فنادى موسى انشد اللّه كل من يعلم موضع قبر يوسف الا أخبرني به ومن لم يعلم به فصمت أذناه عن قولى - فلم يسمع الا عجوز فقالت لو دللت أ تعطيني كل ما سالتك فابى وقال حتى اسئل ربى فامره اللّه - فقالت لا أستطيع المشي فاخرجنى من مصر وفي الاخرة لا تنزل في غرفة من الجنة الا نزلتها معك قال نعم - قالت « 1 » انه في جوف النيل فدما اللّه فحسر عنه فاخرجه في صندوق وحمله ودفنه بالشام - فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدمتهم - وامر فرعون قومه ان لا يخرجوا في طلب بنى إسرائيل حتى يصيح الديك فو اللّه ما صاح ديك تلك الليلة - فخرج فرعون وعلى مقدمته هامان في الف الف وسبعمائة الف - وكان فيهم سبعون الفا من دهم - فسارت بنوا إسرائيل إلى البحر والماء في غاية الزيادة - فإذا هم بفرعون حين أشرقت فتحيروا - فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ موسى كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فاوحى اللّه إليه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وظهر فيه اثنا عشر طريقا بعدد الأسباط وارتفع الماء بين كل طريقين كالجبل وأرسل اللّه الريح والشمس على قعر البحر حتى يبس الطرق وخاضت كل سبط بنى اسراءيل في طريق ولا يرى بعضهم بعضا بحجاب الماء فخافوا على إخوانهم بالغرق - فاشتبك الماء بإذن اللّه حتى يرى بعضهم من بعض ويسمع(1/124)
فعبروا سالمين. فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ - وذلك ان فرعون لما راى البحر منفلقا قال هذا من هيبتى حتى أدرك عبيدى الآبقين - وكان فرعون على حصان أدهم ولم يكن في خيل فرعون أنثى فجاء جبرئيل على فرس أنثى فاقتحم البحر فلما اشتم أدهم فرعون ريحها اقتحم البحر في اثرها وهم لا يرونه ولا يملك فرعون من امره شيئا واقتحم الخيول جملة خلفه في البحر وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يسوقهم ويقول الحقوا بأصحابكم حتى خاضوا كلهم وكان بين طرفى البحر اربعة فراسخ وهو بحر قلزم بحر من بحار فارس
_________
(1) فى الأصل قال 13
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 69
قال قتادة بحر من وراء مصر يقال له اساف وذلك بمراء من بنى إسرائيل فذالك قوله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) إلى مصارعهم - .(1/125)
و إذ وعدنا - قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وعدنا ووعدنكم حيث وقع بلا الف والباقون واعدنا بالألف ومعناهما واحد نحو عاقبت اللص - وقال الزجاج كان من اللّه الأمر ومن موسى القبول ومن ثم ذكر المواعدة - وقيل وعد اللّه الوحى ووعده موسى « 1 » المجيء إلى الطور مُوسى قرأ حمزة والكسائي بالامالة وكذا يميلان كل ما كان من الأسماء والافعال من ذوات الياء نحو موسى وعيسى ويحيى والموتى - وطوبى - وأخرى - وكسالى وأسارى - ويتمى وفرادى ونصرى - والأيامى والحوايا وبشرى وذكرى - وضيزى وشبهها مما الفه للتانيث وكذلك العمى والهدى والضّحى والرّؤيا - ومأويه وماويكم - ومثويه - ومثويكم وما كان مثله من المقصور وكذلك الأدنى - وازكى واولى وأعلى وشبهها من الصفات وكذا نحو اتى وسعى وزكّى - فسوّى - ويخفى ويرضى - ويهوى وشبهها من الافعال مما الفه منقلبة من ياء وكذلك اما لا انّى التي بمعنى كيف نحو انّى شئتم وانّى لك - وكذلك متى وبلى وعسى حيث كان وكذلك ما أشبهه مما هو مرسوم بالياء ما خلا حمس وهى حتّى ولدى وعلى والى وما زكى فانها مفتوحات اجماعا - وكذلك مفتوح بالإجماع جميع ذوات الواو من الأسماء والافعال نحو الصّفا وسنا برقه وبدا ودنا وعفا وعلا وشبهها ما لم يقع بين ذوات الياء فى سورة اواخر أيها ياء أو تلحقه زيادة نحو تدعى - وتبلى - فمن اعتدى ومن استعلى وانجيكم ونجّينا ونجّيكم - وزكّيها وشبهها فانها بالزيادة التحقت بذوات الياء - وقرا أبو عمرو بالامالة مما تقدم ما كان فيها راء بعدها ياء وما كان راس اية في سورة أو اخر أيها على ياء هاء والف أو كان على وزن فعلى بفتح الفاء « 2 » أو الكسر أو الضم ولم يكن فيه راء قراها بين اللفظين وما عدا ذلك بالفتح - وقرا ورش جميع ذلك بين بين الا ما كان في سورة أو اخر أيها على هاء والف فانه أخلص الفتح فيه - وامال أبو بكر رمى في الأنفال وأعمى في(1/126)
الموضعين في سبحان وتابعه أبو عمرو على امالة أعمى في الأول لا غير وفتح ما عدا ذلك وامال حفص مجريها في هود لا غير - وروى عن أبى عمرو يويلتى يحسرتى وانّى إذا كان استفهاما بين اللفظين ويا سفى بالفتح - وكلما ذهب الالف الممال لاجتماع الساكنين وصلا لا يمال وصلا ويمال وقفا نحو هدى للمتّقين - وموسى الكتب فعند الوقف على هدى
_________
(1) في الأصل الموسى
(2) فى الأصل بفتح العين وهو سبق قلم أو من الناسخ - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 70(1/127)
و موسى يمال لا وصلا - وروى اليزيدي عن أبى عمرو امالة الراء مع الساكن وصلا نحو يرى ويرى الذين أمنوا - والنّصرى المسيح - والكبرى اذهب - والقرى الّتى وشبهها - وتفرد الكسائي بامالة أحيا - فاحيا به - وأحياها حيث وقع وخطيكم - وخطيهم وخطينا - ورؤيا ورءياى - ومرضات اللّه ومرضاتى حيث وقع وحقّ تقاته في ال عمران قد هدان في الانعام ومن عصانى في ابراهيم - وما أنسانيه في الكهف وآتاني الكتب وأوصاني بالصّلوة في مريم ممّا آتان اللّه في النمل - ومحياهم في الجاثية - دحيها فى النازعت - تلها وطحيها في والشمس وسجى في والضحى واتفق الكسائي مع حمزة في امالة يحيى - ولا يحيى - وأمات وأحيا إذا كان منسوقا بالواو ولا غير والدّنيا والعليا والحوايا - والضّحى وضحيها والرّبوا وانّنى هدينى وآتاني في هود ولو انّ اللّه هدينى - ومنهم تقة - ومزجية واناه وتابعهما هشام في امالة اناه فقط وفتح الباقون جميع ذلك - أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثلثون من ذى القعدة وعشر من ذى الحج - لما عادوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد اللّه موسى ان ينزل عليه التورية فقال موسى انّى ذاهب إلى ربّى وواعدهم أربعين ليلة واستخلف هارون وجاء جبرئيل على فرس الحيوة لا يصيب شيئا الا احيى ليذهب بموسى إلى ربه فلما راى السامري موضع الفرس يخضر وكان رجلا صائغا من أهل باجرمى وقيل من أهل كرمان وكان منافقا اظهر الإسلام وكان من قوم يعبدون البقر أخذ قبضة من تربة حافر فرس جبرئيل وكان بنوا إسرائيل استعاروا حليا كثيرة من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لعلة عرس لهم فاهلك اللّه فرعون وبقيت الحلي عندهم - فلما فصل موسى قال السامري ان الحلي التي استعرتم من قوم فرعون غنيمة لا تحل لكم فاحفروا حفرة وادفنوا فيها حتى يرجع موسى فيرى فيها رأيه - وقال السدى أمرهم بها هرون - فاخذ السامري وصاغها عجلا في ثلثة ايام والقى فيها القبضة التي أخذها من(1/128)
تراب حافر فرس جبرئيل فخرجت عجلا من ذهب مرصعا بالجواهر يخور خورة ويمشى - فقال السامري هذا إل هكم وإله موسى فنسى - وكان « 1 » بنوا إسرائيل عدوا اليوم مع الليلة يومين فلما مضت عشرون يوما ولم يرجع موسى قالوا مات فوقعوا في الفتنة بروية العجل وأضلهم السامري - وقيل كان موسى وعد لهم ثلثين ليلة ثم زيدت العشرة وفيها فتنتهم فعبدوا العجل كلهم الا هارون مع اثنى عشر الف رجل - ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها - اظهر ابن كثير وحفص الذال من أخذت واتّخذت وما ورويس بخلاف عنه - أبو محمد
_________
(1) فى الأصل وكانت.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 71
كان من لفظه حيث وقع والباقون يدغمونها مِنْ بَعْدِهِ أى موسى يعنى بعد ذهابه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ضارون أنفسكم واضعون العبادة في غير موضعه.
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم - والعفو محو الجريمة من عفا إذا درس - مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الاتخاذ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) لكى تشكرون - قيل الشكر هو الطاعة ويكون بالقلب واللسان والجوارح قال الحسن - شكر النعمة ذكرها - وقال سيد الطائفة جنيد شكر النعمة صرفها في رضاء المنعم - وقيل حقيقة الشكر العجز عن الشكر - قال البغوي حكى عن موسى قال - الهى أنعمت علىّ النعم السوابغ وأمرتني بالشكر وانما شكرى إياك نعمة منك - قال اللّه تعالى يا موسى تعلمت العلم الذي لا يفوقه علم حسبى من عبدى ان يعلم انّ ما به من نعمة فهو منى - وقال داود سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.(1/129)
وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى التورية. وَالْفُرْقانَ قيل هى التورية ذكرها باسمين وقال الكسائي الفرقان نعت الكتاب والواو زائدة يعنى الفارق بين الحق والباطل وقيل أراد بالفرقان المعجزات الفارقة بين المحق والمبطل - أو الشريعة الفارقة بين الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) بتدبر الكتاب - .
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ الذين عبدوا العجل يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أضررتم أنفسكم بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا فارجعوا إِلى بارِئِكُمْ أى من خلقكم بريّا من التفاوت وميّز بعضكم عن بعض بصور وهيات مختلفة - واصل التركيب لخلوص الشيء من غيره اما على سبيل التقضي نحو برىء المريض والمديون أو الإنشاء نحو برا للّه آدم من الطين قرأ أبو عمرو بارئكم في الحرفين ويأمركم - ويأمرهم - وينصركم - ويشعركم باختلاس حركة الاعراب وقيل بالإسكان فيصير الهمزة ياء « 1 » على مذهبه وقرا الباقون بتمام الحركة وامال الكسائي بارئكم بالحرفين والبارئ المصوّر - وسارعوا - ويسارعون ويسارع حيث وقع والجار في الموضعين وجبّرين في الموضعين والجوار في الشورى والرحمن وكورت ومن انصارى إلى اللّه في المكانين وكمشكوة في النور وقرا ورش الجار والجبّارين بين بين - فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أى ليقتل البريء منكم المجرم تماما لتوبتكم - ويجوز ان يكون الفاء لتفسير التوبة يعنى فاقتلوا أنفسكم هذه توبتكم
_________
(1) والمختار بل الصحيح عدم الابدال واليه ذهب المحققون جميعا - أبو محمد [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 72(1/130)
ذلِكُمْ أى القتل خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ لأنه طهرة من الشرك ووصلة إلى الحيوة الابدية والبهجة السرمدية - فلما أمرهم موسى بالقتل قالوا نصبر بامر اللّه - فجلسوا في الافنية محتبين وقيل من حل حبوته أو مد طرفه إلى قاتله - أو اتقاه بيد أو رجل فهو ملعون مردود توبته وسلت القوم عليهم الخناجر فكان الرجل يرى ابنه وأباه وأخاه وقريبه وصديقه فلم يمكنهم المضي لامر اللّه تعالى قالوا يا موسى كيف نفعل فارسل اللّه ضبابة يعنى بخارا متصاعدا من الأرض أو سحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضا وكانوا يقتلون إلى المساء فلما كثر القتل دعا موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا يا رب هلكت بنوا إسرائيل فكشف اللّه السحابة وأمرهم ان يكفوا عن القتل فتكشف عن ألوف من القتلى - روى عن على انه قال كان عدد قتلى سبعين الفا فاشتد ذلك على موسى فاوحى اللّه تعالى إليه اما يرضيك ان ادخل القاتل والمقتول في الجنة وكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي مكفرا عنه ذنوبه فَتابَ عَلَيْكُمْ فتجاوز عنكم متعلق بمحذوف - فان كان من كلام موسى فتقديره ان فعلتم القتل فقد تاب اللّه عليكم - والا فتقديره على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم - إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ القابل للتوبة يكثر قبولها أو يكثر توفيق التوبة الرَّحِيمُ (54).(1/131)
وَ إِذْ قُلْتُمْ حين امر اللّه موسى ان يأتيه في ناس من بنى إسرائيل معتذرين إليه من عبادة العجل فاختار سبعين رجلا من خيارهم - وقال لهم صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ففعلوا فخرج بهم إلى طور سيناء فقالوا له اطلب لنا نسمع كلام ربنا - فلما دنا موسى من الجبل وقع عليهم عمود الغمام وتغشى الجبل كله فدخل في الغمام وقال لهم حين دخلوا في الغمام خروا سجدا - وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد ان ينظر إليه فضرب دونهم الحجاب فسمعوه وهو يكلم بأمره وينهاه - وأسمعهم اللّه انى انا اللّه لا اله الا انا ذو بكة أخرجتكم من ارض مصر بيد شديدة فاعبدونى ولا تعبدوا غيرى - فلما فرغ موسى وانكشف الغمام واقبل إليهم - قالوا يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أى لاجل قولك - أو لن نقر لك ان اللّه الذي اعطاك التورية وكلمك أو انك نبى حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً - عيانا وهى في الأصل مصدر جهرت بالقراءة - استعير للمعاينة ونصبها على المصدر لانها نوع من الرؤية أو الحال من الفاعل أو المفعول به
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 73
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أى الموت وقيل نار جاءت من السماء فاحرقتهم وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ينظر بعضكم إلى بعض ما أصابكم بنفسه أو اثره - فلما هلكوا جعل موسى عليه السلام يبكى ويتضرع ويقول ماذا أقول لبنى إسرائيل وقد أهلكت خيارهم لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا - فلم يزل يناشد ربه حتى أحياهم اللّه تعالى رجلا بعد رجل بعد ما ماتوا يوما وليلة ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون فذلك قوله تعالى.(1/132)
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم والبعث اثارة الشيء من محله مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ قال قتادة أحياهم ليستوفوا بقية اجالهم وأرزاقهم ولو ماتوا بآجالهم لم يبعثوا إلى يوم القيامة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) نعمة البعث أو ما كفرتموه لما رايتم بأس اللّه بالصاعقة - .
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ الغمام من الغم أصله التغطية وهو يغطى وجه الشمس لما لم يكن لهم في التيه كنّ يسترهم فشكوا إلى موسى عليه السلام فارسل اللّه غما ما ابيض رقيقا أطيب من غمام المطر فظلّهم من الشمس - وجعل لهم عمدا من نور تضىء لهم بالليل إذا لم يكن قمر - وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ فى التيه قيل هو الخبز الرقاق - والأكثرون على انه الترنجبين وقال مجاهد هو شىء كالصمغ كان يقع على الأشجار طعمه كالشهد فقالوا يا موسى قتلنا هذا لمن بحلاوته فادع لنا ربك يطعمنا اللحم فانزله اللّه وَالسَّلْوى وهو طائر يشبه السمانى - وقيل هو السمانى بعث اللّه تعالى سحابة فمطرت السمانى في عرض ميل وطول رمح في السماء بعضه على بعض وكان ينزل المن والسلوى كل صباح من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس فيأخذ كل واحد منهم ما يكفيه يومه وليلته فإذا كان يوم الجمعة أخذ ما يكفيه ليومين ولم يكن ينزل يوم السبت وقلنا لهم كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات لذيذات ما رَزَقْناكُمْ ولا تدخروا لغد ففعلوا فقطع اللّه ذلك عنهم وفسد ما ادخروه - روى احمد والشيخان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - لولا بنوا إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخنز اللحم - ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها - وَما ظَلَمُونا فيه اختصار وأصله فظلموا بكفران النعمة وما ظلمونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) باستيجابهم عذابى وقطع مادة الرزق الذي ينزل عليهم بلا مشقة في الدنيا ولا حساب في الاخرة - .(1/133)
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قال ابن عباس هى أريحا وهى قرية الجبارين كان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 74
فيها بقية عاد يقال لهم العمالقه - وقال مجاهد بيت المقدس - وقيل ايليا وقيل الشام فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً - واسعا نصبه على المصدر أو الحال من الواو أى موسعا عليكم - وَادْخُلُوا الْبابَ أى بابا من أبواب القرية وكان لها سبعة أبواب سُجَّداً أى خضعا منحنين قال وهب أى إذا دخلتموه فاسجدوا للّه شكرا - وَقُولُوا حِطَّةٌ أى مسئلتنا حطة أى تحط عنا خطايانا - قال ابن عباس قولوا لا الله الا اللّه لانها تحط الذنوب - نَغْفِرْ لَكُمْ من الغفر وهو الستر قرأ نافع بالياء المضموم وفتح الفاء - وقرا ابن عامر بالتاء المضموم وفي الأعراف قرأ كلاهما. ويعقوب بالتاء المضموم والباقون بالنون المفتوح وكسر الفاء فيهما خَطاياكُمْ أصله خطاىء على وزن ذبايح أبدلت الياء الزائدة همزة واجتمعت الهمزتان فابدلت الثانية ياء عند سيبويه وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء فصار خطاءى - وعلى التقديرين أبدلت الياء الفا وكانت الهمزة بين الفين فابدلت ياء - وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) ثوابا - جعل الامتثال ثوبته للمسىء وزيادة ثواب للمحسنين - أخرجه عن صورة الجواب إيهاما بان الامتثال يفعله المحسن البتة - .(1/134)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ظاهر الآية تدل على ان بنى إسرائيل لم يبدّلوا كلهم ولذا لم يضمروا بل بدّل بعضهم بما أمروا به من التوبة والاستغفار طلب ما يشتهون من اعراض الدنيا - روى البغوي بسنده من طريق البخاري عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قيل لبنى إسرائيل ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ فبدلوا فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعيرة فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا - كرره مبالغة في تقبيح أمرهم واشعارا بان الانزال عليهم بسبب ظلمهم بوضع غير المأمور به في موضعه - وإتيانهم موجب هلاكهم - قلت ولعله لتخصيص ذلك العذاب بالذين ظلموا منهم دون سائرهم رِجْزاً عذابا أخرج ابن جرير عن ابن عباس كل شىء في القرآن من الرجز عنى به العذاب - والرجز فى الأصل ما يعاف عنه ويتنفر عنه الطبع وكذلك الرجس مِنَ السَّماءِ قيل أرسل عليهم طاعون فهلك منهم في ساعة واحدة سبعون الفا - واخرج ابن جرير عن ابن زيد - الطاعون رجز نزل على من كان قبلكم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) أى يخرجون من امر اللّه تعالى - .
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ - لما عطشوا في التيه فسالوا موسى فَقُلْنَا اضْرِبْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 75
بِعَصاكَ(1/135)
و كانت من أس الجنة طولها عشرة اذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة نورا حملها آدم من الجنة فتوارثت الأنبياء حتى وصلت إلى شعيب فاعطاها موسى الْحَجَرَ اللام فيه للعهد قال ابن عباس كان حجرا مربعا مثل رأس الرجل كان يضعه في مخلاته - وقال عطاء - كان للحجر اربعة وجوه لكل وجه ثلث أعين لكل سبط عين - قال سعيد بن جبير هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه ليغتسل ففرّ بثوبه « 1 » ومر به على ملإ من بنى إسرائيل حين رموه بالادرة - فلما وقف أتاه جبرئيل فقال ان اللّه عزّ وجلّ يقول ارفع هذا الحجر فلى فيه قدرة ولك فيه معجزة - فرفعه ووضعه في مخلاته - وقصة فرار الحجر في الصحيحين وليس فيهما انه لما وقف أتاه جبرئيل إلى آخره - واخرج عبد بن حميد عن قتادة انه كان حجرا من الطور يحملونه معهم - قيل كان الحجر من الرخام وقيل كان من الكدان فيه اثنا عشرة حفرة ينبع كل حفرة عين ماء عذب فإذا فرغوا وأراد موسى حمله ضربه بعصاه فيذهب الماء - وكان يسقى كل يوم ستمائة الف - أو كان اللام للجنس كما قال وهب - انه لم يكن حجرا معينا بل كان موسى يضرب اىّ حجر كان فينفجر عيونا - قال عطاء - كان موسى يضربه ثنتى عشرة ضربة فيظهر على موضع كل ضربة مثل ثدى المرأة يعرق منه ثم ينفجر الأنهار ثم يسيل - فَانْفَجَرَتْ متعلق بمحذوف تقديره فان ضربت انفجرت أو فضرب فانفجرت - قال اكثر المفسرين انفجرت - وانبجست بمعنى واحد وقال أبو عمرو انبجست عرقت وانفجرت سالت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً على عدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط مَشْرَبَهُمْ موضع شربهم لا يدخل سبط على غيره في شربه - وقلنا لهم كُلُوا من المن والسلوى وَاشْرَبُوا من الماء فهذا كله مِنْ رِزْقِ اللَّهِ الذي يأتيكم بلا مشقة وَلا تَعْثَوْا العثى أشد الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) حال مؤكدة وقال البيضاوي - انما قيد لان العثى وان غلب في الفساد فانه قد يكون منه ما(1/136)
ليس بفساد كمقابلة الظالم المتعدى بفعله - ومنه ما يتضمن صلاحا راجحا كقتل الخضر الغلام وخرقه السفينة - قلت ويمكن ان يراد بالعثى مطلق التبذير كما في حديث عمر قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كسرى وقيصر يعثيان فيما يعثيان فيه وأنت هكذا يعنى يبذّران المال تبذيرا - وحينئذ قوله تعالى مفسدين تقييد - .
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ يعنى ما رزقوا في التيه
_________
(1) فى الأصل ثوبه -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 76(1/137)
من المن والسلوى وأرادوا بالواحد ما لا يتبدل ولا يتغير ألوانه فَادْعُ لَنا رَبَّكَ سله يُخْرِجْ لَنا مجزوم في جواب ادع مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من للتبعيض وأسند الفعل إلى الأرض مجازا اقامة للقابل مقام الفاعل مِنْ بَقْلِها وهو ما أنبته الأرض من الخضر وَقِثَّائِها وَفُومِها قال ابن عباس الفوم الخبز وقال عطاء الحنطة وَعَدَسِها وَبَصَلِها الظرف بيان وقع موقع الحال وقيل بدل باعادة الجار قالَ لهم اللّه أو موسى أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى اخس واردا - واصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد في الشرف والرفعة بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعنى المن والسلوى فانه أفضل واشرف لكونه بلا تعب في الدنيا وحساب في الاخرة وانفع للبدن فان أبيتم الا ذلك فانزلوا من التيه واهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار وقال الضحاك هو مصر فرعون وانصرف لسكون أوسطه - فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ أى أحيطت بهم احاطة القبة بمن ضربت عليه أو الصقت بهم من ضرب الطين على الحائط مجازاة لهم على كفران النعمة الذِّلَّةُ الهوان وَالْمَسْكَنَةُ أى الفقر فانه يقعد المرء عن الحركة ويسكنه فترى اليهود وان كانوا مياسير كانهم فقراء بلباس الذلة وقيل هى فقر القلب والحرص على المال وَباؤُ رجعوا ولا يستعمل الا في الشر بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ الغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ بالإنجيل والقران وآيات التورية التي في نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ قرأ نافع بهمزة النّبيئين - والنّبىء - والأنبياء - والنّبوءة - وترك قالون الهمز في الأحزاب للنّبىّ ان أراد - وبيوت النّبىّ الّا ان يؤذن في الوصل خاصة بناء على أصله في الهمزتين المكسورتين - وإذا كان مهموزا فمعناه المخبر من أنبأ ينبئ ونبأ ينبىء والباقون بترك الهمز - فحينئذ ترك(1/138)
الهمزة اما ان يكون للتخفيف لكثرة الاستعمال أو يكون معناه الرفيع من النّبوة وهى المكان المرتفع بِغَيْرِ الْحَقِّ - يعنى في اعتقادهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز القتل وانما حملهم عليه اتباع الهوى وحب الدنيا - وانما قلت ذلك لان قتل النبي لا يكون الا بغير الحق روى ان اليهود قتلت سبعين نبيا في يوم واحد أول النهار ذلِكَ أى الكفر والقتل وانما جاز الاشارة إلى اثنين بالمفرد بتأويل ما ذكر والذي حسّن ذلك ان تثنية المضمرات والمبهمات وجمعها ليست على الحقيقة ولذلك جاز الذي بمعنى الجمع بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) يعنى كثرة المعاصي والاعتداء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 77
فيه افضاهم إلى الكفر وقتل الأنبياء وقيل كرر الاشارة للدلالة على ان لحوق الغضب بهم كما هو بسبب الكفر كذلك بالمعاصي واعتداء حدود اللّه - .(1/139)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بألسنتهم أعم من ان يؤمنوا بقلوبهم أو لم يؤمنوا فدخل فيهم المنافقون وَالَّذِينَ هادُوا أى تهوّدوا - يقال هاد إذا دخل في اليهودية ويهود اما عربى من هاد بمعنى تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل - أو لقولهم انّا هدنا إليك واما معرّب يهودا سموا بذلك اسم اكبر أولاد يعقوب عليه السلام وَالنَّصارى جمع نصران كندمان والياء في النصراني للمبالغة كما في أحمري سموا بذلك لانهم نصروا المسيح أو لانهم نزلوا مع المسيح في قرية يقال لها ناصرة أو نصران - وَالصَّابِئِينَ قرأ أهل المدينة بغير الهمزة والباقون بالهمزة وأصله الخروج يقال صبا فلان إذا خرج من دين إلى اخر - وصبا ناب البعير إذا خرج - وهم خرجوا من كل دين - قال عمرو ابن عباس هم قوم من أهل الكتاب - فقال عمر يحل ذبائحهم وقال ابن عباس لا يحل ذبائحهم ولا مناكحتهم - وقال مجاهدهم قوم نحو الشام بين اليهود والمجوس من أهل الكتاب - وقال الكلبي هم بين اليهود والنصارى - وقال قتادة ...(1/140)
هم قوم يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلّون إلى الكعبة أخذ ومن كل دين شيئا مَنْ آمَنَ منهم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مع محمد صلى اللّه عليه وسلم بالقلب واللسان - وقيل المراد بالذين أمنوا المخلصين من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم - وقيل هم المؤمنون من الأمم الماضية - وقيل هم الذين أمنوا قبل البعث وهم طلاب الدين مثل حبيب النجار - وقس بن ساعدة - وزيد بن عمرو بن نفيل - وورقة بن نوفل - والبراء الشنّى - وابى ذر الغفاري وسلمان الفارسي - وبحيرا الراهب - ووفد النجاشي فمنهم من أدرك النبي صلى اللّه عليه وسلم وتابعه ومنهم من لم يدركه قال الخطيب الّذين أمنوا بإبراهيم عليه السلام وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ الذين كانوا على دين موسى وعيسى قبل النسخ - وحينئذ المراد بمن أمن أى مات منهم على الايمان - قلت ويمكن ان يكون من أمن اشارة إلى الذين « 1 » كمل ايمانهم بتصفية القلب وتزكية النفس والقالب وهم الصوفية - كما في قوله عليه السلام ... لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين - رواه الشيخان واحمد والنسائي وابن ماجة عن انس
_________
(1) لكن يلفو حينئذ ذكر العمل الصالح لان كمال الايمان بتصفية لقلب وتزكية النفس والقالب ليس وراءه مرتبة يعز عنها بالعمل الصالح - قلت العمل الصالح لازم لتصفية القلب وتزكية النفس والقالب ومترتب عليه لاغيره قال عليه السلام ان في جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله فجاز العطف وذكر العمل الصالح - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 78(1/141)
مرفوعا - وحديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه. رواه الشيخان واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن انس - وحديث لا يبلغ العبد حقيقة الايمان - حتى يحزن من لسانه - رواه الطبراني وصححه - قال البغوي ويجوز ان يكون الواو مضمرة أى ومن أمن بعدك - وَعَمِلَ صالِحاً على حسب امر اللّه تعالى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الذي وعد لهم يعنى الجنة لجميع المؤمنين ومراتب القرب والتسنيم وعينا يشرب بها المقربون الكاملين وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) حين يخاف الكفار من العقاب ويحزن المقصرون على تضيع العمر وتفويت الدرجات ومن مبتدأ خبره فلهم أجرهم والجملة خبر انّ - أو بدل من اسم ان وخبره فلهم أجرهم - والفاء لتضمن المسند إليه معنى الشرط ومنع سيبويه دخولها في خبر ان - ورد بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ.(1/142)
وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ باتباع موسى والعمل بالتورية وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وهو الجبل بالسريانية - قال البغوي وذلك ان اللّه تعالى انزل التورية على موسى عليه السلام فامر موسى قومه ان يقبلوها ويعملو باحكامها فابوا ان يقبلوها للاصار والاغلال التي فيها وكانت شريعة ثقيلة فامر اللّه تعالى جبرئيل فقلع جبلا على قدر عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ فرفعه فوق رءوسهم مقدار قامة الرجل كالظلة وقال لهم ان لم تقبلوا التورية أرسلت هذا الجيل عليكم - كذا أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس وقال عطاء عن ابن عباس رفع اللّه فوق رءوسهم الطور وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر الملح من خلقهم انتهى - وقلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من التورية بِقُوَّةٍ بجد واجتهاد وَاذْكُرُوا وادرسوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) لكى تتقوا المعاصي - أو رجاء منكم ان تكونوا متقين - أو لكى تتقوا من الهلاك في الدنيا والعذاب في الاخرة - فلما راوا ان لا مهرب قبلوا وسجدوا وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود - فصارت سنة في اليهود يسجدون على انصاف وجوههم ويقولون بهذا السجود رفع العذاب عنا.
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ، يعنى بالامهال وتأخير العذاب - ويمكن ان يراد لو لا فضل اللّه عليكم ببعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم حيث جعله رحمة للعالمين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 79
فبوجوده صلى اللّه عليه وسلم أمهل الكفار واخر عنهم العذاب ورفع عنهم الخسف والمسخ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) المغبونين المعذبين في الحال كما كنتم معذبين الهالكين بوقوع الطور لو لم تقبلوا حكم اللّه حينئذ.(1/143)
وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام موطية للقسم - والسبت في الأصل القطع لان اللّه تعالى قطع فيها الخلق - أو لان اليهود أمروا بقطع الأعمال فيه والتجرد للعبادة والقصة انهم كانوا زمن داود عليه السلام نحوا من سبعين « 1 » الفا بأرض حاضر البحر يقال لها ايلة حرم اللّه عليهم صيد السمك يوم السبت وابتلاهم بانه إذا دخل السبت لم يبق حوت في البحر الا اجتمع هناك يخرجون خراطيمهم من الماء حتى لا يرى الماء من كثرتها - ويوم لا يسبتون لا تأتيهم فاحتالوا للصيد وحفروا حياضا وشرعوا إليها الجداول فإذا كان يوم السبت اقبل الموج بالحيتان إلى الحياض فلا يقدرن على الخروج منها لبعد عمقها وقلة مائها فيصطادون يوم الأحد - وقيل كانوا ينصبون الحبائل والشصوص يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد - وصار أهل القرية ثلثة اصناف صنف امسك ونهى وصنف امسك ولم ينه وصنف انتهك الحرمة - وكان الناهون اثنى عشر الفا فلما أبى المجرمون قبول نصحهم لعنهم داود وغضب اللّه عليهم فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا امر تكوين قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) باعدين مطرودين.
فَجَعَلْناها أى تلك العقوبة نَكالًا عبرة تنكل أى تمنع المعتبر ومنه النكل للقيد لِما بَيْنَ يَدَيْها أى لمعاصريهم وَما خَلْفَها أى من بعدهم فما بمعنى من أو لاجل ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر - وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره فجعلناها وما خلفها أى ما أعد لهم من العذاب في الاخرة نكالا لمّا بين يديها من ذنوبهم وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) للمؤمنين من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم.(1/144)
وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أول هذه القصة قوله تعالى وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها - وانما قدمت عليه ليدل بالاستقلال على نوع اخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال - والقصة انه كان في بنى إسرائيل رجل غنىّ اسمه عاميل وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال له موته قتله ليرثه وحمله
_________
(1) فى الأصل الف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 80(1/145)
الى قرية اخرى وألقاه بفنائهم - ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس يدّعى عليهم القتل - فسالهم موسى عليه السلام فجحدوا فاشتبه الأمر على موسى فسالوه ليبين لهم بدعائه فقال موسى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً - مأخوذ من البقر بمعنى الشق وهى تبقر الأرض للحراثة قالُوا استبعادا لما قاله واستخفافا به أَتَتَّخِذُنا هُزُواً مصدر بمعنى المفعول أى مهزوّا بنا - أو حمل مبالغة أو بحذف المضاف أى أهل هزو - قرأ حفص هزوا - وكفوا بضم الزاء والفاء من غير همز - وحمزة بإسكان الزاء والفاء « 1 » وبالهمز وصلا فإذا وقف أبدل الهمزة واوا على أصله « 2 » والباقون بالضم والهمزة - قالَ موسى أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) فان الاستهزاء والجواب لا على وفق السؤال من عادة الجهال - نفى عن نفسه ما رمى به على طريقة البرهان واخرج فى صورة الاستعاذة استعظاما له - فلما علم القوم ان ذبح البقرة عزم من اللّه عز وجل وكان حصول المقصود من ذبح البقرة مستبعدا عندهم وزعموا انها بقرة عظيمة الشأن فاستوصفوها ولم يكن ذلك الا لفرط حماقتهم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ذبحوا أى بقرة أرادوا لاجزتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم - رواه سعيد بن منصور عن عكرمة مرسلا وأخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس موقوفا وكان للّه تعالى فيه حكمة - وذلك انه كان في بنى إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وكان له عجل اتى بها إلى غيضة وقال اللهم انى استودعك هذه العجل لابنى حتى يكبر ومات الرجل فصارت العجلة في الغيضة عوانا وكانت تهرب من كل من راها - فلما كبر الابن كان بارا بوالدته وكان يقسّم الليلة ثلاثة أثلاث يصلى ثلثا وينام ثلثا ويجلس عند رأس امه ثلثا فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتى به إلى السوق فيبيعه بما شاء اللّه ثم يتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطى والدته ثلثه فقالت له امه يوما ان(1/146)
أباك ورثك عجلة استودعها اللّه في غيضة كذا فانطلق فادع اللّه ابراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السلام ان يردها عليك وعلامتها انك إذا نظرت إليها تخيل إليك ان شعاع الشمس يخرج من جلدها - وكانت تلك البقرة تسمّى المذهّبة لحسنها وصفرتها - فاتى الفتى الغيضة فراها ترعى فصاح بها وقال اعزم عليك باله ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب - فاقبلت تسعى حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها - فتكلمت بإذن اللّه تعالى وقالت أيها الفتى البار
_________
(1) قرأ يعقوب أيضا كفؤا بإسكان الفاء - أبو محمد
(2) اصل الحمزة في أمثاله النقل وإسقاط الهمزة - أبو محمد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 81(1/147)
بوالدته اركبنى فان ذلك أهون عليك - فقال الفتى ان أمي لم تأمرنى ولكن قالت خذ بعنقها - فقالت البقرة باله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر علىّ ابدا فانطلق فانك لو أمرت الجبل ان ينقلع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بامك - فسار الفتى إلى امه فقالت له انك فقير لا مال لك وشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة - قال بكم أبيعها - قالت - بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتى - وكانت ثمن البقرة ثلثة دنانير - فانطلق بها إلى السوق فبعث اللّه ملكا ليرى خلقه قدرته وليختبر كيف بره بامه وكان به خبيرا فقال الملك - بكم تبيع هذه البقرة قال بثلاثة دنانير واشترط عليك رضا والدتي - فقال له الملك خذ ستة دنانير ولا تستأمر والدتك - فقال الفتى لو أعطيتني وزنها ذهبا لم أخذ الا برضا أمي فردها إلى امه وأخبرها فقالت ارجع فبعها بستة دنانير على رضى منى - فانطلق بها إلى السوق واتى الملك فقال استأمرت أمك - فقال الفتى انها أمرتني ان لا أنقصها من ستة على ان استأمرها - فقال الملك انى أعطيك اثنى عشر على ان لا تستأمرها - فابى الفتى ورجع إلى امه وأخبرها بذلك - فقالت ان الذي يأتيك ملك يأتى في صورة آدمي ليختبرك فإذا اتى فقل له أ تأمرنا ان نبيع هذه البقرة أم لا - ففعل - فقال له الملك اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فان موسى بن عمران عليه السلام يشتريها منكم لقتيل يقتل في بنى إسرائيل فلا تبيعوها الا بملا مسكها دنانير - فامسكوها وقدر اللّه تعالى على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها - فما زالوا يستوصفون حتى وصف لهم تلك مكافاة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة - فذلك قوله تعالى.(1/148)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أى ما حالها - كان حقه ان يقول أى بقرة - أو كيف هى لان السؤال بما يكون عن الجنس غالبا لكنهم لما راوا ظهور القتل بذبح اىّ فرد من جنس البقرة مستبعدا وزعموا انها بائنة عن سائر البقرات بونا بعيدا حتى يكون كأنَّه جنس اخر أجروه مجرى ما لا يعرفون حقيقته - قالَ موسى إِنَّهُ أى الشأن يَقُولُ يعنى اللّه تعالى إِنَّها أى البقرة المأمور بها - فان قيل عود الضمر إليها تدل على ان المراد من أول الأمر كانت بقرة معينة ويلزمه تأخير البيان عن وقت الخطاب - قلت تأخير البيان عن وقت الخطاب جائز - وانما لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة - وأيضا عود الضمير إليها لا يدل على ان المراد كان من أول الأمر ذلك - كيف والمطلقة تدل على الإطلاق ولا دليل هناك على التقييد ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو ذبحوا اىّ بقرة اجزتهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 82(1/149)
لكن يدل على جواز تقييد المطلق المأمور به بعد ما كان جاريا على إطلاقه ويكون التقييد في حكم النسخ ان كان متراخيا كما في ما نحن فيه ويجوز النسخ قبل إتيان المأمور به كما في خمسين صلوة وجبت ليلة الاسراء ويكون تخصيصا ان لم يكن متراخيا كما في قوله تعالى فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ في قراءة الجمهور في كفارة اليمين - وثلثة ايّام متتابعات في قراءة ابن مسعود رضى اللّه عنه - ولذلك ذهب أبو حنيفة إلى ان المطلق لا يجوز حمله على المقيد ان كانتا في حادثتين كما في قوله تعالى تحرير رقبة في كفارة الظهار ورقبة مؤمنة في كفارة القتل - وكذا ان كانا فى حادثة واحدة وكان الإطلاق والتقييد في السبب نحو قوله صلى اللّه عليه وسلم أدوا عن كل حر وعبد وفي حديث اخر أدوا عن كل حر وعبد من المسلمين - فعندنا يجب صدقة الفطر عن عبد مسلم بالحديثين جميعا وعن عبد كافر بالحديث الأول فقط لكن ان كانا في الحكم والحادثة الواحدة « 1 » يحمل المطلق على المقيد البتة إذ لا سبيل إلى الجمع بينهما الا به والمطلق يحتمل التقييد ولذا قلنا بوجوب التتابع في صيام الكفارة في اليمين - روى ابن جرير عن أبى هريرة انه لما نزلت وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال عكاشة بن محصن أكل عام فاعرض عنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أعاد ثلثا فقال لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم - وهذا يدل على ان المطلق يحتمل التقييد بَقَرَةٌ لا فارِضٌ مسنة لا تلد يقال فرضت البقرة فروضا من الفرض بمعنى القطع كانها انقطعت سنها وَلا بِكْرٌ صغيرة لم تلد قط وتركيب البكر للاولية ومنه الباكورة وحذفت الهاء منهما للاختصاص بالإناث كالحائض - عَوانٌ أى نصف قال الأخفش العوان التي نتجت مرارا يقال عونت المرأة إذا زادت على الثلثين - بَيْنَ ذلِكَ أى ما ذكر من الفارض والبكر فانه يضاف إلى متعدد فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) أى ما تؤمرونه بمعنى(1/150)
تؤمرون به أو أمركم أى مأموركم - وفيه حث إلى المسارعة فى الامتثال وتوبيخ على تكرار السؤال.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها - فاقع تأكيد لصفرة لونها مرفوع على الفاعلية قال ابن عباس شديد الصفرة وقال الحسن الصفراء السوداء - وليس بشىء فان الفقوع خلوص الصفرة ولذلك يؤكد به فيقال اصفر فاقع كما يقال اسود حالك - واحمر قانى - واخضر ناضر وابيض تقق للمبالغة تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) إليها « 2 » - أى تعجبهم والسرور لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه.
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ تكرير للسوال الأول واستكشاف
_________
(1) فى الأصل واحدة -
(2) فى الأصل إليهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 83
زائد وقوله إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعتذار عنه أى البقرة الموصوفة بما ذكر كثيرة فاشتبه علينا ما يحصل به مقصودنا ولم يقل تشابهت لتذكير لفظ البقر وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) إلى ذبحها أو إلى القاتل واحتج به أصحابنا على ان الحوادث بارادة اللّه تعالى والمعتزلة والكرامية على حدوث الارادة وأجيب بأن التعليق باعتبار التعلق قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو لم يستثنوا لما بينت لهم اخر الابد - رواه البغوي عن أبى هريرة وأخرجه ابن جرير معضلا.(1/151)
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ أى غير مذللة بالعمل تُثِيرُ الْأَرْضَ تقلبها للزراعة وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ لا زائدة والفعلان صفتا ذلول يعنى لا ذلول مثيرة وساقية مُسَلَّمَةٌ سلمها اللّه تعالى من العيوب أو أهلها من العمل لا شِيَةَ فِيها أى لون يخالف لون جلدها - وهى في الأصل مصدر على وزن عدة من وشى يشى وشيا وشية فهو واش إذا خلط بلونه لونا اخر قال الجزري الوشي النقش قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أى بحقيقة وصف البقرة وتمام بيانها - وطلبوها بكمال أوصافها فلم يجدوها الا مع الفتى فاشتروها بملا مسكها ذهبا فَذَبَحُوها فيه اختصار تقديره فحصلوا البقرة فذبحوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) لكثرة مراجعاتهم أو لاختلافهم فيما بينهم أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل أو لعدم وجدانها بتلك الصفات أو لغلاء ثمنها.
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذا أول القصة فَادَّارَأْتُمْ فِيها أى تدارأتم وتدافعتم يحيل بعضكم على بعض ويدفع عن نفسه وَاللَّهُ مُخْرِجٌ أى مظهر اعمل لأنه حكاية مستقبل كما أعمل باسط ذراعيه لأنه حكاية حال ماضية ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فان القاتل يكتم القتل.
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ
عطف على ادّارءتم وبينهما اعتراض والضمير المنفس بتأويل الشخص بِبَعْضِها
اى ببعض البقرة اىّ بعض كان وفيه اختصار تقديره فضرب فحيى قال ابن عباس - ضربوه بالعظم الذي يلى الغضروف وهو المقتل - وقيل بعجب الذنب وقيل بلسانها وقيل بفخذه الايمن فقام القتيل حيا بإذن اللّه تعالى وأوداجه تشخب دما وقال قتلنى فلان - ثم سقط ميتا فحرم قاتله الميراث وفي الحديث ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة كَذلِكَ
مثل احياء ذلك القتيل يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
خطاب لمن حضر حيوة القتيل أو نزول الآية والظاهر هو الأول بدليل قوله وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
(73)
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 84(1/152)
ايها الحمقاء من بنى إسرائيل فان القادر على احياء نفس قادر على احياء الأنفس كلها - ولعله تعالى انما لم يحيه ابتداء وشرط فيه ما شرط لما جرى عادته تعالى في الدنيا بتعليق الأشياء بالأسباب الظاهرة ولما فيه من التقرب وأداء الواجب ونفع اليتيم والتنبيه على ان من حق الطالب ان يقرب قربة - والمتقرب ينبغى ان يتحرى الأحسن ويغالى في ثمنه أخرج أبو داود عن عمر رضى اللّه عنه انه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار.(1/153)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة والمراد به خروج الرحمة واللين والخير عن قلوبهم ويترتب عليه طول الأمل ونسيان الذكر واتباع الشهوات وكلمة ثم لاستبعاد القسوة بعد موجبات الرقة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعنى احياء القتيل أو جميع ما عد من الآيات قال الكلبي قالوا بعد ذلك نحن لم نقتله فَهِيَ فى القساوة كَالْحِجارَةِ أَوْ بل هى أَشَدُّ أزيد منها قَسْوَةً أو انها مثلها بل مثل ما هو أشد منها قسوة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه - وفي أشد من المبالغة في القساوة ما ليس في أقسى - ويكون أو للتخيير في التشبيه أو للترديد بمعنى من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها وترك ضمير المنفصل عليه لعدم اللبس - وانما ذكر الحجارة دون الحديد والنحاس لان الحديد ونحوها تلين بالنار دون الحجارة ثم بين وجه الخير في الحجارة دون القلب القاسي فقال وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ يعنى عيونا دون الأنهار فينتفع بها عباد اللّه بخلاف قلوب الكفار حيث لا منفعة فيها أصلا وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وقلوبكم لا تلين ولا تخشع - فان قيل الحجر جماد فكيف يتصور منه الخشية قال البيضاوي الخشية مجاز عن انقيادها للاوامر التكوينية - قلت وهذا ليس بشىء فان الانقياد للاوامر التكوينية موجود في قلوب الكفار أيضا قال اللّه تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ - فهم انقادوا للختم وقال - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً - وعن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك - (1/154)
رواه مسلم - والتحقيق ما قال البغوي ان مذهب أهل السنة والجماعة ان للّه تعالى علما في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره - فلها صلوة وتسبيح وخشية قال اللّه تعالى - وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 85
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
- وقال - وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ - وقد مر الكلام في هذا الباب في ذكر عذاب القبر في تفسير قوله تعالى ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ قال البغوي روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل انزل عنى فانى أخاف ان تؤخذ على فيعاقبنى اللّه تعالى بذلك - وقال له جبل حراء الىّ الىّ يا رسول اللّه وروى البغوي بسنده عن جابر بن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى لاعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ قبل ان ابعث وانى لا عرفه الان هذا حديث صحيح أخرجه مسلم - قال وصح عن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلع له أحد فقال هذا جبل يحبنا ونحبه - وعن أبى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصبح ثم اقبل على الناس بوجهه فقال بينا رجل يسوق بقرة إذ عيي فركبها فضربها فقالت انا لم نخلق لهذا انما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس سبحان اللّه بقرة تتكلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانى أو من به وأبو بكر وعمرو ماهما ثم - وقال بينا رجل في غنم له إذ عدا الذئب على الشاة منها فادركها صاحبها فاستنقذها فقال الذئب فمن لها يوم السبع يوم لا راعى لها غيرى فقال الناس سبحان اللّه ذئب تتكلم فقال أو من به وأبو بكر وعمر وما هما ثم متفق عليه وصح عن أبى هريرة قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير فتحركت الصخرة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم اهدأ فما عليك الا نبى أو صديق أو شهيد أخرجه مسلم - وروى(1/155)
بسنده عن على قال كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجا من مكة بين الجبال والشجر فلم نمر بشجرة ولا جبل الا قال السلام عليك يا رسول اللّه - وروى بسنده عن جابر بن عبد اللّه يقول كان النبي صلى اللّه عليه وسلم استند إلى جذع نخلة من سوارى المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت
تلك السارية تحن كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاعتنقها فسكنت - وقال قال ...
مجاهد لا ينزل الحجر من أعلى إلى أسفل الا من خشية اللّه تعالى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) وعيد قرأ ابن كثير يعملون بالياء التحتانية والباقون بالتاء الفوقانية.
أَ فَتَطْمَعُونَ الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين أَنْ يُؤْمِنُوا يعنى اليهود لَكُمْ أى لاجل دعوتكم أو يصدقوكم وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يعنى التورية ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أى فهموه بلا ريب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 86
كنعت محمد صلى اللّه عليه وسلم واية الرجم وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) انهم كاذبون هذا قول مجاهد وقتادة - وعكرمة - والسدى وجماعة أو المراد قد كان فريق من أسلافهم يسمعون كلام اللّه ثم يحرفونه وهذا ما قال ابن عباس انها نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات ربه فهم لمّا رجعوا بعد ما سمعوا كلام اللّه إلى قومهم فاما الصادقون منهم فادوا كما سمعوا وقالت طائفة منهم سمعنا يقول في اخر كلامه ان استطعتم ان تفعلوا فافعلوا وان شئتم فلا تفعلوا فهذا تحريفهم وهم يعلمون انه الحق.(1/156)
وَ إِذا لَقُوا يعنى من اليهود الذين كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وقد مر ذكرهم من قبل الَّذِينَ آمَنُوا من أهل المدينة حين شاوروهم في اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم قالُوا آمَنَّا يعنى صدقنا في أنفسنا بان رسولكم هو المبشر به في التورية فاتبعوه وأمنوا به - وقال ابن عباس المراد بهم المنافقون من اليهود وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا كايمانكم وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ إلى كعب بن الأشرف ووهب بن يهود أو غيرهم من رؤساء اليهود لاموهم على ذلك وقالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وعلمه وبيّنه في التورية لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ يوم القيامة انهم كانوا يعلمون بصدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ويأمروننا باتباعه ومع ذلك كفروا به علانية أو سرّا - وأشار البيضاوي إلى البحث في هذا التقرير وقال وقيل عند ربّكم في القيامة وفيه نظر إذا لا خفاء لا يدفعها - قلت نعم الإخفاء لا يدفعها لكنهم لكمال حماقتهم قالوا هذا كما قالوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ مع ادعائهم بانزال التورية على موسى - وقد مر في قصصهم من أقوالهم وأفعالهم بعد ما راووا الآيات البينات من موسى عليه السلام ما لا يقولها إلّا مجنون - وكما ان اصحاب الصيب يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ مع ان جعلهم الأصابع في الاذان لا يجديهم من الصواعق شيئا ويؤيد هذا التفسير تذئيل الآية أَفَلا تَعْقِلُونَ والآية الذي بعده - أو المراد لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أى ليحتج اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم عليكم بما انزل ربكم في كتابه جعل محاجتهم بكتاب اللّه وحكمه محاجة عنده مجازا - كما يقال عند اللّه كذا ويراد به في كتابه وحكمه كذا - أو كان بحذف المضاف أى عند كتاب ربكم - أو عند رسول ربكم - وارتضى البيضاوي هذه(1/157)
التأويلات - وحمل الآية على مقال المنافقين دون من يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم من المجهرين بالكفر قلت وهذه التأويلات مع ما فيها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 87
من التكلفات مشكلة لان احتجاج المؤمنين على المنافقين لا يتصور في الدنيا فانهم مستسلمون فى الظاهر لا يتصور معهم الخصومة الا في الاخرة - وقيل انهم أخبروا المؤمنين بما عذبهم اللّه على الجنايات فقال بعضهم لبعض أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أى بما انزل اللّه عليكم من العذاب نظيره قوله تعالى لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ أى أنزلنا عليهم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أى ليرووا الكرامة لانفسهم عليكم عند ربكم قال اللّه تعالى أَفَلا تَعْقِلُونَ (86) أيها الحمقاء من اليهود ان احتجاج المؤمنين عليكم عند اللّه لا يتوقف على تحديثكم به في الدنيا - أو خطاب للمؤمنين متصل بقوله تعالى أَفَتَطْمَعُونَ أو كان من تمام كلام اللائمين وتقديره أَفَلا تَعْقِلُونَ انهم يحاجوكم.
أَ وَلا يَعْلَمُونَ هؤلاء اللائمين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) فاخفاؤهم نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يدفع عنهم الاحتجاج - ويحتمل ان يكون ضمير يعلمون إلى المنافقين فان نفاقهم وان كان النبي صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون لا يعلمونه فا اللّه يعلمه ويجازيهم عليه - أو إلى اليهود أجمعين فان اللّه تعالى يعلم اسرار بعضهم بالكفر وإعلان بعضهم وإخفاء نعت محمد صلى اللّه عليه وسلم وتحريف الكلم وسائر ما يعملون من موجبات غضب اللّه وعذابه في السر والعلانية.(1/158)
وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ أى جهاتهم لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ التورية إِلَّا أَمانِيَّ استثناء منقطع - والأماني جمع امنية وهى في الأصل ما يقدّره الإنسان في نفسه من منىّ والمراد الأكاذيب التي افتروها أحبارهم كذا قال مجاهد وقتادة - قال الفراء الأماني الأحاديث المفتعلة ومنه قول عثمان رضى اللّه عنه ما تمنيت منذ أسلمت أى ما كذبت - أو المراد الّا ما تمناه أنفسهم من غير حجة مثل قولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى - وقولهم - لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ كذا قال الحسن وأبو العالية - أو المراد به الا ما يقرءون الكتاب بألسنتهم غير عارفين بمعاني الكتاب منه قوله تعالى إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ كذا قال ابن عباس - قرأ أبو جعفر أماني بتخفيف الياء في كل القرآن والباقون بالتشديد وَإِنْ هُمْ ما هم إِلَّا قوم يَظُنُّونَ (88) بالتقليد لا علم عندهم.
فَوَيْلٌ أى تحسر وهلك قال الزجاج ويل كلمة يقولها كل واقع في هلكة - وقال ابن عباس شدة العذاب - وقال سعيد بن المسيب ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال جهنم لانماغت ولذابت من شده حره - وروى البغوي بسنده عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 88(1/159)
الويل « 1 » واد في جهنم يهوى به الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره والصعود جبل من تار جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فهو كذلك « 2 » لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ المحرف بِأَيْدِيهِمْ تأكيد كقوله كتبته بيمينى - ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا عرضا من اعراض الدنيا فانه وان جل فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب - وذلك ان أحبار اليهود خافوا ذهاب مأكلتهم فعمدوا إلى صفته في التورية وكانت صفته فيها حسن الوجه حسن الشعر اكحل العينين ربعة - تغيروها وكتبوا طوال ازرق سبط الشعر - فإذا سالهم سفلتهم عن صفته قرءوا ما كتبوه فيجدونه مخالفا لصفته فيكذبونه فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ من المحرف وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ () من المال والأعمال.(1/160)
وَ قالُوا أى اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً - المس إيصال الشيء بالبشرة بحيث يتاثر به الحاسة - قال ابن عباس كانت اليهود يقولون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وانما نعذب بكل الف سنة يوما - وقال قتادة وعطاء يعنون أربعين يوما التي عبد فيها اباؤهم العجل - وقال الحسن وأبو العالية قالوا ان ربّنا عتب علينا في امر فاقسم ليعذبنا أربعين يوما فلن تمسنا النار الا أربعين يوما تحلة القسم - فقال اللّه تعالى لتكذيبهم قُلْ يا محمد أَتَّخَذْتُمْ استفهام انكار - قرأ ابن كثير وحفص بإظهار الذال في اتخذتم وأخذتم وما كان مثله من لفظه وادغم الباقون عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً عهده إليكم ان لا يعذب الا هذا المقدار فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط محذوف أى ان اتخذتم عهدا فلن يخلف - وفيه دليل على ان الخلف في وعد اللّه محال وانه من الرذائل قال ابن مسعود عهدا بالتوحيد يدل عليه الا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً يعنى قول لا الله الا اللّه يعنى ما قلتم الا اله الا اللّه حتى يكون لكم عند اللّه عهدا أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ () كذبا - أم يحتمل ان تكون متصلة ومنقطعة.
بَلى اثبات لما نفوه من مساس النار زمانا طويلا مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً معصية والكسب استجلاب النفع وتعليقه بالسيئة على سبيل التهكم نحو فبشّرهم بعذاب اليم وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أى استولت عليه وشملت جملة أطرافه حتى صار كالمحاط بها لا يخلوا عنها شىء من جوانبه - فهذا لا يصدق الا على الكفار لا على من في قلبه
_________
(1) أخرج الترمذي وغيره بسند حسن عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ويل واد فى جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل ان يبلغ قعره - منه رحمه اللّه
(2) في الأصل الويل في جهنم.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 89(1/161)
وزن ذرة من ايمان ومن ثم قال ابن عباس والضحاك وأبو العالية والربيع وجماعة هى الشرك الذي يموت عليه صاحبه - فلا يصح للمعتزلة والخوارج الاحتجاج بها على ادعاء خلود مرتكب الكبيرة النار - قرأ أهل المدينة خطيئته بالجمع والباقون بالإفراد - وقرا حمزة في الوقف بابدال الهمزة ياء والإدغام وكذلك كلما تحركت الهمزة المتوسط وما قبلها ياء ساكنة زائدة نحو هنيئا - مريئا - بريؤن - خطيئة - خطيئتكم وشبهها - واما إذا كان قبلها ساكن « 1 » غيرها حركتها ان لم يكن الفا بحركة الهمزة وألقيت الهمزة نحو شيئا وخطئا - والمشئمة - وتجئرون ويسئلون - وسئل - والظّمان - والقرءان - ومذءوما ومسئولا وسيئت والموءودة - وان كان الساكن الفا سواء كانت مبدلة أو زائدة جعلت الهمزة بعدها بين بين وأنت مخير في مد الالف وقصرها نحو نسائكم - وابنائكم وماء وغثآء - وسواء - وآباؤكم - وهاؤم اقرءوا ومن آبائهم - وملئكته - وإذا كان قبل الهمزة متحركا فانفتحت وانكسر ما قبلها أو انضم أبدلتها مع الكسرة ياء ومع الضمة واوا نحو ننشئكم - وانّ شانئك ولؤلؤا ويؤدّه - والا جعلتها بين بين ما لم يكن صورتها ياء نحو انبّئكم وسنقرئك فانك تبدلها ياء مضمومة واما إذا كانت الهمزة توسطت ساكنة فهى تبدل حرفا خالصا حال تسهيلها نحو المؤمنون ويؤفكون والرّؤيا - فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها في الاخرة كما انهم ملازموا أسبابها في الدنيا هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا فى التورية مِيثاقَ العهد الشديد بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي لا يعبدون بالياء على الغيبة والباقون بالتاء على الخطاب - وهذا اخبار في معنى النهى كقوله تعالى لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ فحسن عطف أحسنوا وقولوا(1/162)
عليه - وقال البغوي معناه ان لا تعبدوا فلما حذف ان صار الفعل مرفوعا وعلى هذا بدل من الميثاق أو معمول له بحذف الجار - قرأ أبيّ بن كعب لا تعبدوا على النهى - وقيل انه جواب قسم دل عليه المعنى تقديره حلّفناهم لا يعبدون - وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمحذوف أى تحسنون بالوالدين أو أحسنوا بالوالدين ويكون معطوفا على لا تعبدون - أو ووصيناهم بالوالدين إحسانا فيكون معطوفا على أخذنا - والإحسان بهما البر بهما والعطف عليهما وامتثال أمرهما ما لم يخالف امر اللّه تعالى - وَذِي الْقُرْبى عطف على الوالدين والقربى كالحسنى مصدر وَالْيَتامى جمع يتيم وهو الطفل الّذى لا اب له وَالْمَساكِينِ
_________
(1) فى الأصل ساكنا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 90(1/163)
جمع مسكين مفعيل من السكون كانّ الفقر المسكنة والإحسان بهم الرحمة عليهم وأداء حقوقهم وَقُولُوا لِلنَّاسِ معطوف على أحسنوا أو تقديره قلنا لهم قولوا عطفا على أخذنا حُسْناً أى قولا حسنا قرأ حمزة والكسائي ويعقوب حسنا بفتح الحاء والسين على انه صفة والباقون على المصدر والحمل على المبالغة كزيد عدل - وهذا شامل لكل كلام محمود خبر صادق في شأن محمد صلى اللّه عليه وسلم وبيان صفته كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيره أو امر بمعروف ونهى عن منكر كما قال الثوري أو قول لين في المعاشرات أو شهادة بحق أو غير ذلك مما يثاب عليه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن العهد فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب خاطب به الموجودين في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن قبلهم على التغليب إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يعنى الذين أمنوا منهم كعبد اللّه بن سلام وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) أى قوم عادتهم الاعراض عن وفاء العهود والمعنى ثم تولّت آباؤكم الا قليلا منهم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وأسند الفعل إليه وحينئذ المعنى وأنتم معرضون كاعراض ابائكم.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق من لا تعبدون أى لا يتعرض بعضهم بعضا بالقتل والاجلاء وانما جعل قتل الرجل أو إخراجه غيره قتل نفسه وإخراجه لاتصاله نسبا ودينا كذا يطلقون في محاوراتهم وقيل معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم وقيل معنى لا تخرجوا لا تسيؤا في الجوار فتلجؤهم بسوء جواركم ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بهذا العهد وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) على أنفسكم بالميثاق فهو تأكيد - أو المعنى وأنتم أيها الموجودون تشهدون على اقرار اسلافكم فحينئذ أسند الإقرار إليهم مجازا - .(1/164)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ استبعاد لما ارتكبوه بعد الميثاق أنتم مبتدأ وهؤلاء خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون كقولك أنت ذلك الرجل الّذى فعل كذا - نزّل تغيير الصفة منزلة تغيير الذات والجملة بعده حال والعامل فيه معنى الاشارة - أو بيان لجملة أنتم هؤلاء أو يقال أنتم مبتدأ وهؤلاء تأكيد والخبر الجملة بعده أو يقال هؤلاء بمعنى الذي والجملة صلته والمجموع خبر أنتم أو يقال أنتم يا هؤلاء تقتلون تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتخفيف الظاء بحذف تاء التفاعل وكذا في التحريم والباقون بالإدغام بين التاء من التاءين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 91(1/165)
و الظاء - والتظاهر التعاون من الظهر حال من فاعل يخرجون أو مفعوله أو كليهما وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى قرأ حمزة اسرى وكلاهما جمع أسير تُفادُوهُمْ أى تبادلوهم بمعنى مفاداة الأسير بالأسير وقرا ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو جعفر « 1 » تفدوهم بفتح التاء أى بالمال وتنقذوهم وقيل معنى القراءتين واحد قال السدّى ان اللّه تعالى أخذ على بنى إسرائيل في التورية ان لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد وامة وجدتموهم من بنى إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه - فكانت قريظة حلفاء الأوس والنضير حلفاء الخزرج وكانوا يقتتلون في حرب سمين فيقاتل بنو قريظة وحلفاؤهم النضير وحلفاءهم - وإذا غلبوا خرّبوا ديارهم وأخرجوهم منها - وإذا اسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه وان كان الأسير من عدوهم فتعيرهم العرب ويقول كيف تقاتلونهم وتفدونهم - قالوا انا أمرنا ان نفديهم فيقولون فلم تقاتلونهم قالوا انا نستحيى ان يستذل حلفاؤنا فعيرهم اللّه تعالى بقوله تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ الآية فهم خالفوا في ثلثة من الاحكام ترك القتل والإخراج والمظاهرة وأخذوا واحدا أى الافداء وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ الضمير للشان أو راجع إلى ما دل عليه يخرجون من المصدر - أو إلى محذوف تقديره وان يأتوكم اسرى تفدوهم مع ما صدر منكم إخراجهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ - وعلى التقديرين إخراجهم تأكيد - أو الضمير مبهم يفسره قوله تعالى إِخْراجُهُمْ ووجه اتصال هذه الجملة بما سبق انهم حين انقيادهم للحكم بالافداء ارتكبوا المحرم وهو الإخراج فطاعتهم لا يخلو عن المعصية فضلا عن معصيتهم الخالصة - وبهذا يظهر وجه تخصيص تحريم الإخراج بالاعادة دون تحريم القتل وقال البيضاوي ان الجملة متعلق بقوله تعالى تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ وما بينهما اعتراض وحينئذ لا يظهر وجه(1/166)
تخصيص ذكر تحريم الإخراج واللّه اعلم أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يعنى وجوب الفداء وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ يعنى حرمة القتل والإخراج - قال مجاهد يقول ان وجدته في يد غيرك فديته وأنت تقتله بيدك فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ أى الايمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض مِنْكُمْ يا معشر اليهود إِلَّا خِزْيٌ عذاب وهو ان واصل الخزي ذل يستحيى منه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزى قريظة القتل والسبي وخزى النضير الاجلاء إلى أذرعات وأريحا وضرب الجزية هناك عليهم وعلى غيرهم - وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أى النار المخلد وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) قرأ ابن كثير ونافع
_________
(1) قرأ أبو جعفر كالنافع فعده مع ابن كثير وغيره لعله من الناسخ أو من سباق قلم - أبو محمد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 92
و أبو بكر بالغيبة على ان الضمير لمن والباقون بالخطاب.
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا استبدلوا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ يهون عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) لا يمنعون من عذاب اللّه - .
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التورية وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أى أرسلنا قفاه رسلا تترى فقوله من بعده تأكيد لمعنى قفينا لتضمنه معنى البعدية يعنى يوشع واشموئيل وشمعون وداؤد وسليمان وأيوب وشعيا وارميا وعزيرا « 1 » وحزقيل - واليسع - يونس وزكريا - ويحيى والياس وغيرهم صلوات اللّه عليهم أجمعين - .(1/167)
وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ الدلالات الواضحات من إبراء الأكمه والأبرص واحياء الموتى وغير ذلك أو المراد الإنجيل وَأَيَّدْناهُ قويناه - بِرُوحِ الْقُدُسِ قرأ ابن كثير بسكون الدال والآخرون بضمها - والمراد بالروح جبرئيل - أو الروح الذي نفخ في عيسى - والقدس الطهارة مصدر بمعنى الفاعل أى الطاهر - وهو اللّه تعالى اضافه إلى نفسه تكريما - نحو بيت اللّه وناقة اللّه نظيره فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا - أو الاضافة على طريقة حاتم الجود فيكون الطهارة في المعنى صفة للروح وطهارة جبرئيل وعيسى لاجل عصمتهما ولطهارة عيسى عن مس الشيطان عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من بنى آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان غير مريم وابنها - متفق عليه ولانه لم يشتمل عليه أصلاب الفحول ولا أرحام الطوامث - وتائيد عيسى بجبرئيل انه امر ان يسير معه حيث سار حتى صعد به إلى السماء - وقيل المراد بالروح اسم اللّه الأعظم الذي كان عيسى يحيى به الموتى ويرى الناس العجائب وقيل المراد به الإنجيل نظيره أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا - فان كتاب اللّه تعالى سبب لحيوة القلوب وعلى هذين التأويلين اضافة الروح إلى اللّه وتوصيفه بالطهارة ظاهرة - قال البغوي فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه السلام قالوا يا محمد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت - فأتنا بما اتى به عيسى ان كنت صادقا فقال اللّه تعالى أَفَكُلَّما جاءَكُمْ يا معشر اليهود رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ أى بما لا تحبه يقال هوى بالكسر إذا أحب وبالفتح إذا سقط معطوف على الجمل السابقة - ووسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به توبيخا لهم على تعقيبهم ذاك بهذا وتعجيبا
_________
(1) فى الأصل عزير
فسير المظهري ، ج 1 ، ص : 93(1/168)
من شأنهم - ويحتمل ان يكون استينافا والفاء للعطف على مقدر كانّ السائل يقول فما فعلوا بهم فاجاب فكفروا بهم وقال توبيخا أ كفرتم بهم فكلما جاءكم الآية اسْتَكْبَرْتُمْ تكبرتم عن الايمان واتباع الرسل فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ كعيسى ومحمد وغيرهما عليهم الصلوات والسلام والفاء للسببية أو للتفصيل - وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) أى قتلتم مثل زكريا ويحيى وشعيا وغيرهم ذكر بلفظ المضارع على حكايت الحال الماضية استحضارا لها في النفوس فان الأمر فظيع ومراعاة للفواصل وللدلالة على انكم تريدون قتل محمد عليه السلام حيث سحرتموه وتقاتلونه لكى تقتلوه - عن عائشة قالت - سحر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى انه ليخيل إليه انه فعل الشيء وما فعله حتى إذا كان ذات يوم عندى دعا اللّه ودعاه ثم قال أشعرت يا عائشة ان اللّه تعالى قد أفتاني فيما استفتيته جاءنى رجلان جلس أحدهما عند رأسى والاخر عند رجلى ثم قال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال فيما ذا قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فاين هو قال في بئر ذروان - فذهب النبي صلى اللّه عليه وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فقال هذه البئر التي أريتها - وكان ماؤها نقاعة الحناء وكان نخلها رؤس الشياطين فاستخرجه - متفق عليه قلت ويجوز ان يكون تقتلون بمعناه الاستقبالى أى وفريقا تقتلون في المستقبل يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم فانه مات شهيد الاجل الشاة المسمومة التي أهدتها يهودية من أهل خيبر وحينئذ يكون ذكر من مضى قتلهم من الأنبياء متروكا - أو مقدرا تقديره وفريقا قتلتم وفريقا تقتلون - عن جابر رضى اللّه عنه - ان يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ثم أهدتها لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذراع فاكل منها وأكل رهط من أصحابه معه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارفعوا(1/169)
ايديكم وأرسل إلى اليهودية فدعاها فقال - سممت هذه الشاة - فقالت من أخبرك قال أخبرتني هذه في يدى الذراع - قالت نعم قلت ان كان نبيا فلن يضره وان لم يكن نبيا استرحنا منه فعفا عنها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يعاقبها وتوفى أصحابه الذين أكلوا من الشاة واحتجم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على كاهله من أجل الذي أكل من الشاة - رواه أبو داؤد والدارمي وعن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فى مرضه الذي مات فيه يا عائشة ما زال أجد الم الطعام الذي أكلت بخيبر وهذا أو ان وجدت « 1 »
_________
(1) اضافه إلى الفعل بتأويل المصدر - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 94
انقطاع أبهري من ذلك السم - رواه البخاري فان قيل المقتولون منهم داخلون فيمن كذّبهم اليهود فما وجه تخصيص التكذيب بفريق منهم - قلت يظهر بتخصيص التكذيب بفريق منهم انهم لم يكذبوا فريقا منهم مثل يوشع وعزير ولا يضركون بعضهم داخلا في كلا الفريقين إذ العطف بالواو واللّه اعلم.(1/170)
وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع الا غلف وهو الّذى عليه غشاوة خلقية فلا تعى ولا تفقه ما تقول نظيره قوله تعالى قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ - كذا قال مجاهد وقتادة - وقيل أصله غلف بضم اللام خفف ويؤيده قراءة الأعرج وما قرأ ابن عباس بضم اللام وهو جمع غلاف أى قلوبنا اوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك كذا قال ابن عباس وعطاء وقال الكلبي معناه اوعية لكل علم فهى لا يسمع حديثا إلا وعته الا حديثك فلا يعقله ولا تعيه ولو كان فيه خيرا لوعته وفهمته فرد اللّه قولهم أى ليس قلوبهم مغشاة في اصل الخلقة كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابوه يهودانه وينصرانه ويمجسانه الحديث متفق عليه من حديث أبى هريرة - وليست اوعية للعلم أيضا بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أى طردهم وابعدهم عن كل خير وخذلهم بِكُفْرِهِمْ كما قال اللّه تعالى فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ - فانى لهم دعوى العلم والاستغناء فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ (88) نصب قليلا على الحال وما مزيدة للمبالغة ومعناه فيؤمنون حال كونهم اقل قليل أى لا يؤمن منهم الا اقل قليل فان من أمن من المشركين اكثر ممن أمن من اليهود كذا قال قتادة - أو منصوب على المصدرية يعنى إيمانا قليلا يؤمنون - أو بنزع الخافض أى بقليل مما وجب الايمان به يؤمنون وهو ايمانهم ببعض الكتاب - وقال الواقدي معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرا كقول الرجل للاخر ما اقل ما تفعل كذا أى لا تفعله أصلا - فالقلة مجاز عن العدم.(1/171)
وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعنى القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعنى التورية وجواب لمّا محذوف دل عليه جواب لمّا الثانية وَكانُوا أى اليهود مِنْ قَبْلُ أى قبل مبعث النبي صلى اللّه عليه وسلم يَسْتَفْتِحُونَ يستنصرون عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أى على مشركى العرب ويقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي المبعوث في اخر الزمان الذي نجد صفته في التورية - وكانوا ينصرون وكانوا يقولون لاعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبى يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وثمود وارم أو المعنى ان اليهود كانوا يفتحون على المشركين نعت النبي صلى اللّه عليه وسلم ويعرّفونهم ان نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه والسين حينئذ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 95
للمبالغة - والاشعار ان الفاتح كأنَّه يسئل عن نفسه ذلك فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ما موصولة فاعل جاء والعائد محذوف أى ما عرفوه يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم اعرفوه بنعته في التورية كَفَرُوا بِهِ حسدا أو خوفا على المال والرياسة فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) أى عليهم - اتى بالمظهر للدلالة على سبب استحقاقهم اللعنة فاللام للعهد ويجوزان يكون للجنس وهم داخلون فيهم.(1/172)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ما بمعنى شيئا تميز لفاعل بئس المضمر فيه واشتروا صفته بمعنى باعوا وأنفسهم مفعول اشتروا إلى بئس ما باعوا به حظ أنفسهم من الاخرة - أو المعنى اشتروا به أنفسهم في ظنهم حيث خلصوها عن الذل بترك الرياسة أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ هو المخصوص بالذم بَغْياً مفعول له ليكفروا « 1 » « 2 » دون اشتروا للفصل - واصل البغي الطلب والفساد يقال بغى يبغى بغيا إذا طلب وبغى الجرح إذا فسد - ويطلق الباغي على الظالم لأنه مفسد وعلى الخارج على الامام لأنه مفسد وطالب للظلم وعلى الحاسد فانه يظلم المحسود ويطلب ازالة نعمته - والمعنى انهم يكفرون حسدا وطلبا لما ليس لهم وفسادا في الأرض أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ القرآن متعلق ببغيا بتقدير اللام - قرأ ابن كثير وأبو عمرو ينزل وبابه إذا كان مستقبلا مضموم الأول بالتخفيف من الانزال حيث وقع واستثنى ابن كثير وما ننزّله في الحجر - وننزّل من القرآن - وحتّى تنزّل علينا في الاسراء واستثنى أبو عمرو على أن ينزّل اية في الانعام - والذي في الحجر ما ننزّل الملئكة الّا بالحقّ مجمع عليه بالتشديد - والباقون بالتشديد من التنزيل في الجميع غير ان حمزة والكسائي يخففان ينزل الغيث في موضعين أحدهما فى لقمان والثاني في الشورى مِنْ فَضْلِهِ بلا سبق عمل يقتضيه - عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم فَباؤُ بِغَضَبٍ بسبب كفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران عَلى غَضَبٍ قد سبق عليهم بكفرهم بعيسى والإنجيل وترك العمل بالتورية وعبادة العجل وقولهم عزير ابن اللّه والاعتداء في السبت وغير ذلك وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) يراد به إذلالهم بخلاف عذاب العصاة من المؤمنين فانه لتطهيرهم عن الذنوب.(1/173)
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن وسائر الكتب الالهية قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أى التورية وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ حال عن الضمير في قالوا - والوراء فى الأصل مصدر جعل ظرفا ويضاف إلى الفاعل فيراد ما يتوارى به وهو خلفه - والى المفعول ويراد
_________
(1) فى الأصل مفعول له يكفرون [.....]
(2) فيه تسامح لأنه غير داخلة في الضابطة لأنه في قرارة ابن كثير ومن معه بفتح الأول - لعله رحمه اللّه أراد به وما ننزله وصدر من سباق قلم هذا - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 96
به ما يواريه وهو قدامه ولذلك عدّ من الاضداد - وقد يطلق بمعنى سواء كقوله تعالى فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أى سواه وَهُوَ الْحَقُّ الضمير لما وراءه يعنى القرآن والإنجيل مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التورية حال مؤكدة فيه رد لمقالهم - فانه لمّا كفروا بما يوافق التورية فقد كفروا بها - قُلْ لهم يا محمد فَلِمَ أصله لما حذف الالف فرقا بين الخبر والاستفهام كقولهم - فيم - وبم - وعمّ - تَقْتُلُونَ أى قتلتم وانما أسند إليهم مع انه فعل ابائهم لانهم راضون به وهم في صدد قتل نبيهم - أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ أى قبل هذا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) بالتورية والتورية تحكم بانه إذا جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ - وتنهى عن تكذيبهم فضلا عن قتلهم والجزاء محذوف دل عليه ما قبله.(1/174)
وَ لَقَدْ جاءَكُمْ قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وهشام بإدغام دال قد في الجيم حيث وقع - وكذا حيث وقع في الذال نحو لقد ذّرانا - والزاء نحو لقد زيّنّا - والسين نحو قد سمع - والشين نحو قد شّغفها - والضاد المعجمة نحو فقد ضلّ - والظاء المعجمة نحو فقد ظلم - واما الطاء المهملة فلم يقع في القرآن بعد دال قد والا لادغمت - وكذا ادغموا غير هشام « 1 » فى الصاد المهملة حيث وقع نحو لقد صرّفنا - وتابعهم ابن ذكوان فى الاربعة في الذال والزاء والضاد والظاء لا غير وورش في الأخيرين فقط وقرا ابن كثير وعاصم وقالون بغير ادغام في الاحرف الثمانية كلها ويدغم الدال في الدال اجماعا نحو قد دخلوا - وكذا في التاء اجماعا نحو قد تبيّن الا ان الحسين روى عن نافع الإظهار عند التاء مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالدلالات الواضحات وهى تسع ايت بيّنت وغيرها من المعجزات ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الها مِنْ بَعْدِهِ أى من بعد مجيى موسى أو ذهابه إلى الطور وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) حال بمعنى اتخذتم العجل ظالمين بعبادته - أو اعتراض بمعنى وأنتم قوم عادتكم الظلم - وسياق الآية وما بعدها للرد عليهم فى قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا - والتنبيه على ان طريقتهم مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم طريقة ابائهم مع موسى لا لتكرير القصة.
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ وقلنا لهم خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا يعنى استجيبوا وأطيعوا سميت الطاعة والاستجابة سمعا إطلاقا للسبب على المسبب قالُوا سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك قال أهل المعاني انهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لمّا تلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول قلت
_________
(1) ادغم هشام في الصاد أيضا بلا خلاف لكن له في الظاء في سورة ص اظهار من طرق الشاطبية - أبو محمد(1/175)
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 97
و هو الظاهر فانهم لو قالوا ذلك لم يرفع عنهم الطور - وَأُشْرِبُوا يعنى تداخل كما يتداخل الصبغ الثوب فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ أى حبه بِكُفْرِهِمْ أى بسبب كفرهم - وذلك انهم لفرط حماقتهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما اعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سوّل لهم السّامرىّ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ بالتورية والمخصوص محذوف يعنى هذا الأمر أو ما تفعلون من القبائح الظاهرة القباحة المذكورة في الآيات الثلث إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) تقدير للقدح في دعواهم والجواب محذوف يدل عليه ما قبله تقديره ان كنتم مؤمنين بالتورية فبئسما يأمركم به ايمانكم بها هذا الأمر لان المؤمن لا يتعاطى الا ما يقتضيه إيمانه لكن الايمان لا يأمر به فلستم بمؤمنين بها أو ان كنتم مؤمنين بالتورية ما فعلتم تلك القبائح لكنكم فعلتم فلستم بمؤمنين - ولما كانت اليهود يدّعون دعاوى باطلة مثل قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ - ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى - ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ كذّبهم اللّه تعالى بقوله.(1/176)
قُلْ لهم يا محمد إِنْ كانَتْ لَكُمُ خبر كان الدَّارُ الْآخِرَةُ اسمها عِنْدَ اللَّهِ ظرف خالِصَةً يعنى خاصة بكم منصوب على الحال من الدار مِنْ دُونِ النَّاسِ سائرهم واللام للاستغراق أو الجنس - أو المسلمين واللام للعهد فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ يعنى فاسئلوه لأنه من أيقن انه من أهل الجنة ومن أحباء اللّه تعالى تمنى التخلص إليها من الدار ذات الشوائب واشتاق إلى لقاء اللّه تعالى أخرج ابن المبارك في الزهد والبيهقي عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحفة المؤمن الموت - والديلمي عن جابر مثله وعن الحسين بن على مرفوعا مثله بلفظ الموت ريحانة المؤمن - وقال حبان بن الأسود الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب - وهذه الآية والأحاديث تدل على ان القبر أول منزل من منازل الاخرة رواه الترمذي وابن ماجة عن عثمان مرفوعا - وعلى ان الوصل بلا كيف مع اللّه تعالى يحصل بعد الموت قبل القيامة فوق ما كان حاصلا في الدنيا ولو لا ذلك لما كان في تمنى الموت فائدة ولم يكن الموت جسرا موصلا إلى الحبيب - وقيل معنى الآية ادعوا بالموت على الفرقة الكاذبة فهى نظيرة اية الابتهال - روى عن ابن عباس انه صلى اللّه عليه وسلم قال لو تمنوا الموت لغض كل انسان منهم بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودى الا مات أخرجه البيهقي في الدلائل وكذا أخرجه البخاري والترمذي عنه مرفوعا بلفظ لو تمنوا الموت لماتوا واخرج ابن أبى حاتم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 98(1/177)
و ابن جرير عنه موقوفا نحوه - إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) فيما ادعيتم والجزاء محذوف دل عليه ما قبله - (فصل) هل يجوز التمني بالموت والدعاء به - والجواب انه ان كان لضرّ نزل به في مال أو جسم أو أهل أو ولد فلا يجوز لحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به فان كان ولا بد متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحيوة خيرا لى وتوفنى إذا كانت الوفاة خيرا لى - متفق عليه وفي رواية لهما إذا مات أحدكم انقطع عمله وانه لا يزيد عمره إلا خيرا - وعن أبى هريرة مرفوعا لا يتمنين أحدكم الموت امّا محسنا فلعل ان يزداد وامّا مسيئا فلعل ان يستعتب رواه البخاري وعنه لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل ان يأتيه انه إذا مات انقطع عمله وانه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرا رواه مسلم وروى النهى عن تمنى الموت احمد والبزار والبيهقي عن جابر والمروزي عن القاسم مولى معاوية وعن ابن عباس - واحمد وأبو يعلى والحاكم والطبراني عن أم الفضل واحمد عن أبى هريرة كلهم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ولا بد ان يعلم ان المنهي عنه انما هو التمني للموت باللسان والسؤال به دون التمني بالقلب والرغبة إليه فان الكف عنه غير مقدور فلا تكليف عليه - واما ان كان التمني لخوف الفتنة في الدين فلا بأس به - أخرج مالك والبزار عن ثوبان في دعائه صلى اللّه عليه وسلم وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضنى إليك غير مفتون - واخرج مالك عن عمر رضى اللّه عنه انه قال اللهم قد ضعفت قوتى وكبر سنى وانتشر رعيتى فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مقصد - فما جاوز ذلك الشهر حتى قبض - واخرج الطبراني عن عمرو بن عنبسة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يتمنى أحدكم الموت الا ان لا يثق بعمله فان رايت في الإسلام ست خصال فتمنوا الموت وان كانت نفسك في يدك فارسلها اضاعة الدم وامارة الصبيان وكثرة الشرط وامارة(1/178)
السفهاء وبيع الحكم ونشوء يتخذ القرآن مزامير - واخرج ابن عبد البر في التمهيد انه تمنى الموت فلما قيل له لم تتمنى وقد نهى عنه فقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول بادروا بالموت ستا امرة السفهاء وكثرة الشرط وبيع الحكم واستخفافا بالدم وقطيعة الرحم ونشوء يتخذون القرآن مزامير - واخرج الحاكم عن ابن عمر وابن سعد عن أبى هريرة نحوه - وقد تمنى بالموت لخوف الفتنة بعض السلف - رواه ابن سعد عن خالد بن معدان - وابن عساكر وأبو نعيم عنه وعن مكحول
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 99
و ابن أبى الدنيا عن أبى الدرداء - وابن أبى شيبة وابن أبى الدنيا(1/179)
عن أبى جحيفة - وابن أبى الدنيا والخطيب وابن عساكر عن أبى بكرة - وابن أبى شيبة والبيهقي عن أبى هريرة - والطبراني وابن عساكر عن العرباض بن السارية - واما ان كان التمني شوقا إلى لقاء اللّه تعالى فذلك محمود - أخرج ابن عساكر عن ذى النون المصري قال الشوق أعلى المقامات وأعلى الدرجات إذا بلغها العبد استبطأ الموت شوقا إلى ربه وحبا إلى لقائه والنظر إليه شعر أروم وقد طال المدى منك نظرة - وكم من دماء دون مرماى ظلت قلت وهو المقصود بالخطاب إلى اليهود حيث قال إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ شوقا إلى لقاء ربكم ان كنتم صدقين وروى ابن سعد والشيخان عن عائشة قالت كنت اسمع انه لا يموت نبى حتى يخير بين الدنيا والاخرة قالت أصابت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شديدة فى مرضه فسمعته يقول مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فظننت انه خير وروى النسائي عنها قالت أغمي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في حجرى فجعلت امسحه وادعوا له بالشفاء بهذه الكلمات اذهب البأس رب الناس فافاق فانتزع يده من يدى فقال بل اسئل اللّه الرفيق الأعلى - واخرج الطبراني ان ملك الموت جاء إلى ابراهيم ليقبض روحه فقال ابراهيم يا ملك الموت هل رايت خليلا يقبض روح خليله - فعرج ملك الموت إلى ربه فقال قل له هل رايت خليلا يكره لقاء خليله فرجع فقال اقبض روحى الساعة - وقال يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ - وعن على رضى اللّه عنه انه قال لا أبالي أسقط على الموت أو أسقط الموت على - أخرجه ابن عساكر في تاريخه وعن عمار رضى اللّه عنه انه قال بصفين الان الاقى الاحبة محمدا صلى اللّه عليه وسلم وحزبه - أخرجه الطبراني في الكبير وابو(1/180)
نعيم في الدلائل وقال حذيفة حين احتضر جاء حبيب على فاقة لا أفلح من ندم - أخرجه ابن سعد عن الحسن - فان قيل روى احمد عن أبى امامة قال جلسنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكّرنا ورققنا فبكى سعد بن أبى وقاص فاكثر البكاء فقال يا ليتنى مت فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا سعد أ عندي تتمنى الموت فردد ذلك ثلث مرات ثم قال يا سعد ان كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن عملك فهو خير لك - وهذا الحديث يدل على ان تمنى الموت لا يجوز وان لم يكن لاجل ضرّ نزل به في ماله أو جسمه أو نحو ذلك فان سعدا لم يتمن الا لخوف عذاب اللّه - قلت نعم لكن الموت لا يغنى من عذاب اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 100(1/181)
شيئا بل لا بد لذلك من الاستغفار والمبادرة في الأعمال الصالحة والاجتناب عن المعاصي ومن ثم نهاه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تمنى الموت - والتحقيق في ذلك ان التمني بالموت عنه خوف المعصية والتقصير في الطاعة جائز قطعا لا ريب فيه - واما من غير ذلك بل شوقا إلى لقاء المحبوب فقد وقع عن بعض السلف عند الاحتضار كما روينا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعن خليل الرحمن عليه السلام وعن عمار وحذيفة وغيرهم انه إذا حضرهم الموت ولم يبق لهم طمع في ازدياد الأعمال اشتاقوا إلى لقاء ذى الجلال - عن عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه انا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر « 1 » برضوان اللّه وكرامته فليس شىء أحب إليه مما امامه فاحب لقاء اللّه فاحب اللّه لقاءه وان الكافر إذا حضر بشر بعذاب اللّه وعقوبته فليس شىء اكره إليه مما امامه فكره لقاء اللّه فكره اللّه لقاءه - متفق عليه - واما في حالة الصحة فلم يرد عن السلف التمني بالموت الا عند خوف الفتنة والتقصير كما روينا عن عمر رضى اللّه عنه ويحمل عليه ما روى عن على رضى اللّه عنه أو عند غلبة الحال وذلك في الأولياء غالبا دون الأنبياء ومن في معنا هم من اصحاب الصحو من الصديقين والأولياء فانهم مع شدة شوقهم إلى لقاء الرحمن يغتنمون ازدياد الحسنات شعر فانى في
الوصال عبيد نفسى - وفي الهجران مولى للموالى واما اليهود فلشدة جهلهم وعنادهم لما كانوا يدّعون انهم أحباء اللّه تعالى وانهم غير محتاجين إلى الأعمال قيل لهم ان كنتم صادقين في دعواكم لا بد لكم من تمنى المنى ولما كانوا كاذبين في دعواهم رد اللّه تعالى عليهم قولهم وقال.(1/182)
وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً فى هذه الجملة اخبار بالغيب ومعجزة على اليهود بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران وتحريف التورية وغير ذلك من الأعمال - ولما كانت اليد العاملة مختصة بالإنسان فمعز الدولة لقدرته بها عامة صنائعه ومنها اكثر منافعه عبر بها عن النفس تارة وعن القدرة اخرى وَاللَّهُ عَلِيمٌ
_________
(1) البشارة برضوان اللّه عنا اقتراب الموت للاولياء اما يكون بالكشف وكلام الهاتف ونحو ذلك واما يكون بذوقهم كثرة نزول البركات عليهم في ذلك الحالة واما عند رؤية ملائكة الموت وملائكة الرحمة واما البشارة للكافر بالعذاب فلا يكون الا عند رؤية ملائكة الموت والعذاب - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 101
بِالظَّالِمِينَ (95) تهديد لهم وتنبيه على انهم ظالمون في دعواهم.(1/183)
وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ اللام لام القسم والنون لتأكيد القسم وتجد من افعال القلوب مفعوله الأول ضمير الغائب ومفعوله الثاني احرص - وبتنكير حيوة أريد فرد من افرادها وهى المتطاولة وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا - معطوف على الناس من حيث المعنى كأنَّه قال احرص من الناس ومن الذين أشركوا أو على احرص ويكون متعلقا بمحذوف دل عليه ما قبله يعنى احرص من الذين أشركوا - وافرادهم بالذكر مع دخولهم في الناس للمبالغة والاهتمام كما في عطف جبرئيل على الملائكة فان حرص المشركين شديد إذ لم يعرفوا الا الحيوة الدنيا وزيادة حرصهم على الدنيا مع اعراضهم عن الاخرة وهم عالمون بالجزاء بخلاف المشركين دليل على كمال مصابرتهم على النار ففيه زيادة توبيخ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ قيل لو مصدرية بمنزلة ان الّا انها لا تنصب فهو مفعول يود وقال البيضاوي لو بمعنى ليت وكان أصله لو اعمّر فاجرى على الغيبة لقوله يود كقولك حلف باللّه ليفعلن - فحينئذ كلمة التمني حكاية لو دادهم فحذف مفعول يود لما يدل عليه ما بعده وفيه بيان لزيادة حرصهم على سبيل الاستيناف ويحتمل ان يكون جملة يود صفة لمبتدأ محذوف والظرف المستقر يعنى من الذين أشركوا خبره تقديره ومن الّذين أشركوا أناس يودّ أحدهم لو يعمّر الف سنة - والمراد من الذين أشركوا اليهود القائلون عزير ابن اللّه - وقال أبو العالية والربيع أراد بالذين أشركوا المجوس فان تحية بينهم - زى هزار سال - فقال سبحانه اليهود احرص الناس فهم احرص من المجوس والمجوس يريد تعمير الف سنة - واصل سنة سنوة بدليل سنوات وقيل سنهة - وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ بمباعده مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ضمير هو راجع إلى أحدهم وان يعمر فاعل مزحزحه والمعنى وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره أو إلى مصدر يعمر ويعمر بدل منه - أو ضمير مبهم ان يعمر تفسيره - فان قيل طول(1/184)
العمر في الدنيا مباعد للعذاب الأخروي البتة فكيف يحكم بعدم التبعيد - قلت لما كان الف سنة بل تمام عمر الدنيا بالنسبة إلى الاخرة المؤبدة كساعة من النهار أو كلمح البصر بالنسبة إلى الزمان المتناهي لم يعتد التبعيد الحاصل بتعمير الف سنة تبعيدا إذ المراد بنفي تبعيده من العذاب تبعيده بالعمل الصالح ففيه زيادة توبيخ حيث لا يزيدهم طول عمرهم الا العذاب وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (92) فيجازيهم - قرأ يعقوب بالتاء للخطاب مع اليهود والباقون بالياء للغيبة انتهى -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 102
اخرج اسحق بن راهويه في مسنده وابن أبى شيبة - وابن أبى حاتم - وابن جرير من طرق عن الشعبي عن عمر انه كان يأتى اليهود فيسمع من التورية فيتعجب كيف يصدق ما في القرآن قال فمر بهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت نشدتكم باللّه أ تعلمون انه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال عالمهم - نعم نعلم انه رسول اللّه قلت فلم لا تتبعونه قالوا سالناه من يأتيه بنبوته فقال عدونا جبرئيل لأنه ينزل بالغلظة والشدة والحرب والهلاك - قلت فمن سلمكم من الملائكة قالوا ميكائيل ينزل بالقطر والرحمة - قلت وكيف منزلتهما من ربهما قالوا أحدهما عن يمينه والاخر بالجانب الاخر - قلت فانه لا يحل لجبرئيل انه يعادى ميكائيل ولا يحل لميكائيل ان يسالم عدو جبرئيل وانى اشهد انهما وربهما سلم لمن سالموا وحرب لمن حاربوا - ثم أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وانا أريد ان أخبره فلما لقيته قال الا أخبرك بايات نزلت علىّ فقرا.(1/185)
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ حتى بلغ الكفرين قلت يا رسول اللّه واللّه ما قمت من عند اليهود الا إليك لا خبرك بما قالوا لى وقلت لهم فوجدت اللّه قد سبقنى - واسناده صحيح إلى الشعبي واعتضد الطرق بعضها ببعض لكن الشعبي لم يدرك عمر واخرج ابن جرير من طريق السدى عن عمر - ومن طريق قتادة عن عمرو هما أيضا منقطعان واخرج ابن أبى حاتم من طريق اخر عن عبد الرحمن بن أبى ليلى ان يهوديا لقى عمر بن الخطاب فقال ان جبرئيل الذي يذكر صاحبكم عدوّ لنا فقال عمر من كان عدوّا للّه وملائكته ورسله وجبريل وميكيل فان اللّه عدوه - قال فنزلت على لسان عمر - وقد نقل ابن جرير الإجماع على ان سبب نزول الآية ذلك - وروى البخاري عن انس قال سمع عبد اللّه بن سلام مقدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو في ارض يحترف فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال انى سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبى ما أول اشراط الساعة - وما أول طعام أهل الجنة - وما ينزع الولد إلى أبيه والى امه - قال أخبرني بهن جبرئيل آنفا قال نعم قال ذلك عدو اليهود من الملائكة فقرا هذه الآية - قال الشيخ ابن حجر ظاهر السياق ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قرأ الآية ردا على قول اليهود ولا يستلزم ذلك نزولها حينئذ وهذا هو المعتمد - واخرج احمد والترمذي والنسائي من طريق بكير بن شهاب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال أقبلت اليهود إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا أبا القاسم انا نسئلك عن خمسة أشياء فان انبأتنا بهن عرفنا انك نبى فذكر الحديث -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 103(1/186)
و فيه انهم سالوا عما حرم إسرائيل على نفسه وعن علامة النبي وعن الرعد وصوته وكيف تذكر المرأة وتؤنث وعمن يأتيه بخبر السماء إلى ان قالوا فاخبرنا من صاحبك قال جبرئيل قالوا ذلك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان فنزلت وقال البغوي بلا سند انه قال ابن عباس ان حبرا من الأحبار يقال له عبد اللّه بن صوريا قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم اىّ ملك يأتيك من السماء قال جبرئيل قال ذاك عدونا من الملائكة ولو كان ميكائيل لا منابك ان جبرئيل عادانا مرارا انزل على نبينا ان بيت المقدس سيخرب على يد رجل يقال له بخت نصر وأخبرنا بوقته فبعثنا رجلا ليقتل بخت نصر حين كان غلاما مسكينا ببابل فدفع عنه جبرئيل وكبر بخت نصر وخرب بيت المقدس - وقال مقاتل قالت اليهود ان جبرئيل عدونا لأنه امر ان يجعل النبوة فينا فجعل في غيرنا - قلت ولعل القصتين وقعتا معا قبل نزول الآية لقى عمر مع اليهود فكلهم ما كلمهم ولقى اليهود مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك الوقت فكلموه فنزل الآية - قرأ ابن كثير جبريل هنا في الموضعين وفي التحريم بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز - وقرا أبو بكر بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء جبرئل وقرا حمزة والكسائي مثله الا انهما يجعلان ياء بعد الهمزة جبرءيل والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز جبريل فَإِنَّهُ يعنى جبرئيل نَزَّلَهُ يعنى القرآن - والإضمار من غير ذكر المرجع لفخامة شأنه وتبادر الذهن إليه كأنَّه لم يحتج إلى سبق فى الذكر عَلى قَلْبِكَ يا محمد فان القابل للوحى اولا القلب وكان الحق قلبى ولكنه جرى على حكاية كلام اللّه تعالى بِإِذْنِ اللَّهِ بامره حال من فاعل نزل مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) احوال من مفعوله والظاهر ان جواب الشرط فانّه نزّله والمعنى من كان(1/187)
عدو الجبرئيل فانه خلع عن عنقه ربقة الانصاف وكفر بما معه من الكتاب لان جبرئيل نزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب فحذف الجواب وأقيم علته مقامه - أو المعنى من عاداه فالسبب في عداوته انه نزل عليك وقيل جواب الشرط محذوف فليمت غيظا - أو فهو عدو لى وانا عدوه يدل عليه ما بعده.
مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ خصّهما بعد التعميم لاظهار فضلهما « 1 » كانهما من جنس اخر - ولان الكلام كان فيهما - وللتنبيه على ان
_________
(1) أخرج الحاكم عن أبى سعيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وزير أى من أهل السماء جبرئيل وميكائيل ومن أهل الأرض أبو بكر وعمر - واخرج الطبراني بسند حسن عن أم سلمة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان في السماء ملكين أحدهما يأمر بالشدة والاخر يأمر باللين فكل مصيب وذكر جبرئيل وميكائيل ونبيان أحدهما يأمر باللين والاخر يأمر بالشدة وكل مصيب وذكر ابراهيم ونوحا ولى صاحبان أحدهما يأمر باللين والاخر بالشدة وكل مصيب وذكر أبا بكر وعمر - منه رحمه اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 104
معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من اللّه تعالى - قرأ حفص ويعقوب وأبو عمر وميكيل بغير همز ولا ياء - ونافع بهمزة بلا ياء وميكئل والباقون بالياء بعد الهمز ميكئيل فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان اللّه تعالى عاداهم لكفرهم وعلى ان عداوة الملائكة والرسل كفر - أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس انه قال قال ابن صوريا ما جئتنا بشىء نعرفه فانزل اللّه تعالى.(1/188)
وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ (99) المتمردون في الكفر فان الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي دل على عظمه كأنَّه متجاوز عن حده واللام للجنس أو العهد اشارة إلى اليهود واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس انه قال قال مالك بن الضيف لمّا ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد إليهم في دين محمد صلى اللّه عليه وسلم واللّه ما عهد إلينا في مجد ولا أخذ علينا الميثاق - فانزل اللّه تعالى.
أَ وَكُلَّما الهمزة للانكار والواو للعطف على محذوف تقديره اكفروا بالآيات وكلما عاهَدُوا يعنى اليهود عَهْداً لان خرج محمد صلى اللّه عليه وسلم لنؤمنن به يدل عليه قراءة أبى الرجاء العطاردي أو كلّما عوهدوا - وقال عطاء - هى العهود التي كانت بين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبين اليهود ان لا يعاونوا المشركين على قتاله فنقضوها كفعل بنى قريظة والنضير قوله تعالى الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ نَبَذَهُ نقضه وطرحه فَرِيقٌ مِنْهُمْ وان لم ينقض كلهم - ولما توهم هذا الكلام ان النابذين هم الأقلون قال بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) باللّه أو بالتورية فلا يعدون نقض المواثيق ذنبا.
وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كعيسى ومحمد صلى اللّه عليهما وسلم مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من التورية نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ يعنى التورية وَراءَ ظُهُورِهِمْ ولم يعملوا به ولو عملوا به لامنوا بكل نبى - مثل لاعراضهم وعدم التفاتهم إلى احكام التورية في الايمان والنصر لمن جاء بعدها من الأنبياء باعراض من يرمى شيئا خلفه فلا يلتفت إليه كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) انه كتاب اللّه أ ولا يعلمون بما فيه ولكنهم يتجاهلون عنادا.(1/189)
وَ اتَّبَعُوا أى عملوا يعنى اليهود وتحدثوا وتعلموا عطف على نبذ أى نبذوا كتاب اللّه واتبعوا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 105
كتب السحر والشعوذة بل عطف على الشرطية فان تقييد الاتباع بمجى الرسول غير ظاهر ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ حكاية حال ماضية معناه ما تلت والعرب يستعمل الماضي موضع المستقبل وبالعكس مجازا - وتتلوا اما مشتق من التلاوة بمعنى القراءة أو من التلو بمعنى التبعية يعنى اتبعوا كتب السحر التي كانت تقراها الشياطين من الجن والانس وتتبعها وتعمل بها عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق بتتلوا على تضمين الافتراء أى تتلوا الشياطين مفتر بين على ملك سليمان قائلين بان ملكه كان به وحينئذ يرتبط ما كفر سليمن ارتباطا تاما أو يكون على بمعنى في أى في وقت سلطنته - قال البغوي قال السدى كانت الشياطين تصعد إلى السماء فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره فيأتون الكهنة ويخلطون بما سمعوا في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها - فاكتتب الناس وفشا ذلك في بنى إسرائيل ان الجن تعلم الغيب - وبعث سليمان عليه السلام وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال لا اسمع أحدا يقول ان الشيطان يعلم الغيب الا ضربت عنقه - فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون امر سليمان ودفنه الكتب وخلف من بعدهم خلف تمثل الشيطان على صورة انسان فاتى نفرا من بنى إسرائيل فقال هل أدلكم على كنز لا تأكلونه ابدا احفروا تحت الكرسي فاراهم المكان وقام ناحية وذلك انه لم يكن يدنو شيطان من الكرسي الا احترق - فحفروا واخرجوا الكتب قال الشيطان ان سليمان كان يضبط الجن والانس والشياطين والطير بهذه ثم طار الشيطان وفشا في الناس ان سليمان كان ساحرا - وأخذ بنو إسرائيل تلك الكتب فلذلك اكثر ما يوجد السحر في اليهود فلما جاء محمد صلى اللّه عليه وسلم برّا اللّه تعالى سليمان من ذلك - قلت والظاهر ان ما دفنه(1/190)
سليمان كان كتب السحر دون ما ألقته الشياطين إلى الكهنة مما سمعته من الملائكة في الحوادث اليومية فان ذلك الكهانة ولا يفيد ذلك بعد مضى الدهور حين استخرجوها بعد موت سليمان - وقال الكلبي ان الشياطين كتبوا السحر والنير نجات على لسان اصف بن برخيا هذا ما علّم اصف بن برخيا سليمان الملك ثم دفنوها تحت مصلاه حين نزع اللّه الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس انما ملككم سليمان بهذا - فاما علماء بنى إسرائيل وصلحاؤهم فقالوا معاذ اللّه ان يكون هذا من علم سليمان واما السفلة فقالوا هذا علم سليمان واقبلوا على تعلمه ورفضوا كتب أنبيائهم وفشت الملامة لسليمان حتى برّاه اللّه في القرآن وقال وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ يعنى ما سحر سليمان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 106(1/191)
فيكفر عبّر عن السحر بالكفر ليدل على ان السحر كفر وان من كان نبيا كان معصوما عنه وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف نون لكن ورفع الشّيطين والباقون بالنون المشددة ونصب الشّيطين وكذلك ولكن البرّ « 1 » وكذلك في الأنفال ولكن اللّه قتلهم ولكن اللّه رمى يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ حال من الضمير في كفروا - والسحر علم بألفاظ واعمال يتقرب بها الإنسان إلى الشياطين تصير بها الشياطين مسخرات له فيعينونه على ما يريد وتؤخر تلك الألفاظ والأعمال في النفوس والأبدان بالامراض والموت والجنون وتخيل في الاسماع والابصار كما سمعت في سحرة فرعون انهم القوا حبالهم وعصيّهم يخيّل إلى موسى من سحرهم انّها تسعى - وليس تلك التأثيرات الا بخلق من اللّه تعالى ابتلاء منه وقيل انها تؤثر في قلب الأعيان أيضا فيجعل الإنسان حمارا والحمار كلبا قال البغوي السحر وجوده حق عند أهل السنة ولكن العمل به كفر وقال الشيخ أبو منصور القول بان السحر كفر على الإطلاق خطا بل يجب البحث عن حقيقته فان كان في ذلك رد ما ثبت بالشرع قطعا فهو كفر والا فلا - قال البغوي حكى عن الشافعي رضى اللّه عنه انه قال السحر يخيل ويمرض وقد يقتل حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه - فإذا تلقاه منه استعمله في غيره انتهى - وقول الشافعي أيضا يدل على ان السحر بعضها كفر دون بعض - وكذا ما في المدارك حيث قال ان السحر الذي هو كفر(1/192)
يقتل عليه الذكور دون الإناث يعنى عند الحنفية كما في المرتد وما ليس بكفر وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطاع الطريق ويستوى فيه الذكور والإناث ويقبل توبته إذا تاب وان كان سحره كفرا ومن قال لا يقبل توبته فقد غلط فان سحرة فرعون قبلت توبتهم مع كونهم كفارا انتهى - قلت وتعبير اللّه سبحانه السحر بالكفر وقوله وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وقوله تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ كل ذلك يدل على ان ألفاظ السحر واعماله كلها أو عامتها من موجبات الكفر ومناقضا لشرائط الايمان وينبغى ان يكون كذلك فان الشيطان لا يرضى من الإنسان الا بالكفر فلا يتصور التقرب إليه وتسخيره الا به نعوذ باللّه منه وما قال الشافعي والشيخ أبو منصور رحمهما اللّه فمبنى على الاحتمال العقلي (فائدة) واعلم انه من قتل إنسانا لا يحل قتله أو اضره بسلب نعمة البدنية أو المالية أو غير ذلك بالسيفى والدعاء وان كان ذلك بأسماء اللّه تعالى الجلالية وان لم يكن ذلك كفرا فهو فاسق البتة وحكمه حكم قطاع الطريق قال اللّه تعالى وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ
_________
(1) لعله من سباق قلم لأنه قرأه بالتخفيف نافع وابن عامر والباقون بالتشديد - أبو محمد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 107(1/193)
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً - وقال عليه الصلاة والسلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده - متفق عليه - من حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ومن هذا القبيل دعوة بلعم بن باعور على موسى عليه السلام وسيجيئ قصته في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها الآية - وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ عطف على السحر أو على ما تتلوا والمراد بالمعطوف والمعطوف عليه واحد والعطف لتغائر الاعتبار أو لأنه نوع اخر أقوى منه بِبابِلَ ظرف أو حال من الملكين أو من الضمير في انزل قال ابن مسعود بابل ارض الكوفة وقيل جبل دماوند - وهذا يدل على ان السحر أيضا من العلوم المنزلة من السماء ابتلاء من اللّه تعالى فان اللّه تعالى هو الهادي والمضل يفعل ما يشاء - والمأمور به غير ما أراد وشاء - فاللّه تعالى امتحن الناس بالملكين فمن شقى تعلم السحر منهما وكفر باللّه ومن سعد تركه وبقي على الايمان وكان الملكين يذكران بطلان السحر ويصفانه ويأمران بالاجتناب عنه واللّه اعلم وقيل ما نافية وقد كانت اليهود يقولون ان السحر من العلوم المنزلة من السماء على الملكين فرد اللّه سبحانه تعالى قولهم وقال وَما أُنْزِلَ يعنى السحر على الملكين عطفا على ما كفر سليمن وحينئذ قوله تعالى بِبابِلَ متعلق ب يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان للملكين على التقدير الأول كما هو الظاهر - وقيل بدل من الشياطين بدل البعض على تقدير كون ما نافية وَما يُعَلِّمانِ يعنى هاروت وماروت مِنْ أَحَدٍ يعنى أحدا ومن زائدة حَتَّى يَقُولا ناصحين على تقدير كونهما ملكين إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ابتلاء من اللّه وامتحان فَلا تَكْفُرْ أى لا تتعلم السحر فتكفر اطلق المسبب على السبب - قيل(1/194)
انهما كانا يقولان ذلك سبع مرات قال عطاء والسدىّ فان أبى الا التعلم قالا له ايت هذا الرماد فبل عليه فيخرج منه نور ساطع في السماء فتلك الايمان والمعرفة وينزل شىء اسود شبيه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب اللّه نعوذ باللّه منه - وعلى التقدير الثاني ما يعلمانه حتى يقولا انا مفتونان فلا تكن مثلنا - قلت وهذا القول نصيحة يستبعد ان يصدر من الشياطين ومن ثم قلنا ان الأول هو الظاهر فَيَتَعَلَّمُونَ الضمير لما دل عليه من أحد مِنْهُما أى هاروت وماروت والجملة معطوفة على مقدر وتقديره فيأبون فيتعلمون أو هى معطوفة على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ أى يعلمونهم فيتعلمون ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أى من السحر ما يبغض كل واحد منهما صاحبه وَما هُمْ أى السحرة أو الشياطين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 108(1/195)
بِضارِّينَ به أى بالسحر مِنْ أَحَدٍ أى أحد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعنى بقضائه وقدره ومشيته فان الأسباب كلها اسباب ظاهرية عادية غير مؤثرة بالذات - بل جرت عادة اللّه سبحانه بخلق التأثيرات والتأثرات بعد وجود الأسباب ان شاء وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ أى السحر فانه موجب لكفرهم وَلا يَنْفَعُهُمْ شيئا وفيه اشارة إلى ان تعلّم العلوم الغير النافعة كالطبيعى والرياضي ونحو ذلك مكروه لاضاعة الوقت ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم انى أعوذ بك من علم لا ينفع رواه الحاكم فى المستدرك في حديث ابن مسعود فائدة العلم الذي لا ينفع نوعان نوع منه لا ينفع أحدا من الناس حيث لا يتصور الانتفاع منه كالطبيعى ونحوه ونوع منه لا ينفع العالم إذا لم يعمل بعلمه واللّه اعلم واما العلوم الضارة فلا شك في حرمتها كالسحر والشعبدة والإلهيات الفلاسفة الا إذا كانت بنية صالحة وذكر البغوي عن ابن عباس والكلبي وقتادة وغيرهم في شأن هاروت وماروت قصة ان الملائكة لما راوا ما يصعد إلى السماء من سيات بنى آدم عيروهم فقال اللّه تعالى لو انزلتكم إلى الأرض وركّبت فيكم مثل ما ركّبت فيهم لارتكبتم مثل ما ارتكبوا فقالوا سبحانك ما لنا ان نعصيك قال فاختاروا من خياركم فاختاروا هاروت وماروت وعزائيل - فركّب اللّه فيهم الشهوات واهبطهم إلى الأرض وأمرهم ان يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنى وشرب الخمر - فاما عزائيل لما وقعت الشهوة في قلبه استقال ربه وسأل ان يرفعه إلى السماء فاقاله فسجد أربعين سنة ولم يزل بعد مطاطيا(1/196)
رأسه حياء - واما الآخران فكانا يقضيان بين الناس فإذا امسيا ذكرا اسم اللّه تعالى الأعظم وصعدا إلى السماء فما مر عليهما شهر حتى افتتنا وذلك انه اختصم إليهما ذات يوم امرأة تسمى زهرة وزوجها وكانت ملكة من أهل فارس فعشقا عليها فراوداها عن نفسها فابت وقالت لا الا ان تعبدا الصنم وتقتلا النفس تعنى زوجها وتشربا الخمر فعرضت عليهما حتى شربا الخمر وزنيابها فراهما انسان فقتلاه فمسخ اللّه الزهرة شهابا فلما امسى هاروت وماروت بعد ما ارتكبا المعاصي وأراد الصعود ما طاوعتهما أجنحتهما فقصدا إدريس النبي صلى اللّه على نبينا وعليه وسلم وسالاه ان يشفع لهما إلى اللّه فخيرهما اللّه تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة فاختارا عذاب الدنيا لانقطاعها - فهما ببابل يعذبان معلقان بشعورهما في جب ملئت نارا - روى ابن راهويه وابن مردوية عن على قوله صلى اللّه عليه وسلم لعن اللّه الزهرة فانما هى التي فتنت الملكين هاروت وماروت - واللّه اعلم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 109(1/197)
و هذه القصة من اخبار الآحاد بل من الروايات الضعيفة الشاذة ولا دلالة عليها في القرآن بشىء وفي بعض روايات هذه القصة ما يأباه النقل والعقل وهو ما حكى عن الربيعة بن انس انه مسخ اللّه الزهرة كوكبا وصعدت إلى السماء حين تعلمت الاسم الأعظم وتكلمت به ولم يستطع هاروت وماروت الصعود إلى السماء مع كونهما معلمين الزهرة ومساواتهما لها في ارتكاب المعصية بل كان كفرهما دون كفر زهرة لاجل سكرهما واللّه اعلم - قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد قال الشيخ كمال الدين - وائمة النقل لم يصححوا لهذه القصة ولا اثبتوا روايتها عن على ولا عن ابن عباس رضى اللّه عنهما - قال العاصي ان هذه الاخبار لم يرو منها شىء صحيح ولا سقيم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال وهذه الاخبار من كعب اليهود وافترائهم - قال الصالحي ذكروا في تأويل الآية ان اللّه تعالى كان قد امتحن الناس بالملكين فان السحر كان قد ظهر وظهر قول اهله فانزل اللّه تعالى ملكين يعلمان الناس حقيقة السحر ويوضحان امره ليعلم الناس ذلك ويميّزوا بينه وبين المعجزة والكرامات فمن جاء يطلب ذلك منهما انذراه وأعلماه انما أنزلنا فتنة لتعليم السحر فمن تعلّمه ليجتنبه ويعلم الفرق بينه وبين المعجزات والكرامات وما يظهره اللّه تعالى على أيدي عباده المؤمنين فذلك هو المرضى ومن تعلمه لغير ذلك ادّى به إلى الكفر - فلهذا كان الملكان « 1 » يقولان انما نحن فتنة فلا تكفر ثم يقولان له إذا فعل الساحر كذا فرق بين المرء وزوجه - فعلى هذا يكون فعل الملكين طاعة لامر اللّه تعالى ولا ينافى عصمة الملائكة - قال البيضاوي هذه القصة محكى عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوى البصائر - أقول في حله لعل المراد بالملكين القلب والروح وسائر لطائف عالم الأمر وانما ذكر الاثنين مع انها خمسة لارادة التعدد دون العدد المعين أو لأنه قد ينكشف على بعض السالكين(1/198)
الاثنين منها القلب والروح دون البواقي - فكنى ذلك الرجل عما انكشف عليه والمراد بالمرأة النفس المنبعثة من العناصر فانها الامّارة بالسوء - ولما زوج اللّه سبحانه بحكمته البالغة لطائف عالم الأمر مع النفس وجعل بينها محبة وعشقا اسودت اللطائف وانكدرت وغفلت عن خالقها وهى محبوسة منكوسة في القالب الظلماني الذي امتلأت من نار الشهوات وذلك هو المراد بالجب ببابل مملوة نارا - ثم إذا مات الإنسان وقامت قيامة واستدركه الرحمة خلصت من السجن ان بقي فيها نور الايمان - واما النفس الكائنة في قالب رجل من الأبرار فبمجاورة لطائف عالم الأمر والرياضات المأمورة وذكر اسم اللّه الأعظم صعدت
_________
(1) فى الأصل ملكين -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 110(1/199)
الى السماء كانها كوكب درى تتوقد بيضاء حتى قيل لها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي - فالنفس وان كانت خبيثة شريرة في الابتداء قبل الاهتداء لكنها تفضلت على جميع لطائف عالم الأمر بالقوة الاستعدادية المستودعة في الغبراء فان خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا من كلام سيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والتسليمات واحسن الثناء رواه مسلم عن أبى هريرة وَلَقَدْ عَلِمُوا يعنى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أى استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب اللّه تعالى - واللام للابتداء علقت علموا عن العمل ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ نصيب وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ يعنى باعوا به حظوظ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) ذلك ويتفكرون فيه والجواب محذوف دل عليه ما قبله يعنى ما شروه - فان قيل أ ليس قد قال اللّه تعالى وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ على التأكيد القسمي فما معنى قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ - قيل معناه انهم لما لم يعملوا بما علموا فكانهم ما علموا وقيل المثبت العقل العزيزي والعلم الإجمالي بقبح الفعل وترتب العقاب والمنفي العلم بحقيقة ما يلحقه من العذاب والمختار عندى ان العلم علمان علم يتعلق بظاهر القلب وذا لا يستتبع العمل ومنه علم اليهود يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يجديهم معرفتهم شيئا مثلهم كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وعلم وهبى يتخلص إلى صميم القلب بعد انجلائه والى النفس بعد اطمينانه وهو المعنى في قوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ وقوله عليه الصلاة والسلام العلماء ورثة الأنبياء يحبهم أهل السماء ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة - رواه ابن النجار عن انس - وأشار إلى كلا العلمين أفضل(1/200)
الأنبياء عليه الصلاة والثناء خير الخيار خيار العلماء وشر الشرار شرار العلماء - رواه الدارمي من حديث الأحوص بن حكيم وعن الحسن قال العلم علمان فعلم في القلب فذلك العلم النافع وعلم على اللسان فذلك حجة اللّه على ابن آدم - رواه الدارمي.
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم والقران وَاتَّقَوْا عذاب اللّه بترك المعاصي والسحر لَمَثُوبَةٌ يعنى ادنى ثواب سمى الجزاء ثوابا ومثوبة لان المحسن يثوب ويميل إليه مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب لو واصله لا ثيّبوا مثوبة من عند اللّه خيرا ممّا شروا به أنفسهم أو مما سواه فحذف الفعل وجعل الباقي جملة اسمية ليدل على ثبات المثوبة والجزم بخيريتها وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من ان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 111
ينسب إليه أو للتعميم وعدم تخصيص التفضيل بشىء مما سواه - وقيل لو للتمنى ولمثوبة كلام مبتدأ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) ان ثواب اللّه خير والكلام فيه كالكلام فيما سبق - أخرج ابن المنذر انه كان المسلمون يقولون راعنا يا رسول اللّه من المراعاة أى ارعنا سمعك أى فرّغ سمعك لكلامنا يقال أرعى إلى الشيء وأرعاه وراعاه إذا أصغى إليه واستمعه - أو المعنى راعنا أى راقبنا وتانّ بنا فيما تلقينا حتى نفهمه - والرعي حفظ الغير لمصلحته - وكان هذا اللفظ سبّا قبيحا بلغة اليهود قيل كان معناه اسمع لا سمعت وقيل كان معناه يا أحمق من الرعونة فسمع اليهود فخاطبوا النبي صلى اللّه عليه وسلم بنية السب ويضحكون فيما بينهم لعنهم اللّه ففطن بها سعد بن معاذ رضى اللّه عنه فقال لان سمعتكم تقولون ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا قتلنكم فقالوا ولستم تقولونها فانزل اللّه تعالى.(1/201)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا يعنى انظر إلينا واسمع كلامنا أو انتظر وتأنّ بنا حتى نفهم كلامك وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به وأطيعوا والمعنى أحسنوا الاستماع مع جمع حتى لا تحتاجوا إلى طلب المراعاة وَلِلْكافِرِينَ يعنى اليهود الذين سبوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعنهم اللّه عَذابٌ أَلِيمٌ (104) أى مولم - كان المسلمون يقولون لحلفائهم من اليهود أمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فقالت اليهود ما هذا الذي تدعوننا إليه بخير مما نحن عليه ولو دونا لو كان خيرا فانزل اللّه تعالى تكذيبا لهم.
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الود محبة الشيء مع تمنيه ولذلك استعمل في كل منهما - ومن للبيان ولا زائدة عطف على أهل الكتاب أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ مفعول يودّ من الاولى مزيدة للاستغراق والثانية للابتداء والخير الوحى - والمعنى انهم يحسدونكم ولا يودون ان ينزل عليكم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ - بنبوته مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (106) الفضل ابتداء احسان بلا علة - ولمّا قال المشركون ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم يأمر أصحابه بامر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه ما يقوله الا من تلقاء نفسه فانزل اللّه تعالى.
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ من بيانية - والنسخ عبارة عن شيئين أحدهما النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب وثانيهما الرفع والازالة يقال نسخت الشمس الظل والمراد هاهنا الثاني وهو في الحقيقة بيان لانتهاء التعبد بقراءتها فقط دون حكمها مثل اية الرجم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 112(1/202)
او بحكمها المستفاد منها فقط دون قراءتها مثل اية الوصية للاقارب واية عدة الوفاة بالحول - أو بهما جميعا كما قيل انها كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة فرفع أكثرها تلاوة وحكما - ثم المنسوخ حكمها منها ما أقيم غير ذلك الحكم مقامه كما في وصية الأقارب نسخت بالميراث وعدة الوفاة بالحول نسخت إلى اربعة أشهر وعشر ومنها ما لم يقم غيره مقامه كامتحان النساء - والنسخ انما يعترض الأوامر والنواهي دون الاخبار - قرأ الجمهور بفتح النون والسين من نسخ أى نرفعها - وقرا ابن عامر بضم النون وكسر السين من الانساخ أى نأمرك أو جبرئيل بنسخها أو تجدها منسوخة وما شرطية جازمة لننسخ منتصبة على المفعولية أَوْ نُنْسِها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون الأول والسين مهموزا أى نؤخرها من النساء أى نؤخر حكمها ونرفع تلاوتها كما في اية الرجم فعلى هذا يكون النسخ الأول بمعنى رفع التلاوة والحكم - أو المعنى تؤخرها في اللوح المحفوظ يعنى لم ننزلها عليك - فمعنى النسخ الرفع بعد الانزال ومعنى النساء عدم الانزال وقرا الباقون ننسها بضم النون وكسر السين من الانساء والنسيان ضد الحفظ أى نمحّها عن قلبك روى عن أبى امامة بن سهل بن حنيف - ان قوما من الصحابة رضى اللّه عنهم قاموا ليلة ليقرءوا سورة فلم يذكروا منها الا بسم اللّه الرحمن الرحيم فغدوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبروه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلك سوره رفعت بتلاوتها وأحكامها - وقيل معناه نتركها أى لا ننسخها كما قال اللّه تعالى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ يعنى تركوه فتركهم وهذا غير مستقيم لقوله تعالى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فانها تدل على إزالتها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فى النفع للعباد وبالسهولة أو كثرة الثواب لان اية خير من اية فان كلام اللّه واحد وكله خير أَوْ مِثْلِها فى ذلك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)(1/203)
استفهام تقرير أى انك تعلم واحتج بهذه الآية من يمنع النسخ بلا بدل أو بدل أثقل منه أو نسخ الكتاب بالسنة - وأجيب بانه قد يكون عدم الحكم أصلح وان ما هو الأثقل فهو انفع من حيث الثواب - وان السنة أيضا مما أتاه اللّه تعالى وعلّمه لنبيه صلى اللّه عليه وسلم.
أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فهو كالدليل على قوله تعالى أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وعلى جواز النسخ ولذلك ترك العاطف وَما لَكُمْ يا معشر الكفار عند نزول العذاب مِنْ دُونِ اللَّهِ مما سواه مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) الولي القريب وهو قد يضعف عن النصر والنصير قد يكون أجنبيا من المنصور فبينهما عموم وخصوص من وجه واللّه اعلم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 113
اخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا محمد اتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه أو فجر لنا الأرض عيونا نتبعك ونصدقك فانزل اللّه تعالى.
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ وقال البغوي نزلت في اليهود حين قالوا اتنا بكتاب من السماء جملة كما اتى موسى بالتورية - وقيل نزلت في المشركين حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ - واخرج ابن جرير عن مجاهد قال ...(1/204)
سالت قريش محمدا صلى اللّه عليه وسلم ان يجعل لهم الصفا ذهبا فقال نعم وهو لكم كالمائدة لبنى إسرائيل ان كفرتم فابوا ورجعوا فنزلت - واخرج السدى قال سالت العرب محمدا صلى اللّه عليه وسلم أن يأتيهم باللّه فيروه جهرة فنزلت - وكذا قال البغوي انه قيل سالوه فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى ... تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا - واخرج السدى عن أبى العالية قال قال رجل يا رسول اللّه لو كانت كفاراتنا ككفارات بنى إسرائيل فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما اعطاكم اللّه خيرا « 1 » كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفاراتها فان كفّرها كانت له خزى في الدنيا وان لم يكفّرها كانت له خزى في الاخرة وقد اعطاكم اللّه خيرا من ذلك قال اللّه تعالى مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً(1/205)
و الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن - فانزل اللّه تعالى أم تريدون الآية - وأم منقطعة ومعناه بل أ تريدون والمراد به التوصية بعدم الاقتراح بالسؤال - قال البغوي أم بمعنى الهمزة يعنى أ تريدون والميم زائدة وقيل بل تريدون ويمكن ان يقال انها متصلة داخلة على الجملة للتسوية بين الجملتين معطوفة على الهمزة في قوله تعالى الم تعلم والخطاب فيه وان كان إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة لكن المراد به هو وأمته أمة الاجابة أو الدعوة لقوله تعالى وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ - وانما أفرد لأنه صلى اللّه عليه وسلم أعلمهم ومبدا علمهم فالتقدير أ لم تعلموا انّ اللّه له ملك السماوات والأرض قادر على الأشياء كلها يأمر وينهى كما أراد أم تعلمون ذلك وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى - وهذا انما يستقيم ان كان نزول الآيتين في واقعة دفعة واحدة واما على تقدير اختلاف شأن نزولهما فلا - ومنع السكاكي كونها متصلة وقال علامة كون أم متصلة وقوع المفرد بعدها وكونها منقطعة وقوع الجملة بعدها كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ ساله قومه أرنا اللّه جهرة وَمَنْ يَتَبَدَّلِ أى يستبدل الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ
_________
(1) فى الأصل خير
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 114
اى ترك الثقة بالآيات البينات وشك فيها واقترح غيرها فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) حتى وقع في الكفر بعد الايمان والمعنى لا تقترحوا فتضلوا - قال البغوي قال نفر من اليهود لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد لو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعا إلى ديننا فنحن اهدى سبيلا منكم الحديث فنزلت.(1/206)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ واخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس انها نزلت في حييّ وابى ياسر بنى اخطب من اليهود وكانا من أشد يهود حسدا للعرب إذا خصهم اللّه تعالى برسوله وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا لَوْ يَرُدُّونَكُمْ يا معشر المؤمنين - لو مصدرية تنوب ان في المعنى دون العمل في اللفظ فهو مفعول ودّ - أو هو بمعنى ليت حكاية وبيان لودادهم مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً مرتدين جال من ضمير المخاطبين حَسَداً منصوب على انه علة ود - أو على المصدرية أى يحسدونكم حسدا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بود أى تمنوا ذلك من خبث أنفسهم لم يأمرهم اللّه تعالى بذلك - أو بحسد أى حسدا منبعثا من عند أنفسهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالمعجزات ومعرفة النعوت المذكورة فى التورية فَاعْفُوا فاتركوهم وَاصْفَحُوا وتجاوزوا - كان هذا قبل الأمر بالقتال حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الذي هو الاذن في القتال وضرب الجزية وقيل قتل قريظة واجلاء بنى النضير إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) فيقدر على الانتقام منهم.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا يعنى اتركوهم وخالفوهم بالإلجاء إلى اللّه تعالى بالعبادة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ صلوة أو صدقة أو غير ذلك تَجِدُوهُ أى ثوابه عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110).(1/207)
وَ قالُوا أى أهل الكتاب من اليهود والنصارى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى لف بين قولى الفريقين اعتمادا بفهم السامع - أى قالت اليهود لن يدخل الجنة الا من كان هودا ولا دين الا دين اليهودية - وقالت النصارى لن يدخل الجنة الا من كان نصارى ولا دين الا النصرانية حين اجتمع وفد نجران في مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مع اليهود فكذّب بعضهم بعضا قال الفرّاء هودا بمعنى يهودا حذف الياء الزائدة - وقال الأخفش اليهود جمع هائد كعود جمع عائد وحّد ضمير اسم كان وجمع الخبر نظرا إلى اللفظ والمعنى تِلْكَ يعنى مودتهم ان لا ينزل عليكم خير من ربكم المستفادة من قوله تعالى ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية وقوله تعالى وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 115
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ
الآية - وان لا يدخل الجنة الا هم - أو المضاف محذوف أى أمثال تلك الامنية يعنى لا يدخل الجنة الا هم أَمانِيُّهُمْ أى شهواتهم الباطلة جمع امنية افعولة من التمني كالاضحوكة والاعجوبة والجملة معترضة قُلْ يا محمد هاتُوا أصله أتوا قلبت الهمزة هاء بُرْهانَكُمْ على اختصاصكم بدخول الجنة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) فى دعويكم فان الدعوى على امر مستقبل بلا برهان باطل كاذب والجواب محذوف دل عليه ما قبله.(1/208)
بَلى يعنى ليس كما قالوا مَنْ أَسْلَمَ أى أخلص وَجْهَهُ والمراد به نفسه أو قصده لِلَّهِ وحده وَهُوَ مُحْسِنٌ يعبد ربه بالإخلاص كأنَّه يراه كذا مر تفسير الإحسان في المتفق عليه من حديث تعليم جبرئيل فَلَهُ أَجْرُهُ الذي وعده على عمله ثابتا عِنْدَ رَبِّهِ والجملة جواب من ان كانت شرطية وخبرها ان كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط والوقف على بلى وبهاتم الرد ان كانت شرطية وكذا يحتمل ان كانت موصولة - ويحتمل ان يكون الموصول مع صلتها فاعل فعل محذوف أى بلى يدخلها من اسلم - وحينئذ فله أجره جملة مبتدأة معطوفة على ما سبق وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) فى الاخرة أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس انه لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا فقال رافع بن حريملة ما أنتم على شىء وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل وقال رجل من أهل نجران لليهود ما أنتم على شىء وجحدوا بنبوة موسى عليه السلام والتورية فانزل اللّه تعالى.(1/209)
وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ يصح ويعتد به وَهُمْ والحال انهم يَتْلُونَ الْكِتابَ أى التورية التي تصدق عيسى والإنجيل - أو الإنجيل التي يصدق موسى والتورية كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أى مشركوا العرب وغيرهم من عبدة الأوثان والمجوس والقرون الخالية من الكفار حيث كذّب كل طائفة غيرها وان كانوا على الحق مِثْلَ قَوْلِهِمْ بيان لمعنى ذلك فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أى يقضى بين الفريقين وغيرهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) أى يكذّبهم ويدخلهم النار ويصدّق أهل الحق ويدخلهم الجنة - أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن يزيد ان مشركى مكة لما صدوا النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية انزل اللّه تعالى.
وَمَنْ أَظْلَمُ من مبتدأ استفهام واظلم خبره والمعنى لا أحدا ظلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 116(1/210)
مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ انما أورد لفظ الجمع وان كان المنع واقعا على مسجد وأحد لان الحكم عام وان كان المورد خاصا أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثانى مفعولى منع كما في قوله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ - أو الخافض محذوف أى من ان يذكر أو منصوب على العلية أى كراهة ان يذكر وَسَعى فِي خَرابِها بالتعطيل عن ذكر اللّه فانهم لما منعوا من يعمّره بالذكر فقد سعوا في خرابه وكذا ذكر البغوي عنه وعن عطاء - وذكر عن قتادة والسدى ان المراد بمن مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ ...(1/211)
وَ سَعى فِي خَرابِها طيطوس بن اسبسيانوس الرومي وأصحابه حملهم بغض اليهود على معاونة بخت نصر البابلي المجوس فغزوا اليهود فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرّقوا التورية وخربوا بيت المقدس وذبحوا فيه الخنازير والقوا فيه الجيف وكان بيت المقدس موضع حج النصارى ومحل زيارتهم - قلت ولعل الغرض من ذلك تعيير النصارى بما فعل اباؤهم وهم به راضون كما ان الغرض من ذكر ما صدر من أسلاف اليهود من عبادة العجل وغير ذلك تعييرهم أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ فى علم اللّه وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ فيه وعد للمؤمنين بالنصر واستخلاص المساجد منهم وقد أنجز اللّه وعده حين فتح مكة على النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه وامر النبي صلى اللّه عليه وسلم مناديا ينادى الا لا يحجن بعد العام مشرك وفتح الروم على عمر بن الخطاب وكان بيت المقدس خرابا فبناه المسلمون - وقيل هذا خير بمعنى الأمر أو النهى أى قاتلوهم حتى لا يدخلها أحد منهم الا خائفا من القتل والسبي أو لا تمكنوهم من الدخول في المساجد - وقيل المعنى ما كان ينبغى لهم ان يدخلوها الا بخشية وخضوع فضلا عن تخريبها وحينئذ الجملة في محل النصب على الحال من فاعل منع وسعى - لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل وسبى وذلة بضرب الجزية وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) النار المؤبدة بكفرهم وظلمهم.(1/212)
وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أى له الأرض كلها مشارقها ومغاربها ملكا وخلقا والمخلوقات كلها مظاهر وجوده ومجال نوره وهو نور السموات والأرض وقيم الأشياء فلا يختص به مكان دون مكان - وانما امر القبلة امر تعبدي والتكليف انما هو بقدر الطاقة فإذا لم تقدروا على استقبال القبلة في الفرائض لعدوّ - أو اشتبه القبلة وتحريتم فيها وغلطتم فيه - أو تحرجتم في نوافل السفر فى النزول عن المراكب والامتناع من السير والنوافل أسهل من امر الفرائض فَأَيْنَما شرط تُوَلُّوا مجزوم به أى إلى أى جهة تولوا يعنى وجوهكم والجواب فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أى جهة المأمور
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 117(1/213)
باستقبالها يعنى قبلة اللّه كذا قال الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل - وقيل رضأ اللّه - وقيل هى من المتشابهات كقوله تعالى كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ - ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يصلى على راحلته تطوعا أينما توجهت به وهو جاء من مكة إلى المدينة ثم قرأ ابن عمرو للّه المشرق والمغرب - وقال مجاهد أنزلت هذه الآية واخرج الحاكم عنه قال أنزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ان يصلى حيثما توجهتك راحلتك في التطوع - وقال صحيح على شرط مسلم - واخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس نزول هذه الآية حين تحولت القبلة وقالوا ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها - واسناده قوى - قلت والاول أصح سندا ومعنى فان جواب ما وليهم نازل هناك حيث قال قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ - وفي شأن نزول الآية روايات اخر ضعيفة منها ما أخرج الترمذي وابن ماجة والدارقطني حديث ربيعة قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر اين القبلة فصلى كل رجل منا على خياله فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت - وما أخرج الدارقطني والبيهقي حديث جابر قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية كنت فيها فاصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا أصبحت تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سالنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسكت وانزل اللّه تعالى وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ الآية - واخرج ابن مردوية عن ابن عباس نحوه وفيه فاخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة - ومنها ما أخرج ابن جرير عن مجاهد قال لمّا نزلت ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا إلى اين فنزلت الآية إِنَّ اللَّهَ(1/214)
واسِعٌ بإحاطة نوره ووجوده الأشياء كلها منها مشارق الأرض ومغاربها احاطة غير متكيفة ولا مدركا كنهها قال المجدد رضى اللّه عنه فى حقيقة الصلاة انها وسعة ذاتية بلا كيف لا تدرك كنهها عَلِيمٌ (115) باعذار العباد ومصالحهم ونياتهم.
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في يهود المدينة قالوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وفي نصارى نجران قالوا المسيح ابن اللّه وفي مشركى العرب قالوا الملائكة بنات اللّه - قرأ ابن عامر قالوا بلا واو باعتبار انه استيناف قصة اخر والجمهور بالواو عطفا على قالت اليهود أو على منع أو على مفهوم من اظلم يعنى ظلموا وقالوا ....
سُبْحانَهُ أسبحه سبحانا وانزهه تنزيها من ذلك فان التوليد يقتضى التشبه والتجزى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كذّبنى ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمنى ولم يكن له ذلك فامّا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 118(1/215)
تكذيبه إياي فزعم انى لا اقدر ان أعيده كما كان واما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحانى ان اتخذ صاحبة ولا ولدا - رواه البخاري وروى عن أبى هريرة نحوه وفيه اما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدنى كما بدانى وليس أول الخلق باهون على من إعادته واما شتمه إياي فقوله اتخذ اللّه ولدا وانا الأحد الصمد الذي لم الد ولم اولد ولم يكن لى كفوا أحد بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا فكيف يتصور التوالد حيث لا مجانسة بين المخلوق الممكن المحتاج في الوجود وتوابعه الهالك في نفسه والخالق الواجب الغنى القيوم المتأصل بوجوده كُلٌّ ما في السموات والأرض لَهُ قانِتُونَ (116) أى قائمون بالشهادة على توحيده مقرّون بعبوديته فان الممكن يشهد ويدل انه عبد محتاج إلى خالق واجب واحد لا يماثله ممكن فهو نظير قوله تعالى وَإِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لا يفقه شهادتهم وتسبيحهم وتحميدهم الا ارباب القلوب بمشاعر قلوبهم التي يدرك بها حياتهم أو ارباب العقول المستدلين بذواتهم واحتياجاتهم - واصل القنوت القيام قال عليه الصلاة والسلام أفضل الصلاة طول القنوت - رواه مسلم واحمد والترمذي - والمعنى انهم مطيعون روى احمد بسند حسن عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة قلت يعنى لا يمتنعون عن مشيته وتكوينه وكلما هذا شأنه لا يجانس الواجب - وجاء بما لشموله لما لا يعقل وقال قانتون تغليبا لذوى العقول أو لأنه لما اثبت لهم القنوت التي هى هيئة ارباب العقول جمعهم على هيئتهم وقيل معناه كلما زعموه الها من المسيح وعزير والملائكة كلهم له قانتون مطيعون مقرّون بالعبودية فيكون إلزاما بعد اقامة الحجة - .(1/216)
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى مبدعهما وخالقهما وخالق كل شىء كما هو خالق ما فيهما أو المعنى بديع سمواته وارضه وَإِذا قَضى أَمْراً أى أراد شيئا - واصل القضاء الفراغ ومنه إطلاقه على إتمام الشيء قولا كقوله تعالى وَقَضى رَبُّكَ - أو فعلا كقوله تعالى فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ويطلق على تعلق الارادة الالهية بوجود شىء من حيث انه يوجبه فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) من كان التامة لعدم الخبر أى أحدث فيحدث - واما كون الشيء موصوفا بصفة فليس مدلولا لهذه الآية - قرأ الجمهور فيكون بالرفع استينافا أو عطفا على يقول في جميع المواضع غير ان الكسائي تابع ابن عامر في النحل ويس فنصب - وقرا ابن عامر فيكون بالنصب في جميع المواضع « 1 »
_________
(1) يعنى هنا وفي ال عمران فيكون ونعلمه وفي النحل ومريم ويس وغافر - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 119(1/217)
الا في ال عمران كن فيكون الحقّ - وفي سورة الانعام كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ - وانما نصبها بتقدير ان بعد الفاء في جواب الأمر - وهاهنا مباحث أحدها انه لا يجوز الخطاب مع المعدوم وأجيب بانه لما قدر وجوده كان كالموجود فصح الخطاب - وقال ابن الأنباري معنى انما يقول له أى لاجل تكوينه فعلى هذا لم يبق معنى الخطاب - وقال البيضاوي ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال بل تمثيل لحصول ما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف وفيه تقرير لمعنى الإبداع - ثانيها انه نصب يكون بتقدير ان يقتضى ان يكون صيغة الأمر بمعناه حتى يقدر بعده بعد الفاء ان في جوابه وليس الأمر كذلك بل هو على سبيل تمثيله بسرعة حصول المراد فكيف يتصور النصب - وأجيب بان نصبه على جواب الأمر بالفاء في ظاهر اللفظ وان لم يكن في المعنى كذلك - ثالثها ان من شرائط تقدير ان سببيّة ما قبل الفاء لما بعده - وحينئذ يلزم ان يكون للمكن كونان وأجيب عنه بان المراد بالكون الأول الوجوب مجازا إطلاقا بالمسبب على السبب فان الممكن ما لم يجب لم يوجد فتقديره ليكن وجوب ذلك الشيء موجودة - قلت ويمكن الجواب بان المراد بالكونين كونه في دار العمل السبب وكونه في دار الجزاء المسبب لكن هذا التأويل يقتضى الاختصاص بالمكلفين وسياق الآية يقتضى العموم - والصواب ان يقال في الجواب المراد بالكونين كونه في « 1 » مرتبة الأعيان الثابتة لوجود علمى وكونه في الخارج الظلي بوجود ظلى كذا قالت الصوفية العلية ولا يلزم منه كون مرتبة الأعيان الثابتة حادثة حدوثا زمانيا بل حدوثا ذاتيا - وعلى هذا التأويل هذا الآية تدل على التوحيد الشهودى كما قال به المجدد رضى اللّه عنه دون التوحيد الوجودي كما قال به الشيخ الأكبر محى الدين العربي قدس سره ان الممكنات ما شمت رائحة الوجود يعنى في الخارج واللّه اعلم.(1/218)
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ قال ابن عباس المراد به اليهود - وكذا أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عنه انه قال قال رافع بن حريملة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان كنت رسولا من اللّه كما تقول فقل للّه فليكلمنا حتى نسمع كلامه - وقال مجاهد المراد به النصارى - وانما نفى العلم عن الفريقين لتجاهلهم - وقال قتادة المراد به الأميون من مشركى العرب لَوْ لا هلّا وكذا كل ما في القرآن لو لا فهو بمعنى هلّا الا في قوله تعالى فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ معناه فلو لم يكن يُكَلِّمُنَا اللَّهُ كما يكلم الملائكة وكلم موسى فلا يحتاج إلى رسول أو يكلمنا بانّك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجة على صدقك والاول استكبار والثاني جحود لما أتاهم من الآيات استهانة
_________
(1) فى الأصل في المرتبة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 120
و عنادا كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أى أسلاف اليهود والنصارى مِثْلَ قَوْلِهِمْ فقالوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وقالوا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أى تشابهت قلوب الأخلاف قلوب الاسلاف في العمى والعناد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) أى يطلبون اليقين بما هو الحق عند اللّه تعالى خصهم لان منفعة الآيات راجعة إليهم لا إلى المجادلين عتوا وعنادا.(1/219)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ متلبسا بِالْحَقِّ ومؤيدا به قال ابن عباس المراد بالحق القرآن قال اللّه تعالى بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ بَشِيراً لاهل الطاعة وَنَذِيراً مخوفا لاهل المعصية وَلا تُسْئَلُ قرأ نافع ويعقوب على صيغة النهى المبنى للفاعل - والباقون بالرفع على النقي المبنى للمفعول عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) هو معظم النار والمعنى على قراءة الجمهور انه لا تسئل انهم لم لم يؤمنوا انما عليك البلاغ وعلينا الحساب وعلى قراءة نافع النهى عن السؤال كناية عن شدة عقوبة الكفار يقال لا تسئل عن شر؟؟ فانه فوق ما تحسب أو انه عسير مفزع سماعها - وما ذكر البغوي انه قال عطاء عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ذات يوم ليت شعرى ما فعل أبواي فنزلت هذه الآية - وقال عبد الرزاق أخبرني الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي عنه - واخرج ابن جرير من طريق ابن جريح أخبرني داود بن عاصم عنه فذكرا نحوه فليس بمرضى عندى وليس بقوى - ولو صح ذلك فهذا زعم من ابن عباس فانه لو سلم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليت شعرى ما فعل أبواي ونزلت في هذا اليوم تلك الآية اتفاقا فلا دليل فيه على ان المراد باصحاب الجحيم أبواه صلى اللّه عليه وسلم وعلى تقدير التسليم فتلك الآية لا تدل على كفرهما فان المؤمن قد يكون من اصحاب الجحيم لاكتساب بعضى المعاصي حتى تدركه المغفرة بشفاعة شافع أو دون ذلك أو يبلغ الكتاب اجله - وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم انه قال بعثت من خير قرون بنى آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه رواه البخاري من حديث أبى هريرة وقال صلى اللّه عليه وسلم ما افترق الناس فرقتين الا جعلنى اللّه فى خيرهما فاخرجت من بين أبوي ولم يصبنى شىء من عهد الجاهلية خرجت من نكاح لم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبى وأمي فانا خيركم نفسا وخيركم أبا - ورواه البيهقي في(1/220)
دلائل النبوة من حديث انس وأبو نعيم في دلائل النبوة من حديث ابن عباس نحوه - وقد صنف الشيخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 121
الاجل جلال الدين السيوطي رضى اللّه عنه في اثبات اسلام اباء النبي صلى اللّه عليه وسلم رسائل وأخذت من تلك الرسائل رسالة فذكرت فيها ما يثبت إسلامهم ويفيد اجوبة شافية لما يدل على خلافه فللّه الحمد.
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ الملة ما شرع اللّه لعباده على لسان أنبيائه - من أمللت الكتاب إذا املاته - قيل انهم كانوا يسئلون الهدنة ويطمعونه انه ان امهلهم يؤمنوا فنزلت - واخرج الثعلبي عن ابن عباس ان يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون النبي صلى اللّه عليه وسلم حين كان يصلّى إلى قبلتهم فلما صرف القبلة إلى الكعبة ايئسوا منه فنزلت - وفي الآية مبالغة في اقناط رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن إسلامهم يعنى انهم يريدون ان تتبع ملتهم فكيف يتبعونك - ولعلهم قالوا مثل ذلك ولذا القن اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وسلم جوابهم حيث قال قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى أى الحق لا ما يدعون إليه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الهوى رأى يتبع الشهوة بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أى الوحى أو الدين المعلوم صحته ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) يدفع عنك عقابه.(1/221)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أى القرآن قال قتادة وعكرمة هم اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم وقيل هم المؤمنون عامة أو المراد به مؤمنوا أهل الكتابين قال ابن عباس نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبى طالب وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا - وقال الضحاك هم الذين أمنوا من اليهود منهم عبد اللّه بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسيد وأسد ابنا كعب بن يامين وعبد اللّه بن صوريا فحينئذ الموصول للمعهود يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ الضمير راجع إلى الكتاب أى يتلون الكتاب بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر فى معناه والعمل بمقتضاه « 1 » - وقال الكلبي الضمير راجع إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم أى يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس - وهذا على تقدير كون المراد بالموصول مومنوا أهل الكتاب - وقوله تعالى يتلونه حق تلاوته حال مقدرة والخبر ما بعده أو خبر وقوله تعالى أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ خبر بعد خبر أى بكتابهم أو بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أى بالكتاب بالتحريف -
_________
(1) أخرج الخطيب بسند فيه مجاهيل عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يتبعونه حق اتباعه - وعن عمر في قوله تعالى يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال إذا مر بذكر الجنة سال اللّه الجنة وإذا مر بذكر النار تعوذ باللّه من النار - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 122
او بالكفر بما يصدقه أو بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) حيث اشتروا الكفر بالايمان.(1/222)
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) لمّا صدر قصتهم بالأمر بذكر النعمة والقيام بحقوقها والحذر عن اضاعتها والخوف عن الساعة وأهوالها كرر ذلك وختم به الكلام معهم مبالغة في النصح وإيذانا بانه فذلكة القصة والمقصود منها - .(1/223)
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ - قرأ هشام إبرهم في جميع هذه السورة وهى خمسة عشر وفي النساء ثلثة وهى الاخيرة وفي الانعام الحرف الأخير وفي التوبة الحرفان الآخران وفي ابراهم حرف وفي النحل الحرفان وفي مريم ثلثة أحرف وفي العنكبوت الحرف الأخير وفي الشورى حرف وفي الذاريات حرف وفي النجم حرف وفي الحديد حرف وفي الممتحنة الحرف الأول - فذلك ثلثة وثلثون حرفا وجملته تسع وستون « 1 » وقرا ابن ذكوان في البقرة خاصة بالوجهين « 2 » والباقون ابراهيم بالياء في الجميع والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء وهو يستلزم الاختبار فظن ترادفهما والمراد بالكلمات مدلولاتها وهى الأوامر والنواهي قال عكرمة عن ابن عباس هى ثلثون سهما هن شرايع الإسلام لم يبتل أحد بهذا الدين فاقامه كلّه الا ابراهيم فكتب له البراءة فقال وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى - عشرة في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وعشر في الأحزاب ان الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ - وعشر في المؤمنين وسال سائل قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا(1/224)
عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ الآية الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ
_________
(1) هكذا في الأصل لعله سبق قلم - أبو محمد عفا اللّه عنه
(2) فى الأصل الوجهين -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 123
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ - وقال طاؤس ابتلاه اللّه بعشرة أشياء هى الفطرة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في البدن تقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء بالماء - وقال الربيع وقتادة ...(1/225)
مناسك الحج - وقال الحسن ابتلاه اللّه بسبعة أشياء بالكوكب والقمر والشمس فاحسن فيها النظر وعلم ان ربه دائم لا يزول وبالنار فصبر عليها وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها - وقال سعيد بن جبير هو قول ابراهيم وإسماعيل إذ يرفعان قواعد البيت رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا فرفعاه بسبحان اللّه والحمد للّه ولا الله الا اللّه واللّه اكبر - وقال يمان بن رباب هن محاجة قومه قال اللّه تعالى وحاجّه قومه إلى ان قال وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ - وقيل هى قوله الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى اخر الآيات - وقيل المراد بالكلمات ما تضمنه الآيات التي بعدها - قلت والجمع بين هذه الأقوال اولى فالمراد به واللّه تعالى أعلم ان اللّه ابتلاه بالأوامر والنواهي كلها منها الثلاثون ومنها العشرة ومنها السبعة وغير ذلك فَأَتَمَّهُنَّ أى فاداهن كلهن كملا وقام بهن حق القيام وقالَ اللّه تعالى إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً كلمة قال فعل تعلق به الظرف المتقدم اعنى إذ ابتلى معطوفة على ما قبلها - وان كان الظرف متعلقا بمحذوف يعنى اذكر فهى استيناف كأنَّه قيل فماذا قال ربه حين اتمهن فاجيب بذلك أو بيان لقوله ابتلى فيكون الكلمات ما ذكره من الامامة وتطهير البيت ورفع قواعده والإسلام وجاعل من الجعل الذي له مفعولان والمراد بالامامة هاهنا النبوة أو ما هو أعم منه اعنى من يؤتم به ويجب اطاعته - وليس المراد به السلطنة أو الامامة بالمعنى الأخص الذي اخترعه الامامية وليس له في اللغة والشرع اصل - وقد جعل اللّه تعالى لابراهيم عليه السلام امامة عامة حتى قال لسيد الأنبياء اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قالَ ابراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف أى بعض ذريتى - والذرية نسل الرجل فعليّة أو فعّولة قلبت راءها الثالثة ياء كما في دسّها - مشتق من الذر بمعنى التفرق - أو فعولة أو فعيلة من الذرء(1/226)
بمعنى الخلق قلبت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 124
همزتها ياء قالَ اللّه تعالى لا يَنالُ عَهْدِي يعنى الامامة قرأ حفص وحمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها الظَّالِمِينَ (124) من ذريتك أجاب دعاءه وخص ذلك بالمتقين - والمراد بالظالم الفاسق ان كان المراد بالامامة النبوة لان العصمة شرط في النبوة اجماعا - أو المراد به الكافر ان كان المراد بالامامة أعم من النبوة كل من يؤتم به ويقتدى فان الكافر لا يجوز ان يؤخذ أميرا ولا مطاعا حيث قال اللّه تعالى وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وقال وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً - ولو قلنا ان المراد بالامامة كونه مطاعا وبالظالم الفاسق قلنا معنى قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ان الفاسق وان كان أميرا فلا يجوزا طاعته في الظلم والمعصية لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - رواه مالك واحمد من حديث عمران والحكيم بن عمرو الغفاري وروى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث علىّ بلفظ لا طاعة لاحد في معصية اللّه انما الطاعة في المعروف « 1 » - واما النصوص الواردة في وجوب إطاعة اولى الأمر كقوله تعالى أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ - وقوله عليه الصلاة والسلام اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا كانّ رأسه زبيبة - فمختصة بما لم يخالف أمرهم امر الشارع فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فليس في الآية حجة للروافض على كون العصمة شرطا في الامامة واللّه اعلم - .(1/227)
وَ اذكر إِذْ جَعَلْنَا ادغم أبو عمرو وهشام الذال من إذ في الجيم هاهنا وحيث وقع وكذا فى الزاء نحو إذ زيّن وفي السين نحو إذ سمعتموه - والصاد نحو إذ صرفنا - والتاء نحو إذ تبرّا والدال نحو إذ دخلوا - وادغم ابن ذكوان في الدال وحدها وخلف « 2 » في الدال والتاء واظهر خلاد والكسائي عند الجيم فقط ونافع وابن كثير وعاصم يظهرون الذال عند ذلك كله الْبَيْتَ الكعبة غلب عليها كالنجم على الثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ أى مرجعا يثوبون إليه من كل جانب - أو موضع ثواب لهم بحج وعمرة وصلوة فيها قال عليه الصلاة والسلام صلاته في المسجد الحرام بمائة الف صلوة - رواه ابن ماجة وَأَمْناً أى مأمنا يأمنون فيه من إيذاء المشركين فانهم كانوا لا يتعرضون لاهل مكة ويقولون هم أهل اللّه ويتعرضون لمن حوله كما قال اللّه تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد
_________
(1) واخرج ابن مردوية بسند ضعيف عن على بن أبى طالب عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ قال لا طاعة الا في المعروف - منه رحمه اللّه
(2) وكذا خلف في اختياره - أبو محمد عفا عنه [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 125(1/228)
حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة وانه لن يحل القتال فيه لاحد ولم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته الا من عرّفها ولا يختلى خلاها - فقال العباس يا رسول اللّه الا الاذخر فانه لقينهم ولبيوتهم فقال الا الاذخر - متفق عليه من حديث ابن عباس وفي رواية أبى هريرة نحوه - وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى والمراد به الركعتان بعد الطواف روى مسلم فى حديث طويل عن جابر بن عبد اللّه حتى إذا اتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلثا ومشى أربعا ثم تقدم إلى مقام ابراهيم عليه السلام فقرا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى فجعل المقام بينه وبين البيت واللّه اعلم - وكلمة من للتبعيض ان كان المراد بمقام ابراهيم الحرم كله كما قال ابراهيم النخعي - أو المسجد كما قال ابن يمان - أو مشاهد الحج كلها عرفة ومزدلفة وغيرهما كما قال به بعض الناس - وللابتداء ان كان المراد بمقام ابراهيم الحجر الذي في المسجد يصلى إليه الائمة - وذلك الحجر هو الذي قام عليه ابراهيم عند بناء البيت وكان اثر أصابع رجليه عليه بينا فاندرس بكثر المسح بالأيدي وهذا القول أصح ويدل عليه ما ذكرنا من حديث جابر - فتقديره واتخذوا مصلى قريبا من مقام ابراهيم يعنى في المسجد أو في الحرم - قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الماضي عطفا على جعلنا - وقرا الآخرون بالكسر على الأمر فهو معطوف على جعلنا بتقدير وقلنا اتّخذوا - أو على المقدر عاملا لاذ يعنى واذكروا إذ جعلنا واتخذوا أو اعتراض معطوف على مقدر تقديره توبوا إليه واتخذوا - وعلى التقديرين الأخيرين خطاب لامة محمد صلى اللّه عليه وسلم عن انس قال قال عمر بن الخطاب وافقت ربى في ثلث ووافقنى ربى في ثلث قلت يا رسول اللّه لو اتخذت مقام ابراهيم عليه السلام مصلى فانزل(1/229)
اللّه واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى - وقلت يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فانزل اللّه تعالى اية الحجاب قال وبلغني معاتبة النبي صلى اللّه عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت ان انتهيتن أو ليبدّلن اللّه رسوله خيرا منكن فانزل اللّه عز وجل عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ الآية - رواه البخاري وهذه الآية حجة لابى حنيفة ومالك في القول بوجوب الركعتين بعد كل أسبوع من الطواف لان صيغة الأمر للوجوب والاخبار ادل على الثبوت والوجوب وكان القياس فرضية الركعتين للنص القطعي لكن لما كان ورد الآية
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 126(1/230)
فى تلك الصّلوة ثابتا بأحاديث الآحاد قلنا بالوجوب دون الفرضية - وأيضا ثبت الركعتين بمواظبة النبي صلى اللّه عليه وسلم عليهما من غير ترك مرة ولا مرتين مع قوله صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى مناسككم - عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما تقدم سعى ثلثة ومشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم تطوف بين الصفا والمروة - متفق عليه وفي البخاري تعليقا قال اسمعيل بن امية قلت للزهرى ان عطاء يقول يجزيه المكتوبة من ركعتى الطواف قال السنة أفضل لم يطف النبي صلى اللّه عليه وسلم اسبوعا قط الأصلي ركعتين - وصله عبد الرزاق عن الزهري كما ذكرنا - ووصله ابن أبى شيبة عن الزهري بلفظ مضت السنة ان مع أسبوع ركعتين وقال احمد بن حنبل الأمر للاستحباب وهى رواية عن مالك وللشافعى قولان - ولا يجوز حمل الأمر على الاستحباب لأنه مجاز الا عند عدم تصور الوجوب ويجوز ركعتى الطواف في جميع المسجد بل خارج المسجد أيضا اجماعا - وفي الصحيحين في حديث أم سلمة - قال ص إذا أقيمت صلوة الصبح فطوفى على بعيرك والناس يصلون قالت ففعلت ذلك - ولم تصل يعنى أم سلمة بعد الطواف حتى خرجت أى من المسجد أو من مكة - وروى البخاري تعليقا ان عمر رضى اللّه عنه صلى ركعتى الطواف خارج الحرم بذي طوى رواه مالك قلت وذلك للزوم الحرج غالبا في تقييد الصلاة بموضع معين - الا ترى انه كان القياس عدم جواز الصلاة والصوم والحج والزكوة إذا لم يقترن النية والإخلاص مع جميع اجزائها مقارنا للاداء لقوله تعالى فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ - و(1/231)
قوله عليه الصلاة والسلام انما الأعمال بالنيات - متفق عليه من حديث عمر لكنه للزوم الحرج في ذلك جازت الصلاة والحج بوجود النية عند الإحرام والزكوة بوجودها عند إفراز قدر الواجب عن المال - ولما كان في اشتراط النية عند أول جزء من الصيام يعنى عند طلوع الفجر وهو أوان نوم وغفلة غالبا حرج جاز الصوم بالنية من الليل بل عند أبى حنيفة رحمه اللّه يجوز النية في الصوم إلى الضحوة الكبرى كذلك كان القياس تقييد ركعتى الطواف بالمقام لظاهر الآية لكنه جازت ركعتا « 1 » الطواف في المسجد بل في الحرم كلها للزوم الحرج في تعيين المصلى مع كثرة الطائفين - وقد سمى اللّه تعالى الحرم كله بالمسجد حيث قال الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ الآية - وقال ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ - واما صلوة عمر رضى اللّه عنه بذي طوى فكانه قضاء للواجب للضرورة - أو نقول ذكر مقام
_________
(1) فى الأصل ركعتى -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 127(1/232)
ابراهيم وقع اتفاقا جريا على الغالب عند عدم الازدحام كما في قوله تعالى وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ وذلك لان أسبوع الطواف ينتهى على الحجر الأسود عند المقام فالغالب الصلاة عند المقام ان لم يمنع مانع كما ان الغالب كون الربائب في الحجور واللّه اعلم - قال البغوي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما اتى ابراهيم بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة وأتت على ذلك مدة ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امراة وماتت هاجر استأذن ابراهيم سارة ان يأتى هاجر فاذنت له وشرطت عليه ان لا ينزل - فقدم ابراهيم عليه السلام وقد ماتت هاجر فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وكان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد فقال لها ابراهيم هل عندك ضيافة قالت ليست عندى وسالها عن عيشهم فقالت نحن في ضيق وشدة وشكت إليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام وقولى له فليغير عتبة بابه - وذهب ابراهيم فجاء إسماعيل عليهما السلام فوجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت جاءنى شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال فما قال لك قالت قال اقرئي زوجك السلام وقولى فليغير عتبة بابه - قال ذاك أبى وقد أمرني ان أفارقك الحقي باهلك فطلقها وتزوج منهم اخرى فلبث ابراهيم عليه السلام ما شاء اللّه ان يلبث ثم استأذن سارة ان يزور إسماعيل فجاء ابراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامراته اين صاحبك قالت ذهب يتصيد وهو يجىء ان شاء اللّه تعالى فانزل رحمك اللّه قال هل عندك ضيافة قالت نعم فجاءت باللبن واللحم - وسالها عن عيشهم فقالت نحن بخير وسعة فدعا لهما بالبركة ولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير أو تمر لكانت اكثر ارض اللّه برا وشعيرا وتمرا - وقالت له انزل حتى اغسل رأسك فلم ينزل - فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الايمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الايمن ثم حولته إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقى اثر(1/233)
قدميه عليه فقال لها إذا جاء زوجك فاقرايه السلام وقولى له قد استقامت عتبة بابك فاضبطها فلما جاء إسماعيل وجد ريح أبيه فقال لامراته هل جاءك أحد قالت نعم شيخ احسن الناس وجها وأطيبهم ريحا فقال لى كذا وكذا وقلت له كذا وكذا وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال ذلك ابراهيم وأنت العتبة أمرني ان امسكك - ثم لبث عنهم ما شاء اللّه تعالى ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل عليه السلام يبرىء نبلا تحت دوحة قريبة من زمزم فلما راه قام إليه فصنعا كما يصنع
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 128(1/234)
الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال يا إسماعيل ان اللّه أمرني بامر أ تعيننى عليه قال أعينك عليه - قال ان اللّه تعالى أمرني ان ابني بيتا فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتيه بالحجارة وابراهيم عليهما السلام يبنى فلما ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام ابراهيم على حجر المقام وهو يبنى وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - وفي الحديث - الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة - رواه مالك عن انس مرفوعا وعن ابن عمر قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان الركن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة طمس اللّه نورهما ولو لم يطمس نورهما لاضاء اما بين المشرق والمغرب - رواه الترمذي وذكر البغوي بلفظ لو لا ما مسته أيدي المشركين لاضاءتا ما بين المشرق والمغرب - ولاهل الاعتبار هاهنا استنباط وهو ان في كل مكان مكث فيه رجل من أهل اللّه تعالى حينا من الدهر ينزل هناك بركات من السماء وسكينة تجذب القلوب إلى اللّه تعالى ويتضاعف هناك اجر الحسنات وكذا وزر السيئات واللّه اعلم - وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أى امرناهما وأوصينا إليهما أَنْ طَهِّرا أى بان طهرا ويجوز ان يكون ان مفسرة لتضمين العهد معنى القول بَيْتِيَ اضافه إليه تفضيلا يعنى ابنيا على الطهارة والتوحيد قال سعيد بن جبير وعطاء طهراه من الأوثان والريب وقول الزور - وقيل بخراه وخلّقاه - قرأ نافع وهشام وحفص بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج وزاد حفص في سورة نوح لِلطَّائِفِينَ حوله وَالْعاكِفِينَ المقيمين عنده أو المعتكفين فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) جمع راكع ساجد يعنى المصلين.(1/235)
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا المكان بَلَداً آمِناً ذا أمن كقوله عيشة راضية أى ذات رضية - أو أمنا من فيه كقولك ليل نائم وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ دعا بذلك لأنه كان واديا غير ذى زرع - وفي القصص ان الطائف كانت من مدائن الشام بأردن - فلما دعا ابراهيم عليه السلام أمر اللّه جبرئيل حتى اقتلعها من أصلها وأدارها حول البيت سبعا ثم وضعها هاهنا ومنها اكثر ثمرات مكة مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من اهله بدل البعض خصهم بالدعاء كيلا يكون امانة للكفار على كفرهم قالَ اللّه تعالى وَمَنْ كَفَرَ عطف على من أمن والمعنى وارزق من كفر وتم الكلام - وفيه تنبيه على ان الرزق الذي هو رحمة دنيوية يعم المؤمن والكافر ولذلك يقال رحمن الدنيا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 129(1/236)
و رحيم الاخرة بخلاف النبوة وكونه مطاعا في الدين أو يكون من كفر مبتدأ تضمن معنى الشرط خبره فَأُمَتِّعُهُ قرأ ابن عامر مخففا من الافعال والباقون مشددا من التفعيل ومعناهما واحد قَلِيلًا أى متاعا قليلا فان متاع الدنيا قليل بالنسبة إلى الاخرة أو قليل رتبة عند اللّه تعالى قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء - رواه الترمذي وصححه وأيضا عن سهل بن سعد - أو في زمان قليل إلى مدة اجالهم - فان قيل الكفر لا يكون سببا للتمتع فكيف ادخل الفاء على خبره أجيب بانه سبب لتقليل التمتع حيث يجعل نعماء الدنيا مقصورة على حظوظها العاجلة ويمنع كونها وسائل لنيل درجات الاخرة بخلاف المؤمن فان ما أنعم اللّه عليه في الدنيا لاجل شكره عليه وصرفه في مرضات ربه سبب لنيل درجات الاخرة المؤبدة - ويمكن ان يقال متاع الحيوة الدنيا خبيثة ملعونة عند اللّه فيمكن ان يكون الكفر سببا لحصوله الم تسمع قوله تعالى - وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا - يعنى ان المقتضى الأصلي للكفر متاع الحيوة الدنيا ولو لا مانع كون الناس أمة واحدة لاقتضى الكفر كون بيوتهم وأبوابهم وسررهم فضة وذهبا - قال عليه الصلاة والسلام الدنيا ملعونة وملعون ما فيها الا ذكر اللّه وما والاه وعالما ومتعلما - رواه ابن ماجة عن أبى هريرة والطبراني بسند صحيح في الأوسط - وفي الكبير بسند صحيح عن أبى الدرداء بلفظ الا ما ابتغى به وجه اللّه عز وجل ثُمَّ أَضْطَرُّهُ أى ألجئه والزه لزة المضطر لكفره وصرفه المتاع فى غير مرضات ربه معطوف على أمتعة إِلى(1/237)
عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) هو أى العذاب قال مجاهد وجد عند المقام مكتوبا انا اللّه ذوبكة صنعتها يوم خلقت الشمس والقمر وحرمتها يوم خلقت السموات والأرض وحففتها بسبعة املاك يأتيها رزقها من ثلثة سبل مبارك لها في اللحم والماء - .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية جمع قاعدة وهى الأساس صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات مجاز من القعود ضد القيام - ورفعها البناء عليها فانه ينقلها من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وقال الكسائي القواعد الجدر وكل جدار قاعدة ما وضع فوقه ورفعها بناؤها وَإِسْماعِيلُ عطف على ابراهيم وسبب فصله عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 130(1/238)
بتقديم المفعول ان الباني لم يكن الا ابراهيم ولذا أفرده اولا بالذكر وكان إسماعيل يناوله الحجارة فكان له مدخل في البناء ولذا عطف عليه ثانيا - قال البغوي روت الرواة ان اللّه سبحانه خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما اهبط اللّه تعالى آدم عليه السلام إلى الأرض استوحش فشكا إلى اللّه عز وجل فانزل اللّه تعالى البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد اخضر باب شرقى وباب غربى فوضعه على موضع البيت وقال يا آدم انى أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف حول العرش وتصلى عنده كما يصلّى عند عرشى - وانزل الحجر وكان ابيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية - فتوجه آدم من ارض الهند إلى مكة ماشيا وقيض اللّه له ملكا يدل له على البيت - فحج البيت واقام المناسك فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام - قال ابن عباس حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رحلته - فكان على ذلك إلى ايام الطوفان فرفعه اللّه تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون الف ملك ثم لا يعودون إليه - وبعث جبرئيل حتى خبا الحجر الأسود في جبل أبى قبيس - صيانة له من الغرق - فكان موضع البيت خاليا إلى زمن ابراهيم عليه السلام - ثم ان اللّه تعالى امر ابراهيم عليه السلام بعد ما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء البيت يذكر فيه فسأل اللّه عز وجل ان يبين موضعه فبعث السكينة لتدله على موضع البيت - وهى ريح خجوج لها رأسان شبيه الحية - وامر ابراهيم ان يبنى حيث يستقر السكينة - فتبعها ابراهيم حتى أتيا مكة فتطوت السكينة على موضع البيت كتطوى الجحفة هذا قول على والحسن - وقال ابن عباس بعث اللّه تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وابراهيم يمشى في ظلها إلى ان وافت مكة ووقفت على موضع البيت فنودى منها ابراهيم ان ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص - وقيل(1/239)
أرسل اللّه جبرئيل ليدله على موضع البيت فذلك قوله تعالى وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ - فكان ابراهيم يبنى وإسماعيل يناوله الحجر - قال ابن عباس بنى البيت من خمسة اجبل طور سينا وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنى قواعد من حرا وهو جبل بمكة فلما انتهى إلى موضع الحجر الأسود قال لاسماعيل ايتني بحجر حسن يكون للناس علما فاتاه بحجر فقال ايتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل بطلبه فصاح أبو قبيس يا ابراهيم ان لك عندى وديعة فخذها فاخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه - وقيل ان اللّه تعالى بنى في السماء بيتا وهو البيت المعمور ويسمى ضراح وامر الملائكة ان يبنوا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 131
الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله - وقيل أول من بنى الكعبة آدم واندرس زمن الطوفان ثم أظهره اللّه تعالى لابراهيم عليه السلام حتى بناه رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ (127) بنياتنا.(1/240)
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أى منقادين لجميع أو أمرك ظاهرا وباطنا قال عليه الصلاة والسلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده - متفق عليه من حديث عبد اللّه بن عمر والمعنى من لا يصدر عنه معصية فيسلم هو من عذاب اللّه ويسلم غيره من إيذائه أو من خبث صحبته وهذا هو الإسلام الكامل المعبر بالإسلام الحقيقي ولا يتصور الا بعد اطمينان النفس وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ من للتبعيض دعوالهم بشفقة الابوة وخصا « 1 » بعضهم لما علما مما سبق ان يكون بعضهم كفارا - ويحتمل ان يكون من للبيان فصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ - وَأَرِنا أى عرّفنا أصله أرانا على وزن اكفنا - قرأ ابن كثير وأبو شعيب أرنا وأرنى ساكن الراء حيث وقع بحذف الهمزة مع كسرتها للتخفيف وقرا أبو عمر بالاختلاس والباقون مكسور الراء بحذف الهمزة بعد نقل بعض حركتها أو كلها إلى الراء مَناسِكَنا أى شرائع ديننا واعلام حجنا والنسك في الأصل غاية العبادة شاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا - قال البغوي فاجاب اللّه دعوتهما وبعث جبرئيل فاراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغا عرفات قال عرفت يا ابراهيم قال نعم فسمى الوقت والمكان عرفة وَتُبْ عَلَيْنا قالا ذلك الدعاء هضما لانفسهما وإرشادا لذريتهما إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) لمن تاب إليك.(1/241)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ من أنفسهم فاجاب اللّه دعونهما وبعث محمدا صلى اللّه عليه وسلم - عن العرباض بن سارية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال انى عند اللّه مكتوب خاتم النبيين وان آدم لمنجدل في طينته وساخبركم باول امرى دعوة ابراهيم وبشارة عيسى عليهما السلام ورؤيا أمي التي رات حين وضعتني وقد خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام - رواه البغوي في شرح السنة واحمد عن أبى امامة عن قوله ساخبركم إلى آخره يَتْلُوا عَلَيْهِمْ يقرا آياتِكَ الدلائل على التوحيد والنبوة وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن وَالْحِكْمَةَ ما يكمل نفوسهم من المعارف والاحكام وقيل هى السنة - وقيل هى القضاء وقيل الفقه وَيُزَكِّيهِمْ أى يطهرهم من الشرك والذنوب - وقيل يأخذ الزكوة من أموالهم وقال ابن كيسان يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة
_________
(1) فى الأصل خص -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 132
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ قال ابن عباس العزيز من لا يوجد مثله وقال الكلبي المنتقم - وقيل المنيع الذي لا يناله الأيدي ولا يصل إليه شىء - وقيل الغالب الذي لا يغلبه أحد الْحَكِيمُ (129) ذو الحكمة البالغة واللّه اعلم - قال ابن عساكر روى ان عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام وقال لهما قد علمتهما ان اللّه عز وجل قال في التورية انى باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه احمد فمن أمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وابى مهاجران يسلم فانزل اللّه تعالى.(1/242)
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ استبعاد وانكار لان يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء أى لا يرغب أحد عن ملته - والرغبة إذا عدى بالى فالمراد به الارادة وان عدى بعن فالمراد به الترك إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ السفه في الأصل الخفة ويقال لمن يتعجل في الافعال باتباع الهوى والشهوة من غير تدبر وتفكر في منافعه ومضاره خفيف وسفيه - وضده الحليم - ويسند السّفه بهذا المعنى إلى نفس الشخص والى رأيه فيقال زيد سفيه وسفه نفسه وسفه رأيه أى خف نفسه فيأتى بالافعال على خلاف ما اقتضاه العقل وخف رأيه وحينئذ لا يتعدى إلى مفعول وقد يستعمل بحرف الجر فيقال سفه زيد في نفسه وفي رأيه ولمّا كان السفه والخفة مستلزم لاهانة النفس واهلاكها وخفة الرأى مستلزم للجهل فيستعار ويقال سفه نفسه أى أهانها أو أهلكها أو جهلها فحينئذ يتعدى إلى مفعول - أو يقال تعدى إلى مفعول بتضمين معنى أهلك - أو أهان أو جهل ولهذا قيل في تفسير الآية سفه نفسه أى جعلها مهانا وذليلا حيث كفر بخالقه وعبد مخلوقا مثله - وقال أبو عبيدة أهلك نفسه - وقال الأخفش نصب بنزع الخافض وإفضاء الفعل إليه والمعنى سفه في نفسه - وقال الفراء أصله سفه نفسه بالرفع فلما أسند الفعل إلى صاحبها نصب على التميز كما يقال ضقت به ذرعا وطاب زيد نفسا في ضاق ذرعى وطاب نفس زيد - وقال ابن كيسان والزجاج معناه جهل نفسه وذلك انه من عبد غير اللّه فقد جهل نفسه لأنه لم يعرف اللّه خالقها - وقد جاء من عرف نفسه فقد عرف ربه - قلت ومعنى من عرف نفسه فقد عرف ربه انه من عرف حقيقة نفسه انه ممكن لا يقتضى ذاته وجوده ولا بقاءه لا يتصور له في نفسه وجود ولا قيام ولا بقاء - ولا يجوز حمله على نفسه حملا أوليا نحو زيد زيد الا بعد انتسابه إلى واجب وجوده قائم بنفسه قيوم لغيره لو لاه لم يوجد غيره وهو كالاصل للظلال وهو نور السموات والأرض قيم الأشياء واقرب الى(1/243)
الأشياء من أنفسها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 133
حيث لم يجز حمل أنفسها عليها الا بعد انتسابها إليه فقد عرف ربا واجبا واحد قيوما نورا مبينا قريبا ومن سفه نفسه أى جهلها جهل ربه وفي الاخبار ان اللّه تعالى اوحى إلى داود اعرف نفسك وأعرفني - فقال يا رب كيف اعرف نفسى وكيف أعرفك - فاوحى اللّه تعالى إليه اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء وأعرفني بالقوة والقدرة والبقاء - واعلم ان الجهل يكون ضد العلم الذي هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع المتعلق بالنسبة الحكمية التي بين القضية فيقتضى المفعولين - والعلم يحصل بالبداهة أو بالاستدلال أو الوحى أو الإلهام وضده الجهل وهو عدم أصلي يستند إلى عدم تلك الأشياء ويكون ضد المعرفة التي يقتضى مفعولا واحدا وهو من باب التصورات ويحصل المعرفة بالبداهة أو البصيرة الموهوبة لارباب القلوب والمراد بالسفه هو الجهل بالمعنى الثاني حيث عدى إلى مفعول واحد أى لم يعرف نفسه بالبصيرة واللّه اعلم - وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ نديما وخليلا فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الأنبياء الصَّالِحِينَ (130) فى مراتب القرب - الصلاح ضد الفساد وذلك بالمعاصي القلبية أو القالبية فكمال الصلاح بالعصمة ودون ذلك بدون ذلك والمراد هاهنا كماله وفي هذه الآية حجة وبيان لما سبق فانه من كان هذا شأنه فلا يرغب عن اتباعه إلا سفيه جاهل ضعيف العقل.(1/244)
إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ يعنى نفسك إلى اللّه عز وجل وفوض أمورك إليه كذا قال عطاء وقال الكلبي أخلص دينك وعبادتك له - قال ابن عباس قاله ذلك حين خرج من السرب - والظرف متعلق باصطفيناه تعليل له أو منصوب بإضمار اذكر كأنَّه قيل اذكر ذلك الوقت ليعلم انه المصطفى قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) فوضت إليه أموري - ومقتضى هذا التسليم انه عليه السلام لما رمى مغلولا بالمنجنيق في نار نمرود قال له جبرئيل هل لك حاجة - فقال اما إليك فلا - فقال - فاسئل ربك - قال حسبى من سوالى علمه بحالي - فجعل اللّه تعالى ببركة تفويض أموره إلى اللّه تعالى حظيرة النار روضة ولم يحترق منه إلا وثاقه رواه ( « 1 » ).
وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ قرأ أهل المدينة واهل الشام واوصى من الافعال وكذلك في مصاحفهم والباقون وصّى من التفعيل مثل نزّل وانزل والتوصية هو التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة - أصلها الوصلة يقال وصّاه إذا وصله - وفصّاه إذا فصله كانّ الموصى يصل فعله بفعل الموصى - والضمير في بها راجع إلى الملة أو بقوله أسلمت على تأويل الكلمة بَنِيهِ الثمانية إسماعيل وامه هاجر القبطية وإسحاق وامه سارة
_________
(1) هكذا بياض في الأصل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 134(1/245)
و ستة أمهم قنطورا بنت يقطن الكنعانية تزوجها ابراهيم بعد وفاة سارة وَيَعْقُوبُ عطف على ابراهيم ووصّى بها أيضا يعقوب بنيه اثنى عشر يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين ومتعلق بوصي عند الكوفيين لأنه نوع منه إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى اختار لَكُمُ الدِّينَ دين الإسلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) مؤمنون مخلصون مفوضون أموركم إلى اللّه تعالى - والنهى في الظاهر وقع على الموت - وفي الحقيقة نهى عن ترك الإسلام في حين من الأحيان كيلا يقع الموت في تلك الحين وهو موت لا خير فيه ومن حقه ان لا يحل لهم - قالت اليهود للنبى صلى اللّه عليه وسلم - الست تعلم ان يعقوب يوم مات اوصى بنيه باليهودية فنزلت.(1/246)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ أى قاربه فام منقطعة تقديره ليس الأمر كما قلتم أيها اليهود بل أ كنتم يعنى ما كنتم حاضرين فلم تدّعون دعاوى باطلة - وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى ما شهدتم ذلك وانما علمتموه بالوحى إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إذ حضر ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أى أى شىء تعبدونه أراد به تقريرهم على التوحيد والإسلام وأخذ ميثاقهم قال عطاء ان اللّه تعالى لم يقبض نبيا حتى خيره بين الموت والحيوة فلما خير يعقوب قال أنظرني حتى اسئل ولدي واوصيهم ففعل ذلك فجمع ولده وولد ولده وقال لهم قد حضر اجلى فما تعبدون بعدي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لابائك وكان اسمعيل عمالهم والعرب يسمى العم أبا كما يسمى الخالة امّا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عم الرجل صنو أبيه - رواه الترمذي وصححه من حديث على والطبراني عن ابن عباس - وقال عليه السلام في عمه العباس ردوا على أبى فانى أخشى ان تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود وذلك انهم قتلوه إِلهاً واحِداً بدل من المضاف في إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ وفائدته التصريح بالتوحيد ودفع التوهم الناشي من تكرير المضاف تتعذر العطف على المجرور به بدونه - أو منصوب بمقدر أى نريد بإلهك واله آبائك إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) حال من فاعل نعبد أو مفعوله أو منهما - ويحتمل ان يكون اعتراضا.
تِلْكَ أُمَّةٌ أى جماعة يعنى ابراهيم ويعقوب وابناءهما - والامة في الأصل المقصود سمى بها الجماعة لان الفرق تأمّها قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ من العمل وَلَكُمْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 135
ما كَسَبْتُمْ(1/247)
فلا ينفع حسناتهم إياكم بانتسابكم إليهم ما لم توافقوهم فيها وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) بل يسئل كل عن عمله دون عمل غيره - أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس قال ابن صوريا لنبى اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما الهدى الا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدى وقالت النصارى مثل ذلك - وقال البغوي قال ابن عباس ان رءوس يهود بالمدينة كعب بن اشرف ومالك بن الضيف ووهب بن يهودا وابى ياسر بن اخطب ونصارى أهل نجران السيد والعاقب وأصحابهما خاصموا المسلمين في الدين وزعمت كل فرقة انها أحق بدين اللّه فقالت اليهود نبينا موسى أفضل الأنبياء وكتابنا التورية أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد والقران - وقالت النصارى نبينا عيسى أفضل الأنبياء وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب وديننا أفضل الأديان وكفروا بمحمد والقران وقال كلا الفريقين للمؤمنين كونوا على ديننا فلا دين الا ذلك فانزل اللّه تعالى.(1/248)
وَ قالُوا أى اليهود والنصارى كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى كلمة أو للتنويع يعنى مقالهم أحد هذين القولين تَهْتَدُوا جواب للامر قُلْ يا محمد بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعنى لا نكون هودا ولا نصارى بل تكون ملة ابراهيم أى أهل ملته أو على ملته فحذف على فصار منصوبا - أو المعنى بل نتبع ملة ابراهيم أو المعنى بل اتبعوا أنتم أيها اليهود والنصارى ملة ابراهيم حَنِيفاً أصله من الحنف بمعنى الميل عن الطريق يعنى مائلا من الأديان كلها إلى الإسلام منصوب على الحال من المضاف أى ملة مائلة من الباطل أو من المضاف إليه يعنى ابراهيم مائلا كما في قوله تعالى وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً وعند نحاة الكوفة منصوب على القطع أراد بل ملة ابراهيم الحنيف فلما أسقطت الالف واللام لم تتبع النكرة المعرفة فانقطع منه فنصب وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) تعريض باهل الكتابين فانهم يدّعون اتباعه وهم مشركون.
قُولُوا أيها المؤمنون آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعنى القرآن قدم لأنه سبب لنا للايمان بغيره وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهو عشر صحف أنزلت على ابراهيم فتعبد بها هو وبنوه وأحفاده ولذا نسب انزالها إليهم كما نسب إنزال القرآن إلينا بمتابعة محمد صلى اللّه عليه وسلم والأسباط بمعنى الجماعات من بنى إسرائيل كالقبائل من العرب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 136(1/249)
و الشعوب من العجم وكانت بنوا إسرائيل اثنى عشر سبطا لكل ولد من أبناء يعقوب سبط - وقيل المراد بالأسباط أبناء يعقوب اثنا عشر سموا بذلك لأنه ولد لكل منهم سبط وجماعة - أو لان سبط الرجل حافده ومنه قيل للحسن والحسين سبطا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليهما وأبناء يعقوب كانوا « 1 » أحفادا لإبراهيم عليه السلام وَما أُوتِيَ مُوسى يعنى التورية وَعِيسى يعنى الإنجيل وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ كلهم مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ كما فرّق اليهود والنصارى امنت كل فرقة ببعض دون بعض وَنَحْنُ لَهُ أى للّه مُسْلِمُونَ (136) وهذا هو الإسلام الذي كان ملة لابراهيم الحنيف ودينا لكل نبى من الأنبياء ودينا لمحمد صلى اللّه عليه وسلم لا ما زعمته اليهود والنصارى فانه اشراك - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا اولى الناس بعيسى بن مريم في الاولى والاخرة الأنبياء اخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبى متفق عليه قلت معنى قوله عليه السلام الأنبياء اخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد ان أصلهم واحد وهو الوحى من اللّه تعالى واستعداداتهم مختلفة فلاجل اختلاف الاستعدادات التي هى بمنزلة الأمهات اختلفوا في فروع الشرائع ودينهم واحد وهو اتباع أو امر اللّه تعالى ونواهيه على ترك الهوى والايمان بذاته وصفاته وأحكامه واخباره في المبدا والمعاد - عن أبى هريرة قال كان أهل الكتاب يقرءون التورية بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لاهل الإسلام فقال عليه السلام لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا أمنا باللّه الآية - رواه البخاري.(1/250)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أى أمنوا إيمانا مثل ايمانكم فالباء زائدة كما في قوله جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها - أو لفظ المثل مقحم كما في قوله تعالى وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ أى عليه ويشهد له قراءة ابن عباس فان آمنوا بما آمنتم به فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا أى اعرضوا عنه فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أى خلاف من الحق وشق غير شق الحق وقيل في عداوة فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ « 2 » وعد بالحفظ والنصر للمؤمنين وقد أنجز وعده بإجلاء النضير وقتل قريظة وضرب الجزية على اليهود والنصارى وَهُوَ السَّمِيعُ لاقوال المؤمنين والكفار الْعَلِيمُ (137) بنياتهم وأحوالهم كلهم يجزى
_________
(1) روى من طرق متعددة ان المصريين لما دخلوا على عثمان كان المصحف بين يديه فضربوه بالسيف على يديه فجر الدم على فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فقال عثمان واللّه انها لاول يدخطت المفصل - قيل فما مات منهم رجل سويا - منه رحمه اللّه
(2) كتب في الأصل كما في قوله تعالى ثم حك منه لفظ تعالى لعله من الناسخ وهذه الجملة موجودة ابن القرآن في سورة يونس في اية 27 - أبو محمد عفا اللّه منه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 137
كلهم بما كسب.(1/251)
صِبْغَةَ اللَّهِ أى دين اللّه كذا قال ابن عباس في رواية الكلبي وقتادة والحسن سمى الدين صبغة لظهور اثر الدين على المتدين كالصبغ على الثوب فهو منصوب على انه مصدر مؤكد لقوله امنّا - أو على البدل من ملة ابراهيم - أو على الإغراء أى عليكم صبغة اللّه وقيل المراد بصبغة اللّه الختان لأنه يصبغ صاحبه بالدم فهو منصوب على الإغراء أى الزموا صبغة اللّه الختان قال ابن عباس كانت النصارى إذا ولد لهم ولد فاتت عليه سبعة ايام غمسوه في ماء لهم يقال له المعبودى يزعمون تطهيره بذلك يفعلونه مكان الختان فإذا فعلوا به ذلك قالوا الان صار نصرانيا حقا فاخبر اللّه تعالى ان دينه الإسلام وأحكامه من الختان وغيره وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً دينا وتطهيرا يعنى لا احسن منه وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) تعريض لهم أى لا نشرك كشرككم معطوف على امنّا على تقدير كون صبغة اللّه منصوبا على المصدرية والا فهو معطوف على صبغة اللّه أو على اتبعوا ملة ابراهيم بتقدير قولوا - يعنى الزموا صِبْغَةَ اللَّهِ وَقولوا نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أو المعنى اتبعوا ملة إبرهم وقولوا.
قُلْ يا محمد لليهود والنصارى أَتُحَاجُّونَنا تجادلوننا فِي اللَّهِ أى في دينه واصطفائه نبيا من العرب دونكم وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم يصطفى بالنبوة من يشاء من عباده وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لكل واحد جزاء عمله وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) وأنتم به مشركون فنحن أحق به منكم قال سعيد بن جبير الإخلاص ان يخلص العبد دينه وعمله للّه فلا يشرك به في دينه ولا يرائى بعمله قال الفضل ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك والإخلاص ان يعافيك اللّه عنهما.(1/252)
أَمْ منقطعة والهمزة للانكار وقيل أم بمعنى الهمزة فقط للتوبيخ تَقُولُونَ قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص على الخطاب والآخرون على الغيبة إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وقد اخبر اللّه تعالى انه ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً بخلاف اليهود والنصارى فانهم مشركون - واما الذين كانوا على الدين الحق لموسى وعيسى قبل النسخ كانوا اتباعا لابراهيم في الدين وما كانوا مشركين وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فكيف يتبع ابراهيم وموسى وعيسى بل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 138
يتبعانه وقد علمت اليهود والنصارى بهذا لكنهم كتموا الشهادة بالحق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة في التورية عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ من للابتداء متعلق بشهادة يعنى لا أحد اظلم ممن كتم شهادة اللّه تعالى لابراهيم بالحنفية والبراءة من اليهودية والنصرانية ولمحمد صلى اللّه عليه وسلم بالنبوة التي هى في التورية والإنجيل وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) وعيد لهم.
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) تكرير للمبالغة في التحذير والزجر عن الافتخار بالآباء والاتكال عليهم - وقيل الخطاب فيما سبق لهم وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم وقيل المراد بالآية الاولى الأنبياء وبالثانية أسلاف اليهود والنصارى واللّه اعلم.(1/253)
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الذين خف عقولهم حيث ضيعوها بالتقليد والاعراض عن النظر الصحيح أو العناد وهم المنافقون واليهود والمشركون ما وَلَّاهُمْ صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعنى البيت المقدس وفائدة تقديم الاخبار توطين النفس واعداد الجواب - والقبلة في الأصل هى الحالة التي عليها الإنسان من الاستقبال كالجلسة نقل إلى المكان المتوجه إليه عند الصلاة - نزلت في اليهود ومشركى مكة لما طعنوا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة أخرج ابن جرير من طريق السدى بأسانيده قال لما صرف اللّه النبي صلى اللّه عليه وسلم نحو الكعبة بعد صلاته إلى بيت المقدس قال المشركون من أهل مكة تحير محمد في دينه فتوجه بقبلته إليكم وعلم انكم اهدى منه سبيلا ويوشك ان يدخل في دينكم - وذكر البغوي انه قال رؤساء اليهود لمعاذ بن جبل رضى اللّه عنه ما ترك محمد قبلتنا إلا حسدا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ لا يختص به مكان دون مكان وانما امر القبلة امر تعبدى والعبرة فيها لامر اللّه تعالى لا دخل فيه لخاصية في المكان يَهْدِي مَنْ يَشاءُ من عباده إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) أى إلى ما يرتضيه.
وَكَذلِكَ اشارة إلى مفهوم الآية المتقدمة أى هديناكم إلى صراط مستقيم - أو إلى ما مر سابقا أى كما اصطفينا ابراهيم فى الدنيا وجعلناه في الاخرة من الصالحين جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم أُمَّةً وَسَطاً - « 1 » خيارا ممن عداهم عدولا مزكين بالعلم والعمل والمعرفة - وهو في الأصل اسم للمكان
_________
((1/254)
1) أخرج احمد والحاكم وصححاه عن أبى سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى امّة وسطا قال عدولا - أخرج الدارمي عن ابن عباس - انه سال كعب الأحبار كيف تجد نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في التورية قال كعب - نجده محمد بن عبد اللّه يولد بمكة ويهاجر منه إلى طابة ويكون ملكه بالشام وليس بفحاش ولا سحاب في الأسواق ولا يكافى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر أمته الحمّادون يحمدون اللّه في كل السراء والضراء ويكبرون على كل نجد ويوضعون أطرافهم ويأتزرون في أوساطهم ويصفّون في صلاتهم كما يصفون في قتالهم دويهم في مساجدهم كدوى النحل يسمع مناديهم - واخرج الدارمي عن كعب الأحبار في السطر الأول محمد رسول اللّه عبدى المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام وفي السطر الثاني - محمد رسول اللّه أمته الحمادون يحمدون اللّه في السراء والضراء يحمدون اللّه في كل منزلة ويكبرون على كل شرف رعاة الشمس يصلون الصلاة إذا جاء وقتها ولو كانوا على رأس كناسة ويأتزرون على أوساطهم ويوضعون أطرافهم أصواتهم بالليل في جو السماء كاصوات النحل - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 139(1/255)
الذي يستوى إليه المساحة من الجوانب ثم استعير لخير الخصال والمحمودة منها لوقوعها بين طرفى افراط وو تفريط كالجود بين الإسراف والبخل والشجاعة بين التهور والجبن ثم اطلق على المتصف بها - مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كسائر الأسماء التي يوصف بها قال اللّه تعالى قال أوسطهم أى خيرهم وقال الكلبي حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أى أهل دين وسط بين الغلو والتقصير - واستدل به على حجية الإجماع لان بطلان ما اجمعوا عليه ينافى عدالتهم - فان قيل ان اخطأ مجتهد في اجتهاده لا ينتفى منه عدالته فمالك تحكم بها إذا اتفقوا على الخطاء اتفاقا - قلت قد سمعت ان لفظ الوسط استعير اولا للخصال ثم اطلق على المتصف بها كما يقال زيد عدل وعلى قول الكلبي انما هو صفة لدينهم فاطلاق الامة الأوسط عليهم يدل على ان شرائع دينهم وخصالهم المتفقة عليها كلها محمودة فعلى تقدير وقوع الخطاء في إجماعهم وان كانوا معذورين في ذلك غير متصفين بالفسق لكن بعض خصالهم المتفق عليها مذموم البتة فكيف يكون خصالهم كلها محمودة واللّه اعلم - عن أبى سعيد الخدري قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما بعد العصر فما ترك شيئا إلى يوم القيامة الا ذكره في مقامه ذلك حتى إذا كانت الشمس على رءوس النخل وأطراف الحيطان قال اما انه لم يبق من الدنيا فيما مضى منها الا كما بقي من يومكم هذا إلا وإن هذه الامة توفى سبعين أمة هى أخيرها وأكرمها على اللّه عز وجل رواه البغوي - وروى الترمذي وابن ماجة والدارمي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده نحوه والحمد للّه رب العلمين لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يوم القيامة ان الرسل قد بلغتهم تعليل لجعلهم عدولا ودليل على ان العدالة شرط للشهادة وَيَكُونَ الرَّسُولُ محمد صلى اللّه عليه وسلم عَلَيْكُمْ أى على عدالتكم شَهِيداً يعنى يكون معدّلا ومزكيا لكم - ولما كان الشهيد كالرقيب(1/256)
جىء بكلمة الاستعلاء وان كان حق المقام اللام - ذكر البغوي ان اللّه تعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ فيقولون ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فيسئل الأنبياء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 140
عليهم السلام عن ذلك فيقولون كذبوا قد بلغناهم فيسئلهم البينة وهو اعلم بهم اقامة للحجة فيؤتى بامة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيشهدون لهم انهم قد بلّغوا فيقول الأمم الماضية من اين علموا وانهم أتوا بعدنا فيسئل هذه الامة فيقولون أرسلت إلينا رسولا وأنزلت عليه كتابا اخبرتنا فيه بتبليغ الرسل وأنت صادق فيما أخبرت ثم يؤتى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيسئل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم - وروى البخاري والترمذي والنسائي عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجاء بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له هل بلغت فيقول نعم يا رب فيسئل أمته هل بلغكم فيقولون ما جاءنا من نذير فيقال من شهودك فيقول محمد وأمته قال محمد صلى اللّه عليه وسلم فيجاء بكم فتشهدون ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فتشهدون له بالابلاغ واشهد عليكم - واخرج احمد والنسائي والبيهقي عنه بلفظ يجىء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان واكثر من ذلك فيقال لهم هل بلغتم فيقولون نعم فتدعى قومهم فيقال لهم هل بلغوكم فيقولون لا فيقال للنبيّن من يشهد لكم انكم بلغتم فيقولون أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فتدعى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيشهدون انهم قد بلغوا فيقال لهم وما أعلمكم انهم قد بلغوا فيقولون جاءنا نبينا بكتاب أخبرنا انهم قد بلغوا فصدقناه فيقال صدقتم - وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها الجعل اما متعد إلى مفعول واحد فحينئذ الموصول مع الصلة صفة للقبلة والمضاف محذوف يعنى ما جعلنا(1/257)
تحويل القبلة التي كنت عليها وهى بيت المقدس - واما متعد إلى مفعولين ومفعوله الثاني محذوف أى ما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة - ويحتمل ان يكون القبلة مفعوله الأول والموصول مع الصلة بمعنى الجهة التي كنت عليها مفعوله الثاني والمراد بالموصول البيت المقدس - والمعنى ما جعلنا في سابق الزمان القبلة الجهة التي كنت عليها يعنى ان اصل أمرك ان تستقبل الكعبة وما جعلنا قبلتك في سابق الزمان بيت المقدس
الا لنعلم - ويحتمل ان يكون كنت عليها بمعنى أنت عليها الان يعنى الكعبة الا لنعلم - وقيل في تفسيره وما جعلنا القبلة الان الجهة التي كنت عليها قبل الهجرة وهى الكعبة - وهذا مبنى على انه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى قبل الهجرة إلى الكعبة وهذا التأويل يستلزم النسخ مرتين ويخالف سياق قوله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها فان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 141(1/258)
المراد هناك بالموصول بيت المقدس لا غير - وكان القياس ان يقال وما جعلنا التي كنت عليها قبلة لكن قدم القبلة وجعل أول المفعولين للاهتمام به أو هو من باب القلب إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ فى الصلاة حيثما توجه بامر اللّه تعالى مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ فيرتد كما في الحديث ان القبلة لما حولت ارتد قوم من المسلمين إلى اليهودية وقالوا رجع محمد صلى اللّه عليه وسلم إلى دين ابائه - والعلم اما بمعنى المعرفة ومن يتبع الرسول مفعوله وممن ينقلب متعلق به أو هو متعلق لما في من معنى الاستفهام - أو يكون من موصولة مفعوله الأول وممن ينقلب مفعوله الثاني أى لنعلم من يتبع الرسول مميزا ممن ينقلب - فان قيل علم اللّه تعالى قديم فكيف يتصور غاية لتحويل القبلة أجيب عنه بوجوه منها ما قال أهل المعاني ان اللام للتعليل لا لبيان الغاية وصيغة المضارع بمعنى الماضي كما في قوله تعالى فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ فالمعنى الا لما علمنا من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه يعنى لما سبق في علمنا ان تحويل القبلة سبب لهداية قوم وضلالة آخرين - ومنها ما قيل ان المراد بالعلم رسولنا واولياؤنا حذف المضاف وأسند الفعل إلى نفسه مجازا كما مر في الحديث القدسي مرضت فلم تعدنى إظهارا لشرفهم واختصاصهم وفي هذه التأويلات قول بالمجاز وتكلفات والتحقيق ما قال الشيخ أبو منصور الماتريدى رحمه اللّه ان المعنى الا لنعلم كائنا موجودا ما قد علمنا انه يكون ويوجد فاللّه سبحانه عالم في الأزل بكل ما أراد وجوده انه يوجد في الوقت الذي شاء وجوده فيها ولا يجوزان يقال انه عالم في الأزل بانه موجود كائن في الحال لأنه ليس بموجود فكيف يعلمه موجودا كائنا على خلاف الواقع والتغير على المعلوم لا على العلم وهو المراد بما قيل في هذا وأشباهه ان المراد بالعلم تعلقه الحالي الذي هو مناط الجزاء ومعنى الا لنعلم اى(1/259)
ليتعلق علمنا بوجوده وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إن مخففة من المثقلة واللام فاصلة بينها وبين الشرطية قال سيبويه ان تأكيد شبيه باليمين ولذلك دخلت اللام في جوابها - وقال الكوفيون ان نافية واللام بمعنى الا والضمير المرفوع راجعة إلى ما دل عليه جعلنا القبلة من الجعلة أو إلى التحويلة أو إلى القبلة إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أى هداهم اللّه وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى ثباتكم على ايمانكم أو ايمانكم بالقبلة المنسوخة وقيل المراد بالايمان الصلاة وذلك ان حيى بن اخطب وأصحابه من اليهود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 142
قالوا للمسلمين أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المقدس ان كانت هدى فقد تحولتم عنها وان كانت ضلالة فقد دنتم اللّه بها ومن مات منكم عليها - فقال المسلمون انما الهدى ما امر اللّه به والضلالة ما نهى عنه - قالوا فما شهادتكم على من مات منكم على قبلتنا - وقد كان مات قبل ان تحول القبلة اسعد بن زرارة من بنى النجار والبراء بن معرور من بنى سلمة وكانا من النقباء ورجال آخرون فانطلق عشائرهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وقالوا يا رسول اللّه قد صرفك اللّه إلى قبلة ابراهيم عليه السلام فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فانزل اللّه تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أى صلاتكم إلى بيت المقدس وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال مات قبل ان تحول رجال وقتلوا فلم ندر ما نقول فيهم فانزل اللّه الآية إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (43) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص لرءوف مشبعا على وزن شكور والآخرون بالاختلاس على وزن فعل - والرأفة أشد الرحمة قدمه على الرحيم لرعاية الفواصل - .(1/260)
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحى - كان يودّ ان يحوله اللّه إلى الكعبة لانها قبلة أبيه ابراهيم عليه السلام وادعى للعرب إلى الايمان ومخالفة اليهود - وهذا أول القصة وامر القبلة أول ما نسخ من امور الشرع بعد الهجرة - واختلف العلماء في كيفية قبلته صلى اللّه عليه وسلم قبل الهجرة بمكة فقال قوم انه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى وهو بمكة نحو بيت المقدس والكعبة بين يديه - رواه احمد عن ابن عباس ورواه ابن سعد أيضا وسنده جيد واطلق آخرون وقالوا انه كان يصلى إلى بيت المقدس - وقال البغوي كان يصلى إلى الكعبة فلما هاجر إلى المدينة استقبل بيت المقدس - روى ابن جرير وغيره بسند جيد قوى عن ابن عباس قال لما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة امره اللّه ان يستقبل بيت المقدس - وقال ابن جريح انه صلى اللّه عليه وسلم أول ما صلى إلى الكعبة ثم صرف إلى بيت المقدس وهو بمكة فصلى ثلاث حجج ثم هاجر إلى المدينة - والاول أصح وأقوى وعند الجمع يؤل إليه الأحاديث - واختلف الرواية في انه كم صلى بعد الهجرة إلى بيت المقدس فعند أبى داود وغيره عن ابن عباس سبعة عشر شهرا وعند الطبراني والبزار عن عمرو بن عوف وعند ابن أبى شيبة ، وابى داود وغيرهما عن ابن عباس وعنه الامام مالك وغيره عن سعيد بن المسيب ستة عشر شهرا وعند البخاري عن البراء بن عازب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 143(1/261)
ستة عشرا وسبعة عشر شهرا بالشك - والحق انه كان ستة عشر شهرا وأياما فانه صلى اللّه عليه وسلم خرج من مكة يوم الاثنين خامس ربيع الأول ودخل المدينة يوم الاثنين ثانى عشر ربيع الأول وكان التحويل بعد الزوال خامس عشر من رجب من السنة الثانية قبل وقعة بدر بشهرين على الصحيح وبه جزم الجمهور ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس فمن اعتبر الأيام شهرا كاملا عد سبعة عشر وإلا فستة عشر - وما روى ثلثة عشر أو تسعة عشر أو ثمانية عشر أو شهرين أو سنتين فضعيف واللّه اعلم - وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعجبه ان تكون قبلته قبل الكعبة لان اليهود قالوا يخالفنا محمد في ديننا ويتبعنا قبلتنا - فقال عليه السلام لجبرئيل عليه السلام وددت لو حولنى اللّه تعالى إلى الكعبة فانها قبلة أبى ابراهيم - فقال جبرئيل انما انا عبد مثلك وأنت كريم على ربك فاسئل أنت ربك فانك عند اللّه بمكان - فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوا اللّه ويكثر النظر إلى السماء ينتظر امر اللّه تعالى فانزل اللّه تعالى قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أى نمكننك من استقبالها - من وليته بمعنى صيرته واليا - أو المعنى فلنجعلنك تلى جهتها - أو المعنى فلنحولنك إلى قبلة تَرْضاها تحبها لاغراض صحيحة مرضية للّه تعالى فَوَلِّ حول وَجْهِكَ من البيت المقدس عند الصلاة شَطْرَ الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء من شطر إذا انفصل ودار شطور منفصلة عن الدور ثم استعمل لجانبه وان لم ينفصل منصوب بنزع الخافض أى إلى شطره وقيل منصوب على الظرفية أى اجعل تولية الوجه تلقاء الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أى في جهته وسمته والحرام بمعنى المحرم فيه القتال والاصطياد وقطع الشجر والشوك ونحو ذلك - وذلك هو الحرم وانما ذكر الحرم أو المسجد دون الكعبة مع انها هى القبلة اشارة إلى ان الواجب على النائى استقبال جهة الكعبة دون عينه - (1/262)
روى الترمذي عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما بين المشرق والمغرب قبلة قلت أراد بالمشرق مشرق اقصر ايام السنة وبالمغرب مغرب اقصر الأيام وذلك جهة الجنوب وهى قبلة أهل المدينة وكذا لاهل كل قطر قبلة فلاهل الهند القبلة بين المغربين مغرب رأس السرطان ومغرب رأس الجدى - ذكر فى المواهب وسبيل الرشاد انه صلى اللّه عليه وسلم زارام بشر بن براء بن معرور في بنى سلمة يعنى بعد ما مات براء بن معرور فصنعت له طعاما وحانت الظهر فصلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 144
بأصحابه في مسجد هناك الظهر فلما صلى ركعتين نزل جبرئيل فاشار إليه ان صلى إلى البيت فاستدار إلى الكعبة واستقبل الميزاب فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان(1/263)
النساء فسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين - قال الواحدي هذا عندنا اثبت - فصلى الظهر أربعا ثنتين إلى بيت المقدس وثنتين إلى الكعبة فخرج عباد بن بشر رضى اللّه عنه وكان صلى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمر على قوم من الأنصار ببني حارثة وهم راكعون في صلوة العصر فقال اشهد باللّه لقد صليت مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل البيت - فاستداروا - وفي صحيح البخاري من حديث البراء بن عازب انه صلى اللّه عليه وسلم صلى أول صلوة صلاها إلى الكعبة صلوة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد وهم راكعون فقال اشهد باللّه لقد صليت مع النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل مكة - فمحمول على ان البراء لم يعلم صلاته صلى اللّه عليه وسلم فى مسجد بنى سلمة الظهر - أو المراد انه أول صلوة صلاها كاملا إلى الكعبة - أو أول صلوة صلى في مسجده صلى اللّه عليه وسلم هو العصر - واما أهل قبا فلم يبلغهم الخبر الا في صلوة الفجر من الغد كما في الصحيحين عن ابن عمر بينما الناس بقبا في صلوة الصبح إذ جاءهم ات فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمران نستقبل الكعبة فاستقبلوها - وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وقال رافع بن خديج انه أتانا ات ونحن نصلى في بنى عبد الأشهل فقال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد أمران يوجه إلى الكعبة فادارنا امامنا إلى الكعبة ودرنا معه - وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ خطاب للامة فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ خص الرسول صلى اللّه عليه وسلم اولا بالخطاب تعظيما له وذلك الخطاب وان كان شاملا للامة لكن بعد ذلك خوطب الامة تصريحا لعموم الحكم وتأكيدا لامر القبلة روى البخاري عن ابن عباس قال لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال هذه القبلة - وفي الصحيحين عن ابن عمر(1/264)
ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل الكعبة هو واسامة وبلال وعثمان بن طلحة وأغلقها عليه ثم مكث فيها - قال ابن عمر سالت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلثة اعمدة وراءه ثم صلى - وكان البيت يومئذ على ستة اعمدة - قلت وهذين الحديثين الواقعتين « 1 » فلا تعارض
_________
(1) فى الأصل واقعتين -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 145
وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ يعنى التحويل أو التوجه إلى الكعبة الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كانوا يعلمون من التورية ان خاتم النبيين يصلى إلى القبلتين وانما أنكروا ذلك تعنتا وعنادا وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء الفوقانية خطابا للمؤمنين والباقون بالياء التحتانية حكاية عما يفعل اليهود ففيه وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين - ولما قالت اليهود والنصارى اتنا باية على ما تقول انزل اللّه تعالى.(1/265)
وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ برهان على ان الكعبة قبلة واللام موطية للقسم ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعنى الكعبة جواب قسم مقدر ساد مسد جواب الشرط يعنى انما تركوا قبلتك عنادا لا لاجل شبهة تزيلها بالحجة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعنى امر القبلة محكم مستمر لا ينسخ ابدا - وفيه قطع لاطماعهم في رجوعه صلى اللّه عليه وسلم إلى قبلتهم - وقبلتهم وان تعددت لكنها متحدة من جهة البطلان ومخالفة امر اللّه تعالى وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لان اليهود يستقبل بيت المقدس وهو في المغرب من المدينة والنصارى يستقبل مطلع الشمس لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فى امر القبلة وظهر لك من الحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) صدق الشرطية لا يقتضى صدق طرفيها كما فى قوله تعالى قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فلا ينافي العصمة - والمقصود من الآية نهى الامة وتهديدهم عن اتباع الأهواء على خلاف العلم الذي جاء من اللّه تعالى بأبلغ الوجوه حيث أورد اللّه سبحانه الشرط مؤكدا بالقسم المقدر واللام الموطئة وتعليق الفعل بكلمة ان فانه يدل على انه اىّ جزء يوجد من الاتباع فهو ظلم - والخطاب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم مع كونه حبيبا للّه تعالى فغيره اولى بالتهديد - والتفصيل بعد الإجمال في قوله ما جاءك من العلم - وتعظيم العلم بذكره معرفا باللام والجزاء بانّ المؤكدة - واللام في خبرها - والجملة الاسمية - والتعبير بإذن - وكلمة من فان قولك زيد من العلماء ابلغ من قولك زيد عالم - وتعريف الظالم المستلزم لنسبة كمال الظلم إليه لان المطلق محمول على الكامل - وتعميم الظلم حيث حذف متعلقة.(1/266)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعنى علماءهم يعرفون محمدا صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 146
انه هو الذي وصف في التورية وأخذ الميثاق على الايمان به ونصرته فالضمير المنصوب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وان لم يسبق ذكره لدلالة الكلام عليه وقيل للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة والاول اظهر بقرينة قوله تعالى كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فانه لا يلتبس من ولد على فراشه بغيره عندهم فمن أنكر منهم انما أنكر تعصبا وعنادا ولو كان الضمير في يعرفونه إلى القرآن لكان المناسب ان يقول كما يعرفون التورية قال عمر بن الخطاب لعبد اللّه بن سلام رضى اللّه عنهما ان اللّه تعالى قد انزل على نبيه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ فكيف هذه المعرفة - قال عبد اللّه يا عمر لقد عرفته حين رايته كما اعرف ابني ومعرفتى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم أشد من معرفتى بابني - فقال عمر وكيف ذلك فقال اشهد انه رسول اللّه حق وقد نعته اللّه في كتابنا ولا أدرى ما تصنع النساء - فقال عمر وفقك اللّه يا ابن سلام فقد صدقت وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعنى صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وامر الكعبة وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ الحق خبر مبتدأ محذوف أى هذا الحق ومن ربك حال أو خبر بعد خبر أو هو فاعل فعل مقدر أى جاءك الحق من ربك أو مبتدأ خبره من ربك أى الحق ما ثبت من ربك كالذى أنت عليه لا غير ذلك كالذى عليه أهل الكتاب فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) من الشاكّين في انه من ربك أو من الذين كتموا الحق عالمين به وجعلوا أنفسهم من الممترين مع كونهم من المستيقنين - وليس المراد نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الشك لأنه غير متوقع منه وأيضا الشك مما لا اختيار فيه ولا في الكف عنه - بل المراد انه امر محقق(1/267)
بحيث لا يشك فيه ناظرا أو يقال انه امر لامته بمصاحبة العارفين واكتساب المعارف المزيحة للشك على الوجه الأبلغ والاجتناب عن مصاحبة الشاكين فان مصاحبتهم يورث الشكوك والأوهام - .
لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
التنوين في كل عوض من المضاف إليه والوجهة اسم للمتوجه إليه أى لكل أمة من أهل الأديان قبلةوَ
الضمير راجع إلى كل وقال الأخفش كناية عن اللّه تعالى وَلِّيها
أحد المفعولين محذوف أى مولّيها وجهه أى مقبلها عليه يقال وليته ووليت إليه إذا أقبلت عليه ووليت عنه إذا أدبرت عنه - وقرا ابن عامر هو مولّيها أى مصروف إليها يعنى ان اللّه تعالى يولى الأمم إلى قبلتهم جعل لموسى عليه السلام قبلة ولمحمد صلى اللّه عليه وسلم قبلة ولكل نبى قبلة فامر القبلة امر تعبدى لا يدرك بالرأى ولا يجوز فيه النزاع وليس ذلك لاقتضاء مكان كونه قبلة حتى يبحث عن ترجيح
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 147
بعضها على بعض اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
يعنى بادروا بامتثال كلما أمركم اللّه وان كان قدم أمركم في بعض الأحيان بالاستقبال إلى بيت المقدس وفي بعضها إلى الكعبة فانه تعالى يحكم ما يشاء فلا تنازعوا في امر القبلةيْنَ ما تَكُونُوا
فى مكان مرضى للّه تعالى من حيث الاستقبال أو غير مرضى أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً(1/268)
يقبض اللّه تعالى أرواحكم ثم يحشركم إلى الجزاء فيجازيكم على حسب أعمالكم ولو قبض أرواحكم وأنتم في الصلاة أو فارغ الذمة من الواجب فذلك غاية السعادة أو المعنى ان لكل من المسلمين قبلة وهى جانب الكعبة هو مولى وجهه « 1 » إليها ان علم بها وان غم عليه جهة القبلة فقبلته جهة التحري وان كان متنفلا خارج المصر على الدابة فاىّ جهة استقبلتها دابته فهى قبلته امر اللّه تعالى بالتولية إليها فاستبقوا الخيرات وبادروا بالصلوات ولا تؤخروها عن أوقاتها عند اشتباه القبلة اين ما تكونوا من أقطار الأرض شرقا أو غربا يأت بكم اللّه تعالى يعنى بصلاتكم إلى القبلة ويجعلها إلى جهة واحدة كانها بحذاء الكعبةنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ
(148).
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ كلمة حيث متروك الاضافة والجار مع المجرور متعلق بخرجت والمعطوف عليه مقدر تضمّن معنى الشرط فادخل الفاء في الجواب تقديره أينما كنت ومن حيث أى من اىّ مكان خرجت فول - وقيل من حيث خرجت بمعنى اين ما كنت وتوجهت مجازا - وقال التفتازانيّ حيث مضاف إلى خرجت والجار مع المجرور متعلق بقوله تعالى فول وما بعد الفاء في مثله يعمل فيما قبله - لكن يلزم حينئذ اجتماع الواو والفاء الا ان يقدر المعطوف عليه تقديره فول وجهك اين ما كنت ومن حيث خرجت فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت كرر هذا الحكم لبيان ان حكم صلوة السفر والحضر واحد عن حذيفة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضلنا على الناس بثلث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء - رواه مسلم وفي رواية لمسلم فضلت على الأنبياء بستة الحديث وَإِنَّهُ وان هذا الأمر لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) قرأ أبو عمرو بالياء التحتانية والباقون بالفوقانية.(1/269)
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ قيل كرر هذا الحكم لتعدد عللّه فانه تعالى ذكر للتحويل ثلث علل تعظيم الرسول صلى اللّه عليه وسلم بابتغاء مرضاته وجرى العادة الالهية على ان يولى كل أمة من
_________
(1) فى الأصل وجيها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 148(1/270)
امم اولى العزم من الرسل إلى قبلة يستقبلها - ودفع حجج المخالفين - وقرن بكل علة معلولها كما يقرن المدلول بكل واحد من دلائله - وأيضا القبلة لها شأن والنسخ من مظان الفتنة والشبهة فبالحرىّ ان يؤكد أمرها ويكرر ذكرها لِئَلَّا يَكُونَ علة لقوله فولوا لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعنى لليهود فانهم يعلمون من التورية ان الكعبة قبلة ابراهيم وان محمدا صلى اللّه عليه وسلم سيحوّل إليها فلو لا التحويل لاحتجوا بها - وللمشركين من أهل مكة فانهم أيضا كانوا يعلمون ان قبلة ابراهيم كانت الكعبة وكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدّعى انه على ملة ابراهيم حنيفا فلو لا التحويل لقالوا ان محمدا يدّعى ملة ابراهيم ويخالف قبلته إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الناس أى لئلا يكون لاحد من الناس حجة الا للمعاندين - فاما الظالمون من قريش فقالوا رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم انا اهدى منه وسيرجع إلى ديننا - واما الظالمون من اليهود فقالوا انه لم ينصرف عن بيت المقدس مع علمه بانه الحق الا حسدا وانه يعمل برأيه - وسمى هذه حجة كقوله تعالى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ لانهم يسوقونهم مساقها - وقيل الحجة بمعنى الاحتجاج - وقيل الاستثناء للمبالغة في نفى الحجة رأسا للعلم بأن الظالم لا حجة له - والموصول على هذه التأويلات في موضع الجر بدلا من الناس - وقيل الاستثناء منقطع معناه ولكن الذين ظلموا يجادلونكم بالباطل فَلا تَخْشَوْهُمْ فانى وليّكم أظهركم عليهم بالحجة والنصرة ومطاعنهم لا يضركم وَاخْشَوْنِي فلا تخالفوا امرى وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) معطوف على لئلا أى فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ - لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ...(1/271)
وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ - ويحتمل ان يكون معطوفا على محذوف يعنى واخشوني لا حفظكم ولاتم نعمتى ولكى تهتدوا - عن معاذ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تمام النعمة دخول الجنة والفوز من النار - رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وعن على رضى اللّه عنه تمام النعمة الموت على الإسلام - .
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ يا معشر قريش - خاطبهم والناس تبع لهم لقوله تعالى لابراهيم إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ يعنى ابراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ولقوله صلى اللّه عليه وسلم الناس تبع لقريش - متعلق بأتم يعنى لاتم نعمتى إتماما كما اتممتها بإرسال رسول منكم - قال محمد بن جرير دعا ابراهيم دعوتين أحدهما اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ والثانية ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ - فمعنى الآية أجيب دعوة ابراهيم فيكم بان أهديكم لدينه وأجعلكم مسلمين وأتم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 149(1/272)
نعمتى عليكم كما أجبت دعوته حيث أرسلت فيكم رسولا - أو هو متعلق بما بعده أى كما ذكرتكم بالإرسال فيكم اذكروني أذكركم وبهذا يتضح ان ذكر العبد له تعالى محفوف بذكرين منه تعالى إياه ذكر سابق بالتوفيق وذكر لا حق بالاثابة رَسُولًا مِنْكُمْ محمدا صلى اللّه عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعنى ظاهرهما وقد مر شرحه في دعاء ابراهيم عليه السلام - قدّم التزكية هاهنا باعتبار القصد وأخره هناك باعتبار الفعل وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) تكرار الفعل يدل على ان هذا التعليم من جنس اخر ولعل المراد به العلم اللدني المأخوذ من بطون القرآن ومن مشكوة صدر النبي صلى اللّه عليه وسلم الذي لا سبيل إلى دركه الا الانعكاس واما درك دركه فبعيد عن القياس قال رئيس الصديقين والعجز عن درك الإدراك ادراك عن حنظلة بن الربيع الأسيدي قال لقينى أبو بكر رضى اللّه عنه فقال كيف أنت يا حنظلة - قلت نافق حنظلة - قال سبحان اللّه ما تقول - قلت نكون عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكّرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فإذا خرجنا من عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا - قال أبو بكر فو اللّه انا لنلقى مثل هذا - فانطلقت انا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول اللّه - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وما ذاك - قلت يا رسول اللّه نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كانا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا - فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذي نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى وفي الذكر لصافحتكم الملائكة - على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلث مرات رواه مسلم وعن أبى هريرة قال حفظت من رسول اللّه(1/273)
صلى اللّه عليه وسلم وعائين فاما أحدهما فبثثته فيكم واما الاخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم يعنى مجرى الطعام - رواه البخاري - قيل المراد من الوعاء الذي لم يبثثه الأحاديث التي بيّن فيها اسماء أمراء الجور كقوله أعوذ باللّه من رأس الستين وامارة الصبيان مشيرا إلى امارة يزيد بن معاوية قلت اطلاق الوعاء على علم بجزئيات معدودة غير مستحسن ولا يتصور جعله قسيما ونظير العلوم الشريعة بل المراد به العلم اللدني - فان قيل فما معنى قوله فلو بثثته لقطع هذا البلعوم - قلت معناه انه لو بثثته باللسان لقطع هذا البلعوم لان تلك العلوم والمعارف لا يمكن تعليمها ولا تعلمها بلسان المقال بل انما تدرك بالانعكاس ولسان الحال - كيف والتعلم باللسان يتوقف على
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 150(1/274)
امور منها كون المعلوم مما يدرك بالعلم الحصولى - ومنها كون اللفظ موضوعا بإزائه - ومنها كون الوضع معلوما للسامع - وليس شىء منها متحققا في المعارف المدنية - فان إدراكها تكون بالعلم الحضوري الذي لا يمكن ذهولها - بل سبيل ذلك وراء العلم الحصولى والحضوري وانّى هناك وضع الألفاظ وهيهات هيهات للسامعين العلم بوضعها - ومن أراد أن ينطق بتلك المعارف فلا بد له من إيراد مجازات واستعارات لا يهتدى إلى مرامها العوام فيتخبط به عقولهم ويفهمون غير مراد المتكلم فيفسقونه ويكفرونه - كما ترى للعوام ينكرون على اولياء اللّه تعالى من غير سبيل إلى درك مرادهم وذلك يفضى إلى قطع البلعوم - فان قيل إذا كان ذلك العلم بحيث لا يمكن اخذه ولا إعطاؤه بالبيان ويفضى إلى تلك المفسدة وقطع البلعوم النطق باللسان فاىّ ضرورة في التكلم بها - وما بال القوم يصنفون فيها مجلدات كالفصوص والفتوحات واىّ فائدة في تلك التصنيفات قلت ليس الغرض من تلك التصنيفات إعطاء تلك العلوم ولا يحصل بمطالعة تلك الكتب شىء من القرب والولاية بل الغرض منها تنبيه العارفين المحصلين تلك العلوم بالجذب و(1/275)
السلوك على بعض تفاصيلها - وتطبيق احوال المريدين ومواجيدهم على احوال الأكابر ومواجيدهم كى يظهر صحة أحوالهم وتطمئن به قلوبهم - وكثيرا ما يتكلمون بتلك المعارف في غلبة الحال - فالطريق السوي للعوام عند مطالعة كتبهم وسماع كلامهم عدم الإنكار وحمله على ظاهر الشريعة مهما أمكن بالتأويلات فان كلامهم رموز وإشارات أو تفويض علمه إلى علام الغيوب كما هو شأن المتشابهات فان في كلامهم مجازات واستعارات مصروفة عن الظاهر وليس شىء منها مخالفا للشرع بل هى لب الكتاب والسنة رزقنا اللّه سبحانه بفضله ومنه - ولما كان طريق تحصيل تلك المعارف منحصرا في الإلقاء والانعكاس وكان كثرة الذكر والمراقبة اما في ملإ من الذاكرين أو في خلإ من الناس يفيد للقلب والنفس صلاحية تلك الانعكاس من مشكوة صدر النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا واسطة أو بوسائط - عقب اللّه سبحانه لقوله.
فَاذْكُرُونِي « 1 » قرأ ابن كثير بفتح الياء والباقون بالإسكان أَذْكُرْكُمْ - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا عند ظن عبدى بي وانا معه إذا ذكرنى فان ذكرنى في نفسه ذكرته في نفسى وان ذكرنى في ملإ ذكرته في ملا خير منه وان تقرب إلى شبرا تقرّبت إليه ذراعا وان تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا وان أتاني يمشى أتيته هرولة متفق عليه - وروى البغوي عن انس عنه وفيه قال سمعت هذا الحديث من رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) أخرج أبو الشيخ والديلمي في مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى قوله فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ - يقول اذكروني يا معشر العباد بطاعتي أذكركم بمغفرتى - منه رحمه اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 151(1/276)
عليه وسلم عدد انا ملى هذه العشرة - وعن عبد اللّه بن شقيق عنه صلى اللّه عليه وسلم قال ما من ادعى الا لقلبه بيتان في أحدهما الملك وفي الاخر الشيطان فإذا ذكر اللّه خنس وإذا لم يذكر اللّه وضع الشيطان منقاره في قلبه فوسوس له - رواه ابن أبى شيبة وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سبق المفردون قالوا وما المفردون يا رسول اللّه قال الذاكرون اللّه كثيرا والذاكرات - رواه مسلم فاعلم أيها الأخ السعيد ان الذكر عبارة عن طرد الغفلة والغفلة هى الموجبة للقساوة فكل امر مشروع من قول أو فعل أو تفكر أريد به وجه اللّه تعالى بالإخلاص والحضور فهو ذكر وما كان بلا اخلاص فهو شرك وما كان بغفلة فغير معتد به قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ - وفَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ - وأفضل الذكر لا الله الا اللّه وأفضل الدعاء الحمد للّه - رواه النسائي والترمذي وابن ماجة وابن حبان ومالك بسند صحيح عن جابر عنه صلى اللّه عليه وسلم وعن سمرة بن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أفضل الكلام اربع سبحان اللّه والحمد للّه ولا الله الا اللّه واللّه اكبر - رواه مسلم وفي رواية هى أفضل الكلام بعد القرآن وهى من القرآن رواه احمد وفي الحديث القدسي من شغله القرآن عن ذكرى ومسئلتى أعطيته أفضل ما اعطى السائلين وفضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه - رواه الترمذي والدارمي من حديث أبى سعيد ومن أجل ذلك الاخبار اختار الصوفية العلية التهليل بالقلب أو باللسان جهرا أو اخفاتا واما المجدد رضى اللّه عنه فالمختار عنده تلاوة القرآن لما ذكرنا من فضله ولان القرآن صفة حقيقية قائمة باللّه تعالى بلا واسطة طرقه بيد اللّه وطرفه بايدينا فمن استهلك فيه فلا مزيد عليه والصلاة فانها معراج المؤمن - لكن هذا بعد فناء(1/277)
النفس واما قبل الفناء فالمختار عنده الاقتصار على النفي والإثبات لقوله تعالى لا يمسه يعنى القرآن الا المطهرون يعنى من رذائل النفس واللّه اعلم وَاشْكُرُوا لِي على ما أنعمت عليكم من إرسال الرسول والهداية والجذب وتوفيق السلوك وغير ذلك وَلا تَكْفُرُونِ (152) بجحد النعم وتكذيب الرسل أو عصيان الأمر أو اضاعة الوقت والاعراض عن الذكر - .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا على قضاء حوائجكم الدينية والدنيوية خصوصا على نيل درجات القرب والمعارف اللدنية بِالصَّبْرِ عن الشهوات فان النار محفوفة بها - وعلى المكاره في النفوس والأموال فان الجنة محفوفة بها وعلى الذكر والطاعات والعزلة عن سوء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 152
المجالسات حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير مال المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال يفر بدينه من الفتن - رواه البخاري وَالصَّلاةِ خصها بعد التعميم لرفعة شأنها فانها أم العبادات جامعة للطاعات معراج للمؤمن - عن على مرفوعا الصلاة عماد الدين - رواه صاحب مسند الفردوس - وعن انس مرفوعا الصلاة نور المؤمن - رواه ابن عساكر قال المجدد رضى اللّه عنه غاية مقامات العابدين حقيقة الصلاة والترقي هناك بكثرة الصلاة - وقد مر ذكر صلوة الحاجة فيما مر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) قيل بالعون والنصر واجابة الدعوة - قلت بل معية غير متكفية يتضح على العارفين ولا يدرك كنهه غير احسن الخالقين.(1/278)
وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ أى هم أموات نزلت في قتلى بدر من المسلمين وكانوا اربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار - كان الناس يقولون لمن يقتل في سبيل اللّه مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا فانزل اللّه هذه الآية بَلْ أَحْياءٌ يعنى ان اللّه تعالى يعطى لارواحهم قوة الأجساد فيذهبون من الأرض والسماء والجنة حيث يشاؤن وينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم ان شاء اللّه تعالى ومن أجل ذلك الحيوة لا تأكل الأرض أجسادهم ولا أكفانهم قال البغوي قيل ان أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة - قال عليه السلام ان الشهداء إذا استشهدوا انزل اللّه جسدا كاحسن جسد ثم يقال لروحه ادخلى فيه فينظر إلى جسده الأول ما يفعل به ويتكلم فيظن انهم يسمعون كلامه وينظر إليهم فيظن انهم يرونه حتى تأتيه أزواجه من الحور العين فيذهبن به - رواه ابن منذر مرسلا - وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا أرواح الشهداء عند اللّه في طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوى إلى قناديل تحت العرش - فذهب جماعة من العلماء إلى ان هذه الحيوة مختص بالشهداء والحق عندى عدم اختصاصها بهم بل حيوة الأنبياء أقوى منهم وأشد ظهورا اثارها في الخارج حتى لا يجوز النكاح بأزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم بعد وفاته بخلاف الشهيد - والصديقون أيضا أعلى درجة من الشهداء والصالحون يعنى الأولياء ملحقون بهم كما يدل عليه الترتيب في قوله تعالى مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ولذلك قالت الصوفية العلية أرواحنا أجسادنا وأجسادنا أرواحنا - وقد تواتر عن كثير من الأولياء انهم ينصرون أولياءهم ويدمرون أعداءهم ويهدون إلى اللّه تعالى من يشاء اللّه تعالى - وقد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 153(1/279)
ذكر المجدد رضى اللّه عنه - ان ارباب كمالات النبوة بالوراثة أقلت وهم الصديقون والمقربون في لسان الشرع) يعطى لهم من اللّه تعالى وجودا موهوبا - ويدل على ان أجساد الأنبياء والشهداء وبعض الصلحاء لا يأكلها الأرض ما أخرجه الحاكم وأبو داود عن أوس بن أوس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه حرم على الأرض ان تأكل أجساد الأنبياء - واخرج ابن ماجة عن أبى الدرداء نحوه - واخرج مالك عن عبد الرحمن ابن صعصعة انه بلغه ان عمرو بن الجموح وعبد اللّه بن جبير الأنصاري كان قد حفر السبيل قبرهما وكان قبرهما مما يلى السيل وكانا في قبر واحد وهما ممن استشهد يوم أحد - فحفرا ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كانهما ماتا بالأمس وكان بين أحد وبين حفر عنهما ست وأربعون « 1 » سنة - واخرج البيهقي ان معاوية لما أراد ان يجرى كظامة نادى من كان له قتيل بأحد فليشهد فخرج الناس إلى قتلاهم فوجدهم رطايا ينبتون فاصابت المسحات رجل رجل منهم فانبعث دما ولقد كانوا يحفرون التراب فحفروا نثرة من تراب ناح عليهم ريح المسلك - هكذا أخرج الواقدي عن شيوخه واخرج ابن أبى شيبة نحوه واخرج البيهقي عن جابر وفيه فاصابت المسحات قدم حمزة فانبعث دما - واخرج الطبراني عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المؤذن المحتسب كالشهيد المتشخط في دمه إذا مات لم يدود في قبره - واخرج ابن مندة عن جابر بن عبد اللّه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا مات حامل القرآن اوحى اللّه إلى الأرض ان لا تأكل لحمه فيقول الأرض أى رب كيف أكل لحمه وكلامك في جوفه - قال ابن مندة وفي الباب عن أبى هريرة وابن مسعود قلت لعل المراد بحامل القرآن الصديق فان مساس بركات القرآن مختص به حيث قال اللّه تعالى لا يمسّه إلّا المطهّرون - واخرج المروزي عن قتادة قال بلغني ان الأرض لا تسلط على جسد الذي لم يعمل خطيئة - قلت لعل المراد بالذي لم يعمل(1/280)
خطيئة الصّالحون من عباد اللّه اعنى الأولياء لما كانوا محفوظين من الخطايا ومغفورين حتى صلحت قلوبهم وأجسادهم واللّه اعلم وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) فيه تنبيه على ان حياتهم ليست من جنس ما يحسّه كل أحد وانما هى امر لا يدرك بالعقل ولا بالحس بل بالوحى أو الفراسة الصحيحة المقتبسة من الوحى - .
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ أى لنصيبنكم يا أمة محمد إصابة من يختبر لاحوالكم هل تصبرون للبلاء وتستسلمون للقضاء حتى يفاض عليكم بركات من السماء وانما أخبرهم بذلك قبل وقوعه لتوطينهم عليه نفوسهم بِشَيْ ءٍ قليل وانما قللّه بالاضافة إلى ما وقاهم عنه وذكر بالتنكير للتقليل ليخفف عليهم
_________
(1) فى الأصل أربعين -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 154(1/281)
و يريهم رحمة لا يفارقهم مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ عن ابن عباس الخوف خوف العدو والجوع القحط وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ عطف على شىء أو الخوف يعنى الخسران والهلاك وَالْأَنْفُسِ يعنى بالقتل والموت وقيل بالمرض والشيب وَالثَّمَراتِ يعنى الجوايح في الثمار - وحكى عن الشافعي انه قال الخوف خوف اللّه عز وجل والجوع صيام رمضان ونقص من الأموال أداء الزكوة والصدقات والأنفس الأمراض والثّمرات موت الأولاد - عن أبى موسى الأشعري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى لملائكته اقبضتم ولد عبدى قال فيقولون نعم قال اقبضتم ثمرة فواده قالوا نعم قال فماذا قال قالوا استرجع وحمدك قال ابنوا لعبدى بيتامى الجنة وسموه بيت الحمد - رواه الترمذي وحسنه وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ عبيدا وملكا وكل ما أعطانا من النعم فهو من مواهبه الهنيئة وعواريه المستودعة فحق علينا ان نرضى بقضائه ولا نكفر عند استرداد أماناته فان المالك يتصرف في ملكه كيف يشاء وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (155) فى الاخرة وكذا في الدنيا بالذكر والمراقبة فيعطينا ان شاء اللّه أفضل مما استرد منا الخطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم ولكل من يأتى منه البشارة - والمصيبة كل ما يصيب الإنسان من مكروه - انقطع نعال النبي صلى اللّه عليه وسلم فاسترجع فقالوا مصيبة يا رسول اللّه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أصاب المؤمن مما يكره فهو مصيبة - رواه الطبراني في الكبير من حديث أبى امامة وله شواهد مرفوعة وموقوفة - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع فانه المصاب - رواه البيهقي في شعب الايمان وفي الحديث من استرجع عند المصيبة خير اللّه مصيبته واحسن عقباه وجعل له خلفا صالحا يرضاه - أخرجه ابن ابى(1/282)
حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الايمان قال سعيد بن جبير ما اعطى أحد في المصيبة ما اعطى هذه الامة يعنى الاسترجاع ولو اعطى أحد لاعطى يعقوب الا تسمع قوله في فقد يوسف يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ.
أُولئِكَ أى أهل هذه الصفة عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل الدعاء ومن اللّه ما يترتب عليه من البركة والمغفرة والرحمة جمعها للتنبيه على كثرة أنواعها وذكر الرحمة بعدها تأكيدا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) للحق والصواب حيث استرجع ورضى بقضاء اللّه سبحانه - كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كتاب إلى معاذ يعزيه في ابن له قبضه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 155(1/283)
منك بأجر كثير الصلاة والرحمة والهدى ان احتسبت - رواه الحاكم في المستدرك وابن مردوية - وقال عمر رضى اللّه عنه نعم العدلان ونعمت العلاوة فالعدلان الصلاة والرحمة والعلاوة الهداية - وقد وردت الاخبار في حق ثواب أهل البلاء واجر الصابرين - منها ما روى عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو ان جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب - وعن أبى سعيد الخدري عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها الا كفر اللّه بها من خطاياه - متفق عليه - وعن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم انها قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من مصيبة يصيب عبدا فيقول إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ اللهم أجرني في مصبتى واخلف لي خيرا منها الا اجره اللّه في مصيبته واخلف له خيرا منها - رواه مسلم وعن محمد بن خالد السلمى عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد إذا سبقت له من اللّه منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه اللّه في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبّره على ذلك حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من اللّه - رواه احمد وأبو داود - وعن سعد قال سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم أى الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الا مثل فالامثل يبتلى الرجل على حسب دينه فان كان في دينه صلب اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة هون عليه فما زال كذلك حتى يمشى على الأرض ماله ذنب - رواه الترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجة والدارمي وفي الباب أحاديث كثيرة لا تحصى - .(1/284)
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ جبلين بمكة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة وهى العلامة - والمراد هاهنا المناسك الّتى جعلها اللّه تعالى اعلاما لطاعته فان الطواف بينهما واجب في الحج والعمرة اجماعا الا في رواية عن احمد فقال سنة لقوله تعالى فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فان نفى الجناح تدل على الإباحة وكذا قوله فَمَنْ تَطَوَّعَ - والحق ان الإباحة والتطوع كل واحد منهما أعم من الوجوب فلا ينفيانه والحج لغة القصد والاعتمار الزيارة وفي الشرع عبارتان عن العبادتين المعروفتين والجناح بمعنى الميل عن القصد والمعنى لا اثم عليه - واصل يطوّف يتطوّف أدغمت التاء فى الطاء والمعنى ان يدور بهما - وسبب نزول هذه الآية انه كان على الصفا والمروة صنمان اساف ونائلة فكان اساف على الصفا ونائلة على المروة وكان اكثر أهل الجاهلية يطوفون بينهما تعظيما للصنمين و
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 156(1/285)
يتمسحون بهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعى بين الصفا والمروة لاجل الصنمين وكانت الأنصار قبل الإسلام يعبدون المناة ويهلون لها وكان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا والمروة فلما اسلموا سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك وقالوا كنا نتحرج ان نطوف بين الصفا والمروة فنزلت الآية في الفريقين - اما الأول فقد رواه الحاكم عن ابن عباس قال كانت الشياطين فى الجاهلية تعرف الليل اجمع بين الصفا والمروة وكان بينهما أصنام لهم فلما جاء الإسلام قال المسلمون يا رسول اللّه لا نطوف بين الصفا والمروة فانه شىء كنا نصنعه في الجاهلية فانزل اللّه الآية واخرج البخاري عن عاصم قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال كنا نرى انهما من امر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل اللّه إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ الآية - واما الثاني ففى الصحيحين عن عروة عن عائشة قال قلت أ رأيت قول اللّه تعالى إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي انها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه ان لا يطوف بهما ولكنها « 1 » انما نزلت في الأنصار قبل ان يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية وكان من اهلّ لها يتحرج ان يطوف بالصفا والمروة فسالوا عن ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه كنا نتحرج ان نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فانزل اللّه ان الصفا والمروة الآية - ويدل على وجوب السعى حديث صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت تجراه قالت رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى حتى ارى ركبتيه من شدة اسعى يدور به إزاره وهو يقول اسمعوا ان اللّه عز وجل كتب عليكم السعى - أخرجه الشافعي و(1/286)
احمد - وفي اسناده عبد اللّه بن مؤمل يضعفه الدارقطني وجماعة لكن قال ابن الجوزي قال يحيى ليس به بأس - ورواه الدارقطني من طريق منصور بن عبد الرحمن قال أبو حاتم لا يحتج به وقال يحيى بن معين ثقة وقال الذهبي ثقة مشهور من رجال مسلم - قال الحافظ لهذا الحديث طرق اخرى عند الطبراني عن ابن عباس إذا انضمت إلى الاولى قويت - وقد يستدل على الوجوب بحديث أبى موسى المتفق عليه قال له النبي صلى اللّه عليه وسلم فطف بالبيت وبالصفا والمروة - فان الأمر للوجوب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا - فذهب أبو حنيفة على أصله ان ادلة الوجوب إذا كانت ظنية لا يزاد بها على الكتاب فقال - هو واجب في الحج ليس بركن فينجبر بالدم وقال الشافعي وغيره انه ركن لعدم التفرقة عندهم بين الفرض والواجب - واجمع العلماء على ان السعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط - وعلى ان
_________
(1) فى الأصل ولكنهما -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 157(1/287)
الذهاب من الصفا إلى المروة شوط والعود من المروة إلى الصفا شوط اخر - وحكى عن جرير الطبري وابى بكر الصوفي من الشافعية والطحاوي من الحنفية ان الذهاب من الصفا إلى المروة ثم العود منها إلى الصفا شوط واحد قياسا على الطواف بالبيت حيث كان المنتهى إلى المبدء - وقيل الرجوع إلى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني - لنا حديث جابر الطويل وفيه فلما كان اخر طوافه بالمروة قال لو استقبلت من امرى الحديث - رواه مسلم وعمل الجمهور المبنى على النقل المستفيض يكفى لنا حجة واجمعوا على ان للسعى شرائط منها الترتيب وهى البداية من الصفا والختم على المروة وما قيل انه ليس بشرط عند أبى حنيفة باطل - والحجة على الترتيب مواظبة النبي صلى اللّه عليه وسلم على ذلك - وقوله فى حديث جابر ابدا بما بدا للّه فبدا بالصفا فرقى عليه - رواه مسلم ورواه احمد ومالك وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حبان والنسائي بلفظ - نبدا - وروى الدارقطني بلفظ ابدءوا على صيغة الأمر وصححه ابن حزم فلو ثبت صيغة الأمر فهو اظهر للايجاب والا فهو حجة على الوجوب إذا ضم إليه قوله صلى اللّه عليه وسلم خذوا عنى مناسككم فانى لا أدرى لعلى لا أحج بعد حجتى - رواه مسلم - ومنها كونه مرتبا على أحد الطوافين اما طواف القدوم أو طواف الزيارة والفصل لا يضره ما لم يكن بينهما وقوف بعرفة - فمن سعى قبل طواف القدوم لا يعتد به اجماعا الا ما روى عبد الرزاق عن عطاء انه قال لو سعى ثم طاف جاز - والحجة لهذا القول حديث اسامة بن شريك ورد فيه السؤال عن السعى قبل الطواف فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم افعل ولا حرج - والجواب ان الامة ترك العمل بهذا الحديث فهو شاذ - لنا انه عبادة غير معقولة فيقتصر على كيفية ما ورد عليها الشرع - وعن عائشة قالت قدمت مكة وانا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة قالت فشكوت ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/288)
فقال افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى - متفق عليه - وهذا صريح في ان النبي صلى اللّه عليه وسلم منع عائشة عن الطواف واجازها في غيره من المناسك وانها امتنعت عن الطواف والسعى جميعا وقد علم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك وقال لها يجزئ عنك طوافك بالبيت وبالصفا والمروة عن حجك وعمرتك - فبهذا ظهر ان السعى بين الصفا والمروة تابع للطواف - ويبتنى على هذا انه من طاف للزيارة ولم يسع أصلا لا بعد طواف القدوم ولا بعد طواف الزيارة يجب عليه الدم لترك السعى ولا يقضى السعى لان السعى لم يدرك عبادة الا بعد الطواف - واما من
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 158(1/289)
فاته الطواف والسعى جميعا يجب عليه قضاء الطواف والسعى جميعا - والسنة انه إذا وقف على الصفا يكبر ثلثا ويقول لا الله الا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعوا ويصنع على المروة مثل ذلك - وإذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى حتى يخرج منه ثم إذا رقي المروة مشى كنا في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر وغيره وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً - قرأ حمزة والكسائي يطّوّع بالياء التحتانية وتشديد الطاء على صيغة المضارع المجزوم وكذلك فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا - ووافق يعقوب في الاولى فقط وقرا الجمهور بالتاء وفتح العين على الماضي - ومعناه فعل طاعة فرضا كان أو نفلا - وقال مجاهد معناه فمن تطوع بالطواف بين الصفا والمروة - بناء على انه سنة - وقال مقاتل والكلبي فمن تطوع زاد في الطواف بعد الواجب - وقيل - من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه - وقال الحسن أراد سائر الأعمال يعنى فعل غير المفترض عليه من صلوة وزكوة وطواف وغيرها من انواع الطاعات - وخيرا منصوب على انه صفة مصدر محذوف - أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه - أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى اتى - فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) يثيب على الطاعة ولا يخفى عليه شىء واللّه اعلم - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم
عن ابن عباس قال سال معاذ بن جبل وسعد بن معاذ وخارجة ابن زيد نفرا من أحبار اليهود عن بعض ما في التورية فكتموهم إياه وأبوا ان يخبروهم فانزل اللّه تعالى.(1/290)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الشاهدة على صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم وَالْهُدى أى ما يهدى إلى الطريق المستقيم واتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم - مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أى التورية أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) اصل اللعن الطرد - ومعنى يلعنهم اللّاعنون انهم يسئلون اللّه لعنهم - واللّاعنون الذين يأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة وللمسلمين من الجن والانس ودواب الأرض كلها - عن البراء بن عازب قال كنا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في جنازة فقال ان الكافر يضرب بين عينيه فيسمعه كل دابة غير الثقلين فيلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول اللّه تعالى وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ - أخرجه ابن ماجة وابن أبى حاتم وابن جرير قال ابن عباس جميع الخلائق الا الجن والانس - وقال قتادة هم الملائكة وقال عطاء الجن والانس - وقال الحسن جميع عباد اللّه - وقال مجاهد اللّاعنون البهائم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 159
يلعن عصاة بنى آدم إذا سننت السنة وامسك المطر وقالت من شوم بنى آدم.(1/291)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن الكتمان وغيره من المعاصي وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك وَبَيَّنُوا ما في التورية فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أتجاوز عنهم فان التوبة من العبد الرجوع من المعصية ومن اللّه الرجوع من العقوبة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) المبالغ في قبول التوبة والرحمة - عن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان العبد إذا اعترف ثم تاب تاب اللّه عليه - متفق عليه وعن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للّه أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فايس منها فاتى شجرة فاضطتجع في ظلها قد ايئس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فاخذ بحطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدى وانا ربك من شدة الفرح - رواه مسلم.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ يعنى ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) قال أبو العالية هذا يوم القيامة يوقف الكافر فيلعنه اللّه ثم يلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس - فان قيل الملعون من الناس فكيف يلعن نفسه قيل قال اللّه تعالى يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - وقيل انهم يلعنون الظالمين وهم منهم.
خالِدِينَ فِيها أى في اللعنة أو في النار واضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) لا يمهلون من الانظار - أو لا ينتظرون ليعتذروا - أو لا ينظر إليهم نظر رحمة - قال البغوي ان كفار قريش قالوا يا محمد صف وانسب لنا ربك فانزل اللّه تعالى سورة الإخلاص وقوله تعالى.(1/292)
وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وصف الإله بالواحد للتأكيد مع دلالة تنوين اللّه على الوحدة وفيه تقدير للوحدانية ما ليس في قولك إلهكم واحد والخطاب عام أى المستحق للعبادة منكم أيها العالمين اللّه واحد لا يمكن له نظير ولا شريك - ويجوزان يكون خطابا للكاتمين زجرا لهم على معاملتهم مع اللّه تعالى حيث يكتمون التوحيد ويقولون عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه بعد زجرهم على كتمان الرسالة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لتقرير الوحدانية وتأكيدها بعد تقرير - أو هو خبر إلهكم بعد خبر الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) خبران آخران لقوله إِلهُكُمْ - أو المبتدأ محذوف - وفيه اشارة إلى الحجة على استحقاقه العبادة فانه المنعم على الإطلاق مولى النعم كلها أصولها وفروعها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 160
و ما سواه منعم عليه - عن اسماء بنت يزيد انها قالت سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول ان في هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ - واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي - واخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي في شعب الايمان عن أبى الصخر قال لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ - تعجب المشركون وقالوا الها واحدا فليأتنا باية ان كان من الصادقين - فانزل اللّه تعالى - .(1/293)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وما فيها من الشمس والقمر والكواكب - واخرج ابن أبى حاتم وابن مردوية من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال قالت قريش للنبى صلى اللّه عليه وسلم - ادع اللّه ان يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فاوحى اللّه تعالى إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم انى معطيهم ولكن ان كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعنى وقومى فادعوهم يوما بيوم - فانزل اللّه تعالى هذه الآية يعنى انهم كيف يسئلون الصفا ذهبا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم منه في الوجود ومثله في الإمكان وَالْأَرْضِ وما فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر وانواع النباتات والحيوانات واختلاف التأثيرات والأقطار والأقاليم - وانما جمع السموات وأفرد الأرض لان تعدد السموات كان مقررا عند المخاطبين بناء على مشاهدتهم تعدد حركات الكواكب بخلاف الأرض فان تعددها لم يثبت الا بالشرع والاستدلال انما هو بما هو معلوم عندهم - وقيل لان السموات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين فان كلها من جنس واحد وهو التراب - وقيل لان طبقات السموات متفاصلة بخلاف الأرضين وهذا ليس بشىء فان الثابت بالسنة كون كل واحد من السموات والأرضين متناصلة كما روينا الأحاديث سابقا في تفسير قوله تعالى فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أى تعاقبهما في الذهاب والمجيء وقصر الليالى وطول الأيام في الصيف وعكسها في الشتاء وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ كيف سخرها اللّه تعالى لكم تحمل الأثقال ولا ترسب في البحر - والفلك واحد وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع تؤنث صفته وإذا أريد به المفرد يذكر نحو أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(1/294)
- وكُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ - وتَجْرِي فِي الْبَحْرِ - بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أى ينفعهم أو بالذي ينفعهم من الركوب عليها والحمل فيها في التجارات والمكاسب وانواع المطالب وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ من الاولى للابتداء والثانية للبيان فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها وجذوبتها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 161(1/295)
وَ بَثَّ أى نشر فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ صغيرة لا يكاد يبصر وكبيرة لا يتصور تسخيرها الا بحول اللّه وقوته عطف على انزل أو على أحيا فان الدواب ينمون من الخصب ويعيشون بالماء وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ إلى المشرق والمغرب والجنوب والشمال مفيدة ومضرة - لينة وعاصفة - حارة وباردة - اعلم ان الريح كلما وقع في القرآن المعرف باللام اختلف القراء في جمعها وافرادها الا في الذاريات الرّيح العقيم فانهم اتفقوا على الافراد - والا في الحرف الأول من سورة الروم الرّياح مبشّرت فانهم اجمعوا على جمعها - فقرا حمزة والكسائي تصريف الريح هنا وفي الكهف والجاثية والأعراف والنمل والثاني من الروم وفاطر بالإفراد وتابعهما ابن كثير في الاربعة الاخيرة - وقرا ابن كثير في الفرقان وحمزة في الحجر بالإفراد والباقون في جميعها بالجمع - وقرا نافع في ابراهيم والشورى بالجمع والباقون بالإفراد - وقرا أبو جعفر « 1 » كل ما ذكر على الجمع جميعا - وكل ريح في القرآن منكر فهو بالإفراد اجماعا واللّه اعلم وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا ينزل ولا ينقشع مع ان الطبع يقتضى أحدهما حتى يأتى امر اللّه وأيضا هو مسخر فى الجو يقلبه اللّه حيث يشاء قال ابن وهب ثلثة لا يدرى من اين يجىء الرعد والبرق والسحاب لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) يتفكرون فيها وينظرون إلى انها امور حادثة ممكنة في ذواتها لا يقتضى ذواتها وجوداتها ولا شيئا من اثارها موجودة على وجوه مخصوصة من وجوه كثيرة كلها محتملة فلا محالة من وجود صانع يقتضى ذاته وجوده حى عليم حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد متصف بصفاة الكمال منزه عن النقص والزوال متعال عن مماثل ومعارض إذ لو كان معه اله يقدر على ما يقدر عليه لزم اما اجتماع المؤثرين على اثر واحد بالشخص وهو محال أو عجز أحدهما أو التمانع الموجب للفساد - وينظرون إلى ما في تلك المخلوقات(1/296)
من اثار رحمة اللّه تعالى فيعرفون انه تعالى هو المستحق للعبادة والشكر دون غيره - أخرج ابن أبى الدنيا في كتاب التفكر عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ ثم
قال ويل لمن قرأ ولم يتفكر فيها - وقيل للاوزاعى فما غاية التفكر فيهن قال يقرا وهو يعقلهن - واللّه اعلم.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أصناما أو رؤساءهم الذين كانوا يطيعونهم أو ما هو أعم منهما يعنى كل ما كان مشغلا عن اللّه تعالى مانعا عن امتثال أو امره يُحِبُّونَهُمْ يعظمونهم ويطيعونهم كَحُبِّ اللَّهِ كتعظيمهم للّه أى يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة والمحبة
_________
(1) وقرا أبو جعفر أيضا بالجمع في الاسراء والأنبياء وسبا وص وعنه خلاف في الحج - أبو محمد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 162(1/297)
ميل القلب كذا قال الزجاج أو المعنى يحبون الهتهم كحب المؤمنين اللّه تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب الكافرين الهتهم لأنه لا ينقطع محبة المؤمنين ولا يعرضون عن اللّه تعالى في السراء والضراء والشدة والرخاء بخلاف الكفار فان محبتهم لاغراض موهومة فاسدة تزول بأدنى سبب ولذلك كانوا يعدلون عن الهتهم عند الشدائد إلى اللّه تعالى ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره قال سعيد بن جبير ان اللّه عز وجل يأمر يوم القيامة من احرق نفسه في الدنيا على روية الأصنام ان يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون ثم يقول للمؤمنين بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون « 1 » فيها وينادى منادى من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ - قلت ويمكن ان يكون المعنى الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ من حب كل أحد لكل أحد لان محبتهم فيما بينهم اما لتوقع جلب منفعة أو دفع مضرة أو لالتذاذ يحصل بروية الجمال أو لانتسابهم إلى أنفسهم بالنبوة أو الابوة فهى في الحقيقة محبة لانفسهم لا للمحبوبين ومن ثم ترى زوالها بزوال تلك الأسباب - ثم الكفار منهم اقتصر نظرهم على الحظوظ العاجلة ولا يعرفون للّه سبحانه الا وجودا موهوما وينسبون المنافع والمضار إلى العباد أو الكواكب أو اسماء سموها هم واباؤهم فيحبونهم كحب اللّه أو أشد منه - والذين يدّعون الإسلام من أهل الأهواء كالمعتزلة والروافض والخوارج فلاعتقادهم بالمنافع والمضار المختصة بالدار الاخرة واعترافهم بان مالك يوم الدين هو اللّه الواحد القهار يحبون اللّه تعالى أشد من حبهم لغيره تعالى حيث يزعمون ان منافعهم ومضارهم مختصة بالدنيا - ومن اختار الدنيا على الاخرة منهم فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه فلا كلام فيه فهؤلاء الناس مشركون غيره تعالى به تعالى في اصل الحب المبنى على إيصال النفع والضرر المبنى على اعتقادهم بان(1/298)
افعال العباد مخلوقة لهم لا للّه تعالى - فهم بسبب اقتدارهم بقاذورات الفلاسفة اكفاء للمشركين ومجوس في هذه الامة واما أهل السنة والجماعة فلاعتقادهم بان افعال العباد مخلوقة للّه تعالى وان اللّه تعالى هو الضار النافع دون غيره فكما انهم لا يعبدون غير اللّه تعالى كذلك لا يحمدون غيره الا بنوع من التجوز باذنه وامره وكذلك لا يحبون غيره تعالى الا للّه تعالى فحمدهم وحبهم كلها راجعة إلى اللّه تعالى انما الحب الحب للّه وانما البغض البغض للّه غير ان حب عامتهم راجع إلى اغراض صحيحة اخروية مرضية للّه تعالى - واما أهل التحقيق منهم وهم الصوفية العلية الرضية فكل حب مبنى على خوف أو طمع
_________
(1) وهؤلاء إذا اقتحموا في النار يجدوها بردا وسلاما - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 163(1/299)
دنيوى أو اخروى لا يسمونه حبا - بل الحب عندهم نار يشتعل في قلوب المحبين تحرق ما سوى المحبوب لا تبقى ولا تذر حتى يسقط عن نظر بصيرته نفسه فكيف ينظر نفعه وضرّه وما سواه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً نعم رب قد اتى على الإنسان حين مستمر من الدهر لم يكن شيئا مذكورا ولا مخطورا - والسرّ في ذلك ان اقرب الأشياء عند العوام أنفسهم فهم لا يحبون الا أنفسهم أو لاجل أنفسهم واما المحققون فاقرب الأشياء إليهم هو اللّه سبحانه الذي قال نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ أيها العوام فهم لا يحبون أحدا الا اللّه سبحانه ويحبون أنفسهم لاجله تعالى لا بالعكس ويحبون كل محبوب لاجله تعالى وأولئك هم الصادقون في دعوى المحبة الذاتية - وإذا بلغت المحبة إلى هذه المثابة يكون إيلام المحبوب عندهم كانعامه بل احلى وألذ فإن في إيلامه اخلاص ما ليس في انعامه - وهؤلاء هم الذين يقال لهم يوم القيامة بين يدى الكافرين ان كنتم احبائى فادخلوا جهنم فيقتحمون فيها وينادى مناد من تحت العرش وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ - أليس تعلم انه من كان يعبد اللّه تعالى خوفا من جهنم وطمعا في الجنة كيف يختار النار المؤبدة ابتغاء مرضات اللّه ولا يتصور ذلك الا من له محبة ذاتية وهو حامل امانة اللّه التي حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا وَلَوْ يَرَى قرأ نافع وابن عامر ويعقوب بالتاء على انه خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم أو لكل مخاطب ومفعوله بعده - وقرا الباقون بالياء وفاعله ضمير السامع يعنى لو يرى السامع أو فاعله بعده الَّذِينَ ظَلَمُوا باتخاذ الانداد وحبهم كحب اللّه ومفعوله محذوف يعنى أنفسهم إِذْ يَرَوْنَ الكفار الْعَذابَ يوم القيامة قرأ ابن عامر بضم الياء على البناء للمفعول والباقون بالفتح - وجواب لو محذوف يعنى لرايت(1/300)
امرا فظيعا عظيما - أو لندموا ندامة شديدة - وفائدة الحذف انّ لو إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه فيحذف الجواب هناك يذهب القلب فيه كل مذهب ويستفاد منه كمال الشوق أو كمال الفظع - ولو وإذ تدخلان على الماضي وانما دخلتا على المستقبل لان في اخبار اللّه تعالى المستقبل كالماضى في التحقق أَنَّ يعنى لان الْقُوَّةَ الغلبة « 1 » لِلَّهِ جَمِيعاً حال وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) أى شديد عذابه يتعلق بالجواب المحذوف على قراءة العامة - وقرا أبو جعفر ويعقوب أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ بكسر الهمزة في ان في الجملتين فهذا استيناف والكلام قد تم عند قوله إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ويحتمل على قراءة لو يرى الّذين ظلموا على الغيبة ان يكون الروية بمعنى الروية القلبية
_________
(1) فى الأصل والغلبة - [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 164
و الذين ظلموا فاعله وان القوة إلى آخره ساد مسد مفعوليه - والمعنى ولو يعلم الذين ظلموا حين يرون العذاب والمصائب في الدنيا ان القوة للّه جميعا وان اللّه تعالى هو الضارّ والنافع وان افعال العباد لم يوجد الا بقدرته ومشيته وخلقه وان اللّه شديد العذاب في الدنيا والاخرة لا مانع لما يعطيه ولا معطى لما منعه ولا راد لقضائه أحدكما يعلم المؤمنون لما اتخذوا أندادا وما أحبوا غير اللّه تعالى كالمؤمنين - أو المعنى لو يعلم الذين ظلموا ان القوة للّه جميعا حين يرون العذاب يوم القيامة لندموا أشد ندامة - ويحتمل ان يكون ان القوة للّه جميعا جواب لو والمعنى ولو يرى الذين ظلموا اندادهم لا ينفع لعلموا ان القوة للّه جميعا - .(1/301)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا منصوب بتقدير اذكر أو بدل من إذ يرون وَرَأَوُا الْعَذابَ الواو للحال وقد مضمرة أو للعطف على تبرا وكذا في قوله تعالى وتقطّعت وذلك التبري يوم القيامة حين يجمع اللّه القادة والاتباع فيتبرا بعضهم من بعض وقيل الشياطين يتبرءون من الانس وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ أى عنهم الْأَسْبابُ (166) أى اسباب المحبة التي كانت بينهم في الدنيا وهى توقعات فاسدة في النفع ودفع الضرر - واصل السبب ما يوصل به إلى شىء من ذريعة أو قرابة أو مودة ومنه يقال للجبل وللطريق سبب.
وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أى رجعة إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ منصوب على جواب لو بمعنى ليت مِنْهُمْ أى من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا اليوم كَذلِكَ الاراءة يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ ندامات عَلَيْهِمْ حسرات ثالث مفاعيل يرى ان كان من روية القلب والا فحال ما تركوا من الحسنات واتباع الرسول يندمون على تضييعها وما اثروا من السيئات واختاروا الدنيا على الاخرة يتحسرون على إتيانها - قال السدى يرفع لهم الجنة فينظرون إليها والى بيوتهم فيها لو أطاعوا اللّه فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم اللّه تعالى ثم يقسم بين المؤمنين فبذلك يندمون ويتحسرون وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) أصله ما يخرجون فعدل إلى الجملة الاسمية للمبالغة في الخلود والاقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا.
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر ابن صعصعة وبنى مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والانعام والبحيرة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 165(1/302)
و السّائبة والحام والوصيلة حَلالًا مفعول كلوا أو حال من ما في الأرض ومن للتبعيض - والحلال ضد الحرام أى ما لم يمنعه الشرع فان الأصل في الأشياء الحل لقوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً طَيِّباً مستلذا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أى لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحلوا الحرام قرأ أبو جعفر وابن عامر والكسائي وحفص ويعقوب بضم الطاء والباقون بسكونها وهما لغتان في جمع خطوة وهى ما بين قدمى الخاطي - وخطوات الشيطان اثارها وزلاتها يعنى طرقه « 1 » فى المعاصي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) ظاهر العداوة عند أهل البصيرة وان كان يظهر الموالات لمن يغويه ولذلك سماه وليّا في قوله أولياؤهم الطّاغوت - أو مظهرها حيث أبى من سجود آدم وأخرجه من الجنة وحلف لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - وابان يكون لازما ومتعديا - ثم ذكر عداوته.(1/303)
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ السوء في الأصل اسم لما يسوء صاحبه يقول ساءه يسوءه سواء ومساءة أى أحزنه وسأته فسىء أى حزنته فحزن - والفحشاء مصدر على وزن بأساء وضراء والمراد بهما الإثم والعطف لاختلاف الوصفين فانه سوء لاغتمام العاقل به وفحشاء لاستقباحه إياه وقيل السوء مطلق المعصية والفحشاء الكبيرة أو ما فيه حد - والمراد بامره وسوسته وذالا يقتضى سلطانه الا على من اتبعه من الغاوين عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فادناهم منه منزلة أعظم فتنة يجىء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا - ثم يجىء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته قال فيدنيه منه ويقول نعم أنت - رواه مسلم وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فاما لمة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحق واما لمة الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم انه من اللّه فليحمد اللّه ومن وجد الاخرى فليتعوذ باللّه من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ - رواه الترمذي وفى حديث ابن عباس قوله صلى اللّه عليه وسلم الحمد للّه الذي رد امره إلى الوسوسة - رواه أبو داود - وَأَنْ تَقُولُوا في موضع الجر عطفا على السوء عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) من تحريم الحرث والانعام - .
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أى لليهود اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قصة مستانفة والضمير عن غير مذكور - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اليهود الى
_________
(1) في الأصل طروقه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 166(1/304)
الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عن عذاب اللّه ونقمته « 1 » فقال رافع بن حريملة ومالك بن عوف بل تتبع يا محمد ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا اعلم وخيرا منا فانزل اللّه تعالى - والمراد ب ما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن أو التورية فانها أيضا تأمر باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم - وقيل هى نازلة في مشركى العرب وكفار قريش والضمير راجع إلى قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ - وقيل الضمير راجع إلى الناس في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا - وعدل عن الخطاب عنهم إيذانا على ضلالتهم كأنَّه التفت إلى العقلاء وقال قال لهم انظروا إلى هؤلاء الحمقاء ما ذا يجيبون قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ قرأ الكسائي بل نتّبع بإدغام اللام فى النون فانه يدغم لام هل وبل في ثمانية أحرف التاء - والثاء - والزاء - والسين - والطاء - والظاء - والضاد - والنون - نحو هل نعلم - وهل ثّوّب - وبل زيّن - وبل سوّلت - بل طبع - بل ظننتم - بل ضلّوا - هل ندلّكم - هل ننبّئكم - وهل نحن وشبهه وادغم حمزة في التاء والثاء والسين فقط واختلف عن خلاد عند الطاء في قوله تعالى بل طبع اللّه - واظهر هشام عند النون والضاد وعند التاء في الرعد هل تستوى لا غير وادغم أبو عمرو هل ترى من فطور في الملك - فهل ترى لهم فى الحاقة لا غير واظهر الباقون اللام في الثمانية ما أَلْفَيْنا ما وجدنا عَلَيْهِ آباءَنا من اتباع التورية أو من التحريم والتحليل أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) الواو فى الأصل واو العطف ويقال في هذا المقام واو التعجب دخلت عليها الف الاستفهام للتوبيخ يعنى أ يتبعون آباءهم لو كان اباؤهم يعقلون ولو كان اباؤهم لا يعقلون فحذف صدر الجملة - والجملة حال وكلمة لا يعقلون عام ومعناه الخصوص أى لا يعقلون شيئا من امر الدين لانهم كانوا يعقلون امر الدنيا - فان قيل نزول الآية في اليهود فكيف(1/305)
يتصوران آباءهم لا يعقلون شيئا فانهم كانوا متبعين للتورية - قلت بل لم يكونوا متبعين للتورية ولو كانوا متبعيها لما كفروا بعيسى عليه السلام - أو يقال فيه تعريض بانهم لعلهم ألفوا آباءهم على تحريف التورية فحرفوها إذ لو وجدوهم على التورية لوجدوهم طالبين لدين محمد صلى اللّه عليه وسلم منتظرين له - .
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً النعق والنعيق صوت الراعي بالغنم والآية ان كانت في عبدة الأوثان فلا حاجة في تأويلها ومعناه مثل الذين كفروا فى عبادتهم ودعائهم للاوثان حيث لا يسمعون دعاءهم كمثل الذي ينعق
_________
(1) فى الأصل ونعمته -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 167(1/306)
بما لا يسمع كما في قوله تعالى إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ - والتمثيل من باب التمثيل المركب فلا محذور في قوله تعالى الّا دعاء ونداء - وان كانت الآية في اليهود فالتوجيه ان مثل الذين كفروا من اليهود في جواب دعائك إياهم إلى الإسلام بقولهم بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا - كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ من البهائم فانه كما ان الناعق لا يقصد بصوته معنى بل يتكلم بمهل كذلك الكافر لا يقول جوابا مقبولا بل يقول صوتا غير مغن - أو الغرض منه تشبيه الكفار بالبهائم فحينئذ لا بد من التأويل فتقديره مثلك ومثل الذين كفروا - أو مثل داعى الذين كفروا بحذف المضاف في المشبه - أو تقديره ومثل الذين كفروا كمثل المنعوق به فالكلام خارج على الناعق والمراد به المنعوق به وهو فاش في كلام العرب يقلّبون الكلام يقولون فلان يخافك خوف الأسد وقال اللّه تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ وانما العصبة تنوء بالمفاتيح - والمعنى ان الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتاملون فيه كالبهائم التي ينعق عليها فيسمع الصوت ولا يفهم معناه - أو المعنى مثل الذين كفروا في اتباع ابائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها كمثل المنعوق به من البهائم التي يسمع الصوت ولا يفهم ما تحته فان آباءهم الذين كانوا قبل نسخ التورية كانوا يتبعون ما انزل اللّه في التورية ينتظرون محمدا صلى اللّه عليه وسلم والقران وهؤلاء يدّعون اتباع التورية بعد ما نسخت ويخالفون التورية في انكار القرآن صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم أى لا يسمعون سماع تفكر ولا ينطقون بالخير ولا يبصرون الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) امر الدين للاخلال عن النظر ولما امر اللّه تعالى الناس بأكل الحلال الطيب والكف عن اتباع الشيطان وطال الكلام فيما(1/307)
يتعلق بالكف وكان لاكل الحلال الطيب غاية وهو الشكر وأراد اللّه تعالى ذكره أعاد الأمر بالأكل ليتصل به قوله واشكروا ولما كان الشكر مختصا باهل التوحيد والايمان خاطب هنا بخطاب أهل الايمان فقال.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ حلالات مستلذات ما رَزَقْناكُمْ عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه طيب لا يقبل الا الطيب وان اللّه امر المؤمنين بما امر المرسلين فقال يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً - وقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ - ثم ذكر الرجل يطيل السفر يمديده إلى السماء يا رب يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذّى بالحرام فانى يستجاب لذلك - رواه مسلم وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) يعنى ان صح انكم تخصونه بالعبادة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 168
و تقرون بانه مولى النعم كلها فاشكروه فان عبادتكم لا يتم الا بالشكر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول اللّه تعالى انى والانس والجن في نبإ عظيم اخلق ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى - أخرجه الطبراني في مسندات الشاميين والبيهقي في شعب الايمان والديلمي من حديث أبى الدرداء - .(1/308)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ قرأ أبو جعفر الميّتة في كل القرآن بالتشديد والباقون انما شددوا البعض وسنذكرها ان شاء اللّه تعالى فان قيل كلمة انما الحصر وكم من حرام لم يذكر - قلنا المختار عند الحنفية ما قال نحاة الكوفة ان كلمة انما ليست للقصر بل هى مركبة من انّ للتحقيق وما الكافة وعلى تقدير التسليم فالقصر إضافي بالنسبة إلى ما حرمه الكفار من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام ونحوها واللّه اعلم - والميتة حيوان مات من غير ذكوة وقد كان من شانها الذكوة فالسمك والجراد غير داخلتين فيها أو هما خصتا منها بالحديث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحل لنا ميتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال - أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمرو الحق بها بالسنة ما أبين من الحي أخرج أبو داود - والترمذي وحسنه عن أبى واقد الليثي قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما قطع من البهيمة وهى حية فهو ميتة - واجمعوا على انه لا يجوز بيع الميته ولا أكل ثمنه ولا الانتفاع بشحمه ولا بجلده قبل الدباغ عن جابر انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة ان اللّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول اللّه ارايت شحوم الميتة فانه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال عند ذلك قاتل اللّه اليهود ان اللّه لمّا حرم شحومها اجملوه ثم باعوه فاكلوا ثمنه - متفق عليه وعن عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال قاتل اللّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها - متفق عليه وعن عبد اللّه ابن عكيم قال أتانا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا لا تنتفعوا من الميتة باهاب ولا عصب رواه احمد والشافعي واصحاب السنن الاربعة - وفي رواية للشافعى واحمد وابى داود « 1 » - قبل موته بشهر وفي رواية احمد بشهر أو شهرين قال(1/309)
الترمذي حسن صحيح - وعن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا ينتفع من الميتة بشىء - رواه أبو بكر الشافعي واسناده حسن وعن اسامة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن جلود السباع - رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه وزاد وان يفترش - وعن معاوية بلفظ نهى عن ركوب النمار - رواه أبو داود والنسائي وعن المقدام بن معديكرب قال نهى رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) فى الأصل أبو داود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 169(1/310)
عليه وسلم عن الحرير والذهب ومناثر النمور - رواه احمد والنسائي - وعن أبى هريرة مرفوعا لا تصحب الملائكة رقعة فيها جلد نمر - رواه أبو داود واختلفوا في جلد الميتة بعد الدباغ فقال أبو حنيفة والشافعي رحمهما اللّه يطهر بالدباغ فيجوز بيعه والانتفاع به وقال مالك واحمد لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به - لنا أحاديث منها حديث ابن عباس قال مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بشاة ميتة فقال الا استمتعتم بجلدها فقالوا يا رسول اللّه انها ميتة قال انما حرم أكلها أو ليس في الماء والقرظ ما يطهر - وفى بعض الروايات - الا استمتعتم بجلدها - وفي بعضها - انما حرم لحمها ورخص لكم في مسكها - قال الدارقطني أسانيده صحاح - وحديثه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أى إهاب دبغ فقد طهر - رواته مسلم وعن ابن عمر مرفوعا مثله رواه الدارقطني بسند حسن - وعن سفيان مثله رواه مسلم وعن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم طهور كل أديم دباغه - وعنها ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر ان ينتفع بجلود الميتة إذا دبغت - وعن سودة ماتت شاة لنا فدبغنا مسكها - رواه البخاري واحتج اصحاب مالك واحمد بما ذكرنا سابقا من الأحاديث انه لا يجوز الانتفاع من الميتة بشىء قالوا هذا اخر الامرين من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما ورد في حديث عبد اللّه بن عكيم أتانا كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل موته بشهر أو شهرين - قلنا حديث عبد اللّه بن عكيم مضطرب سنده ومتنه فلا يصادم ما روينا من الصحاح فلا يكون ناسخا على ان الإهاب اسم للجلد قبل الدباغ ونحن نقول بحرمة الانتفاع به - فان قيل ورد في حديث عبد اللّه بن عكيم عند الطبراني في الأوسط وابن عدى - قال كتب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحن في ارض جهينة انى كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب - قلنا هذا الطريق لا يصح فان فيه فضالة بن مفضل(1/311)
قال أبو حاتم الرازي لم يكن باهل ان يكتب منه أهل العلم - واختلفوا في شعر الميتة وعظمها وعصبها وقرنها وحافرها فقال أبو حنيفة طاهر يجوز بيعه والانتفاع به - وقال الشافعي نجس - واحمد ومالك معنا في الشعر ومعه في العظم والعصب - وحجتهم قوله صلى اللّه عليه وسلم لا ينتفع من الميتة بشىء - واحتج الشافعي على نجاسة الشعر بحديث ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ادفنوا الأظفار والدم والشعر فانه ميتة - والجواب ان الحديث الثاني فيه عبد اللّه بن عزيز قال أبو حاتم الرازي أحاديثه منكرة وليس محله الصدق عندى - وقال على بن الحسين بن الجنيد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 170(1/312)
لا يساوى فلسا يحدث بأحاديث كذب - واما الحديث الأول فقد تكلّم عليه ولو سلم عن التكلم فهو معارض بما تقدم من حديث ابن عباس المتفق عليه انما حرم أكلها وطرقه متكثرة - ولنا أيضا حديث ابن عباس بلفظ انما حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحمها فاما الجلد والشعر والصوف فلا بأس به - لكن فيه عبد الجبار ضعيف وذكره ابن حبان في الثقات وعنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول الا كلّ شىء من الميتة حلال الا ما أكل منها فاما الجلد والشعر والصوف والسن والعظم فكل هذا حلال وفيه أبو بكر الهذلي متروك قال غندر كذاب وقال يحيى وعلى ليس بشىء - وحديث ثوبان اشترى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج - فيه حميد وسليمان مجهولان - ولنا من الآثار ما ذكره البخاري معلقا قال الزهري في عظام الموتى نحو الفيل وغيره أدركت ناسا من سلف العلماء يمتشطون بها ويدهنون فيها لا يرون به بأسا - قلت أسلاف الزهري هم الصحابة رضى اللّه عنهم أو كبار التابعين وقال حماد بن أبى سليمان لا بأس بريش الميتة - وقال ابن سيرين وابراهيم لا بأس بتجارة العاج - واللّه اعلم وَالدَّمَ أراد به الجاري منه اجماعا كما في قوله تعالى أو دما مسفوحا وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ اجمعوا على ان الخنزير نجس عينه لا يجوز بيع شىء من اجزائه حتى شعره - وانما(1/313)
خص اللحم بالذكر لأنه معظم ما يقصد من الحيوان وسائر اجزائه كالتابع له - ويدل على حرمة عينه قوله تعالى فانّه رجس وسنذكر تفسيره في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى وهل يجوز الانتفاع بشعره قال أبو حنيفة ومالك يجوز الانتفاع به للخزر للضرورة - ومنع منه الشافعي وكرهه احمد - ولو وقع في الماء القليل أفسده وعند محمد لا يفسد لان اطلاق الانتفاع دليل طهارته - ولابى يوسف ان الإطلاق للضرورة ولا يظهر الضرورة الا في حالة الاستعمال وحالة الوقوع بغايرها - كذا في الهداية وقال الفقيه أبو الليث لو لم يوجد الا بالشراء جاز شراؤه - وقال ابن همام قد قيل أيضا أن الضرورة ليست ثابتة في الخرز به بل يمكن ان يقام بغيره وقد كان ابن سيرين لا يلبس خفا خرز بشعر الخنزير قال ابن همام فعلى هذا لا يجوز بيعه ولا الانتفاع به وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ قال الربيع بن انس يعنى ما ذكر عند ذبحه اسم غير اللّه والإهلال أصله روية الهلال يقال أهل الهلال ثم لما جرت العادة برفع الصوت بالتكبير عند روية الهلال سهى لرفع الصوت مطلقا الإهلال - وكان الكفار إذا ذبحوا لالهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها فجرى ذلك من أمرهم حتى قيل لكل ذابح وان لم يجهر مهلّ - واما متروك
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 171(1/314)
لتسمية فسنذكرها في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ قرأ عاصم وأبو عمرو وحمزة بكسر النون هاهنا ومن أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وأَنِ احْكُمْ ولكِنِ انْظُرْ وأَنِ اغْدُوا وشبهه وكسر الدال من لقد استهزىء والتاء من قالَتِ اخْرُجْ والتنوين من فتيلان انظر ومبينان اقتلوا وشبهه إذا كان بعد الساكن الثاني ضمة لازمة وابتدأت همزة الوصل بالضم - ووافقهم ابن عامر في التنوين فقط وكذا قرأ عاصم وحمزة بكسر اللام والواو مثل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ وتابعهما يعقوب الا فى الواو - وقرا الباقون بالضم في كلها بضمة أول الفعل - وقرا أبو جعفر بكسر الطاء اتباعا لكسر النون والمعنى انه من اضطر إلى أكل الميتة أو نحوه مما ذكر سواء كان الاضطرار لاجل المخمصة أو الإكراه أو غير ذلك حل له أكلها بالإجماع غَيْرَ باغٍ حال أى أكل غير باغ للذة وشهوة وَلا عادٍ أى متجاوز قدر الحاجة فالحاصل انه لا يجوز للمضطر الاكل منه الا قدر سد الرمق - وفي قول للشافعى يجوز له الشبع - وهو قول مالك واحدى « 1 » الروايتين عن احمد - والراجح من مذهب الشافعي انه ان توقّع حلالا قريبا لم يجز غير سد الرمق وانّ للمنقطع ان يشبع ويزوّد - وقال بعض اصحاب الشافعي في تأويل الآية غير باغ على الوالي ولا عاد بقطع الطريق أو فساد في الأرض - قال البيضاوي وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول احمد - وقال البغوي وهو قول ابن عباس رضى اللّه عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير وقالوا لا يجوز للعاصى بسفر ان يأكل الميتة إذا اضطر إليها ولا ان يترخص برخص المسافرين حتى يتوب - قلت والظاهر ان البغي والعدوان راجعان إلى الاكل - وقال مقاتل بن حبان غير باغ أى مستحل لها ولا عاد أى مقصر في طلب ما أبيح له - فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فى أكلها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما أكل في حالة الاضطرار رَحِيمٌ (173) حيث رخص العباد في ذلك - وهذا يدل على(1/315)
ان المضطر ان لم يأكل الميتة ونحوها حتى مات فلا اثم عليه أيضا فان الاكل عند الاضطرار مباح رخصة من اللّه تعالى وليس بواجب وهو أصح قول الشافعي - وقال أبو حنيفة بل يأثم ويجب عليه حينئذ أكله لقوله تعالى وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ - حيث استثنى ما اضطررتم إليه من المحرم فبقى على الأصل مباحا والمباح واجب أكله عند خوف الهلاك وانما سمى ذلك رخصة مجازا.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ يعنى آيات التورية في شأن محمد صلى اللّه عليه وسلم - نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم كانوا يصيبون من سفلتهم الهدايا والمأكل -
_________
(1) فى الأصل أحد -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 172(1/316)
و كانوا يرجون ان يكون النبي المبعوث منهم - فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم من غيرهم خافوا ذهاب مأكلتهم وزوال رياستهم فعمدوا إلى صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فغيروها ثم أخرجوها إليهم - فلما نظرت السفلة إلى النعت المغير وجدوه مخالفا لصفة محمد صلى اللّه عليه وسلم فلم يتبعوه ذكره البغوي وكذا أخرج الثعلبي عن أبى صالح عن ابن عباس - واخرج ابن جريح عن ابن عباس - ان هذه الآية والتي في ال عمران نزلتا جميعا في اليهود وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعنى اعراض الدنيا فانها وان جلت فهى قليلة بالنسبة إلى ثواب الاخرة أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ سمّى الرشوة والحرام نارا لأنه يودى إليها - أو لأنه صير نارا في الاخرة - أو المعنى ما يأكلون في الاخرة الا النار - ومعنى في بطونهم ملاء بطونهم وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالرحمة وبما يسرهم أو هى كناية عن غضبه عليهم نعوذ باللّه منه وَلا يُزَكِّيهِمْ أى لا يثنى عليهم أو لا يطهرهم من دنس الذنوب بخلاف عصاة المؤمنين فانهم ان عذبوا بالنار كان ذلك تطهيرا لذنوبهم وإعدادا لهم لدخول الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فى الدنيا.
وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فى الاخرة بكتمان الحق لاغراض دنيّة دنيوية فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) يعنى ما أشد صبرهم عليها تعجيب للمؤمنين على اختيارهم موجبات النار مع علمهم بتحقيق المصير إليها كانهم صبروا عليها والا فاىّ صبر.(1/317)
ذلِكَ العذاب ومحله الرفع وقيل محله النصب يعنى فعلنا ذلك بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ يعنى التورية أو جنس الكتاب التورية والقران وغيرهما بِالْحَقِّ فاختلفوا - وقيل معناه ذلك الاجتراء من اليهود على اللّه وصبرهم على النار من أجل ان اللّه تعالى نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ اللام للجنس واختلافهم ايمانهم ببعض الكتاب وكفرهم بالبعض - أو للعهد والاشارة اما إلى التورية واختلافهم فيه اتباعهم بعض أحكامه وتركهم بعضه وهو اتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم - واما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم انه سحر أو كلام يقوله بشرا وأساطير الأولين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (172) عن الحق - .
لَيْسَ الْبِرَّ قرأ حفص وحمزة بالنصب على انه خبر ليس واسمها ما بعده والباقون بالرفع بعكس التركيب - والبر كل فعل مرضى للّه تعالى أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال كانت اليهود يصلى قبل المغرب يعنى إلى بيت المقدس والنصارى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 173(1/318)
قبل المشرق فانزل اللّه تعالى هذه الآية يعنى ليس البر ما عليه اليهود والنصارى فان قبلتهم منسوخة ودينهم كفر - وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن أبى العالية - قال البغوي هذا قول قتادة ومقاتل بن جبان وقيل المراد به المسلمون وذلك ان الرجل كان في ابتداء الإسلام قبل نزول الفرائض إذا اتى بالشهادتين وصلى الصلاة إلى اىّ جهة كانت ثم مات على ذلك وجبت له الجنة فلما هاجر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزلت الفرائض وحدّت الحدود وصرّفت القبلة إلى الكعبة انزل اللّه تعالى هذه الآية يعنى ليس البر كله مقتصرا في ان تصلوا قبل المشرق والمغرب ولا تعملوا غير ذلك ولكن البر ما ذكر في هذه الآية قال البغوي هذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك - قلت واخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه - قلت ذكره تعالى بتولية الوجوه وعدم تسميته بالصلوة قرينة على ان المخاطبين « 1 » بها اليهود والنصارى دون المؤمنين وقد قال اللّه تعالى للمؤمنين انّ اللّه « 2 » لا يضيع ايمانكم يعنى صلاتكم وَلكِنَّ الْبِرَّ قرأ نافع وابن عامر لكن مخففة والبر بالرفع في الموضعين والباقون بالتشديد والنصب فيهما مَنْ آمَنَ لا بد للحمل ان يعتبر المصدر بمعنى الفاعل مبالغة أو يقدر المضاف في الاسم أو الخبر يعنى لكن البار أو ذا البر من أمن أو لكن البرّ برّ من أمن وهذا أوفق بالسياق بِاللَّهِ المتوحد بجلال ذاته وكمال صفاته المنزه عن وسمة الحدوث والمناقص بحيث لا يتصور ثناؤه الا بما اثنى به نفسه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى يوم القيامة فانه اخر الأيام والمراد به من وقت النشور إلى الابد المشتمل على البعث والحساب والميزان والصراط والجنة وما فيها والنار وما فيها والشفاعة والمغفرة وخلود الثواب والعذاب وكل ما ثبت بالكتاب والسنة وَالْمَلائِكَةِ بانهم خلقوا من نور أجسام ذوو أرواح أولوا اجنحة مثنى وثلث ورباع - وراى رسول اللّه صلى(1/319)
اللّه عليه وسلم جبرئيل وله ستمائة جناح - لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون قوتهم التسبيح والتهليل لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ يموتون ثم يبعثون ومنهم رسل يأتون بالوحى على الأنبياء عليهم الصلوات والتسليمات وجزاء أعمالهم رضوان اللّه تعالى منهم ومراتب قربهم عند اللّه تعالى حيث قال عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ فهم غير محتاجين في جزاء أعمالهم إلى دخول الجنة بل خزنة النار وملائكة العذاب أيضا يوفون أجورهم وهم لا يظلمون - فلا يذهب عليك ان عوام المؤمنين أفضل من الملائكة أجمعين حيث يدخلون الجنة لاجل الجزاء دون الملائكة نعم خواص البشر يعنى الأنبياء والرسل منهم أفضل من جميع الملائكة لاجل التجليات الذاتية المختصة بالبشر لاختصاصها بالتراب - وكما ان جزاء اعمال الملائكة غير متوقفة بدخول
_________
(1) فى الأصل ان المخاطبون
(2) وفي القرآن وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 174(1/320)
الجنة كذلك بعض الأصفياء من البشر يحصل لهم في الدنيا بعض ما يحصل لهم في الجنة قال اللّه تعالى فى حق خليله عليه السلام آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وَالْكِتابِ والمراد به الجنس أو المراد به القرآن فان الايمان به مستلزم لجميع الكتب المنزلة - والقران وغيره من الكتب والصحف كلام اللّه غير مخلوق - والحق انه النظم والمعنى جميعا - وتعاقبه وترتبه على السنة البشر وأسماعهم المقتضى للحدوث لا يستلزم كونه كذلك قائما به سبحانه وتعالى - وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى - وَالنَّبِيِّينَ - أجمعين لا نفرق بين أحد من رسله أولهم آدم عليه السلام وخاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى اللّه عليه وعليهم أجمعين ولا يجوز تعيين العدد في الايمان بالنبيين لان اللّه سبحانه قال مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ والعدد انما ورد في بعض أحاديث الآحاد وذا لا يفيد القطع ومبنى الايمان على القواطع - كلهم معصومون من الصغائر والكبائر يصدق بعضهم بعضا لا خلاف بينهم في الايمانيات انما الخلاف في فروع الأعمال بناء على نسخ الاحكام ومن هاهنا يظهر بطلان قول الروافض حيث يجعلون الايمان بالائمة داخلا في الايمان إذ لو كان كذلك لذكر اللّه تعالى ذلك كما ذكر الايمان بالأنبياء والملائكة واللّه اعلم وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ الجار والمجرور في موضع الحال والضمير راجع إلى اللّه سبحانه فان كل ما اعطى لوجه اللّه فثوابه على اللّه وما كان لغير اللّه فاللّه سبحانه منه برىء عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أول الناس يقضى عليه يوم القيامة ثلثة نفر ثالثهم رجل وسع اللّه وأعطاه من اصناف المال كله فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما علمت فيها قال ما تركت من سبيل تحب ان ينفق فيه في سبيل اللّه الا أنفقت فيها لك قال كذبت(1/321)
و لكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار - رواه مسلم - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم - رواه مسلم - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه - وفي رواية فانا منه برىء هو الذي عمله - رواه مسلم - أو الضمير راجع إلى المال أى اعطى المال في حال صحته ومحبته المال كذا قال ابن مسعود - وعن أبى هريرة قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أى الصدقة أعظم اجرا قال ان تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 175(1/322)
و تأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان - متفق عليه ويؤيد إرجاع الضمير إلى المال قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ - ويحتمل ان يكون حينئذ معناه اعطى المال حال كون ذلك المال أحب الأموال إليه فهو نظير قوله تعالى أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ - « 1 » وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ الآية - أو الضمير راجع إلى المصدر يعنى تعطى المال على حب الإعطاء بسخاوة القلب وشرح الصدر ذَوِي الْقُرْبى القربى مصدر بمعنى القرابة قدمهم لان إيتاءهم اولى وأحق ويدخل في ذوى القربى ذوى القربى النسبي والسببى من الزوج والزوجة والمملوك - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دينار أنفقته في سبيل اللّه ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقته على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها اجرا الذي أنفقته على أهلك - رواه مسلم وعن زينب امراة ابن مسعود قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تصدّقن يا معشر النساء ولو من حليكم فقالت هى وامراة اخرى اتجزى الصدقة عنهما على ازواجهما وعلى أيتام في حجورهما فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لهما أجران اجر القرابة واجر الصدقة متفق عليه وعن سلمان بن عامر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصدقة على المسكين صدقة وهى على ذى الرحم ثنتان صدقة وصلة - رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وَالْيَتامى إذا فقد الصبى أباه قبل البلوغ فهو يتيم(1/323)
- قال البيضاوي في ذوى القربى واليتامى يريد المحاويج منهم ولم يقيد لعدم الالتباس - قلت هذا التقييد غير ظاهر فان الكلام في إيتاء المال تطوعا أو ما هو أعم من الفريضة والتطوع واما الزكوة المفروضة فسيرد ذكره بعد ذلك والإيتاء تطوعا لا يتقيد بالمحاويج فان صلة الرحم وتفريح اليتيم قد يكون مع كون المعطى له غنيا بل لا يتوقف الصلة على اسلام المعطى له قال اللّه تعالى وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً - عن اسماء بنت أبى بكر قالت قدمت على أمي وهى مشركة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صليها - متفق عليه - وعن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان ال أبى فلان ليسوا لى باولياء انما وليي اللّه وصالحوا المؤمنين ولكن لهم رحم ابلها ببلالها - متفق عليه وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس الواصل بالمكافئ لكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها - رواه البخاري - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا وكافل اليتيم في الجنة هكذا - وفي رواية -
_________
(1) وفي القرآن ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا إلخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 176(1/324)
كهاتين وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى - رواه البخاري واحمد وأبو داود والترمذي وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قال مجاهد هو المسافر المنقطع عن اهله يمر عليك - وقيل هو الضيف عن أبى شريح قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم من كان يؤمن باللّه واليوم الاخر فليكرم ضيفه - متفق عليه وَالسَّائِلِينَ عن أم عبيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ردوا السائل ولو بظلف محرق - وفي رواية ان لم تجدى الّا ظلفا محرقا فادفعيه إليه - رواه احمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح - وعن الحسين بن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للسائل حق وان جاء على فرسه رواه احمد - واخرج أبو داود من حديث على واسناده جيد - وابن راهويه في مسنده من حديث فاطمة الزهراء عليها السلام والطبراني من حديث الهرماس بن زياد - واخرج احمد في الزهد عن سالم بن أبى الجعد قال قال عيسى بن مريم عليه السلام ان للسائل حقا وان أتاك على فرس مطوق بالف ضة - قلت وهذا الحديث يدل على ان إعطاء السائل لا يتوقف على كونه محتاجا فان السؤال وان كان حراما على غير المحتاج لكن على المسئول منه حق ان يعطيه وَفِي الرِّقابِ يعنى المكاتبين فهو نظير قوله تعالى وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ - وقيل عتق النسمة فهو نظير قوله تعالى فَكُّ رَقَبَةٍ - وقيل فداء الأسارى قال اللّه تعالى وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً - وَأَقامَ الصَّلاةَ المفروضة والنافلة يعنى ادّاها بحقوقها ورعاية سننها وآدابها - وَآتَى الزَّكاةَ المفروضة وفيما سبق كان ذكر الصدقات النوافل أو ما هو أعم من الفريضة والنافلة فذكر الفريضة بعدها لمزيد الاهتمام - وقيل المقصود منه ومما سبق واحد وهى الزكوة المفروضة لكن الغرض مما سبق بيان مصارفها وبالثاني أداؤها والحث عليها - قلت والاول اولى لان الكلام في(1/325)
بيان البر وهو من الافعال ما هو مرضى للّه تعالى فريضة كانت أو نافلة ويؤيده حديث فاطمة بنت قيس قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان في المال لحقا سوى الزكوة ثم تلا لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الآية - رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي والمراد بالحق أعم من ان يكون واجبا أو منه وبا بالإجماع « 1 » لحديث طلحة بن عبيد اللّه قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يسئل عن الإسلام فذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس صلوات وصيام شهر رمضان والزكوة - فقال هل عليّ غيرها قال لا الا ان تطوع - متفق عليه -
_________
(1) فى الأصل اجماع -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 177(1/326)
وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبين اللّه تعالى يوم الميثاق وفي الحيوة الدنيا إذا حلفوا أو نذروا أوفوا - وفيما بينهم وبين الناس إذا وعدوا انجزوا وإذا قالوا صدقوا وإذا اؤتمنوا أدوا وإذا استشهدوا على الحق شهدوا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اية المنافق ثلث إذا حدث كذب وإذا وعد خلف وإذا اؤتمن خان - متفق عليه - زاد مسلم وان صام وصلى وزعم انه مسلم - وعن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر - متفق عليه معطوف على من أمن وَالصَّابِرِينَ أيضا معطوف على من أمن ونصبها على تطاول الكلام ومن شأن العرب تغيير الاعراب إذا طال الكلام كذا قال أبو عبيدة - ومثله في المائدة والصّابئون وفي سورة النساء والمقيمين الصّلوة - وقال الخليل منصوب على المدح ولم يعطف لفضل الصبر على سائر الأعمال لان أفضل الأعمال أدوم وذلك بالصبر وتقديره اخصّ الصابرين بمزيد البرا وامدح الصابرين بمزيد البر - فحينئذ من عطف الجملة على الجملة - وقيل منصوب عطفا على ذوى القربى يعنى واتى الصابرين - نظيره قوله تعالى لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ فِي الْبَأْساءِ أى الشدة والفقر وَالضَّرَّاءِ المرض والزمانة وَحِينَ الْبَأْسِ أى القتال والحرب أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى الايمان والبر وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) عن الكفر وسائر الرذائل والآية جامعة للكمالات الانسانية صريحا أو ضمنا دالة على صحة الاعتقاد وحسن المعاشرة وتهذيب النفس وهذا منصب الأبرار واما الصديقون المقربون فمزيد(1/327)
فضلهم مبنى على الفضل والاجتباء ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ - .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى القصاص المساوات والمماثلة - قال البغوي قال الشعبي والكلبي وقتادة نزلت هذه الآية في حيين من احياء العرب اقتتلوا فى الجاهلية قبل الإسلام بقليل فكانت بينهما قتلى وجراحات لم يأخذها بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام قال مقاتل بن حبان كانت بين القريظة والنضير - وقال سعيد بن جبير كانت بين الأوس والخزرج - قالوا جميعا - وكان لاحد الحيين على الاخر طول في الكثرة والشرف وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 178(1/328)
فاقسموا لنقتلن بالعبد « 1 » منا الحرّ وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين منهم وجعلوا جراحاتهم ضعفى جراحات أولئك فرفعوا أمرهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى هذه الآية وامر بالمساوات فرضوا وسلموا - كذا أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير - قلت ورضاؤهم وتسليمهم وخطاب اللّه تعالى إياهم بقوله يا أيها الذين أمنوا دليل على ان المخاطبين به هم الأوس والخزرج الذين صاروا أنصار اللّه دون قريظة والنضير فانهم كانوا اعداء اللّه كفارا - وفي قوله تعالى كتب عليكم القصاص حجة لابى حنيفة رحمه اللّه على قوله ان الواجب في القتل العمد القصاص فقط دون الدية وانه لا يجوز أخذ المال الا برضاء القاتل - ويؤيده قوله عليه السلام في العمد القود - رواه الشافعي وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عباس في حديث طويل واختلف في وصله وإرساله وصحح الدارقطني الإرسال والمرسل عندنا حجة ورواه الدارقطني من طريق عبد اللّه بن أبى بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا العمد قود والخطاء دية - وفي اسناده ضعف ولكل واحد من مالك والشافعي واحمد في المسألة قولان أحدهما ان الواجب هو القود لكن يجوز لورثة المقتول ان يعفو عن القود إلى الدية من غير رضاء الجاني - وثانيهما ان الواجب أحدهما لا بعينه اما القصاص واما الدية - والفرق بين القولين يظهر إذا عفى مطلقا من غير ذكر الدية فعلى القول الأول يسقط القصاص بلادية وعلى القول الثاني يثبت الدية - واحتجوا على جواز أخذ المال من غير رضاء الجاني بأحاديث - منها حديث أبى شريح الكعبي ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم فتح مكة بعد مقامى هذا فاهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا العقل - رواه الترمذي والشافعي وروى ابن الجوزي والدارمي عن أبى شريح الخزاعي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من أصيب بدم أو خبل والخبل(1/329)
الجرح فهو بالخيار بين احدى ثلاث فان أراد الرابعة فخذوا على يديه بين ان يقتص أو يعفوا ويأخذ العقل فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا - ومنها حديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما ان يفدى واما ان يقتل - متفق عليه - ومنها حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من قتل متعمدا دفع إلى اولياء المقتول فان شاء واقتلوه وان شاءوا أخذوا العقل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة في بطونها أولادها - رواه احمد والترمذي وابن ماجة - قال اصحاب أبى « 2 » حنيفة رحمه اللّه في الجواب عن هذه الأحاديث ان المراد ان اولياء المقتول
_________
(1) فى الأصل العبد منا الحر والمرأة -
(2) فى الأصل أبو حنيفة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 179(1/330)
بالخيار في القود والصلح والصلح لا يكون الا برضاء القاتل والظاهر ان القاتل يرضاه لحقن دمه فترك النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر رضاء القاتل بناء على الظاهر واللّه اعلم الْحُرُّ يقتل بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى وهذا لا يدل على ان الحر لا يقتل بالعبد - والعبد لا يقتل بالحر - والأنثى لا يقتل بالذكر - أو الذكر لا يقتل بالأنثى - فان ذلك الاحكام مسكوت عنها في هذه الآية ولا عبرة بالمفهوم عند أبى حنيفة رحمه اللّه مطلقا - وكذا فى هذه الآية عند القائلين بالمفهوم إذا المفهوم عندهم انما يعتبر حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم - وكان الغرض هاهنا دفع استطالة أحد الحيين على الاخر فالمفهوم المعتبر من هذه الآية على ما يقتضيه القصة ان الحر إذا تفرد بقتل الحر يقتل القاتل وحده ولا يقتل معه غيره لاجل شرف المقتول وكذا العبد إذا قتل العبد يقتل ذلك العبد القاتل بالعبد المقتول ولا يقتل حر مكان ذلك لاجل شرف المقتول وكذا الأنثى إذا قتل الأنثى قتلت القاتلة لا رجل مكان امراة واللّه اعلم - بقي المبحث عن الاحكام المسكوت عنها في تلك الآية - فقال أبو حنيفة رحمه اللّه يقتل النفس حرا كانت أو رقيقا - ذكرا كانت أو أنثى - مسلما كان أو ذميّا بالنفس كيف ما كانت لعموم قوله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ - والاحكام الالهية في الكتب المنزلة السّابقة إذا ثبتت عندنا حكايتها بالقران أو السنة ولا عبرة بقول الكفار من اليهود والنصارى فهى باقية واجبة اتباعها إذ الحاكم واحد والشرع واحد قال اللّه تعالى فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ وقال اللّه تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى - ولا يختلف الاحكام الا لاجل النسخ سواء كان في كتاب واحد أو كتب وما لم يظهر(1/331)
النسخ يبقى الحكم - ويدل أيضا على بقاء هذا الحكم حديث ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا اله الا اللّه وانى رسول اللّه الا بإحدى ثلاث النفس بالنفس - والثيب الزاني - والمارق لدينه التارك للجماعة - متفق عليه - وحديث أبى امامة ان عثمان اشرف يوم الدار فقال أنشدكم بالله أ تعلمون ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان أو كفر بعد اسلام أو قتل نفسا « 1 » بغير حق - الحديث رواه الشافعي واحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وفي الباب عن عائشة رواه مسلم وأبو داود وغيرهما - لكن قال أبو حنيفة لا يقتل رجل يقتل عبده ولا مدبره ولا مكاتبه وبعبد ملك
_________
(1) فى الأصل نفس -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 180(1/332)
بعضه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه - وبه قال الجمهور خلافا لداود محتجا بما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي عن الحسن عن سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه - قال الجمهور هذا الحديث محمول على السياسة والحديث مرسل لم يسمع الحسن عن سمرة وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى اللّه عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة ومحا سهمه من المسلمين ولم يقد به وامره ان يعتق رقبة - لكن فيه اسمعيل بن عياش ضعيف واللّه اعلم - واما غير أبى حنيفة رحمه اللّه فاتفقوا على ان العبد يقتل بالحر والأنثى بالذكر والكافر بالمسلم لان في كل ذلك تفاوت إلى نقصان والناقص يجوز ان يستوفى بالكامل دون عكسه - واتفقوا أيضا على ان الذكر يقتل بالأنثى لما روى عن عمرو بن حزم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن ان الذكر يقتل بالأنثى هذا طرف من كتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - وهو مشهور رواه مالك والشافعي - واختلف أهل الحديث فى صحة هذا الحديث - قال ابن حزم - صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا يقوم بها حجة وسليمان بن داود « 1 » راويه متفق على تركه - وقال أبو داود سليمان بن داود وهم انما هو سليمان بن أرقم - وصححه الحاكم وابن حبان والبيهقي - ونقل عن احمد انه قال ارجوا ان يكون صحيحا - وقد اثنى على سليمان بن داود أبو زرعة وأبو حاتم وجماعة من الحفاظ - وصحح الحديث جماعة من الائمة لا من حيث الاسناد بل من حيث الشهرة فقال الشافعي في رسالته - لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم انه كتاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - قال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم - بقي الاختلاف في انه هل يقتل الحر بالعبد عبد غيره فقال مالك والشافعي واحمد(1/333)
لا يقتل وقال أبو حنيفة يقتل - احتجوا بحديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا يقتل حر بعبد رواه الدارقطني والبيهقي - وحديث على قال من السنة ان لا يقتل حر بعبد - رواه أيضا الدارقطني والبيهقي - والجواب ان حديث ابن عباس فيه جويبر وعثمان البزي ضعيفان متروكان كذا قال ابن الجوزي والحافظ ابن حجر وحديث على فيه جابر الجعفي كذاب - وفي انه هل يقتل المسلم بالكافر الذمي - فقال الشافعي واحمد لا يقتل احتجا بحديث أبى جحيفة عن على قال سالت عليا هل عندكم شىء ليس في القرآن قال والذي فلق الحبة وبرىء النسمة ما عندنا الا ما في القرآن الا فهما
_________
(1) فى الأصل هاهنا سليمان بن أبى داود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 181(1/334)
يعطى الرجل في كتابه وما في هذه الصحيفة قلت وما في الصحيفة - قال العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر - رواه البخاري ورواه احمد بلفظ لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده - وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى - لا يقتل مسلم بكافر رواه احمد واصحاب السنن الا النسائي ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر - وروى الشافعي عن عطاء وطاءوس والحسن ومجاهد مرسلا ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يوم الفتح لا يقتل مؤمن بكافر ورواه البيهقي من حديث عمران بن حصين - وحديث عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل قتل مسلم الا في احدى ثلاث خصال زان محصن فيرجم ورجل يقتل مسلما متعمدا ورجل يخرج من الإسلام فيحارب اللّه ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض - رواه أبو داود والنسائي وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه ان مسلما قتل رجلا من أهل الذمة فرفع إلى عثمان فلم يقتله به وغلظ عليه الدية - قال الحافظ قال ابن حزم هذا في غاية الصحة ولا يصح عن أحد من الصحابة فيه بشىء غير هذا الا ما رويناه عن عمر انه كتب في مثل ذلك ان يقاد به ثم الحقه كتابا فقال لا تقتلوه ولكن اعتقلوه - والجواب ان المراد بالكافر في قوله صلى اللّه عليه وسلم لا يقتل مسلم بكافر الحربي دون الذمي ويدل عليه قوله صلى اللّه عليه وسلم ولا ذو عهد في عهده - يعنى لا يقتل الذمي في عهده بكافر ولا شك ان الذمي يقتل بالذمي اجماعا فالمراد بالكافر هو الحربي لا غير وفتوى عثمان وعمر رضى اللّه عنهما كان بالرأى ولذا اختلف الجواب عن عمر رضى اللّه عنه - واما قيد الإسلام في حديث عائشة فقد وقع اتفاقا - واحتج صاحب الهداية على وجوب قتل المسلم بالذمي بما روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل مسلما بذمي - قلت وهذا الحديث رواه الدارقطني عن ابن(1/335)
عمران رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتل مسلما بمعاهد وقال انا أكرم من اوفى بذمته - قال الدارقطني لم يسنده غير ابراهيم بن يحيى وهو متروك الحديث - قال ابن الجوزي ابراهيم بن يحيى كذاب والصواب عن ابن سليمان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مرسلا وابن سليمان ضعيف لا يقوم به حجة إذا وصل الحديث فكيف بما يرسله - قلت والاولى بالاحتجاج ما ذكرنا سابقا النفس بالنفس - وحديث ابن مسعود وعثمان وعائشة واختلفوا في انه هل يقتل الوالد بولده قال مالك إذا اضتجعه فذبحه قتل به وقال داود لا يقتل به « 1 »
_________
(1) فى الأصل والنقول ولا يظهر منه الفرق بين مذهب داود ومذهب أبى حنيفة ومن معه فعل مذهب داود يقتل بكل حال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 182(1/336)
بكل حال - وقال أبو حنيفة والشافعي واحمد لا يقتل - لنا حديث عمر بن الخطاب قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول لا يقاد الوالد بالولد رواه الترمذي وفي اسناده الحجاج بن ارطاة - وله طريق اخر عنه احمد واخر عند الدارقطني والبيهقي أصح منهما وصحح البيهقي سنده - ورواه الترمذي أيضا من حديث سراقة واسناده ضعيف وفيه اضطراب واختلاف على عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فقيل عن عمرو قيل عن سراقة وعند احمد عن عمرو بن شعيب بلا واسطة وفيه ابن لهيعة ضعيف - ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث ابن عباس وفيه إسماعيل بن مسلم المكي ضعيف لكن تابعه الحسن بن عبد اللّه العنبري عن عمرو بن دينار قاله البيهقي وقال عبد الحق هذه الأحاديث كلها معلولة لا يصح منها شىء وقال الشافعي - حفظت عن عدد من أهل العلم ان لا يقتل الوالد بالولد وبذلك أقول واللّه اعلم - واتفق أكثرهم على انه إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا - وقال داود وهو رواية عن احمد لا يقتلون ويجب الدية - روى عن سعيد بن المسيب ان إنسانا قتل بصنعاء وان عمر قتل به سبعة نفر وقال لو قالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم به - رواه مالك في المؤطا والشافعي عنه ورواه البخاري من وجه اخر نحوه ...(1/337)
و اختلفوا في واحد قتل جماعة فقال أبو حنيفة ومالك - ليس عليه الا القود لجماعتهم ولا يجب عليه شىء اخر - وقال الشافعي ان قتل واحدا بعد واحد قتل بالأول وللباقين الديات وان قتلهم في حالة واحدة اقرع بين اولياء المقتولين فمن خرجت قرعته قتل له وللباقين الديات - وقال احمد ان حضر الأولياء وطلبوا القصاص قتل بجماعتهم ولا دية عليه وان طلب بعضهم القصاص وبعضهم الدية قتل لمن طلب القصاص ووجب الدية لمن طلبها وان طلبوا كلهم الدية كان لكل واحد منهم دية كاملة - واتفقوا على انه لا قصاص في الخطاء انما القصاص في العمد - واختلفوا في تفسير العمد فقال أبو حنيفة رحمه اللّه - هو ما تعمد ضربه بسلاح أو ما جرى مجرى السلاح كالمحدد من الخشب والمروة ونحو ذلك والنار - وقال الشعبي والنخعي والحسن البصري - لا عمد الا بحديد فحسب ولا قود في غيره واما ما تعمد ضربه بما ليس بسلاح ولا ما اجرى مجرى السلاح فهو شبه العمد لا قود فيه وفيه الدية - وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي واحمد إذا ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة يقتل به غالبا فهو عمد وفيه القود وكذا ان أغرقه في الماء أو خنقه أو منعه من الطعام والشراب أياما يموت فيه غالبا فمات - وقال مالك ان تعمد ضربه بعصا أو سوط أو حجر صغير لا يقتل به غالبا فمات به فهو أيضا عمد وفيه القود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 183(1/338)
و قال الجمهور هو خطاء العمد لا قود فيه وفيه الدية - غير ان الشافعي قال ان تكرر الضرب حتى مات فعليه القود - والحجة للجمهور في وجوب القصاص بالقتل بالمثقل ما في الصحيحين عن انس بن مالك ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأسه بين حجرين - وما روى احمد عن ابن عباس عن عمر انه نشد قضاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الجنين فجاء ابن مالك فقال كنت بين امرأتين فضربت أحدهما الاخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جنينها بغرة وان تقتل بها - والحجة لهم في عدم القود في قتيل السوط والعصا حديث عبد اللّه بن عمرو عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان قتيل الخطا شبه العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة ابل منها أربعون فى بطونها أولادها - رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وصححه ابن حبان وعن أبى هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان دية جنينها غرة عبدا ووليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها - متفق عليه - وعن المغيرة بن شعبة نحوه رواه مسلم - وعن ابن عباس من قتل في عميا في رمى يكون بينهم بالحجارة أو جلد بالسياط أو ضرب بعصا فهو خطا وعقله عقل الخطأ ومن قتل عمدا فهو قود - رواه أبو داود والنسائي - واما حجة أبى حنيفة على عدم القود بالمثقل فحديث على مرفوعا لا قود في النفس وغيرها الا بحديدة - رواه الدارقطني وفي سنده معلى بن هلال قال يحيى ابن معين كان يضع الحديث - وقال الجمهور ان صح فهو محمول على انه لا قود الّا بالسيف وقد ورد حديث لا قود الا بالسيف - وفي رواية الا بالسلاح من حديث أبى هريرة وابن مسعود وراويهما أبو معاذ سليمان بن أرقم متروك - وروى مثله من حديث أبى بكرة والنعمان بن بشير وراويهما مبارك ابن فضالة كان احمد لا يعبأ به وفي(1/339)
الباب حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كل شىء خطأ الا السيف وفي كل خطأ أرش - وفي رواية كل شىء خطأ إلا بحديدة وفي رواتهما جابر الجعفي كذاب - واختلفوا في انه هل يجوز القصاص بمثل ما قتله القاتل فقال أبو حنيفة واحمد لا قود الا بالسيف وقد مر سنده وما فيه من البحث - وقال الشافعي ومالك واحمد في قوله الثاني يقتل بمثل ما قتله - لقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ - والقصاص هو المساوات ولما مر من حديث انس في الصحيحين ان يهوديا رضخ رأس امراة بين حجرين فقتلها فرضخ رسول اللّه صلى
اللّه عليه وسلم رأسه بين حجرين - ولما روى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه رواه البيهقي في المعرفة من حديث عمرو بن نوفل بن
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 184(1/340)
يزيد بن البراء عن أبيه عن جده وفي اسناده بعض من يجهل - فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ قال صاحب القاموس العفو الصفح وترك عقوبة المستحق عفى عنه ذنبه وعفى له ذنبه ومن هذه العبارة يستفادان العفو يتعدى إلى الذنب بنفسه والى الجاني بعن واللام وعلى هذا من مبتدأ اما شرطية أو موصولة والمراد به القاتل - ومن في مِنْ أَخِيهِ اما للابتداء والظرف لغو والمراد بالأخ ولى المقتول - واما للتبعيض يعنى من دم أخيه بحذف المضاف والمراد بالأخ المقتول والظرف مستقر وقع حالا مقدما - وشىء مفعول به للعفو أسند إليه الفعل والمراد به الجناية - والمعنى من عفى له من القاتلين شىء من الجناية كائنة من دم أخيه - أو عفى له من ولى المقتول شىء من الجناية فاتباع بالمعروف - وقال البيضاوي عفا لازم وما قيل انه بمعنى ترك وشىء مفعول به ضعيف إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل اعفى عنه ويتعدى بعن إلى الجاني والى الذنب قال اللّه تعالى عَفَا اللَّهُ عَنْكَ - وعفا عنها فإذا عدى به إلى الذنب عدى إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنَّه قيل من عفى له عن جنايته من جهة أخيه يعنى ولى الدم شىء من العفو فهو مسند إلى المصدر وحينئذ من في من أخيه للابتداء - وعلى هذين التركيبين تنكير شىء ليدل على ان المتروك بعض الجناية - أو الموجود بعض العفو لا كله ولذا صح اسناد الفعل إلى المصدر لأنه مفعول مطلق للنوع والمراد عفو قليل نحو إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا - فلا يدل الآية على ان بعد عفو كل الجناية من جميع الأولياء يجب الدية - فليس فيه حجة الشافعي رحمة اللّه ومن معه - وقال الأزهري العفو في الأصل الفضل ومنه يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ - يقال عفوت لفلان بمالى إذا أفضلت له وأعطيت وعفوت له عن مالى عليه - وحينئذ المراد بالأخ ولى المقتول والمعنى من عفى له يعنى من اعطى له من اولياء المقتول من أخيه(1/341)
يعنى من مال أخيه يعني القاتل شىء صلحا - وانما ذكر القاتل أو المقتول أو ولى المقتول بلفظ الاخوة الثابتة بالجنسية أو الإسلام ليرق له ويعطف عليه - وفيه دليل على ان القاتل لا يصير كافرا بالقتل حيث ذكر الاخوة الاسلامية بين القاتل والمقتول وأيضا خاطب بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَاتِّباعٌ أى فليكن من ولى المقتول - أو فالامر لولى المقتول اتباع بِالْمَعْرُوفِ فلا يعنف وَعلى القاتل أَداءٌ إِلَيْهِ يعنى إلى ولى المقتول بِإِحْسانٍ بلا مطل وبخس ذلِكَ أى الحكم المذكور من جواز الصلح أو وجوب الدية لبعض الورثة بعد عفو البعض تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ أخرج ابن جرير عن قتادة ان رحم اللّه هذه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 185
الامة وأطعمهم الدية وأحل لهم ولم يحل لاحد قبلهم - وكان على أهل التورية انما هو القصاص أو العفو ليس بينهم أرش - وكان على أهل الإنجيل انما هو العفو أمروا به وجعل اللّه لهذه الامة القتل والعفو والدية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يعنى قتل بعد العفو أو بعد أخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (170) فى الاخرة لما مر من حديث أبى شريح الخزاعي فان أخذ من ذلك شيئا ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ابدا - وقال ابن جريح يتحتم قتله في الدنيا حتى لا يقبل العفو لما روى سمرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا أعافي أحدا قتل بعد اخذه الدية - رواه أبو داود.(1/342)
وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ عرّف القصاص ونكّر الحيوة ليدل على ان في هذا الجنس من الحكم نوعا عظيما من الحيوة - وذلك لان العلم به يردع القاتل عن القتل فيكون سببا لحيوة نفسين ولانهم كانوا يقتلون غير القاتل والجماعة بالواحد فتثور الفتنة فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سببا لحياتهم - وعلى الأول التقدير ولكم في شرع القصاص حيوة - وعلى الثاني ولكم في القصاص حيوة للباقيين - وأيضا في القصاص حيوة للقاتل في الاخرة فانه إذا اقتص منه فى الدنيا لم يؤاخذ في الاخرة فيحيى هناك حيوة طيبة - وخاطب اولى الألباب لانهم هم الذين يفهمون الحكم والمصالح في الاحكام الشرعية لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) عن القتل مخافة القود أو تتقون بالقصاص عن عذاب الاخرة أو تتقون عن ترك القصاص بالاطلاع على الحكمة - .(1/343)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أى حضر أسبابه وغلب على الظن اقترابه إِنْ تَرَكَ خَيْراً ذكر الماضي وأراد المستقبل يعنى ان كان له خير يتركه - والخير هو المال قال اللّه تعالى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ - وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ - وقيل المراد بالخير المال الكثير لما روى عن على رضى اللّه عنه ان مولى له أراد ان يوصى وله تسعمائة درهم فمنعه وقال قال اللّه تعالى ان ترك خيرا والخير هو المال الكثير - رواه ابن أبى شيبة في المصنف وعن عائشة - ان رجلا أراد ان يوصى فساكته كم مالك فقال ثلاثة آلاف فقالت كم عيالك قال اربعة قالت انما قال اللّه تعالى ان ترك خيرا وان هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك - الْوَصِيَّةُ مفعول سد مسد الفاعل لكتب وترجح تذكير الفعل مع جواز التأنيث لوجود الفصل أو على تأويل ان يوصى أو الإيصاء ولذلك ذكّر الراجع في قوله فمن بدّله والعامل في إذا الافتراض المدلول لكتب لا الوصية لتقدمه عليها لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ متعلق بالوصية
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 186(1/344)
و بهذه الآية كانت الوصية للاقارب فريضة في بدو الإسلام ثم نسخت الآية - قالوا نسخت هذه الآية اية المواريث وقوله صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه قد « 1 » اعطى كل ذى حق حقه الا لا وصية لوارث وفيه نظر لان اية المواريث لا يعارضه بل يؤكده فانها تدل على تقديم الوصية على الإرث - فكيف تكون ناسخة - والحديث حديث الآحاد لا يجوز به نسخ الكتاب - والتحقيق ان الآية منسوخة الحكم للاجماع على عدم جواز الوصية لوارث الا عند رضاء الورثة - ولاتفاق الائمة الاربعة وجمهور العلماء على عدم وجوب الوصية لغير الوارث من الأقارب - وما روى عن الزهري وابى بكر الحنبلي وبعض اصحاب الظواهر وجوبها في حق من لا يرث من الأقارب فلا عبرة به لمخالفتهم الجمهور وإذا ثبت الإجماع ظهر انه ثبت عندهم دليل قطعى ناسخ للاية به تركوا نص الكتاب وإلا ما تركوه وان لم يصل ذلك الناسخ إلينا بطريق قطعى - ونورد هاهنا أحاديث يصلح ان يكون سندا للاجماع - منها حديث أبى امامة الباهلي قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبة حجة الوداع ان اللّه قد اعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الحافظ حسن الاسناد وكذا رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن خارجة ورواه ابن ماجة من حديث سعيد بن أبى سعيد عن انس والبيهقي من طريق الشافعي عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا وصية لوارث - ورواه الدارقطني من حديث جابر وصوب إرساله من هذا الوجه - ومن حديث على واسناده ضعيف - ومن حديث ابن عباس بإسناد حسن - وروى الدارقطني حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لا وصية لوارث الا ان يجيزه الورثة - وروى بهذا اللفظ أبو داود عن عطاء الخراسانى مرسلا ووصله يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس رواه الدارقطني وهذه(1/345)
الأحاديث تدل على ان الآية منسوخة في حق الورثة - واما فى حق غير الورثة من الأقارب فلا دلالة لهذه الأحاديث على نفيها ولا إثباتها - وأورد لهذا الحكم ابن الجوزي حديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما حق امرئ يبيت ليلتين - وفي رواية لمسلم ثلاث ليال وله مال يريد ان يوصى فيه الا ووصيته مكتوبة عنده - متفق عليه - وجه الحجة انه علق الوصية بالارادة فدل على انه ليس بواجب واللّه اعلم وبعد اتفاقهم على ما ذكرنا واتفاقهم على جواز الوصية لغير الوارث من الأقارب كالاجنبى بل اولى وأحب فان الصدقة على ذى رحم صدقة وصلة اتفقوا على ان الوصية لا يجوز فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة خلافا لاحد قولى الشافعي في الاستثناء حيث قال لا يصح عند رضاء الورثة
_________
(1) فى الأصل ان اللّه اعطى [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 187(1/346)
ايضا - وفي الباب حديث سعد بن أبى وقاص جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعودنى من وجع اشتد بي فقلت يا رسول اللّه قد بلغ الوجع ما ترى اوصى بما لى كله قال لا قلت فالشطر قال لا قلت الثلث قال الثلث والثلث كثير انك ان تدع ورثتك اغنياء خير من ان تدعهم عالة يتكففون الناس - متفق عليه وحديث ان اللّه تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في حسناتكم ليجعل لكم زكوة في أموالكم - رواه الدارقطني والبيهقي وفيه إسماعيل بن عياش وشيخه ضعيفان - ورواه احمد من حديث أبى الدرداء وابن ماجة والبزار والبيهقي من حديث أبى هريرة واسناده ضعيف وفي الباب عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه رواه العقيلي من طريق حفص بن عمرو هو متروك بِالْمَعْرُوفِ بالعدل لا يرجح بعض الأقرباء على بعض ولا يوصى للغنى ويدع للفقير حَقًّا منصوب على المصدرية يعنى حق حقا أو على المفعولية يعنى جعل اللّه الوصية حقّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ أى غير الإيصاء من الأوصياء والأولياء والشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ أى بعد سماع قول الموصى أو وصل إليه وتحقق عنده فَإِنَّما إِثْمُهُ فاثم الإيصاء المغيّر أو اثم التبديل عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ على مبدليه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بما اوصى به الموصى عَلِيمٌ (181) بتبديل المبدل.(1/347)
فَمَنْ خافَ أى توقع وعلم كقوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ مِنْ مُوصٍ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بفتح الواو وتشديد الصاد من التفعيل والباقون بسكون الواو والتخفيف من الافعال جَنَفاً ميلا من الحق خطا أَوْ إِثْماً ظلما عمدا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ قال مجاهد معناه ان الرجل إذا حضر مريضا وهو يوصى فراه يميل عن الحق فامره بمعروف ونهاه عن منكر كما نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سعيد بن أبى وقاص عن زيادة الوصية على الثلث ونهى على وعائشة عن اصل الوصية كما مرو عن النعمان بن بشير ان أباه اتى به إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انى نحلت ابني هذا غلاما فقال أكل ولدك نحلت مثله قال لا قال فارجعه وفي رواية قال لا اشهد على جور - متفق عليه - وقال الآخرون معناه انه إذا أخطأ الميت في وصيته أو جاف متعمدا فوليه أو وصيه أو والى امور المسلمين يردّ الوصية إلى العدل والحق ولا ينفذ الوصية الباطلة - قلت والاولى ان يراد به أعم المعنيين فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بل كان الإثم على الموصى وللمصلح اجر الإصلاح - عن أبى هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان الرجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فيجب لهما النار - رواه أبو داود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 188
و الترمذي وحسنه - وانما قال فلا اثم عليه لان الفعل كان من جنس ما يؤثم يعنى تبديل الوصية المنهي عنه - قال الكلبي كان الأولياء والأوصياء يمضون وصية الميت بعد نزول قوله تعالى فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ الآية وان استغرق المال كله ولم يبق للورثة شىء ثم نسخها اللّه تعالى بقوله فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الآية إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) وعد للمصلح - وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم واللّه اعلم - .(1/348)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ أى فرض عَلَيْكُمُ الصِّيامُ والصوم في اللغة الإمساك يقال صام النهار إذا اعتدل وقام قائم الظهيرة لان الشمس إذا بلغت كبد السماء يرى كانها وقفت ساعة - وفي الشرع عبارة عن الإمساك عن الاكل والشرب والجماع مع النية في وقت مخصوص كما سيظهر فيما بعد كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء والأمم والظاهر ان التشبيه فى نفس الوجوب - وذلك لا يقتضى المشابهة من كل جهة في الكيفية والوقت وغير ذلك قال سعيد بن جبير كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليل القابلة - وكذلك كان في ابتداء الإسلام فاشتبها - وقال جماعة من أهل العلم ان صيام رمضان كان واجبا على النصارى كما فرض علينا فربما كان يقع في الحر الشديد فيشق عليهم لاجل العطش أو في البرد الشديد فيشق عليهم لاجل الجوع - فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم فجعلوه في الربيع وزادوا فيه عشرة ايام كفارة لما صنعوا فصار أربعين - ثم اشتكى ملكهم فجعل للّه عليه ان برىء من مرضه ان يزيد في صومهم اسبوعا فبرىء فزاد فيه اسبوعا ثم ولا هم ملك اخر فقال اتموه خمسين يوما - وقال مجاهد أصابهم موتان فقالوا زيدوا في صيامكم .. فزادوا عشرا قبل وعشرا بعد - قال الشعبي لو صمت السنة كلها لا فطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال من شعبان ويقال من رمضان وذلك ان النصارى فرض عليهم شهر رمضان فصاموا قبل الثلثين يوما وبعدها يوما ثم لم يزل القرن الاخر يستن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما - كذا قال البغوي وأخرجه ابن جرير عن السّدى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) المعاصي فان الصوم يكسر الشهوة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فانه اغض للبصر وأحصن للفرج - ومن لم يستطع فعليه بالصوم - متفق عليه من حديث ابن مسعود - أو المعنى تتقون الإخلال بالصوم.(1/349)
أَيَّاماً منصوب بمقدر أى صوموا لا بالصيام للفصل بالاجنبى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 189
مَعْدُوداتٍ يعنى قلائل فان القليل يعد في العادة دون الكثير - قيل ان المراد بذلك الأيام صوم ثلثة ايام من كل شهر وصوم عاشورا فانه كان واجبا في ابتداء الهجرة من ربيع الأول إلى شهر رمضان سبعة عشر شهرا ثم نسخ بصوم رمضان قال ابن عباس - أول ما نسخ بعد الهجرة أم القبلة والصوم ويقال نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وايام - وكان غزوة بدر يوم الجمعة بسبع عشرة ليلة خلت من رمضان في السنة الثانية من الهجرة - عن عائشة قالت - كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر بالصوم يوم عاشورا فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر - متفق عليه - وعن سلمة بن الأكوع ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث رجلا ينادى في الناس يوم عاشورا ان من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل فلا يأكل فان اليوم يوم عاشورا - متفق عليه - وقيل المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ شهر رمضان والآية غير منسوخة - قال الحافظ والّذى يترجح من اقوال العلماء ان عاشورا لم يكن فرضا من اللّه تعالى قط بل كان النبي صلى اللّه عليه وسلم استحبه باجتهاده أو كان يفعله ويأمر به على عادته - عن ابن عباس قال قدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة فراى اليهود يصوم يوم عاشورا - فقال ما هذا قالوا هذا يوم صالح نجى اللّه بنى إسرائيل من عدوهم فصامه موسى فقال انا أحق بموسى منكم فصامه وامر بصيامه - متفق عليه وعن عائشة قالت كان يوم عاشورا يصومه قريش في الجاهلية وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصومه في الجاهلية فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه فلمّا فرض رمضان نزك يوم عاشورا - متفق عليه قال السيوطي رحمه اللّه أخرج احمد وأبو داود والحاكم عن معاذ بن جبل يعنى وجوب عاشورا وثلثة ايام من كل شهر لكن كان ذلك قبل نزول هذه الآية وانه نسخ بهذه الآية - فالمراد بايّام(1/350)
معدودات شهر رمضان لا غير واللّه اعلم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً خاف زيادة مرضه أو امتداده وكذا من كان في معناه وهو ضعيف غلب على ظنه حدوث المرض بالصوم وحامل ومرضع خافتا على أنفسهما أو على ولدهما - اعلم ان جواز الفطر للمريض مجمع عليه غير ان احمد قال لا يجوز له الفطر بالجماع ويجوز بالأكل والشرب - ولو جامع المريض أو المسافر فعليه الكفارة عنده الا ان أفطر بغير الجماع قبل الجماع - وما قيدنا المريض بخوف زيادة المرض أو الامتداد أيضا متفق عليه الا ما روى عن ابن سيرين انه قال - يبيح الفطر ادنى ما يطلق عليه اسم المرض للاطلاق في الآية - وقال الحسن وابراهيم هو المرض الذي يجوز معه الصلاة قاعدا أَوْ عَلى سَفَرٍ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 190(1/351)
يعنى راكب سفر - وفيه ايماء على ان من سافر في أثناء اليوم لم يفطر وعليه انعقد الإجماع الا ما روى عن داود فانه قال يجوز في السفر القصير والطويل - واختلفوا على مقدار مسافة السفر المرخص للفطر وقصر الصلاة - فقال مالك والشافعي واحمد ادنى مسافة السفر ستة عشر فرسخا اربعة برد بحديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في ادنى من اربعة برد من مكة إلى غسفان رواه الدارقطني فيه إسماعيل بن عياش ضعيف وعبد الوهاب أشد ضعفا قال احمد ويحيى ليس عبد الوهاب بشىء - وقال الثوري هو كذاب - وقال النسائي متروك الحديث - وقال الأوزاعي - يقصر في مسيرة يوم وقال أبو حنيفة مسيرة ثلثة ايام ولياليها سير الإبل ومشى الاقدام - وقدر أبو يوسف بيومين واكثر اليوم الثالث - احتج أبو حنيفة بحديث على بن أبى طالب انه سئل عن المسح على الخفين قال جعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلثة ايام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم - رواه مسلم الحديث صحيح والاستدلال به ضعيف - واطلاق الآية يدل على ان سفر المعصية أيضا يبيح الفطر وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه وقال مالك والشافعي واحمد سفر المعصية لا يبيح مستدلا بقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ والحق ان البغي والعدوان ليس في نفس السفر بل ملاصق به - وقد ذكرنا تفسير غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ وان لا دلالة(1/352)
فيه على مرادهم فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يعنى فكتب عليه أو فالواجب عليه صيام عدة ايام مرضه وسفره من ايام اخر ان أفطر حذف الفعل أو المبتدأ والمضاف والمضاف إليه والشرط للعلم بها بدلالة المقام - وبإطلاق الآية تثبت ان التتابع ليس بشرط في القضاء وعليه انعقد الإجماع - وقال داود يجب التتابع - ويؤيد اطلاق الآية حديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قضاء رمضان قال - ان شاء فرق وان شاء تابع - رواه الدارقطني متصلا ومرسلا وحديث محمد بن المنكدر قال بلغني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن تقطيع قضاء شهر رمضان فقال ذلك إليك - الحديث رواه الدارقطني مرسلا واسناده حسن وقد روى موصولا ولا تثبت وروى الدارقطني من حديث عبد اللّه بن عمرو في اسناده الواقدي وابن لهيعة ضعيفان - وروى سعيد بن منصور عن انس نحوه واخرج البيهقي حديث أبى عبيد ومعاذ بن جبل وانس وابى هريرة ورافع بن خديج - واحتج داود بحديث أبى هريرة قال من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه - رواه الدارقطني فيه عبد الرحمن بن ابراهيم بن العاص قال ابن معين ليس بشىء - وقال الدارقطني ضعيف ليس بالقوى -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 191(1/353)
و اختلفوا في الحامل والمرضع إذا أفطر تاهل يجب عليهما الفدية مع القضاء أم لا مع اتفاقهم على ان المريض والمسافر لا يحب عليهما مع القضاء فدية فقال أبو حنيفة لا وهو رواية عن مالك - وفي رواية عن مالك يجب على المرضع دون الحامل وقال احمد وهو الراجح من مذهب الشافعي انه يجب ولا سند يعتمد عليه لهذا القول والمروي عن ابن عمرو ابن عباس ان على الحامل والمرضع يجب الكفارة دون القضاء - ومن اخّر قضاء رمضان من غير عذر حتى جاء رمضان اخر قال مالك والشافعي واحمد وجبت عليه الفدية مع القضاء - وقال أبو حنيفة لا يجب عليه الا القضاء ولو ادّى بعد سنين لامتناع الزيادة على الكتاب من غير قاطع - ومن اخر بعذر مرض أو سفر حتى جاء رمضان اخر فعليه القضاء فقط بالإجماع - وروى عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما بطرق صحيحة - عن نافع عن ابن عمر قال من تابعه رمضانان وهو مريض لم يصح بينهما قضى الاخر منهما بصيام وقضى الأول منهما باطعام - قال الطحاوي تفرد بهذا القول ابن عمر قال الحافظ وعند عبد الرزاق عن ابن جريح عن يحيى ابن سعيد قال بلغني مثل ذلك عن عمر لكن المشهور عن عمر خلافه - احتجوا بحديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في رجل مرض في رمضان فافطر ثم صح فلم يصم حتى أدركه رمضان اخر يصوم الذي أدركه ثم يصوم الذي أفطر فيه ويطعم عن كل يوم مسكينا رواه الدارقطني وهذا الحديث لا يصح فيه ابراهيم بن نافع قال أبو حاتم كان يكذب وفيه عمر بن موسى كان يضع الحديث قال الحافظ لم يثبت فيه شىء مرفوع انما ثبت فيه اثار الصحابة وسمى صاحب المهذّب منهم عليا وجابرا « 1 » والحسين بن على ولم اطلع على سند صحيح عنهم غير أبى هريرة وابن عباس - ولو كان الحديث المرفوع فيه صحيحا فحينئذ أيضا لم يجز به الزيادة على الكتاب لكونه من الآحاد - وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يعنى الصوم فِدْيَةٌ قال البغوي اختلف العلماء في تأويل هذه(1/354)
الاية وحكمها فذهب أكثرهم إلى ان الآية منسوخة وهو قول ابن عمر وسلمة بن الأكوع وغيرهما - وذلك انهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين ان يصوموا وبين ان يفطروا ويفتدوا خيرهم اللّه تعالى لئلا يشق عليهم فانهم لم يكونوا معتادين بالصوم ثم نسخ التخيير ونزلت العزيمة بقوله تعالى.
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ - قلت وعلى هذا التقدير فالمريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين في ثلثة امور الصوم والفطر بنية القضاء والفدية ثم إذا انسخت الفدية بقي لهما التخييريين الصوم والقضاء - وقال قتادة هى خاصة في الشيخ الكبير الذي يطيق الصوم ولكن يشق عليه رخص له في ان يفطر ويفدى ثم نسخ بذلك
_________
(1) فى الأصل جابر -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 192(1/355)
و قال الحسن هذا في المريض الذي يستطيع الصوم خير بين ان يصوم وبين ان يفطر ويفدى ثم نسخ بذلك وعلى هذه الأقوال كلها لم يثبت حكم الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم بنص القرآن ومن ثم قال مالك والشافعي في أحد قوليه ان الشيخ الفاني يجوز له الفطر للعجز حيث لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ولا يجب عليه الفدية لان إيجاب الفدية لا بد له من دليل والمثل الغير المعقول لا يثبت بالرأى - وذهب جماعة إلى ان الآية غير منسوخة ومعناه وعلى الذين كانوا يطيقونه في حال الشباب فعجزوا عنه بعد الكبر الفدية بدل الصوم - وهذا التأويل لا يصاعده نظم الكلام - وقال الشيخ الاجل جلال الدين في تفسير الآية بتقدير لا يعنى وعلى الّذين لا يطيقونه فدية - كما في قوله تعالى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أى لان لا تضلّوا - قلت وتقدير لا أيضا بعيد فانه ضد ما هو ظاهر العبارة حيث يجعل الإيجاب سلبا - فان قيل مذهب أبى حنيفة واحمد والأصح من مذهب الشافعي وبه قال سعيد بن جبير ان الواجب على الشيخ الفاني الفدية مكان الصوم ومبنى هذه الأقوال ليس الا هذه الآية ولو لا ذلك التأويل الذي لم ترتض منه فبم تقول بوجوب الفدية على الشيخ الكبير والمريض الذي لا يرجى برؤه - قلت واللّه اعلم ان التأويل هو الأول وحاصله ان حكم الآية كان في ابتداء الإسلام التخيير بين الصوم والفدية للذين يطيقون الصوم وللذين لا يطيقونه بدلالة النص بالطريق الاولى لأنه سبحانه لما خير المطيقين فضلا وتيسيرا فغير المطيقين اولى بالتخيير ومن ثم قلت ان المريض والمسافر كانا حينئذ مخيرين بين ثلثة امور - ثم لما نزل فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً « 1 » الآية نسخ حكم الفدية في حق الذين كانوا يطيقونه حالا وفي حق الذين يطيقونه مالا وهم المرضى والمسافرين الذين يرجون القضاء بعد الشفاء وصار أداء الصوم أو قضاؤه(1/356)
حتما في حقهم وبقي حكم من لا يطيقونه لا في الحال ولا في المال على ما كان عليه من جواز الفدية ثابتا بدلالة النص لعدم دخولهم في قوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى صحيحا مقيما فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً يرجوا الشفاء أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وانما قيدنا المريض بقولنا يرجوا الشفاء بدلالة العقل - فان من لا يرجوا الشفاء تكليفه بالقضاء تكليف بما لا يطيق - ومنسوخية الحكم الثابت بعبارة النص لا يستدعى منسوخية الحكم الثابت بالدلالة واللّه اعلم طَعامُ مِسْكِينٍ قرأ نافع وابن ذكوان فدية طعام مسكين بإضافته فدية وجمع المسكين بفتح النون - وهشام بتنوين فدية ورفع طعام على البدل وجمع مسكين والباقون بتنوين فدية ورفع طعام وتوحيد مسكين بكسر النون - والفدية الجزاء وإضافته إلى الطعام
_________
(1) فى الأصل ومن كان منكم مريضا -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 193(1/357)
بيانية وهو نصف صاع من بر أو صاع من شعير أو تمر على قول أبى حنيفة قياسا على صدقة الفطر وقال الشافعي كل يوم مسكينا مدا من الطعام من غالب قوة البلد - وقال احمد نصف صاع من شعيرا ومد من بر وقال بعض الفقهاء ما كان المفطر يتقوّيه يومه الذي أفطره - وقال ابن عباس يعطى كل مسكين عشاءه وسحوره وسيجيئ عنقريب تحقيق طعام الفدية في تفسير قوله تعالى فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ان شاء اللّه تعالى فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد في الفدية فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من اصل الفدية وَأَنْ تَصُومُوا أيها المطيقون خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية - هذا صريح في ان المراد ب الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ هم المطيقون لا غير المطيقين من الشيخ والمريض فان كون صومهم خيرا لهم ممنوع وهذه الآية تدل على ان المسافر إذا لم يكن له بالصوم ضرر بين فالافضل في حقه الصوم كذا قال الجمهور خلافا لاحمد والأوزاعي وسعيد بن المسيب والشعبي احتجوا بالأحاديث منها ما روى عن جابر بن عبد اللّه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فراى ازحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم - فقال ليس من البر الصوم في السفر - متفق عليه وعنه - انه صلى اللّه عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل له بعد ذلك ان بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة - روا مسلم عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر - رواه ابن ماجة قلنا هذه الأحاديث « 1 » في حق من يتضرر بالصوم غاية التضرر ولا شك ان الفطر فى حقه أفضل سواء كان مسافرا أو مريضا - وكذا الفطر أفضل إذا اقترب الجهاد لحديث أبى سعيد انه صلى اللّه عليه وسلم قال انكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم - قال وكانت رخصة(1/358)
فمنا من صام ومنا من أفطر ثم نزلنا منزلا اخر فقال انكم تصبحون « 2 » عدوكم والفطر أقوى لكم فافطروا - فكانت عزيمة فافطرنا - رواه مسلم وأخرجه مالك في المؤطا عن بعض اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم - واخرج « 3 » الشافعي عنه في المسند وأبو داود - وصححه الحاكم وابن عبد البر واما إذا لم يتضرر بالصوم فالصوم أفضل بهذه الآية وحديث أبى الدرداء انه كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر قال وان أحدنا نضع يده على رأسه من شدة الحر وما منا صائم الا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعبد اللّه بن رواحة - متفق عليه - قلت وما ذكرنا من التفصيل انما هو في حق المسافر لان الرخصة له دائرة على نفس السفر سواء كانت له مشقة في الصوم
_________
(1) فى الأصل هذا الأحاديث
(2) فى الأصل تصبحوا
(3) فى الأصل واخرج عنه الشافعي عنه -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 194(1/359)
اولا واما الشيخ والمريض والضعيف والحامل والمرضع فالرخصة في حقهم دائرة على نفس المشقة والتضرر بالصوم فلو لا التضرر لا رخصة لهم وإذا تضرروا بالصوم وهو خوف زيادة المرض أو حدوثه فحكمه حكم المتضرر بالسفر واللّه اعلم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) ما في الصوم من الفضيلة - وجواب « 1 » ان محذوف دل عليه ما قبله يعنى اخترتموه على الفطر والفداء عند التخيير واما بعد نسخ التخيير فمن أفطر في رمضان بلا عذر فان كان مستحلا يكفر والا يفسق ويجب عليه القضاء لوجوب التدارك بقدر الإمكان وبدلالة ما ورد في المعذور بالطريق الاولى من قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ويجب عليه الاستغفار بالإجماع وقال النخعي لا يقضى صوم رمضان إذا أفطر من غير عذرا لا بألف عام - وقال على وابن مسعود رضى اللّه عنهما لا يفيد صوم الدهر - شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك شهر رمضان أو بدل من الصيام على حذف المضاف أى كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان وذلك على تقدير كون هذه الآية متصلا في النزول بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ لا على تقدير كونه متراخيا عنه ناسخا لما سبق والشهر مشتق من الشهرة ورمضان مصدر رمض إذا احترق فاضيف إليه الشهر وجعل علما ومنع من الصرف للعلمية والالف والنون - عن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما سمى رمضان لان رمضان يرمض الذنوب - رواه الاصبهانى في الترغيب الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ سمى القرآن قرانا لأنه تجمع السور والاى والحروف وجمع فيه القصص والأمر والنهى والوعد والوعيد واصل القرآن « 2 » الجمع أو هو مشتق من القراءة بمعنى المقر و- قرأ ابن كثير القرآن وقرانا - وقرانه حيث وقع بحذف الهمزة بعد إلقاء الحركة على الراء ووافقه حمزة وقفا فقط - والباقون بالهمزة قال البغوي كان يقرا الشافعي غير مهموز ويقول ليس هو(1/360)
من القراءة ولكنه اسم لهذا الكتاب كالتورية والإنجيل - قال البغوي روى مقسم عن ابن عباس انه سئل عن قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ - وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ - وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ وقد نزل في سائر الشهور وقال اللّه تعالى قُرْآناً فَرَقْناهُ فقال - انزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم نزل به جبرئيل عليه السلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نجوما في عشرين سنة فذلك قوله تعالى عز وجل بِمَواقِعِ النُّجُومِ - وقال داود بن أبى هند قلت الشعبي شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ اما كان ينزل في سائر السنة قال بلى ولكن جبرئيل عليه السلام
_________
(1) فى الأصل وجواب لو
(2) فى الأصل واصل القرا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 195(1/361)
كان يعارض النبي صلى اللّه عليه وسلم في رمضان وانزل عليه فيحكم اللّه ما يشاء ويثبت ما يشاء وينسيه ما يشاء - وروى عن أبى ذر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انزل صحف ابراهيم في ثلاث ليال مضين من رمضان - ويروى في أول ليلة من رمضان وأنزلت تورية موسى في ست ليال مضين من رمضان وانزل الإنجيل في ثلاث عشرة مضت من رمضان وانزل زبور داود في ثمان عشر ليلة من رمضان وانزل القرآن على محمد صلى اللّه عليه وسلم في الاربعة وعشرين لست بقين بعدها - واخرج احمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع نزلت صحف ابراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التورية لست مضين والإنجيل لثلاث عشرة والقران لاربع وعشرين - واللّه اعلم والموصول بصلته خبر لشهر رمضان على تقدير كونه مبتدأ وصفته على تقدير كونه خبرا أو بدلا ويحتمل ان يكون صفة للمبتدأ وخبره فمن شهد والفاء لوصف المبتدأ بما يتضمن معنى الشرط وعلى هذا التقدير معنى قوله أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أى في شأنه القرآن وهو قوله كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ حتى يتحقق كون الانزال سببا لاختصاصه بوجوب الصوم هُدىً لِلنَّاسِ من الضلالة باعجازه وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ أى دلالات واضحات مما يهدى إلى الحق من الحلال والحرام والحدود والاحكام ويفرق بين الحق الذي من اللّه وبين الباطل الذي من شياطين الجن والانس حالان من القرآن فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ يعنى أدرك الشهر صحيحا مقيما طاهرا من الحيض والنفاس - اما المريض والمسافر فخصا منه بالآية اللاحقة - واما الحائض والنفساء فبالنقل المستفيض وعليه انعقد الإجماع - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جواب قولها وما نقصان دينها يا رسول اللّه أ ليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم - متفق عليه ( (فائدة)) اجمعوا على ان الحائض يحرم عليها الصوم ولو صامت لم يصح ولزمها القضاء واللّه اعلم فَلْيَصُمْهُ(1/362)
البتة لا يكفيه الفدية كما كان في بدء الإسلام - قال البغوي اختلف أهل العلم فيمن أدركه الشهر وهو مقيم ثم سافر روى عن على انه قال لا يجوز له الفطر وبه قال عبيدة السلماني لقوله تعالى فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ أى الشهر كله - وذهب اكثر الصحابة والفقهاء إلى انه إذا إنشاء السفر في شهر رمضان جاز له ان يفطر بعد ذلك اليوم - قلت وعليه انعقد الإجماع - ومعنى الآية فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يعنى فليصم ما شهد منه ان شهد كله فكله وان شهد بعضه فبعضه ويؤيد ذلك التأويل ما مر من حديث جابر وحديث ابن عباس قال ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 196(1/363)
حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه وكانوا يأخذون بالأحدث فالاحدث من امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسئلة ولو كان مقيما في أول النهار ثم سافر لا يجوز له الفطر من ذلك اليوم عند أبى حنيفة ومالك والشافعي رحمهم اللّه لهذه الآية لأنه شهد أول اليوم فليصمه وقال احمد وداود جاز له الفطر في ذلك اليوم أيضا - احتج ابن الجوزي بحديث ابن عباس المذكور حتى إذا بلغ كراع الغميم أفطر - وحديث ابن عباس خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسافرا في رمضان حتى اتى عسفان فدعى اناء من شراب نهارا ليرى الناس ثم أفطر حتى قدم - قلنا لم يكن صلى اللّه عليه وسلم ذلك اليوم مقيما أول النهار فان كراع الغميم وعسفان لم يكونا في أول مرحلة من المدينة مسئلة ولو أصبح مسافر أو مريض صائمين ثم أراد الفطر جاز عند احمد وكذا ذكر صاحب المنهاج مذهب الشافعي رحمه اللّه وقال ابن الهمام مذهب أبى حنيفة ان اباحة الفطر المسافر إذا لم ينو الصوم فإذا نواه ليلا وأصبح من غير ان ينقص عزيمته قبل الفجر أصبح صائما فلا يحل فطره في ذلك اليوم لكن لو أفطر فيه لا كفارة عليه كما في المسألة السابقة لمكان الشبهة - وحديث كراع الغميم حجة لاحمد والشافعي في هذه المسألة كما لا يخفى وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ أى فالواجب عليه عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ كرر ذلك الحكم ليدل على ان المنسوخ انما هو الفدية دون الفطر والقضاء للمعذور ولو(1/364)
لم يكن حكم الفدية منسوخا وكان المراد بقوله تعالى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ هو شهر رمضان لا غير فحينئذ لم تكن لتكرار حكم المريض والمسافر فائدة - فائدة ويلحق بالمريض والمسافر في حق وجوب القضاء الحائض والنفساء بالإجماع والأحاديث عن معاذة العدوبة انها قالت لعائشة ما بال الحائض تقضى الصوم ولا تقضى الصلاة قالت عائشة كان تصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة - رواه مسلم - مسئلة وبهذه الآية يثبت ان المسافر والمريض إذا صح واقام فعليه قضاء الصيام عدد ما أدرك من الأيام صحيحا مقيما طاهرا بعد رمضان فمن فاته عشرة من صيام رمضان وأدرك بعد الصحة والاقامة يومين من غير رمضان ثم مات يجب عليه قضاء يومين فحسب واختلفوا في انه من أدرك عدة من ايام اخر ولم يقض حتى مات هل يجب على الوارث الفدية أو القضاء فقال أبو حنيفة ومالك لا يجب على الوارث شىء الا ان يوصى الميت بالفدية فيجب إنفاذ وصيته من الثلث لا فيما زاد على الثلث الا برضاء الورثة وكذا إذا كان عليه صوم نذر أو كفارة - وقال الشافعي في القديم صام عنه وليه سواء كان من رمضان أو من نذر وفي الجديد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 197(1/365)
انه يطعم فيهما الولي القريب - وقال احمد في صوم رمضان يطعم ولا يصام وإذا كان عليه نذر صام عنه وليه - احتجوا على وجوب الصوم على الولي بحديث ابن عباس قال أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم امراة فقالت يا رسول اللّه ان أمي ماتت وعليها صوم شهر فاقضى عنها قال ارايت لو كان على أمك دين اما كنت تقضيه قالت بلى قال فدين اللّه عز وجل أحق - متفق عليه - وعن عائشة - انها سالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمن مات وعليه صيام فقال يصوم عنه وليه - متفق عليه - وحديث بريدة عن أبيه ان امراة أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت « 1 » يا رسول اللّه أمي كان عليها صوم شهرا فتجزئها ان أصوم عنها قال نعم - رواه احمد - وحديث ابن عباس ان امراة ركبت البحر فنذرت ان اللّه عز وجل ان نجاها ان تصوم شهرا فانجاها اللّه فلم تصم حتى ماتت فجاءت « 2 » قرابة لها فذكرت ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال صومى - وحديث ابن عباس ان سعد بن عبادة سال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن نذر كان على امه توفيت قبل ان تقضيه فقال اقضه عنها - فمن هذه الأحاديث ما هو صريح في النذر وما هو مطلق فقال احمد بوجوب الصيام في النذر ويحمل ما ليس فيه ذكر النذر على صوم النذر - قلت لا وجه للحمل على النذر مع اطلاق اللفظ بل الأحاديث المذكورة الصحيحة تدل على جواز صوم الولي عن الميت مطلقا سواء كان الصوم عن نذر أو رمضان فلا بد من اتباعها « 3 » - وليس شىء منها تدل على وجوب الصوم على الوارث فلا يكون حجة على أبى حنيفة كيف وقد قال اللّه تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فكيف يعذب الوارث بترك الصوم عن الميت واحتجوا على وجوب الإطعام عن الميت بحديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ومن مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا - رواه الترمذي وقال لا نعرفه مرفوعا الا من هذا الوجه يعنى من طريق الأشعث بن سوار وهو ليس بشىء ومحمد بن عبد(1/366)
الرحمن بن أبى ليلى وهو ضعيف مضطرب الحديث - والصحيح انه موقوف على ابن عمر - ووجه قول أبى حنيفة ان الطاعة لا يجرى فيها النيابة لان المقصود منه النية والامتثال وهو مناط الثواب والعذاب ووجوب الصوم أو المال على الوارث يمنعه قوله تعالى لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فلا يجب عليه شىء غير انه إذا اوصى به المورث فانفاذ وصيته واجب بقوله تعالى مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ والمرجو من فضل اللّه سبحانه ان يقبل منه واللّه اعلم - قلت والتحقيق في المقام ان الوارث ان تطوع عن الميت بالصوم أو الصدقة فالثابت بالأحاديث ان اللّه تعالى يقبله بفضله ويفك رقبة الميت ولكن ليس ذلك واجبا
_________
(1) فى الأصل فقال
(2) فى الأصل فجاء
(3) فى الأصل اتباعها -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 198(1/367)
على الوارث لما ذكرنا وقد ورد في رواية البزار في حديث عائشة فليصم عنه وليه إنشاء - وهذا اظهر لكن الرواية ضعيفة لانها من طريق ابن لهيعة - يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ بإباحة الفطر والقضاء في المرض والسفر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ قرأ أبو جعفر العسر واليسر ونحوهما بضم السين والباقون بالسكون - وهذه الآية تدل على ان الفطر للمريض والمسافر رخصة لاجل اليسر وليس هو العزيمة حتى لو صام المريض والمسافر صح اجماعا الا ما روى عن ابن عباس وابى هريرة وعروة ابن الزبير وعلى بن الحسين رضى اللّه عنهم انهم قالوا لا يجوز الصوم في السفر ومن صام فعليه القضاء لظاهر قوله تعالى فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ حيث جعل اللّه تعالى الواجب صيام عدة من ايام اخر لا غير فمن صام في الحال فقد صام قبل وجوبه فلا يجوز - قلنا سبب الوجوب الشهر والسفر مانع لوجوب الأداء لا لنفس الوجوب فمن صام فقد صام بعد نفس الوجوب فصح كمن ادى الزكوة قبل حولان الحول ويؤيد مذهب الجمهور حديث أبى سعيد غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لست عشر مضت من رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر فلم يعب الصائم الفطر ولا للفطر الصائم - رواه مسلم - فحديث جابر عند مسلم وحديث انس في المؤطا وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ أى عدد شهر رمضان بقضاء ما أفطر منه عن ابن عمر رضى اللّه عنهما ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فاكملوا العدة ثلاثين - متفق عليه قرأ أبو بكر بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهو مع ما عطف عليه معطوف على اليسر اما لان اليسر علة معنى وتقديره شرعنا ذلك الاحكام يعنى اباحة الفطر للمريض والمسافر ووجوب القضاء بعدد ايام المرض من ايام اخر ليسهل عليكم الأمر ولتكملوا العدة - أو بان يجعل اللام زائدة للتأكيد وتكملوا مع ان مقدرة معطوف على(1/368)
اليسر مفعول به ليريد تقديره يريد اللّه بكم اليسر وان تكملوا وان تكبروا وان تشركوا - لو متعلق بفعل محذوف معطوف على يريد اللّه بكم اليسر في اباحة الفطر ويأمركم بالقضاء لتكملوا العدة وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ ما مصدرية أو موصولة أى على إرشادكم أو على الذي أرشدكم إليه مما تكسبوا به مرضات ربكم وفراغ ذمتكم وجزيل المثوبة - قال ابن عباس هو تكبيرات ليلة الفطر روى الشافعي عن ابن المسيب وعروة وابى سلمة انهم كانوا يكبرون ليلة الفطر يجهرون بها - وقيل تكبيرات يوم الفطر قلت ويمكن ان يراد بالتكبير صلوة العيد أو تكبيرات
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 199(1/369)
صلوة العيد فحينئذ تجب تكبيرات العيد وتجب الصلاة أيضا بالالتزام لان التكبير خارج الصلاة في يوم الفطر أو ليلة الفطر لم يجب اجماعا فنحمله على تكبيرات الصلاة أو على الصلاة تسمية الكل باسم الجزء كما في قوله تعالى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ واللّه اعلم - ولم يفترض صلوة العيد لمكان الاحتمال - وتايّد وجوب الصلاة بمواظبة النبي صلى اللّه عليه وسلم واللّه اعلم وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) ولكى تشكروا على وجوب الصوم فانه وسيلة لنيل الدرجات وعلى اباحة الفطر للمريض والمسافر فان فيه تخفيفا ورخصة معطوف على لتكبروا - فصل في فضائل شهر رمضان وصيامه - عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال - إذا دخل رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادى مناديا باغي الخيرا قبل ويا باغي الشرا قصر وللّه عتقاء من النار وذلك فى كل ليلة - رواه الترمذي وابن ماجة واحمد - وفي الصحيحين نحوه اقصر منه - وعنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه - متفق عليه - وعن سلمان رضى اللّه عنه قال خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في اخر يوم من شعبان فقال يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم وفي رواية اطلكم بالطاء المهملة بمعنى اشرف شهر مبارك شهر فيه ليلة القدر خير من الف شهر جعل اللّه صيامه(1/370)
فريضة وقيام ليلة تطوعا ومن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه ومن ادى فيه فريضة كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه - وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة وشهر المواساة وشهر يزداد فيه الرزق من فطّر فيه صائما كان له مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل اجره من غير ان ينقص من اجره شىء - قالوا يا رسول اللّه ليس كلنا يجد ما يفطّر به الصائم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطى اللّه هذا الثواب لمن فطّر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة من ماء ومن أشبع صائما سقاه اللّه عز وجل من حوضى شرية لا يظمأ حتى يدخل الجنة وهو شهر اوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار فاستكثروا فيه بأربع خصال خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى بكم عنهما اما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة ان لا اللّه الا اللّه وتستغفرونه واما اللتان لاغنى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 200(1/371)
بكم عنهما فتسئلون الجنة وتعوذون به من النار - رواه البغوي وروى البيهقي في شعب الايمان إلى قوله عتق من النار وفيه ومن خفف عن مملوكة غفر اللّه له واعتقه من النار - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل عمل ابن آدم تضاعف الحسنات بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال اللّه تعالى الا الصوم فانه لى وانا اجزى به - يدع طعامه وشرابه وشهوته من اجلى للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه - ولخلوف فم الصائم أطيب عند اللّه من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة - فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فان سابّه أحدا وقاتله فليقل انى امرا صائم - متفق عليه وعن عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال الصيام والقران يشفعان العبد تقول الصيام رب انى منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفّعنى فيه ويقول القرآن رب انى منعته النوم بالليل فشفّعنى فيه فيشفعان - رواه البيهقي في شعب الايمان - وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال يغفر لامته في اخر ليلة من رمضان قيل يا رسول اللّه أ هي ليلة القدر قال لا ولكن العامل انما يوفى اجره إذا قضى عمله « 1 » - رواه احمد واللّه اعلم - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردوية وأبو الشيخ وغيره من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن عبد السجستاني عن الصلت بن حكيم بن معاوية بن جبيرة عن أبيه عن جده ان اعرابيّا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فسكت عنه فانزل اللّه تعالى.(1/372)
وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ يعنى فقل لهم انى قريب - واخرج عبد الرزاق عن الحسن سال اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النبي صلى اللّه عليه وسلم ابن ربنا فانزل اللّه - وهذا مرسل قلت ولعل السائل هو الاعرابى - واخرج ابن عساكر عن على قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تعجزوا عن الدعاء فان اللّه انزل علىّ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قالوا لا نعلم اىّ ساعة ندعوا فنزلت إلى قوله يرشدون - قال البغوي روى الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال قال يهود المدينة يا محمد كيف يسمع ربنا دعاءنا وأنت تزعم ان بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام وان غلظ كل سماء مثل ذلك فنزلت هذه الآية قلت والظاهر ان تشريف السائل بالاضافة إلى نفسه في قوله تعالى وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي يأبى ان يكون السائل يهوديا متعنتا في السؤال واللّه اعلم
_________
(1) أخرج الطبراني في الأوسط عن عمر بن الخطاب سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذاكر اللّه في رمضان مغفور له وسائل اللّه لا يخيب - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 201(1/373)
و نزول هذه الآية في جواب السائل أ قريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ارشاد على الذكر الخفي دون الجهر كما لا يخفى - وعن أبى موسى الأشعري قال لما غزا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى خيبر اشرف الناس على وادفر فعوا أصواتهم بالتكبير لا الله الا اللّه واللّه اكبر فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون أصم ولا غائبا انكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم - رواه البخاري - قال المفسرون معناه انى قريب منهم بالعلم لا يخفى علىّ شىء - قال البيضاوي هو تمثيل لكمال علمه بافعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم - قلت وهذا التأويل منهم مبنى على ان القرب عندهم منحصر في القرب المكاني واللّه تعالى منزه عن المكان ومماثلة المكانيات والحق انه سبحانه قريب من الممكنات قربا لا يدرك بالعقل بل بالوحى أو الفراسة الصحيحة وليس من جنس القرب المكاني ولا يتصور شرحه بالتمثيل إذ ليس كمثله شىء واقرب التمثيلات ان يقال قربه إلى الممكنات كقرب الشعلة الجوالة بالدائرة الموهومة فان الشعلة ليست داخلة في الدائرة للبون البعيد بين الموجود الحقيقي والموجود فى الوهم وليست خارجة عنها ولا عينها ولا غيرها وهو اقرب إلى الدّائرة من نفسها حيث ارتسمت الدائرة بها ولا وجود لها في الخارج بل في الوهم بوجود تلك النقطة في الخارج واللّه اعلم أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ قرأ أهل المدينة غير قالون وأبو عمرو بإثبات الياء فيهما في الوصل والباقون بحذفهما وصلا ووقفا وكذا اختلف القراء في اثبات الباءات المحذوفة من الخط وحذفها في التلاوة ويثبت يعقوب جميعا وصلا ووقفا واتفقوا على اثبات ما هو مثبت في الخط وصلا ووقفا فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أى ليطلبوا منى اجابة دعواتهم - وانما عدى باللام لان طلب الحاجة والدعاء عبادة من العبد للّه تعالى - وقيل الاستجابة بمعنى(1/374)
الاجابة أى فليجيبوا لى بالطاعة إذا دعوتهم للايمان والعبادة كما أجيبهم إذا دعونى لحوائجهم والاجابة في اللغة إعطاء ما سئل فهو من اللّه تعالى العطاء ومن العبد الطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي قرأ بفتح الياء ورش والباقون بالإسكان - امر بالثبات والمداومة على الايمان إذ اصل الايمان ثابت في المؤمنين - والاولى ان يحمل على انه طلب الايمان الحقيقي المترتب على فناء النفس بعد الايمان المجازى فان التنصيص اولى من التأكيد لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) راجين إصابة الرشد أو لكى يرشدوا ويهتدوا - والرشد ضد الغى وهو النيل إلى المقصود والوصل العريان ان شاء اللّه تعالى - فان قيل أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ وادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وعد بالاجابة لا يجوز خلفه وقد يدعوا العبد كثيرا ولا يجاب قال البغوي في الجواب اختلفوا في معنى الآيتين قيل معنى الدعاء هاهنا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 202(1/375)
الطاعة ومعنى الاجابة الثواب فلا إيراد - وقيل معنى الآيتين خاص وان كان لفظهما عاما تقديرهما أجيب دعوة الداعي ان شئت نظيره قوله تعالى فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ فحينئذ المقصود من الآية رد قول الكفار الذين زعموا ان اللّه لا يسمع دعاءنا وانه غائب - أو تقديرهما أجيب ان كانت الاجابة خيرا له - عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يستجيب اللّه لاحدكم ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل - قالوا وما الاستعجال يا رسول اللّه قال يقول قد دعوتك يا رب قد دعوتك يا رب فلا أراك تستجيب لى فيخسر عن ذلك فيدع الدعاء - رواه مسلم أو تقديره أجيبه ان لم يسئل محالا - وقيل هو عام لكن معنى قوله أجيب انى اسمع وليس في الآية اكثر من اجابة الدعوة فاما إعطاء المنية فليس بمذكور فيها - وقيل معنى الآية انه يجيب دعاءه فان قدر له ما سال أعطاه وان لم يقدر له ادخر ثوابه في الاخرة أو كف عنه سوءا عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما على الأرض رجل مسلم يدعوا اللّه بدعوة الا أتاه اللّه إياه أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم - رواه البغوي - وروى احمد عن أبى هريرة عنه صلى اللّه عليه وسلم ما من مسلم ينصب وجهه للّه تعالى في مسئلة الا أعطاها إياه اما ان يعجلها له واما ان يدخرها له - وروى الترمذي عن جابر مرفوعا مثله بلفظ الا أتاه اللّه ما سال أو كف(1/376)
من السوء مثله ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم - وقيل ان اللّه يجيب دعوة المؤمن في الوقت ويؤخر إعطاء مراده ليدعوه فيسمع صوته ويعجل إعطاء من لا يحبه لأنه يبغض صوته وقيل ان للدعاء آدابا وشرائط وهى اسباب الاجابة فمن استكملها كان من أهل الاجابة ومن اخلّ بها كان من أهل الاعتداء في الدعاء فلا يستحق الاجابة - وقد مر حديث أبى هريرة انه صلى اللّه عليه وسلم ذكر الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء يا رب اشعث اغبر مطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام فانى يستجاب لذلك رواه مسلم والتحقيق في الباب عندى ان ما ذكرنا من الأقوال كلها صحيحة وانه ليس كل دعاء مستجاب ومدلول الآية ان مقتضى الدعاء الاجابة فانه تعالى جواد كريم قادر على كل شىء ومن كان هذا صفته لا يمنع مسئوله عقلا ونقلا روى الترمذي وأبو داود عن سلمان قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ربكم حى كريم - يستحيى من عبده إذا رفع يديه ان يردهما صفرا - وانما يظهر تخلف الاستجابة عن الدعاء أو تاخره عنه اما لحكمة أو لمانع من الاستجابة أو فقد شرط عقوبة للداعى واللّه اعلم - .
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ الرفث كناية عن الجماع -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 203(1/377)
قال الزجاج الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء - وعدى بالى لتضمنه معنى الإفضاء روى احمد - وأبو داود - والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبى ليلى عن معاذ بن جبل قال كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم ان رجلا من الأنصار يقال له صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فاصبح مجهودا وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك فانزل اللّه تعالى أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ إلى قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ - الحديث مشهور عن ابن أبى ليلى وهو لم يسمع من معاذ وله شواهد - أخرج البخاري عن البراء قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل ان يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى وان قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار اتى امرأته فقال عندك طعام فقالت لا ولكن انطلق فاطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه وجاءت امرأته فلما رات قالت خيبة - فلما انتصف النهار غشى عليه فذكر ذلك للنبى صلى اللّه عليه وسلم فنزلت هذه الآية - واخرج البخاري عن البراء قال لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فانزل اللّه « 1 » عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ - واخرج احمد وابن جرير وابن أبى حاتم من طريق عبد اللّه بن كعب عن أبيه قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فامسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وقد سمر عنده وأراد من امرأته فقالت انى قد نمت قال ما نمت ووقع عليها - وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره فنزلت وقال البغوي كان في ابتداء الأمر إذا(1/378)
صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليها الطعام والشراب والجماع إلى القابلة وان عمر بن الخطاب واقع اهله بعد العشاء فاعتذر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ استيناف بيان لسبب التحليل وهو قلة الصبر عنهن وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة - ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس - أو لان اللباس كما يستر صاحبه كذلك يكون كل واحد منهما لصاحبه ستراعما لا يحل - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تزوج فقد احرز ثلثى دينه عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
_________
(1) فى الأصل علم انكم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 204(1/379)
كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أى تخونونها وتظلمونها بالمجامعة بعد العشاء أو بعد النوم بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب - والاختيان ابلغ من الخيانة فَتابَ عَلَيْكُمْ لما تبتم وَعَفا عَنْكُمْ محا ذنوبكم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ جامعوهن حلالا كنى بالمباشرة عن الجماع وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الولد تدل الآية على انه ان جامع رجل امرأته ينبغى ان يريد به الولد دون قضاء الشهوة فحسب حيث قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجوا الودود الولود فانى مكاثر بكم الأمم رواه أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار - وعلى ان العزل مكروه وعلى ان اباحة الجماع مقتصر على محل الولد - قال البغوي قال معاذ بن جبل ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعنى ليلة القدر قلت وهذا بعيد من السياق وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ يعنى بياض النهار من سواد الليل - سميا خيطين لان كل واحد منهما إذا بدا في الابتداء امتد جنوبا وشمالا كالخيط - وقوله من الفجر حال من الخيط الأبيض بيان له - ولم يبين الخيط الأسود لظهوره بظهور الخيط الأبيض - ومن للبيان أو للتبعيض أى كائنا الفجر أو كائنا بعض الفجر - ولم يقل حتى يتبين لكم الفجر دلالة على حرمة الاكل عند ظهور خيطه يعنى أول جزء منه - ولم يقل حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر بلا ذكر الخيط الأسود ليدل على ان المراد بالفجر هو الفجر الصادق لأنه خيط ابيض معترض جنوبا وشمالا يلاصقه خيط اسود معترض في الجانب الغربي هو طرف لسواد الليل بخلاف الفجر الكاذب فانه خيط ابيض مستطيل شرقا وغربا يحيط به السواد من الجوانب كلها ويحتمل ان يكون قوله من الفجر بيانا لمجموع الخيطين فان في الفجر سوادا وبياضا وهذا اولى حيث لا يلزم حينئذ الفصل بين الحال وصاحبه بالاجنبى واللّه اعلم - عن سمرة بن(1/380)
جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق - رواه الترمذي وعن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ان بلالا ينادى بليل فكلوا واشربوا حتى ينادى ابن أم مكتوم وكان ابن أم مكتوم « 1 » رجلا أعمى لا ينادى حتى يقال له أصبحت أصبحت - فان قيل قد صح عن على رضى اللّه عنه انه صلى الصبح ثم قال الان يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود - رواه ابن المنذر بإسناد صحيح وكذا روى ابن المنذر بإسناد صحيح عن أبى بكر الصديق انه قال لو لا الشهوة لصليت الغداة ثم لتسحرت - وروى ابن المنذر وابن أبى شيبة من طريق عن أبى بكر انه امر بغلق الباب حتى لا يرى الفجر - فهذه الآثار تدل على جواز الاكل بعد انتشار الصبح فما وجه هذه الأقوال - قلت واللّه اعلم لعل وجه هذه الأقوال ان أبا بكر و « 2 » عليّا رضى اللّه عنهما زعما ان من للسببية والخيط في معناه الحقيقي - لكن ثبت بالسنة ان من للبيان والمراد بالخيط الأبيض هو الصبح وعلى ذلك انعقد الإجماع عن عدى بن حاتم قال لما نزلت حَتَّى يَتَبَيَّنَ
_________
(1) فى اصل حتى ينادى ابن أم مكتوم رجلا أعمى
(2) فى الأصل وعلىّ - [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 205(1/381)
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ عمدت إلى عقال اسود والى عقال ابيض فجعلتهما تحت وسادتى فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لى فغدوت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال انما ذلك سواد الليل وبياض النهار - متفق عليه وفي رواية - انك لعريض القفا انما ذلك بياض النهار وسواد الليل - وعن سهل بن سعد قال أنزلت كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ولم ينزل قوله من الفجر وكان الرجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رويتهما فانزل اللّه تعالى بعد قوله من الفجر فعلموا انه يعنى بهما الليل والنهار متفق عليه - فان قيل حديث سهل بن سعد يدل على ان نزول قوله تعالى من الفجر كان متاخر أو متراخيا عما سبق ويلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة وذلك غير جائز قلت استعمال الخيط الأبيض والأسود في سواد الليل وبياض النهار كان مشتهرا ظاهر الدلالة غير واجب البيان وان خفى على البعض لقلة تدبرهم فهو من باب المشكل الذي خفى مراده من جهة الصيغة باستعمال تجوز أو غير ذلك بحيث يدرك المراد بالتأمل والطلب ونزول قوله تعالى من الفجر انما هو للاحتياط وحفظ القاصرين وإغناء السامعين عن الطلب والتأمل ولم يكن من باب المجمل الذي لا يتصور درك مرامه الا من جهة الشارع فلا محذور فى تراخى نزوله - ولو سلمنا انه من باب المجمل فلعل بيانه صدر من الشارع في الوحى الغير المتلو وثبت بالسنة كما يدل عليه حديث عدى بن حاتم ثم نزل قوله من الفجر لتأئيد ما ثبت بالسنة وتأكيده - وقال الطحاوي انه من باب النسخ وان الحكم كان على ظاهر المفهوم من الخيطين ويؤيد قول الطحاوي حديث حذيفة تسحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هو واللّه النهار غير ان الشمس لم تطلع رواه سعيد بن منصور و(1/382)
كذا عند الطحاوي - فلعل تسحر حذيفة مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان قبل نزول قوله تعالى - من الفجر - فان قيل قوله من الفجر غير مستقل والناسخ انما يكون كلاما مستقلا فكيف يتصور كونه ناسخا - وعلى تقدير كونه متراخيا لا يتصور كونه من باب القصر لغير المستقل لان من ضروراته الاتصال فكيف التوجيه - قلت التوجيه عندى انه نزل اولا تمام الآية من غير تقييد بقوله من الفجر ثم بعد مدة نزل الآية مرة ثانية مع قوله تعالى من الفجر فنسخت الآية الاولى حكما وتلاوة واللّه اعلم (فائدة) حديث عدى بن حاتم انما كان بعد نزول قوله تعالى من الفجر - البتة لان إسلامه في السنة التاسع وكان نزول اية الصيام في السنة الثانية ونزول قوله تعالى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 206(1/383)
من الفجر بعد ذلك بيسير بسنة أو نحوه فما كان من عدى بن حاتم جعل الخيطين تحت وسادثه لم يكن الا زعما منه ان من للسببية واللّه اعلم (فائدة) وفي تجويز المباشرة إلى الفجر دليل على جواز تأخير الغسل للمجنّب إلى ما بعد الصبح وصح صوم من أصبح جنبا بالإجماع ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ بيان لاخر وقته عن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم - رواه البخاري فبهذه الآية ظهر حقيقة الصوم انه الإمساك من المفطرات الثلث من الصبح المعترض إلى غروب الشمس مع النية - ووجوب النية مستفاد من قوله تعالى ثم أتموا فان الإتمام فعل اختياري أو لأنه عبادة فلا بد له من النية لقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ - وقوله صلى اللّه عليه وسلم انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته إلى الدنيا نصيبها أو امراة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه - أخرجه الجماعة كلهم غير مالك في المؤطا الا ان مالكا روى عنه البخاري والحديث متواتر بالمعنى ولفظه تواتر عن يحيى بن سعيد انفرد هو عن محمد بن ابراهيم وهو عن علقمة ابن وقاص وهو عن عمرو قد تلقته « 1 » الامة بالقبول واجمعوا على ان كل عبادة مقصودة لا يصح الا بالنية وكان القياس ان يشترط اقتران النية بتمام العبادة لكن سقط ذلك للزوم(1/384)
الحرج فاشترط في الصلاة اقترانها بجزئها الأول اعنى التحريمة حتى تعتبر باقيه حكما مع جميع اجزائها - ولم يشترط ذلك في الصوم اجماعا لان الجزء الأول من الصوم حين طلوع الفجر أو ان غفلة غالبا فجوزوا الصوم بنية سبقت من شروعه وتعتبر باقية اجماعا ما لم يرفض - واختلفوا في انه هل يجوز الصوم بنية بعد طلوع الفجر أم لا - فقال أبو حنيفة يصح أداء صوم رمضان والنذر المعين والنفل بنية قبل نصف النهار الشرعي وقال الشافعي واحمد يصح النفل بنية قبل الزوال لا غير وقال مالك لا يصح شىء من الصيام بنية من النهار وهو القياس - ويؤيده حديث حفصة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من لم يجمع الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له - رواه احمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة في صحيحه وابن ماجة والدارقطني والدارمي - وفي رواية فلا يصوم وفي رواية لا صيام لمن لم يفرضه من الليل وفي رواية من لم يثبت الصيام قبل الفجر فلا صيام له - فان قيل قال أبو داود لا يصح رفعه - وقال الترمذي الموقوف أصح - قلنا رفعه ابن جريح وعبد اللّه بن أبى بكر كلاهما عن الزهري عن سالم عن
_________
(1) فى الأصل تلقت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 207(1/385)
أبيه عنها - وابن جريح وعبد اللّه بن أبى بكر من الثقات والرفع زيادة والزيادة من الثقة مقبولة ومن عادة المحدثين الوقوف عند الموقوف والمرسل - وكون الموقوف أصح لا ينافي صحة المرفوع - وقال الحاكم في المرفوع انه صحيح على شرط الشيخين - وقال في المستدرك صحيح على شرط البخاري - وقال البيهقي والدارقطني رواته كلهم ثقات - وفي الباب حديث عائشة من لم يثبت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له - رواه الدارقطني وقال رجاله ثقات - لكن فيه عبد اللّه بن عباد ذكره ابن حبان في الضعفاء وفيه يحيى بن أيوب ليس بالقوى - وحديث ميمونة بنت سعد مرفوعا من اجمع الصوم من الليل فليصم ومن أصبح فلم يجمعه فلا يصم - رواه الدارقطني وفيه الواقدي ليس بشىء - واحتجوا على جواز النقل بنية من النهار بحديث عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا دخل علىّ قال هل عندكم طعام فإذا قلنا الا قال انى صائم فدخل علىّ يوما فقلت يا رسول اللّه اهدى لنا حيس فقال ادنيه ولقد أصبحت صائما - وفي رواية لمسلم قال هل عندكم شىء قلت ما عندنا شىء قال فالى صائم فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاهديت لنا هدية فلما رجع قالت أهديت لنا هدية قال ما هو قلت حبس قال هاتيه فجئت به فاكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما - وأجيب بانه لا يدل هذا الحديث على ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نوى الصوم من النهار بعد ما لم يكن ناويا للصوم من الليل بل الظاهر انه كان يصبح صائما ناويا للصوم من الليل ثم يأتى اهله فقد يفطر الصوم النافلة - ويدل عليه قوله قد كنت أصبحت صائما - وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ - العكوف هو الاقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الاقامة في المسجد على عبادة اللّه تعالى مع النية - قال البغوي الآية نزلت في نفر من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد فإذا عرضت لرجل منهم الحاجة الى(1/386)
اهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلا ونهارا حتى يفرغوا من اعتكافهم فالجماع يفسد به الاعتكاف ويحرم فيه اجماعا غيران الشافعي يقول بالوطى ناسيا لا يفسد الاعتكاف قياسا على الصوم قلنا ان حالة الاعتكاف مذكرة بخلاف الصوم وعن الحسن البصري والزهري من باشر اهله معتكفا فعليه كفارة اليمين والإجماع على انه لا كفارة عليه - ولو قبّل أو لمس بشهوة فانزل يبطل الاعتكاف بالإجماع وان لم ينزل يحرم اجماعا ولا يبطل الاعتكاف الا عند مالك - واما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 208(1/387)
فلا بأس به - عن عائشة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اعتكف ادنى الىّ رأسه فارجّله - متفق عليه - وكان لا يدخل البيت الا لحاجة الإنسان - رواه مسلم - وقوله تعالى وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ يدل على ان الاعتكاف لا يكون الا في المسجد وهو مسجد الجماعة دون مسجد البيت - وإطلاقه يدل على انه يجوز الاعتكاف في كل مسجد ولا يختص بالمسجد الحرام أو مسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم - أو المساجد الثلاثة يعنى المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا بمسجد الجمعة - وروى عن حذيفة الاختصاص بالمساجد الثلاثة وعن عطاء بمسجد مكة وعن ابن المسيب بمسجد المدينة وعند مالك يختص بمسجد الجمعة وأوى إليه الشافعي في القديم - قال ابن عباس ابغض الأمور البدع وان من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور - أخرجه البيهقي - وعن على قال لا اعتكاف الا في مسجد جماعة - رواه ابن أبى شيبة وعبد الرزاق في مصنفهما - وعن حذيفة قال اما انا قد علمت انه لا اعتكاف الا في مسجد جماعة - رواه الطبراني - وروى ابن الجوزي عن حذيفة مرفوعا قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال كل مسجد له مؤذن وامام فالاعتكاف فيه يصلح قال ابن الجوزي هذا في نهاية الضعف - وعن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الا ما لا بد منه ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع رواه أبو داود وفي رواية لا اعتكاف الا في مسجد جماعة (مسئلة) الاعتكاف في(1/388)
العشر الأواخر من رمضان سنة مؤكدة لحديث عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى يتوفاه اللّه عز وجل ثم اعتكفه أزواجه من بعده - متفق عليه وحديث ابن عمر كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان - يتفق عليه وعن انس قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما فلما كان العام المقبل اعتكف العشرين - رواه للترمذى ورواه أبو داود وابن ماجة عن أبى بن كعب - قلت لكن تركه اكثر الصحابة قال ابن نافع انه كان كالوصال وأراهم تركوه لشدته ولم يبلغنى عن أحد من السلف انه اعتكف الا عن أبى بكر بن عبد الرحمن - وقال الحافظ قد حكيناه عن غير واحد من الصحابة - قلت ومن أجل تركه من اكثر الصحابة قال بعض الحنفية انه سنة على الكفاية واللّه اعلم تِلْكَ الاحكام التي ذكرت من حرمة الاكل والشرب والجماع في الصوم وحرمة المباشرة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 209
فى الاعتكاف حُدُودُ اللَّهِ أى ما منع اللّه عنها واصل الحد المنع فَلا تَقْرَبُوها نهى عن اقترابها فضلا ان يتخطى عنها مبالغة في المنع وقد مرّ في أوائل السورة قوله صلى اللّه عليه وسلم الحلال بين والحرام بين وبينهما امور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى المشتبهات استبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في المشتبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك ان يواقعه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى اللّه في ارضه محارمه - متفق عليه ولاجل حرمة الاقتراب بالمحرم الحق الائمة دواعى الجماع من اللمس بشهوة ونحوها بالجماع فقالوا بحرمتها في الصوم والاعتكاف وان انزل باللمس أو القبلة فسد الصوم والاعتكاف واللّه اعلم - كَذلِكَ أى كما بينا تلك الاحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ سائر آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) أى لكى يتقوا مخالفة الأوامر والنواهي - فيتقون من النار.(1/389)
وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ كالدعوى الزور والشهادة بالزور أو الحلف بعد إنكار الحق أو الغصب والنهب والسرقة والخيانة أو القمار واجرة المغني ومهر البغي وحلوان الكاهن وعسب التيس والعقود الفاسدة أو الرشوة وغير ذلك من الوجوه الّتى لا يبيحه الشرع - وبين منصوب على الظرف أو الحال من الأموال والآية بنزلت في امر القيس بن عابس الكندي ادعى عليه ربيعة بن عبدان الحضرمي عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أرضا انه غلبنى عليها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للحضرمى أ لك بينة قال لا قال فلك يمينه فانطلق يحلف فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - اما ان حلف على ماله ليأكل ظلما ليلقين اللّه وهو عنه معرض - كذا أخرج ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على المنهي - أو نصب بإضمار أن أى ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام - قال مجاهد يعنى لا تخاصم وأنت ظالم وقال ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة فيجحد المال ويخاصم به إلى الحاكم ليحلف كاذبا - وقال الكلبي هو ان يقيم الشهادة الزور - قلت واللفظ يعم ذلك كله لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أى بما يوجب الإثم كالشهادة الزور واليمين الكاذبة أو متلبسين « 1 » بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) انكم مبطلون بخلاف الحكام فانهم لا يعلمون بحقيقة الحال
_________
(1) فى الأصل متلبسين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 210(1/390)
و انما يحكمون بالظاهر فالحاكم ان حكم على حسب الشرع من غير ميل إلى أحدهما فهو مأجور وان كان المحكوم له اثما وبهذا يظهران قضاء القاضي لا يحل حراما عن أم سلمة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال انما انا بشر وأنتم تختصمون الىّ ولعل بعضكم ان يكون الحسن بحجته من بعض فاقضى له على نحو ما اسمع منه فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذنه فانما اقطع له قطعة من النار - رواه الشافعي عن مالك وفي الصحيحين نحوه وقال أبو حنيفة رحمه اللّه فى حرمة المال على المبطل بنحو ما قالوا غير انه يقول - قضاء القاضي في العقود والفسوخ ينفذ ظاهرا وباطنا خلافا للجمهور احتج أبو حنيفة بما روى ان شاهدين شهدا عند على عليه السلام على امراة بالنكاح فقضى به فقالت المرأة انه لم يكن بيننا نكاح فان كان ولا بد فزوجنى منه فقال على عليه السلام - شاهداك زوجاك - واللّه اعلم.(1/391)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الانصاريين قالا يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلى نورا ثم يعود دقيقا كما بدا لا يكون على حال واحد - كذا ذكر البغوي - وأخرجه أبو نعيم وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق السدى الصغير عن ابن عباس - واخرج ابن أبى حاتم من طريق العوفى عنه قال سال الناس عن الاهلة فنزلت - واخرج ابن أبى حاتم عن أبى العالية قال - بلغنا انهم قالوا يا رسول اللّه لم خلقت الاهلة فنزلت قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ - ان كان السؤال عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل امره فقد طابق الجواب السؤال حيث امر اللّه سبحانه بان يجيب بان الحكمة الظاهرة في ذلك ان يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم ومعالم للعبادات الموقتة كالحج والصوم وغير ذلك يعرف بها أوقاتها - وان كان السؤال عن علة تبدل احوال القمر وهو الظاهر فهو جواب على اسلوب الحكيم تنبيها بان اللائق بحال السائل ان يسئل بالفائدة دون العلة إذ لا فائدة في ذلك السّؤال إذ حينئذ يلزمه الاشتغال بما لا يعنيه وهذا يدل على ان الاشتغال بالعلوم الغريبة كالهيئة والنجوم وغير ذلك مما ليس فيه فائدة دينية معتدة بها لا يجوز والمواقيت جمع ميقات اسم فمعز الدولة من الوقت والمراد به ما يعرف به اوقات الحج والصوم وآجال الديون وانقضاء العدة وغير ذلك -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 211(1/392)
وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي البيوت « 1 » والعيون والشيوخ وابن عامر وحمزة والكسائي جيوبهن وحمزة وأبو بكر الغيوب بكسر اوائلهن لمكان الياء والباقون بالضم على الأصل مِنْ ظُهُورِها روى البخاري عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فانزل اللّه الآية - واخرج ابن أبى حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب فى الإحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام فبينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا يا رسول اللّه ان قطبة رجل فاجر وانه خرج معك من الباب فقال ما حملك على ما فعلت.(1/393)
قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال انى رجل احمسى قال فان دينى دينك فانزل اللّه - واخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه - واخرج عبد بن حميد عن قيس بن جبير نحوه ولكن فيه رفاعة بن نابوت مكان قطبة بن عامر - وذكر البغوي انه دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم بيتا لبعض الأنصار فدخل رفاعة على اثره من الباب الحديث - وقال الزهري كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شىء وكان الرجل يخرج مهلّا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغ ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على اثره من الأنصار من بنى سلمة الحديث - ووجه العطف وعدم الفصل اما انهم سالوا الامرين معا في حادثة واحدة - أو انه لما سالوه عما لا يعنونه ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنونه ويختص بعلم النبوة عقب بذكره كانّه قال اللائق ان يسئلوا أمثال ذلك - ويمكن ان يقال السؤال عن حقائق الممكنات على وجه لا يفيد يشبه دخول البيت من ظهرها فان الخوض في العلوم بمنزلة الدخول في البيت فكما ان الموضوع
_________
(1) البيوت قراء قالون وابن كثير وابن عامر أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف والعيون والشيوخ قراهما ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي جيوبهن قراه ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي الغيوب إلخ - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 212(1/394)
لاجل الدخول في البيت انما هو الباب ليستمتع بمنافع البيت كذلك الموضوع للخوض والتفكر في الحقائق وجوه منافعها والاستدلال على صانعها دون افعال النفس فيما لا يجد به من مسائل الهيئة وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى قد مرّ وجه الحمل واختلاف القراء فيما سبق وَأْتُوا الْبُيُوتَ فى حالة الإحرام مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما حرم عليكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) لكى تفوزوا بالبر أخرج الواحدي عن أبى صالح عن ابن عباس لما صد النبي صلى اللّه عليه وسلم عن البيت عام الحديبية ثم صالحه المشركون على ان يرجع عامه « 1 » ويأتى القابل - فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ان لا يفىء قريش بذلك وان يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام فانزل اللّه تعالى.(1/395)
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طاعة اللّه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى الذين يتوقع منهم القتال وَلا تَعْتَدُوا بقتل النساء والصبيان والشيوخ الكبار والرهبان ومن القى إليكم السلم - عن بريدة رضى اللّه عنه قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث جيشا قال اغزوا باسم اللّه وفي سبيل اللّه قاتلوا من كفر باللّه لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا امراة ولا وليدا ولا شيخا كبيرا - رواه البغوي وروى مسلم في حديث طويل وفيه ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا - وعن عبد اللّه بن عمر قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان - متفق عليه وعن انس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال انطلقوا بسم اللّه وعلى ملة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امراة ولا تغلوا وضموا غنائكم وأصلحوا وأحسنوا ان اللّه يحب المحسنين - رواه أبو داود فعلى هذا التأويل الآية محكمة غير منسوخة وهو قول ابن عباس ومجاهد - وقيل كان في ابتداء الإسلام امر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالكف عن قتل المشركين ثم لمّا هاجر إلى المدينة امره بقتال من قاتلهم منهم بهذه الآية قال الربيع هذه اوّل اية نزلت في القتال ثم امر بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله تعالى وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً - فحينئذ معنى قوله تعالى وَلا تَعْتَدُوا أى لا تبدوهم بالقتال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) أى لا يريد بهم الخير.
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ قال مقاتل بن حبان هذه الآية منسوخة
_________
(1) فى الأصل على الا يرجع عامة القابل 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 213(1/396)
بقوله تعالى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ - قلت بل هى مخصصة لاجل اقترانهما مثل قوله تعالى أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا إذا الناسخ انما يكون متراخيا - الثقف الحذق بالشيء في إدراكه علما كان أو عملا فهو يتضمن معنى الغلبة فالمعنى حيث تمكنتم على قتلهم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعنى من مكة وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح وَالْفِتْنَةُ يعنى شركهم باللّه تعالى وصدهم إياكم عن المسجد الحرام أَشَدُّ أعظم وزرا عند اللّه مِنَ الْقَتْلِ أى قتلكم إياهم ومن ثم اباحه اللّه تعالى لكم كذا أخرج ابن جرير عن مجاهد والضحاك وقتادة والربيع وابن زيد وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعنى في الحرم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فى الحرم فَاقْتُلُوهُمْ فيه - قرأ حمزة والكسائي ولا تقتلوهم حتّى يقتلوكم فان قتلوكم بغير الف فيهن من القتل على معنى ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم يقول العرب قتلنا بنوا فلان يعنى قتل بعضنا وقرا الباقون بالألف - قيل كان هذا في ابتداء الإسلام كان لا يحل بدايتهم بالقتال فى البلد الحرام ثم صار منسوخا بقوله تعالى وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ هذا قول قتادة وقال مقاتل نسخها اية السيف في براءة والحق عندى ان هذه الآية محكمة ولا يجوز ابتداء القتال في الحرم وبه قال مجاهد وجماعة - ويؤيده ما رواه الشيخان عن ابن عباس وابى هريرة قالا قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ان هذا البلد حرمه اللّه يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة وانه لن يحل القتال فيه لاحد قبلى ولم يحل لى الا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده الحديث - وعن جابر مرفوعا لا يحل لاحدكم ان يحمل بمكة السلاح رواه مسلم كَذلِكَ جَزاءُ(1/397)
الْكافِرِينَ (191) يفعل بهم مثل ما فعلوه.
فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال والكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لهم ما قد سلف رَحِيمٌ (192) بالعباد.
وَقاتِلُوهُمْ يعنى المشركين حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أى شرك وفساد وَيَكُونَ الدِّينُ الطاعة والعبادة لِلَّهِ وحده ولا يعبد غيره عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا الله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه ويقيموا الصلاة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 214
و يؤتوا الزكوة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماؤهم وأموالهم الا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه تعالى - متفق عليه ولا دليل في هذه الآية على ان الوثني لا يقبل منه الا الإسلام فان أبى قتل كما قال البغوي إذ لا فرق بين الوثني والمجوسي والكتابي فان الدين عند اللّه الإسلام والفتنة كما يكون بالوثنى يكون بالكتابي والمجوسي أيضا وينتهى منهما بالانقياد وقبول الجزية ولو لا قوله تعالى حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ لما قبل من أحد منهم الجزية - ثم لما ثبت أخذ الجزية عن أهل الكتاب بهذه الآية مع كونهم على الدين الباطل ثبت أخذ الجزية عن المجوسي والوثني أيضا بالقياس عند أبى حنيفة رحمه اللّه خلافا لغيره وسنذكر مسئلة الجزية فى سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك أو الحرب بإعطاء الجزية فَلا عُدْوانَ الفاء الأول للتعقيب والثانية للجزاء أى لا سبيل إلى القتل والاسر والنهب إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) أى على الذين بقوا على الشرك والحرب كذا قال ابن عباس في تأويل العدوان كما في قوله تعالى أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أو يقال سمى جزاء العدوان عدوانا للمشاكلة كما في قوله تعالى.(1/398)
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ قلت ويحتمل ان يقال فى التأويل فان انتهوا فلا عدوان أى لا اثم العدوان الا على الظالمين فانكم ان تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر - عن المقداد بن الأسود انه قال يا رسول اللّه ارايت ان لقيت رجلا من الكفار فاقتتلنا فضرب احدى يدى بالسيف فقطعها ثم لازمنى بشجرة فلما أهويت لا قتله قال لا الله الا اللّهء أقتله بعد ان قالها - قال لا تقتله قال يا رسول اللّه انه قطع احدى يدى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقتله فان قتلته فانه بمنزلتك قبل ان تقتله وأنت بمنزلته قبل ان يقول كلمة التي قال - متفق عليه واخرج ابن جرير عن قتادة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه خرجوا معتمرين ومعهم الهدى في ذى القعدة سنة ست فصده المشركون بالحديبية فصالح أهل مكة على ان ينصرف عامه ذلك ويأتى من قابل فرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقضى عمرته في ذى القعدة سنة سبع واقام بمكة ثلث ليال وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه فانزل اللّه تعالى الشَّهْرُ الْحَرامُ يعنى ذى القعدة اللاتي دخلتم بمكة فيه وقضيتم عمرتكم بِالشَّهْرِ الْحَرامِ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 215(1/399)
الذي صددتم فيه وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ والقصاص المساواة يعنى كل حرمة يجرى فيها القصاص والمساواة وقيل هذه الآية في محل التعليل لما سبق من قوله تعالى وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا - يعنى لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعمرة القضاء وخاف المسلمون ان لا يف المشركون بعهدهم ويصدوهم عن البيت كما فعلوا في العام الماضي ويقع القتال في الحرم والإحرام والشهر الحرام فامرهم اللّه تعالى بالقتال وقال الشهر الحرام بالشهر الحرام يعنى ان هتكوا حرمة الحرم والشهر ويقاتلوكم فقاتلوهم فيه فانه قصاص لما فعلوا وهذا التأويل أوفق بالسياق حيث قال اللّه تعالى فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ في الحرم والشهر الحرام وأنتم محرمون فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ سمى الجزاء باسم الابتداء للمشاكلة وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما لم يرخص لكم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) فينصرهم ويصلح شأنهم - .(1/400)
وَ أَنْفِقُوا أموالكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى الجهاد وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ قيل الباء زائدة وعبر بالأيدي عن الأنفس وقيل فيه حذف أى لا تلقوا أنفسكم بايديكم يعنى باختياركم والإلقاء طرح الشيء وعدى بالى لتضمن معنى الانتهاء - والقى بيده لا يستعمل الا في الشر إِلَى التَّهْلُكَةِ أى الهلاك - قيل كل شىء يصير عاقبته إلى الهلاك فهو التهلكة وقيل التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه والهلاك ما لا يمكن الاحتراز عنه روى البخاري عن حذيفة قال نزلت هذه الآية في النفقة واخرج أبو داود والترمذي وصححه ابن حبّان والحاكم وغيرهم عن أبى أيوب الأنصاري رضى اللّه عنه قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصاري لما أعز اللّه الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا ان أموالنا قد ضاعت وان اللّه تعالى قد أعز الإسلام فلو أقمنا في أموالنا فاصلحنا ما ضاع منها - فانزل اللّه تعالى يردّ علينا ما قلنا فكانت التهلكة الاقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو - قلت المعنى انكم لو تركتم الغزو يغلب عدوكم عليكم فتهلكون - قال البغوي فما زال أبو أيوب رضى اللّه عنه يجاهد في سبيل اللّه حتى كان اخر غزوة غزاها بقسطنطنية فاستشهد ودفن في اصل سور قسطنطنية وهم يستسقون به وروى عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مات ولم يغز ولم يحدث
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 216(1/401)
نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق - وقال بعضهم نزلت الآية في البخل وترك الانفاق فى سبيل اللّه وهو قول حذيفة والحسن وقتادة وعكرمة وعطاء وبه قال ابن عبّاس أخرج الطبراني بسند صحيح عن أبى جبيرة بن الضحاك قال كانوا « 1 » يتصدقون ويعطون ما شاء اللّه فاصابتهم سنة فامسكوا فانزل اللّه تعالى هذه الآية - وقال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني الإلقاء إلى التهلكة القنوط من رحمة اللّه - كذا قال أبو قلابة أخرج الطبراني بسند صحيح عن النعمان بن بشير قال كان الرجل يذنب الذنب فيقول لا يغفر اللّه لى فانزل اللّه تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وله شواهد عن البراء أخرجه الحاكم وَأَحْسِنُوا أعمالكم وأخلاقكم وتفضلوا على المحاويج اعلم ان الإحسان يكون في العبادات ويكون في المعاملات اما الذي في العبادات فما في الصحيحين في حديث طويل عن عمر بن الخطاب قال قال يعنى جبرئيل أخبرني عن الإحسان قال عليه السلام ان تعبد اللّه كانك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك يعنى بالحضور والخشوع - واما الذي في المعاملات فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك - رواه احمد عن معاذ وقال المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده رواه اصحاب السنن عن أبى هريرة ورواه احمد عن عمرو بن عنبسة في جواب اىّ الإسلام أفضل وقال ان من احبّكم الىّ أحسنكم أخلاقا - رواه البخاري عن عبد اللّه بن عمرو وفي الصحيحين بلفظ من خياركم أحسنكم أخلاقا - وقال ان اللّه تعالى كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فاحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فاحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته - رواه مسلم عن شداد بن أوس إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195).(1/402)
وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ هذه الآية حجة على وجوب الحج والعمرة ووجوب إتمامهما وعدم جواز فسخ الحج بالعمرة - اما وجوب الحج فقد انعقد الإجماع على انه فرض محكم على الأعيان وهو أحد اركان الإسلام قال اللّه تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنى الإسلام على خمس شهادة ان لا الله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه واقام الصلاة وإيتاء الزكوة والحج وصوم رمضان - متفق عليه وفي الباب أحاديث كثيرة - واما وجوب العمرة فهو مذهب احمد وبه قال الشافعي في أصح قوليه وهو مروى عن
_________
(1) فى الأصل كانت 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 217(1/403)
ابى حنيفة رحمهم اللّه وقال مالك العمرة سنة وهو المشهور من مذهب أبى حنيفة وأحد قولى الشافعي وتأويل الآية عندهم انها تجب بالشروع كالحج بالإجماع - ويدل على ما قال به احمد قراءة علقمة وابراهيم النخعي واقيموا الحجّ والعمرة للّه وهى قراءة على عليه السّلام أخرجه ابن جرير وابن ماجة وابن حبان ومن الأحاديث ما رواه ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان والحاكم في كتابه المخرج على صحيح مسلم عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب حديث تعليم جبرئيل وفيه قال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال ان تشهد ان لا الله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه وان تقيم الصلاة وتؤتى الزكوة وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان - وهذه الزيادة يعنى قوله وتعتمر وان لم يذكر في الصحاح لكن رواه الثقات وحكم الدارقطني عليه بالصحة وذكره أبو بكر الجوسعى فى كتابه المخرج على الصحيحين فهى مقبولة ومنها حديث عائشة قالت يا رسول اللّه على النساء جهاد قال عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة - رواه ابن ماجة ومنها أحاديث اخر ضعاف لم نذكرها - واثار الصحابة قال الضبي بن معبد لعمر رايت الحج والعمرة مكتوبتين علىّ فاهللت بهما فقال عمر هديت سنة نبيك - أخرجه أبو داود وقال ابن عمر ليس في خلق اللّه أحد الا عليه حج وعمرة واجبتان من استطاع إليه سبيلا - رواه ابن خزيمة والدارقطني والحاكم وسنده صحيح وعلقه البخاري - واثر ابن عباس رواه الشافعي وعلقه البخاري - واحتج القائلون بكونها سنة بأحاديث منها حديث جابر بن عبد اللّه اتى أعرابي فقال يا رسول اللّه أخبرني عن العمرة أ واجبة هى فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا وان تعتم خير لك - رواه الترمذي واحمد والبيهقي من رواته الحجاج بن ارطاة وهو مدلس متروك تركه ابن مهدى والقطان ويحيى بن سعين واحمد بن حنبل وابن المبارك والنسائي لكن قال الذهبي صدوق وقال الترمذي(1/404)
الحديث حسن صحيح - ورواه البيهقي من طريق اخر وفيه يحيى بن أيوب قال احمد سيىء الحفظ وقال أبو حاتم لا يحتج به لكن قال ابن معين صالح وقال ابن عدى صدوق قلت وتعارض هذا الحديث ما روى عن جابر مرفوعا الحج والعمرة فريضتان أخرجه ابن عدى من طريق ابن لهيعة لكن ابن لهيعة ضعيف - ومنها حديث أبى امامة مرفوعا من مشى إلى صلوة مكتوبة فاجره كحجة ومن مشى إلى صلوة تطوع فاجره كعمرة - رواه الطبراني
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 218(1/405)
من طريق يحيى بن الحارث - ومنها حديث عبد اللّه بن قانع عن أبى هريرة مرفوعا الحج جهاد والعمرة تطوع - ورواه الشافعي عن أبى صالح الحنفي مرسلا وحديث طلحة بن عبد اللّه وابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي قال الدارقطني عبد اللّه بن قانع كان يخطئ وقال الترقانى ضعيف لكن قال الشيخ تقى الدين هو من كبار الحفاظ - وأبو صالح الحنفي اسمه ماهان ضعفه ابن حزم لكن قال ابن همام تضعيفه ليس بصحيح وثقه ابن معين وروى عنه جماعة وفي حديث طلحة عمرو بن قيس فيكلم فيه قال الحافظ اسناده ضعيف وحديث ابن عباس في سنده مجاهيل وفي الباب اثار الصحابة قال ابن مسعود الحج فريضة والعمرة تطوع رواه ابن أبى شيبة قال ابن همام كفى بعبد اللّه قدوة - واثر أبى هريرة مثل مرفوعه قال الدارقطني في مرفوعه الصحيح انه موقوف واثر جابر مثل مرفوعه فالتحقيق ان الأحاديث في الباب متعارضة وكذا الآثار قال ابن همام إذا تعارضا لا يثبت الوجوب بالشك وقال صاحب الهداية لا تثبت الفرضية مع التعارض - وقول صاحب الهداية اولى فان الفريضة تبتنى على القطع فالاولى ان يقال بالوجوب دون الفريضة عند التعارض احتياطا كيلا يلزم تكرار النسخ - واما عدم جواز فسخ الحج بالعمرة فمذهب الجمهور محتجين بهذه الآية خلافا لاحمد وله قصة حجة الوداع - ان النبي صلى اللّه عليه وسلم امر الصحابة وكانوا مهلين بالحج ان يفسخوا الحج ويجعلوها عمرة وقال اجعلوا اهلالكم بالحج عمرة الا من قلد الهدى - وشهد على هذا بضعة عشر حديثا صحيحا بحيث يزيل الشك ويوجب العلم منها حديث أبى موسى الأشعري قال بعثني النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى قومى باليمن فجئت(1/406)
و هو بالبطحاء فقال بما أهللت - قال أهللت كاهلال النبي صلى اللّه عليه وسلم قال هل معك من هدى قال لا فامرنى فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحللت ثم أهللت بالحج يوم التروية - فقدم عمر (يعنى في خلافته) فقال ان نأخذ بكتاب اللّه فان اللّه امر بالإتمام قال اللّه تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ - وان نأخذ بسنة النبي صلى اللّه عليه وسلم فانه لم يحل حتى نحر الهدى - وعن جابر قال قد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحلوا من إحرامكم بطواف البيت والصفا والمروة وقصروا ثم اقيموا حلالا الحديث - وحديث ابن عباس أمرهم ان يجعلوها عمرة - وحديث
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 219(1/407)
عائشة وحديث حفصة وفيه فما يمنعك يا رسول اللّه ان تحل معنا قال انى لبدت رأسى وقلدت هديى فلا أحل حتى انحر - وحديث ابن عمر وهذه الأحاديث الستة في الصحيحين - وحديث أبى سعيد الخدري عند مسلم - خرجنا نصرخ بالحج حتى إذا طفت بالبيت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اجعلوها عمرة الا من كان معه هدى - وحديث انس مرفوعا عند البخاري لو لا ان معنى الهدى لا حللت - وحديث البراء ورواه اصحاب السنن وحديث الربيع بن سبرة عن أبيه وغير ذلك سردناها في منار الاحكام - فان قيل أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ قطعى وتخصيص القطعي ونسخه بأحاديث الآحاد لا يجوز - قلت هذه الأحاديث بلغت حد الشهرة بحيث لا ينكر ثبوت هذه « 1 » الوقعة على ان قوله تعالى وأتموا الحج عام خص منه البعض بقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ - ثم أخرج النّبى صلى اللّه عليه وسلم من ذلك الحكم من فات حجه وأجاز له الخروج بافعال العمرة وعليه انعقد الإجماع فظهر ان الآية ظنى الدلالة جاز تخصيصه بخبر الآحاد قالوا فى جواب احتجاج احمد - ان ما احتججتم به كان مخصوصا بالصحابة دون غيرهم لحديث بلال بن حارث قال قلت يا رسول اللّه فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة قال بل لنا خاصة - رواه أبو داؤد والنسائي قال ابن الجوزي لا يروى ذلك غير عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال أبو حاتم لا يحتج به وقال احمد لا يصح حديث في ان الفسخ كان لهم خاصة - قلت ولو لا ما روى عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه قوله - متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانا احرمهما - يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانا احرمهما - يعنى اظهر حرمتهما التي ثبت عندى من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يندفع أحاديث فسخ الحج بحديث بلال المذكور فانه ضعيف في الظاهر لكن قول عمر يدل على صحة ذلك الحديث معنى وقد مر قول عمر(1/408)
في حديث أبى موسى الأشعري المتفق عليه انه قال في خلافته - ان نأخذ بكتاب اللّه الحديث وكذا اثر عثمان انه سئل عن متعة الحج قال كان لنا ليست لكم - رواه أبو داود بإسناد صحيح ولو لم يثبت عند عمر وعثمان اختصاص الفسخ بالصحابة لما خالفا امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولما احتج عمر بالآية الظنى الدلالة في مقابلة ما سمعا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امره بالفسخ المفيد للقطع في حقهما واللّه اعلم - والمراد بالمتعة في قول عمر وعثمان انما هو فسخ الحج بالعمرة دون التمتع بالعمرة إلى الحج الذي نطق به كتاب اللّه تعالى بحيث لا مرد له وانعقد عليه
_________
(1) فى الأصل هذا الوقعة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 220(1/409)
الإجماع كيف وقد قال عمر للضبىّ بن معبد حين قال أهللت بهما هديت سنة نبيك « 1 » أخرجه أبو داود ويؤيد حديث بلال اثر أبى ذر انه كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك الا للركب الذين كانوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رواه أبو داود وفي رواية عنه انما كانت المتعة لنا خاصة - قال ابن الجوزي اثر أبى ذر يرويه رجل من أهل الكوفة لم يلق أبا ذر قلت فهو مرسل والمرسل عندنا حجة واللّه اعلم - فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يعنى عن الحج أو العمرة التي أمرتم بإتمامها كما يقتضيه السياق والآية نزلت في قصة الحديبية باتفاق أهل النقل - وقد صح انه صلى اللّه عليه وسلم كان عام الحديبية محرما بالعمرة فاحصر فتحلل فهو حجة على مالك حيث يقول في رواية ان الإحصار خاص بالحج لا يجوز التحلل بالاحصار في العمرة - ومعنى أحصرتم أى منعتم من الوصول إلى البيت الحرام والمضي على الإحرام بعد ومسلم أو كافرا ومرض يمنعه من المضي أو هلاك نفقة - أو موت محرم للمرءة ونحو ذلك كذا فسر أبو حنيفة رحمه اللّه لان الإحصار والحصر في اللغة المنع باىّ سبب كان بل غالب استعمال الإحصار في الإحصار بالمرض ونحوه نقل عن الفراء والكسائي والأخفش وابى عبيدة وابن السكيت وغيرهم من أهل اللغة ان الإحصار بالمرض والحصر بالعدوّ وقال أبو جعفر النحاس على ذلك جميع أهل اللغة قلت المراد بقولهم الإحصار بالمرض والحصر بالعدو ان غالب الاستعمال هكذا - لا ان الإحصار خاص بالمرض حتى يرد عليهم ان الآية نزلت في قصة الحديبية ثبت ذلك في المتفق عليه من رواية جماعة من الصحابة - وقال الشافعي لا خلاف فى ذلك - وقال البغوي الحصر والإحصار بمعنى واحد يقول العرب حصرت الرجل عن حاجته فهو محصور واحصره العدوّ إذا منعه من السير فهو محصر - فالاية بعموم لفظه حجة لابى حنيفة على مالك والشافعي واحمد حيث قالوا لا حصر إلا حصر العدوّ - روى الشافعي هذا اللفظ بإسناد صحيح عن(1/410)
ابن عباس - وقالوا ان الآية نزلت فيه - قلنا العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص سبب النزول فان قيل سياق الآية يقتضى التخصيص حيث يقول اللّه تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ فان الامن يكون من الخوف
_________
(1) روى عن عمر انه قال - افصلوا بين حجكم وعمرتكم اجعلوا الحج في أشهر الحج واجعلوا العمرة في غير أشهر الحج أتم لحجك وعمرتك - قلت لعل هذا ما هو الأفضل عند عمر رضى اللّه عنه 12 منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 221(1/411)
قلنا هذا لا يدل على ان الإحصار لا يكون الا بالعدوّ بل يدل على ان الإحصار بالعدوّ أيضا إحصار كما في قوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ - وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ - فانه لا يدل على ان المراد بالمطلقات الرجعيات فقط بل يدل على ان الرجعيات أيضا داخلة في المطلقات - احتجوا على تخصيص الإحصار بالعدوّ بحديث عائشة قالت دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير فقال لها لعلك أردت الحج قالت واللّه ما أجدني الا وجعة فقال لها حجى واشترطى وقولى ان محلى حيث حبستنى متفق عليه - ولمسلم من حديث ابن عباس قصة ضباعة - ولابى داود والنسائي انها أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه انى أريد الحج فاشترط قال نعم قالت كيف أقول قال قولى لبيك اللهم لبيك محلى من الأرض حيث تحبسنى فان لك على ربك ما استثنيت - وصححه الترمذي وأعله بالإرسال قال العقيلي روى ابن عباس قصة ضباعة بأسانيد ثابتة جياد - وأخرجه ابن خزيمة من حديث ضباعة نفسها والبيهقي عن انس وجابر ولهذا قال احمد والشافعي لو اشترط جاز له التحلل بغير العدو - وصح القول بالاشتراط عن عمر وعثمان وعلى وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة وغيرهم من الصحابة - قال ابن الجوزي لو كان المرض يبيحها التحلل ما كان لاشتراطها معنى - قلنا حديث ضباعة من الآحاد لا يزاحم عموم الآية - وقيل الاشتراط منسوخ روى ذلك عن ابن عباس لكن فيه الحسن بن عمارة متروك - ووجه الجمع عندى ان حديث ضباعة محمول على الندب فمن خاف المرض أو غير ذلك يستحب له ان يشترط عند الإحرام حتى لا يلزمه خلف الوعد وان كان ذلك جائزا بعذر - ويؤيد قول أبى حنيفة حديث عكرمة عن حجاج بن عمرو الأنصاري انه صلى اللّه عليه وسلم قال من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي وزاد ابو(1/412)
داود في رواية اخرى عن عكرمة عن عبد اللّه بن رافع عن حجاج عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من عرج أو كسر أو مرض فذكر معناه قال الترمذي حديث حسن وذكر البغوي تضعيفه - قلت لا وجه للتضعيف الا انه قد اختلف فيه على يحيى بن كثير فاخرجه اصحاب السنن وابن خزيمة والدارقطني والحاكم من طرق - قال الحافظ الصواب عن يحيى عن عكرمة عن الحجاج وقال في آخره عن عكرمة فسالت أبا هريرة وابن عباس
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 222(1/413)
فقالا صدق - ووقع في رواية يحيى القطان وغيره في سياقه سمعت الحجاج وأخرجه أبو داود والترمذي من طريق معمر عن يحيى عن عكرمة عن عبد اللّه بن رافع عن الحجاج قال الترمذي وتابع معمرا على زيادة عبد اللّه بن رافع معاوية بن سلام وسمعت محمدا يعنى البخاري يقول رواية معمر ومعاوية أصح قلت وهذا لا ينافي صحة الحديث لأنه ان كان عكرمة سمعه من الحجاج بن عمرو فذاك والا فالواسطة بينهما عبد اللّه بن رافع ثقة وان كان البخاري لم يخرج له كذا قال الحافظ - قلت ويمكن ان عكرمة سمعه من الحجاج بلا واسطة وأيضا سمعه من عبد اللّه بن رافع عن حجاج واللّه اعلم ومذهبنا مروى عن ابن مسعود فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أى فعليكم ما استيسر أو الواجب ما استيسر أو اهدوا ما استيسر من الهدى من بدنة أو بقرة أو شاة والشاة أدناه - وهذه الآية حجة على مالك حيث قال لا يجب عليه الهدى ثم القائلون بوجوب الهدى اختلفوا فقال الشافعي في رواية إذا لم بجد الهدى يطعم بقيمة الشاة طعاما وان لم يجد ما ينفق يصوم عن كل مد من الطعام يوما قياسا على دم الجناية وقال أبو حنيفة وهو القول الثاني للشافعى انه لا يجوز الا الهدى لان نصب الابدال بالرأى لا يجوز ودم الإحصار ليس من باب دم الجناية - وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ - واختلفوا في تفسير محله فقال أبو حنيفة رحمه اللّه محله الحرم - قال اللّه تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ - ولان الاراقة لم يعرف قربة الا في زمان أو مكان فلا يقع قربة دونه فلا يقع به التحلل فالواجب عنده انّ المحصر يبعث الهدى إلى الحرم لا يجوز له الا ذلك ويعين يوما يذبح فيه(1/414)
و يحل المحصر في ذلك اليوم ولا يختص عنده للذبح يوم النحر وقال أبو يوسف ومحمد في الحج يختص الذبح بيوم النحر فلا حاجة إلى تعينه عندهما - وقال مالك والشافعي واحمد محله هو ذبحه بالموضع الذي أحصر فيه سواء كان في الحل أو في الحرم لحديث المسور بن مخرمة في قصة الحديبية قال فلما فرغ من قصة الكتاب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا فو اللّه ما قام رجل منهم حتى قال ذلك ثلاث مرات فلمّا لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقى من الناس فقالت أم سلمة يا نبى اللّه أ تحب ذلك أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 223(1/415)
فيحلقك - فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه فلما راوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما - رواه البخاري وروى يعقوب بن سفيان من طريق مجمع بن يعقوب عن أبيه قال لما حبس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا وبعث اللّه ريحا فحملت شعورهم فالقاها في الحرم - وذكر مالك فى المؤطا بلغه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية فنحروا الهدى وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شىء - قال مالك والشافعي والحديبية خارج الحرم - وأجاب عنه الحنفية بوجهين - أحدهما ان النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث هديه إلى الحرم مع ناجية بن جندب الأسلمي رواه الطحاوي بسنده عن ناجية - وكذا أخرج النسائي ثانيهما ان الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم روى الطحاوي بسنده عن المسور ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم وإذا كان كذلك فالظاهر انهم نحروا في الحرم - قلت وحديث ناجية شاذ مخالف للمشهور ولو ثبت فلعل النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث بعض هداياه إلى الحرم بعد ما نحر بعضها في الحل جمعا بين الروايتين - وأيضا قوله تعالى هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ دليل واضح على ان الهدى لم يبلغ محله وهو الحرم وعلى ان محله هو الحرم لا غيره فالاحسن ما ذكر - البخاري تعليقا عن ابن عباس انه ينحر المحصر حيث أحصر ان كان لا يستطيع ان يبعث به إلى الحرم وان استطاع يجب عليه ان يبعث فحينئذ معنى قوله تعالى وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ - ان استطعتم ذلك فهو عام خص منه البعض بفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم الثابت بالأحاديث المشهورة وبقوله تعالى وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً واللّه اعلم فان(1/416)
قيل روى أبو داود عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن ميمون قال سمعت أبا حاصر الحميرى يحدث أبا ميمون بن مهران قال خرجت معتمرا عاما « 1 » حاصر أهل الشام ابن الزبير بمكة وبعث معى رجال من قومى بهدى فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا ان ندخل الحرم فنحرت الهدى مكانى ثم أحللت ثم رجعت فلما كان من العام القابل خرجت لاقضى عمرتى فاتيت ابن عباس فسالته فقال أبدل الهدى فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امر أصحابه ان يبدلوا الهدى الذي نحروا عام الحديبية - فان هذا الحديث يقتضى ان
_________
(1) فى الأصل عام حاصر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 224(1/417)
النحر خارج الحرم لا يجوز ويقتضى الاعادة - قلت محمد بن إسحاق مختلف فيه وقد مرّ ذكره - والحديث ترك الامة كلهم العمل به ولم يقل به أحد - وهاهنا خلافيات منها ان الواجب على القارن عند أبى حنيفة رحمه اللّه دمان لاجل إحرامي الحج والعمرة وعند الجمهور دم واحد قالوا الإحرام واحد فيكفيه دم واحد وعموم قوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يؤيد قول الجمهور ومنها ان التحلل يحصل بنفس الإحصار أو بالذبح بعد الإحصار بنية التحلل أو بالحلق بعد الذبح مع نية التحلل الثالث قول الشافعي والجمهور لهم ان بالاحصار سقط مناسك الحج دون احكام الإحرام والحلق عرف محللا فلا يسقط وكونه موقتا بالحرم من حيث انه محلل ممنوع والحجة على وجوب الحلق أو القصر واولوية الحلق قوله صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية يرحم اللّه المحلقين قالوا يا رسول اللّه والمقصرين قال يرحم اللّه المحلقين قالوا والمقصرين فقال في المرة الثالثة والمقصرين رواه الطحاوي من حديث ابن عباس وابى سعيد - وقال أبو حنيفة ومحمد ان أحصر في الحرم يجب عليه الحلق وان أحصر في الحل فلا حلق لان الحلق لم يعرف عبادة الا في زمان أو مكان كذا في الكافي - وفي الهداية ان الحلق عندهما ليس بواجب والتحلل انما يحصل بالذبح وعند أبى يوسف يجب الحلق لان النبي صلى اللّه عليه وسلم امر بذلك عام الحديبية وان لم يفعل لا شىء عليه والتحلل يحصل بالذبح فقط وقال مالك التحلل يحصل بالاحصار والذبح ليس بواجب عليه والحجة عليه هذه الآية - احتج مالك بحديث جابر نحرنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة كل بدنة عن سبعة فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليشترك النفر في الهدى - رواه الدارقطني فان هذا الحديث مع ما رواه الشيخان عن جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم احرم بالعمرة سنة ست ومعه الف واربعمائة يدل على ان الهدى(1/418)
لا يجب على كل محصر والتحلل يحصل بمجرد النية دون الذبح لان سبعين بدنة لا يكفى الا لما دون خمسائة فبقى باقى الناس من لا هدى لهم قلت لعل باقى الناس ذبحوا غنما على ان هذا استدلال بحديث الآحاد في مقابلة القطعي من الكتاب فلا يقبل - والخلافية الثالثة ان المحرم بالعمرة أو بالحج النافلة إذا أحصر وحل بالذبح هل يجب عليه القضاء فقال مالك والشافعي واحمد لا يجب عليه القضاء وقال أبو حنيفة يجب عليه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 225(1/419)
ان حلّ من حج حج وعمرة - ومن عمرة عمرة ومن قران حج وعمرتان قضاء لما فات - قال البيضاوي - اقتصاره سبحانه تعالى في الآية على الهدى دليل على عدم القضاء - وقال ابن الجوزي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم احرم بالعمرة سنة ست ومعه الف واربعمائة كذا في الصحيحين ثم عاد في السنة الاخرى ومعه جمع يسير فلو وجب عليهم القضاء لنبههم على ذلك - وقد سبق إلى ذلك القول الشافعىّ حيث قال قد علمنا في متواطى أحاديثهم إذا اعتمر عمرة القضاء تخلف بعضهم من غير ضرورة ولو لزمهم القضاء لامرهم - فان قيل لو لم يكن القضاء واجبا فلم سميت عمرة القضاء أجيب بانه انما سميت عمرة القضاء والقضية للمقاضات التي وقعت بين النبي صلى اللّه عليه وسلم وبين قريش - روى الواقدي عن ابن عمر قال لم يكن هذه العمرة قضاء ولكن كان على شرط قريش ان يعتمر المسلمون من قابل في الشهر الذي صدوا فيه - لنا ان الأداء واجب بعد الشروع بالإجماع لقوله تعالى وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ولا حاجة في وجوب القضاء إلى نص جديد وقوله تعالى فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ لا يدل الا على رخصة التحلل بعذر الإحصار لا على سقوط القضاء فلا يسقط وما احتجوا به فجوابه من وجهين أحدهما انه لا نسلم انه عاد معه في السنة الاخرى جمع يسير - ولا نسلم انه لم يأمرهم بالقضاء - وقد روى الواقدي في المغازي عن جماعة من مشائخه قالوا لما دخل « 1 » ذو القعدة سنة سبع امر النبي صلى اللّه عليه وسلم ان يعتمروا قضاء لعمرتهم التي صدوا عنها ولا يتخلف ممن شهد الحديبية فلم يتخلف الا من قتل بخيبر أو مات وخرج معه ناس ممن لم يشهد الحديبية وكان عدد من معه من المسلمين الفين(1/420)
- وخبر الواقدي في المغازي مقبول إذا لم يخالف الاخبار الصحيحة - ثانيهما ان جزم الشافعي بان جماعة تخلفوا بغير عذر انما هو مبنى على زعم الراوي وشهادته على نفى العذر غير مقبول فمن تخلف عن الخروج لعله كان له عذر وانهم قضوا عمرتهم بعد ذلك ولنا أيضا حديث حجاج بن عمر الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من عرج أو كسر فقد حل وعليه الحج من قابل واللّه اعلم فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ أيها المحرمون مَرِيضاً بحيث يحوجه المرض إلى الحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ كجراحة أو قمل فحلق فَفِدْيَةٌ أى فالواجب عليه فدية وكذلك الحكم على من تطيب أو لبس المخيط بعذر قياسا على الحلق مِنْ صِيامٍ ثلثة ايام لأنه ادنى الجمع ولا يشترط فيها التتابع لاطلاق النص
_________
(1) فى الأصل ذى القعدة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 226(1/421)
أَوْ صَدَقَةٍ وهذا مجمل لحقه البيان من السنة روى البخاري عن كعب بن عجرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راه وقمله تسقط على وجهه فقال أ يؤذيك هوامّك قال نعم فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم انهم يحلون بها وهم على طمع ان يدخلوا مكة فانزل اللّه الفدية فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يطعم فرقا بين ستة مساكين أو يهدى شاة أو يصوم ثلثة ايام قلت والفرق ثلثة أصوع أَوْ نُسُكٍ جمع نسيكة أى ذبيحة أعلاها بدنة أوسطها بقرة أدناها شاة - وقوله من صيام بيان للفدية وكل هدى يلزم المحرم يذبح بمكة بالإجماع الا ما مر الخلاف في دم الإحصار فَإِذا أَمِنْتُمْ من الإحصار بان زال خوفكم من العدو أو كنتم مرضى فبرئتم منه وأنتم ما أحللتم من إحرامكم أو كنتم في سعة وأمن من الأصل فَمَنْ تَمَتَّعَ أى انتفع بالتقرب إلى اللّه تعالى بِالْعُمْرَةِ فى أشهر الحج منضما إِلَى الْحَجِّ من تلك السنة فحينئذ يشتمل نظم القرآن التمتع والقران وقيل معناه من استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام إلى ان يحرم بالحج وحينئذ لا يشتمل القرآن وعلى هذا التأويل لا معنى للباء في قوله تعالى بالعمرة فان الاستمتاع حصل بالارتفاق بمحظورات الإحرام لا بالعمرة فالتأويل الأول اولى لفظا من أجل الباء ومعنى حيث يجب الهدى على القارن أيضا بالإجماع فَمَا اسْتَيْسَرَ يعنى فالواجب عليه شكر النعمة التمتع ما استيسر مِنَ الْهَدْيِ أدناه شاة هذا مذهب أبى حنيفة واحمد رحمهما اللّه فيجوز له أكله لأنه دم شكر وقال الشافعي هو دم جبر لا يجوز للناسك الاكل منه - ولنا على جواز الاكل أحاديث منها حديث جابر الطويل قال فيه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا يعنى النبي صلى اللّه عليه وسلم وعلىّ من لحمها وشربا من مرقها وجه الاحتجاج انه صلى اللّه عليه وسلم كان قارنا ولما امر(1/422)
ان يجعل من كل بدنة ببضعة فاكل منها ثبت الاكل من هدى القرآن والتطوع بل ثبت استحباب الاكل والا لما امر ببضعة كل منها واستدل ابن الجوزي في الباب بما روى عبد الرحمن بن أبى حاتم في سننة من حديث على قال أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما نأكل وهذا اصرح في الدلالة احتج الشافعي على حرمة الاكل من مطلق الهدايا الواجبة بحديث ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال قلت يا رسول اللّه كيف اصنع بها عطب من البدن قال انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحه وخل بين الناس وبينه فليأكلوه - رواه مالك واحمد والترمذي
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 227(1/423)
و ابن ماجة وقال الترمذي حديث صحيح وفي رواية الواقدي ولا نأكل أنت ولا أحد من رفقتك منه شيئا دخل بينه وبين الناس - وكذا حديث ابن عباس قال بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ستة عشر بدنة مع رجل وامره « 1 » الحديث - وفيه ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك - رواه مسلم وكذا حديث ذويب مثله رواه مسلم قلت لا مساس لهذه الأحاديث بالقران والتمتع لأنه ليس شىء منها في حجة الوداع بل هى اما قصة الحديبية أو غير ذلك والنبي صلى اللّه عليه وسلم لم يحج بعدا هجرة سوى حجة الوداع فكيف يكون ذلك هدى تمتع بل هى هدى تطوع البتة ونحن نقول انه لا يجوز الاكل من هدى التطوع إذا عطب وذبحت فى الطريق واللّه اعلم ولا يجوز تقديم ذبح هدى التمتع قبل يوم النحر عنه أبى حنيفة والشافعي واحمد بل يجب ان بذبح بعد الرمي - وقال بعض أهل العلم يجوز قبل يوم النحر - لنا حديث حفصة قالت ما يمنعك يا رسول اللّه ان تحل معنا قال انى أهديت ولبدت ولا أحل حتى أنحر هديى - وقوله صلى اللّه عليه وسلم لو لا انى سقت الهدى لا حللت - وقد مر الحديثان « 2 » - ولو كان ذبح هدى القرآن جائزا قبل يوم النحر لما صح اعتذاره عن عدم التحلل لسوق الهدى - واللّه اعلم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدى فَصِيامُ يعنى فالواجب عليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ يعنى في إحرام الحج أخرها يوم عرفة ولو صام قبل(1/424)
ذلك في الإحرام جاز اجماعا ولا يجوز بعد ذلك لعدم الإحرام بعد ذلك على ان الصوم يوم النحر وايام التشريق حرام فلا يتادى به الواجب في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال هذان يومان نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم واليوم الاخر تأكلون فيه من نسككم - متفق عليه وكذا في المتفق عليه من حديث أبى سعيد وحديث أبى هريرة وغيرهم - وعن عمرو بن العاص انه قال لابنه في ايام التشريق انها الأيام التي نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صومهن وامر بفطرهن رواه أبو داود وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم - وروى مسلم عن كعب بن مالك مرفوعا ايام منى ايام أكل وشرب - وكذا عند مسلم عن بنشة الهذلي وحديث بشر بن سحيم مثله رواه النسائي بسند صحيح وحديث عقبة بن عامر رواه اصحاب السنن والحاكم وابن حبان بسند صحيح - وعند البزار عن عبد اللّه بن عمر مرفوعا ايام التشريق ايام أكل وشرب وصلوة فلا يصومها أحد - وفي الباب أحاديث كثيرة غيرها وقال مالك والشافعي واحمد المتمتع ان لم يجد الهدى ولم يصم قبل يوم النحر جاز له ان يصوم في ايام التشريق واما في يوم النحر فلا
_________
(1) فى الأصل امراة
(2) فى الأصل الحديثين -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 228(1/425)
يجوز اجماعا لحديث ابن عمر وعائشة قالا لم يرخص في ايام التشريق ان يصمن الا لمن لم يجد الهدى رواه البخاري - وروى البخاري عن ابن عمر رض قال الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى يوم عرفة فان لم يجد هديا ولم يصم صام ايام منى - قالوا هذا في حكم المرفوع - قلنا لا نسلم انه في حكم المرفوع ولعل ابن عمر وعائشة افتيا يجوز الصوم في ايام التشريق استنباطا من قوله تعالى ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ زعما منهما ان تلك الأيام أيضا من ايام الحج حيث يوجد بعض المناسك اعنى الرمي فيها - فان قيل ورد حديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدى ان يصوم ايام التشريق - وروى الطحاوي عن عائشة - وابن عمر نحوه قلنا في حديث ابن عمر يحيى بن سلام ليس بالقوى ضعفه الدارقطني والطحاوي - وأيضا فيه ابن أبى ليلى طعن الطحاوي فيه بفساد الحفظ وحديث عائشة أيضا ضعيف فكيف يصادم أحاديث النهى قال الطحاوي قد توارت الآثار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن الصيام وهو مقيم بمنى والحاج مقيمون بها وفيهم المتمتعون - قلت بل كانوا كلهم متمتعين أو قارنين فانه امر صلى اللّه عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة في تلك السنة ثم بالإحرام يوم التروية فائدة وتأويل الآية على قول مالك والشافعي واحمد صيام ثلثة ايام في اركان الحج أو ايام الحج قلت وهذا التأويل لا يصح فان اركان الحج لا يتصور ظرفا للصيام وايام الحج قد انتهت بعرفة كما سيجيئ ان المراد به بقوله تعالى.(1/426)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ شهران وتسعة ايام أو عشرة ليال إلى طلوع الصبح يوم النحر وأيضا قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ يستلزم ان لا يكون ايام التشريق فى الحج فانها ايام كل وشرب ورفث يعنى جماع ويجوز فيه الصيد وغير ذلك واللّه اعلم ومن قدر على الهدى في خلال الصوم أو بعده قبل الحلق يجب عليه الذبح خلافا لمالك والشافعي واحمد لنا انه قدر على الأصل قبل تادى الحكم بالخلف فصار كمن وجد الماء وهو يصلى بالتيمم وان وجد المهدى بعد الحلق وقد صام ثلثة ايام لا يجب الهدى عليه اتفاقا كمن وجد الماء بعد الصلاة بالتيمم - وان فاتت صوم الثلاثة في الحج تعين الدم - وقال مالك والشافعي يقضى تلك الثلاثة بعد الحج بناء على انه قضاء بمثل معقول - وقلنا ان الصوم بدل من الهدى والابدال لا ينصب الا شرعا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 229(1/427)
و لا يتصور الصوم ان يكون بدلا عن الهدى الا بخصوصيات منصوصة واللّه اعلم وَصيام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أى فرغتم من اعمال الحج عند أبى حنيفة رحمه اللّه واحمد رحمه اللّه - وقال مالك وهو قول للشافعى أى خرجتم من مكة قاصدين أوطانكم والمشهور من مذهب الشافعي وهو رواية عن احمد إذا رجعتم إلى أهلكم أى وصلتم إلى أوطانكم - قال الشافعي الرجوع هو الرجوع إلى اهله فلا يجوز قبل ذلك وقال مالك إذا خرج من مكة إلى اهله صدق انه رجع فجاز له الصيام قبل الوصول إلى الأهل وقال أبو حنيفة الرجوع هو الفراغ من الحج الم تر انه من توطن بمكة بعد الحج أو لم يكن له وطن جاز له الصيام بمكة اجماعا فكذا من كان له وطن غير مكة لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز واللّه اعلم تِلْكَ عَشَرَةٌ ذكره على سبيل التأكيد لئلا يتوهم ان الواو بمعنى أو وان يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا فان اكثر العرب لم يكونوا يحسنون الحساب كامِلَةٌ صفة مؤكدة - مفيد المبالغة في محافظة العدد ذلِكَ أى التمتع جائر لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فلا يجوز التمتع للمكى كذا قال أبو حنيفة رحمة اللّه وعند مالك والشافعي واحمد يجوز للمكى التمتع أيضا لكن لا يجب عليه الهدى قالوا المشار إليه بذلك الحكم بوجوب الهدى لنا ان اللام في قوله تعالى لِمَنْ لَمْ يَكُنْ وليل على تأويلنا لان اللام يستعمل فيما يجوز لنا ان نفعله ولذا قلنا في تقديره جاز ولو كان المشار إليه وجوب الهدى كان تقديره يجب فكان المناسب حينئذ كلمة على وما ذكرنا من التأويل مروى عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس رضى اللّه عنهم روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر انه سئل عن متعة الحج فقال ان اللّه أنزله في كتابه وسنة نبيه واباحه للناس غير أهل مكة قال اللّه تعالى ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ - وقال ابن همام صح عن عمر انه قال(1/428)
ليس لاهل مكة تمتع ولا قران - والمراد ب حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عند أبى حنيفة رحمه اللّه ان يكون دون الميقات وبه قال عكرمة وقال الشافعي كل من كان وطنه من مكة على اقل من مسافة السفر - وقال طاؤس وطائفة هم أهل الحرم لان المسجد غير مراد اجماعا فالمراد به الحرم كما في قوله تعالى هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ وقوله تعالى الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ - وقال مالك
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 230
المراد به أهل مكة بعينها - وبه قال نافع والأعرج واختاره الطحاوي من الحنفية واللّه اعلم فان تمتع المكي يجب عليه عند أبى حنيفة دم جبر لارتكابه المحظور وهذا لدم لا يقوم الصوم مقامه ولا يجوز المناسك الاكل منه وقال الشافعي وغيره لا يجب عليه شىء وَاتَّقُوا اللَّهَ فى أوامره ونواهيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) اعلم ان اللّه سبحانه ذكر في هذه الآية من المناسك الحجّ والعمرة وذكر أداء كل منهما مفردا وأوجب إتمامهما ثم ذكر أداءهما مجتمعا وهو التمتع - ثم ثبت بالسنة ان الجمع على وجهين - أحدهما ان يحرم بهما جميعا ويحل منهما جميعا وهو القرآن - ثانيهما ان يحرم بالعمر ولا ثم يحل بعد أداء العمرة ويسكن بمكة حلالا وذلك إذا لم يسق الهدى ثم يحرم يوم التروية للحج من مكة(1/429)
مفردا ويحل يوم النحر - ويسمى هذا عند الفقهاء تمتعا وكل ذلك جائز اجماعا لا خلاف فيه - انما الخلاف في انه أيها أفضل - وفي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم هل كان فارنا في حجة الوداع أو متمتعا أو مفردا - وفي ان القارن هل يكفيه طواف واحد وسعى واحد للحج والعمرة جميعا كما قال به الجمهور أو لا بد له من طوافين « 1 » وسعيين كما قال به أبو حنيفة وهذه أبحاث طويلة ذكرناها في منار الاحكام والتحقيق انه صلى اللّه عليه وسلم كان قارنا وان القرآن أفضل من التمتع ان ساق الهدى - والتمتع أفضل ان لم يسق الهدى وكل منهما أفضل من الافراد - وانه صلى اللّه عليه وسلم لما قدم مكة طاف وسعى بين الصفا والمروة ثم لم يقرب الكعبة بطوافه بها حتى رجع من عرفة رواه البخاري قلت وذلك الطواف والسعى كان لعمرته وكفاه عن طواف القدوم لحجه - وكان ذلك الطواف والسعى ماشيا - كما هو مصرح في حديث حبيبة بنت أبى تجراه وابن عمر وجابر عند مسلم وغيره ثم انه صلى اللّه عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة ثانيا بعد طواف الزيارة كما يدل عليه حديث جابر قال طاف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسئلوه رواه مسلم - وفي رواية طاف في حجة الوداع على راحلته يستلم الركن بمحجنه الحديث - هذا ما حصل لى بعد جمع الروايات المختلفة واللّه اعلم الْحَجُّ أى وقت الحج بل وقت إحرام الحج فان وقت اركان الحج انما هو يوم عرفة ويوم النحر لا غير أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أخرج الطبراني عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شوال وذو القعدة وذو الحجة - قلت المراد شوال وذو القعدة
_________
(1) فى الأصل طوافين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 231(1/430)
و تسع من ذى الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر - ويروى عن ابن عمر شوال وذو القعدة وعشر من ذى الحجة قال البغوي كل واحد من اللفظين صحيح والمال واحد غير مختلف فيه فمن قال عشر عبر عن الليالى ومن قال تسع عبر عن الأيام - وانما قال اشهد بلفظ الجمع لانها وقت والعرب تسمى الوقت تاما بقليله وكثيره - قال اللّه تعالى - سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وانما اسرى في بعض الليل - وهذا هو محمل لما روى عن عمر انه قال شوال وذو القعدة وذو الحجة - وقال عروة بن الزبير وغيره أراد بالأشهر شوالا وذا القعدة وذا الحجة كملا لأنه يبقى على الحاج امور بعد عرفة يجب عليه فعلها مثل الذبح والرمي والحلق وطواف الزيارة والمبيت بمنى ورمى الجمار في ايام التشريق فكانت في حكم الحج - قلت هذه الافعال كلها ينتهى إلى ثالث عشر من ذى الحجة فكيف يعد ذو الحجة بهذا التوجيه كاملا - وقال البيضاوي وذو الحجة كله من أشهر الحج بناء على ان المراد بالوقت عنده ما لا يحسن فيه غيره من المناسك وقال فان مالكا يكره العمرة في بقية ذى الحجة - قلت وهذا غير مستقيم فان العمرة في أشهر الحج للافاقى غير مكروه اجماعا - وقد اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اربع عمر كلها في ذى القعدة وكذا للمكى عند مالك والشافعي فان التمتع للمكى عندهما جائز كما ذكرنا - وهذه الآية حجة للشافعى حيث قال لا يجوز إحرام الحج قبل الأشهر وان احرم انعقد الإحرام للعمرة - وقال داود - من احرم للحج قبل الأشهر لغى ولا ينعقد أصلا - وقال أبو حنيفة ومالك واحمد ان احرم قبل الأشهر للحج انعقد لكنه يكره - وجه قول أبى حنيفة ومن معه ان الإحرام شرط للحج ليس بركن ومن ثم جاز الإحرام مبهما ثم صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران يدل عليه حديث انس بن مالك قال قدم علىّ على النبي صلى اللّه عليه وسلم من اليمن فقال بما أهللت فقال بما أهل به النبي صلى اللّه(1/431)
عليه وسلم - وحديث أبى موسى قال أهللت كاهلال النبي صلى اللّه عليه وسلم - والحديثان في الصحيحين - وإذا ثبت انه شرط جاز تقديمه على الوقت كالوضوء للصلوة لكن فيه شبه بالأركان فإذا أعتق العبد بعد ما احرم قبل يوم عرفة لا ينادى فرضه - ولذا قلنا بالكراهة وإذا سمعت ان وقت إحرام الحج أشهر معلومات لا وقت الأركان فان وقت أركانه يومان فحسب فحينئذ الظاهر قول الشافعي فان الإحرام وان كان شرطا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 232(1/432)
للحج لا ركنا له والشرط وان جاز تقديمه على وقت المشروط لكن لا يجوز تقديمه على وقت نفسه - كما ان العشاء شرط لاداء الوتر فمن ادى العشاء قبل غروب الشفق لا يجوز وتره لا لأنه ادى العشاء قبل وقت الوتر بل لأنه ادلها قبل وقت نفسها واللّه اعلم فَمَنْ فَرَضَ أى أوجب على نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ يعنى احرم بالحج اختلفوا في ان الإحرام ما هو - فقال مالك والشافعي واحمد انما هو النية بانقلب كما في الصوم ولا يشترط فيه التلبية - الا ان مالكا قال التلبية عند الإحرام واجب يلزم بتركه دم وهى رواية عن احمد والشافعي والمشهور عنهما ان التلبية سنة - وقال أبو حنيفة الإحرام هو التلبية مع النية كالتكبير في الصلاة وهى رواية عن الشافعي - لنا ان القياس بالصلوة أشبه منه بالصوم - وروى عن ابن عباس في تأويل هذه الآية انه قال فرض الحج الإهلال - وقال ابن عمر التلبية - وروى ابن أبى شيبة قول ابن مسعود كقول ابن عمر - ولنا قوله صلى اللّه عليه وسلم يهل أهل المدينة من ذى الحليفة الحديث - متفق عليه من حديث ابن عمر وقوله صلى اللّه عليه وسلم في حديث عائشة من كان معه هدى فليهل بالحج مع العمرة امر بالإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية والأمر للوجوب فهو حجة على من لم يقل بوجوبه - ثم انه صلى اللّه عليه وسلم عبّر الإحرام بالإهلال فظهران الإحرام هو التلبية - لكن يقول أبو حنيفة - من قلد بدنة وتوجه معها يريد الحج فقد احرم وان لم يلب - جعل الفعل مكان القول فان الذكر كما يحصل بالقول يحصل بالفعل الا ترى انه من سمع الاذان للصلوة فمشى إلى الصلاة على(1/433)
الفور كان هذا المشيء مكان جواب الاذان فان اجابة الداعي بالفعل أقوى منه بالقول - وليس معنى التلبية الا الألباب والقيام إلى الطاعة واللّه اعلم - واستدل صاحب الهداية على ذلك بقوله صلى اللّه عليه وسلم من قلد بدنة فقد احرم - وهذا الزبير قال ابن همام وقفه ابن أبى شيبة في مصنفه على ابن عباس وابن عمر قلت لا مساس لهذين الأثرين بالمدعى لأنه كان مذهب ابن عباس وابن عمر انه من بعث إلى مكة هديا وهو لا يريد الحج فهو إذا قلد هديا يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى ينحر هديه بمكة وهو المراد بقول ابن عباس وابن عمر من قلد هديا فقد احرم وكذا روى عن غيرهما من الصحابة ثم انعقد الإجماع على خلاف ذلك - روى البخاري في صحيحه ان زياد بن أبى سفيان كتب إلى عائشة ان عبد اللّه بن عباس قال من اهدى هديا حرم عليه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 233(1/434)
ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه - فقالت عائشة ليس كما قال ابن عباس انا قتلت قلائد هدى النبي صلى اللّه عليه وسلم بيدي ثم فلذها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم بعث بها مع أبى فلم يحرم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شىء أحل اللّه له - قال الحافظ كان ذلك سنة تسع فلا يظن ظان انه كان أول الإسلام ثم نسخ فَلا رَفَثَ تقى بمعنى النهى يعنى فلا ترفثوا والرفث هو الجماع - وقال الزجاج هى كلمة جامعة لكل ما يريد الرجال من النساء - وقيل الرفث الفحش والقول القبيح قلت وذلك حرام ابدا لا وجه لتعليقه بالإحرام وَلا فُسُوقَ قال ابن عمر هو ما نهى عنه المحرم يعنى لا تركبوا محرمات الإحرام وهى ستة أشياء اجماعا - منها الرفث يعنى الوطي ودواعيه أفرده اللّه تعالى بالذكر لشدة امره فان الجماع يفسد الحج والعمرة اجماعا بخلاف غيره من المحظورات حيث يلزم بها الدم لكن إذا كان الجماع بعد الوقوف بعرفة ففى إفساده الحج خلاف ولا خلاف في حرمته - ومنها قتل صيد البر والاشارة إليه والدلالة عليه قال اللّه تعالى لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... - (1/435)
وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً - وسيجيئ البحث عنه في سورة المائدة ان شاء اللّه تعالى ومنها ازالة الشعر والظفر قال اللّه وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ - وقتل القمل المتولد من الوسخ ملحق بالشعر - ومنها استعمال الطيب في الثوب أو البدن قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تلبسوا شيئا مسّه زعفران أو ورس - متفق عليه عن ابن عمر - وهذه الأشياء عامة حرمتها للرجال « 1 » والنساء - ومنها ما اختص بالرجال وهو أمران لبس المخيط والخفين الا انه من لم يجد النعلين فيلبس الخفين ومن لم يجد الإزار فيلبس السراويل كذا في المتفق عليه من حديث ابن عباس وعن جابر نحوه وتغطية الرأس واما تغطية الوجه فيعم الرجال والنساء عند أبى حنيفة ومالك رحمهما اللّه وقال الشافعي واحمد بل يختص بالنساء لقول ابن عمر إحرام الرجل في راسه وإحرام المرأة في وجهها - رواه الدارقطني والبيهقي وقد روى مرفوعا ولا يصح ولحديث عثمان ابن عفان كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخمر وجهه وهو محرم رواه الدارقطني وقال الدارقطني الصواب انه موقوف - فى المؤطا عن الفراقصة انه راى عثمان بالعرج يغطى وجهه وهو محرم - ولنا حديث ابن عباس في قصة رجل - وقصته راحلته وهو محرم قال عليه الصلاة والسلام لا تخمروا رأسه ولا وجهه فانه يبعث يوم القيمة ملبيا - رواه مسلم والنسائي وابن ماجة والسابع ما اختلفوا في حرمتها في الإحرام وهو عقد النكاح فقال مالك والشافعي و
_________
(1) فى الأصل الرجال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 234(1/436)
احمد لا يجوز للمحرم ان يعقد النكاح لنفسه أو لغيره أو يؤكل النكاح غيره - وان ارتكب لا ينعقد - لحديث عثمان بن عفان عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المحرم لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب - رواه مسلم وأبو داود وغيرهما - وقال أبو حنيفة يجوز وينعقد لحديث ابن عباس قال تزوج النبي صلى اللّه عليه وسلم ميمونة وهو محرم وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف - متفق عليه وأجاب الجمهور بانه اختلف الرواية في نكاح ميمونة روى مسلم في صحيحه عن يزيد بن الأصم قال حدثتنى ميمونة بنت الحارث ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال وكانت خالتى وخالة ابن عباس - قالوا وحديث ميمونة نفسها أرجح فانها كانت اعرف بحالها عن ابن عباس ولو تعارضت الرواية في نكاح ميمونة بقي حديث عثمان سالما عن المعارضة - على ان حديث عثمان قولى وقصة ميمونة فعل منه عليه السلام يحتمل التخصيص به صلى اللّه عليه وسلم وكان للنبى صلى اللّه عليه وسلم في باب النكاح خصوصيات لم يكن لغيره - وقال ابن عباس الفسوق « 1 » هو المعاصي كلها والظاهر هو الأول فان ذلك لا يختص بالحج قرأ ابن كثير وأبو عمر وبالرفع والتنوين بابطال عمل لا بالتكرار في فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والباقون بالنصب من غير تنوين ونظيره في جواز الامرين لا حول ولا قوة الا باللّه وَلا جِدالَ قرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين والباقون بالنصب - كان أهل الجاهلية يقفون مواقف مختلفة كلهم يزعم ان موقفه موقف ابراهيم ويتجادلون فيه فبعضهم يقف بعرفة وبعضهم بالمزدلفة - وكان بعضهم يحج في ذى القعدة وبعضهم في ذى الحجة - وكل يقول ما فعلته هو الصواب فقال اللّه تعالى وَلا جِدالَ أى استقر امر الحج على ما فعله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلا اختلاف فيه يعنى لا تختلفوا فيه - وقال مجاهد معناه ولا شك في الحج انه في ذى الحجة فابطل النسيء قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا(1/437)
ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض الحديث متفق عليه من حديث أبى بكرة فِي الْحَجِّ خبر لما قبله وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به حث على الخير بعد النهى عن الشر وَتَزَوَّدُوا روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فإذا قدموا مكة سالوا الناس - وقال البغوي انما يفضى حالهم إلى النهب والغضب فانزل اللّه تعالى وتزوّدوا يعنى تزودوا ما تبلغون به وتكففون وجوهكم فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى
_________
(1) أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرفث التعرض النساء بالجماع والفسوق بالمعاصي والجدال جدال الرجل صاحبه عنه رحمه اللّه [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 235
اى ما يتقيكم عن السؤال والنهب ونحو ذلك وَاتَّقُونِ قرأ أبو عمر وبإثبات الياء وصلا فقط والباقون بالحذف وصلا ووقفا يا أُولِي الْأَلْبابِ (317) فان اقتضاء اللب خشية اللّه القريب الغالب - .(1/438)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا تطلبوا فَضْلًا عطاء ورزقا مِنْ رَبِّكُمْ بالتجارة ونحو ذلك في سفر الحج روى البخاري عن ابن عباس قال ثلاث كانت اسواقا في الجاهلية عكّاظ - ومجنة - وذو المجاذ فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فانزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فى مواسم الحج قال البغوي كذا قرأ ابن عباس واخرج احمد وابن أبى حاتم وابن جرير والحاكم وغيرهم من طرق عن أبى امامة التيمي قال قلت لابن عمر انا قوم نكرى في هذا الوجه يعنى إلى مكة فيزعمون ان لا حج لنا فقال أ لستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون قلت بلى قال أنت حاجّ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فساله عن الذي سالتنى عنه فلم يجب بشىء حتى نزل جبرئيل بهذه الآية فَإِذا أَفَضْتُمْ دفعتم والافاضة دفع بكثرة مِنْ عَرَفاتٍ جمع عرفة جمعت بما حولها وسميت بها وهى بقعة واحدة - وانما سمى الموقف عرفات واليوم عرفة لأنه نعت لابراهيم عليه السلام فلما أبصره عرفه أخرجه ابن جرير عن السدى - أو لأنه كان جبرئيل يدور به في المشاعر فلما أراه قال عرفت أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وعلى - وذكر البغوي قال عطاء وذكر البغوي أيضا انه قال الضحاك ان آدم عليه السلام لما اهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة فتعارفا - وقال السدى لمّا اذّن ابراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه امره اللّه ان يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الشجرة عند العقبة استقبله الشيطان يرده فرماه بسبع حصياة يكبر مع كل حصاة فطار فوقع على الجمرة الثانية فرماه وكبر قطار فوقع على الجمرة الثالثة فرماه وكبر فلما راى الشيطان انه لا يطيقه ذهب فانطلق ابراهيم حتى اتى ذا المجاز ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمى(1/439)
الوقت عرفة والموضع عرفات حتى إذا امسى ازدلف إلى جمع فسمى المزدلفة - وروى عن أبى صالح عن ابن عباس ان ابراهيم راى ليلة التروية في منامه انه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روّى يومه اجمع أى فكر أمن اللّه هذه الرؤيا أم من الشيطان فسمى اليوم يوم التروية ثم راى ذلك ليلة عرفة ثانيا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 236
فلما أصبح عرف ان ذلك من اللّه فسمى عرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وهو ما بين جبلى المزدلفة من مازمى عرفة إلى محسر وليس المازمان ولا المحسر من المشعر - سمى مشعرا من الشعار وهو العلامة لأنه من معالم الحج - واصل الحرام من المنع وهو في الحرم فهو ممنوع من ان يفعل فيه ما لم يؤذن فيه - وسمى المزدلفة جمعا لأنه يجمع فيه بين صلوتى العشاء. وعرفة كلها موقف إلا بطن عرنة - ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر بالإجماع لقوله صلى اللّه عليه وسلم - عرفة كلها موقف وارتفعوا من بطن عرفة والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا من بطن محسر - رواه الطبراني والطحاوي والحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا وقال صحيح على شرط مسلم - ورواه البيهقي موقوفا ومرفوعا وفي الباب عن جابر وجبير بن مطعم وابى هريرة وابى رافع وفي إسنادها مقال ورواه مالك في المؤطا بلاغا وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ كما علمكم أو كما هديكم هداية حسنة إلى المناسك وغيره يعنى اذكروه بالتوحيد لا كما كان الكفار يذكرونه بالشرك وما مصدرية أو كافة وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ أى قبل الهدى لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) أى من المشركين أو الجاهلين بالايمان والطاعة وان مخففة واللام هى الفارقة - وقيل ان نافية واللام بمعنى الا مثل إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ - .(1/440)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ - أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال كانت العرب تقف بعرفة - وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة فانزل اللّه - ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ - واخرج ابن المنذر عن اسماء بنت أبى بكر قالت كانت قريش تقف بالمزدلفة وتقف النّاس بعرفة الا شيبة بن ربيعة فانزل اللّه هذه الآية - قال البغوي كانت قريش وهم الحمس وحلفاوهم يتعظمون ان يقفوا مع سائر العرب بعرفات ويقولون نحن أهل اللّه ووطان حرمه فلا نخلف الحرم ولا نخرج منه - وسائر الناس يقفون بعرفات فإذا أفاض الناس من عرفات أفاض الحمس من المزدلفة فامرهم اللّه تعالى ان يقفوا بعرفات ويفيضوا منها إلى جمع مع سائر الناس وأخبرهم انه سنة ابراهيم وإسماعيل - فالمراد بالناس على هذه الروايات العرب كلهم غير الحمس - وقال الضحاك الناس هاهنا ابراهيم عليه السلام وحده كقوله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ وأراد به محمدا صلى اللّه عليه وسلم وحده وكذا في قوله تعالى قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ والمراد بالناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي - وقال الزهري الناس هاهنا آدم عليه السلام وحده دليله قراءة سعيد بن جبير ثمّ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 237(1/441)
أفيضوا من حيث أفاض النّاسى بالياء وهو آدم عليه السلام نسى عهد اللّه - وقيل معنى الآية ثمّ يعنى بعد افاضتكم من عرفات أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعنى من المزدلفة إلى منى والاول قول اكثر المفسرين لكن يشكل على الأول لفظ ثم لأنه مقدم على الوقوف بالمشعر الحرام فقيل ثم هاهنا بمعنى الواو - والاوجه ان كلمة ثم هاهنا لتفاوت ما بين الافاضتين رتبة فان الافاضة من عرفات فريضة ركن للحج اجماعا يفوت الحج بفواته بخلاف الوقوف بالمزدلفة فانه ليس بركن للحج اجماعا الا ما روى عن ليث وعلقمة فانهما قالا بركنيته - ونظيرها في القرآن فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا - فان مقتضى هذه الآية ان الايمان أعظم درجة من سائر الحسنات واللّه اعلم.(1/442)
ثم بعد ما اجمعوا على ان الوقوف بمزدلفة ليس بركن اختلفوا في انه واجب يجب بفواته الدم أو سنة فقال الشافعي رحمه اللّه سنة وقال الجمهور واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في القدر الواجب منه فقال أبو حنيفة الوقوف بمزدلفة بعد طلوع الفجر من يوم النحر واجب - وقال مالك المبيت بمزدلفة ليلة النحر ولو ساعة واجب - وقال احمد المبيت ما بعد نصف الليل واجب وهذه الآية حجة للقائلين بالوجوب على الشافعي فان قوله تعالى فَإِذا « 1 » أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ - يدل بعبارته على وجوب الوقوف بمزدلفة وبإشارته على وجوب الوقوف بعرفات فان سوق الكلام للامر بالذكر عند المشعر الحرام والافاضة من عرفات شرط له فهذا اولى بالوجوب فان قيل الذكر غير واجب اجماعا فالامر بالذكر انما هو للاستحباب فكيف يحتج به في الخلافية وهو وجوب الوقوف بمزدلفة قلنا الذكر عبارة عن طرد الغفلة وذلك كما يحصل بالقول باللسان يحصل بالعمل بالجوارح أيضا قال صاحب الحصين كل مطيع للّه ذاكر فالوقوف بمزدلفة بنية العبادة ذكر لا محالة وهو المامور به فهو واجب - ثم التلبية والدعاء وصلوة العشاءين والفجر لازم للوقوف وكل ذلك ذكر فيمكن ان يطلق اللازم ويراد به الملزوم كما في قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ يعنى صلوا ما تيسر - ويؤيد مذهبنا من السنة حديث عروة بن مضرس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - من شهد صلاتنا هذه يعنى الفجر يوم النحر بمزدلفة ووقف معنا حتى ندفع ووقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقدتم حجه - رواه اصحاب السنن الاربعة وابن حبان والحاكم وقال
_________
(1) فى الأصل إذا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 238(1/443)
صحيح على شوط كافة أهل الحديث - علق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تمام الحج به فهو دليل الوجوب - وروى النسائي الحديث المذكور بلفظ من أدرك جمعا مع الامام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج ومن لم يدرك مع الامام والناس فلم يدرك الحج - ولابى يعلى ومن لم يدرك جمعا فلا حج له - وهذا الحديث حجة لابى حنيفة في قوله الواجب الوقوف بعد الصبح - وأيضا في هذه الآية احتجاج لابى حنيفة على وجوب الوقوف بعد الصبح لان الوقوف بمزدلفة مرتب على الوقوف بعرفات بمقتضى هذه الآية والإجماع انعقد على ان وقت الوقوف بعرفات إلى اخر الليل فمن وقف بعرفة إلى آخر ليلة النحر ولو ساعة فقد أدرك الحج فحينئذ لا بد ان يكون وقت الوقوف يجمع بعد الصبح - وحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قال رايت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واقفا بعرفات فاقبل أناس من أهل نجد فسالوه عن الحج قال الحج يوم عرفة ومن أدرك جمعا قبل صلوة الصبح فقد أدرك الحج ايام منى ثلاثة ايام التشريق فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ - رواه الطحاوي وفي هذه الحديث حجة لمالك في وجوب المبيت بمزدلفة قبل الصبح لكن هذا الحديث رواه اصحاب السنن والحاكم والدارقطني والبيهقي بلفظ - الحج عرفة من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد ثم حجه وهذا الفظ لا يدل على الوقوف بمزدلفة والحجة لاحمد على وجوب المبيت بمزدلفة انه صلى اللّه عليه وسلم بات بمزدلفة ووقف بعد صلوة الصبح وقال - خذوا عنى مناسككم - فكان مقتضى هذا الاستدلال ان يكون المبيت والوقوف بعد الصبح كلاهما واجبين لكن لما رخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضعفة اهله في الرواح من مزدلفة إلى منى من اخر الليل ظهران الوقوف بعد الصبح غير واجب روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس انا ممن قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ضعفة اهله - وفي الصحيحين عن اسماء بنت(1/444)
ابى بكر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم اذن للظعن يعنى في الرواح إلى منى من الليل بعد غروب القمر - وفي الباب في الصحيحين عن ابن عمر وكذا في الصحيح عن أم حبيبة - قلنا الرخصة للضعفاء لا ينفى الوجوب عن الأقوياء - فان قيل مقتضى هذه الآية وجوب الوقوف بعرفة وكذا وجوب الوقوف بمزدلفة - وليس الوقوف بمزدلفة ركن فهم تقولون ان الوقوف بعرفة ركن قلنا بالإجماع على فوات الحج بفوات عرفة دون المزدلفة - وسند الإجماع قوله صلى اللّه عليه وسلم والحج عرفة - وحديث الآحاد يصلح سند الإجماع ولعل أهل الإجماع أخذوا ركنية عرفات من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه اعلم واختلفوا في وقت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 239(1/445)
الوقوف بعرفة فقال احمد وقته من طلوع الفجر الثاني يوم عرفة - وقال أبو حنيفة والشافعي بعد الزوال يوم عرفة - وقال مالك أول وقته من غروب الشمس ليلة النحر إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر اجماعا - احتج مالك بما مر من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلمي قوله صلى اللّه عليه وسلم من جاء قبل صلوة الصبح من ليلة جمع فقد تم حجه - ولاحمد حديث عروة بن مضرس وفيه واتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه - ولابى حنيفة والشافعي حديث جابر عند مسلم وغيره انه صلى اللّه عليه وسلم ركب إلى منى يوم التروية فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت « 1 » الشمس فامر بقبة من شعر فضرب له بنمرة فسار رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى اتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل حتى إذا لاغت الشمس امر بالقصوى فرحلت له واتى بطن الوادي الحديث - ولو كان وقت الوقوف قبل الزوال لبادر إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ولم ينزل فى قبته وأجيب بان ذلك يدل على الافضلية ولا يدل على انه من وقف قبل الزوال لا يجزيه - وكذا حديث سالم بن عبد اللّه ان عبد اللّه بن عمر جاء إلى الحجاج يوم عرفة حين زالت الشمس وانا معه فقال الرواح ان كنت تريد السنة فقال هذه الساعة قال نعم - واللّه اعلم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ على ما فعلتم في جاهليتكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أى فرغتم من اركان(1/446)
الحج ومناسكها وذلك يوم النحر بعد رمى جمرة العقبة والذبح والحلق والطواف والسعى اعلم ان اركان الحج الإحرام والوقوف بعرفة وطواف الزيادة بالإجماع وقال الشافعي السعى والحلق أيضا وقد مر بحث السعى وسنذكر بحث الحلق في سورة الحج ان شاء اللّه تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتكبير والتحميد والثناء عليه كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وذلك ان العرب كانوا إذا فرغوا من الحج وقفوا عند البيت فذكروا مفاخر ابائهم فامرهم اللّه تعالى بذكره فان اللّه تعالى مولى النعم إليهم والى ابائهم وهو خالقهم دون ابائهم فهو اولى بالذكر قال اللّه تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ - قال ابن عباس وعطاء معناه فَاذْكُرُوا اللَّهَ كذكر الصبيان الصغار الآباء - قلت وعلى هذا كان ذكر الأمهات اولى من الآباء أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً يعنى بل أشد ذكرا - وأشد اما مجرور معطوف على الذكر يعنى واذكروا اللّه ذكرا كذكركم أو كذكر أشد منه ذاكرية - أو على ما أضيف إليه يعنى كذكر قوم أشد منكم ذاكرية - واما منصوب بالعطف على ابائكم فحينئذ
_________
(1) فى الأصل طلع الشمس
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 240
ذكرا مصدر بمعنى المفعول يعنى - أو كذكركم أشد مذكورية من ابائكم - أو التقدير كونوا أشد ذكرا للّه منكم لابائكم فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يعنى من كان طمعه الدنيا فقط وهم المشركون المنكرون للبعث يقولون رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حذف المفعول الثاني ايماء على التعميم يعنى اتنا في الدنيا كل شىء أو كل ما تعطيناه آتناه في الدنيا - كان المشركون لا يسئلون في الحج الا الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) من نصيب.(1/447)
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً التنكير للتعظيم يعنى حسنة عظيمة هو اخلاص العمل للّه والعافية ويحتمل ان يراد به جنس الحسنة عموما والنكرة في الإثبات قد تعم بمصاعدة المقام والقرينة كما في قوله صلى اللّه عليه وسلم تمرة خير من جرادة يعنى كل تمرة خير من كل جرادة - فاعطاء التمرة في جزاء قتل الجرادة يكفى للمحرم فهذه الآية نظير ما ورد في السنة اللهم انى أسئلك من الخير كله عاجله واجله ما علمت منه وما لم اعلم وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وهى رضوان اللّه تعالى أو كل شىء من نعماء الاخرة وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) بالعفو والمغفرة روى البغوي بسنده عن انس رضى اللّه عنه قال راى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرخ فقال هل كنت تدعو اللّه بشىء أو تسئله إياه قال يا رسول اللّه كنت أقول اللهم ما كنت معاقبى به في الاخرة فعجله لى في الدنيا فقال سبحان اللّه لا تستطيعه أو لا تطيقه هلا قلت رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ وعنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يكثر ان يقول رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ - متفق عليه وعن عبد اللّه بن السائب انه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول فيما بين ركن بنى جمح والركن الأسود رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ - رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة - وروى أبو الحسن بن الضحاك عن انس رضى اللّه عنه قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو دعا بمائة مرة يفتح بها ويختم بها رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ولو دعا بدعوتين لجعلها أحدهما - وروى تقى بن مخلد عنه قال - (1/448)
كان في أول دعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي وسطه وفي آخره اللّهم اتنا في الدّنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النّار.
أُولئِكَ اشارة إلى القريق الثاني وقيل إليهما لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا سمى الدعاء كسبا لأنه من الأعمال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 241
وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) قال الحسن اسرع من لمح البصر وقيل معناه إتيان القيامة قريب فاطلبوا الاخرة - .(1/449)
وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهى ايام التشريق سميت معدودات لقلتهن كذا روى عن ابن عباس وغيره ويدل على ذلك قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ من ايام التشريق يعنى استعجل في النفر ونفر في ثانى ايام التشريق - اتفقوا على انه من لم ينفر ودخل عليه الثالث من ايام التشريق وجب عليه رمى ذلك اليوم واختلفوا في انه هل يعتبر دخول الليلة الثالثة من ليالى ايام التشريق أو الثالث من أيامها فقال الجمهور المعتبر دخول الليل فمن اقام بمنى حتى دخلت الليلة الثالثة لا يحل له النفر حتى يرمى الجمار في اليوم الثالث - وقال أبو حنيفة لا يجب ذلك حتى يصبح بمنى وله ان ينفر من الليل وإذا طلع الفجر لزمه الرمي - قال أبو حنيفة وقت الرمي انما هو النهار فمن نفر من الليل كان كمن سافر قبل وقت الجمعة - وقال غيره الليل وان لم يكن وقت المرمى فهو وقت للمبيت والمبيت بمنى واجب فبعد دخول الليل وجب المبيت فلا يحل النفر - واللّه اعلم فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فانه أخذ بالرخصة وَمَنْ تَأَخَّرَ فى النفر حتى يرمى اليوم الثالث فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وهو اولى وأفضل وفيه رد على أهل الجاهلية كان منهم من اثم المتعجل ومنهم من اثم المتأخر لِمَنِ اتَّقى أى هذه الاحكام لمن اتقى فانه هو المنتفع به - وقيل لمن اتقى ان يصيب في حجه شيئا مما نهاه اللّه عنه رجع مغفورا لا ذنب عليه سواء تعجل في النفر أو تأخر قال البغوي هذا قول على وابن مسعود رضى اللّه عنهما - ويؤيده من المرفوع قوله صلى اللّه عليه وسلم من حج للّه ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه - متفق عليه من حديث أبى هريرة وعنه في الصحيحين مرفوعا الحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة - وعن ابن مسعود قال - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفى الكبير خبث الحديد رواه الشافعي والترمذي وعن عمر ونحوه رواه احمد اعلم ان(1/450)
المقام بمنى ايام التشريق والمبيت بها في لياليها وكذا الرمي ليس بركن اجماعا لقوله تعالى فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ فان الترتيب والتعقيب يدل على المغائرة - واختلفوا فى وجوبها فقال احمد المبيت والرمي كلاهما واجبان - وقال مالك المقام والمبيت واجب والرمي سنة مؤكدة - وقال أبو حنيفة بالعكس وهو رواية عن احمد - وللشافعى قولان أحدهما كاحمد والثاني كابى حنيفة - وقال بعضهم انما شرع الرمي حفظا للتكبير فان ترك وكبر أجزأه حكاه ابن جرير
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 242(1/451)
عن عائشة وغيرها وهذا المذهب يوافق ظاهر الآية لكنه خلاف ما استقر عليه الإجماع احتج احمد بهذه الآية وقال هذه الآية يحتمل إيجاب الامرين وفعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم التحق بيانا لاجمالها وقد قال عليه السلام خذوا عنى مناسككم - وقال أبو حنيفة - المقصود بالمقام والمبيت هو الرمي بدليل ما رواه البخاري عن ابن مسعود انه رمى من بطن الوادي فقيل له ان نا ساير مونها من فوقها فقال والذي لا الله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة فان هذا القول اشارة إلى ان هذه الآية في الرمي لا غير - وما رواه عاصم بن عدى قال - أرخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة بمنى يرمون يوم النحر ثم - يرمون الغدو من بعد الغد ثم يرمون يوم النفر - رواه مالك وغيره وفي النسائي رخص للرعاء فى البيتوتة يرمون يوم النحر واليومين الذين بعده يجمعونهما في أحدهما - قال مالك تفسير الحديث انهم يرمون يوم النحر فإذا مضى اليوم الذي يلى يوم النحر رموا من الغد وذلك اليوم النفر الأول يرمون اليوم الذي مضى قضاء ثم يرمون ليومهم وجه الاحتجاج ان إيجاب قضاء الرمي دون المبيت دليل على وجوب الرمي مقصودا وعدم وجوب المبيت الا تبعا للرمى - قال احمد الترخيص في المبيت للرعاء للضرورة لا يدل على عدم الوجوب مطلقا بل يدل على الوجوب فان الرخصة لا يكون الا فيما هو واجب - والحجة لمالك انه قد روى عن عمر وابنه انهما كانا يكبران تلك الأيام خلف الصلوات وفي المجالس وعلى الفراش والفسطاط وفي الطريق ويكبر الناس بتكبيرهما ويتاولان هذه الآية - وجه الاحتجاج ان الذكر في ايام التشريق مطلقا سواء كان بمنى أو غيره ليس(1/452)
بواجب اجماعا بل هو مقيد بمنى يدل عليه قوله تعالى فَمَنْ تَعَجَّلَ يعنى في النفر الآية ولا شك ان المقام هناك بنية التقرب ذكر وانضمام الذكر اللساني اولى وأفضل فمحمل الآية هو المقام بمنى دون الرمي قلنا هذا لا ينافى ان يكون محمل الآية كلا الامرين المقام والرمي كما لا يخفى واللّه اعلم واعلم انه ثبت بالسنة وهو بيان لا جمال الآية ان الرمي يوم النحر في جمرة العقبة بسبع حصيات ووقته من طلوع الفجر يوم النحر عند أبى حنيفة ومالك - ومما بعد نصف الليل من ليلة النحر عند احمد والشافعي - ومن طلوع الشمس يوم النحر عند مجاهد والحجة لمجاهد حديث ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قدّم ضعفة اهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس - رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح - قلنا هذا محمول على الاستحباب ويدل على الجواز بعد الصبح قبل طلوع الشمس ما رواه الطحاوي بأسانيده عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعثه مع النقل وقال لا ترموا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 243(1/453)
الجمرة حتى تصبحوا « 1 » - وهو حجة لنا على الشافعي واحمد في عدم جواز الرمي قبل الصبح - وما احتج به الشافعي واحمد من حديث عائشة قالت أرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت - رواه الدارقطني حديث ضعيف في سنده لا ضحاك بن عثمان لينه القطان ثم هو محمول على انها « 2 » رمت قبل صلوة الفجر لا قبل طلوع الفجر فهو حجة لنا على مجاهد - واخر وقته عند أبى يوسف إلى الزوال لأنه صلى اللّه عليه وسلم رمى الجمرة - يوم النحر ضحوة - وعند الجمهور إلى الغروب لحديث ابن عباس قال كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يسئل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج - فساله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح ولا حرج - قال رميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج - رواه البخاري وغيره ومعنى قوله بعد ما أمسيت أى بعد الزوال إذ المساء يطلق على بعد الزوال وليس المراد بعد الغروب لان يوم النحر يطلق قبل الغروب لا بعده وفي بعض طرق الحديث صريح ان السؤال كان وقت الظهر - واخر وقته المكروه إلى طلوع الفجر من اليوم الحادي عشر لان النبي صلى اللّه عليه وسلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا رواه ابن أبى شيبة عن ابن عباس وهذا يدل على الجواز للمعذور وعلى الكراهة لغير المعذور والرمي فى ايام التشريق في ثلثة جمار الجمرة الدنيا والجمرة الوسطى والجمرة العقبة يرمى عند كل جمرة بسبع حصيات وأول وقتها في أول ايام التشريق يعنى يوم القرار « 3 » وثانيها يعنى يوم النفر الأول بعد الزوال اجماعا لما في حديث جابر وغيره - ثم لم يرم النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى زالت الشمس واخر وقته في كل يوم بلا كراهة إلى الغروب وللمعذورين إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني وذلك مع كراهة لغير المعذور لما مر انه صلى اللّه عليه وسلم رخص للرعاء ان يرموا ليلا وكذا في اليوم الثالث من ايام التشريق يوم النفر الاخر عند الجمهور وبه قال أبو يوسف و(1/454)
محمد غير انه لا يجوز الرمي بعد الغروب من ذلك اليوم اجماعا لان تلك الليلة ليست من ايام التشريق - وقال أبو حنيفة يجوز الرمي في ذلك اليوم قبل الزوال - ولم اطلع على دليل لهذا القول غير ما ذكر ابن همام عن ابن عباس انه قال إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حل الرمي والصدر - رواه البيهقي قال والانتفاخ الارتفاع - وفي سنده طلحة بن عمرو ضعفه البيهقي وابن معين والدارقطني وقال احمد متروك الحديث - وهل يشترط الترتيب بين الجمار في ايام التشريق فعند الجمهور الترتيب واجب وعند أبى حنيفة سنة - وجه قول الجمهور - ان كل شىء لا يدرك بالرأى فرعاية جميع الخصوصيات الواردة فيه واجب ولم ينقل فوات الترتيب - وقال أبو حنيفة لو كان الرمي
_________
(1) فى الأصل حتى يسبحوا
(2) فى الأصل انه
(3) فى الأصل يوم القر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 244(1/455)
فى الجمرات الثلاث نسكا واحدا كان مراعات خصوصياته واجبا لكن الرمي في كل جمرة نسك برأسه فلابد في كل واحد منها رعاية خصوصياته واما الترتيب بين المناسك العديدة فليس بشرط كما ان الترتيب بين الرمي والذبح والحلق ليس بشرط - قلت فكان القياس على قول أبى حنيفة ان ذلك الترتيب ان لم يكن شرطا لكن ليكن واجبا ينجبر بالدم كالترتيب بين الرمي والذبح والحلق ولم يظهر لى وجه الفرق بين المسألتين واللّه اعلم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) فيجازيكم على حسب أعمالكم وإخلاصكم واللّه اعلم قال البغوي قال الكلبي ومقاتل وعطاء كان الأخنس بن شريف الثقفي حليف بنى زهرة وسمى الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بنى زهرة عن قتال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر وكان يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيجالسه ويظهر الإسلام ويقول انى لاحبك ويحلف باللّه على ذلك - وكان منافقا وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدنى مجلسه فنزل.(1/456)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ أى يعظم في قلبك وتستحسنه قَوْلُهُ يعنى الأخنس كذا أخرج ابن جرير عن السدى - واخرج ابن أبى حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس قال لما أصيب السرية التي يعينها عاصم ومرثد بالرجيع قال رجلان من المنافقين - يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدوا رسالة صاحبهم فانزل اللّه وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بيعجبك يعنى يعجبك قوله في الحيوة الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الاخرة لما يعتريه الفضيحة أو متعلق بالقول أى قوله في معنى الدنيا من ادعاء المحبة واظهار الإسلام وَيُشْهِدُ اللَّهَ ذلك المنافق أى يحلف باللّه ويستشهده عَلى ما فِي قَلْبِهِ يعنى على ان ما فى قلبه مطابق للسانه فيقول واللّه انى بك مومن ولك محب وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) أى أشد الخصومة والجدال للمسلمين والخصام مصدر خاصمه خصاما - وقال الزجاج هو جمع خصم مثل بحر وبحار - والجملة حال من فاعل يشهد - عن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان ابغض الرجال إلى اللّه عز وجل الألد الخصم - قال قتادة هو شديد القسوة في المعصية جدل بالباطل يتكلم بالحكمة ويعمل بالخطيئة.
وَإِذا تَوَلَّى أى أدبر سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ روى ان الأخنس كانت بينه وبين ثقيف خصومة فبيّنهم ليلا فاخرق زروعهم وأهلك مواشيهم - وقال مقاتل خرج إلى الطائف مقتضيا مالا له على
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 245(1/457)
غريم فاحرق له كدسا وعقر له أتانا - والنسل نسل كل دابة والإنسان منهم وقال الضحاك معنى إذا تولى أى صار واليا ملكا سعى في الأرض بالفساد - وقال مجاهد في قوله تعالى إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ انه إذا ولى عمل بالعدوان والظلم فامسك اللّه المطر وأهلك الحرث والنسل وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه.
وَإِذا قِيلَ لَهُ للاخنس اتَّقِ خف اللّه أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ حملته الانفة وحميّة الجاهلية والتكبر بِالْإِثْمِ أى على الإثم يقال أخذته بكذا أى حملته عليه وألزمته إياه - أو الباء للسببية والمعنى أخذته العزة من أجل الإثم الذي في قلبه وهو الكفر فَحَسْبُهُ كفته جزاء - وعذابا جَهَنَّمُ علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف لنار وقيل معرّب وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) أى الفراش جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف يعنى جهنم - قال البغوي قال ابن مسعود ان من اكبر الذنب عند اللّه ان يقال للعبد اتق اللّه فيقول عليك بنفسك - وروى انه قيل لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه اتق اللّه فوضع خده على الأرض تواضعا للّه عز وجل.(1/458)
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي أى يبيع ويبذل في الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر نَفْسَهُ حتى يقتل نظيره قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية عن أبى امامة ان رجلا قال يا رسول اللّه اىّ الجهاد أفضل - قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر - رواه احمد وابن ماجة والطبراني والبيهقي - وابن ماجة عن أبى سعيد ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ - طلبا لرضائه كانّ مرضات اللّه ثمن يطلبها ببذل نفسه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) حيث ارشدهم لمثل هذه التجارة الرابحة - أخرج الحارث بن أبى اسامة في مسنده وابن أبى حاتم عن سعيد بن السيب قال اقبل صهيب مهاجرا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش لقد علمتم انى من ارماكم رجلا وايم اللّه لا تصلون الىّ حتى ارمى كل سهم معى في كنانتى ثم اضرب بسيفى ما بقي منه شىء ثم افعلوا ما شئتم وان شئتم وللتم على ما لى بمكة وخليتم سبيلى قالوا نعم - فلما قدم على النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة قال ريح البيع أبا يحيى ريح البيع أبا يحيى ونزلت هذه الآية واخرج الحاكم في المستدرك نحوه من طريق ابن المسيب عن صهيب نفسه موصولا واخرج أيضا من طريق حماد بن سلمة عن انس وفيه التصريح بنزول الآية فيه وقال صحيح على شرط مسلم - واخرج ابن جرير عن عكرمة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 246(1/459)
قال نزلت في صهيب بن سنان الرومي اخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوه فقال لهم صهيب انى شيخ كبير لا يضركم امنكم كنت أم من غيركم فهل لكم ان تأخذوا مالى وتذرونى ودينى ففعلوا - وسياق هذا الحديث - يخالف سياق ما سبق والاول هو الصحيح - وقيل نزلت الآية في سرية الرجيع ذكر ابن إسحاق ومحمد بن سعد وغيرهم ان بنى لحيان من هذيل بعد قتل سفيان بن نبيح الهذلي مشوا إلى عضل والقارة وهما حيان وجعلوا لهم فرائض على ان يقدموا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيكلموه فيخرج إليهم نفر من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام ويعلمونهم الشرائع قالوا فنقتل من أردنا ونسير بهم إلى قريش بمكة فنصيب بهم ثمنا فقدم سبعة نفر من عضل والقارة مقرين بالإسلام فقالوا يا رسول اللّه ان فينا الإسلام فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبيب بن عدى الأنصاري ومرثد بن أبى مرشد الغنوي وخالد بن بكير وعبد اللّه بن طارق وزيد بن الدثنة وامّر عليهم عاصم بن ثانت الأنصاري - وفي الصحيح البخاري عن أبى هريرة بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشرة عينا وامّر عليهم عاصم بن ثابت فغدروا بهم فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة رام وفي رواية فنفروا لهم من مائتى رجل - قلت لعل الرامي منهم مائة - فلما احسن بهم عاصم وأصحابه لجاءوا إلى فدقد وجاء القوم فاحاطوا بهم فقالوا لكم العهد والميثاق ان نزلتم ان لا نقتل منكم وانّا واللّه لا نريد قتلكم انما نريد نصيب شيئا من أهل مكة فقال عاصم اما انا فلا انزل في ذمة كافر اللهم انى احمى لك اليوم دينك فاحم لحمى اللهم اخبر عنا رسولك فاخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خبرهم يوم أصيبوا فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة وبقي خبيب وزيد وعبد اللّه بن طارق فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه فمنعه الدبر فسمى حمى الدبر فبعث اللّه سبحانه فسال الوادي فاحتمله فذهب به(1/460)
و كان عاصم قد اعطى اللّه العهد ان لا يمس مشركا ولا يمسه مشرك فبرّا اللّه قسمه واما زيد بن الدثنة وابن طارق وخبيب فاسروهم ثم خرجوا إلى مكة ليبيعوهم حتى انا كانوا بالظهر ان انتزع عبد اللّه بن طارق يده من القرآن ثم أخذ سيفه فرموه بالحجارة حتى قتلوه وقبره بالظهران وباعوا زيدا وخبيبا بمكة - قال ابن إسحاق وابن سعد اشترى زيدا صفوان بن امية (و اسلم بعد ذلك) ليقتله بابيه امية بن خلف فبعثه مع نسطاس مولى له (و اسلم بعد ذلك) إلى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 247
التنعيم ليقتله واجتمع من جمع قريش فيهم أبو سفيان حتى قدم ليقتل فقال أبو سفيان أنشدك اللّه يا زيد أ تحب ان محمدا عندنا بمكانك يضرب عنقه وانك في أهلك(1/461)
فقال واللّه ما أحب ان محمدا صلى اللّه عليه وسلم الان في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وانا جالس في أهلي فقال أبو سفيان ما رايت من الناس أحدا يحب أحدا كحب اصحاب محمد ثم قتله نسطاس - واما خبيب فابتاعه بنو الحارث حيث قتل خبيب الحارث يوم بدر فلبث خبيث عندهم أسيرا حتى اجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى لتستحد بها فاعارث فدرج بنى لها وهى غافلة فما راع المرأة إلا بخبيب قد اجلس الصبى على فخذه والموسى بيده فصاحت المرأة - فقال خبيب أ تخشين ان اقتله ما كنت لأفعل ذلك ان الندر ليس من شأتنا - فقالت بعد - واللّه ما رايت أسيرا خيرا من خبيب واللّه لقد وجدته يوما يأكل قطفا من عنب في يده وهو الموثق بالحديد وما كان بمكة من ثمرة الا كان رزقا رزقه اللّه ثم انهم خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا ان يصلبوا فقال لهم دعونى أصلي ركعتين فتركوه فكانّ خبيبا هو سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة فركع ركعتين ثم قال لهم لو لا ان تحسبوا ان مابى من جزع لزدتّ فقال اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا « 1 » ولا تبق منهم أحدا وإنشاء يقول (شعر) ولست أبالي حين اقتل مسلما على أى شق كان في اللّه مصرع وذلك في ذات الإله وان يشاء يبارك في أو ضال شلو؟؟ ممزع - فصلبوه حيا رواه البخاري فقال خبيب اللهم بلغ سلامى رسولك.(1/462)
و يقال كان رجل من المشركين يقال له سلامان أبو ميسرة معه رمح فوضعه بين ثدى خبيب فقال له خبيب اتق اللّه فما زاده ذلك الا عتوا وطعنه فابعده - فذلك قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ الآية - روى محمد بن عمرو بن مسلمة عن اسامة بن زيد سمعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول عليه السلام ورحمة اللّه وبركاته هذا جبرئيل يقرؤنى من خبيب السلام - فلما بلغ النبي صلى اللّه عليه وسلم الخبر قال لاصحابه أيكم يختزل « 2 » خبيبا من خشبته وله الجنة - فقال الزبير انا وصاحبى المقداد بن الأسود - فخرجا يمشيان بالليل ويكتمان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلا وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين فانزلا فإذا هو رطب يتثنى لم يتغير منه شىء بعد أربعين يوما ويده على جراحته ينض « 3 » دما اللون لون الدم والريح ريح المسك
_________
(1) بددي بكسر الباء جمع بدة وهى الحصة والنصيب أى اقتلهم حصصا مقسّمة لكل واحد حصته ونصيب ويروى بالفتح أى متفرقين في القتل واحدا بعد واحد من التبديد - نهاية جزرى منه رحمة اللّه -
(2) يختزل أى يقتطع ويذهب به ويتفرد به - نهاية منه - رح
(3) ينض وما أى ينبع يقال نضّ الماء من العين أى نبع (منه رحمه الله).
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 248(1/463)
فحمله الزبير على فرسه وسارا فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيبا فاخبروا قريشا فركب منهم سبعون فلما الحقوهما قذف الزبير خبيبا فابتلعه الأرض فسمى بليع الأرض وقد ما على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجبرئيل عنده فقال يا محمد ان الملائكة لتباهى بهذين من أصحابك - فنزل في الزبير والمقداد وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ حين شريا أنفسهما لانزال خبيب من خشبته واللّه اعلم أخرج ابن جرير عن عكرمة قال قال عبد اللّه بن سلام وثعلبة وابن يامين واسد وأسيدا بنى كعب - وسعيد بن عمرو وقيس بن زيد كلهم مؤمنى اليهود يا رسول اللّه يوم السبت يوم كنا نعظمه فدعنا فلنسبت فيه وان التوراة كتاب اللّه فدعنا فلتقم بها بالليل وكذا قال البغوي وقال وكانوا يكرهون لحوم الإبل وألبانها بعد ما اسلموا فنزلت.(1/464)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السلم بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة لذلك يطلق على المصلح والإسلام والمراد هاهنا الإسلام قرأ نافع وابن كثير والكسائي السّلم هاهنا بفتح السين والباقون بكسرها - وفي سورة الأنفال بالكسر أبو بكر والباقون بالفتح وفي سورة محمد صلى اللّه عليه وسلم بالكسر حمزة وأبو بكر والباقون بفتحها - وكآفّة اسم للجملة لانها تكف الاجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لانها تؤنث كالحرب - والمعنى استسلموا للّه وأطيعوه جملة ظاهرا وباطنا - قلت وذا لا يتصور الا عند الصوفية - أو المعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره - أو في شعب الإسلام وأحكامه كلها ولا تخلّوا بشىء منها - قال حذيفة بن اليمان في هذه الآية ان الإسلام ثمانية أسهم فعدّ الصلاة والصوم والزكوة والحج والعمرة والجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قال وقد خاب من لا سهم له - قلت انما ذكر ما ذكر على سبيل التمثيل والا فالمراد بالآية الامتثال بكل ما امر اللّه به والانتهاء عن كل ما نهى عنه أو يقال ان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يشتمل الجميع - فان الأمر بالمعروف يقتضى الإتيان به والنهى عن المنكر يقتضى الانتهاء عنه عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الايمان بضع وسبعون شعبة فافضلها قول لا الله الا اللّه وأدناها اماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الايمان - رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ قد مر اختلاف القراءة فيه الشَّيْطانِ يعنى إنارة من تحريم السبت وتحريم الإبل وغير ذلك بعد ما نسخ إِنَّهُ لَكُمْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 249
عَدُوٌّ مُبِينٌ
((1/465)
208) ظاهر العداوة عن جابر بن عبد اللّه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم حين أتاه عمر فقال انا نسمع أحاديث من يهود يعجبنا افترى ان نكتب بعضها - فقال « 1 » أ متهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية ولو كان موسى حيا ما وسعه الا اتباعى - رواه احمد والبيهقي في شعب الايمان.
فَإِنْ زَلَلْتُمْ يعنى زلت أقدامكم فلم تستقيموا على الإسلام مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الآيات والحجج الشاهدة على انه الحق فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه الانتقام حَكِيمٌ (209) لا ينتقم الا بحق ولا يمهل الا لحكمة فيه دفع توهم الناشي من الامهال.(1/466)
هَلْ يَنْظُرُونَ النظر بمعنى الانتظار يعنى ما ينتظرون إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ جمع ظلة وهى كلما اظلك مِنَ الْغَمامِ قال البغوي هو السحاب الأبيض الرقيق سمى غماما لأنه يغم أى يستر - وقال مجاهد هو غير السحاب ولم يكن الا لبنى إسرائيل في تيههم وقال مقاتل كهيئة الضباب ابيض - وقال الحسن في سترة من الغمام فلا ينظر إليه أهل الأرض وَالْمَلائِكَةُ قرأ أبو جعفر بالجر عطفا على الغمام أو يكون الجر للجوار والباقون بالرفع أى ويأتيهم الملائكة وَقُضِيَ الْأَمْرُ وجب العذاب للكفار والثواب للمؤمنين - وفزع من الحساب وذلك يوم القيامة واللّه اعلم - اجمع علماء أهل السنة من السلف والخلف ان اللّه سبحانه منزه عن صفات الأجسام وسمات الحدوث فلهم في هذه الآية سبيلان أحدهما الايمان به وتفويض علمه إلى اللّه تعالى والتحاشى عن البحث فيه وهو مسلك السلف قال الكلبي هذا من المكتوم الذي لا يفسر وكان مكحول والزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث واحمد وإسحاق رحمهم اللّه تعالى يقولون فيه وفي أمثاله امرّوها كما جاءت بلا كيف قال سفيان بن عيينة كل ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عنه ليس لاحدان يفسره الا اللّه ورسوله وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه حيث قال في المتشابهات ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ بالوقف عليه ثانيهما تأويله بما يليق به بناء على ما قيل ما يَعْلَمُ « 2 » تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ بالعطف قال البيضاوي وغيره الا ان يأتيهم اللّه أى امره أو بأسه بحذف المضاف فهو كقوله تعالى وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
- جاءَهُمْ بَأْسُنا - أو المعنى - ان يأتيهم اللّه
_________
(1) التهوك الوقوع في الأمر بغير رويّة قبيل التحبير منه رحمه اللّه
((1/467)
2) وفي القرآن وما يعلم إلخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 250
يبأسه فحذف المأتى به للدلالة عليه بقوله أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال وانما يأتى العذاب في الغمام لان الغمام مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب جاء من حيث لا يحتسبه فكان أفظع - قلت وما ذكر البيضاوي من التأويل يأبى عنه ما جاء في تفسير هذه الآية وأمثاله من الأحاديث أخرج الحاكم وابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا عن ابن عباس انه قرأ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ قال يجمع اللّه الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والانس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فيشقق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم اكثر ممن فى الأرض من الجن والانس وجميع الخلق فيحيطون بالجن والانس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض أ فيكم ربنا فيقولون لاثم ينزل أهل السماء الثانية وهم اكثر من أهل السماء الدنيا ومن أهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلائق ثم ينزل أهل السماء الثالثة هكذا ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة وهم اكثر من أهل السموات واهل الأرض فيقولون أ فيكم ربنا فيقولون لا ثم ينزل ربنا فى ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم اكثر من أهل السموات السبع والأرضين - وحملة العرش لهم قرون ككعوب القناما بين أقدام أحدهم كذا وكذا - ومن اخمص قدمه إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ومن كعبه إلى ركبته خمسمائة عام ومن ركبته إلى أرينه خمسمائة عام ومن ارينه إلى ترقوته خمسمائة عام ومن ترقوته إلى موضع القرط خمسمائة عام قلت وأيضا لو كان معنى الآية كما قال البيضاوي بحذف المضاف ونحوه فهو نظير قوله تعالى « 1 » وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنى واسئلوا أهل القرية - ولم يقل انه من المتشابهات أحد فحينئذ لم يكن اية في القرآن من المتشابهات وقد قال اللّه تعالى مِنْهُ آياتٌ(1/468)
مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ - ولاصحاب القلوب في تلك الآيات سبيل اخر وهو ان للّه سبحانه تجليات في بعض مخلوقاته وظهورات لا كيف لها كما ذكرنا في القلب المؤمن والكعبة الحسناء والعرش العظيم وعامتها تكون على الإنسان فانه خليفة اللّه وتلك التجليات قد تكون برقيا كالبرق الخاطف وقد تكون دائميا وتلك لا تستدعى حدوث امر في ذاته تعالى وكونه محلا للحوادث ومتنزلا عن مرتبة التنزيه بل هى مبنية على حدوث امر في الممكن كما ان المرأة المحاذية للشمس كلما صوقلت الجلت الشمس فيها ويظهر في المراءة اثارها من الاضاءة والإحراق - وهذه التجليات هى المصداق لقوله تعالى فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ وقوله تعالى
_________
(1) وفي القرآن واسئل القرية الّتى إلخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 251(1/469)
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ يعنى يتجلّى لهم يوم القيامة في الغمام - فاما من اكتسب قلبه في الدنيا بصيرة ينفذ بصره من وراء الغمام إلى اللّه سبحانه كما ينفذ البصر من الاجرام الزجاجية إلى الاجرام الفلكية ولا استحالة في الرؤية من وراء الغمام بعد ما اثبتوا لرؤية في الجنة من غير حجاب كما ترون القمر ليلة البدر - واما من لم يكتسب قلبه بصيرة وهو فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا فيكون له الغمام ساترا وحجابا - قال السيوطي في البدور السافرة رايت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي ما نصه قال سلمة ابن القاسم في كتاب غرائب الأصول حديث تنزل اللّه يوم القيامة ومجيئه في ظلل محمول على ان اللّه تعالى يغير أبصار خلقه حتى يرونه كذلك وهو على عرشه غير متغير ولا منتقل - قلت يعنى يرونه كذلك من وراء الحجاب السجنجلى قال السيوطي وكذلك جاء معناه عن عبد العزيز الماجشون انه تعالى يغير أبصار خلقه فيرونه نازلا متجليا مناجى خلقه ومخاطبهم وهو غير متغير عن عظمته ولا منتقل وقد وجدنا ان جبرئيل كان يأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم تارة في صورته وتارة في صورة دحية وجبرئيل أجل من صورة دحية انتهى قلت وما ذكرنا من التأويل لا مساس له بأقوال الخلف لكنه هو المراد مما ذكرنا من اقوال السلف امّروها كما جاءت بلا كيف يعنى هذه الأمور كلها من الاستواء والنزول وغير ذلك ثابتة كما جاءت في النصوص لكن بلا كيف بحيث لا يزاحم مرتبة التنزيه - وهذا امر من لم يذقه لم يدر ومن ورى لا يمكنه التعبير عنه كما هو بل يختبط إفهام السامعين فيفهون غير مراده فعليكم بالسكوت عنه والايمان به وليس لاحدان يفسره الا اللّه ورسوله وعطف الرسول على اللّه يقتضى انه صلى اللّه عليه وسلم كان عالما بتفسير المتشابهات قلت وكذا كمل اتباعه واللّه اعلم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) قرأ ابن(1/470)
عامر حمزة والكسائي ويعقوب ترجع الأمور حيث وقع بفتح التاء وكسر الجيم من الرجوع اللازم والباقون بضم التاء وفتح الجيم من الإرجاع المتعدى.
سَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يهود المرينة والمراد بهذا السؤال تقريعهم كَمْ آتَيْناهُمْ يعنى آباءهم وأسلافهم وكم استفهامية معلقة سل عن المفعول الثاني - أو خبرية وهى ثانى مفعولى اتينا ومميزها مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ظاهرة ويحتمل ان يكون كم مبتدأ والعائد من الخبر محذوف يعنى كم من اية بينة آتيناهم ايالها فبدلوها بعد معرفتها وجملة كم آتيناهم على تقدير كونها استفهامية حال أى سل بنى إسرائيل قائلا كم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 252
آتيناهم وعلى تقدير كونها خبرية جواب عن سوال هل كانت لهم آيات متكثرة والمراد بالآيات اما المعجزات الواضحات الدالة على نبوة موسى عليه السلام والآيات المحكمات في التورية الدالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم والثاني اظهر وَمَنْ يُبَدِّلْ يغير نِعْمَةَ اللَّهِ أى ما أنعم اللّه عليه من الآيات لانها سبب الهداية أو كتاب اللّه فترك العمل به مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أى وصلت إليه وتمكن من معرفتها فيه تعريض بانهم بدلوها بعد ما عقلوها فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) فيعاقبه أشد عقوبة حيث ارتكب أشد جريمة.(1/471)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا والمزين هو اللّه تعالى حيث خلق الأشياء الحسنة والمناظر العجيبة وخلق فيهم القوى الشهوانية - واشرب محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وقال الزجاج زين لهم الشيطان يعنى وسوس إليهم الخواطر الشهوانية - قلت واللّه سبحانه خالق افعال العباد ومنهم الشياطين فهو المزين نعم تجوّز الاسناد إلى الشياطين من حيث كونها كاسبة للوسوسة واللّه اعلم قيل نزلت الآية في مشركى العرب أبى جهل وأصحابه وهم يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أى يستهزءون فقراء المؤمنين - قال ابن عباس أراد بالذين أمنوا عبد اللّه بن مسعود وعمارا وصهيبا وبلالا وخبيبا وأمثالهم - وقال مقاتل - نزلت في المنافقين عبد اللّه بن أبى وأصحابه كانوا يتنعمون « 1 » فى الدنيا ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ويقولون انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد صلى اللّه عليه وسلم انه يغلب بهم وقال عطاء نزلت في رؤساء اليهود كانوا يسخرون بفقراء المؤمنين فوعد اللّه المؤمنين ان يعطيهم اموال بنى قريظة والنضير بغير قتال وَالَّذِينَ اتَّقَوْا يعنى هؤلاء الفقراء الذين كنوا بالّذين أمنوا وضع المظهر موضع المضمر ليدل على انهم متقون وان استعلاء هم للتقوى وان العمل خارج من الايمان فَوْقَهُمْ فى المكان أو الرتبة أو الغلبة لان المتقين فى أعلى عليين وفي كرامة اللّه ويتطاولون على الكفار فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا والكفار في أسفل السافلين وفي مذلة يَوْمَ الْقِيامَةِ كما ان المؤمنين خير واشرف عند اللّه من الكفار في الدارين عن سهل بن سعد رضى اللّه عنه قال مرّ رجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس ما رأيك في هذا - فقال رجل من اشراف الناس هذا واللّه حرّى ان خطب ان ينكح وان شفع ان يشفع - قال فسكت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم مر رجل فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/472)
ما رأيك في هذا فقال يا رسول اللّه هذا رجل من فقراء المسلمين هذا
_________
(1) فى الأصل ينعمون -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 253
حرّى ان خطب ان لا ينكح وان شفع ان لا يشفع وان قال ان لا يسمع لقوله فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذا خير من ملا الأرض مثل هذا رواه البخاري وعن اسامة بن زيد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقفت على باب الجنة فرايت اكثر أهلها المساكين ووقفت على باب النار فرايت اكثر أهلها النساء وإذا أهل الجد محبوسون الا من كان منهم من أهل النار فقد امر به إلى النار - رواه البغوي وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فى الدارين بِغَيْرِ حِسابٍ (202) قال ابن عباس يعنى كثيرا لان كل ما دخل عليه الحساب فهو قليل - وقيل معناه بغير حساب عليه تعالى فيما يعطى ولا اعتراض فقد يعطى الكثير من لا يحتاج إليه وقد لا يعطى القليل من يحتاج وقيل معناه لا يخاف نفاد خزائنة فيحتاج إلى حساب ..(1/473)
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أخرج البزار في مسنده وابن جرير وابن أبى حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم والحاكم فى المستدرك وصححه عن ابن عباس قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا وكذا أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة انهم كانوا عشرة قرون كلهم علماء يهتدون من الحق ثم اختلفوا فبعث اللّه نوحا وكان نوح أول رسول أرسله اللّه إلى الأرض - وقال الحسن وعطاء كان الناس من وقت وفات آدم إلى مبعث نوح عليه السلام أمة واحدة على الكفر أمثال البهائم فبعث اللّه نوحا وغيره من النبيين - والجمع بين القولين انهم كانوا اولا كلهم مسلمين ثم اختلفوا حتى صاروا كلهم كفارا في زمن نوح غير أبوي نوح فانهما كانا مؤمنين بدليل قول نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ الآية - وقيل المراد بالناس العرب قال الحافظ عماد الدين بن كثير كان العرب على دين ابراهيم إلى ان ولى عمرو بن عامر الخزاعي مكة أخرج احمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أول من سيّب السوائب وعبد الأصنام أبو حزاعة عمرو بن عامر وانى رايت قصبه في النار - وفي الصحيحين عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رايت عمرو بن عامر بن لحى ابن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار انه أول من سيّب السوائب - واخرج ابن جرير في تفسيره عنه نحوه وفيه انه أول من غير دين ابراهيم - لكن يأبى تأويل الناس بالعرب صيغة النبيين بالجمع إذ لم يبعث في العرب غير محمد صلى اللّه عليه وسلم - لينذر قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ وروى عن أبى العالية عن أبى بن كعب قال كان الناس حين عرضوا على آدم و
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 254(1/474)
اخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية أمة واحدة مسلمين كلهم ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم - قلت ويمكن ان يقال كان الناس أمة واحدة مستعدين لقبول الحق مولودين على القطرة فاخبطهم شياطين الانس والجن فاختلفوا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء متفق عليه فَبَعَثَ اللَّهُ معطوف على كان النّاس امّة واحدة ان كان المراد اجتماعهم على الكفر ومعطوف على مقدر يعنى فاختلفوا فبعث اللّه ان كان المراد اجتماعهم على الحق - فان البعث ليس الا لدفع الكفر والفساد ويدل على هذا التقدير قوله تعالى فيما بعد فيما اختلفوا فيه النَّبِيِّينَ قال أبو ذر قلت يا رسول اللّه كم وفاء عدة الأنبياء قال - مائة الف واربعة وعشرون الفا المرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا - رواه احمد - وفي رواية عنه ثلاثمائة وبضعة عشر - قال البغوي والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسمه العلم ثمانية وعشرون نبيا - قلت بل المذكور في القرآن انما هم ستة وعشرون منهم ثمانية عشر في قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وثمانية غيرهم آدم وإدريس وهود وصالح وشعيب وذو الكفل وعزير ومحمد سيد الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم(1/475)
أجمعين وقيل يوسف الذي ذكر في سورة المؤمن غير يوسف بن يعقوب عليه السلام بل هو يوسف بن ابراهيم بن يوسف بن يعقوب فصاروا سبعة وعشرين - وقيل بنبوة مريم أم عيسى فكمل ثمانية وعشرون لكن قوله تعالى وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ... مِنْ أَهْلِ الْقُرى « 1 » يأبى نبوة مريم - ويحتمل ان يكون الثامن والعشرون لقمان واللّه اعلم مُبَشِّرِينَ بالثواب لمن أطاع وَمُنْذِرِينَ بالعقاب لمن عصى وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس بِالْحَقِّ حال من الكتاب أى متلبسا بالحق شاهدا به لِيَحْكُمَ اللّه أو الكتاب أو النبي المبعوث معه وقرا أبو جعفر ليحكم بضم الياء وفتح الكاف هاهنا و
_________
(1) وفي القرآن الّا رجالا نوحى إليهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 255(1/476)
فى ال عمران وفي النور في الموضعين فحينئذ نائب الفاعل الظرف والمعنى ليحكم به يعنى بالكتاب بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أى في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أى في الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ الموصول للعهد والمراد به اليهود والنصارى مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أى الآيات المحكمات في التورية الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر والمبشرة بمجىء محمد صلى اللّه عليه وسلم الناعتة بصفاته الكريمة - قال السيوطي في التفسير قوله من بعد متعلق باختلف وهى وما بعده مقدم على الاستثناء في المعنى يعنى في الكلام تقديم وتأخير - قلت والاولى ان يقال انه متعلق بمحذوف أى اختلفوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ لان ما قبل الا لا تعمل فيما بعدها الا في المستثنى ولا يستثنى متعدد بحرف واحد فهو جواب سوال مقدر كانّه قيل متى اختلفوا فاجيب - ومعنى اختلافهم قولهم نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض وتحريفهم الكلم عن مواضعه وانكارهم صفات محمد صلى اللّه عليه وسلم والقران بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعنى أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ للحق الذي اختلفوا فيه مِنَ الْحَقِّ بيان لما بِإِذْنِهِ بامره أو بإرادته أو بلطفه - قال ابن زيد اختلفوا فى القبلة فمنهم من يصلى إلى المشرق ومنهم من يصلى إلى المغرب ومنهم من يصلى إلى البيت المقدس فهدانا اللّه للكعبة واختلفوا في الصيام فهدانا اللّه لشهر رمضان - واختلفوا في الأيام فاخذت النصارى الأحد واليهود السبت فهدانا اللّه للجمعة واختلفوا في ابراهيم قالت اليهود كان يهوديا والنصارى نصرانيا فهدانا اللّه للحق من ذلك واختلفوا في عيسى فجعله اليهود الفرية وجعله النصارى الها فهدانا اللّه للحق فيه وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) لا(1/477)
يضل سالكه.
أَمْ حَسِبْتُمْ - أم منقطعة لان المتصلة يلزمه الهمزة وهى بمعنى بل والهمزة فبل للاضراب عن اختلاف اليهود والنصارى - والهمزة لانكار حسبان المؤمنين واستبعاده والغرض منه تشجيعهم على الصبر والثبات على البأساء والضراع وقال الفراء معناه احسبتم والميم زائدة وقال الزجاج بل حسبتم - نزلت الآية يوم الأحزاب حين أصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بلاء وحضروا شدة الخوف والبرد وانواع الأذى قال اللّه تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً - وقيل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 256(1/478)
نزلت في حرب أحد وقال عطاء لما دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة اشتد عليهم لانهم كانوا خرجوا بلا مال وتركوا ديارهم وأموالهم ما يدى المشركين وأظهرت اليهود العداوة فانزل اللّه أم حسبتم أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ لمّا كلم في المعنى والعمل وفيه توقع لا في لم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا حالهم الذي هو مثل في الشدة مِنْ قَبْلِكُمْ من النبيين والمؤمنين مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ شدة الفقر والمرض وَزُلْزِلُوا حركوا بانواع البلا والشدائد حَتَّى يَقُولَ إذا كان بعد حتى مستقبلا بمعنى الماضي يجوز فيه النصب والرفع فقرا نافع بالرفع والباقون بالنصب الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ استبطؤا النصر فقيل لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات - رواه مسلم عن انس وابى هريرة واحمد عن أبى هريرة وابن مسعود واللّه اعلم - أخرج ابن المنذر عن أبى حيان ان عمر بن الجموح سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم ما ننفق من أموالنا واين نضعها - واخرج ابن جرير عن ابن جريح قال سال المؤمنون فنزلت.
يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيّن المصرف بالعبارة وجواب السائل بالاشارة بتعميم ما أنفقتم من خير بناء على ان ملاحظة المصرف أهم فان اعتداد النفقة باعتباره وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ اىّ خير كان صدقة أو غير ذلك فيه معنى الشرط وحوابه فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) يعلم به كنهه ونياتكم فيوفى ثوابه على حسب نياتكم قال أهل التفسير كان هذا قبل فرض الزكاة فنسخت بالزكاة - والحق انه لا ينافى فرضية الزكوة حتى ينسخ به فالاية محكمة.(1/479)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ قال عطاء الجهاد تطوع والمأمورون بالآيات اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيرهم واليه ذهب الثوري محتجا بقوله تعالى فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى قالا لو كان القاعد تاركا للفريضة لم يكن وعدا له بالحسنى - وقال سعيد بن المسيب انه فرض عين على كافة المسلمين إلى قيام الساعة والحجة له هذه الآية وحديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من مات ولم يعز ولم يحدث نفسه بالغزو ومات
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 257(1/480)
على شعبة من النفاق - رواه مسلم والجمهور على ان الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقيين مثل صلوة الجنازة وعليه انعقد الإجماع - واتفقت الائمة على انه يجب على كل أهل بلد ان يقاتلوا من يليهم من الكفار فان عجزوا أو جبنوا وجب على من يليهم الأقرب فالاقرب وعلى انه يجب الجهاد على الأعيان عند النفير العام وعند هجوم الكفار على بلاد الإسلام وعلى انه من لم يتعين عليه الجهاد لا يخرج الا بإذن أبويه ان كانا مسلمين ومن عليه الدين لا يخرج الا بإذن غريمه - والحجة للجمهور ما ذكرنا من ادلة الفريقين وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ وسيجيئ في سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رجلا استأذن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الجهاد فقال أ حى والداك قال نعم قال ففيهما فجاهد اذهب فبرّهما متفق عليه ولابى داود والنسائي وابن ماجة نحوه - وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أى شاق عليكم قال أهل المعاني هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال والنفس لا انهم كرهوا امر اللّه وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ومنه الجهاد فان فيه الظفر والغنيمة والاستيلاء في الدنيا والشهادة والثواب وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ كالقعود « 1 » عن الجهاد فان فيه المعصية والذلة والحرمان من الاجر والغنيمة - وانما ذكر كلمة عسى وهو للشك لان النفس إذا ارتاضت يكون هواه تبعا لما شرع فلا يكره الا ما كره اللّه ولا يحب الا ما أحب اللّه تعالى وَاللَّهُ يَعْلَمُ خيركم وشركم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) ذلك فبادروا بما أمركم اللّه تعالى حتى تفوزوا بما هو خير لكم في الدارين (فصل) فى فضائل الجهاد عن ابن مسعود قلت يا رسول اللّه اىّ الأعمال أفضل قال الصلاة على(1/481)
ميقاتها قلت ثم اىّ قال بر الوالدين قلت ثم اىّ قال الجهاد في سبيل اللّه ولو استزدته لزادنى - رواه البخاري وعن أبى هريرة قال سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اىّ العمل أفضل قال ايمان باللّه ورسوله قيل ثم ماذا قال الجهاد في سبيل اللّه قيل ثم ماذا قال حج مبرور متفق عليه وهذه وان كان في الصورة معارضة فان الحديث الأول يدل على افضلية الصلاة على الجهاد والثاني بالعكس لكن الجمع بينهما بحمل كل على ما يليق بحال السائل - أو يقال ان الصلاة والزكوة المفروضتين مرادة بلفظ الايمان في حديث أبى هريرة - فلا تعارض أو يقال
_________
(1) فى الأصل كالعقود [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 258(1/482)
جعل الجهاد بعد الايمان في حديث أبى هريرة صادق وان كان الجهاد بعد الصلاة والزكوة - وعن عمران بن حصين ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال مقام الرجل في الصف في سبيل اللّه أفضل عند اللّه من عبادة ستين سنة - رواه الحاكم وقال صحيح على شرط البخاري - وعن أبى هريرة مرفوعا مقام أحدكم في سبيل اللّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما - رواه الترمذي وعن أبى هريرة قيل يا رسول اللّه ما يعدل الجهاد في سبيل اللّه قال لا تستطيعونه فاعادوا عليه مرتين أو ثلاثا كل ذلك يقول لا تستطيعونه ثم قال مثل المجاهد في سبيل اللّه كمثل القائم القانت بايات اللّه لا يفتر عن صلاته ولا صيامه حتى يرجع المجاهد في سهيل اللّه - متفق عليه وعن أبى امامة قال خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية قمر رجل بغار فيه شىء من ماء ويقل فحدث نفسه بان يقيم فيه ويتخلى من الدنيا فاستأذن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى لم ابعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكنى بعثت بالحنفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف خير من صلاته ستين سنة - رواه احمد قلت وهذه الأحاديث يدل على افضلية الجهاد على الصلاة والصيام والنوافل وذلك لان الجهاد فرض على الكفاية وكلما وقع عن أحد يقع فريضته ويستوعب الأوقات ويفضى إلى الشهادة التي هى قرينة للنبوة بخلاف الصلاة والصوم فانهما ما عدا الفرائض لا يقع الا نافلة والنافلة لا تعدل الفريضة - فان قيل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ما عمل آدمي أنجى من عذاب اللّه من ذكر اللّه - قالوا ولا الجهاد في سبيل اللّه قال ولا الجهاد في سبيل اللّه الا ان يضرب لسيفه حتى ينقطع قاله ثلث مرات رواه احمد والطبراني وابن أبى شيبة من حديث معاذ وهذا يعارض مامر من أحاديث وعمران وابى هريرة وابى(1/483)
امامة فما وجه التوفيق - قلنا المراد بالذكر في هذا الحديث الحضور الدائمى الذي لا فتور فيه لا الصلاة والصوم الذين هما حظ الزهاد - وهو المراد من الجهاد الأكبر فيما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد رجع من الغزو رجعتا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر فان قيل الم يكن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان في الجهاد الأصغر مشتغلا بالجهاد الأكبر - قلنا نعم كان مشتغلا بذلك لكن الحال تتفاوت بمزيد الاهتمام واللّه اعلم عن أبى هريرة مرفوعا في الجنة مائة درجة أعدها اللّه للمجاهدين في سبيل اللّه ما بين الدرجتين كما بين السماء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 259
و الأرض فإذا سالتم اللّه فسئلوه الفردوس فانه اوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تنفجرا نهار الجنة - رواه البخاري - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة ان اعطى رضى وان لم يعط سخط طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه اشعث رأسه مغيرة قدماه وان كان في الحراسة في الحراسة وان كان فى الساقة كان في الساقة ان استأذن لم يؤذن له وان شفع لم يشفع « 1 » - رواه البخاري وسيأتى فضائل الرباط اخر سورة ال عمران ان شاء اللّه تعالى - وانما فضل الجهاد على سائر الحسنات وكونه ذروة سنام الإسلام لأنه سبب الا شاعة الإسلام وهداية الخلق فمن اهتدى ببدل جهده كان حسناته داخلا في حسناته وأفضل من ذلك تعليم العلوم الظاهرة والباطنة فان فيه اشاعة حقيقة الإسلام واللّه اعلم.(1/484)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال يعنى يسئلونك عن قتال في الشهر - أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني في الكبير وابن سعد والبيهقي في سننه عن جندب بن عبد اللّه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث عبد اللّه بن جحش وهو ابن عمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في جمادى الاخر سنة قبل قتال بدر بشهرين وبعث معه ثمانية نفر من المهاجرين سعد بن أبى وقاص الزهري - وعكاشة بن محصن الأسدي - وعتبة بن غزوان السلمى - وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة - وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة - وواقد بن عبد اللّه - وخالد بن بكير - وذكر بعضهم سهل بن بيضاء ولم يذكر سهيلا ولا خالدا ولا عكاشة وذكر بعضهم المقداد بن عمر - قال ابن سعد كانوا اثنى عشر كل اثنين يعتقبان بعيرا وكتب لاميرهم عبد اللّه بن جحش كتابا وقال سر على اسم اللّه ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين فإذا نزلت فافتح الكتاب واقراه على أصحابك ثم امض ما امرتك ولا تستكرهن أحدا من أصحابك على السير معك فسار وكان قبل مسيره قال يا رسول اللّه اىّ ناحية قال النجدية فسار عبد اللّه يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه بسم اللّه الرحمن الرحيم اما بعد فسر على بركة اللّه بمن تبعك من أصحابك حتى تنزل بطن نخلة فترصد بما عير قريش لعلك ان تأتينا منه بخير فلما نظر في الكتاب قال سمعا وطاعة -
_________
((1/485)
1) وعن أبى بكر الصديق ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من اغبرت قدماه في سبيل اللّه حرم اللّه عليه النار - وكذا روى احمد والبخاري والترمذي والسنائي عن أبى عيص - وعن عثمان قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول خرس ليلة في سبيل اللّه أفضل من الف ليلة قيام ليلها وصيام نهاره وعن أبى بكر الصديق قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما ترك قوم الجهاد الا عمهم اللّه تعالى بالعذاب منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 260(1/486)
ثم قال لاصحابه ذلك وقال انه نهانى ان استكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة فلينطلق ومن كره فليرجع ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتى كان بمعدن فوق القرع بموضع من الحجاز يقال له بخران أضل سعد بن أبى وقاص وعتبة بن غزوان بغيرهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه ومضى ببقية أصحابه حتى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف - فبينماهم كذلك مرت عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة الطائف فيهم عمر والحضرمي والحكم بن كيسان مولى هشام بن مغيرة وعثمان بن عبد اللّه بن مغيرة واخوه نوفل بن عبد اللّه المخزوميان - فلما راوا اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هابوهم فقال عبد اللّه بن جحش ان القوم قد وعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فحلقوا رأس عكاشة ثم اشرف عليهم فقالوا قوم عمار لا بأس عليكم فامنوهم وكان ذلك في يوم يرونه اخر يوم من جمادى الاخر وهو من رجب فتشاور القوم وقالوا لئن تركتموهم الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ويدخل عليكم الشهر الحرام فرمى واقد بن عبد اللّه السهمي عمرو الحضرمي بسهم فقتله وشد المسلمون عليهم فاسروا عثمان بن عبد اللّه بن مغيرة والحكم بن كيسان وهرب نوفل فاعجزهم واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وقيل عزل عبد اللّه بن جحش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس تلك الغنيمة وقسم سائرها بين أصحابه وكان أول خمس خمس في الإسلام وأول غنيمة وأول قتيل من المشركين عمر والحضرمي وأول أسير عثمان والحكم وكان ذلك قبل ان يفرض الخمس من المغانم ثم فرض الخمس على ما صنع عبد اللّه بن جحش في تلك الغير فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فاوقف العير والأسيرين وابى ان يأخذ من ذلك شيئا - وقالت قريش لمن كان بمكة من المسلمين يا معشر الصبأة استحللتم الشهر الحرام و(1/487)
قاتلتم فيه - فعظم ذلك على اصحاب السرية وظنوا انهم قد هلكوا وسقط في أيديهم وقالوا يا رسول اللّه انا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندرى أ في رجب أصبناه أم في الجمادى - فاكثر الناس في ذلك فانزل اللّه تعالى هذه الآية - فاخذ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخمس الذي عزله عبد اللّه بن جحش - أو أخذ العير فعزل منها الخمس وقسّم الباقي بين اصحاب السرية - وقيل أوقف غنائم أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 261(1/488)
اهل بدر - وبعث أهل مكة في فداء اسيريهم فقال - بل نوقفهما « 1 » حتى يقدم سعد وعتبة فانا نخشاكم عليهما - وان لم يقدما قتلناهما بهما فقدم سعد وعتبة فافدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الأسيرين بأربعين اوقية كل أسير - فاما الحكم فاسلم واقام مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة فقتل يوم بير معونة شهيدا واما عثمان بن عبد اللّه بن مغيرة فرجع إلى مكة فمات بها كافرا واما نوفل فضرب بصن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق فوقع في الخندق مع فرسه فتحطما جميعا وقتله اللّه فطلب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذوه فانه خبيث الجيفة خبيث الدية قُلْ يا محمد قِتالٍ فِيهِ أى في الأشهر الحرم كَبِيرٌ ذنب كبير قال اكثر العلماء انه منسوخ بقوله تعالى فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ قال ابن الهمام وهو بناء على التجوز بلفظ حيث في الزمان ولا شك انه كثير الاستعمال قلت لفظ حيث للمكان حقيقة ومجيئه للزمن تجوز لا دليل عليه - ولو فرضا انه مشترك في الزمان والمكان ففى شموله للازمنة شك ولا يجوز النسخ مع الشك - وقال البيضاوي هو نسخ الخاص بالعام - وفيه خلاف يعنى نسخ الخاص بالعام جائز عند أبى حنيفة حيث يقول العام أيضا قطعى الدلالة فيما يشتمله كالخاص - وغير جائز عند الشافعي وغيره حيث قالوا ان العام ظنى الدلالة بخلاف الخاص إذ ما من عام الا وقد خص منه البعض - والبحث عنه في اصول الفقه قال البيضاوي والاولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الأشهر الحرام مطلقا فان قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا تعم - قلت النكرة في الإثبات تعم عند قيام القرينة(1/489)
كما في قوله عليه السلام - تمرة خير من جرادة ولو لا هاهنا النكرة للعموم لما استقام جواب السؤال واستدل ابن همام على نسخ الحرمة بالعمومات نحو قوله تعالى وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً « 2 » - وقوله عليه السلام أمرت ان أقاتل الناس حتى يقولوا لا الله الا اللّه - قلت وهذا ليس بسديد فان عموم تلك الآيات في المكلفين وأحوالهم دون الازمنة حتى يدخل فيها الأشهر الحرم فيلحقها الفسخ بل عموم الازمنة لو ثبت لثبت باقتضاء النص ولا عموم للمقتضى فلا يجرى فيه التخصيص والنسخ وكيف يدعى نسخ حرمة القتال في الأشهر الحرم مع ان قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يعنى بالقتال فيهن وَقاتِلُوا
_________
(1) فى الأصل نقفهما
(2) فى الأصل اقتلوا المشركين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 262(1/490)
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ - إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ يعنى القتال في الشهر الحرام زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ وهذه الآية اخر آيات القتال نزولا وهى اية السيف نزلت في اخر السنة التاسعة وفيه ذكر حرمة الأشهر فهو مخصص لوجوب القتال فيما عدا الأشهر واللّه اعلم وأيضا يدل على حرمة القتال في الأشهر الحرم خطبته صلى اللّه عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع قبل وفاته بشهرين حيث قال فيه الا ان الزمان استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر « 1 » شهرا منها اربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر وقال في اخر الحديث ان دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا - متفق عليه من حديث أبى بكرة - قال ابن همام حاصر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطائف لعشر يقين من ذى الحجة إلى اخر المحرم أو إلى شهر يعنى بهذا منسوخية الآية وهذا القول غريب وانما كان حصار الطائف في شوال سنه - عن أبى سعيد الخدري خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عام الفتح من المدينة لليلتين خلتا من شهر رمضان رواه احمد بسند صحيح - وروى البيهقي عن الزهري بسند صحيح قال فتح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لثلاث عشرة خلت من رمضان - قلت بهذا ظهر انه اقام في الطريق اثنى عشر يوما واقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمكة تسعة عشر يوما - وفي لفظ سبعة عشر رواه البخاري وفي رواية ثمانى عشرة ثم بعد فتح مكة خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى حنين يوم السبت لست خلون من شوال - (1/491)
و قال ابن إسحاق لخمس وبه قال عروة واختاره ابن جرير وروى ابن مسعود فوصل إلى حنين لعشر خلون من شوال فلما انهزم الهوازن وجمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم غنائم حنين قدم فل ثقيف بالطائف وأغلقوا عليهم الأبواب وتهيئوا للقتال فلم يرجع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة ولا عرج على شىء الا على غزو الطائف قبل ان يقسم غنائم حنين وترك السبي بالجعرانة وحاصر الطائف روى مسلم عن انس انه كان مدة حصاره أربعين ليلة - واستغربه في البداية - وذكر ابن إسحاق حاضر ثلاثين ليلة - وقال ابن إسحاق
_________
(1) فى الأصل اثنى عشر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 263(1/492)
فى رواية حاصرهم بضعا وعشرين ليلة - وقيل عشرين يوما - وقيل بضع عشرة ليلة - رواه أبو داود - قال ابن حزم هو الصحيح بلا شك ثم ارتحل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى مكة وانتهى مسيره إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذى القعدة - فاقام بالجعرانة ثلث عشرة ليلة واعتمر ثم انصرف إلى المدينة ليلة الأربعاء لثنتى عشر ليلة بقيت من ذى القعدة ودخل المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذى القعدة - قال أبو عمر كان مدة غيبته صلى اللّه عليه وسلم من حين خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها وواقع هوازن وحارب أهل الطائف إلى ان رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما - بل شهرين وستة وعشرين يوما - فكيف يتصور ما قال ابن همام حاصر الطائف لعشر بقين من ذى الحجة إلى اخر المحرم - فلم يثبت منسوخية حرمة الأشهر واللّه اعلم لكن هذه الآية منسوخة بما مر من قوله تعالى لشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لانها تدل على اباحة القتال في الأشهر الحرم ان كانت البداية في القتال من الكفار لان هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر وتلك نزلت في عمرة القضاء سنة سبع كما ذكرنا فبقى البداية بالقتال في الأشهر محرما واللّه اعلم وَصَدٌّ أى صرف ومنع عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أى عن الإسلام والطاعات وَكُفْرٌ بِهِ أى باللّه وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ بحذف المضاف يعنى وصد المسجد الحرام ولا يجوز عطفه على الضمير المجرور لوجوب إعادة الجار حينئذ - ولا على سبيل اللّه لان عطف قوله وكفر به مانع منه إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أى أهل المسجد وهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ مما فعله السرية فان كلما ذكر مما صدى عن كفار مكة صدر عمدا وتعنتا وما صدر من السرية انما(1/493)
صدر خطا وبناء على الظن وَالْفِتْنَةُ يعنى الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أى قتل الحضرمي فكيف يعيرونهم كفار مكة على ما ارتكبوه خطا مع ارتكابهم ما هو أشد من ذلك عمدا وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى كفار قريش حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ اخبار عن دوام عداوتهم إِنِ اسْتَطاعُوا هو استبعاد لاستطاعتهم وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ استدل الشافعي بهذه الآية على ان المرتد لا يحبط عمله ما لم يمت على الكفر فان صلى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 264
رجل الظهر مثلا ثم ارتد نعوذ باللّه منها ثم أمن والوقت باق لا يجب عليه إعادة الصلاة وكذا من حج ثم ارتد ثم اسلم لا يجب عليه الحج وهذا احتجاج بمفهوم الصفة وهو غير معتبر عند أبى حنيفة رحمه اللّه - وقال أبو حنيفة يجب عليه إعادة الصلاة ان اسلم والوقت باق وكذا يجب عليه الحج - لنا قوله تعالى وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهذا مطلق والمطلق لا يحمل على المقيد عندنا واللّه اعلم فِي الدُّنْيا فلا يترتب على إسلامه في الدنيا عصمة الدم والمال فيحل قتله ولا يجب استمهاله إلى ثلثة ايام لكنه يستحب فهو حجة على الشافعي في قوله بوجوب الامهال وَالْآخِرَةِ بسقوط الثواب وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) كسائر الكفار - فقال اصحاب السرية - يا رسول اللّه هل نؤجر على وجهنا هذا وهل يكون سفرنا هذا غزوا فانزل اللّه تعالى.(1/494)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ كروا الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كانهما مستقلان فى تحقق الرجاء أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أى ثوابه اثبت لهم الرجاء اشعارا « 1 » بان العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة لا سيما انما العبرة بالخواتيم وَاللَّهُ غَفُورٌ لما فعلوا خطأ رَحِيمٌ (210) بإعطاء الثواب.
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ أخرج احمد عن أبى هريرة قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهما فانزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فقال الناس ما حرم علينا انما قال اثم كبير وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم صلى رجل من المهاجرين امّ أصحابه في المغرب خلط فى قرأته فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى الآية ثم نزلت اغلظ من ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية في المائدة إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قالوا انتهينا ربنا الحديث - قال البغوي جملة القول ان اللّه تعالى انزل في الخمر اربع آيات نزلت بمكة وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً فكان المسلمون يشربونها وهى لهم حلال يومئذ ثم لما نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار لما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا يا رسول اللّه أفتنا في الخمر والميسر فانهما مذهبتان « 2 » للعقل مسلبتان « 3 » للمال فانزل اللّه هذه الآية فتركها قوم لقوله تعالى إِثْمٌ كَبِيرٌ وشربها قوم لقوله منافع للنّاس إلى ان صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا ناسا من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) فى الأصل اشعار
(2) فى الأصل مذهبة
((1/495)
3) فى الأصل مسلبة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 265
و أتاهم بخمر فشربوا وسكروا فحضرت صلوة المغرب فقدّموا بعضهم ليصلى بهم فقرا (قل يا ايّها الكافرون اعبد ما تعبدون) هكذا إلى اخر السورة بحذف لا فانزل اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سكارى الآية فحرم السكر في اوقات الصلاة فتركها قوم وقالوا لا خير في شىء يحول بيننا وبين الصلاة وشربها قوم في غير اوقات الصلاة كان الرجل يشرب بعد صلوة العشاء فيصبح وقد زال عنه السكر أو بعد صلوة الصبح فيصحوا إلى وقت الظهر واتخذ عتبان بن مالك صيفا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبى وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فاكلوا منه وشربوا الخمر حتى سكروا منها ثم انهم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الاشعار وانشد سعد قصيدة فيها هجاء الأنصار وفخر لقومه فاخذ رجل من الأنصار لحيى بعير فضرب به رأس سعد فشجّه موضحة فانطلق سعد إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وشكا إليه الأنصاري فقال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا - فنزلت ما في المائدة واللّه اعلم.(1/496)
اختلف العلماء في ان الخمر ما هو فقال أبو حنيفة رحمه اللّه هو التي من ماء العنب إذا صار مسكر أو قذف بالزبد ولم يشترط صاحباه القذف بالزبد - وقال مالك والشافعي واحمد كل شراب أسكر كثيره فهو خمر - قالت الحنفية الخمر اسم خاص لما ذكرنا وهو المعروف عند أهل اللغة ولهذا اشتهر استعماله فيه واشتهر في غيرها مما ذكرنا من المسكرات اسم اخر كالمثلث - والطلا - والمنصف - والباذق - ونحو ذلك واللغة لا يجرى فيها القياس - وقال الجمهور اسم الخمر لغة لكل ما خامر العقل - والتحقيق عندى ان الخمر لفظ مشترك بين الخاص والعام اما حقيقة واما بعموم المجاز والمراد في الآية هو المعنى الأعم - قال صاحب القاموس الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عام والعموم أصح - وقال ابن عمر حرمت الخمر وما بالمدينة منها شىء رواه البخاري وحديث انس كنت ساقى القوم يوم حرمت الخمر وما شرابهم الا الفضيح البسر والتمر - متفق عليه وفي رواية - انى لقائم أسقي أبا طلحة فلانا فلانا وسمى في بعض الروايات أبا عبيدة بن الجراح وابى بن كعب وسهيلا « 1 » إذ جاء رجل فقال قد حرمت الخمر فقالوا أهرق هذا القلال يا انس قال فما سالوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل - وعنه قال لقد حرمت الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب الا قليلا وعامة خمرنا اليسر والتمر - فهذه الآثار تدل على ما ذكرت ان الخمر قد يستعمل فى المعنى الأخص لكن المراد بالآية هو المعنى الأعم ولو بالمجاز وان كان المراد بالخمر في الآية المعنى
_________
(1) فى الأصل سهيل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 266(1/497)
الأخص لما طابق الجواب السؤال فان السؤال انما كان عن الشراب الذي كانوا يشربونه حين سالوا قال عمر ومعاذ - أفتنا يا رسول اللّه عن الخمر فانها مذهبة للعقل - وقال اللّه تعالى إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ وهذا غير مختص بماء العنب بل لم يكن ماء العنب مستعملا لهم واللّه اعلم وفي الباب حديث عمر بن الخطاب انه قال فى خطبته - نزل تحريم الخمر وهى من خمسة أشياء العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل والخمر ما خامر العقل - متفق عليه ورواه احمد في مسنده عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم من الحنطة خمر ومن الشعير خمر ومن التمر خمر ومن الزبيب خمر ومن العسل خمر - وفي الباب عن النعمان بن بشير مرفوعا نحوه رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وروى احمد وفي آخره وانما انهى عن كل مسكر وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كل مسكر حرام وكل مسكر خمر - رواه مسلم وعن انس قال الخمر من العنب والتمر والعسل والذرة فما خمرت من ذلك فهو الخمر - رواه احمد وإذا ثبت ان اسم الخمر تعم الاشربة المسكرة فثبت بنص القرآن ان ما أسكر كثيره فقليله حرام ونجس فيحد شاربه من اىّ شىء كان ولا يجوز بيعها ولا يضمن متلفها غير انه لا يكفر مستحل ما سوى التي من ماء العنب لمكان الاختلاف وقال أبو حنيفة رحمه اللّه يحرم من الاشربة سوى الخمر ثلثة أحدها الطلا وهو عصير العنب إذا طبخ حتى يذهب اقل من ثلثه فان ذهب نصفه فهو المنصف أو اقل منه وهو الباذق إذا غلا واشتد وقدف بالزبد ثانيها السكر وهو التي من ماء التمر إذا غلا واشتد وقذف بالزبلة ثالثها نقيع الزبيب وهو التي من الزبيب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد ولم يشترط أبو يوسف القذف بالزبد فهذه الاشربة نجسة نجاسة خفيفة فى(1/498)
رواية وغليظة في اخرى فيحرم القليل منه كما يحرم البول لما مر من قوله صلى اللّه عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين لكن لا يحد شاربه حتى يسكر لان حرمتها اجتهادية ظنية والحدود تندرئ بالشبهات ويجوز بيعها ويضمن متلفها عند أبى حنيفة خلافا لصاحبيه - والمثلث العنبي ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ادنى طبخة وان اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه انه لا يسكر فكل ذلك عند أبى حنيفة وابى يوسف رحمهما اللّه حلال خلافا لمحمد رحمه اللّه هذا إذا قصد به التقوى واما إذا قصد به التلهي فلا يحل بالاتفاق - والقدر المسكر من هذه الثلاثة حرام بالاتفاق يحد شاربه - قال أبو حنيفة وأبو يوسف انما يحرم من هذه الثلاثة إذا اسكرت القدح الأخير لأنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 267(1/499)
هو المسكر حقيقة - وما سوى ذلك من الاشربة وهو ما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة والعسل والفانبذ والبنج ولبن الرماك وغير ذلك فهو حلال عند أبى حنيفة وابى يوسف رحمهما اللّه وان أسكر ولا يحد شاربه ولا يقع طلاق السكران منه - وفي رواية عنهما انه ان أسكر فهو حرام ويحد شاربه قال في الهداية قالوا الأصح انه يحد وبه قال محمد رحمه اللّه انه حرام ويحد شاربه ويقع طلاقه إذا أسكر منه كما في سائر الاشربة لكن هذه الاشربة ليست بنجسة عند الثلاثة حيث لا يقولون بحرمة قليلها - وفي فتاوى النسفي ان البنج حرام وطلاق البنجى واقع ومن يعتقد حليته يقتل ويحد شاربه كما يحد شارب الخمر - ويدل على ان كل مسكر حرام وعلى ان ما أسكر كثيره فقليله حرام من الأحاديث حديث جابر ان رجلا قدم من اليمن سال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له الموز فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أو مسكر هو قال نعم قال كل مسكر حرام - رواه مسلم - وعن سعد بن أبى وقاص انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره - رواه النسائي وابن حبان والبزار ورجاله رجال الصحيح وعن جابر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما(1/500)
أسكر كثيره فقليله حرام - رواه الترمذي وحسنه وأبو داود وابن ماجة وحديث عائشة عنه صلى اللّه عليه وسلم قال ما أسكر منه الفرق فملا الكف منه حرام - رواه احمد والترمذي وحسنه وأبو داود وابن حبان في صحيحه وعن أم سلمة قالت نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر رواه أبو داود وعن ديلم الحميرى قال قلت لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا بأرض باردة ونعالج فيها عملا شديدا وانا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على عملنا وعلى برد بلادنا قال هل يسكر قلت نعم قال فاجتنبوه قلت ان الناس غير تاركيه قال ان لم يتركوه قاتلوهم رواه أبو داود وعن أبى مالك الأشعري انه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها - رواه أبو داود - وفي الباب عن على عند الدارقطني - وعن خوات بن جبير في المستدرك واحتجوا على اباحة النبيذ بأحاديث منها حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان ينبذله أول الليلة فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجىء والغد والليلة الاخرى والغد إلى العصر فان بقي شىء سقاه الخادم أو امر به فصب - رواه مسلم قالوا لو كان حراما لما سقاه الخادم - والجواب انه ان لم يكن مسكرا ولكن ذهب حلاوته وخاف ان سيكون مسكرا اعطى الخادم وان غلب على ظنه كونه مسكرا امر به فصب فلا حجة فيه - واحتجوا على ان الحرام مما سوى الخمر القدح الأخير دون قليله بما أسند إلى ابن مسعود
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 268(1/501)
كل مسكر حرام قال هى الشربة التي اسكرتك - أخرجه الدارقطني - قال ابن همام انه ضعيف فيه الحجاج بن ارطاة وعمار بن مطر وانما هو قول النخعي وأسند ابن المبارك انه ذكر له حديث ابن مسعود هذا فقال حديث باطل - واحتجوا بما روى عن ابن عباس حرمة الخمر بعينها والسكر من كل شراب - قال ابن همام انه لم يسلم وذكر ابن الجوزي انه روى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه فقال هذا موقوف ولا يتصل إلى أبى سعيد - قال ابن همام نعم هو متصل من طريق جيد عن ابن عباس بلفظ حرمت الخمر بعينها قليلها وكثيرها والمسكر من كل شراب - وفي لفظ وما أسكر من كل شراب - قال ابن همام ولفظ أسكر تصحيف - قلت ومعنى اثر ابن عباس ان المسكر من كل شراب حرام قليلها وكثيرها واحتجوا أيضا بحديث أبى مسعود الأنصاري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم عطش وهو يطوف بالبيت فأتى بنبيذ من السقاية فعطب فقال رجل أ حرام يا رسول اللّه قال لا علىّ بدلو من ماء زمزم فصبه عليه ثم شرب وهو يطوف بالبيت - وعن المطلب بن أبى وداعة السهمي نحوه وفي آخره إذا اشتد عليكم شرابكم فاصنعوا هكذا - وعن ابن عمر انه سئل عن النبيذ الشديد فقال جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مجلس فوجد ريح نبيذ فارسل فاتى به فوضع رأسه فيه فوجده شديدا فصب عليه الماء ثم شرب ثم قال إذا اغتلت أسقيتكم فاكسروها بالماء - وعن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم نحوه روى هذه الأحاديث كلها الدارقطني - وعن أبى مسعود سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن النبيذ إحلال أم حرام قال حلال - رواه ابن الجوزي - وعن سعيد بن ذى لقوة قال شرب أعرابي نبيذا من اداوة عمر فسكر فامر به فجلد فقال انما شربت نبيذا من إداوتك فقال عمر انما نجلدك على السكر - رواه ابن الجوزي - والجواب ان حديث أبى مسعود قال الدارقطني هو معروف بيحيى بن يمان قال احمد بن حنبل كان يحيى بن يمان مغلط وضعفه قيل له أ رواه غيره(1/502)
قال لا الا من هو أضعف منه قال النسائي لا يحتج به وقال أبو حاتم مضطرب الحديث - وحديث المطلب بن وداعة في رواته محمد بن السائب الكلبي وهو كذاب ساقط كذا قال ليث وسليمان والسعدي وقال النسائي والدارقطني متروك وقال ابن حبان وضوح الكذب اظهر فيه - واما حديث ابن عمر فيه عبد الملك بن نافع وهو مجهول ضعيف والصحيح عن ابن عمر مرفوعا ما أسكر كثيره فقليله حرام - واما حديث ابن
عباس فتفرد به القاسم بن بهرام قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به بحال - واما حديث أبى مسعود فيه عبد العزيز بن
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 269(1/503)
ابان قال احمد تركته وقال ابن نمير هو كذاب يضع الحديث - واما حديث سعيد بن لقوة فقال أبو حاتم هو شيخ دجال وروى ابن أبى شيبة عن عمرو نحوه وفيه انقطاع - ثم انه لا خلاف في النبيذ فانه ان غلا واشتد فهو حرام قليله وكثيره بالاتفاق وان كم يسكر فهو حلال بالاتفاق فلا مساس لهذه الأحاديث بالخلافية أصلا واللّه اعلم وَالْمَيْسِرِ مصدر كالموعد سمى به القمار لأنه أخذ مال الغير بيسر أو سلب يسار الغير - قال عطاء وطاوس ومجاهد كل شىء فيه قمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب - قال البغوي روى عن على رضى اللّه عنه في النرد والشطرنج انهما من الميسر - روى البيهقي في شعب الايمان عن على انه كان يقول الشطرنج هو ميسر الأعاجم - وقد ورد في النهى عن عن النرد والشطرنج ونحوهما عن بريدة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال - من لعب بالنردشير فكانما صبغ يده بلحم خنزير - وروى عبدان وأبو موسى وابن حزم عن حبة بن مسلم مرسلا - ملعون من لعب بالشطرنج والناظر إليها كالاكل لحم الخنزير - وعن أبى موسى الأشعري ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من لعب بالنرد فقد عصى اللّه ورسوله - رواه احمد وأبو داود - وعنه انه قال لا يلعب بالشطرنج الا خاطئ وعنه انه سئل عن لعب الشطرنج فقال هى من الباطل ولا يحب اللّه الباطل رواه البيهقي في شعب الايمان وعن ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم - نهى عن الخمر والميسر والكوبة - رواه أبو داود وعن ابن عباس مرفوعا نحوه قيل الكوبة الطبل رواه البيهقي في شعب الايمان وعن أبى هريرة - ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم راى رجلا يتبع حمامة قال شيطان يتبع شيطانة رواه احمد وأبو داود وابن ماجة والبيهقي في الشعب - والتحقيق ان اللعب بكل شىء حرام اجماعا وما روى عن الشافعي انه أباح اللعب بالشطرنج فقد صح انه رجع عن هذا القول - وان اضاعة المال والتبذير باى وجه كان كالرشوة و(1/504)
القمار والربوا وغير ذلك أيضا حرام اجماعا قال اللّه تعالى إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وفي الميسر اجتمع الأمران اللعب واضاعة المال فامره أشد وهو كبيرة من الكبائر اجماعا سواء كان المقامرة بما كان به عادة العرب أو بغير ذلك من الشطرنج والغرد ونحوهما قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فانهما يستلزمان الأوزار العظيمة من المخاصمة ما لمشاتمة ويوقعان العداوة والبغضاء ويصدان عن ذكر اللّه وعن الصلاة قرأ حمزة والكسائي أتم كثير بالثاء من حيث تعدد اقسام الأوزار - وقال الباقون كبير بالباء بناء على عظم المعصية وكونهما من الكبائر عن معاذ قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تشربنّ خمرا فانه رأس كل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 270(1/505)
فاحشة - رواه احمد وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين لسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن الحديث رواه البخاري وعن ابن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الخمر أم الفواحش واكبر الكبائر ومن شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على امه وخالته وعمته - رواه الطبراني بسند صحيح - وعن عبد اللّه بن عمر بن الخطاب من شرب الخمر لم يقبل اللّه لصلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم تهبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب تاب اللّه عليه فان عاد في الرابعة لم يقبل اللّه له صلوة أربعين صباحا فان تاب لم يتب اللّه عليه وسقاه من نهر الخيال رواه النسائي وابن ماجة والدارمي وعن عبد اللّه بن عمر وقال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الخمر أم الخبائث فمن شربها لم يقبل صلاته أربعين يوما فان مات وهى في بطنه مات ميتة جاهلية - رواه الطبراني بسند حسن وعنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - قال لا يدخل الجنة(1/506)
عاق ولا قمار ولا منان ولا مدمن خمر رواه الدارمي وعن ابن عمر مرفوعا ثلاثة قد حرم اللّه عليهم الجنة مد من الخمر والعاق والديوث - رواه احمد والنسائي وعن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه بعثني رحمة للعالمين وهدى للعالمين وأمرني ربى عز وجل بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصليب وامر الجاهلية وحلف ربى عز وجل بعزتي لا يشرب عبد من عبيدى جرعة من خمر الا سقيته من الصديد مثلها ولا يتركها مخافتى إلا سقيته من حياض القدس - رواه احمد وعن أبى موسى الأشعري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ثلاثة لا يدخل الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق السحر - رواه احمد وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مدمن الخمر ان مات لقى اللّه كعابد وثن - رواه احمد - وروى ابن ماجة عن أبى هريرة والبيهقي - وعن أبى موسى انه كان يقول ما أبالي شربت الخمر أو عبدت هذه السارية دون اللّه - رواه النسائي وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فان في الخمر لذة عند شربها والفرح واستمراء الطعام وتشجيع الجبان وتوقير المروة وتقوية الطبيعة - ودفع بعض الأمراض وفي الميسر إصابة المال من غير كد ولا تعب (مسئلة) اجمعوا على انه لا يجوز الانتفاع بالخمر في حالة الاختيار واما في حالة الإكراه والاضطرار فيجوز لقوله تعالى إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ - وقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ - فمن غص بلقمة ولم يجد غير الخمر جاز له
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 271(1/507)
ان يسقيها عند أبى حنيفة والشافعي واحمد وقال مالك في المشهور عنه لا يجوز - واختلفوا في انه هل يجوز التداوى بالخمر فقال أبو حنيفة ومالك واحمد لا يجوز وبه قال الشافعي في أصح قوليه وفي قول له انه يجوز القليل للتداوى قال في الهداية كره شرب ودردى الخمر والامتشاط به لان فيه اجزاء الخمر والانتفاع بالمحرم حرام - ولهذا لا يجوز ان يداوى به جرحا أو دبرة دابة ولا ان يسقى ذميا ولا ان يسقى صبيا للتداوى والوبال على من سقاه - وكذا لا يسقيها الدّواب عن وائل بن حجر ان رجلا سال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها قال انما صنعتها للدواء فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم انها داء وليست بدواء - رواه مسلم وعن طارق بن سويد قال قلت يا رسول اللّه ان بأرضنا أعنابا نعصرها ونشربها قال لا فعاودته فقال لا فقلت انا نستسقى بها المريض قال ان ذاك ليس بشفاء لكنه داء - رواه احمد - وعن أم سلمة قالت نبذت نبيذا في كور فدخل النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يغلى فقال ما هذا قلت اشتكت ابنة لى فصنعت لها هذا فقال ان اللّه لم يجعل شفاء كم فيما حرم عليكم - رواه البيهقي وابن حبان ولفظ ابن حبان ان اللّه لم يجعل شفاءكم فى حرام وذكره البخاري عن ابن مسعود تعليقا - قلت ليس معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لم يجعل شفاءكم في حرام انه لم يخلق فيه شفاء فانه خلاف منطوق الآية وبالتحريم لا ينتفى المنافع الخلقية لا تبديل لخلق اللّه - بل المعنى انه لم يرخص لكم في تحصيل الشفاء بالحرام وقد يحتج على جواز التداوى بالحرام بحديث انس ان رهطا من عكل أو قال عرينة قدموا المدينة فامولهم النبي صلى اللّه عليه وسلم بلقاح وأمرهم ان يخرجوا فيشربوا من أبوالها وألبانها فشربوا حتى إذا برءوا قتلوا الراعي الحديث متفق عليه والجواب انه منسوخ فان قصة العرنيين كان قبل نزول سورة المائدة على ان الشافعي يستدل بهذا الحديث على طهارة بول(1/508)
ما يؤكل لحمه فلا يجوز له الاحتجاج بهذا الحديث على جواز التداوى بالمحرم - واختلفوا في انه هل يجوز تخليل الخمر فقال أبو حنيفة يجوز ويطهر بالتخليل وقال مالك يكره لكن يطهر بالتخليل وقال الشافعي واحمد لا يجوز ولا يطهر - لابى حنيفة حديث أم سلمة انها كانت لها شاة يحلبها ففقدها النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما فعلت الشاة قالوا ماتت قال أ فلا انتفعتم باهابها فقلنا انها ميتة فقال دباغتها تحل كما تحل خل الخمر - رواه الدارقطني قال الدارقطني تفرد به الفرج بن فضالة
و هو ضعيف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 272(1/509)
و قال ابن حبان بقلب الأسانيد يلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة لا يحل الاحتجاج به - وقد ذكروا أحاديث لا اصل لها منها خير خلكم خل خمركم ويطهر الدباغ الجلد كما يحل الخمر - وهذا لا يعرف والحجة للشافعى واحمد حديث انس ان أبا طلحة سال النبي صلى اللّه عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال اهرقها قال اولا نجعلها خلا - قال لا أخرجه مسلم ولهذا الحديث طرق اخر أخرجها الدارقطني وفي بعضها إلى اشتريت لايتام في حجرى خمرا فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم أهرق الخمر واكسر الدنان فاعاد ذلك عليه ثلاث مرات - وحديث أبى سعيد قال قلنا الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما حرمت الخمر ان عندنا خمر ليتيم لنا فامرنا فاهرقناها وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قال البغوي قال الضحاك إثمهما بعد التحريم اكبر من نفعهما قبل التحريم - وقيل إثمهما اكبر من نفعهما قبل التحريم - والظاهر عندى ان إثمهما بعد التحريم اكبر من نفعهما كذلك لان مضار الإثم راجعة إلى الاخرة ومنافعها راجعة إلى الدنيا ومتاع الدنيا قليل والساعة أدهى وامر واللّه اعلم أخرج ابن أبى حاتم من طريق سعيد وعكرمة عن ابن عباس ان نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا انا لا ندرى ما هذه النفقة التي امرتنا بها في أموالنا فما ننفق منها - واخرج أيضا عن يحيى انه بلغه ان معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا يا رسول اللّه ان لنا ارقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فانزل اللّه تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ (5) قُلِ الْعَفْوَ قرأ أبو عمر وبالرفع يعنى الذي ينفقون هو العفو قال عطاء وقتادة والسدى هو ما فضل عن الحاجة وكان الصحابة يكتسبون المال فيمسكون قدر النفقة ويتصدقون بالفضل بحكم هذه الآية - عن أبى امامة ان رجلا من أهل الصفة نوفى وترك دينارا فقال رسول اللّه(1/510)
صلى اللّه عليه وسلم كيّة قال ثم توفى اخر وترك دينارين فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كيتان - رواه احمد والبيهقي في شعب الايمان وعن أبى هاشم بن عقبة قال عهد إلينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عهدا سمعته يقول انما يكفيك من جمع المال خادم ومركب - رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة ثم نسخ هذا الحكم باية الزكوة قلت وهذا ليس بسديد فان إنزال الحكم بالزكاة في صدر سورة البقرة ونزولها في السنة الاولى أو الثانية من الهجرة فآية الزكوة مقدمة نزولا على هذه الآية - فاما ان يقال المراد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 273(1/511)
بهذه الآية اشتراط ان يكون نصاب المال في الزكوة فاضلا عن الحاجة الاصلية من الدين وغير ذلك أو يقال السؤال انما كانت عن الصدقة النافلة ومقتضى الآية ان الأفضل التصدق عن ظهر غنى قال مجاهد معناه التصدق عن ظهر غنى حتى لا يبقى كلا على الناس - وقال عمرو بن دينار العفو الوسط من غير إسراف ولا إقتار قال اللّه تعالى وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا - وقال طاؤس العفو ما يسر ومنه قوله تعالى خُذِ الْعَفْوَ أى الميسور من اخلاق الناس فينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول - رواه البخاري وأبو داود والنسائي - وعن حكيم بن حزام نحوه متفق عليه وروى البغوي عن أبى هريرة نحوه وزاد واليد العليا خير من اليد السفلى - وعن ابن عباس مثله بلفظ خير الصدقة ما أبقت غنى - رواه الطبراني وعن أبى هريرة قال جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه عندى دينار فقال أنفقه على نفسك - قال عندى اخر قال أنفقه على ولدك قال عندى اخر قال أنفقه على أهلك قال عندى اخر قال أنفقه على خادمك قال عندى أنت اعلم - رواه أبو داود والنسائي - وعن جابر ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم ببيضة من ذهب أصابها فى بعض المغانم فقال خذها منى صدقة فاعرض عنه ثم كرر مرارا فقال هاتها مغضبا فاخذها فخذفها حذفا لو أصابه لشجه ثم قال يأتى أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف(1/512)
الناس انما الصدقات عن ظهر غنى - رواه البزار وأبو داود ابن حبان والحاكم عند البزار في بعض المغانم والباقيين في بعض المغازي فان قيل لهذا الحديث والآية يدلان على كراهة انفاق جميع المال وكراهة جهد المقل - فان العفو ضد الجهد وحديث أبى امامة يدل على وجوب انفاق جميع المال - وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم - انه سئل اىّ صدقة أفضل قال جهد المقل وابدأ بمن تقول - رواه أبو داود من حديث أبى هريرة - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو كان لى مثل أحد ذهبا لسرنى ان لا يمر على ثلاث ليال وعندى منه شىء الا شىء ارصده لدين رواه البخاري وعن اسماء قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انفقى ولا تحصى فيحصلى اللّه عليك ولا توعى فيوعى اللّه عليك ارضحى ما استطعت - متفق عليه قلت الحكم يختلف باختلاف الاشخاص والأحوال فمن كان بعد ما يتصدق كل ماله يتكفف الناس ولا يستطيع الصبر على الفقر لا يجوز له ذلك ومن يقدر على الصبر وليس عليه حق من حقوق الناس فالافضل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 274(1/513)
فى حقه البذل في سبيل اللّه - وحقوق الناس من الديون ونفقة العيال والخادم مقدم على التصدق على الأجنبي لا محالة فان ذلك فريضة وهذه نافلة - ومن التزم على نفسه التزهد والمعاش على حسب عيش النبي صلى اللّه عليه وسلم كاهل الصفة من الصحابة واهل الخانقاه من الصوفية فيكره له إمساك ما فضل عن الحاجة وعليه يحمل حديث أبى امامة ولعل النبي صلى اللّه عليه وسلم عبر التحسر على فوات الأفضل من الأعمال بالكلية - فان قيل لو أنفق ما فضل عن الحاجة قبل بلوغ النصاب والحول فقط ادى نافلة ولو اتفق بعد ما بلغ المال نصابا وحال عليه الحول فقد ادى فريضة وأداء الفريضة يكون أفضل من النافلة فكيف يقال بالعكس - قلنا سبب وجوب الانفاق هو نفس تملك المال وبه يحصل القدرة الممكنة فان الشكر عبارة عن صرف النعمة في رضاء المنعم واشتراط النصاب والنماء والحول رخصة من اللّه تيسيرا وتفضلا وبه يحصل القدرة الميسرة فمن ترك الانفاق لفوات القدرة الميسرة فلا اثم عليه بناء على الرخصة - ولكن من أنفق مع فوات القدرة الميسرة بعد الممكنة فقد اتى بالعزيمة - والواجب في المال بعد النصاب وان كان ربع العشر مثلا لكن من أنفق كل المال في سبيل اللّه يقع كل ذلك عن الفريضة كما ان الواجب من القراءة في الصلاة يتادى بالفاتحة وثلاث آيات قصار لكن من قرأ القرآن كله في ركعة يقع عن الواجب لان فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ - وأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ شامل لهما - وكون المال فاضلا عن الحاجة يكفى لصدق من التبعيضية في قمار رزقنكم كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الكاف في موضع النصب صفة مصدر محذوف يعنى يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تبيينا مثل ذلك التبيين فى امر النفقة وغيرها من الاحكام وانما وحدّ العلامة والمخاطب به جمع على تأويل القبيل والجمع أو هو خطاب للنبى صلى اللّه عليه وسلم وخطابه يشتمل على خطاب الامة(1/514)
كقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فى الدلائل والاحكام فتعلمون ان تلك الآيات لا يتصور الا من اللّه العليم بمصالح الأمور وعواقبها الحكيم المتقن فتبادروا بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه فتفوزوا بمنافع الدارين.
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الظرف متعلق بيبين تقدير الكلام يبين اللّه لكم الآيات ما يصلح لكم في امر الدنيا والاخرة لعلكم تتفكرون وقيل الظرف متعلق بتتفكرون والمعنى تتفكرون فيما يتعلق بالدنيا والاخرة فتأخذون بما هو
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 275
أصلح لكم فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم المعاش في الدنيا وتنفقون الفاضل فيما ينفعكم في العقبى أو المعنى لعلكم تتفكرون في الدارين فتؤثرون ابقاءهما وأكثرهما منافع - عن على رضى اللّه عنه قال ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الاخرة مقبلة ولكل واحد منهما بنون فكونوا من أبناء الاخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فان اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل - رواه البخاري في ترجمة باب ورواه البيهقي فى شعب الايمان عن جابر مرفوعا - وعن ابن مسعود ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نام على حصير وقام وقد اثر في جسده فقال ابن مسعود يا رسول اللّه لو امرتنا ان نبسط لك فقال ما لى وللدنيا ما انا والدينا الا كراكب استظل نحت شجرة ثم راح وتركها - رواه احمد والترمذي وابن ماجة - وعن أبى الدرداء مرفوعا ان إمامكم عقبة كؤدا لا يجوّزها المثقلون - رواه البيهقي في الشعب واللّه اعلم أخرج أبو داود والنسائي والحاكم وصححه من حديث ابن عباس انه لما نزلت قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(1/515)
و قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية تحرج المسلمون تحرجا شديدا حتى عزلوا اموال اليتامى عن أموالهم فكان يصنع لليتيم طعام فيفضل منه شىء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد فاشتد ذلك عليهم وسالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يعنى إصلاح اموال اليتامى وأمورهم خير فان رايتم الإصلاح في المجانبة فذاك وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ ورايتم إصلاحهم في المخالطة فَإِخْوانُكُمْ أى انهم إخوانكم فى الدين والنسب والاخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض على وجه الإصلاح وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ يعنى الذي يقصد بالمخالطة الخيانة وإفساد مال اليتيم وأكله بغير حق مِنَ الْمُصْلِحِ الذي يقصد به الإصلاح وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أى لضيّق عليكم وما أباح لكم ذلك ولكنه خفف عنكم فاباح لكم مخالطتهم على قصد الإصلاح إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يحكم ما يشاء سهّل على العبادا وشق عليهم حَكِيمٌ يحكم بفضله على ما يقتضيه الحكمة ويتسع له الطاقة واللّه اعلم قال البغوي بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا مرثد الغنوي إلى مكة ليخرج منها ناسا من المسلمين سرّا - فلما قدمها سمعت به امراة مشركة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فاتته وقالت يا أبا مرثد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 276
الا تخلو فقال لها ويحك يا عناق ان الإسلام قد حال بيننا وبين ذلك قالت فهل لك ان تتزوج بي قال نعم ولكن ارجعه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاستأمره فقالت أبى تبترم ثم استغاثت عليه فضربوه ضربا شديدا ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة وانصرف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعلمه بالذي كان من امره وامر عناق وقال يا رسول اللّه أ تحل لى ان أتزوجها فانزل اللّه تعالى.(1/516)
وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وكذا أخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم والواحدي عن مقاتل - وقال السيوطي ليس هو في نزول هذه الآية انما هو في نزول اية سورة النور الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الآية كذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر وهذه الآية منسوخة في حق الكتابيات لقوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهن مشركات حيث يعبدون عزيرا أو مسيحا وَلَأَمَةٌ أى امراة حرة كانت أو أمة فان الناس عباد اللّه واماؤه مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ يعني بمالها وجمالها وشمائلها - والواو للحال ولو بمعنى ان تعليل لما سبق من النهى - قال البغوي نزلت في خنساء وليدة كانت كحذيفة بن اليمان فاعتقها فتزوجها واخرج الواحدي من طريق الواقدي عن أبى مالك عن ابن عباس انه كانت أمة سوداء لعبد اللّه بن رواحة وانه غضب عليها فلطمها ثم فزع فاتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره بذلك فقال له عليه السلام وما هى يا عبد اللّه فقال هى تشهدان لا الله الا اللّه وانك رسول اللّه وتصوم رمضان وتحسن الوضوء وتصلى - فقال هذه مؤمنة - قال عبد اللّه فو الذي بعثك بالحق لاعتقها ولا تزوجها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا أ تنكح أمة وعرضوا عليه حرة مشركة فانزل اللّه هذه الآية - ويستفاذ من هذه الآية بالقياس ان امرأة تقية ذات اخلاق حسنة وان كانت فقيرة ذميمة اولى بالنكاح من امراة فاسقة سيئة الأخلاق وان كانت غنية جميلة - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تنكح المرأة لاربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك - متفق عليه وعن عبد اللّه بن عمر ومرفوعا خير متاع الدنيا المرأة الصالحة - رواه مسلم وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا اتقوا النساء فان أول فتنة بنى إسرائيل كانت في(1/517)
النساء رواه مسلم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 277
وَ لا تَنْكِحُوا مسلمة حذف احدى المفعولين والخطاب إلى الأولياء أو إلى الحكام يعنى امنعوهن عن نكاح المشركين الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا - هذه الآية محكمة لا يجوز نكاح المؤمنة بالمشرك كتابيا كان أو غيره اجماعا وَلَعَبْدٌ أى رجل مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بماله أو جاهه أو غير ذلك أُولئِكَ يعنى المشركات والمشركين يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أى إلى الكفر والمعاصي فان للصحبة والموالات تأثير في النفوس يصير المرء على دين خليله وجليسه وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسله - أو المعنى واولياء اللّه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تفخيما لشأنهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ يعنى إلى اعتقادات واعمال توجب الجنة والمغفرة فاولياء اللّه أحق بالمواصلة بِإِذْنِهِ بتوفيقه وتيسيره أو لقضائه وإرادته وَيُبَيِّنُ آياتِهِ أو امره ونواهيه لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (212) لكى يتذكروا أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكر واللّه اعلم روى البخاري ومسلم والترمذي عن انس ان اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك - واخرج « 1 » عن ابن عباس ان السائل ثابت بن الدحداح - واخرج ابن جرير عن السدى نحوه فانزل اللّه تعالى.(1/518)
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ - المحيض مصدر كالمجئ والمبيت - والمعنى يسئلونك عما يفعل بالنساء في المحيض - ذكر اللّه سبحانه يسئلونك بغير واو ثلثا ثم بالواو ثلثا لعله كانت السؤالات السابقة في اوقات متفرقة والثلاثة الاخيرة كانت في وقت واحد فلذلك ذكرها بلفظ الجمع. قُلْ يا محمد هُوَ يعنى المحيض أَذىً قذر مستقذر فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ والمراد باعتزال النساء ترك الوطي اجماعا - دون ترك المخالطة في الاكل والشرب والمضاجعة وغير ذلك - روى البخاري ومسلم في حديث انس المذكور انه حين نزل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اصنعوا كل شىء الا النكاح وعن عائشة قالت كنت اغتسل انا والنبي صلى اللّه عليه وسلم من اناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرنى فاتزر فيباشرنى وانا حائض وكان يخرج رأسه الىّ وهو معتكف فاغسله وانا حائض متفق عليه وعنها قالت كنت اشرب وانا حائض ثم انا وله النبي صلى اللّه عليه وسلم فيضع فاه موضع فيّ فيشرب واتعرق العرق وانا حائض ثم انا وله النبي صلى اللّه عليه وسلم فيضع فاه موضع فيّ رواه مسلم وعنها قالت كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يتكى في حجرى وانا حائض ثم يقرأ القرآن متفق عليه وعنها قالت قال لى النبي صلى اللّه عليه وسلم ناولنى الخمرة من المسجد فقلت
_________
(1) هكذا بياض في الأصل 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 278(1/519)
انى حائض فقال ان حيضتك ليست في يدك - رواه مسلم عن ميمونة قالت كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يصلى في مرط بعيضه علىّ وبعضه عليه وانا حائض - متفق عليه وعن أم سلمة قالت حضت فاخذت ثياب حيضتى فلبستها فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ نفست قلت نعم فادخلنى معه في الخميلة - رواه البخاري وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد للحكم السابق وبيان للغاية قرأ عاصم برواية أبى بكر وحمزة والكسائي بتشديد الطاء والهاء وقرا الآخرون بسكون الطاء وضم الهاء مخففا ومعنى القراءتين عند مالك والشافعي واحمد وأحد يعنى حتى يغتسلن فلا يجوز عندهم قربان الحائض بعد انقطاع دمها قبل الاغتسال أصلا - وقال أبو حنيفة معنى قراءة التخفيف حتى يطهرن من الحيض وتنقطع دمهن فيجوز على هذه القراءة القربان بغد الانقطاع قبل الغسل ومعنى قراءة التشديد الاغتسال فعلى هذه القراءة لا يجوز ذلك فيحمل أبو حنيفة قراءة التخفيف على ما إذا انقطع دمها بعد عشرة ايام وقراءة التشديد على ما دون العشرة - ويرد عليه ان قراءة التشديد ناطق بالمنع عن القربان قبل الاغتسال وقراءة التخفيف لا يدل على اباحة القربان قبل الاغتسال الا بالمفهوم والمفهوم لا يعارض المنطوق - وبعد ما اجمعوا على حرمة الوطي في الحيض اختلفوا في انه من ارتكب ذلك هل يجب عليه كفارة أم لا - فقال أبو حنيفة ومالك لا يجب عليه الكفارة بل الاستغفار فحسب - وهو الجديد من قول الشافعي - وقال احمد يتصدق بدينار فان لم يجد فنصف دينار - وقال الشافعي في القديم ان اتى حائضا فى اقبال الدم فعليه دينار وفي ادبار الدم فنصف دينار - لحديث ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الذي يأتى امرأته وهى حائض قال يتصدق بدينار أو نصف دينار - رواه احمد عن يحيى عن شعبة عن الحكم عن عبد الحميد عن مقيم عنه ورواه أهل السنن والدارقطني ورواة هذا الحديث مخرج في الصحيحين الا مقيما(1/520)
انفرد بإخراجه البخاري وصححه ابن القطان والحاكم وابن دقيق العبد فلا يضر رواية من رواه موقوفا فان الرفع زيادة مقبولة من الثقة واحتجوا للقول القديم الشافعي بما روى عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم - إذا كان دما اصفر فنصف دينار واحمر فدينار - ومدار هذا الحديث على عبد الكريم أبى امية وهو مجمع على تركه كان أبو أيوب السجستاني يرميه بالكذب وقال احمد ويحيى ليس بشىء واختلفوا في الاستمتاع بما تحت الإزار
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 279(1/521)
دون الجماع فقال احمد يجوز وقال الجمهور لا يجوز لاحمد ما مر من حديث انس اصنعوا كل شىء الا النكاح - وعن عكرمة عن بعض ازواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئا القى على فرجها شيئا رواه ابن الجوزي - واحتج الجمهور بحديث معاذ بن جبل قال قلت يا رسول اللّه ما يحل لى من امراتى وهى حائض قال ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل - رواه رزين - قال محيى السنة اسناده ليس بالقوى - وعن عبد اللّه بن « 1 » نحوه رواه أبو داود - وعن زيد بن اسلم قال - ان رجلا سال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال ما يحل لى من امراتى وهى حائض فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها - رواه مالك والدارمي مرسلا - والتحقيق انه ان ملك اربته فلا بأس بالمساس تحت الإزار دون الفرج لان المراد بالآية هو النهى عن الجماع والجمع بين الحقيقة وو المجاز لا يجوز - والا فالترك واجب فانه من حال حول الحمى يوشك ان يقع فيه - واجمعوا على ان الحيض يمنع جواز الصلاة ووجوبها ويمنع جواز الصوم لا وجوبه - فلذا لا تقضى الصلاة وتقضى الصوم قالت عائشة - كنا نحيض عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيأمرنا بقضاء الصيام ولا يأمرنا بقضاء الصلاة - رواه مسلم والترمذي - وهذا حديث مشهور روى معناه عن كثير من الصحابة صريحا ودلالة - وفي الصحيحين قوله عليه السلام أ ليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم - وأيضا قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا أقبلت الحيضة فاتركى الصلاة - ويمنع الحيض دخول المسجد والطواف ومس المصحف وقراءته اجماعا - قال اللّه تعالى لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ - و(1/522)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - وجهوا هذه البيوت عن المسجد فانى لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تقرا الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن - رواه الترمذي وابن ماجة والدارقطني - وله شاهد من حديث جابر - رواه الدارقطني مرفوعا وفي اسناد هذين الحديثين مقال واللّه اعلم فَإِذا تَطَهَّرْنَ اتفق القراء هاهنا على التشديد فظهر ان الاغتسال شرط لاباحة الوطي فَأْتُوهُنَّ فجامعوهن يعنى أبا حكم اللّه الجماع بعد التطهر مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يعنى الفرج دون الدبر -
_________
(1) هكذا في الأصل
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 280(1/523)
و انما ذكرنا الإباحة لان الأمر بالجماع للاباحة دون الوجوب - قال مجاهد وقتادة وعكرمة أى من حيث أمركم ان تعتزلوهن منه وهو الفرج - وكذا قال ابن عباس قيل من هاهنا بمعنى في يعنى فى حيث أمركم اللّه وهو الفرج كقوله تعالى إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أى في يوم الجمعة - وقال ابن الحنفية من قبل الحلال دون الفجور إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الكفر والمعاصي وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) من الاقذار كمجامعة الحائض والإتيان في الدبر ومن الأحداث والاخباث فحرمة إتيان النساء في أدبارهن ثبت بهذه الآية بالاشارة أو بالقياس على حرمة وطى الحائض فانه مستقذر كالوطى في الحيض - بل الوطي مطلقا مستقذر سواء كان في القبل أو في دبر الرجل أو الامرأة ومن ثم يجب الغسل به لكن أبيح الوطي في القبل لضرورة ابقاء النسل وجعل للاباحة شرائط من النكاح وعدم المحرمية وبراءة الرحم والطهارة من الحيض وغير ذلك - ولا ضرورة في الوطي في الدبر سواء كان المفعول به رجلا أو امراة فبقى على حرمته لعلة الاستقدار - وقد ثبت حرمة إتيان الرجل الرجل في دبره بالنصوص القطعية والإجماع وهلك في ذلك قوم لوط عليه السلام فكذا إتيان المرأة في دبرها - ومن ثم قيد اللّه سبحانه قوله فَأْتُوهُنَّ بقوله مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ - ولدفع توهم حرمة الجماع بعلة الأذى وبيان وجه ضرورة الإباحة عقب اللّه تعالى تلك الآية بقوله - .(1/524)
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ - يعنى مواضع حرث لكم شبههن بها تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف بالبذور يعنى أبيح لكم إتيانهن ضرورة ابقاء النسل فَأْتُوا حَرْثَكُمْ يعنى فروجهن فهو كالبيان لقوله فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنَّى شِئْتُمْ يعنى كيف شئتم فان كلمة انى مشتركة في معنى كيف واين ولا يتصور هاهنا معنى اين فانه تدل على عموم المحل ومحل الحرث ليس؟؟ فتعين معنى كيف ويقتضيه ما سنذكر من التحقيق في سبب نزول الآية واللّه اعلم وبما قلنا من حرمة إتيان النساء فى أدبارهن قال أبو حنيفة واحمد وجمهور أهل السنة - ويحكى عن مالك جواز إتيان المرأة في دبرها واكثر أصحابه ينكرون ان يكون ذلك مذهبا له والصحيح انه كان مذهبا له ثم رجع عنه هو أو رجع عنه أصحابه - والشافعي فيه قولان القول القديم عنه ما حكى عن ابن عبد الحكم عن الشافعي انه قال لم يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في تحريمه ولا في تحليله شىء والقياس انه حلال فكانه قاس
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 281(1/525)
على من عالج امرأته بذكره في فخذها أو يدها - روى الحاكم بسنده عن ابن عبد الحكم انه كلم الشافعي فى مسئلة إتيان المرأة في دبرها فقال سالنى محمد بن الحسن فقلت له ان كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وان لم تصح فانت اعلم وان تكلمت بالمناصفة كلمتك قال على المناصفة قلت فباىّ شىء حرمته قال لقوله عز وجل فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ - فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ والحرث لا يكون الا في الفرج قلت أ فيكون ذلك محرما لما سواه قال نعم قلت فما تقول لو وطيها بين ساقيها أو تحت بطنها أو أخذت ذكره بيدها أ في ذلك حرث قال لا قلت أ فتحرم ذلك قال لا قلت فلم تحتج بما لا حجة فيه قال فان اللّه قال وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية قال فقلت له ان هذا ما يحتجون به للجواز ان اللّه اثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته وما ملكت يمينه فقلت أنت تقول للحفظ من زوجته وما ملكت يمينه - قلت ولما ذكرنا من ان سبب حرمة إتيان النساء في الأدبار الاستقذار وذلك منتف فيمن وطيها بين ساقيها ونحو ذلك فظهروهن قياس الشافعي ومن ثم رجع الشافعي عن قوله ذلك - قال الحاكم لعل الشافعي كان يقول ذلك في القول القديم فاما في الجديد المشهور انه حرمه - وقال الربيع كذب ابن عبد الحكم واللّه الذي لا الله الا هو قد نص الشافعي على تحريمه في سننه وحكاه عنه جماعة منهم الماوردي في الحاوي وأبو نصر بن الصباح في الشامل وغيرهم - وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني بتكذيب الربيع لابن عبد الحكم لا معنى له لأنه لم يتفرد به فقد تابعه اخوه عبد الرحمن - والتحقيق ان للشافعى فيه قولان والجديد المرجوع إليه انه وأفق الجمهور في التحريم - وقد ورد في حرمة الإتيان في الدبر أحاديث قال ابن الجوزي روى ذلك عن جماعة من الصحابة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وخزيمة بن ثابت وابى هريرة و(1/526)
ابن عباس وعبد اللّه بن عمرو بن العاص وابن مسعود وعقبة بن عامر والبراء بن عازب وطلق بن على وأبو ذر وجابر بن عبد اللّه - قلت اما حديث عمر فقد أخرجه النسائي والبزار من طريق زمعة بن صالح عن ابن طاءوس عن أبيه عن الهاد عن عمر وزمعة ضعيف ضعفه احمد وأبو حاتم وقال الذهبي صالح الحديث وقد اختلف عليه في رفعه ووقفه - واما حديث على فقد أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة بلفظ ان اللّه لا يستحيى من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن - واما حديث خزيمة بن ثابت ان رجلا سال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 282
النبي صلى اللّه عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن فقال - حلال - فلما ولى الرجل دعا فقال كيف قلت فى أى الحزبتين أمن دبرها في قبلها فنعم أو من دبرها في دبرها فلا ان اللّه لا يستحى من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن - رواه الشافعي واحمد والترمذي وابن ماجة والدارمي وفيه عمرو بن اجنحة مجهول الحال ورواه النسائي من طريق وهب بن سويد بن هلال عن أبيه عن على بن السائب عن حصين بن محصين عن هرمى بن عبد(1/527)
اللّه عن خزيمة - ومن طريق هرمى أيضا أخرجه احمد والنسائي وابن حبان وهو لا يعرف حاله أيضا - وقال البزار لا اعلم في هذا الباب حديثا صحيحا وكلما روى عن خزيمة بن ثابت فغير صحيح وكذا روى الحاكم عن الحافظ أبى على النيشابوري ومثله عن النسائي وقال قبلهما البخاري - واما حديث أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ملعون من اتى امراة في دبرها وفي لفظ لا ينظر اللّه يوم القيمة إلى رجل اتى امراة في دبرها - رواه احمد وأبو داود وبقية اصحاب السنن من طريق سهيل بن أبى صالح عن الحارث بن مخلد عن أبى هريرة - وأخرجه البزار وقال - الحارث بن مخلد ليس بمشهور - وقال ابن القطان لا يعرف حاله - وقد اختلف فيه على سهيل فرواه إسماعيل بن عيّاش عنه عن محمد بن المنكدر عن جابر أخرجه الدارقطني وابن شاهين - ورواه عمر مولى عفرة عن سهيل عن أبيه عن جابر أخرجه ابن عدى واسناده ضعيف - ولحديث أبى هريرة طريق اخر أخرجها احمد والترمذي من طريق حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبى تميمة عنه بلفظ من اتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه ما يقول فقد كفر بما انزل على محمد قال الترمذي غريب لا نعرفه الا من حديث حكيم وقال البخاري لا يعرف لابى تميمة سماعا عن أبى هريرة - وقال البزار هذا حديث منكر وحكيم لا يحتج به وما تفرد به فليس بشىء - وله طريق ثالث أخرجها النسائي من رواية الزهري عن أبى سلمة عنه - قال حمزة الكتاني هذا حديث منكر وعبد الملك راويه قد تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وغيرهما - والمحفوظ الموقوف وله طريق رابع أخرجها النسائي من طريق بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبى هريرة بلفظ - من اتى شيئا من الرجال أو النساء في الأدبار فقد كفر وبكر وليث ضعيفان - وله طريق خامس رواه عبد اللّه بن عمر بن حبان عن مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء عن أبيه عن أبى هريرة بلفظ ملعون من اتى النساء في أدبارهن - رواه احمد والنسائي و(1/528)
مسلم ضعفه النسائي وغيره وقال الذهبي صدوق وثقة يحيى بن معين وغيره -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 283
و اما حديث ابن عباس أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان واحمد والبزار من طريق كثير بن عباس قال البزار لا نعلمه يروى عن ابن عباس بإسناد احسن من وهب - انفرد به أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن محمد بن سلميان عن كريب - وكذا قال ابن عدى ورواه النسائي عن هناد عن وكيع عن الضحاك موقوفا وهو أصح عندهم من المرفوع وعن ابن عباس من طريق اخر موقوفا رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاؤس عن أبيه ان رجلا سأل عن ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسئلنى عن الكفر وأخرجه النسائي من رواية ابن المبارك عن معمر واسناده قوى - واما حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص فقد أخرجه احمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الرجل يأتى المرأة في دبرها فقال هى اللواطة الصغرى - وأخرجه النسائي وأعله والمحفوظ عن عبد اللّه بن عمرو من قوله كذا أخرجه عبد الرزاق وغيره - وفي الباب عن انس أخرجه الإسماعيلي في معجمه وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف وعن أبى بن كعب في خبر الحسن بن عرفة بإسناد ضعيف جدا وعن ابن مسعود عند ابن عدى بإسناد واه وعن عقبة بن عامر عند احمد فيه ابن لهيعة - وهذا الأحاديث كلها وان كانت ضعيفة كما سمعت لكن باعتضاد بعضها ببعض يحصل العلم قطعا بورود النهى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بحيث لا مرد له فوجب القول به واللّه اعلم - واحتج القائلون بإباحته بما صح عن ابن عمر بطرق كثيرة انه قال نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ نزلت في إتيان النساء في أدبارهن - رواه البخاري - وكذا روى الطبراني بسند جيد عنه انه قال - انما نزلت رخصة في الإتيان الدبر - واخرج أيضا عنه - ان رجلا أصاب امراة فى دبرها في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم فانكر ذلك الناس(1/529)
فانزل اللّه تعالى - وكذا أخرج ابن جرير وأبو يعلى و
ابن مردوية من طريق عبد اللّه بن نافع عن هشام بن سعد عن زيد بن اسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدري ان رجلا أصاب امراة في دبرها فانكر الناس عليه ذلك فانزل اللّه تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ - قلت هذا وهم من ابن عمر وابى سعيد اخطئا في تاويل الآية - ولو كان هذا سبب نزول هذه الآية لما طابق الحكم الوقعة فان قوله تعالى فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ حكم بإتيان الحرث لا بإتيان الدبر فانه ليس بمحل الحرث فلا ينتهض حجة لاباحة الدبر - وقيل هذا وهم من نافع لما روى عن عبد اللّه بن الحسن انه لقى سالم بن عبد اللّه فقال له يا أبا عمر ما حديث يحدث نافع عن ابن عمر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 284(1/530)
انه لم يكن يرى بأسا بإتيان النساء في أدبارهن قال كذب العبد واخطأ انما قال عبد اللّه يؤتون في فروجهن من أدبارهن - قلت وقول سالم هذا ليس بسديد فانه لم ينفرد به نافع عن ابن عمر بل رواه زيد بن اسلم وعبيد اللّه بن عبد اللّه بن عمر وسعيد بن يسار وغيرهم عنه كذا ذكر الشيخ ابن حجر فالصحيح ان الوهم انما هو من ابن عمر وقد حكم بكونه وهما من ابن عمر رأس المفسرين ابن عباس - أخرج أبو داود والحاكم عن ابن عباس قال ان ابن عمر واللّه يغفر له أوهم - انما كان أهل هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من اليهود وهم أهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من امر أهل الكتاب لا يأتون النساء الا على حرف وذلك استر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار أخذوا بذلك وكان هذا الحي من قريش يسرحون النساء سرحا ويتلذ ذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امراة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فانكرته عليه وقالت انما كنا نؤتى على حرف فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فانزل اللّه تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ - أى مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعنى بذلك موضع الولد وهكذا في سبب نزول هذه الآية روى البخاري وأبو داود والترمذي عن جابر قال كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فاكذبهم اللّه تعالى وقال نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ أى كيف شئتم في الفرج يريد بذلك موضع الولد للحرث - وكذا روى احمد عن عبد الرحمن بن سابط قال دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن فقلت انى سائلك عن أمر وأنا استحيى ان أسئلك - قالت لا تستحيى يا ابن أخي قلت عن إتيان النساء في أدبارهن قالت كانت اليهود تقول من حبا امرأته كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة(1/531)
نكحوا في نساء الأنصار فحبوهن فابت امراة ان تطيع زوجها قالت لن نفعل ذلك حتى اتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخلت على أم سلمة - فذكرت لها ذلك فقالت اجلسي حتى يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استحيت الانصارية ان تسئله فخرجت فحدثت أم سلمة فقال ادعى الانصارية فدعيت فتلا عليها هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ صماما واحدا - واخرج احمد والترمذي عن ابن عباس قال جاء عمر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه هلكت قال وما أهلكك - قال حولت رجلى الليلة - فلم يرد عليه فانزل اللّه تعالى هذه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 285
الاية فقال عليه السلام اقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة - وبهذا ظهر انه صلى اللّه عليه وسلم فسر هذه الآية بقوله اقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة كما فسر قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ بقوله اصنعوا كل شىء الا النكاح وان كان ظاهر تلك الآية لا تدل على جواز مخالطة النساء في المأكل والمشارب فظهر اندفاع ما ذكر ابن عبد الحكم عن الشافعي - ان هذه الآية ليست محرمة للدبر كما انها ليست محرمة للموطى في الساق وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ - يعنى لا تقصدوا بالنكاح الحظوظ العاجلة فقط بل اقصدوا المنافع الراجعة إلى الدين من تحصين الفرج والولد الصالح يدعو له ويستغفر ولا افراط فان الأمور المباحة باقتران النية الصحيحة الصالحة تصير عبادة - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي بضع أحدكم صدقة(1/532)
قالوا يا رسول اللّه أ يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها اجر قال أ رأيتم لو وضعها في حرام أ كان عليه فيه وزر فكذلك إذا وضعها في حلال كان له اجر - رواه مسلم في حديث أبى ذر وعن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له - رواه مسلم وعنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يموت لاحد من المسلمين ثلثة من الولد فتمسه النار الا تحله القسم - متفق عليه وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لنسوة من الأنصار لا يموت لاحداكن ثلثة من الولد فتحتسبه الا دخلت الجنة فقالت امراة منهن أو اثنان يا رسول اللّه قال واثنان - رواه مسلم وعن ابن عباس مرفوعا من كان له فرطان من أمتي ادخله اللّه بهما الجنة - فقالت عائشة فمن كان له فرط من أمتك قال ومن كان له فرط الحديث - رواه الترمذي ويمكن ان يقال قوله تعالى وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ عطف تفسيرى لقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ - ومعناه ان في إتيانكم حرثكم تقديم منكم لانفسكم من الافراط والدعوات والاستغفارات من صالحى الأولاد وبه يظهر فائدة النكاح وان لم تكن له نية صالحة - وقال عطاء ومجاهد المراد به التسمية والدعاء عند الجماع - روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال - لو ان أحدكم إذا أراد ان يأتى اهله قال بسم اللّه اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا - فانه ان يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان ابدا وَاتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن معاصيه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجزيكم بأعمالكم ان خيرا فخيرا وان شرا فشرا وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (233) عن صهيب قال قال رسول اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 286(1/533)
صلى اللّه عليه وسلم عجبا لامر المؤمن ان أصابته سراء شكر فكان خير انه وان أصابته ضراء صبر فكان خيرا له - رواه مسلم ذكر البغوي انه كان بين عبد اللّه بن رواحة وبين ختنه على أخته بشير بن النعمان الأنصاري شىء فحلف عبد اللّه ان لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين خصمه وإذا قيل له قال حلفت باللّه ان لا افعل فلا يحل لى الا ان تبر يمينى فانزل اللّه تعالى.(1/534)
وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ أى الحلف باللّه أو يمين اللّه على حذف المضاف عُرْضَةً فعلة بمعنى المفعول كالقبضة يطلق لما يعرض دون الشيء فيكون حاجزا عنه يعنى لا تجعلوا الحلف باللّه مانعا عن الحسنات لِأَيْمانِكُمْ اللام صلة لعرضة لما فيها من الاعتراض - والمراد - بالايمان الأمور التي يحلف عليها أَنْ تَبَرُّوا مع ما عطف عليه عطف بيان لايمانكم - ويحتمل ان يكون اللام في لايمانكم للتعليل ويتعلق ان بالفعل أو بعرضة أى لا تجعلوا اللّه عرضة لاجل ايمانكم لان تبرّوا - وقد يطلق عرضة للمعرض للامور لا يزال يقع عليه يقال جعلته عرضة لكذا أى نصبته له وفي القاموس العرضة الاعتراض في الخير والشر يعنى لا تقعوا على الحلف باللّه في كل امر ولا تجعلوه كالهدف المنصوب للزمى - ولا تعرضوا باليمين في كل ساعة فحينئذ أَنْ تَبَرُّوا اما علة للنهى أى أنهاكم عن الحلف لان تبروا وعلة للمنهى بتقدير لا أى لا تكثر والحلف لان لا تبروا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وبهذه الآية تبت ان الإكثار بالحلف مكروه وان الحلّاف مجترئ على اللّه لا يكون برا متقيا ولا موثوقا به في إصلاح ذات البين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحلف حنث أو ندم - رواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عمر ورواه البخاري في تاريخه - وانه من حلف على ترك عمل من اعمال البر يجب عليه ان لا يجعل يمينه مانعا من البر بل يحنث ويكفر - عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال من حلف بيمين فراى غيرها خيل منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير - رواه مسلم وفي الصحيحين عن عبد الرحمن بن سمرة نحوه وعن أبى موسى قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انى واللّه ان شاء اللّه لا احلف على يمين فارى غيرها خيرا منها الا كفرت عن يمينى وأتيت الذي هو خير - متفق عليه وقيل هذه الآية نزلت في الصديق رضى اللّه عنه لما حلف ان لا ينفق على مسطح لافترائه(1/535)
على عائشة أخرجه ابن جرير عن ابن جريج وَاللَّهُ سَمِيعٌ لايمانكم عَلِيمٌ (224) لنياتكم - .
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 287
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بالعقاب في الاخرة وهو المراد بالمؤاخذة هاهنا في كلا الكلمتين وكذا في المائدة لا كما قيل ان المراد فى المائدة والمؤاخذة الدنيوية بالكفارة أو أعم منهما - لان الكفارة كالزكوة خالص حق اللّه تعالى لا مؤاخذة به في الدنيا ولهذا من مات وعليه الزكوة أو الكفارة ولم يوص لا يمنعان من تعلق حق الورثة بخلاف ديون العباد والعشر والخراج وأيضا لا يجب الكفارة بنفس اليمين بل بالحنث بعد اليمين فلا يتصور تعليق المؤاخذة بالكفارة بعقد اليمين - فالمراد بالمؤاخذة هو العقاب والكفارة شرعت لرفع ذلك المؤاخذة بِاللَّغْوِ الكائن فِي أَيْمانِكُمْ واللغو في اللغة الساقط الذي لا يعتد به من الكلام أو من غيره كذا في القاموس والمراد هاهنا ماجرى من اليمين على اللسان من غير عقد وقصد سواء كان في الإنشاء أو الخير الماضي أو المستقبل - وهذا التفسير مروى عن عائشة روى الشافعي انها قالت لغواليمين قول الإنسان لا واللّه وبلى واللّه - وأخرجه أبو داود عن عائشة مرفوعا - والى هذا ذهب الشعبي وعكرمة وبه قال الشافعي - وهذا هو المناسب للمعنى اللغوي المذكور فانه إذا كان من غير قصد فهو ساقط عن الاعتبار غير معتد به ولا يترتب عليه الإثم اجماعا ان كان في الاخبار - وكذا لا ينعقد عند الشافعي إذا كان هذا القسم من اليمين فى الإنشاء - فلا يجب عليه الكفارة ان حنث والحجة له هذه الآية بهذه لتفسير وقال أبو حنيفة رحمه اللّه ينعقد اليمين ويجب الكفارة ان حنث لقوله صلى اللّه عليه وسلم ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين كذا قال صاحب الهداية - وهذا الحديث لم نجده في كتب الحديث لكن وجدنا حديث أبى هريرة من طريق عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء عن يوسف بن ماهك عنه مرفوعا ثلاث جدهن جد و(1/536)
هزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة - أخرجه احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والدارقطني قال الترمذي حسن وقال الحاكم صحيح وقال ابن الجوزي عطاء هو ابن عجلان متروك الحديث وقال الحافظ ابن حجر وهم ابن الجوزي انما هو عطاء بن أبى رباح - وعبد الرحمن بن حبيب مختلف فيه قال النسائي - منكر الحديث ووثقه غيره فالحديث حسن وأخرجه ابن عدى في الكامل بلفظ ثلاث ليس فيها لعب من تكلم بشىء منها لاعبا فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح وفيه ابن لهيعة ضعيف واخرج عبد الرزاق عن على وعمر موقوفا انهما قالا - ثلاث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق - وفي
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 288(1/537)
رواية عنها اربع وزاد النذر - قال ابن همام ولا شك ان اليمين في معنى النذر فيقاس عليه - قلت ما ذكره الشافعي حديث مرفوع التحق بيانا وتفسيرا للاية والقياس في مقابلة النص لا يعتد به مع ان المقيس عليه وقع في اثر موقوف ليس بمرفوع وقال ابن همام ولو ثبت حديث اليمين لم يكن فيه دليل لان المذكور فيه جعل الهزل باليمين جدا والهازل قاصد لليمين غير راض لحكمه فلا يعتبر عدم رضاه به بعد مباشرته السبب مختارا - والناسي لم يقصد شيئا أصلا ولم يدر ما صنع وكذا المخطى لم يقصد التلفظ به بل بشىء اخر فليس هو في معنى الهازل فلا نص فيه ولا قياس على ان أبا حنيفة قال في تفسير اللغو في اليمين ان يحلف على شىء يرى انه صادق فيه ثم يتبين له خلاف ذلك وهو قول الزهري والحسن وابراهيم النخعي وقتادة ومكحول قالوا لا كفارة فيه ولا؟؟ اثم مع ان الحالف يقصد فيه اليمين مع ظن البر فما لم يقصد لا أصلا بل هو كالنائم يجرى على لسانه اولى ان لا يعتد بيمينه وقال الشافعي اليمين الذي تعلق به القصد وان كان على ظن الصدق ان كان على خلاف نفس الأمر يجب فيه الكفارة لأنه ليس من اللغو على تفسيره بل هو من كسب القلب كالغموس غير انه معذور بناء على ظنه فلا اثم فيه - قلت وان لم يكن هو من اللغو لكن لا كفارة فيه ولا اثم اما عدم الإثم فلقوله تعالى وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ واما عدم الكفارة فلان الكفارة مبنى على الإثم فانها لازالة الإثم وليس فليس ولانها غير داخلة فيما(1/538)
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ والكفارة راجعة إليها - فان قيل لو كانت الكفارة مبينة على الإثم والإثم مرفوع عن الخطاء والنسيان بالإجماع والحديث فلم تجب الكفارة على القتل خطأ قلنا امر القتل أشد فجعل اللّه تعالى إثمين اثم القتل نفسه وهو كبيرة وذلك في القتل عمدا ولا يرتفع بالكفارة فلهذا لم نقل بوجوب الكفارة فيه وقد ارتفع ذلك الإثم بالخطأ واثم ترك الاحتياط وانما وجبت الكفارة في الخطأ لذلك الإثم - وقال سعيد بن جبير اللغو في اليمين هو اليمين على المعصية لا يؤاخذه اللّه بالحنث فيها بل يحنث ويكفر - وعلى هذا القول يتحدا للغو مع المنعقدة فى مادة والآية تدل على القسمة وهى ثنا في الشركة - وأيضا القول بوجوب الكفارة تنافي القول بعد ما لمؤاخذة إذا الكفارة تبتنى على الإثم - وقال مسروق ليس عليه كفارة في اليمين على المعصية اتكفر خطوات الشيطان - وقال الشعبي في الرجل حلف على المعصية كفارته ان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 289(1/539)
يتوب منها - قلت اليمين على المعصية يشتمله عموم قوله تعالى وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فان فيه عقدا على الإيفاء فهو من المنعقدة دون اللغو فهو يوجب الكفارة وكونه على المعصية يوجب الرفض وهذا بعينه مقتضى قوله عليه السلام فليكفر وليأت بما هو خير واللّه اعلم وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أى عزمتم وقصدتم إلى اليمين الكاذبة وارتكبتم العصيان بقصدكم ارادتكم وانما قلنا ذلك بقرينة المؤاخذة فان المؤاخذة لا يكون الا على العصيان - فخرج بهذا القيد الايمان الصادقة كلها وما كان بظن الصدق وكذا أخرج به اليمين المنعقدة لأنه لا معصية فيه بل في الحنث بعد اليمين - فان قيل ورد في المائدة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وذلك يدل على ثبوت المعصية والمؤاخذة عليها فكيف تقول انه خرج به اليمين المنعقدة إلى آخره - قلت تقدير الكلام هناك وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ان حنثتم وليس ذلك التقدير هاهنا لان التقدير نوع من المجاز - والحقيقة والمجاز لا يجتمعان والمؤاخذة على الغموس بمجرد اليمين - فالمراد بهذه الآية اليمين الغموس بأقسامها فقط وليس هاهنا ذلك التقدير - والمراد بما في المائدة المنعقدة فقط وفيها التقدير واللّه اعلم - وقال الشافعي المراد بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وبِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ واحد وهو ضد للغو؟؟ فقالوا كسب القلب هو العقد والنية فقوله بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وقوله بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ كلاهما يشتملان الغموس والمنعقدة والمظنونة أيضا فيجب الكفارة في جميع ذلك - قلنا ليس كذلك بل عقد اليمين الزام شىء على نفسه باليمين بحيث يجب ايفاؤه بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ولا معصية فيه ولا مؤاخذة الا بعد الحنث - وكسب القلب ضد لغو اليمين على تفسير عائشة فكان أعم(1/540)
منه مطلقا لكنا حملناه على كسب المعصية بمجرد اليمين بقرينة المؤاخذة من غير تقدير في الآية فهو الغموس فقط فلا كفارة في الغموس - لان الضمير في قوله تعالى فَكَفَّارَتُهُ راجع إلى ما عقّدتّم الايمان فقط ولان الغموس كبيرة محضة فلو وجبت عليها كفارة فاما ان تكون سائرة ومزيلة لمعصية الغموس اولا وعلى الثاني لا تكون الكفارة كفارة - وعلى الأول يسع لكل امرئ ان يقتطع مال امرئ مسلم باليمين الفاجرة ثم يكفر عنها ولم يقل به أحد وقد قال اللّه تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وقال إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ - وقال عليه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 290
الصلاة والسلام - الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر - فظهران الطاعات لا تكون مكفرات الا للصغائر دون الكبائر - واما الكبائر فلا محيص عنها الا بالاستغفار الا ان يتغمّده اللّه برحمته ويغفر له ولعل اللّه سبحانه أشار إلى ذلك بقوله وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) يغفر الكبائر ان شاء بتوبة أو بغير توبة والظاهران الوعد بالمغفرة والحلم راجع إلى قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فان سوق الكلام كان في يمين اللغو واليمين الغموس ذكر تبعا واستطرادا يدل عليه ما رواه البخاري عن عائشة انها قالت أنزلت هذه الآية لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فى قول الرجل لا واللّه وبلى واللّه - واللّه اعلم - اعلم ان اليمين في الأصل القوة قال اللّه تعالى لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ويقال للجارحة ضد اليسار يمين لقوته ويقال للقسم فان فيه تقوية الكلام بذكر اسم اللّه تعالى وهو(1/541)
على نوعين الأول ان يجرى على اللسان من غير قصد سواء وقع في الخير الماضي أو المستقبل صادقا كان أو كاذبا أو في الإنشاء وهو اللغو من اليمين وهو غير معتد به ولا يتعلق به حكم الا ما ذكرنا خلاف أبى حنيفة في الإنشاء - والثاني ما يتعلق به القصد وهو على نوعين اما في الخبر واما في الإنشاء فان كان في الخبر فالخبر ان كان صادقا في الواقع وفي زعم المتكلم أيضا كقولك واللّه ان محمدا رسول اللّه وان الساعة لاتية لا ريب فيها وانه لقد طلعت الشمس فلا كلام فيه انه عبادة ومن ثم لا يجوز الحلف بغير اللّه تعالى عن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال - ان اللّه ينهاكم ان تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت - متفق عليه - وعنه قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول - من حلف بغير اللّه فقد أشرك - رواه الترمذي - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تحلفوا بآبائكم ولا بامهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا باللّه الا وأنتم صادقون - رواه أبو داود والنسائي - وان كان كاذبا في الواقع صادقا في زعم المتكلم فان كان زعمه مبنيا على دليل ظنى كحديث الآحاد وقد كذب فيه الراوي أو أخطأ هو في تأويله أو اثر من السلف الصالح أو غلط في الحس أو استصحاب الحال أو نحو ذلك ولم يكن هناك دليل قاطع على كذبه فهو اليمين المظنون واللغو على تفسير أبى حنيفة وقد ذكرنا حكمه - وان لم يكن زعمه مبنيا على
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 291(1/542)
دليل كقوله زيد قائم أو سيقوم من غير علم ولا روية ولا اخبار من أحد فهو من الغموس المنهي عنه قال اللّه تعالى وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ - وما قام على كذبه دليل فهو من الغموس بالطريق الاولى كقول الكفار الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ - وانّ اللّه لا يبعث من في القبور - وان كان صادقا في الواقع كاذبا في زعم المتكلم كقول المنافقين لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ - أو كاذبا في الواقع وكذا في زعم المتكلم كقول اليهود ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ وقولهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وقول المديون ليس لك علىّ شىء فهو اليمين الغموس لا يحل اقترابه وهو كبيرة من الكبائر عن عبد اللّه ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الكبائر الإشراك باللّه وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس - رواه البخاري - وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه يوم القيامة وهو عليه غضبان فانزل اللّه تعالى تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية - متفق عليه وعن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب اللّه له النار وحرم عليه الجنة - رواه مسلم وعن عبد اللّه بن أنيس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان من اكبر الكبائر الشرك باللّه وعقوق الوالدين واليمين الغموس - رواه الترمذي وعن حزيم ابن فاتك مرفوعا قال عدلت شهادة الزور بالاشراك باللّه ثلث مرات ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ - رواه أبو داود وابن ماجة وان كان في الإنشاء بان يلزم على نفسه شيئا أو كف النفس عن شىء كان اليمين منعقدة وهو المراد بقوله تعالى وَ(1/543)
لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ - فى المائدة وسنذكر حكمها هناك ان شاء اللّه تعالى - .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أى يحلفون ان لا يجامعوهن - والالية اليمين وتعديته بعلى لكن لما ضمن معنى البعد عدى بمن قال قتادة كان الإيلاء طلاقا لاهل الجاهلية - وقال سعيد بن المسيب كان ذلك ضرارا من أهل الجاهلية كان الرجل لا يحب امرأته ولا يريد ان يتزوجها غيره فيحلف ان لا يقرابها ابدا فيتركها لا ايمان ولا ذات بعل وكانوا عليه في ابتداء الإسلام فضرب له أجل في الإسلام تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مبتدأ خبره ما قبله أو فاعل للظرف - والتربص الانتظار والتوقف أضيف إلى الظرف على الاتساع - أى للمولى حق التلبث في هذه المدة لا يقع
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 292(1/544)
فيه الطلاق أو لا يطالب فيه بطلاق على خلاف يأتي فَإِنْ فاؤُ أى رجعوا عن اليمين إلى النساء بالوطى بعد الأشهر الاربعة على قول الشافعي ومالك واحمد بتاء على ظاهر الآية فان الفاء للتعقيب وبناء على ذلك قالوا الرجل لا يكون موليا لو حلف على اربعة أشهر كما لا يكون موليا فيما دون ذلك بل إذا حلف على اكثر منها فان الفيء لا بد ان يكون فى مدة الإيلاء وان الطلاق لا يقع بمضى أربعة أشهر - وقرا ابن مسعود فان فاؤا فيهنّ يعنى فى أربعة أشهر وبناء على هذه القراءة قال أبو حنيفة انه لو حلف على اربعة أشهر يكون موليا وانه لا يصح الفيء الا فى اربعة أشهر فالخلاف مبنى على ان القراءة الشاذة هل يجوز العمل بها أم لا - قالوا لا يجوز فانه ليس بحديث ولا قران ولو كان قرانا لتواتر - وقال أبو حنيفة يجب العمل بها فانها لا تخلوا اما ان تكون قرانا أو خبرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرا للقران وكل منهما حجة - فان قيل سلمنا كونه حجة لكنه لما وقع التعارض بينها وبين القراءة المتواترة وجب سقوطها - قلنا انما يجب سقوطها إذا لم يمكن الجمع بينهما وهاهنا الجمع ممكن فان الفاء كما يجىء للتعقيب فى الزمان قد يكون لتفصيل مجمل قبلها وغير ذلك كما فى قوله تعالى وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وقوله تعالى يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وهاهنا لما ذكر ان لهم تربص اربعة أشهر من غير وطى كان موضعا يقتضى لتفصيل الحال فقال فَإِنْ فاؤُ إلى قوله سَمِيعٌ عَلِيمٌ - وأيضا على تقدير كون الفاء للتعقيب فى الزمان يحتمل ان يكون التعقيب بالنسبة إلى الإيلاء يعنى فان فاءو بعد الإيلاء - والقراءة المتواترة يدل على جواز الفيء مطلقا سواء كان فى اربعة أشهرا وبعدها والشاذة مقيدة بكون(1/545)
الفى عليهم فيحمل المطلق على المقيد - قال أبو حنيفة قراءة ابن مسعود مشهورة يجوز به تخصيص الكتاب وحمل مطلقه على المقيد فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) قال الحسن وابراهيم وقتادة إذا فاء المولى لا كفارة عليه لان الله تعالى وعد المغفرة والرحمة - وعند الجمهور يجب عليه الكفارة فان وعد المغفرة لا ينفى الكفارة الثابتة بالآية فى سورة المائدة وقوله عليه السلام من حلف على يمين فراى غيرها خيرا منها فليكفر وليأت بما هو خير - .
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ قال مالك والشافعي واحمد معناه ان لم يفيؤا بعد الأشهر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 293(1/546)
الاربعة وعزموا الطلاق وطلقوا فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم بالتطليق عَلِيمٌ (227) لنياتهم - وبناء على هذا التأويل قالوا لا يقع الطلاق بمجرد مضى الأشهر الاربعة بل يتوقف على تطليقة إذ لو لم يتوقف على تطليقة ويقع الطلاق بمجرد انقضاء الأشهر لا تكون لعزمه على الطلاق معنى ولا يناسبه التذييل بقوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ وعلى هذا التأويل ليس الترديد دائرا بين النفي والإثبات وبقي شق ثالث وهو ان لا يفىء ولا يعزم على الطلاق وحكم هذا الشق مسكوت عنه فاختلف فيه قول القائلين بهذا التأويل - فقال أكثرهم يطلّق الحاكم عليه لأنه لما امتنع عن الإمساك بالمعروف ينوب الحاكم عنه فى التسريح بالإحسان كما فى العنين - وفى رواية عن الشافعي واحمد انه يضيق الحاكم عليه حتى يطلق - وقال أبو حنيفة تأويله ان عزموا وقوع الطلاق باستمراره على ترك الفيء حتى انقضى المدة وقع الطلاق به « 1 » - قالوا لو لم يقع الطلاق به لجاز له الفيء بعد الأشهر فلا يكون لتقييد الفيء بقوله فيهن على قراءة ابن مسعود معنى - ولو قلنا بانه لا يجوز له الفيء بعد الأشهر وعليه التطليق حتما يلزم خرق الإجماع المركب إذ لم يقل به أحد على ان الترديد الواقع فى الآية يأبى عنه وعلى هذا التأويل معنى قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقارن ترك الفيء من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان - أو انه سميع للايلاء الذي هو طلاق موقوف على مضى الأشهر الاربعة من غير وطى عليم بما استمروا عليه من الظلم وفيه معنى الوعيد على ذلك واثار الصحابة فى الباب متعارضة فقد روى عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت وابن مسعود وابن عباس وابن عمر مثل ما قال أبو حنيفة غير ان ما روى عن عمر يدل على الطلقة الرجعية - أخرج الدارقطني عن إسحاق حدثنى مسلم بن شهاب عن سعيد بن المسيب وابى بكر بن عبد الرحمن ان عمر بن الخطاب كان يقول إذا مضت(1/547)
اربعة أشهر فهى تطليقة وهو املك بردها ما دامت فى عدتها - واخرج عبد الرزاق حدثنا معمر عن عطاء الخراسانى عن أبى سلمة بن عبد الرحمن ان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان فى الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهو تطليقة واحدة وهى أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة وأخرج عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أن عليا وابن مسعود قالا إذا مضت أربعة أشهر فهى تطليقة - وهى أحق بنفسها وتعتد عدة المطلقة - واخرج عبد الرزاق حدثنا معمر وابن عيينة عن أبى قلابة قال إلى النعمان من امرأته وكان جالسا عند ابن مسعود فضرب فخذه وقال إذا مضت اربعة أشهر فاعترف بتطليقة - واخرج ابن أبى شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وابن عمر
_________
(1) فى الأصل ووقع الطلاق به
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 294(1/548)
قالا - إذا إلى فلم يفى حتى مضت اربعة أشهر فهى تطليقة بائنة - وقد يروى عن عثمان وعلى وابن عمر أيضا ما يخالف ذلك ويوافق مذهب الشافعي - وكذا روى عن غيرهم من الصحابة روى الدارقطني قال حدثنا أبو بكر الميموني قال ذكرت لاحمد بن حنبل حديث عطاء الخراسانى عن عثمان قال لا أدرى ما هو قد روى عن عثمان خلافه قيل له من رواه قال حبيب بن ثابت عن طاؤس عن عثمان - وروى مالك فى المؤطا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن على بن أبى طالب انه كان يقول إذا إلى الرجل من امرأته لم يقع عليه الطلاق فان مضت الاربعة الأشهر يوقف حتى يطلق أو يفىء - وروى البخاري عن ابن عمر بسنده انه كان يقول فى الإيلاء الذي سمى الله تعالى لا تحل بعد ذلك الاجل الا ان يمسك بالمعروف أو يعزم بالطلاق كما امر الله تعالى - وقال البخاري قال لى إسماعيل بن اويس حدثنى مالك عن نافع عن ابن عمر قال إذا مضت اربعة أشهر يوقف حتى يطلق - وقال الشافعي حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال أدركت بضع عشر رجلا من الصحابة كلهم يقولون يوقف المولى - قلت وذكر البغوي فيمن ذهب إلى الوقف من الصحابة عمر وأبا الدرداء « 1 » أيضا قال ابن همام ما روينا عن عثمان وزيد بن ثابت اولى مما روى احمد عن عثمان لان سندنا جيد موصول بخلاف ما رواه احمد فان حال رجاله لا يعرف إلى حبيب وهو اعضله ولا يعلم ان طاءوسا أخذ عن عثمان - ورواية محمد بن على عن على بن أبى طالب مرسل مثل رواية قتادة عنه وهما متعاصران - وما روينا عن ابن عمر وابن عباس رجاله كلهم أخرج لهم الشيخان فى الصحيحين فلا مزية لما فى صحيح البخاري عن ابن عمر عليه - قال البغوي والى الوقف ذهب من التابعين سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد والى خلاقه ذهب سفيان الثوري وسعيد بن المسيب والزهري لكن قالا يقع تطليقة رجعية - واخرج عبد الرزاق نحو مذهب أبى حنيفة من التابعين عن عطاء وجابر بن يزيد وعكرمة وسعيد بن(1/549)
المسيب وابى بكر « 2 » ابن عبد الرحمن ومكحول - واخرج الدارقطني نحوه عن ابن الحنفية والشعبي والنخعي ومسروق والحسن وابن سيرين وقبيصة وسالم وابى سلمة - وقيل فى الترجيح انه لا شك ان الظاهر من القراءة المتواترة يفيد مذهب الشافعي وغيره واما مذهب أبى حنيفة فلا يستفاد منه الا بتكلف لا يجوز المصير إليه الا بالسماع فمن قال من الصحابة على ظاهر الآية يعلم انه قال بالرأى ومن قال منهم بما
_________
(1) فى الأصل وابى الدرداء
(2) فى الأصل وأبا بكر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 295
قال أبو حنيفة يحمل قوله على السماع قال ابن همام وهذا ترجيح عام - والله اعلم وهاهنا خلافيات اخر أحدها انه إذا اتى بغير يمين الله كالطلاق والعتاق والصدقة وإيجاب العبادات هل يكون موليا أم لا فقال أبو حنيفة يكون موليا سواء يقصد به الإضرار بها - أو المصلحة لها بان كانت مريضة مثلا أو المصلحة لنفسه بان كان مريضا مثلا - وقال مالك لا يكون موليا الا ان يحلف حال الغضب أو لقصد الإضرار بها - وقال احمد الا ان يقصد الإضرار - وعن الشافعي قولان أصحهما كقول أبى حنيفة - وثانيهما انه من ترك وطى زوجته للاضرار بها من غير يمين اكثر من اربعة أشهر هل يكون موليا - فقال مالك وأحمد فى احدى روايتيه نعم وقال الجمهور لا ثالثها ان مدة إيلاء الرقيق كالحر اربعة أشهر عند الشافعي واحمد لعموم الآية قالا انها ضربت لامر يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فى تلك المدة فيستوى فيه الحر والعبد كمدة الغيبة - وعند أبى حنيفة ومالك ينتصف المدة بالرق لكن عند أبى حنيفة برق المرأة وعند مالك برق الزوج بناء على اختلافهما فى الطلاق رابعها انه إذا تعذر الوطي فالفىء عند أبى حنيفة بقوله فئت ثم ان قدر على الوطي قبل مضى المدة يجب عليه الوطي وعند الشافعي لا فىء الا بالوطى إذ لا حنث الا به - .(1/550)
وَ الْمُطَلَّقاتُ هذا اللفظ عام يشتمل الرجعيات والبائنات الحاملات والحائلات والمدخول بهن وغيرهن والحرائر والإماء - خص الإماء عنها بالسنة والإجماع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الامة طلقتان وعدتها حيضتان - رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي من حديث عائشة وسنذكر البحث فى هذا الحديث وما فى هذه المسألة من تخصيص العام من الكتاب بخبر الآحاد فى تفسير قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ ان شاء الله تعالى - ونسخ حكم هذه الآية فى الحوامل بقوله تعالى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وفى غير المدخول بها بقوله تعالى فى الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ يَتَرَبَّصْنَ خبر بمعنى الأمر للتأكيد بِأَنْفُسِهِنَّ فيه بعث للنساء على التربص أى يحبسن انفسهن ويغلبنّها وان كان على خلاف هواها ثَلاثَةَ قُرُوءٍ فلا يتزوجن فيها - والقرء لفظ مشترك من الاضداد يطلق على الحيض والطهر كليهما بإجماع أهل اللغة فقال الشافعي ومالك وهو المروي عن عائشة وابن عمرو زيد بن ثابت ان المراد هاهنا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 296(1/551)
الطهر لحديث ابن عمر انه طلق امرأته وهى حائض فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فان بدا له ان يطلقها فليطلقها طاهرا قبل ان يمسها فتلك العدة التي امر الله ان يطلق بها النساء - متفق عليه وجه الاحتجاج ان الله سبحانه قال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قالوا اللام فى لعدتهن للوقت أى وقت عدتهن والمشار إليه فى الحديث بتلك العدة الطهر الذي لا مسيس فيه فظهر ان المراد بالقروء الاطهار قلنا اللامر للوقت بمعنى فى غير معهود فى الاستعمال ويستلزم ذلك تقدم العدة على الطلاق أو مقارنة له لاقتضائه وقوعه فى وقت العدة - بل اللام هناك لافادة معنى استقبال عدتهن يقال فى التاريخ بإجماع أهل العربية خرج لثلاث بقين من رمضان - ويؤيد ما قلنا ان ابن عباس وابن عمر كانا يقران يا ايّها النّبىّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ فى قبل عدّتهنّ - وفى هذا الحديث فى رواية لمسلم انه صلى الله عليه وسلم تلا وإذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ - أو نقول المراد بالعدة فى قوله صلى الله عليه وسلم فتلك العدة التي امر الله بها الوقت للطلاق أى تلك الوقت الذي امر الله ان يطلق بها النساء لا العدة التي يجب بعد الطلاق - وقد يحتج للشافعى بان التاء فى ثلثة يدل على تذكير المميز والقرء بمعنى الحيض مؤنث وبمعنى الطهر مذكر فهى المراد - وهذا ليس بشىء فان الشيء إذا كان له اسمان مذكر كالبر ومؤنث كالحنطة وليس هناك تأنيث حقيقى فالعبرة للمذكر منهما وهاهنا كذلك فان الحيض مؤنث والقرء مذكر وإذا كان التأنيث حقيقيا واللفظ مذكر كالشخص يعبر به عن المرأة ففيه وجهان جائزان - وقال أبو حنيفة واحمد المراد به الحيض ويحتج له بوجوه أحدها ما مر فى احتجاج الشافعي من حديث ابن عمر برواية مسلم و(1/552)
قراءة ابن عباس وابن عمر - ثانيها ان لفظ ثلاثة عدد خاص لا يدل على اقل منه ولا على أزيد منه والطلاق على وجه السنة لا يكون الا فى الطهر اجماعا ولما مر من حديث ابن عمر فثلاثة قروء لا يتصور الا فى الحيض دون الاطهار إذ لا يخلوا اما ان لا يعد هذا الطهر الذي وقع فيه الطلاق من العدة وهو خلاف الإجماع ولم يقل به أحد وأيضا يلزم حينئذ الزيادة على الثلاث - أو يعد فتكون العدة طهرين « 1 » وبعض طهر وذلك ليست بثلاثة - ولو جاز اطلاق الثلاثة على طهرين وبعض طهر لجاز اطلاق ثلاثة أشهر فى قوله تعالى فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ - على شهرين
_________
(1) فى الأصل طهران [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 297(1/553)
و بعض شهر ولم يقل به أحد - فان قيل أ ليس فى قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ اطلاق الأشهر على شهرين وبعض شهر قلنا هناك لم يقل الحج ثلاثة أشهر بل قال أشهر - وهاهنا لم يقل قروء بل قال ثلاثة قروء فهذا ادل واصرح فلا يجوز حملها على ما دون ثلاثة تجوزا فان كلمة ثلاثة يمنع عن التجوز ومما يدل على ان المعتبر الأقراء التامات دون بعض القرء ما احتج به الشافعي من حديث ابن عمر فانه صلى الله عليه وسلم لم يجوز الطلاق فى الطهر الذي يلى الحيضة التي أوقع فيه الطلاق أو لا كيلا يجتمع الطلقتان بلا فصل قرء تام - ثالثها قوله صلى الله عليه وسلم طلاق الامة تطليقتان وعدتهما « 1 » حيضتان - مع الإجماع على انه لا يخالف الامة الحرة فيما به الاعتداد بل فى الكمية فظهر ان المراد بالقروء الحيض - رابعها ان العدة شرعت لتعرف براءة الرحم وذلك بالحيض دون الطهر ومن ثم وجب الاستبراء فى الامة بالحيض دون الطهر - خامسها انه لو كان القرء بمعنى الطهر تنقضى العدة بدخول الحيض الثالثة ولو كان بمعنى الحيض لم ينقض ما لم تطهر من الحيضة الثالثة فلا تنقضى العدة بالشك - ومذهبنا مأثور من الخلفاء الراشدين والعبادلة وابى بن كعب ومعاذ بن جبل وأبى الدرداء وعبادة بن الصامت وزيد بن ثابت وابى موسى الأشعري - وزاد أبو داود والنسائي ومعبد الجهني وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب وابن جبير وعطاء وطاءوس وعكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن البصري ومقاتل وشريك القاضي والثوري والأوزاعي وابن شبرمة وربيعة والسدى وأبو عبيدة وإسحاق واليه رجع احمد بن حنبل قال محمد بن الحسن فى المؤطا حدثنا عيسى بن أبى عيسى الخياط عن الشعبي عن ثلاثة عشر من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم قالوا الرجل أحق بامراته حتى تغتسل من الحيضة الثالثة - والله اعلم وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ(1/554)
من الحمل والحيض استعجالا فى العدة وابطالا لحق الزوج فى الرجعة - وفيه دليل على ان قولها مقبول فى ذلك إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ والجزاء محذوف يعنى إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ لا يكتمن فان من شأن المؤمن ان لا يرتكب المحرم - والغرض منه التأكيد والتوبيخ والله اعلم وَبُعُولَتُهُنَّ جمع يعل والتاء لتانيث الجمع كالعمومة - واصل البعل المالك والسيد سمى الزوج بعلا لقيامه بأمر زوجته - والضمير راجع إلى الرجعيات منهن ولا امتناع فيه كما كرر الظاهر وخصصه ثانيا -
_________
(1) فى الأصل وعدته
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 298(1/555)
او البعولة مصدر أقيم مقام المضاف المحذوف أى أهل بعولتهن أَحَقُّ افعل هاهنا بمعنى الفاعل أى حقيق بِرَدِّهِنَّ إلى النكاح بالرجعة سواء رضيت المرأة اولا فِي ذلِكَ أى فى زمان التربص إِنْ أَرادُوا بالرجعة إِصْلاحاً لا ضرارا بالمرأة كما كانوا يفعلونه فى الجاهلية كان الرجل يطلق امرأته فإذا اقترب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها - وليس المراد منه شريطة قصد الإصلاح للرجعة حتى لو راجعها بقصد الإضرار كان رجعة بل هو للمنع عن قصد الإضرار والتحريض على الإصلاح أو يكون التقدير ان أرادوا إصلاحا فلا جناح عليه فى الرجعة - اجمعوا على جواز الرجعة من الطلاق الرجعى واختلفوا فى انه هل يجوز وطيها فى العدة أم لا - فقال أبو حنيفة واحمد فى اظهر روايتيه يجوز وفى اخرى له كقول الشافعي لا يجوز قال الشافعي الزوجية زائلة لوجود القاطع وهو الطلاق - قلنا تأخر عمل الطلاق إلى انقضاء العدة اجماعا لجريان التوارث بينهما وجواز الرجعة بغير رضاها ووجوب النفقة فظهر ان النكاح قائم ويدل عليه قوله تعالى بُعُولَتُهُنَّ قالوا اطلاق البعل تجوز بناء على ما كان ولفظ الرد يدل على زوال النكاح - قلنا القول بالتجوز فى لفظ البعل ليس اولى من القول به فى الرد فانه يقال رد البيع فى بيع كان الخيار للبائع - ثم إذا تعارض احتمالا « 1 » المجاز فى لفظ البعل ولفظ الرد فى تلك الآية تساقط اعتبارهما وبقي قوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ وقوله فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ سالما فان الإمساك يدل على البقاء - ويمكن حمل الرد على الرد إلى الحالة الاولى وهى كونها بحيث لا يحرم بعد مضى العدة فلا إشكال حينئذ أصلا - واختلفوا فى انه هل يشترط للرجعة القول - فقال الشافعي لا يحصل الرجعة الا بالقول بناء على ما قال ان الرجعة بمنزلة ابتداء النكاح وقال أبو حنيفة وأحمد إذا وطيها أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة يصير مراجعا أيضا كما يصير مراجعا(1/556)
بالقول بناء على ما ذكرنا ان الرجعة عندهما ليست بمنزلة ابتداء النكاح بل هو ابقاء لها فيكفى فيها الفعل الدال على الاستدامة كما فى إسقاط الخيار - وقال مالك فى المشهور عنه انّ بالوطى ان نوى الرجعة حصلت والا فلا - واختلفوا فى انه هل يشترط الاشهاد للرجعة - فقال احمد وهو قول الشافعي يشترط عملا بقوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فى سورة الطلاق - وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي فى أصح قوليه واحمد فى احدى « 2 » روايتيه - انه لا يشترط ذلك والأمر فى الآية محمول على الاستحباب إذ لو كان الاشهاد واجبا لكان الاشهاد على الفرقة
_________
(1) فى الأصل احتمالي المجاز
(2) فى الأصل أحد -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 299(1/557)
ايضا واجبا لاقترابه بقوله تعالى أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ولم يقل به أحد ولو كان واجبا لكان واجبا بالاستقلال ولم يكن شرطا للرجعة لعموم قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَهُنَّ أى للنساء على الأزواج حقوق مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ للازواج فى الوجوب واستحقاق المطالبة لا فى الجنس بِالْمَعْرُوفِ بكل ما يعرف فى الشرع من أداء حقوق النكاح وحسن الصحبة فلا يجوز لاحد ان يقصد ضرار الاخر بل ينبغى ان يريدوا إصلاحا قال ابن عباس انى أحب ان اتزيّن لامراتى كما تحب امراتى ان تتزين لى لان الله تعالى قال وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ - عن معاوية القشيري قال قلت يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا عليه قال ان تطعمها إذا طعمت وان تكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر الا فى البيت - رواه احمد وأبو داود وابن ماجة وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر فى قصة حجة الوداع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبته يوم عرفة فاتقوا الله فى النساء فانكم أخذتموهن بامان الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن ان لا يؤطين فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرج ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف - رواه مسلم وعن أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم - رواه الترمذي وقال حسن صحيح ورواه أبو داود إلى قوله خلقا - وروى الترمذي نحوه عن عائشة وعن عبد الله بن زمعة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد الحديث - متفق عليه وعن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيركم خيركم لاهله وانا خيركم لاهلى - رواه الترمذي والدارمي ورواه ابن ماجة عن ابن عباس وعن أبى هريرة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/558)
استوصوا بالنساء خيرا فانهن خلقن من ضلع وانّ اعوج شىء فى الضلع أعلاه فان ذهبت تقيمه كسرته وان تركته لم يزل اعواج فاستوصوا بالنساء - متفق عليه وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة فى الحق وفضلا قال النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت امر أحدا « 1 » ان يسجد لاحد لامرت المرأة ان تسجد لزوجها لما جعل الله لهم عليهن من حق - رواه أبو داود عن قيس بن سعد - واحمد عن معاذ بن جبل والترمذي عن أبى هريرة نحوه والبغوي عن أبى ظبيان وعن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) فى الأصل امر أحدا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 300
أيما امراة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة - رواه الترمذي وعن طلق بن على قال قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا الرجل دعا زوجته فلتأته وان كانت على التنور - رواه الترمذي وَاللَّهُ عَزِيزٌ يقدر على الانتقام ممن ظلم على الاخر حَكِيمٌ (228) يشرع الاحكام لحكم ومصالح.(1/559)
الطَّلاقُ الذي يعقب الرجعة بدليل ما سيأتى من ذكر الثالثة وذكر الإمساك بعد المرتين « 1 » مَرَّتانِ روى انه صلى الله عليه وسلم سئل اين الثالثة فقال عليه السلام أو تشريح بإحسان - أخرجه أبو داود فى ناسخه وسعيد بن منصور فى سننه وابن مردوية من حديث ابن رزين الأسدي وأخرجه الدارقطني وابن مردوية من حديث انس قال البغوي روى عروة بن الزبير قال كان الناس فى ابتداء الإسلام يطلقون من غير حصر ولا عدد كان الرجل يطلق امرأته فإذا قاربت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها كذلك ثم راجعها بقصد مضارتها فنزل الطّلاق مرّتن فإذا طلق ثالثا لم تحل له الا بعد نكاح زوج اخر - وفيما قال مرتان دون ثنتان دلالة على كراهة الطلقتين دفعة واحدة فان كلمة مرتان تدل بالعبارة على التفرق وبالاشارة على العدد واللام للجنس وليس وراء الجنس شىء فكان القياس ان لا يكون الطلقتين المجتمعتين معتبرة شرعا - وإذا لم يكن الطلقتين معتبرة لم يكن الثلاث مجتمعة معتبرة بالطريق الاولى لوجودهما فيها مع زيادة - وقيل المراد بالطلاق التطليق والمعنى ان التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق فى الاطهار دون الجمع وحينئذ لم يرد بالمرتين التثنية بل التكرير كما فى قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يعنى كرة بعد كرة لكن يشكل حينئذ عطف قوله تعالى فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ وقوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ له من بعد لان قوله تعالى الطلاق على هذا التأويل يشتمل الطلقات الثلاث أيضا وعلى كلا التأويلين يظهران جمع الطلقتين أو ثلاث تطليقات بلفظ واحد أو بألفاظ مختلفة فى طهر واحد « 2 » حرام بدعة مؤثم خلافا للشافعى فانه يقول لا بأس به - لكنهم أجمعوا على انه من قال لامراته أنت طالق ثلاثا يقع ثلاثا بالإجماع وقالت الامامية ان طلق ثلاثا دفعة واحدة لا يقع أصلا لهذه الآية - وقال بعض الحنابلة - يقع طلقة واحدة لما روى فى الصحيحين ان أبا(1/560)
الصهباء قال لابن عباس - الم تعلم ان الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر وستين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال ان الناس قد استعجلوا فى امر كان لهم اناءة فلو أمضيناه عليهم فامضاه عليهم - واى تاخرا منه رح
_________
(1) فى الأصل المرتبتين -
(2) فى الأصل واحدة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 301(1/561)
روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال طلق ركانة بن عبد زوجته ثا؟؟ فى مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فساله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقها قال طلقتها ثلاثا فى مجلس واحد قال انما تلك طلقة واحدة فارتجعها - ونقل عن طاؤس وعكرمة انهم قالوا من طلق ثلاثا فقد خالف السنة فيردّ إلى السنة وبه قال ابن إسحاق ومن الناس من قال ان فى قوله أنت طالق ثلاثا يقع فى المدخول بها ثلثا وفى غير المدخول بها واحدة لما روى مسلم وأبو داود والنسائي ان أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس فقال اما علمت ان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة قال ابن عباس - بل كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل ان يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وابى بكر وصدرا من خلافة عمر فلما راى الناس قد تتابعوا فيها قال اجتزوهن عليهم - والحجة للشافعى على جواز الطلقات بكلمة واحدة ووقوعهن من غير اثم ما فى الصحيحين من حديث سهل بن اسعد ان عويمر العجلى لا عن امرأته فلما فرغا قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله ان أمسكتها فطلقها ثلاثا - وفى لفظ فهى طالق ثلاثا ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم - وفى بعض روايات فاطمة بنت قيس طلقنى زوجى ثلاثا قلم يجعل لى النبي صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى - وطلق عبد الرحمن بن عوف تماظر فى مرضه وطلق الحسن بن على امرأته شهباء ثلاثا لما هنّته بالخلافة بعد موت على عليهما السلام فههنا مقامان أحدهما ان فى صورة الإيقاع ثلاثا تقع ثلاثا - وثانيهما انه يأثم به - والحجة لنا السنة والإجماع - اما السنة فحديث ابن عمر انه طلق امرأته وهى حائض ثم أراد ان يتبعها بطلقتين أخريين عند القرائن فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله قد اخطأت السنة السنة ان تستقبل الطهر فتطلق لكل قرء فامرنى فراجعتها فقال إذا هى طهرت فطلق عند ذلك أو امسك فقلت يا(1/562)
رسول الله ارايت لو طلقتها ثلاثا أ كان يحل لى ان أراجعها قال لا كانت تبين منك وكانت معصية - رواه الدارقطني وابن أبى شيبة فى مصنفه عن الحسن قال حدثنا ابن عمر قد صرح بسماعه عنه - وأعله البيهقي بعطاء الخراسانى قال اتى بزيادات لم يتابع عليها وهو ضعيف لا يقبل ما تفرد به - قال ابن همام تعليل البيهقي مردود حيث تابعه شعيب بن رزيق سندا ومتنا - رواه الطبراني - وما ذكر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 302(1/563)
من حديث ابن عباس فيه دلالة على ان الحديث منسوخ فان إمضاء عمر الثلاث بمحضر من الصحابة وتقرر الأمر على ذلك يدل على ثبوت الناسخ عندهم وان كان قد خفى ذلك قبله فى خلافة أبى بكر - وقد صح فتوى ابن عباس على خلاف ما رواه روى أبو داود عن مجاهد قال كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال انه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت انه رادها إليه ثم قال يطلق أحدكم فيركب الحموقة ثم يقول يا ابن عباس - وان الله عز وجل قال وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً عصيت ربك وبانت منك امرأتك وروى الطحاوي بلفظ ان رجلا طلق امرأته مائة قال ابن عباس عصيت ربك وبانت منك امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا الحديث - وفى مؤطا مالك بلغه ان رجلا قال لابن عباس انى طلقت امراتى مائة تطليقة فما ذا ترى فقال ابن عباس طلقت منك ثلاثا وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا - وعلى وقوع الطلقات الثلاث انعقد الإجماع وروى عن فقهاء الصحابة فى المؤطا بلغه ان رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال انى طلقت امراتى ثمانى تطليقات فقال ما قيل لك فقال قيل لى بانت منك قال صدقوا هو مثل ما يقولون - وظاهره الإجماع على هذا الجواب وأسند عبد الرزاق عن علقمة قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال انى طلقت امراتى تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود ثلاث تبينها وسائرهن عدوان - وفى سنن أبى داود وموطا مالك عن محمد بن إياس بن البكير قال طلق رجل امرأته ثلاثا قبل ان يدخل بها ثم بدا له ان ينكحها فجاء يستفتى فذهبت معه فسال ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك معا فقالا لا نرى ان تنكحها حتى تنكح(1/564)
زوجا غيرك قال فانما طلاقى إياها واحدة فقال ابن عباس انك أرسلت بين يديك ما كان لك من فضل - وفى مؤطا مالك مثله عن ابن عمرو روى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن ثابت قال جاء رجل إلى على بن أبى طالب فقال انى طلقت امراتى الفا فقال بانت منك بثلث واقسم سائرهن على نسائك - وروى وكيع عن معاوية بن أبى يحيى قال جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال طلقت امراتى الفا فقال بانت منك بثلاث وأسند عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت ان أباه طلق امراة له الف تطليقة فانطلق عبادة فسال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بانت بثلاث فى معصية الله وبقي تسعمائة وسبع وتسعون عدوان وظلم ان شاء عذبه وان شاء غفر له - وروى الطحاوي عن انس قال لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره - وكان عمر بن الخطاب إذا اتى برجل طلق امرأته ثلاثا أوجع ظهره - وروى أيضا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 303(1/565)
عن انس عن عمر فيمن طلق البكر ثلاثا انه لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره - وما ذكر الخصم من حديث ابن عباس يمكن تأويله بان قول الرجل أنت طالق أنت طالق أنت طالق كان واحدة فى الزمن الأول لقصدهم التأكيد فى ذلك الزمان - ثم صاروا يقصدون التجديد فالزمهم ثلثا لما علم قصدهم أو للاحتياط - واما حديث ركانة فمنكر والأصح ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ان ركانة طلق زوجته البتة فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم انه ما أراد الا واحدة فردها إليه فطلقها الثانية فى زمن عمر والثالثة فى زمن عثمان - قال أبو داود - هذا أصح وبما ذكرنا من الأحاديث والآثار كما يثبت وقوع الطلقات الثلاث دفعة واحدة يثبت انه بدعة معصية وما ذكره الشافعي من تطليق عويمر ثلثا بعد التلاعن فهو استدلال بعدم إنكاره صلى الله عليه وسلم فهو شهادة على النفي لا عبرة بعد ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم الإنكار فى قصة اخرى ولعله صلى الله عليه وسلم أنكر ولم يذكره الراوي - أو لم ينكر لانها بعد التلاعن لم تبق محلا لطلاق - ورواية حديث فاطمة بنت قيس بلفظ الثلاث غير صحيح والصحيح انه طلقها البتة وأيضا حين طلقها كان زوجها غائبا عنها فى سرية ولم يكن بمحضر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظهر تقريره وانما ثبت تقريره فى وقوع الثلاث - وأيضا حديث فاطمة بنت قيس رده عمر وقال - لا ندرى صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت - واثر عبد الرحمن بن عوف وحسن رضى الله عنهما ليس بحجة فى مقابلة المرفوع (مسئلة) - الطلاق ثلاثا مجتمعا بدعي حرام وبالتفريق على الإظهار مباح جائز بهذه الآية إلى قوله تعالى.(1/566)
فَإِنْ طَلَّقَها الآية والأحسن من ذلك كله إذا اضطر الرجل إلى طلاق امرأته ان يطلقها واحدة ثم ان لم يرد المراجعة يتركها حتى تنقضى عدتها - لان الطلاق ابغض المباحات عند الله والحاجة اندفعت بالواحدة قال الله تعالى فى ذم السحر فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ - وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه يفتنون الناس فادناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجىء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا ثم يجىء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته فيدنيه ويقول نعم أنت - قال الأعمش أراه قال فيلتزمه - رواه مسلم وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ابغض الحلال إلى اللّه الطلاق - رواه أبو داود -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 304
((1/567)
مسئلة) - الطلاق فى الحيض يقع طلاقا اجماعا خلافا للامامية قالوا لا يقع أصلا - وعندنا يقع لكنه حرام اجماعا يجب الرجعة بعده وما مر من حديث ابن عمر يدل على الوقوع والحرمة ووجوب الرجعة - واختلفوا فى انه ان أراد طلاقها ثانيا بعد الرجعة على وجه السنة متى يفعل - فقال أبو حنيفة إذا طهرت من تلك الحيضة ثم حاضت ثم طهرت فحينئذ يطلقها - كذا ذكر محمد فى المبسوط ولم يذكر خلافا عنه ولا عن صاحبيه وبه قال مالك واحمد وهو المشهور من مذهب الشافعي وهو المستفاد من حديث ابن عمر المذكور الذي فى الصحيحين حيث قال مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فان بدا له ان يطلقها فليطلقها قبل ان يمسها فتلك العدة كما امر الله عز وجل - وفى رواية حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيه - وذكر الطحاوي قول أبى حنيفة انه يطلقها فى الطهر الذي يلى الحيضة التي طلقها اولا فيها وهو أحد قولى الشافعي وقال الطحاوي الأول قول أبى يوسف - والحجة للقول الثاني رواية سالم فى حديث ابن عمر المذكور - مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا - رواه مسلم واصحاب السنن - والاولى اولى لانها أقوى صحة واكثر تفسيرا وفيها زيادة والاخذ بالزيادة اولى - قال ابن همام قوله عليه السلام يمسكها حتى تطهر يدل على ان استحباب الرجعة أو وجوبها مقيد بتلك الحيضة التي طلقها فيها فان لم يراجع فيها حتى طهرت تقررت المعصية - فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ - بالمراجعة وحسن المعاشرة - هذا يعنى الإمساك بعد الطلقتين ثابت اجماعا إذا كان الزوجان حرين - واما إذا كانا رقيقين فلا رجعة بعد الثنتين اجماعا - وان كانت أمة تحت حرا وحرة تحت عبد فاختلفوا فيه - فقال مالك والشافعي واحمد ان كان الزوج حرا فطلاقه ثلاث وان كانت تحته أمة - وان كان عبدا فثنتان وان كانت الزوجة حرة - وهو قول عمر وعثمان وزيد بن ثابت - وقال أبو حنيفة بعكس ذلك يعتبر الطلاق بالنساء و(1/568)
هو قول على وابن مسعود - قال ابن الجوزي قد رويت الأحاديث فى الطرفين وكلها ضعاف - روى ابن الجوزي عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق العبد ثنتان وقرء الامة حيضتان - وروى أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والدارقطني عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الامة تطليقتان وعدتها حيضتان - قال ابن الجوزي فى سند كلا الحديثين مظاهر بن اسلم قال يحيى بن سعيد مظاهر ليس بشىء وقال أبو حاتم هو منكر الحديث وقال ابن همام
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 305
وثقه ابن حبان وقال الحاكم مظاهر شيخ من أهل البصرة لم يذكر أحد من متقدمى مشائخنا فيه بجرح - وقال ابن الجوزي - قد روى بعض من قال الطلاق بالرجال عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال الطلاق بالرجال والعدة بالنساء وانما هو من كلام ابن عباس - وروى ابن الجوزي من طريق الدارقطني عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاق الامة ثنتان وعدتها حيضتان - قال ابن الجوزي هذان حديثان لا يثبتان اما الأول ففيه سليم بن سالم كان ابن المبارك يكذبه وقال يحيى ليس حديثه بشىء وقال السعدي ليس بثقة - واما الثاني فقال الدارقطني تفرد به عمرو بن شبيب مرفوعا وكان ضعيفا قال يحيى بن معين عمرو بن شبيب ليس بشىء وقال أبو زرعة واهي الحديث - والصحيح انه من قول ابن عمر ويمكن(1/569)
ترجيح مذهب أبى حنيفة بانا قد أثبتنا من قبل ان الطلاق لا بد فيه من التفريق على الاطهار فعدد الطلقات لا يتصور الا على عدد الاطهار وقد اجمعوا ان عدة الامة حيضتان فثبت ان طلاق الامة أيضا طلقتان والله اعلم وهاهنا إشكال على مذهب أبى حنيفة ان العام على اصل أبى حنيفة قطعى الشمول لافراده لا يجوز تخصيص العام من الكتاب بخبر الآحاد أو القياس كما لا يجوز نسخه بهما وقوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ - وقوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ كل منهما عام يشتمل الحرائر والإماء فتخصيصهما بقوله عليه السلام - طلاق الامة ثنتان وعدتها حيضتان وهو من حديث الآحاد لا يصح لا يقال العام القطعي إذا خص منه اولا بقطعى يصير فى الباقي ظنيا فحينئذ يجوز تخصيصه بخبر الآحاد والقياس وقوله تعالى وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ خص اولا بالآيات من قوله تعالى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ الآية وقوله تعالى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الآية فجاز تخصيصه بحديث الآحاد لانا نقول المخصص لا يكون الا متصلا وما كان متراخيا فهو ناسخ وليس بمخصص وما تلوتم من الآيات ليس شيئا منها متصلا بهذه الآية بل متراخ فهو ناسخ ونسخ الحكم عن بعض افراد العام لا يجعل العام فى الباقي ظنيا بل هو قطعى فى الباقي كما كان من قبل - والتفصى عن هذا الاشكال بان يقال لما ثبت اجماع الامة على ان اية العدة واية الطلاق مخصوصتان بالاحرار يظهر بذلك ان الأوائل من أهل الإجماع وهم الصحابة قد سمعوا قولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطعا فى حقهم خصوا بذلك القول تلك الآيات وان لم يصل ذلك القول إلينا بالتواتر ولو لم يسمعوا فى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجترؤا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 306(1/570)
على تخصيص الآية القطعية والا يلزم اجتماعهم على الضلالة ثم الاتباع سلكوا مسلكهم للمنع عن ابتغاء سبيل غير سبيلهم - فان قيل ليس الإجماع على ان الطلاق معتبر بالرجال أو النساء فكيف يجرى هذا الجواب هناك قلنا ثبت بالإجماع ان قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ ليس على عمومه وذلك الخلاف لا يضر والله اعلم أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قيل المراد به الطلقة الثالثة قلت وذلك غير سديد لأنه معطوف على قوله فامساك بمعروف يعنى فالواجب أحد الامرين إمساك بمعروف أو طلقه ثالثة وليس كذلك بل يجوز له ان لا يمسك ولا يطلق ويترك حتى تنقضى عدتها - وقيل التسريح بإحسان هو ان لا يراجعها حتى تبين بالعدة ويرد على هذا القول مثل ما يرد على الأول - ذكر القولين البغوي وغيره - والاولى ان يفسر قوله أو تسريح بإحسان بان يبينها مطلقا اما بطلاق ثالث أو بانقضاء العدة والمعنى فالواجب ان يمسكها بمعروف أو يبينها بإحسان سواء طلق ثالثا اولا والغرض منه تحريم الإمساك بالإضرار بغير معروف وعلى هذا فقوله تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ تفصيل لاحد احتماليه - ولو كان المراد بالتسريح الطلقة الاخرى لكان ذلك طلقة رابعة - فان قيل روى انه صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى الطَّلاقُ مَرَّتانِ فاين الثالثة يا رسول الله قال أو تسريح بإحسان - رواه أبو داود فى ناسخه وسعيد بن منصور فى سننه وابن مردويه من حديث أبى رزين الأسدي مرسلا وأخرجه الدارقطني من حماد بن سلمة عن قتادة عن انس متصلا وصححه ابن القطان وقال البيهقي ليس بشىء - ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي من حديث عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل عن انس وقالا جميعا الصواب عن إسماعيل عن أبى رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا - قال البيهقي كذا رواه الجماعة عن الثقات وقال ابن القطان المسند أيضا صحيح قلنا قوله عليه السلام فى جواب اين الثالثة أو تسريح بإحسان - (1/571)
معناه انه أحد احتماليه والله اعلم روى أبو داود فى الناسخ والمنسوخ عن ابن عباس قال كان الرجل يأكل من مال امرأته الذي نحلها وغيره لا يرى عليه جناحا فانزل اللّه تعالى وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً أى من المهر خطاب مع الأزواج وقيل خطاب مع الحكام واسناد الاخذ والإيتاء إليهم لانهم آمرون بهما عند الترافع وهذا بعيد إِلَّا أَنْ يَخافا قرأ الستة من القراء على البناء للفاعل أى يعلم الزوجان من أنفسهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ تخاف « 1 » المرأة ان تعص الله فى امر زوجها - ويخاف الزوج اضاعة حقوقها
او انه إذا لم يطلق امرأته ان تعتدى عليه - وفى الكلام التفات من الخطاب
_________
(1) فى الأصل يخاف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 307(1/572)
الى الغيبة وقرا أبو جعفر وحمزة ويعقوب يخافا على البناء للمفعول أى يخاف الحكام الزوجين وحينئذ ان مع صلته بدل اشتمال من ضمير يخافا فَإِنْ خِفْتُمْ أيها الحكام أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ أى افتدت المرأة نفسها به - قال الفراء أراد بقوله عليهما الزوج فقط دون الزوجة وانما ذكرهما جميعا لاقترانهما كقوله تعالى نَسِيا حُوتَهُما وانما الناسي فتى موسى دون موسى - قلت والظاهر انه كما كان الجناح على الزوج فى أخذ المال بدليل قوله تعالى - لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً - الآية وقوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً كذلك كان الجناح على الزوجة فى اعطائها المال على طلب الطلاق فان طلب الطلاق معصية لقوله صلى الله عليه وسلم أيما امراة سالت زوجها الطلاق فى غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة - رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي من حديث ثوبان وإعطاء المال على المعصية حرام بل الإنسان ممنوع من إتلاف المال بغير حق يعنى بغير فائدة دينية أو دنيوية وهذا هو المحمل لقوله عليه السلام المختلعات هن المنافقات - رواه الترمذي فإذا خيف منهما عدم اقامة حدود الله وارتكاب المعصية جاز لهما الاخذ والإعطاء هذا على تقدير خوف النشوز من الجانبين - اما إذا كان النشوز من جانب الزوج فقط فلا يحل له الاخذ قال صاحب الهداية يكره يعنى تحريما والحق انه يحرم لما تلونا ولعدم دليل الإباحة ولانه أخذ مال المسلم بغير حق وإمساكها لا لرغبة إضرار أو تضيقا ليقتطع مالها - وان كان النشوز من جانبها يحرم عليها وعصت هى لا هو لما ذكرنا - وان لم يكن النشوز من جانب ولا يخافان ان لا يقيما حدود الله فلا(1/573)
يحل أخذ المال للزوج ولا طلب الطلاق وبذل المال للزوجة لكن يقع الخلع ويجب المال للزوج على الزوجة فى جميع الصور قضاء اجماعا خلافا للظاهرية لنا ان الخلع سواء كان طلاقا أو فسخا فهو امر شرعى والناهي عن الأمور الشرعية يدل على الانعقاد والنفاذ حتى يتصور الابتلاء - وذهب المزني إلى ان الخلع غير مشروع أصلا وهذه الآية منسوخة بقوله تعالى وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ لاية والجواب انه ليس فى تلك الآية ذكر الاخذ والإعطاء بمعاوضة ملك النكاح برضاء الزوجين فلا تعارض ولا نسخ بدون التعارض والله اعلم واختلفوا فى ان الخلع هل هو طلاق أو فسخ - فقال أبو حنيفة ومالك وهو المشهور من
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 308(1/574)
قولى الشافعي انه طلاق وهو رواية عن احمد - وقال احمد وهو رواية عن الشافعي انه فسخ وليس بطلاق فمن قال انه فسخ لا ينقص عنده منه عدد الطلاق ولا يلحقه طلاق اخر ولا يرث أحدهما من الاخر فى العدة وبهذه الآية استدل كلا الفريقين وجه استدلال القائلين بانه فسخ ان الله سبحانه ذكر الطلقتين فى أول الآية ثم ذكر الخلع ثم ذكر الطلاق الثالث بقوله فان طلّقها فلا تحلّ له فلو كان الخلع طلاقا لزم كون عدد الطلاق أربعا وهذا الاستدلال مروى عن ابن عباس روى ابن الجوزي بسنده عن طاؤس قال سمعت ابراهيم بن سعيد يسئل ابن عباس عن رجل طلّق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه فقال ينكحها ان شاء انما ذكر الطلاق فى أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك - ورواه عبد الرزاق وروى الدارقطني عن ابن عباس الخلع فرقة وقالوا روى نافع مولى ابن عمر انه سمع ربيع بنت معوذ بن عفراء تخبر ابن عمر انها اختلعت من زوجها على عهد عثمان بن عفان فجاء عمها إلى عثمان فقال ان ابنة معوذ اختلعت من زوجها اليوم أ فتنتقل فقال عثمان لتنتقل ولا ميراث بينهما ولا عدة عليها الا انها لا تنكح حتى تحيض حيضة خشية ان يكون بها حبل - فقال ابن عمر عثمان خيرنا وأعلمنا - ووجه استدلالنا ان الله تعالى ذكر الطلاق المعقب للرجعة مرتين ثم ذكر افتداء المرأة وفى تخصيص اسناد الافتداء إلى المرأة مع اقتضاء سوق الكلام إلى اسناد الفعل إليهما وعدم وقوع الفرقة الا بفعل من الزوج دليل واضح على تقرير فعل الزوج على ما سبق وهو الطلاق فقد بين الطلاق بنوعيه بغير مال وبمال ثم قال فان طلّقها فلا تحلّ له - والفاء لفظ خاص للتعقيب(1/575)
و قد عقب الطلاق الافتداء فان لم يقع الطلاق بعد الخلع تبطل موجب الفاء والقول بانه متصل باول الكلام وقوله تعالى وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إلى قوله الظَّالِمُونَ معترض تحكّم وإخلال بنظم الكلام بلا دليل - وما قال الشافعي ان الله سبحانه ذكر الطلاق فى أول الآية وآخرها وذكر الخلع فيما بين ذلك ليس بشىء فانه لم يذكر الخلع والفسخ فى الكلام أصلا انما ذكر افتداء المرأة وسكت عن فعل الزوج فليس فعله الا ما ذكر من الطلاق فظهر ان الطلاق المذكور سابقا ان لم يكن بمال فهو رجعى وان كان بمال فهو بائن حتى يتحقق الافتداء ولا يجتمع البدل والمبدل منه فى ملك الزوج سواء كان ذلك بلفظ الطلاق أو بلفظ الخلع أو غيرهما مما يؤدى معناه وتسميته خلعا اصطلاح لم يثبت من القرآن والله اعلم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 309(1/576)
و يدل على كون الخلع طلاقا سبب نزول هذه الآية وهو ان جميلة بنت عبد الله بن أبيّ امراة ثابت بن قيس (و أخرج الدارقطني ان اسمها زينب قال ابن حجر لعل لها اسمين ووقع فى حديث آخر أن اسمها حبيبة بنت سهل قال ابن حجر والذي ظهر انهما قضيتين وقعتا له فى امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين) أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه زوجها وارته اثارا من ضربه وقالت يا رسول الله لا انا ولا هو فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال مالك ولا هلك فقال والذي بعثك بالحق ما على وجه الأرض أحب الىّ منها غيرك قال لها ما تقولين فقالت يا رسول الله ما كنت أحدثك حديثا ينزل عليك خلافه هو من أكرم الناس حنة لزوجته ولكن أبغضه فلا انا ولا هو - وروى البخاري فى صحيحه عن ابن عباس ان امراة ثابت بن قيس أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ثابت بن قيس ما اعيب عليه فى خلق ولا دين ولكنى اكره الكفر فى الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أ تردين حديقته قالت نعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقة - واخرج البيهقي من وجه اخر عن ابن عباس - ان جميلة أتت النبي صلى الله عليه وسلم تريد الخلع فقال لها ما أصدقك قالت حديقة قال روى عليه حديقته - واخرج ابن جرير عن ابن عباس قال - أول خلع كان فى الإسلام - امراة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا يجتمع رأسى ورأس ثابت انى رفعت الخباء فرايته اقبل فى عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها - فقال أ تردين حديقته قالت « 1 » نعم وان شاء زدته ففرق بينهما واخرج أبو داود وابن حبان والبيهقي عن حبيبة بنت سهل انها كانت عند ثابت بن قيس فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت لا انا ولا ثابت الحديث - واخرج ابن جرير عن ابن جريح قال - نزلت هذه الآية فى ثابت بن قيس وفى(1/577)
حبيبة وكانت اشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تردين عليه حديقته قالت نعم فدعاه يذكر ذلك قال ويطيب لى قال نعم قال قد فعلت فنزلت هذه الآية - فهذه القصة تدل على ان الخلع طلاق كما فى الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قال اقبل الحديقة وطلقها تطليقة - فان قيل عمل الراوي على خلاف مروية ينزل على اصل أبى حنيفة منزلة الناسخ وما فى البخاري هو من رواية ابن عباس وقد
_________
(1) فى الأصل قال -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 310(1/578)
ذكر قول ابن عباس فيما سبق ان الخلع فرقة قلنا لعل ابن عباس زعم ان ثابتا طلق امرأته امتثالا لامر النبي صلى الله عليه وسلم وصار هذا طلاقا على مال وليس بخلع ثم افتى بتأويل الآية ان الخلع فسخ فليس عمله على خلاف روايته على زعمه وحين قال ابن عباس كان هذا أول خلع فى الإسلام يحمل قوله على المجاز ولا يلزم علينا اتباع زعم ابن عباس - ومما يدل على كون الخلع طلاقا ما روى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيب ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخلع تطليقة وهذا مرسل صحيح والمرسل عندنا حجة وقد حكم الشافعي بان مراسيل سعيد بن المسيب لها حكم الوصل قال فانى وجدتها مسانيد - وقد روى كون الخلع طلاقا عن ابن مسعود قال لا يكون طلقة بائنة الا فى فدية أو إيلاء - رواه ابن أبى شيبة وكذا روى عن على أيضا - وروى عن أم بكرة انها اختلعت من زوجها فارتفعها إلى عثمان فى ذلك فقال هى طلقة بائنة الا ان يكونا سميا شيئا فهو على ما سميت - رواه مالك وما قيل ان من رواة هذا الأثر جمها؟؟ ن لا يعرف قال ابن همام هو أبو العلى مولى الأسلميين ويقال مولى يعقوب القبطي تابعي روى عن سعد بن أبى وقاص وعثمان بن عفان وابى هريرة وأم بكرة وروى عنه عروة بن الزبير وموسى بن عبيدة الزبيدي وغيرهما ذكره ابن حبان فى الثقات - (مسئلة) اجمعوا على ان الخلع على الأكثر من الصداق صحيح بناء على عموم الآية لكن يكره عند أبى حنيفة واحمد وقال أكثرهم لا يكره وهو رواية جامع الصغير عن أبى حنيفة - وقد سبق الخلاف فى هذه المسألة بين الصحابة وجه الكراهة ما رواه أبو داود فى مراسيله وابن أبى شيبة وعبد الرزاق فى قصة امراة ثابت بن قيس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها أ تردين عليه حديقته التي أصدقك قالت نعم وزيادة قال اما الزيادة فلا وأخرجه الدارقطني كذلك وقال قد أسنده الوليد عن ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس والمرسل أصح واخرج ابن الجوزي من طريق(1/579)
الدارقطني عن أبى الزبير ان ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده زينب بنت عبد الله بن أبيّ ابن « 1 » سلول وكان أصدقها حديقة فكرهته فقال النبي صلى الله عليه وسلم أ تردين عليه حديقته التي اعطاك قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اما الزيادة فلا ولكن حديقته قالت نعم فاخذها له فخلى سبيلها فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله
_________
(1) فى الأصل بنت عبد الله ابن أبى سلول
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 311(1/580)
عليه وسلم - قال ابن الجوزي اسناده صحيح وقال الدارقطني سمعه أبو الزبير من غير واحد واخرج الدارقطني بسنده عن عطاء ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يأخذ الرجل من المختلعة اكثر مما أعطاها - وروى ابن ماجة عن ابن عباس ان جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه فامره ان يأخذ حديقته ولا يزداد - فلا شك فى ثبوت هذه الزيادة بمرسل صحيح اعتضد بمسند ومرسل - وفى الباب اثر على لا يأخذ منها فوق ما أعطاها - رواه عبد الرزاق ووكيع نحوه - وما روى عبد الرزاق عن الربيع بنت معوذ انها اختلعت من زوجها بكل شىء تملكه فخوصم فى ذلك إلى عثمان فاجازه وامره ان يأخذ عقاص رأسها فما دونها - وما روى عن نافع ان عمر جاءته مولاة لامراته اختلعت من كل شىء لها وكل ثوب حتى نقبتها فلا ينافى هذان الاثران القول بالكراهة لانهما يدلان على النفاذ قضاء ولم ينكره أحد - ووجه عدم الكراهة هذه الآية حيث قال الله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فان كلمة ما عام يشتمل القليل والكثير وشرط قبول الأحاديث من الآحاد أن لا يعارض الكتاب القطعي وقد عارضت - قلت وهذا مبنى على اصل أبى حنيفة ان العام قطعى الدلالة فى الشمول لا يجوز تخصيصه بخبر الآحاد ولو قلنا بجواز التخصيص بخبر الآحاد لقلنا ان حكم الآية مخصوص بمقدار الصداق وما دون ذلك بتلك الأحاديث والله اعلم - وقد روى ما يدل على عدم الكراهة حديث أبى سعيد الخدري قال كانت أختي تحت رجل من الأنصار تزوجها على حديقة الحديث وفيه قال عليه السلام تردين عليه حديقته ويطلقك قالت نعم وأزيده قال روى عليه حديقته وزيديه رواه ابن الجوزي لكن هذا الحديث لا يصح فيه عطية العوفى قال ابن حبان لا يحل كتب حديثه - وفيه الحسن بن عمارة قال شعبة هو كذاب تِلْكَ اشارة إلى أو امر الله ونواهيه حُدُودَ اللَّهِ يعنى ما منع عن المجاوزة عنه فَلا تَعْتَدُوها فلا تجاوزوها(1/581)
وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. (228)
فَإِنْ طَلَّقَها بعد الثنتين وهو أحد محتملى قوله تعالى أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ خص الله سبحانه ذلك الاحتمال بحكم فقال فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ ذلك وبقي الاحتمال الثاني وهو الترك من غير تطليق إلى انقضاء العدة على الأصل وهو حل النكاح مع الزوج الأول حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ يعنى تتزوج نكاحا صحيحا وانما قيدنا بالصحيح لان المطلق ينصرف
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 312(1/582)
الى الكامل والتزوج والنكاح يجوز اسناده إلى كل من الزوجين لأنه ينعقد بالإيجاب والقبول وذا يصدر منهما - وبناء على ظاهر هذه الآية قال سعيد بن المسيب وداود ان عقد النكاح من غير جماع من الزوج الثاني يحل للزوج الأول - والإجماع انعقد على ان الوطي من الزوج الثاني شرط للحمل « 1 » ومن ثم قيل المراد بالنكاح فى الآية الجماع فانه فى اللغة بمعنى الجماع فان قيل هذا لا يستقيم فان الوطي فعل الزوج والمرأة محله فاسناده إلى المرأة لا يجوز قلنا يجوز تجوزا والآية لا تخلوا عن التجوز فان كان النكاح بمعنى العقد فالتجوز فى لفظ الزوج بناء على ما يؤل إليه وان كان بمعنى الوطي فالتجوز فى الاسناد ويمكن ان يقال المراد بالنكاح تمكينها من الوطي مجازا - والباعث على هذا الإجماع وتأويل الآية بهذه التأويلات البعيدة حديث عائشة قالت دخلت امراة رفاعة القرظي وانا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ان رفاعة طلقنى البتة وان عبد الرحمن بن الزبير تزوجنى وانما عنده مثل الهدبة وأخذت هدبة من جلبابها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كانك تريدين الرجوع إلى رفاعة لا حتى تذوقين عسيلته ويذوق عسيلتك رواه الجماعة وفى لفظ فى الصحيحين انها كانت تحت رفاعة فطلقها اخر ثلاث طلقات - وفى المؤطا انا مالك عن المسور ابن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير - ان رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب ثلاثا فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكحها عبد الرحمن بن الزبير فلم يستطع ان يمسها ففارقها فاراد رفاعة ان ينكحها فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا يحل لك حتى تذوق العسيلة - وروى الجماعة من حديث عائشة انه صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق زوجته ثلاثا فتزوجت زوجا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل ان يواقعها أ تحل لزوجه الأول قال لا حتى ذاق الاخر من عسيلتها ما ذاق الأول - واخرج ابن المنذر عن(1/583)
مقاتل بن حبان قال نزلت هذه الآية فى عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وانها كانت عند رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها فطلقها طلاقا بائنا فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي فطلقها فاتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت انه طلقنى قبل ان يمسنى أ فأرجع إلى الأول قال لا حتى تمس ونزل
_________
(1) يعنى لا يحل له أصلا لا بملك اليمين ولا بملك النكاح فلو طلقها ثلاثا فارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب ثم ظهر على الدار واسترقت وملكها الزوج الأول لا يحل له وطيها يملك اليمين حتى يزوجها بزوج غيره ويطاها الزوج الثاني ويطلقها - منه نور الله مرقده
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 313(1/584)
فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا - ذكر البغوي انه روى انها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان زوجى مسنى فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبت بقولك الأول فلن نصدقك فى الاخر فلبثت ما شاء الله حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فاتت أبا بكر وقالت ان زوجى مسنى وطلقنى فقال لها أبو بكر قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعى فلما قبض أبو بكر أتت عمرو قالت له مثل ذلك فقال عمر لان رجعت لارجمنك - وعلى تقدير تأويل النكاح بالتزويج يكون بهذا الحديث زيادة على الكتاب والزيادة على الكتاب بخبر الآحاد جائز عند الشافعي وغيره لكن يشكل ذلك على اصل أبى حنيفة فان عنده لا يجوز ذلك - فقيل فى توجيه مذهب أبى حنيفة ان الحديث المشهور يجوز به الزيادة على الكتاب وليس كذلك فان الحديث من الآحاد لكن يمكن ان يقال انه لما انعقد الإجماع على وفق هذا الحديث وتلقته جمهور الامة بالقبول التحق الحديث بالمشهور فيجوز به الزيادة على الكتاب فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني بعد الوطي فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أى على المرأة والزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد يدل على ذلك اسناد الفعل إليهما بخلاف ما مر من قوله تعالى وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ حيث أسند الفعل هناك إلى البعولة بانفرادهم إِنْ ظَنَّا رجعا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ ولا يمكن هاهنا تفسير الظن بالعلم لعدم إمكان العلم بالغيب ولان ان الناصبة للتوقع وهو ينافى العلم - (مسئلة) اجمعوا على ان الوطي من الزوج الثاني يهدم الطلقات الثلاث من الزوج الأول - فان عادت إليه يملك الزوج الأول الطلقات الثلاث اجماعا - واختلفوا فى انه هل يهدم ما دون الثلاث ايضا(1/585)
أم لا - اعنى ان طلق الزوج الأول طلقة أو طلقتين وانقضت عدتها وتزوجت بزوج اخر بنكاح صحيح ثم طلقها الثاني بعد الوطي وانقضت العدة ثم رجعت إلى الزوج الأول هل يملك الزوج الأول الطلقات الثلاث أو يملك ما بقي بعد الطلقة أو الطلقتين - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يهدم مادون الثلاث أيضا ويملك الزوج الأول ثانيا الطلقات الثلاث بتمامها وقال محمد لا يهدم ما دون الثلاث لان الله سبحانه جعل الوطي من الزوج الثاني غاية الحرمة المغلظة الحاصلة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 314(1/586)
بالطلقات الثلاث فى قوله فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ فكان منهيا لها ولا إنهاء قبل الثبوت - ولنا ان فى هذه الآية جعل الله سبحانه الطلاق من الزوج الثاني بعد الوطي موجبا للحل للزوج الأول حيث قال فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا وكذا قوله صلى الله عليه وسلم لعن الله المحلّل والمحلّل له جعل الزوج الثاني محللا للزوج الأول والأصل فى الحل الحل كله فيملك ثلاث تطليقات - وأيضا إذا كان الوطي من الزوج الثاني هادما للحرمة الغليظة كان هادما للحرمة الخفيفة بالطريق الاولى والله اعلم (مسئلة) اختلفوا فى انه بعد ما طلق الزوج الأول ثلاثا لو نكح المرأة زوجا اخر واشترطت منه ان يطلقها فطلقها بعد الوطي وانقضت عدتها فقال أبو حنيفة حلت للاول لوجود الدخول فى نكاح صحيح والنكاح لا يبطل بالشروط وعن محمد انه يصح النكاح لما بيّنّا ولا يحلها على الأول لأنه استعجل ما آخره الشرع فيجازى بمنع مقصوده كما فى قتل المورث - وقال احمد ومالك وأبو يوسف لا يصح النكاح وللشافعى قولان أصحهما انه لا يصح النكاح لأنه فى معنى الموقت وإذا لم يصح النكاح لا يحل للزوج الأول لفقدان الشرط وهو النكاح الصحيح احتجوا على عدم الصحة بحديث ابن مسعود قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلّل والمحلّل له - رواه الدارمي وقال الترمذي صحيح ورواه ابن ماجة عن على وابن عباس وعقبة بن عامر - قلنا هذا حجة لنا لا علينا فانه عليه السلام جعله محللا فيدل على ثبوت الحل وذلك يقتضى صحة النكاح غير انه يدل على كون الزوج مرتكبا لامر محرم ونحن نقول به فان تزوجها ولم يشترط ذلك الا انه كان فى عزمه صح النكاح عند أبى حنيفة وصاحبيه والشافعي وقال مالك واحمد لا يصح ولا خلاف فى كراهته قال البغوي قال نافع اتى رجل ابن عمر(1/587)
فقال ان رجلا طلق امرأته ثلاثا فانطلق أخ له من غير موامرة فتزوجها ليحلها للاول فقال - لا الا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله المحلّل والمحلّل له وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أى الاحكام المذكورة يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) يفهمون ويعملون بمقتضى العلم.
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أى عدتهن الاجل يطلق على المدة وعلى منتهاها فيقال لعمر الإنسان وللموت الذي به ينتهى عمره والمراد هاهنا منتهاه لان شروع العدة عقيب الطلاق والبلوغ هو الوصول إلى الشيء وقد يقال للدنو منه على المجاز وهو المراد فى الآية ليصح ان يترتب عليه فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 315(1/588)
إمساك بعد انقضاء الاجل والمعنى فراجعوهن من غير ضرار أو اتركوهن حتى تنقضى عدتهن - وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً أى لا تراجعوهن بارادة الإضرار بهن - ونصب ضرارا على العلة أو الحال بمعنى مضارين لِتَعْتَدُوا أى لتظلموهن بالتطويل والإلجاء إلى الاقتداء - واللام متعلق بلا تمسكوهنّ فهو أيضا مفعول له كأنَّه بيان للضرار - أو هو متعلق بالضرار وعلى هذا التقدير أيضا بيان للضرار - وليس بتقييد فان الضرار مطلقا ظلم واعتداء ومنهى عنه امر الله سبحانه اولا بالإمساك بالمعروف ثم نهى عن ضده وهو الإمساك بالضرار ثم صرح بكونه اعتداء وظلما ثم عقب ذلك بقوله وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعني بتعريضها للعقاب للمبالغة والاهتمام - أخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس قال كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها ثم يطلقها يفعل ذلك ليضارها ويعضلها فانزل الله تعالى هذه الآية وذكر البغوي وكذا أخرج ابن جرير عن السدّى قال نزلت فى رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق امرأته حتى إذا قرب انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها مضارة فأنزل الله تعالى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا الآية وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً بالاعراض عنها والتهاون فى العمل بما فيها - قال الكلبي يعنى قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وكل من خالف الشرع فهو متخذ آيات الله هزوا واخرج ابن أبى عمرو فى مسنده وابن مردوية عن أبى الدرداء قال كان الرجل يطلق ثم يقول لعبت - ويعتق ثم يقول لعبت وذكر البغوي قول أبى الدرداء وذكر فيه وينكح ويقول مثل ذلك فانزل الله وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً واخرج ابن مردوية نحوه عن ابن عباس - واخرج ابن جرير نحوه عن الحسن مرسلا - واخرج ابن المنذر عن عبادة بن الصامت نحوه بلفظ ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه الطلاق والعتاق و(1/589)
النكاح وقد مرّ فى ما سبق حديث أبى هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ومن جملتها الهداية وإنزال آيات القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بالشكر والقيام بحقوقها وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعنى القرآن وَالْحِكْمَةِ يعنى الوحى الغير المتلو على محمد صلى الله عليه وسلم يَعِظُكُمْ بِهِ بما انزل عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) تأكيد وتهديد - .
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 316(1/590)
وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أى انقضت عدتهن عن الشافعي انه دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أى لا تمنعوهن والعضل المنع وأصله الضيق والشدة يقال الداء العضال ما لا يطاق علاجه أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ - المخاطب به الأولياء نزلت الآية فى جملاء بنت يسار اخت معقل بن يسار طلقها بداح بن عاصم بن عدى بن عجلان - روى البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن معقل بن يسار قال زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك واكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك ابدا وكان الرجل لا بأس به وكانت المرأة تريدان ترجع إليه فانزل الله تعالى فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ فقلت الان افعل يا رسول اللّه قال فزوجها إياه وأخرجه ابن جرير من طرق كثيرة ثم أخرج عن السدى قال نزلت في جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنت عمر فطلقها زوجها فانقضت عدتها ثم رجع يريد نكاحها فابى جابر والاول أصح لاقوى ولعلها نزلت فى القصتين معا - وسياق الآية يقتضى ان الخطاب مع الأزواج الذين خوطبوا بقوله وإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الذين يعضلون نساءهم بعد مضى العدة ان ينكحن أزواجا غيرهم عدوانا وقسرا وما ذكرنا من رواية البخاري وغيره فى شأن النزول يقتضى ان الخطاب مع الأولياء حيث كان العضل من معقل بن يسار أخو جملاء - فالصواب عندى ان الخطاب مع الناس كلهم فانه يضاف الفعل إلى الجماعة حين يصدر عن واحد منهم كما فى قوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعنى لا يأكل بعضكم اموال بعض وقوله تعالى لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعنى لا يخرج بعضكم نفس بعضكم من ديارهم - وحينئذ لا مزاحمة بين سياق الآية وسبب نزولها والمعنى حينئذ إذا طلق رجال منكم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن ايها(1/591)
الأولياء والأزواج السابقين وغيرهم ان ينكحن أزواجهن - وفى لفظ الأزواج تجوز على جميع التقادير فانه اطلاق بناء على ما كان أو على ما يؤل إليه والله اعلم والشافعية بعد ما حملوا الخطاب فى الآية على انه مع الأولياء قالوا فيه دليل على ان المرأة لا تزوج نفسها إذ لو تمكنت منه لم يكن لعضل الولىّ معنى وحملوا اسناد النكاح إلى المرأة على التجوز وقالوا اسناد النكاح إليهن بسبب توقفه على اذنهن - وهذا الاستدلال ضعيف فانه يمكن المنع من الولي على تقدير كون النكاح فعلا اختياريا للمرءة الا ترى انه صلى الله عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 317
قال لا تمنعوا إماء الله عن مساجد الله مع ان إتيان المساجد فعل اختياري للمرءة بل المنع والحث انما يتصوران فى الفعل الاختياري فالاولى لهم فى هذه المسألة الاستدلال بقوله تعالى وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا فان الأصل فى الاسناد الحقيقة.
( ((1/592)
مسئلة)) هل يجوز نكاح الحرة العاقلة البالغة من غير ولى - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف يجوز لها نكاحها نفسها بعبارتها وعبارة وكيلها برضاها وان لم يعقد عليها ولى سواء كان الزوج كفوالها اولا الا انه فى غير الكفو للولى الاعتراض وفى رواية عنهما لا ينعقد فى غير الكفو وعند محمد ينعقد فى الكفو وغيره موقوفا على اجازة الولي - وقال مالك ان كانت ذات شرف وجمال أو مال يرغب فى مثلها لا يصح نكاحها الا بولي وان كانت بخلاف ذلك جاز ان يتولى نكاحها اجنبى برضاها ولا يجوز النكاح بعبارتها وقال الشافعي واحمد لا نكاح الا بولي وهى رواية عن أبى يوسف احتجوا بهذه الآية وقد سمعت ما عليه وبأحاديث منها حديث عائشة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما امراة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فان اشتجر فالسلطان ولى من لا ولى له - رواه اصحاب السنن من حديث ابن جريح عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة وحسنه الترمذي - قال الطحاوي حدثنا ابن أبى عمران قال أخبرنا يحيى بن معين عن ابن علية عن ابن جريح انه قال لقيت الزهري فأخبرته عن هذا الحديث فانكره - وأجاب عنه ابن الجوزي بان الزهري اثنى على سليمان بن موسى فكان الإنكار عن نسيان من الزهري - وحديث عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي والسلطان ولى من لاولى له رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وفيه الحجاج بن ارطاة ضعيف - وعنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي وشاهدى عدل رواه الدارقطني وفيه يزيد بن سنان وأبوه قال الدارقطني هو وأبوه ضعيفان وقال النسائي هو متروك الحديث وضعفه احمد وغيره وعنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد للنكاح من أربعة الولي والزوج وشاهدين رواه الدارقطني وفيه نافع بن ميسر أبو خطيب مجهول - وحديث(1/593)
ابى بردة عن أبيه أبى موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي رواه احمد وحديث ابن عباس مرفوعا لا نكاح
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 318
الا بولي والسلطان ولى من لاولى له رواه احمد من طريق الحجاج بن ارطاة وهو ضعيف ومن طريق أخر فيه عدى بن الفضل وعبد الله بن عثمان ضعيفان - وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البغايا اللتي ينكحن انفسهن لا يجوز النكاح الا بولي وشاهدين ومهر قل وكثر رواه ابن الجوزي وفيه النهاس قال يحيى ضعيف وقال ابن عدى لا يساوى شيئا - وحديث ابن مسعود وابن عمر قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكاح الا بولي وشاهدى عدل فى حديث ابن مسعود بكير بن بكار قال يحيى ليس بشىء وفيه عبد الله بن محرز قال الدارقطني متروك وفى حديث ابن عمر ثابت بن زهير منكر الحديث كذا قال أبو حاتم وقال ابن حبان لا يحتج به - وحديث أبى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزوج المرأة المرأة ولا يزوج المرأة نفسها فان الزانية هى التي يزوج نفسها رواه الدارقطني من طريقين فى أحدهما جميل بن الحسن وفى الثاني مسلم بن أبى مسلم لا يعرفان - وحديث جابر مرفوعا لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدى عدل رواه ابن الجوزي وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي قال النسائي ويحيى متروك لا يكتب حديثه وفيه قطن بن يسير ضعيف - وحديث معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أيما امراة زوجت نفسها من غير ولى فهى زانية رواه الدارقطني وفيه أبو عصمة اسم ابن أبى مريم قال يحيى ليس بشىء وقال الدارقطني هو متروك واحتج الحنفية بقوله تعالى حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وقوله أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ لان الأصل فى الاسناد حقيقة ان تباشر المرأة - وبحديث ابن عباس مرفوعا الايم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن فى نفسها واذنها صماتها رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي(1/594)
وجه الاستدلال ان للاولياء ليس الا حق المباشرة والايم أحق منه بنفسها فهى اولى بالمباشرة وبحديث
ابى سلمة بن عبد الرحمن قال جاءت امراة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان أبى انكحنى رجلا وانا كارهة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابيها لا نكاح لك اذهبي انكحى من شئت رواه ابن الجوزي قالوا هذا مرسل والمرسل ليس بحجة قلنا المرسل حجة - وبحديث عائشة ان فتاة دخلت عليها فقالت ان أبى زوجنى ابن أخيه ليرفع خسيسته وانا كارهة - قالت اجلسي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبرته فأرسل إلى أبيها فجعل الأمر إليها فقالت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 319(1/595)
يا رسول الله قد أجزت ما صنع أبى وانما أردت ان أعلّم النساء ان ليس إلى الآباء من الأمر شىء رواه النسائي وجه الاستدلال ان فى هذا الحديث تقريره صلى الله عليه وسلم قولها ان ليس إلى الآباء من الأمر شىء يعارض حديث عائشة المذكورة وحديث لا نكاح الا بولي قالت الحنفية إذا تعارضت النصوص فيجب سلوك طريق الترجيح أو الجمع بضرب من التأويل - فعلى طريقة الترجيح ما رواه مسلم أصح وأقوى سندا بخلاف ما رووه من الأحاديث فانها لم تخل من ضعف أو اضطراب - وعلى طريقة الجمع فنقول معنى قوله عليه الصلاة والسلام لا نكاح الا بولي يعنى لا نكاح على الوجه المسنون أو نقول لا نكاح الا بمن له ولاية لينفى نكاح الكافر المسلمة والنكاح مع المحرمية والنكاح فى عدة زوج قبله وغير ذلك من الانكحة الفاسدة ويحمل حديث عائشة على امراة نكحت نفسها من غير كفو - والمراد بالباطل حقيقة على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفو وحكما على قول من يصححه ويثبت للولى حق الخصومة فى فسخه وكل ذلك شائع فى إطلاقات النصوص ويجب ارتكابه لدفع التعارض أو نقول حديث عائشة يدل على ان المرأة إذا نكحت نفسها بإذن وليها فذلك النكاح جائز اما على اصل الشافعي فانه يقول بالمفهوم - واما على اصل أبى حنيفة فانه غير داخل فى حكم البطلان والأصل الجواز فثبت بهذا ان مباشرة المرأة غير قادحة فى النكاح انما القادح حق الولي المستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم الايم أحق بنفسها من وليها وحق الولي الاعتراض فى غير الكفو دفعا للعار - إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ أى الخطّاب والنساء - وهو ظرف لان ينكحن - وبناء على اشتراط التراضي اجمعوا على انه لا يجوز إجبار المرأة البالغة إذا كانت ثيبة واختلفوا فى البكر البالغة فقال الشافعي يجوز للاب والجد انكاحها بغير رضاها وبه قال مالك فى الأب وهو أشهر الروايتين عن احمد لان الآية فى الثيبات واحتج ابن الجوزي بمفهوم ما رواه(1/596)
ابن عباس مرفوعا بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها فى نفسها - قلنا هذا استدلال بالمفهوم المخالف من الحديث أو الآية والمفهوم ليس بحجة عندنا على ان هذا الحديث وهذه الآية حجة لنا لا علينا فان الحديث منطوقه يدل على وجوب استيمار البكر والاستيمار ينافى الإجبار وفى الآية قوله تعالى ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ الآية يدل على ان تحريم العضل واشتراط الرضاء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 320
مبنى على المفاسد فى العضل والإجبار كما سنذكر والمفاسد فى إجبار البكر والثيب سواء - فان قيل لو كان البكر والثيب فى اثبات الاختيار لهما سيّان فما وجه الفرق فى قوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وكذا ما وجه ذكر البكر بعد قوله الايم أحق على رواية مسلم - قلنا وجه الفرق بيان كيفية اذنها بقوله اذنها صماتها بخلاف الثيب فان صماتها لم تعتبر اذنا بل لا بد لها من توكيل سابق أو اذن لا حق صريحا - وأيضا البكر لا تباشر العقد غالبا ولهذا خصها بعد التعميم كيلا يتساهلون فى الاستيمار - واحتج ابن الجوزي أيضا بما روى عن الحسن مرسلا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستأمر الابكار فى انفسهن فان أبين اجبرن وهذا الحديث ساقط متنا وسندا اما متنا فللتناقض بين الاستيمار والإجبار إذ لا فائدة حينئذ فى الاستيمار واما سندا فلان فى سنده عبد الكريم قال ابن الجوزي قد اجمعوا على الطعن فيه ولنا أحاديث منها ما ذكرنا ومنها حديث ابن عباس ان جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ان أباها زوجها وهى كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم رواه احمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة بسند متصل ورجال(1/597)
صحيح وقول البيهقي انه مرسل لا يضر فانه مرسل من بعض الطرق والمرسل حجة ومتصل من طرق اخر صحيحة قال ابن القطان حديث ابن عباس هذا صحيح وليست هذه خنساء بنت خدام التي زوجها أبوها وهى ثيب فكرهت فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها رواه البخاري وقال ابن همام روى ان خنساء أيضا كانت بكرا أخرج النسائي حديثها وفيه انها كانت بكرا لكن رواية البخاري يترجح وروى الدارقطني حديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب انكحهما أبو هما وهما كارهتان وروى الدارقطني عن ابن عمران رجلا زوج ابنته بكرا فكرهت ذلك فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها وفى رواية اخرى عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتزع النساء من أزواجهن ثيبات وأبكار ابعد ان يزوجهن الآباء إذا كرهن ذلك وروى الدارقطني عن جابران رجلا زوج ابنته وهى بكر من غير أمرها فاتت النبي النبي صلى الله عليه وسلم ففرق بينهما وحديث عائشة قالت جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ان أبى نعم الأب هو زوجنى ابن أخيه ليرفع من خسيسته « 1 » قالت « 2 » فجعل الأمر
_________
(1) الخسيس الدنى والخسيسة والخساسة الحالة التي يكون عليها الخسيس يقال رفعت خسيسته ومن خسيسة إذا فعلت فعلا يكون فيه رفعته - منه رحمه الله
(2) فى الأصل قال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 321(1/598)
إليها فقالت انى قد أجزت ما صنع أبى ولكنى أردت ان « 1 » تعلم النساء ان ليس إلى الآباء قال الدارقطني حديث ابن عباس وجابر وعائشة مراسيل وابن بريدة لم يسمع من عائشة وقد أنكر احمد حديث جابر وقال الدارقطني الصحيح انه مرسل عن عطاء ان رجلا - ووهم شعيب في رفعه وقال ابن الجوزي حديث ابن عمر لا يثبت فان ابن أبى ذئب لم يسمعه عن نافع انما سمعه من عمر بن حسين وقد سئل عن هذا الحديث احمد فقال باطل قلنا المراسيل حجة لا سيما للاستشهاد والتقوية - وقول ابن الجوزي ان هذه الأحاديث محمول على ما أنكحت البكر البالغة من غير كفو حمل على خلاف الظاهر من غير سبب على ان في حديث عائشة زوجنى أبى ابن أخيه صريح على ابطال ذلك الحمل فان ابن العم يكون كفوا والقول بان ابن الأخ كان من قبل أم أيضا احتمال بعيد بلا دليل واللّه اعلم ( (مسئلة)) اجمعوا على ان للاب ولاية الكاح الصغيرة البكر واختلفوا في الثيب الصغيرة فقال مالك والشافعي واحمد لا يجوز نكاح الثيب الصغيرة أصلا لان اذنها لا يصح قبل البلوغ لابتنائه على العقل ولا معتبر بالعقل قبل البلوغ فنكاحها لا يكون الا بغير اذنها ونكاح الثيب بغير اذنها لا يجوز فنكاحها لا يجوز اما الصغرى فبديهى بعد الإجماع واما الكبرى فلقوله عليه الصلاة والسلام الثيب أحق بنفسها وقد مر وحديث أبى هريرة لا ينكح الثيب حتى تستامر - رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح وحديث خنساء ان أباها زوجها وهى كارهة وكانت ثيبا فرد النبي صلى اللّه عليه وسلم نكاحها - رواه البخاري وحديث ابن عباس ليس للولى مع الثيب امر رواه الدارقطني وهذا حديث ضعيف أعله الدارقطني - والجواب ان خنساء كانت بالغة للاجماع على ان الثيب الصغيرة لا تستأمر ولا يصح اذنها وعلى انه لا يجوز لها مباشرة النكاح - وقال أبو حنيفة يجوز للاب انكاحها وان لم ترض لان سبب الولاية في البكر الصغيرة اما الصغر أو البكارة لا غير و(1/599)
البكارة غير معتبر في البالغة لما قررنا فكذا في الصغيرة فلم يبق الا الصغر وهو موجود فيها - بِالْمَعْرُوفِ أى بما يعرفه الشرع ويستحسنه المروّة - حال من الضمير المرفوع أو صفة مصدر محذوف أى تراضيا كائنا بالمعروف - وفيه دلالة على ان العضل عن التزويج من غير كفو والتزويج الذي لا يجوز في الشرع كالنكاح في العدة وغير ذلك من الموانع جائز غير منهى عنه ذلِكَ اشارة إلى ما مضى من الاجتناب عن العضل ورعاية التراضي والخطاب إلى الجميع على تأويل كل واحد
_________
(1) فى الأصل يعلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 322
او يكون الكاف لمجرد الخطاب دون تعيين المخاطبين - أو يقال الكاف ليس لها محل من الاعراب فيتوهم ان الكاف من نفس الكلمة وليست بكاف خطاب وعلى هذا يقول العرب موحدا منصوبة في الواحد والتثنية والجمع والمذكر والمؤنث - أو يقال انه خطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم على طريقة قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ هذا يدل على ان الكفار غير مخاطبين بالشرائع - أو يقال خصهم بالذكر لانهم هم المتعظون المنتفعون بها ذلِكُمْ خطاب إلى الناس أجمعين أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ من دنس الآثام فان العضل ان كان عن مطلق النكاح يلزم غالبا وقوعهن في العنت وان كان عن النكاح ممن يرضين مع الإجبار على النكاح ممن لا يرضين يخاف ان لا يقيما حدود اللّه ويقع الخلع أو الطلاق وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه النفع والصلاح وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) لقصور عقلكم وجهلكم بعواقب الأمور.(1/600)
وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أضاف الأولاد إليهن لتكون باعثا على العطف والأوضاع وهذا امر عبر عنه بالخير للمبالغة وهو للوجوب لكنه نسخ ذلك فيما إذا تعاسرت الامّ من الإرضاع أى لم تقدر ويقدر الأب على الاستيجار ويرتضع الصبى من غيرها بقوله تعالى وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى - أو مخصوص بقوله تعالى لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وبقي الحكم فيما سوى ذلك على أصله - ومن ثم قال أبو حنيفه رحمه اللّه ان استأجر رجل زوجته أو متعته لترضع ولدها لم يجز وقال الشافعي يجوز استيجارها - لنا ان الإرضاع مستحق عليها ديانة الا انه عذرت قضاء لظن عجزها حين امتنعت عن الرضاع مع وفور شفقتها فإذا أقدمت عليه بالأجر ظهرت قدرتها وكان الفعل واجبا عليها فلا يجوز أخذ الاجر عليه فان قيل هذا الدليل يقتضى ان لا يجوز استيجار المطلقة بعد انقضاء عدتها لترضع ولدها مع انه جائز اتفاقا - قلنا جواز استيجارها بعد انقضاء العدة ثبت بقوله تعالى فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ الآية فظهر بهذا ان إيجاب الإرضاع على الام مقيد بايجاب رزقها على الأب بقوله تعالى وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ففى حالة الزوجية والعدة هو قائم برزقها وفيما بعد العدة ليس عليه رزق فيقوم الاجرة مقامه حَوْلَيْنِ كامِلَيْن ِ
أكده بصفة الكمال لأنه يتسامح فيه وكان مقتضى هذا القيد وجوب الإرضاع إلى كمال الحولين لكن لما عقب اللّه سبحانه بقوله فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 323(1/601)
ظهر ان التقييد لنفى جواز الإرضاع بعد الحولين - وأيضا نفى جواز الإرضاع بعد الحولين مبنى على أصله فان الأصل ان الانتفاع بأجزاء الآدمي غير جائز لكرامته - وأيضا يظهر نفى جواز الإرضاع بعد الحولين بقوله تعالى لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ إذ لا شىء بعد تمامه - وهو بيان لمن يتوجه إليه الحكم بالوجوب يعنى ذلك الإرضاع إلى حولين لمن أراد إتمام الرضاعة أو هو متعلق بيرضعن فان الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة والام يجب عليها الرضاع ان لم يعسر عليها وقال قتادة فرض اللّه تعالى على الوالدات الإرضاع حولين كاملين ثم انزل التخفيف بقوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ فبهذه الآية ثبت ان مدة الإرضاع حولين لا يجوز بعدها ولا يثبت المحرمية بالإرضاع بعدها وبه قال أبو يوسف ومحمد والشافعي واحمد وهو مروى عن ابن عباس وعمر رواهما الدارقطني وعن ابن مسعود وعلى أخرجهما ابن أبى شيبة وقال مالك خولان وشىء ولم يحده وقال أبو حنيفة ثلاثون شهرا وقال زفر ثلاثة سنين واستفادوا الزيادة على الحولين بقوله كاملين لان الكمال يقتضى ان لا يطعم في الحولين فحينئذ لا بد من مدة يعتاد فيها الصبى بالطعام ويغتذى باللبن وقدّر كل الزيادة برأيه ولم يقدر مالك قلنا اقتضاء الكمال ان لا يطعم فيها ممنوع بل ذكر الكمال لئلا يحمل الحولان على ما دونهما تسامحا ويدل على قولنا من السنة حديث ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لارضاع الا ما كان في حولين ورواه ابن الجوزي والدارقطني قال الدارقطني عن ابن عيينة رجاله « 1 » صحيح الا الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ وكذا وثقه احمد والعجلى وابن حبان وغير واحد وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ يعنى الأب فان الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للاشارة إلى المعنى المقتضى لوجوب الإرضاع ومؤن المرضعة عليه - واللام للاختصاص ومن ثم قال أبو حنيفة في ظاهر الرواية(1/602)
ان نفقة الابنة البالغة والابن الزمن البالغ على الأب خاصة دون الام كالولد الصغير وفي رواية الخصاف والحسن عنه انها على أبويه أثلاثا على حسب الميراث رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وذلك الرزق والكسوة ان كانت الام زوجة له أو معتدة فهو جار عليهما بحكم الزوجية وان كانت اجنبيه بانقضاء عدتها يجب ذلك بناء على الاجرة كما يدل عليه قوله تعالى فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وقدر النفقة على قدر وسعه لقوله تعالى لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها فيه دليل على ان التكليف بما
_________
(1) لعله رجاله رجال صحيح. [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 324(1/603)
لا يطاق وان كان جائزا عقلا لكنه منتف شرعا فضلا من اللّه تعالى ومنه لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قرأ ابن كثير ويعقوب وأبو عمر - أبو محمد لا تضارّ بالرفع بدلا عن قوله لا تكلّف فهو خبر بمعنى الناهي وقرا الآخرون بالنصب على صيغة النهى - وعلى التقديرين الصيغة يحتمل ان يكون مبنيا للفاعل وان يكون مبنيا للمفعول والباء للسببية والمعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها فتعنف به وتطلب منه زيادة في النفقة أو الاجرة وان تشتغل قلبه بالتفريط فى شأن الولد وان تقول بعد ما الفها الصبى اطلب لها ظيرا وما أشبه ذلك - ولا يضار الأب امرأته بسبب ولده بان يأخذ منها الولد وهى تريد ارضاعه بمثل اجر الاجنبية أو ينقص من أجرها أو يكرهها على ارضاعه مع إمكان ظير اخرى وهى لا تقدر على ارضاعه وما أشبه ذلك هذا على انه مبنى للفاعل - وان كان مبنيا للمفعول فالمعنى كذلك مع عكس الترتيب ويحتمل ان يكون معنى لا تضار لا تضر والباء زائدة يعنى لا يضر الوالدة ولدها أو الأب ولده بان يفرط في شأنه وتعهده وارضاعه وبذل النفقة عليه ولا يدفعه الام إلى الأب - أو يأخذه الأب بعد ما الفها وذكر الولد باضافة كل منهما استعطافا لهما وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله وعلى المولود له وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه واختلفوا في تفسير الوارث فقال مالك والشافعي المراد بالوارث هو الصبى نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى يكون اجر رضاعه ونفقته من ماله فان لم يكن له مال فعلى الام ولا يجبر على نفقة الصبى الا الوالدان وقيل المراد به الباقي من والدي المولود بعد وفات الاخر عليه مثل ما كان على الأب من اجرة الرضاع والنفقة والكسوة وهذا القول أيضا يوافق مذهب الشافعي ومالك - ويرد على القول الأول ان انفاق الصبى من ماله مقدم على إيجاب نفقته على غيره أبا كان او(1/604)
غيره ولا يجب على الأب الا إذا فرض انه ليس للصبى مال فلا يحسن ان يقال على الصبى نفقته مثل ما كان له على أبيه بل الأمر بالعكس وكيف يقال ذلك بعد ما فرض انه ليس له مال - وعلى القول الثاني انه ان كان الباقي الأب فقط أو الأبوين جميعا فالحكم قد سبق انه عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ فلا حاجة إلى التكرار بل هذه الآية تقتضى في صورة بقائهما ان يكون النفقة عليهما وهو ينافى ما سبق وان كان الباقي الام فقط
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 325(1/605)
فالمعنى على الام رزق الام وحينئذ يلزم ان تكون هى مستحقة ومستحقة عليها - وقال أحمد وإسحاق وقتادة وابن أبى ليلى المراد بالوارث وارث الصبى من الرجال والنساء يجبر على نفقته كل وارث على قدر ميراثه عصبة كان أو غيره سواء كان الصبى وارثا منه اولا كما إذا كانت صبية أنثى يرث منها ابن عمها وابن أخيها دون هى منه وفي رواية عن احمد لا يجبر الا من كان ممن يجرى التوارث بينهما وبالرواية الاولى لاحمد قال أبو حنيفة وهو الظاهر المتبادر من الآية لا غبار عليه غير ان أبا حنيفة قيد الوارث بذي رحم محرم فخرج بهذا القيد المعتق وابن العم ونحو ذلك ووجه التقييد قراءة ابن مسعود وعلى الوارث ذى الرّحم المحرم مثل ذلك فقد ذهب أبو حنيفة على اصل ان قراءة ابن مسعود يجوز به تخصيص الكتاب والزيادة عليه - وقيل المراد بالوارث العصبة فيجبر عصبات الصبى مثل الجد والأخ وابنه والعم وابنه - قال البغوي وهو قول عمر بن الخطاب وبه قال ابراهيم والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وقيل ليس المراد النفقة بل معناه وعلى الوارث ترك المضارة قال البغوي به قال الزهري والشعبي قلت هذا ليس بسديد لان وجوب ترك المضارة غير مختص بالوارث وانما ذكر في الوالدين لدفع توهم المضارة الناشي مما سبق وأيضا كلمة ذلك بحسب الوضع للبعيد وهو وجوب النفقة دون القريب اعنى المضارة واللّه اعلم وبهذه الآية قال أبو حنيفة يجب النفقة على الغنى لكل ذى رحم محرم إذا كان صغيرا فقيرا أو كانت امراة بالغة فقيرة أو كان ذكرا زمنا أو أعمى فقيرا وانما قيد بهذه الأمور(1/606)
لان مورد النص الصغير والصغر من اسباب الاحتياج فيلتحق كل واحد منهم بالصغير بجامع الاحتياج بخلاف الفقير المكتسب فانه غنى بكسبه فلا يلتحق بالصغير ولا يجب نفقته على غيره - ويعتبر قدر الميراث لان اضافة الحكم إلى المشتق يدل على علية مأخذ الاشتقاق فيكون النفقة على الام والجد أثلاثا - ونفقة الأخ الزمن المعسر على الأخوات المتفرقات الموسرات أخماسا على قذر الميراث وقال العلماء المعتبر اهلية الإرث لا إحرازه إذ هو لا يعلم الا بعد الموت فالمعسر إذا كان له خال وابن عم يكون نفقته على خاله دون ابن عمه ولا يجب النفقة لهم مع اختلاف الدين لبطلان اهلية الإرث وهو العلة للوجوب - ولا يجب النفقة على الفقير لانها يجب صلة وهو يستحقها على غيره فكيف يستحق عليه وأما ما قال أبو حنيفة انه يجب على الرجل ان ينفق على أبويه وأجداده وجداته إذا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 326(1/607)
كانوا فقراء وان كانوا كفارا وان نفقتهم على الولد فقط لا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد وان نفقتهم على الذكور والإناث على السوية في ظاهر الرواية لا على طريقة الإرث خلافا لاحمد فانه يقول على الذكر والأنثى أثلاثا وهو رواية عن أبى حنيفة فمبنى قول أبى حنيفة هذا ليست هذه الآية بل قالوا ان نفقتهم لاجل الجزئية دون الإرث قال اللّه تعالى في الأبوين الكافرين وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً - وليس من المعروف ان يموتا جوعا وهو غنى وقال عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لابيك رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم جماعة من الصحابة وروى اصحاب السنن الاربعة عن عائشة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان أطيب ما أكل الرجل من كسب ولده وان ولده من كسبه وحسنه الترمذي وروى أبو داود وابن ماجة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا قال ان لى مالا وان والدي يحتاج إلى مالى - قال عليه الصلاة والسلام أنت ومالك لوالدك ان أولادكم من أطيب كسبكم كلوا من كسب أولادكم وكان مقتضى هذه الأحاديث ثبوت الملك للاب في مال الابن لكنه مصروف عن الظاهر بالإجماع وبدلالة اية الميراث ونحو ذلك فمعناه يجوز الوالد التملك عند الحاجة فيجب نفقتهما على الولد لا يشاركهما غيره من الورثة وإذا لم يثبت النفقة بناء على الإرث لا يعتبر فيه طريقة الإرث واما الجد والجدة فلهما حكم الأب والام قياسا ولهذا يحرزان ميراث الأب والام ويتولى في النكاح - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان رجلا اتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال انى فقير ليس لى شىء ولى يتيم قال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متاثل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة - ولمّا فسر الشافعي ومالك الوارث فبما ذكرنا قال مالك لا يجب الا للابوين الادنيين والأولاد(1/608)
الصلبية دون الأجداد والجدات وأولاد الابن والبنت وقال الشافعي يجب النفقة للاصول والفروع مطلقا ولا يتعدى عمودى النسب وقال الشافعي النفقة على الذكور خاصة الجد والابن وابن الابن دون الإناث وقال مالك النفقة على أولاد الصلب الذكر والأنثى بينهما سواء إذا كانا غنيين فان كان أحدهما غنيا والاخر فقيرا فالنفقة على الغنى - واللّه اعلم فَإِنْ أَرادا يعنى الوالدين فِصالًا قبل الحولين لان الفصال بعد الحولين واجب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 327
لما مر ان غاية الإرضاع إلى الحولين لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ - فان قيل الفاء يقتضى ان يقدر الفصال بعد الحولين قلنا الفاء للتعقيب عن مطلق الرّضاع لا عن الحولين وفي المدارك اطلق الحكم وقال زادا على الحولين أو نقصا وقال هذا توسعة بعد التحديد وانما قال ذلك ليوافق مذهب أبى حنيفة انه يجوز الإرضاع بعد الحولين إلى نصف السنة قلت ولو كان هذا ناسخا للتحديد ويكون الحكم مطلقا أو مقيدا ببعد الحولين لزم جواز الإرضاع بعد ثلاث سنين أيضا وهو خلاف الإجماع لم يقل به أحد فلا وجه للتحديد بالحولين ونصف ونحو ذلك وما قالوا ان الحولين ونصف يثبت بقوله تعالى وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً - فليس بشىء وسنذكر ذلك في موضعه في سورة النساء في تفسير قوله تعالى وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ ان(1/609)
شاء اللّه تعالى - فان قيل على تقدير حمل الفصال على ما قبل الحولين أيضا يلزم نسخ التحديد بالحولين قلنا وجوب الإرضاع إلى تمام الحولين مقيد بقوله لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ - وهذه الآية تدل على اباحة الفصال عند ارادتهما بالتراضي والتشاور فلا منافاة ولا نسخ - واللّه اعلم عَنْ تَراضٍ أى صادرا عن تراض مِنْهُما من الأبوين وَتَشاوُرٍ أى تشاور من أهل العلم به فيجيزوا ان الفطام في ذلك الوقت لا يضر بالولد والمشاورة استخراج الرأى فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فى ذلك وانما اعتبر تراضيهما لئلا يقدم أحدهما على ما يتضرر به الطفل لغرض أو غيره وهذا يدل على انه لا يجوز لاحد هما قبل الحولين الفصال من غير تراض بينهما وتشاور مع أهل الرأى وَإِنْ أَرَدْتُمْ أيها الآباء أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ مراضع غير أمهاتهم ان أبت أمهاتهم ان يرضعنهم لعلة بهن أو انقطاع لبن أو أردن نكاحا أو طلبن اجرا زائدا على غيرهن وانما قيدنا بهذه القيود لما سبق من دفع الضرار عن الوالدين وحذف المفعول الأول للاستغناء عنه فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ إلى أمهاتهم أى مرضعاتهم ما آتَيْتُمْ يعنى أعطيتم أى ما أردتم ايتاءه كقوله تعالى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ - أو المراد بما أتيتم ما سميتم لهن من اجرة الرضاع بقدر ما أرضعن - أو المعنى إذا سلمتم أجور المراضع إليهن والتسليم ندب لا شرط للجواز اجماعا - قرأ ابن كثير ما أتيتم هاهنا وفي الروم وما أتيتم من ربا بقصر الالف ومعناه ما فعلتم والتسليم حينئذ بمعنى الاطاعة وعدم الاعتراض يعنى إذا أطاع أحد الأبوين ما فعله الاخر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 328(1/610)
من الاسترضاع بِالْمَعْرُوفِ بالوجه المتعارف المستحسن شرعا متعلق بسلمتم وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وَاتَّقُوا اللَّهَ مبالغة في المحافظة على ما شرع في الأطفال والمراضع وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) حث وتهديد - .
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أى يموتون والتوفى أخذ الشيء وافيا بتمامه يعنى يتوفون اجالهم حال كونهم مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ أى ينتظرن الضمير عائد إلى الأزواج يعنى تتربص أزواجهم أو المضاف محذوف في المبتدأ يعنى ازواج الذين يتوفون يتربصن بعدهم بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً انث العشر باعتبار الليالى لانها غرر الشهور والأيام - والعرب إذا أبهمت العدد بين الليالى والأيام غلبت عليها الليالى ولا يستعمل التذكير فى مثله قط حتى انهم يقولون صمت عشرا وقال اللّه تعالى إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ثم قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً والآية تشتمل الحوامل وغيرهن ثم نسخ حكمها في الحوامل بقوله تعالى وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال ابن مسعود من شاء باهلته ان سورة النساء القصرى يعنى سورة الطلاق نزلت بعد سورة النساء الطولى يعنى سورة البقرة وعليه انعقد الإجماع - عن المسور بن مخرمة ان سبيعة الاسلمية نفست بضم الفاء أى ولدت بعد زوجها بليال فجاءت النبي صلى اللّه عليه وسلم فاستأذنته ان تنكح فاذن لها فنكحت - رواه البخاري وكذا في الصحيحين من حديث سبيعة - ومن حديث أم سلمة - ورواه النسائي انها ولدت بعد وفات زوجها لنصف شهر وفي رواية البخاري بأربعين ليلة وفي رواية قريبا من عشر ليال - ورواه احمد من حديث ابن مسعود فقال بعده بخمس عشرة وروى عن على وابن عباس انها تعتد إلى ابعد الأجلين أخرجه أبو داود في ناسخه عن ابن عباس وروى عن عمرانه قال لو وضعت وزوجها على السرير حلت - رواه مالك و(1/611)
الشافعي وابن أبى شيبة ( (مسئلة)) وعدة الامة المتوفى عنها زوجها شهران وخمسة ايام اجماعا ( (فصل)) يجب الإحداد في عدة الوفاة بالإجماع الا ما حكى عن الحسن والشعبي انه لا يجب - وفي عدة الطلاق الرجعى لا أحد أدبا بالإجماع - واختلفوا في المعتدة للبائن فقال أبو حنيفة يجب وقال مالك لا يجب وعن الشافعي واحمد كالمذهبين - ولا احداد عندنا على الصغيرة فانها
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 329(1/612)
غير مكلفة - ولا على الذمية فانها غير مخاطبة بالشرائع - وعند مالك والشافعي واحمد يجب عليهما والإحداد ترك الطيب والزينة من الكحل والحنا ولبس ما صبغ لاجل الزينة كالمعصفر والمزعفر ونحوهما والحرير والديباج والخضاب وتدهين الرأس والجسد بالدهن المطيب وغير المطيب - وقال الشافعي لا بأس بتدهين غير الرأس من البدن بدهن لا طيب فيه فان اضطرت إلى كحل فقد رخص فيه كثير من العلماء وقال الشافعي يكتحل ليلا ويمسحه بالنهار وكذا لا بأس في الخضاب ونحوه ان كان بعذر - ولا يجوز للمطلقة الرجعية والبائنة الخروج من بيتها ليلا ولا نهارا لقوله تعالى « 1 » لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ والمتوفى عنها زوجها يخرج نهارا أو بعض الليل ولا تبيت في غير منزلها - وقال الشافعي يجوز للمتوفى عنها زوجها الخروج مطلقا - وللبائنة الخروج نهارا قال عطاء اية الميراث نسخت السكنى فتعتد حيث شاءت ووجوب الإحداد ثبت بحديث أم حبيبة وزينب بنت جحش عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يحل لامراة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث نيال الا على « 2 » زوج اربعة أشهر وعشر متفق عليه عن أم عطية ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لاتحد امراة على ميت فوق ثلاث الا على زوج اربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تكتحل ولا تمس طيبا الا إذا طهرت نبذة من قسط أو اظفار متفق عليه وزاد أبو داود ولا تختضب ما صبغ عزله قبل النسخ منه؟؟ رح وعن أم سلمة قالت جاءت امراة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت يا رسول اللّه ان ابنتي توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أ فنكحلها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لامرتين أو ثلثا كل ذلك يقول لاثم قال انما هى اربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول متفق عليه وعن أم سلمة قالت دخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه(1/613)
و سلم حين توفى أبو سلمة وقد جعلت علىّ صبرا فقال ما هذا يا أم سلمة قلت انما هو صبر ليس فيه طيب فقال انه يشب الوجه فلا تجعليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطى بالطيب و
لا بالحناء فانه خضاب قلت باى شىء امتشط يا رسول اللّه قال بالسدر تغفلين به رأسك رواه أبو داود والنسائي وعنها عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل رواه أبو داود والنسائي وعن زينب بنت كعب ان الفريعة بنت مالك بن سنان وهى اخت أبى سعيد الخدري
_________
(1) فى الأصل ولا تخرجوهنّ
(2) فى الأصل الا زوج
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 330(1/614)
أخبرتها انها جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسئله ان « 1 » ترجع إلى أهلها في بنى خدرة فان زوجها خرج في طلب اعبد له فقتلوه قالت فسالت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان ارجع إلى أهلي فان زوجى لم يتركنى في منزل يملكه ولا نفقة فقالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تعم فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعانى فقال امكثى في بيتك حتى يبلغ الكتاب اجله قالت فاعتدت فيه اربعة أشهر وعشرا رواه مالك وابن حبان في صحيحه والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي ورواه الحاكم من وجهين وقال صحيح الاسناد من الوجهين جميعا ولم يخرجاه وقال الترمذي حديث صحيح وقال ابن عبد البر انه حديث مشهور واحتجوا بما رواه الدارقطني انه عليه السلام امر المتوفى عنها زوجها ان تعتد حيث شاءت فقال فيه لم يسنده غير أبى مالك الا شجعى وهو ضعيف وقال ابن القطان ومحبوب بن محرر أيضا ضعيف وعطاء بن السائب مختلط وأبو بكر بن مالك أضعفهم ولذلك أعله الدارقطني - قال أبو حنيفة فان كان نصيبها من دار الميت لا يكفيها وأخرجها « 2 » الورثة من نصيبهم انتقلت لان هذا انتقال بعذر والعبادات تؤثر فيها الاعذار فصار كما إذا خافت سقوط المنزل أو كانت فيها بأجر ولا تجد ما يؤديه ولا يخرج عما انتقلت إليه فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أى انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الائمة والمسلمون فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من الزينة والتزويج والخروج بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكره الشرع ومفهومه انهن لو فعلن ما ينكر الشرع فعليهم ان يمنعوهن فان النهى عن المنكر واجب فان قصروا فيه فعليهم الجناح وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (232) فيجازيكم على حسب أعمالكم.(1/615)
وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الخطاب فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ الخطبة الاستنكاح والتعريض من الكلام ما يفهم به السامع مراد المتكلم من غير ان يكون اللفظ موضوعا لمراده حقيقة ولا مجازا - والكناية هى الدلالة على الشيء - بذكر لوازمه كقولك طويل النجاد لطول القامة وكثير الرماد للضايف ومن التعريض ما روى ان سكينة بنت حنظلة تايّمت من زوجها فدخل عليها أبو جعفر محمد بن على الباقر عليهم السلام في عدتها وقال يا بنت حنظلة انا من قد علمت قرابتى من رسول اللّه صلى اللّه
_________
(1) فى الأصل وان ترجع
(2) فى الأصل أخرجه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 331(1/616)
عليه وسلم وحق جدى على وقدمه في الإسلام فقالت سكينة أ تخطبني وانا في العدة وأنت تؤخذ عنك فقال انما أخبرتك بقرابتي من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على أم سلمة وهى في عدة زوجها أبى سلمة فذكر لها منزلته من اللّه عز وجل وهو متحامل على يده حصيرا حتى اثر الحصير في يده من شدة تحامله على يده أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أى أضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه صريحا أو تعريضا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ بالقلوب ولا تصبرون على السكوت عنهن فاباح لكم التعريض ولا مؤاخذة على الإضمار - فيه نوع توبيخ على الخطبة وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا - استدراك عن محذوف دل عليه ستذكرونهن فاذكروهن في القلوب وعرضوا بالخطبة ولكن لا تواعدوهنّ سرّا نكاحا صريحا أو جماعا يعبر بالسر عن الوطي لأنه يسر ثم عن العقد لأنه سبب فيه إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً (5) وهو ان يعرضوا ولا يصرحوا والمستثنى منه محذوف أى لا تواعدوهن مواعدة الا مواعدة معروفة أو الا مواعدة بقول معروف - اعلم ان المعتدة من فرقة الرضاع ونحوه والمباينة باللعان والمطلقة ثلاثا ممن لا يحل لزوجها الأول تزويجها فيجوز أيضا تعريضها للاجنبى بالخطبة وان كانت بائنة فمن يحل لزوجها الأول تزويجها يجوز لزوجها خطبتها تعريضا وتصريحا - وهل يجوز للغير تعريضا أم لا قيل يجوز كالمطلقة ثلاثا لانقطاع حق زوجها الأول وقيل لا يجوز لان المعاودة جائزة له واثر النكاح باق والاول اظهر وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ كناية عن النهى عن عقد النكاح في العدة فان العزم لازم للعقد وهذا ابلغ في النهى من قوله لا تعقدوا للنكاح - وليس فيه دلالة على حرمة العزم فانه لا مؤاخذة على عزم القلب اجماعا وقد سبق اباحته بقوله تعالى - عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ الآية وهذا كمن قال زيد(1/617)
طويل النجاد وكثير الرماد فانه غير كاذب ان كان زيد طويلا مضيفا وان لم يكن له نجاد ورماد أصلا ويمكن ان يكون على الحقيقة ويكون نهيا عن العزم على عقد النكاح في العدة وحينئذ يكون النهى للتنزيه نهى عن العزم بناء على انه من يحوم حول الحمى يوشك ان يقع فيه حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ العدة سماها كتابا لكونها فرضا كقوله تعالى كتب عليكم أى فرض عليكم أَجَلَهُ منتهاه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم هذا يدل على كراهة العزم فَاحْذَرُوهُ فخافوه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 332
و لا تعزموا وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم ولم يفعل خشية من اللّه حَلِيمٌ (235) ولما كان الطلاق ابغض المباحات ذكر هاهنا بلفظ.(1/618)
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ وقرا حمزة والكسائي « 1 » لا تمسّوهنّ بالألف هاهنا وفي الأحزاب على المفاعلة والمعنى واحد أى لم تجامعوهن أَوْ تَفْرِضُوا يعنى الا ان تفرضوا أو حتى تفرضوا أو وتفرضوا أى تسموا لَهُنَّ فَرِيضَةً فعلية بمعنى المفعول والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فهو منصوب على المفعولية ويحتمل ان يكون منصوبا على المصدرية - والمعنى انه لا يجب عليكم المهر إن طلقتم قبل المسيس الا ان تفرضوا فحينئذ يجب نصف المفروض كما سيجيئ حكمه فيما بعد واما إذا كان الطلاق بعد المسيس فيجب المفروض كله بقوله تعالى آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وان لم يفرض يجب مهر المثل اجماعا وَمَتِّعُوهُنَّ عطف على مقدر فطلقوهن ومتعوهن أى أعطوهن من مالكم ما يتمتعن به وهذه المتعة واجبة عند أبى حنيفة والشافعي واحمد يعنى إذا طلق قبل المسيس ولم يفرض لها مهر وقال مالك - لا يجب بل هى مستحبة والأمر للندب قلنا كلمته حقا وكلمة على في قوله تعالى حقّا على المحسنين ينفى الاستحباب والأصل فى الأمر الوجوب - واختلفوا في مقدار الواجب فقال أبو حنيفة ثلاثة أثواب درع وخمار وملحفة من كسوة مثلها يعتبر بحالها لقيامها مقام مهر المثل لا يجاوز نصف مهر المثل ولا ينقص من خمسة دراهم وهو قول الكرخي والصحيح انه يعتبر حاله لقوله تعالى عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ قال ابن همام وهذا التقدير مروى عن عائشة وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وقال البغوي روى عن ابن عباس أعلاها خادم وأوسطها ثلاثة أثواب درع وخمار وإزار ودون ذلك وقاية أو شىء من الورق وقال الشافعي فى أصح قوليه واحمد في رواية انه مفوض إلى اجتهاد الحاكم وعن الشافعي انه مقدر بما يقع عليه اسم المال قل أو جل والمستحب عنده ان لا ينقص عن ثلاثين درهما - وفي رواية(1/619)
عن احمد انها مقدرة بكسوة يجوز فيها صلاتها وذلك ثوبان درع وخمار قال البغوي - طلق عبد الرحمن بن عوف امراة ومتعها جارية سوداء ومتع الحسن بن على امراة بعشرة آلاف درهم مَتاعاً نصب على المصدر بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي يستحسنه الشرع لا بإكراه
_________
(1) فهو سبق قلم الصحيح لم تمسّوهنّ - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 333
من الحاكم حَقًّا أى حق حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236).(1/620)
وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أى الواجب نصف ما فرضتم لهن ولا يجب المتعة زائدا على نصف المهر في هذه الصورة عند الجمهور الا ما روى عن الحسن وسعيد بن جبير ان لكل مطلقة متعة سواء كان قبل الفرض والمسيس أو بعد الفرض قبل المسيس لقوله تعالى وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ ولقوله تعالى في سورة الأحزاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا وهن يشتملن المفوضات وغير « 1 » المفروضات - وللجمهور ان يقولوا المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر فان المهر في مقابلة البضع والبضع عادت إليها سالما فلم يجب نصف المهر الا على سبيل المتعة إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أى المطلقات أى يتركن النصف فيعود جميع الصداق إلى الزوج أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ أى الزوج المالك لعقده وحله بترك ما يعود إليه بالتشطير فيسوق المهر إليها « 2 » كاملا - والتفسير للّذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ بالزوج أخرجه الطبراني في الأوسط عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا وأخرجه البيهقي في سننه عن على وابن عباس وبه قال سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والشعبي وشريح ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبى حنيفة والجديد الراجح من مذهب الشافعي وتسميتها عفوا اما على المشاكلة واما لانهم كانوا يسوقون المهر إلى النساء عند التزوج فمن طلق قبل المسيس استحق استرداد النصف فإذا لم يستردها فقد عفا عنها « 3 » - وعن جبير بن مطعم انه تزوج امراة وطلقها قبل الدخول فاكمل لها الصداق وقال انا أحق بالعفو أخرجه البيهقي في سننه - وقيل المراد بالّذى بيده عقدة النّكاح هو الولي أخرجه(1/621)
البيهقي عن ابن عباس وهو مذهب مالك والقول القديم للشافعى وعن احمد روايتان كالقولين فمعنى الآية عندهم الا ان تعفو المرأة بترك نصف المهر إلى الزوج ان كانت ثيبا من أهل العفو أو يعفو وليها ان كانت المرأة بكرا أو غير جائزة الأمر فيجوز عفو وليها وهو قوله علقمة وعطاء والحسن والزهري وربيعة - لنا ان المهر خالص حقها فلا يجوز لغيرها
_________
(1) في الأصل المفوضات وغير المفوضات
(2) فى الأصل اليه
(3) فى الأصل عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 334
التصرف فيها ومن ثم لا يجوز للولى ان يهب شيئا من مال الصغير ولا يجوز له هبة مهرها قبل الطلاق اجماعا فلا يجوز تأويل الآية الا على ما قلنا وَأَنْ تَعْفُوا موضع رفع بالابتداء يعنى عفو بعضكم عن بعض أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أى إلى التقوى والخطاب للرجال والنساء جميعا لان المذكر يغلب على المؤنث وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أى لا تنسوا ان يتفضل بعضكم على بعض فان المعطى أفضل من المعطى له إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237).
لما طال الكلام في احكام الأزواج والأولاد نبّه اللّه سبحانه على ان الاشتغال بشأنهم لا يلهيهم عن ذكر اللّه وعن الصلاة التي هى عماد الدين ومكفرة الذنوب وصداء القلوب فقال.(1/622)
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ بالأداء لاوقاتها والمداومة عليها وإتمام أركانها وصفاتها - اجمع الامة على انها فريضة قطعية يكفر جاحدها - واما تارك الصلاة عمدا فقال احمد يكفر وقال مالك والشافعي وهو رواية عن احمد انه لا يكفر لكن يستتاب فان تاب والا قتل وقال أبو حنيفة لا يقتل لكن يحبس ابدا حتى يموت أو يتوب وجه رواية احمد حديث جابر قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة رواه مسلم وحديث بريدة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم العهد الذي بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وحديث عبد اللّه بن عمر وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم انه ذكر الصلاة يوما فقال من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نورا ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبيّ بن خلف رواه احمد - والجمهور يؤولون هذه الأحاديث بناء على عطف اقامة الصلاة على الايمان - وحاصل هذه الأحاديث ان امر الصلاة أشد من سائر الاحكام والعبادات فمن تركها فكانه كفر أو المعنى انه من تركها استخفافا فقد كفر واللّه اعلم وفي فضائل الصلاة أحاديث كثيرة جدا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارايتم لو ان نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا هل يبقى من درنه شىء قالوا لا يبقى من درنه شىء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللّه بهنّ الخطايا متفق عليه - وعن عبادة ابن الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خمس صلوات افترضهن اللّه تعالى من احسن وضوئهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على اللّه عهدا ان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 335(1/623)
يغفر له ومن لم يفعل فليس على اللّه عهد ان شاء غفر له وان شاء عذبه رواه احمد وأبو داود وروى مالك والنسائي نحوه وهذا الحديث حجة للجمهور على ان تارك الصلاة لا يكفر واللّه اعلم وَالصَّلاةِ الْوُسْطى عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام - والوسطى تأنيث الأوسط - قال البغوي اختلف العلماء من الصحابة فمن بعدهم في الصلاة الوسطى - فقال قوم هى صلوة الفجر وهو قول عمر وابن عمرو ابن عباس ومعاذ بن جبل رضى اللّه عنهم - وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد واليه ذهب مالك والشافعي - وذهب قوم إلى انها صلوة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وابى سعيد الخدري وأسامة لانها في وسط النهار وهى اوسط صلوات النهار والحجة لهم ما رواه البخاري في تاريخه واحمد وأبو داود والبيهقي وابن جرير عن زيد بن ثابت ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى الظهر بالهاجرة وكانت أثقل الصلاة على أصحابه فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى واخرج احمد من وجه اخر عن زيد ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلى الظهر بالهاجرة فلا يكون وراءه الا الصف والصفان والناس في قائلتهم وتجارتهم فانزل اللّه تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ الآية فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لينتهينّ رجال أو لاحرقن بيوتهم قلنا هذين الحديثين لا يدلان ان صلوة الوسطى صلوة الظهر فان حافظوا على الصّلوت يشتمل الظهر - وقال الأكثرون وهو أرجح الأقوال انها صلوة العصر رواه جماعة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو قول على وابن مسعود وابى أيوب وابى هريرة وعائشة رضى اللّه عنهم وبه قال ابراهيم النخعي وقتادة والحسن وهو مذهب أبى حنيفة واحمد لحديث على ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال يوم الأحزاب ملا اللّه بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس متفق عليه وفي رواية لمسلم شغلونا عن الصلاة الوسطى(1/624)
صلوة العصر ملا اللّه قلوبهم وبيوتهم نارا وحديث ابن مسعود قال حبس المشركون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن صلوة العصر حتى اصفارت الشمس أو احمارت الشمس فقال شغلونا عن الصلاة الوسطى ملا اللّه أجوافهم وقبورهم نارا رواه مسلم وحديث أبى يونس مولى عائشة قال أمرتني عائشة ان اكتب لها مصحفا ثم
قالت إذا بلغت هذه الآية فاذنّى فلما بلغتها أذنت فاملات حافظوا على الصّلوت والصّلوة الوسطى وصلوة العصر وقالت سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم رواه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 336(1/625)
مسلم وحديث البراء بن عازب قال نزلت هذه الآية حافظوا على الصّلوات والصلاة العصر فقراناها ما شاء اللّه عز وجل ثم نسخها فنزلت حافظوا على الصّلوت والصّلوة الوسطى رواه مسلم واخرج مالك وغيره عن عمرو بن رافع قال كنت اكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلّى اللّه عليه وسلم فاملات علىّ - حافظوا على الصّلوت والصّلوة الوسطى وصلوة العصر واخرج أبو داود عن عبد بن رافع قال كتبت مصحفا لام سلمة فقالت اكتب حافظوا على الصّلوة والصّلوة الوسطى وصلوة العصر واخرج أبو داود عن ابن عباس انه قرأ كذلك واخرج أبو داود عن أبى رافع مولى حفصة قال كتبت مصحفا فقالت اكتب حافظوا على الصّلوت والصّلوة الوسطى وصلوة العصر فلقيت أبيّ بن كعب فاخبرته فقال هو كما قالت أو ليس اشغل ما يكون عند صلوة الظهر في غنمنا ونواضحنا واصحاب الشافعي جعلوا أحاديث عائشة وحفصة وغيرهما حجة لهم قالوا عطف صلوة العصر على صلوة الوسطى دليل على المغائرة قلنا بل هو عطف تفسيرى - وروى البغوي في تفسيره حديث عائشة بلفظ حافظوا على الصّلوت والصلاة الوسطى صلوة العصر - بغير الواو واللّه اعلم وقال اقبيصة ابن ذويب هى صلوة المغرب لانها وسط ليست بأقلها يعنى ثنائيا ولا باكثرها يعنى رباعيا ولم ينقل عن أحد من السلف انها صلوة العشاء وذكر بعض المتأخرين انها صلوة العشاء لانها بين صلوتين لا تقصران - وقال بعضهم هى احدى الصلوات الخمس لا بعينها ابهمها اللّه تحريضا للعباد على المحافظة على أداء جميعها كما أخفى ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الأعظم والظاهر من كلام الأكثر ان تخصيص صلوة الوسطى بعد التعميم لمزية لها على غيرها من الصلوات - وعندى ليس كذلك بل زيادة التأكيد والاهتمام فيها لاجل ان وقت صلوة العصر وقت المشاغل بالسوق فروعى فيها زيادة التأكيد والاهتمام كيلا يفوت تلك الصلاة أو يتادى على وجه الكراهة بلا جماعة أو في وقت مكروه فعلى هذا اىّ صلوة(1/626)
من الصلوات يكون فيها مانع عن إتيانها على وجه السنة لا بد فيها زيادة التعاهد والاهتمام كصلوة الصبح والعشاء في الشتاء والظهر في الصيف والعصر لاهل السوق ان كان رواج سوقهم فى ذلك الوقت والمغرب لاهل المواشي ونحو ذلك واللّه اعلم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 337
وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) المراد بالقنوت السكوت عن كلام الناس لحديث زيد بن أرقم قال كنا نتكلم خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة ويكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت وقوموا للّه قنتين فامرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام رواه الائمة الخمسة وغيرهم واخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا يتكلمون في الصلاة وكان الرجل يأمر أخاه بالحاجة فانزل اللّه تعالى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وقال مجاهد المراد بالقنوت الخشوع قال ومن القنوت طول الركوع وغض البصر والركود وحفض الجناح كان العلماء إذا قام أحدهم يصلى يهاب الرحمن ان يلتفت أو يقلب الحصا أو يعبث بشىء أى السكون منه 27 أو يحدث نفسه بشىء من امر الدنيا الا ناسيا وقيل المراد بالقنوت طول القيام لما رواه الترمذي عن جابر قال قيل للنبى صلى اللّه عليه وسلم اىّ الصلاة أفضل قال طول القنوت وهذا القول ضعيف لان الأصل في الأمر الوجوب وطول القيام ليس بواجب وقال اصحاب الشافعي المراد بالقنوت دعاء القنوت لما روى عن ابن عباس قال قنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شهرا متتابعا يدعوا على احياء من سليم ورعل وذكوان وعصية وهذا القول ضعيف أيضا فان سياق الآية يدل على عموم القنوت في الصلوات كلها لا يختص بشهر دون شهر ولا بصلوة دون صلوة - وقد صح ان قنوت الفجر بدعة عن أبى مالك الأشجعي قال قلت لابى يا أبت قد صليت خلف النبي صلّى اللّه عليه وسلم وخلف أبى بكر وخلف عمر وعثمان وعلىّ هاهنا بالكوفة قريبا من خمس سنين أ كانوا يقنتون فقال أى بنى بدعة رواه احمد - وفى لفظ صليت(1/627)
خلف النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلم يقنت وصليت خلف أبى بكر فلم يقنت وصليت خلف عمر فلم يقنت و
صليت خلف عثمان فلم يقنت وصليت خلف على فلم يقنت ثم قال أى بنى بدعة واسم أبى مالك سعد بن طارق بن الأسلم قال البخاري طارق بن الأسلم له صحبة واسناد هذا الحديث صحيح وفي نفى قنوت الفجر تسعة أحاديث - وما رووه في قنوت الفجر اما ضعيف واما محمول على قنوت النوازل والكلام طويل لا يسعه المقام - وقال الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاءوس القنوت الطاعة قال اللّه تعالى امّة قانتا أى مطيعا قال الكلبي ومقاتل لكل أهل دين صلوة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم فى صلاتكم قانتين أى مطيعين - وقيل معناه مصلين كقوله تعالى أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ أى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 338
مصل - وقيل القنوت الذكر أى ذاكرين له تعالى في القيام - والأظهر هو المعنى الأول فان حديث زيد بن أرقم اصرح في المراد وأصح بخلاف غير ذلك فانها احتمالات لا يصادم المسموع.(1/628)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً رجالا جمع راجل مثل صاحب وصحاب وقائم وقيام ونائم ونيام وركبان جمع راكب واستدل الشافعي واحمد بهذه الآية على جواز الصلاة حال المسابقة واحتج ابن الجوزي بما رواه البخاري عن نافع ان ابن عمر كان إذا سئل عن صلوة الخوف وصفها ثم قال وان كان الخوف أشد من ذلك صلوا رجالا وقياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلى القبلة أو غير مستقبليها قال نافع لا ارى ابن عمر ذكر ذلك الا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أبو حنيفة لا يجوز الصلاة حال المشي والمسابقة وليس في الآية دليل على جواز الصلاة حال المسابقة فانه ليس معنى الراجل الماشي بل الراجل القائم على الرجلين وكذا في الحديث رجالا وقياما عطف تفسيرى لا يدل على جواز الصلاة ماشيا على ان كونه مرفوعا زعم من نافع ليس في صريح الرفع - فان قيل قد جوز في صلوة الخوف الذهاب والمجيء اجماعا كما سنذكر في سورة النساء ان شاء اللّه تعالى فليجز الصلاة حالة المشيء أيضا - قلنا ما ثبت شرعا مما لا مدخل للرأى فيها لا يتعداه على ان المشي في أثناء الصلاة كالمشى لاجل الوضوء للذى أحدث في الصلاة أهون من الصلاة ماشيا فلا يلحق الا على بالأدنى (مسئلة) بناء على هذه الآية اجمعوا على انه ان اشتد الخوف صلوا ركبانا يؤمون بالركوع والسجود إلى أى جهة كان إذا لم يقدروا على التوجه إلى القبلة لكن قال أبو حنيفة لا يجوز الافرادى وعن محمد انهم يصلون بجماعة قال في الهداية وليس بصحيح لانعدام الاتحاد في المكان (مسئلة) لا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند الائمة الاربعة والجمهور وروى مسلم عن مجاهد عن ابن عباس قال فرض اللّه تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد وقتادة وسنذكر مسائل صلوة الخوف في سورة النساء ان شاء اللّه تعالى فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم(1/629)
فَاذْكُرُوا اللَّهَ صلوا الصلاة تامة بشرائطها وأركانها وآدابها كَما ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ على لسان نبيه صلّى اللّه عليه وسلم وما مصدرية أو موصولة ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) مفعول ثان لعلّم - .
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 339
وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ يا معشر الرجال وَيَذَرُونَ يتركون أَزْواجاً أى زوجات وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص وصيّة بالنصب على معنى فليوصوا وصية وقرا الباقون بالرفع أى كتب عليكم وصية ويؤيده قراءة كتب عليكم وصيّة لازواجكم أو المعنى حكمهم وصية مَتاعاً نصب على المصدر أى متعوهن متاعا أو هو مفعول لمضمر أى ليوصوا متاعا - أو لوصية أى ليوصوا وصية متاعا يعنى ما يتمتعن به من النفقة والكسوة من موتهم إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه أو مصدر مؤكد كقولك هذا القول غير ما تقول أو حال من أزواجهم أى غير مخرجات أو منصوب بنزع الخافض أى من غير إخراج - والمعنى انه يجب على المحتضرين ان يوصوا لازواجهم بان يتمتعن من أموالهم بالنفقة والكسوة إلى تمام الحول فكان ذلك الوصية للزوجات واجبا على الأزواج بهذه الآية كما كانت الوصية للوالدين والأقربين واجبا بقوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ثم نسخ هذا الحكم كما نسخ ذلك والناسخ لهذا ما هو ناسخ لذلك اعنى اية الميراث وقوله صلّى اللّه عليه وسلم لا وصية لوارث أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس انه سقطت النفقة بتوريثها الربع والثمن - وما ذكرنا من البحث والتحقيق في تفسير قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية جار هاهنا أيضا فلم نعده - وكانت النساء يحدون في الجاهلية وكذا في بدء الإسلام بعد الوفاة حولا كاملا كما يدل عليه قوله صلّى اللّه عليه وسلم(1/630)
في حديث أم سلمة قد كانت إحداكن ترمى بالبعرة على رأس الحول متفق عليه قيل ثم نسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فذلك الآية وان كانت مقدما على هذه الآية في التلاوة لكنها متاخرة عنها في النزول - أخرج الشيخان عن عثمان بن عفان انه نسخت المدة بقوله تعالى أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً - قال البغوي نزلت الآية في رجل من الطائف يقال له حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة وله أولاد ومعه أبواه وامرأته ومات فانزل اللّه تعالى هذه الآية فاعطى النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم والديه وأولاده من ميراثه ولم يعط امرأته شيئا وأمرهم ان ينفقوا عليها من تركة زوجها حولا وكذا أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره عن مقاتل بن حبان ان رجلا من أهل الطائف قدم المدينة الحديث قلت لكن سياق الآية ينافى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 340(1/631)
هذا الحديث لان الآية تقتضى وجوب الوصية والحديث يقتضى وجوب نفقتها من تركة زوجها من غير وصية ولعله مات بعد نزول الآية واوصى بالإنفاق حولا على حسب تلك الآية فعمل النبي صلى اللّه عليه وسلم كذلك - وأيضا هذا الحديث يقتضى نزول هذه الآية بعد قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ وقبل قوله تعالى وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ الآية واللّه اعلم فَإِنْ خَرَجْنَ يعنى الأزواج قبل الحول من غير إخراج الورثة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الائمة فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ من ترك الحداد والتزيين والتزويج مِنْ مَعْرُوفٍ مما لم ينكره الشرع فليس عليكم منعهن قال البغوي الخطاب إلى اولياء الميت ولدفع الجناح وجهان أحدهما ما ذكرت وثانيهما لا جناح عليكم في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول قلت هذا التأويل لا يصاعده عبارة النص لأنه لو كان كذلك كان ينبغى ان يقال فيما فعلتم يعنى من ترك النفقة ولم يتبع فيما فعلن واللّه اعلم - وهذه الآية تدل على ان الاعتداد والإحداد إلى تمام الحول لم يكن واجبا عليهن وانما يفعلن ذلك على رسم الجاهلية تأسفا على فراق الميت - فاوجب اللّه تعالى الوصية لهن بالنفقات على سبيل المروة ماد من يتاسفن على فراقه ولم يخرجن من منزله فما انزل اللّه تعالى في عدة الوفاة اربعة أشهر وعشرا حكم جديد ليس بناسخ لحكم اخر سابق عليه واللّه اعلم وَاللَّهُ عَزِيزٌ ينتقم من خالف حكمه حَكِيمٌ (240) يحكم على حسب المروة ورعاية المصالح.(1/632)
وَ يجب لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ يعنى على الموسع قدره وعلى المقتر قدره حق ذلك حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) عن الشرك - قيل المراد بمتاع في هذه الآية نفقة ايام العدة كما هو المراد فيما سبق من قوله تعالى وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ - بجامع ان المرأة في كلا الصورتين الموت والطلاق محبوسة لحقوق الزوج فيجب الانفاق في ماله وهذا الحكم وهو وجوب الانفاق في عدة الطلاق مجمع عليه ان كان الطلاق رجعيا - واما إذا كان الطلاق بائنا فكذلك الحكم عند أبى حنيفة رحمه اللّه تعالى لعموم اللفظ في هذه الآية ولقوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ - فانه في قراءة ابن مسعود بلفظ اسكنوهنّ من حيث سكنتم وأنفقوا عليهنّ من وجدكم ولحديث جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 341(1/633)
قال المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة رواه الدارقطني فان قيل قال ابن الجوزي فيه الحرث بن أبى العالية قال يحيى بن معين هو ضعيف قلنا قال الذهبي حرث بن أبى العالية أبو معاذ شيخ لعبد اللّه القواريري ضعف بلا حجة ولجامع معنى الاحتباس لحقوق الزوج وهو ظهور براءة الرحم أو المروة في معاملة الإحداد والتأسف على فراقه ولم ينسخ الانفاق على المتوفى عنها زوجها بالكلية بل وجب لها الميراث عوضا عن الانفاق فكانه لم ينسخ - وقال مالك والشافعي لا يجب لها النفقة لكن يجب لها السكنى وهو رواية عن احمد - وعند احمد لا سكنى لها ولا نفقة احتجوا بحديث فاطمة بنت قيس ان أبا عمر وبن حفص طلقها البتة وهو غائب فارسل إليها وكيله الشعير فسخطته فقال واللّه مالك علينا من شىء فجاءت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ليس لك نفقة فامرها ان تعتد في بيت أم شريك ثم قال تلك امراة يغشاها أصحابي اعتدى عند ابن أم مكتوم رواه مسلم وفي رواية ان زوجها طلقها ثلاثا فاتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال لا نفقة لك الا ان تكونى حاملا وروى احمد عن ابن عباس قال حدثتنى فاطمة بنت قيس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة وفي سند هذا الحديث حجاج بن ارطاة - وروى احمد عنها انها قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انما النفقة والسكنى للمرءة ما كانت له عليها رجعة فإذا لم تكن عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى فبهذا الحديث قال احمد لا سكنى لها - واما الشافعي ومن معه فاوجبوا السكنى بقوله تعالى « 1 » أَسْكِنُوهُنَّ فكانهم تركوا العمل بهذا الحديث من وجه ولنا في الجواب ان حديث فاطمة بنت قيس مخالف للكتاب فهو متروك وقد ترك العمل به عمر بن الخطاب بمحضر من الصحابة روى الترمذي بسنده عن مغيرة عن الشعبي قال قالت فاطمة بنت قيس طلقنى زوجى ثلاثا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه(1/634)
صلى اللّه عليه وسلم لا سكنى لك ولا نفقة قال مغيرة فذكرته لابراهيم فقال قال عمر لا ندع كتاب اللّه وسنة تبينا صلى اللّه عليه وسلم بقول امراة لا ندرى احفظت أم نسيت وكان عمر يجعل لها السكنى قال ابن الجوزي ان ابراهيم لم يدرك عمر وقد رواه جماعة ان عمر قال لا نذر كتاب اللّه ولم يقل سنة نبيه وهو أصح ثم لا يقبل قول الصحابي إذا صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ضده - قلنا ان لم يدرك ابراهيم عمر فهو مرسل والمرسل عندنا
_________
(1) فى الأصل وأسكنوهن
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 342(1/635)
حجة - وإذا ثبت قول عمر سنة نبينا فهو رواية رقعه - ولو سلمنا فما اعترف به ابن الجوزي من صحة قول عمر لا تذر كتاب اللّه يكفينا للمدعى فان قول عمر هذا يدل على صحة قراءة ابن مسعود أنفقوا عليهنّ « 1 » من وجدكم فثبت به المدعى - وقيل في تأويل الآية المراد بمتاع بالمعروف هو المتعة غير النفقة وهى ثلاثة أثواب كما في المطلقة غير الممسوسة - وعلى هذا التأويل اللام في للمطلقات للعهد الخارجي عند أبى حنيفة رحمه اللّه يدل عليه ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال لما نزلت ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقّا على المحسنين قال رجل ان أحسنت فعلت وان لم ار ذلك لم افعل فانزل اللّه وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ - فعلى هذا انما يثبت المتعة الا للمطلقة قبل المسيس وبه قال أبو حنيفة رحمه اللّه فان قيل لو كان التأويل هكذا فما وجه قول أبى حنيفة بان المتعة يستحب إعطاؤها للمطلقة بعد المسيس فرض المهر اولا - قلنا استحباب المتعة للمطلقة بعد المسيس لا يثبت بهذه الآية بل بقوله تعالى في سورة الأحزاب فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا واللّه اعلم - وقال الشافعي اللام للاستغراق ومن ثم يجب المتعة عنده لكل مطلقة الا التي طلقت قبل المسيس بعد فرض المهر - قلت لو كان التأويل هكذا فلا وجه لاستثناء المطلقة التي طلقت قبل المسيس الا ان يقال وجهه الاستثناء ان يقال ان المتعة في هذه الصورة هو نصف المهر كما ذكرنا من قبل وحينئذ نقول ان ما ذكر الشافعي من التأويل هو أحد الاحتمالات المذكورة كما سمعت فوقع الشك فى وجوب المتعة لكل مطلقة ولا يثبت الوجوب بالشك فقلنا بالاستحباب عملا على أحد الاحتمالات واللّه اعلم.(1/636)
كَذلِكَ اشارة إلى ما سبق من احكام الطلاق والعدة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وعد بانه سيبين لعباده من الدلائل والاحكام ما يحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أى تفهمون وتستعملون العقل فيها - .
أَ لَمْ تَرَ تعجيب وتشويق لاستماع ما بعده فصار مثلا في التعجيب ويخاطب به من لم ير ولم يسمع قبل - أو هو تقرير لمن سمع قصتهم من أهل الكتاب وارباب التواريخ أو المعنى الم تعلم باعلامى إياك وفيه أيضا تعجيب وهكذا التأويل في كل ما ورد في القرآن لفظ الم تر ولم يره النبي صلى اللّه عليه وسلم إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ قال عطاء
_________
(1) فى الأصل هاهنا اتفقوا هن من وجد كم - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 343(1/637)
الخراسانى ثلاثة آلاف وقال وهب اربعة آلاف كذا أخرجه الحاكم وصححه من ابن عباس وقيل ثمانية آلاف وقال السدىّ بضعة وثلاثين الفا وقال ابن جريح أربعين الفا - واخرج ابن جرير من طريق منقطع عن ابن عباس أربعون الفا وثمانية آلاف وقال عطاء « 1 » بن رباح سبعين الفا - وقيل المراد به وهم مؤتلفة قلوبهم من الالفة حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له قال البغوي ان أهل داوردان قرية قبل واسط وقع بها طاعون فخرجت طائفة منها وبقيت طائفة فهلك اكثر من بقي في القرية وسلم الذين خرجوا - فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين فقال الذين بقوا أصحابنا كانوا احزم منالو صنعنا كما صنعوا لبقينا ولئن وقع الطاعون ثانيا لنخرجن إلى ارض لا وباء بها فوقع الطاعون من قابل فهرب عامة أهلها وخرجوا حتى نزلوا واديا افيح فلما نزلوا المكان الذي يبتغون فيها النجاة ناداهم ملك من أسفل الوادي واخر من أعلاه ان موتوا فماتوا جميعا كذا أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس وروى احمد والبخاري ومسلم والنسائي عن اسامة بن زيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا سمعتم بالطاعون في ارض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها وأنتم فرار منه وروى البغوي بسنده ان عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه خرج إلى الشام فلما جاء سرغ بلغه ان الوباء قد بلغ بالشام فاخبره عبد الرحمن بن عوف ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا سمعتم بأرض الحديث فرجع عمر من سرغ وقال الكلبي ومقاتل والضحاك انما فروا من الجهاد وذلك ان ملكا من ملوك بنى إسرائيل أمرهم ان يخرجوا إلى قتال عدوهم فعسكروا ثم جبنوا وكرهوا الموت واعتلوا وقالوا لملكهم ان الأرض التي تأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منه الوباء فارسل اللّه عليهم الموت فخرجوا من ديارهم فرارا من الموت فلما راى الملك ذلك قال اللهم رب يعقوب واللّه موسى قد ترى معصية عبادك فارهم اية من أنفسهم حتى يعلموا انهم لا(1/638)
يستطيعون الفرار منك فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ عقوبة لهم مُوتُوا امر تحويل فماتوا جميعا وماتت دوابهم كموت رجل واحد فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم فحظروا عليهم حظيرة دون السباع وتركهم فيها فاتت على ذلك مدة قيل ثمانية ايام وقيل حتى بليت أجسادهم وعريت عظامهم ثُمَّ أَحْياهُمْ اللّه تعالى عطف على محذوف يدل عليه قوله موتوا يعنى فماتوا أخرج ابن جرير من طريق السدىّ عن أبى مالك انه مر حزقيل عليه السلام على أهل داوردان
_________
(1) عطاء بن أبى رباح - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 344(1/639)
و قد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم فتعجب من ذلك - فاوحى اللّه إليه ناد فيهم ان قوموا بإذن اللّه فنادى فقاموا وحزقيل بن يوزى كان ثالث خلفاء بنى إسرائيل بعد موسى عليه السلام قال الحسن ومقاتل هو ذو الكفل سمى به لأنه تكفل بسبعين نبيا وأنجاهم من القتل وقال مقاتل والكلبي هم كانوا قوم حزقيل « 1 » فلما أصابهم ذلك خرج حزقيل في طلبهم فوجدهم موتى فبكى وقال يا رب كنت في قوم يحمدونك ويسبحونك ويقدسونك ويكبرونك ويهللونك فبقيت وحيد الا قوم لى فاوحى اللّه إليه انى جعلت حياتهم إليك فقال أحيوا بإذن اللّه فعاشوا - قال مجاهد انهم قالوا حين أحيوا سبحانك « 2 » ربنا ونحمدك لآله الّا أنت - فرجعوا إلى قومهم وعاشوا دهرا؟؟ الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد وسما مثل الكفن حتى ماتوا لاجالهم التي كتبت لهم - قال ابن عباس فانها ليوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح قال قتادة مقتهم اللّه على فرارهم من الموت فاماتهم عقوبة ثم بعثهم ليستوفوا اجالهم ولو جاءت اجالهم ما بعثوا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحياهم ليعتبروا ويفوزوا وقص عليكم حالهم لتستبصروا - والمراد به فضل اللّه على الناس كافة يعنى في الدنيا بقرينة قوله تعالى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يعنى الكفار لا يَشْكُرُونَ (243) ذكر اللّه تعالى هذه القصة حثا للمؤمنين على التوكل والاستسلام للقضاء وتشجيعا على الجهاد فكانه تمهيد لقوله تعالى.(1/640)
وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إذ الفرار عن الموت لا يفيد والمقدر واقع لا محالة فالاولى القتال في سبيل اللّه إذ لو جاء أجلهم ففى سبيل اللّه والا فالنصر والثواب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف والسابق عَلِيمٌ (244) بما يضمر انه واللّه اعلم روى البخاري في صحيحه وابن أبى حاتم وابن مردوية عن ابن عمر انه قال لما نزلت قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ الآية - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رب زدامتى فانزل اللّه تعالى.
مَنْ ذَا الَّذِي من استفهامية مرفوعة
_________
(1) عن اشعث بن اسلم البصري قال بينما عمر يصلى ويهوديان خلفه قال أحدهما لصاحبه هو هو قالا انا نجده فى كتابنا قرنا من حديد يعطى ما يعطى حزقيل الذي أحيا الموتى بإذن اللّه - فقال عمر ما نجد في كتاب اللّه حزقيل ولا أحيا الموتى بإذن اللّه الا عيسى قالا اما تجد في كتاب اللّه رسلا لم نقصصهم فقال عمر بلى قالا اما احياء الموتى فنحدثك ان بنى إسرائيل وقع عليهم الوباء فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على ميل أماتهم اللّه فبنوا عليهم حائطا حتى إذا بليت عظامهم بعث اللّه حزقيل فقام عليهم فقال ما شاء اللّه فبعثهم اللّه فانزل اللّه في ذلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ - منه رحمه اللّه
(2) فى الأصل سبحان ربنا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 345(1/641)
المحل بالابتداء وذا خبره والذي صفة ذا أو بدله يُقْرِضُ اللَّهَ القرض في اللغة القطع سمى به ما يعطى من ماله شيئا لاخر ليرجع إليه مثله لان فيه قطع من ماله - والمراد هاهنا بالقرض اما حقيقته فيكون فى الكلام تجوز بتقدير المضاف أى يقرض عباد اللّه كما جاء في الحديث عن أبى هريرة مرفوعا ان اللّه يقول يوم القيامة يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمنى قال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين قال استطعمك عبدى فلان فلم تطعمه اما علمت انك لو أطعمته لوجدتّ ذلك عندى الحديث رواه مسلم وفي فضيلة القرض أحاديث منها حديث ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال كل قرض صدقة رواه الطبراني بسند حسن - والبيهقي وعنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما من مسلم يقرض مسلما قرضا مرة الا كان كصدقته مرتين رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان وأخرجه البيهقي مرفوعا وموقوفا - واما مجازه وهو تقديم عمل صالح يطلب به ثوابه ويدل عليه ما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول قَرْضاً حَسَناً منصوب على المفعولية أى مقرضا حلالا طيبا - أو على المصدرية أى قرضا مقرونا بالإخلاص وطيب النفس واخرج ابن أبى حاتم عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه انه قال القرض الحسن المجاهدة والانفاق في سبيل اللّه فَيُضاعِفَهُ لَهُ يعنى يضاعف اللّه جزاءه قرأ ابن كثير وأبو جعفر وابن عامر ويعقوب فيضعّفه وبابه بالتشديد حيث وقع ووافقهم أبو عمرو في سورة الأحزاب - والتشديد للتكثير وقرا الباقون بالألف على المفاعلة للمبالغة - وقرا ابن عامر وعاصم ويعقوب بالنصب وكذلك في سورة الحديد على جواب الاستفهام بإضمار أن والباقون بالرفع عطفا على يقرض - فههنا اربع قراءات قرأ ابن كثير وأبو جعفر فيضعّفه بالرفع وابن عامر ويعقوب بالنصب وعاصم فيضعفه بالنصب والباقون بالرفع أَضْعافاً جمع ضعف ونصبه على الحال من الضمير المنصوب أو على المفعول الثاني لتضمن المضاعفة(1/642)
معنى التصيير أو على المصدر على ان الضعف اسم المصدر وجمعه للتنويع كَثِيرَةً قال السدىّ هذا التضعيف لا يعلمه الا اللّه وقيل الواحد بسبع مائة والاول أصح لما ذكرنا من حديث البخاري في سبب النزول وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ قرأ أبو عمرو وقنبل وحفص وهشام وحمزة بخلاف عن خلاد ويبسط هاهنا وبسطة في الأعراف بالسين والباقون بالصاد - أى يقبض الرزق لمن يشاء ويبصط لمن يشاء فلا تبخلوا في التصدق كيلا يبدل حالكم عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 346(1/643)
ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان من السماء فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر اللهم أعط ممسكا تلفا متفق عليه وقيل هذا في القلوب لما أمرهم اللّه بالصدقة أخبرهم بانهم لا يمكنهم ذلك الا بتوفيقه يعنى يقبض بعض القلوب فلا ينشط للخير ويبسط بعضها فيقدم لنفسه خيرا عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثديهما وتراقيهما فجعل المتصدق كلما تصدق بصدقة انبسطت عنه وجعل البخيل كلما هم بصدقة قلصت وأخذت كل حلقة بمكانها متفق عليه وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء وقيل يقبض الصدقات ويبسط في الجزاء والثواب عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب (و لا يقبل اللّه الا الطيب فان اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل متفق عليه وقيل اللّه يقبض الأرواح والأنفس حين موتها والتّي لم تمت في منامها فيمسك الّتى قضى عليها الموت ويبسط « 1 » الاخرى إلى أجل مسمّى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) بعد الموت فيجازيكم على ما قدمتم من أعمالكم - قال قتادة الهاء راجعة إلى التراب كناية عن غير مذكور أى إلى التراب ترجعون - .(1/644)
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ هى الجماعة من وجوه الناس واشرافهم يجتمعون للتشاور لا واحد له من لفظه كالقوم وجمعه إملاء مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ موت مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال قتادة هو يوشع بن نون وقال السدى شمعون والأكثر انه اشموئيل قال وهب وابن أبى إسحاق والكلبي وغيرهم انه لما مات موسى خلف في بنى إسرائيل يوشع فمات فخلف فيهم كالب فمات فخلف حزقيل فلما مات وعظمت فى بنى إسرائيل الأحداث ونسوا عهد اللّه حتى عبدوا الأوثان بعث اللّه تعالى الياس بتجديد ما نسوا من التورية ثم خلقه اليسع فمات وخلفت فيهم خلوف وعظمت الخطايا وظهر عليهم عدوهم العمالقة فوم جالوت ساكنوا ساحل البحر بين مصر وفلسطين غلبوا على ارضهم وسبوا ذراريهم وأسروا من أبناء ملوكهم اربعمائة وأربعين غلاما وضربوا عليهم الجزية
_________
(1) وفي القرآن ويرسل الاخرى [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 347(1/645)
و أخذوا توراتهم ولقى بنوا إسرائيل منهم شدة ولم يكن نبى يدبر أمرهم وكان سبط النبوة لم يبق منهم الا امراة حبلى فولدت غلاما فسمته اشموئيل فاسلمته لتعلم التورية في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما بلغ الغلام أتاه جبرئيل وهو نائم عند الشيخ فدعاه جبرئيل بلحن الشيخ يا اشموئيل فقام الغلام فزعا إلى الشيخ فقال يا أبتاه دعوتنى فكره الشيخ ان يقول لا فيفزع الغلام فقال يا بنى ارجع فنم فنام ثم دعاه الثانية فقال الغلام دعوتنى قال ان دعوتك ثالثا فلا تجبنى فلما كانت الثالثة ظهر له جبرئيل وقال اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فان اللّه قد بعثك نبيا فكذبوه وقالوا ان كنت صادقا ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جزم على جواب الأمر وكان قوام أمرهم بالملوك وهم كانوا يطيعون الأنبياء قالَ لهم اشموئيل هَلْ عَسَيْتُمْ قرأ نافع هاهنا وفي سورة القتال عسيتم بكسر السين في كل القرآن والباقون بالفتح ادخل هل على فعل التوقع مستفهما عما هو متوقع عنده تقريرا وتثبيتا إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ شرط وقع بين الجملة الجزائية أَلَّا تُقاتِلُوا خبر عسى والمعنى ان كتب عليكم القتال أتوقع ان لا تقاتلوا مع ذلك الملك قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال الأخفش ان هاهنا زائدة ومعناه ومالنا لا تقاتل وقال الكسائي معناه ما يمنعنا ان نقاتل والصحيح ان مالك لا تفعل ومالك ان لا تفعل لغتان صحيحتان وَقَدْ أُخْرِجْنا يعنى قد أخرج من اسرمنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر كما سيجيئ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وعيد على ترك الجهاد فسال اشموئيل ربه ان يبعث لهم ملكا فاتى بعصا وقرن فيه دهن القدس فمن كان طوله طول هذا العصا و؟؟ نش الدّهن الذي في القرن إذا دخل فدهّن به رأسه(1/646)
و ملّكه على بنى إسرائيل فبينا طالوت إذا ضل حمره وخرج في طلبه وكان دبّاغا أو سقاء دخل بيت اشموئيل ليسئله عن الحمر إذ نش الدهن فقام اشموئيل فقاس طالوت بالعصا فكان على طولها فدهّن رأسه وملّكه.
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ولما كان من بنى إسرائيل سبط النبوة سبط لاوى بن يعقوب وسبط المملكة سبط يهودا وكان طالوت من سبط بنيامين وكان رجلا فقيرا قالُوا أَنَّى من اين يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 348
وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ(1/647)
فانّا من سبط المملكة والواو للحال وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ ونحن اغنياء قالَ نبيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ قال الكلبي كان اعلم الناس بالحرب وَالْجِسْمِ وكان طالوت أجمل في بنى إسرائيل وأطولهم يمد رجل يده حتى يبلغ رأسه - وقيل أتاه الوحى حين اوتى الملك - قلت ولمّا احسن اللّه الثناء على طالوت بالاصطفاء وبسطة العلم والظاهر ان المراد بالعلم علم الشرائع فان به يصلح امور الدين والدنيا ظهر ان ما يذكرون في قصة طالوت انه حسد داود عليه السلام في اخر الأمر وأراد قتله فهرب داود وطعن علماء بنى إسرائيل طالوت فقتل طالوت كل عالم منهم إلى اخر القصة باطل لا اصل له ولذا لم اذكره وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أى واسع الفضل يوسع على الفقير ويغنيه عَلِيمٌ (247) بمن يليق بالملك - رد اللّه تعالى استبعادهم ملكه اولا بان السبب الحقيقي للتملك إيتاء اللّه واصطفاؤه وذالا يتوقف على سبق قابلية من جهة النسب أو الحسب أو غير ذلك - وثانيا بان السبب الظاهري لصلاحية التملك وإصلاح امور الناس العلم والقدرة على العمل على وفق العلم بالقوة والجسامة فى البدن دون كثرة المال فان المال غاد ورايح لا عبرة لوجوده وفقده - وثالثا بانه لا يجوز الاستبعاد بعد ما قضى اللّه ورسوله فانه تعالى أعلم بالمصالح منكم.(1/648)
وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ لما طلبوا منه اية على اصطفائه إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فعلوت من التوب أى الرجوع فانه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه - قيل أريد به الصندوق كان من خشب الشمشاد مموها بالذهب نحوا من ثلاثة اذرع في ذراعين أخرجه ابن المنذر عن وهب ابن منبه فقيل ان اللّه تعالى انزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء فكان عند آدم ثم كان عند شيث وتوارثه الأنبياء حتى وصل إلى موسى فكان موسى يضع فيه التورية وشيئا من متاعه فإذا مات موسى تداولته أنبياء بنى إسرائيل - وقيل كان صندوقا للتورية فكانوا إذا حضر القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم فإذا سار التابوت ساروا وإذا وقف وقفوا فِيهِ أى في إتيانه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعنى تسكن به قلوبكم فلا تشكوا في ملك طالوت أو الضمير راجع إلى التابوت يعنى مودع فيه ما تسكتون إليه وهو التورية - أو المعنى ان فيه خاصية ان تسكن قلوبكم بحضوره أخرج ابن إسحاق فسير المظهري ، ج 1 ، ص : 349(1/649)
و ابن جرير عن وهب بن منبه انه كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بنى إسرائيل ولا يفرون قلت ولا شك ان يذكر اللّه تعالى وروية اثار الصالحين من الأنبياء واتباعهم تطمئن القلوب وتذهب عنها وساوس الشيطان - واخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس ان السكينة هى صورة كانت في التابوت من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبه وله جناحان فتانّ فيزف التابوت نحو العدو وهم يتبعونه وإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر كذا ذكر البغوي عن مجاهد - وعن على عليه السلام انه ريح خجوج هفافة لها رأسان ووجهه كوجه الإنسان واخرج الطبراني عن على عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال السكينة ريح خجوج واللّه اعلم وعن ابن عباس هى طشت من ذهب من الجنة كان يغسل فيه قلوب الأنبياء وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعنى أنفسهما ولفظ الال مقحم لتفخيم شأنهما أو المراد من ال هما أنبياء بنى إسرائيل لانهم أبناء عمهما - قيل كان فيه لوحان من التورية ورصاص الألواح التي تكسرت وعصاء موسى ونعلاه وعمامة هارون وعصاه وقفيز من « 1 » المنّ الذي كان ينزل على بنى إسرائيل وكان ذلك التابوت قد فقده بنوا إسرائيل حين عصوا اللّه وأحدثوا في القربان وخبثوا في القدس فقيل رفعه اللّه إلى السماء وقيل غلب عليه العدو وذلك انه كان مشوطا لقربان الذي كانوا يشوطونه به كلابين فماجاءه كان للكاهن الذي يشوطه فلما صار عيلى الذي ربّى اشموئيل صاحب قربانهم جعل ابناه كلاليب - وكان النساء يصلين في القدس فكانا يتشبثان بهن - فقال اللّه تعالى لعيلى على لسان اشموئيل منعك حب الولد من ان تزجر ابنيك ان يحدثا في قرباتى وقدسى لانزعن منك الكهانة ومن ولدك ولاهلكنّكم فسار إليهم عدو فخرج ابناؤه واخرج معهما التابوت فقتلا وذهب العدو بالتابوت فلما سمع عيلى شهق فمات - فلما بعث اللّه طالوت ملكا انزل(1/650)
اللّه التابوت من السماء تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ هذا على القول الأول - واما على قول الثاني فلما ذهب العمالقة بالتابوت وضعوه في بيت الأصنام تحت صنم لهم أعظم فاصبح الصنم ملقى تحت التابوت وأصبحت الأصنام منكسرة فوضعوه في ناحية فهلك اكثر أهل الناحية فاخرجوه إلى قرية اخرى فبعث اللّه على أهل تلك القرية فادّا يبيت الرجل فيصبح وقد أكل الفارة ما في جوفه - فقالت امراة من سبى بنى إسرائيل لا تزالون ترون ما تكرهون مادام
_________
(1) فى الأصل وقفيز منّ الذي -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 350
هذا التابوت فيكم فاخرجوه عنكم فاتوا بعجله وحملوه عليه ثم علقوها على ثورين وضربوا جنوبهما فوكل اللّه اربعة من الملائكة يسوقونها فجاءوا به إلى بنى إسرائيل - وقيل كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع بن نون فبقى هناك إلى زمن طالوت فجاءت به تحمله الملائكة حتى وضعته فى دار طالوت إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) يحتمل ان يكون تمام كلام النبي اشموئيل ويحتمل ان يكون ابتداء خطاب من اللّه تعالى - قال ابن عباس ان تابوت وعصاء موسى في البحيرة الطبرية وانهما يخرجان قبل يوم القيامة - .(1/651)
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ أى خرج والفصل في الأصل القطع وهو فعل متعد يعنى فصل نفسه عن بلده فلما كثر استعماله حذف مفعوله فصار كاللازم بمعنى انفصل عن بلده شاخصا إلى العدو بِالْجُنُودِ هو في موضع الحال من فاعل فصل أى مختلطا بالجنود وذلك انهم لما راوا التابوت واستيقنوا النصر تسارعوا إلى الجهاد كلهم فقال طالوت لا يخرج معى إلا شاب نشيط فارغ فخرج على هذا سبعون الفا على قول مقاتل وقيل ثمانون الفا وكانوا فى حر شديد فسالوا ان يجرى اللّه لهم نهرا قالَ طالوت اما بوحي اللّه ان كان نبيا واما بإرشاد نبيهم إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ قال ابن عباس والسدىّ هو نهر فلسطين وقال قتادة نهر بين الأردن وفلسطين - والابتلاء الاختبار - يعنى يعاملكم معاملة المختبر ليظهر المطيع من العاصي فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أى من اتباعى أو ليس بمتحد معى وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ أى لم يذقه من طعم لشىء إذا اذاقه ماكولا أو مشروبا فَإِنَّهُ مِنِّي قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بالإسكان إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله فمن شرب وانما قدمت الجملة الثانية للعناية بها والمعنى الرخصة في القليل دون الكثير - ولعل الحكمة في ذلك ان شرب الماء الكثير في شدة الحر والعطش يضربا لناس يهلك أو يضعف عن القتال - ويحتمل ان يكون ذلك التحريم عقابا لهم لما اقترحوا بجريان النهر - قرأ أهل الحجاز والبصرة غرفة بفتح الغين والباقون بالضم قال الكسائي بالضم ما يحصل في الكف من الماء عند الاغتراف وبالفتح الاغتراف فهو منصوب على المفعولية أو المصدرية على اختلاف القراءتين فَشَرِبُوا مِنْهُ أى كرعوا فيه إذ المعنى الحقيقي لمن الابتدائية ان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 351(1/652)
لا يكون بوسط واما الأول فعلى عموم المجاز بقرينة الاستثناء - أو المعنى افرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ منصوب على الاستثناء قال السدىّ كانوا اربعة آلاف والصحيح ما رواه البخاري عن البراء بن عازب قال كنا اصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم نتحدث ان عدة اصحاب يدر على عدة اصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه الا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة - ويروى ثلاثمائة وثلاثة عشر - فكان من اغترف غرفة قوى قلبه وذهب عطشه - ومن شرب وخالف امر اللّه تعالى جبنوا ولم يرووا واسودت شفاههم وبقوا على شط النهر فلم تجاوزوا النهر مع طالوت وقيل جاوزوا النهر كلهم والظاهر انهم لم يجاوزوا حيث قال اللّه تعالى فَلَمَّا جاوَزَهُ أى طالوت النهر هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أى أطاعوه في الشرب قالُوا يعنى من وراء النهر الذين جبنوا وبقوا عليه للذين جاوزوا اعتذارا للتخلف وتحذيرا لهم لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ لغلبة العطش والضعف أو لقلة العدد بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لكثرتهم وقوتهم قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أى يستيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ وتوقعوا ثوابه وهم الذين اكتفوا على الغرفة وجاوزوا النهر - ويحتمل ان يكون ضمير قالوا راجعا إلى الذين جاوزوا النهر والمعنى انه قال بعضهم لبعض اولا لا طاقة لنا ثم قال خلصهم كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ كم خبرية موضعها الرفع بالابتداء - أو استفهامية استفهام تقرير ومن زائدة - والفئة الفرقة من الناس من فاوتّ رأسه إذا شققته أو من فاء إذا رجع على وزن فعة أو فلة - وقيل هى جمع لا واحد له بمعنى الجماعة غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ بقضائه وإرادته وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) بالنّصر والاثابة - وقالت الصوفية بالمعية التي لا كيف لها - .(1/653)
وَ لَمَّا بَرَزُوا طالوت وجنوده لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أى تراء الفئتان والتقيا قالُوا يعنى طالوت ومن معه رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) هذا سنة الأنبياء والصالحين انهم إذا استصعبوا امرا التجئوا إلى اللّه تعالى بالدعاء.
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أى بنصره أو مصاحبين بنصره - وكان داود عليه السلام مع أبيه في ثلاث عشر ابنا له في جند طالوت وعبر معه النهر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 352(1/654)
و كان أصغر اخوته يرعى الغنم فاوحى اللّه تعالى إلى نبيهم انه يقتل جالوت وقد كلمه في الطريق ثلاثة أحجار وقالت انك بنا تقتل جالوت فحملها في مخلاته وأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا فقال ان لم ينصرنى اللّه لم يغن عنى هذا السلاح شيئا - فلزك داود كل ذلك وأخذ مخلاته ومضى نحو العدو وكان داود رجلا قصيرا مسقاما مصغارا فلما راه جالوت وكان رجلا من أشد الناس وأقواهم يهزم الجيوش وحده القى اللّه في قلبه من داود رعبا فقال أتيتني بالمقلاع والحجر كما يؤتى الكلب قال نعم أنت شر من الكلب فوضع داود الأحجار الثلاثة في مقلاعه وقال باسم اله ابراهيم وإسحاق ويعقوب ورمى به فاصاب دماغه وخرج من قفاه وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وزوجه طالوت ابنته وَآتاهُ يعنى داود اللَّهُ الْمُلْكَ بعد ما مات طالوت وقيل لم يجتمع بنو إسرائيل قبل داود على ملك وَالْحِكْمَةَ النبوة جمع اللّه تعالى له الامرين ولم يجتمعا قبل ذلك بل كان الملك في سبط والنبوة في سبط وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ أتاه اللّه الزبور وعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فكان لا يأكل الا من عمل يده عن المقدام بن معديكرب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما أكل أحد طعاما خيرا من ان يأكل من عمل؟؟؟ ان نبى اللّه داود كان يأكل من عمل يديه رواه البخاري وعلمه منطق الطير وكلام النمل وغيرها وأعطاه صوتا حسنا قيل كان إذا قرأ الزبور يدنو منه الوحوش حتى تؤخذ بأعناقها وتظله الطير ويركد الماء الجاري وتسكن الريح - قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لابى موسى الأشعري يا أبا موسى لقد أعطيت مزمارا من مزامير ال داود متفق عليه وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ قرأ نافع ويعقوب دفع اللّه بالألف وكسر الدال هاهنا وفي الحج وفيه مبالغة وقرا الباقون بفتح الدال وسكون الفاء بلا الف النَّاسَ بَعْضَهُمْ يعنى الكفار بدل بعض من الناس بِبَعْضٍ يعنى بالمؤمنين(1/655)
لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يعنى لغلب المشركون الأرض - فافسدوا فيها فخربوا البلاد وقتلوا العباد وظلموهم وهدمت صوامع وبيع « 1 » ومسجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا وصدوا الناس عن الايمان باللّه وعبادته كذا قال ابن عباس ومجاهد فيه دليل على ان العلة لافتراض الجهاد دفع الفساد كما سنذكر في قوله تعالى لا اكراه في الدّين وقال بعض المفسرين لو لا دفع بالمؤمنين والأبرار عن الكفار والفجار العذاب لهلكت الأرض بمن
_________
(1) وفي القرآن صوامع وبيع وصلوات ومسجد إلخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 353
فيها روى البغوي بسنده من طريق عبد اللّه بن احمد عن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء ثم قرأ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ الآية . وأيضا في الحديث ولو لا رجال ركع وصبيان رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ مبتدأ خبره ما بعده اشارة إلى ما ذكر من قصة ألوف وتمليك طالوت أو إتيان تابوت وانهزاما لجبائرة وقتل داود جالوت وايتائه الملك والحكمة وتعليمه ممّا يشاء آياتُ اللَّهِ دلائل على قدرته وعلى نبوتك نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ بالوجه المطابق للواقع الذي لا؟؟ فيه أهل الكتاب وإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) وتلك الآيات اعجاز لك شواهد على رسالتك حيث لم يكن بها علم لمن لم يقرا الكتاب أكد بأنّ وغيرها ردا لقول الكفار لست مرسلا - .(1/656)
تِلْكَ الرُّسُلُ اشارة إلى جماعة المرسلين التي علمت بقوله وانّك لمن المرسلين واللام للاستغراق والموصوف مع الصفة مبتدأ خبره فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الفضل هو زيادة أحد الشيئين على اخر في وصف مشترك بينهما وفي العرف والاصطلاح يختص ذلك بوصف الكمال وهو ما يقتضى مدحا في الدنيا وثوابا في الاخرة - فان كان أحدهما مختصا بوصف كمال والاخر بوصف كمال اخر فلكل واحد منهما فضل جزئى على الاخر في مطلق الكمال اعنى في استحقاق المدح والثواب والفضل الكلى لمن له زيادة الثواب ومزية القرب عند اللّه تعالى فالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام شركاء في درجة الرسالة أو النبوة وموجبات الاجر والثواب وفيما بينهم تفاضل عند اللّه تعالى بناء على كثرة الثواب ومزيد القرب لا يعلمه كما هو الا اللّه تعالى وقد يدرك بعض ذلك بتعليمه تعالى كقوله مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ قال أهل التفسير هو موسى عليه السلام لقوله تعالى وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ، وهذه الآية لا يقتضى تخصيصه عليه السلام بذلك الفضيلة فقيل انه موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلم اللّه موسى على الطور ومحمدا ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو ادنى فاوحى إلى عبده ما اوحى وشتان ما بينهما وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ على بعضهم أو على كلهم - اما رفع درجات
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 354(1/657)
بعضهم على بعضهم ففى كثير من الأنبياء والرسل حيث فضل الرسل على الأنبياء واولى العزم من الرسل على غيرهم ونحو ذلك واما رفع درجات بعضهم على كلهم فذلك مختص بنبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ثابت ذلك بوحي غير متلو وانعقد عليه الإجماع عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد ولا فخر وما من بنى آدم فمن سواه الا تحت لواثى وانا أول من تنشق الأرض ولا فخر وانا أول شافع وأول مشفع ولا فخر رواه احمد والترمذي وابن ماجة وعن ابن عباس قال جلس ناس من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون قال بعضهم ان اللّه اتخذ ابراهيم خليلا وقال اخر موسى كلمه اللّه تكليما وقال اخر عيسى كلمة اللّه وروحه وقال اخر آدم اصطفاه اللّه فخرج عليهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال قد سمعت كلامكم وعجبكم ان ابراهيم خليل اللّه وهو كذلك وموسى نجى اللّه وهو كذلك وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك وآدم اصطفاه اللّه وهو كذلك الا وانا حبيب اللّه ولا فخر وانا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم فمن دونه ولا فخر وانا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر وانا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنى ومعى فقراء المؤمنين ولا فخروانا أكرم الأولين والآخرين على اللّه ولا فخر رواه الترمذي والدارمي وعن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انا قائد المرسلين ولا فخر وانا خاتم النبيّين ولا فخر وانا أول شافع ومشفع ولا فخر رواه الدارمي - وعن أبيّ بن كعب قال النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة كنت امام النبيّين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر رواه الترمذي - وعن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انا أول من ينشق عنه الأرض فاكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين(1/658)
العرش ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيرى رواه الترمذي - وعنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال سلوا اللّه الوسيلة قالوا يا رسول اللّه ما الوسيلة قال أعلى درجة الجنة لا ينالها الا رجل واحد أرجو أن أكون انا هو رواه الترمذي وهذه الأحاديث وان كانت من الآحاد لكنها متواترة من حيث المعنى وتلقته الامة بالقبول - قال الامام محى السنة البغوي رضى اللّه عنه ما اوتى نبى اية الا اوتى نبينا صلى اللّه عليه وسلم مثل تلك الآية وفضل على غيره بايات مثل انشقاق القمر بإشارته - وحنين الجذع على مفارقته - وتسليم الحجر والشجر عليه - وكلام البهائم والشهادة برسالته - ونبع الماء
من بين أصابعه وغير ذلك من المعجزات
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 355(1/659)
و الآيات التي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السماء والأرض عن الإتيان بمثله ثم روى بسنده عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما من نبى الا وقد اعطى من الآيات ما أمن على مثله البشر وانما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه اللّه إلى فارجوان أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة متفق عليه وبسنده عن جابران النبي صلى اللّه عليه وسلم قال أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلى نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا فايما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وأحلت لى الغنائم ولم يحل لاحد قبلى - وأعطيت الشفاعة - وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة متفق عليه وبسنده عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال فضلت على الأنبياء بست أوتيت بجوامع الكلم - ونصرت بالرعب - وأحلت لى الغنائم - وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا - وأرسلت إلى الخلق كافة - وختم بي النبيون - رواه مسلم - وهذا الباب طويل جدا لا يسعه المقام وقد صنف فيه مجلدات وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ تكلم الناس في المهد وكان يبرئ الأكمه والأبرص ويحى الموتى وانزل عليه مائدة من السماء وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وقد مر تفسيره فيما قبل خص اللّه سبحانه عيسى بالتعيين لافراط اليهود والنصارى في تحقيره وتعظيمه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ هداية الناس جميعا مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أى من بعد الرسل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ المعجزات الواضحات وَلكِنِ اخْتَلَفُوا بارادة اللّه سبحانه اظهار صفاته الجلالية والجمالية وأسمائه من الهادي والمضل والغفار والقهار والمنتقم والعفو وغيرها فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ تفضلا بهدايته وتوفيقه التزام دين الأنبياء وهم الذين كان دينهم صفة الهداية وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بخذلانه عدلا وهم الذين كان دينهم صفة الإضلال - عن أبى موسى(1/660)
قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقول ان اللّه خلق خلقه في ظلمة فالقى عليهم نوره فمن أصاب ذلك النور اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول جف القلم على علم اللّه رواه احمد والترمذي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرره للتأكيد وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) لا يجوز عليه الاعتراض ولا يبلغ إلى كنه حكمته غيره قال البغوي سال رجل على بن أبى طالب فقال يا امير المؤمنين أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه فاعاد السؤال فقال بحر عميق فلا تلجه فاعاد فقال سر خفى فلا تفشه - يعنى هو امر لا يمكن دركه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 356(1/661)
بالعقل وتفتيشه يوجب الهلاك كما يوجب الهلاك الولوج في البحر العميق والسلوك في الطريق المظلم - عن عائشة قالت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من تكلم في شىء من القدر سئل عنه يوم القيامة ومن لم يتكلم فيه لم يسئل عنه رواه ابن ماجة وقال أبى بن كعب لو ان اللّه عذب أهل سمواته وارضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كان رحمته خير الهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل اللّه ما قبله اللّه منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطيك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار وقال ابن مسعود وحذيفة بن اليمان مثل ذلك - وحدث زيد بن ثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم مثل ذلك رواه احمد وأبو داود وابن ماجة - فان قيل هذه الآية تدل على كون بعض الرسل أفضل من بعض فما معنى قوله صلى اللّه عليه وسلم لا تفضلوا بين أنبياء اللّه وفي رواية لا تخيروا بين الأنبياء متفق عليه من حديث أبى سعيد وابى هريرة وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا تخيرونى على موسى وقوله صلى اللّه عليه وسلم لا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى متفق عليه من حديث أبى هريرة - قلنا معناه انه لا يجوز الحكم بتفضيل بعضهم على بعض بالرأى من غير دليل وتوقيف من اللّه سبحانه لان الفضل عبارة عن كثرة الثواب وزيادة القرب إلى اللّه تعالى وذا لا يدرك بالرأى فاما إذا ثبت بالكتاب أو السنة فان كان الدليل ظنى المتن أو السند فلا بأس بالقول به(1/662)
مع تجويز نقيضه وان كان قطعيا يجب الاعتقاد به وكذا الحال في تفضيل غير الأنبياء بعضهم على بعض - واما قوله عليه السلام لا تخيرونى على موسى ولا أقول ان أحدا أفضل من يونس بن متى فمحمول على انه كان قبل علمه بافضليته صلى اللّه عليه وسلم على جميع الأنبياء واللّه اعلم ( (مسئلة)) وهذه الآية حجة لاهل السنة على المعتزلة في ان الحوادث كلها بيد اللّه تعالى تابعة لمشيته خيرا كان أو شرا إيمانا كان أو كفرا - وليس الأصلح ولا شىء من الأشياء واجبا عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان قلوب بنى آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك رواه مسلم وروى عنه احمد والترمذي نحوه والترمذي وابن ماجة عن انس واحمد عن أبى موسى نحوه.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ما أوجبت عليكم إنفاقه مِمَّا رَزَقْناكُمْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 357
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ(1/663)
لا تقدرون فيه على تدارك ما فرطتم والخلاص من عذاب اللّه إذ لا بَيْعٌ فِيهِ فتحصلون الأموال وتنفقونها في سبيل اللّه أو تفتدون بها من العذاب فتشترون به أنفسكم وَلا خُلَّةٌ حتى يعينكم عليه اخلاءكم أو يسامحونكم به وَلا شَفاعَةٌ الا بإذن اللّه قرأ ابن كثير وأبو عمر وكلها مبنيا على الفتح من غير تنوين على الأصل وكذلك في سورة ابراهيم لا بيع فيه ولا خلل وفي سورة الطور لا لغو فيها ولا تأثيم وقرا الآخرون كلها بالرفع لانها فى تقدير جواب هل فيه بيع أو خلة أو شفاعة وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) حيث يضعون العبادة في غير موضعها ويضعون الأموال في غير موضعها ويصرفونها على غير وجهها - وأيضا هم يظلمون أنفسهم بترك ما أمرهم اللّه وتعريض أنفسهم للعذاب فلا تكونوا أيها الذين أمنوا على هيئتهم - أو المعنى والكافرون الذين ينكرون فريضة الزكوة هم الظالمون - وقال البيضاوي أراد بالكافرين التاركين للزكوة وضع الكافرون موضعه تغليظا كقوله من كفر مكان من لم يحج وكقوله تعالى ويل للمشركين الّذين لا يؤتون الزّكوة إيذانا بان ترك الزكوة من صفات الكفار عن عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه - قال لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدى زكوة فقال أبو بكر لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تالف الناس وارفق بهم فقال لى أ جبّار في الجاهلية وخوّار في الإسلام انه قد انقطع الوحى وتم الدين أ ينقص وانا حى رواه رزين - .(1/664)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر والمعنى انه تعالى هو المستحق للعبادة لا غير الْحَيُّ هو الذي يصح ان يعلم ويسمع ويبصر ويقدر ويريد وكل ما يصح له فهو واجب له ما زال ولا يزال ثابت له ازلا وابدا لامتناعه عن القوة والإمكان فالحيوة صفة للّه تعالى سبد الجميع صفات الكمال الْقَيُّومُ 5 قرأ عمرو ابن مسعود القيّام وقرا علقمة القيّم - قال البغوي كلها لغات بمعنى واحد قال ابن مجاهد القيوم القائم على كل شىء قال الكلبي القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور وقال أبو عبيدة الذي لا يزول وقال البيضاوي الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه فيقول من قام بالأمر إذا حفظه وقال السيوطي الدائم البقاء قلت مرجع الأقوال انه دائم الوجود القائم بنفسه وقيم الأشياء كلها لا يتصور قيام شىء وبقاؤه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 358(1/665)
إلا به فمقتضى هذا الاسم ان ما سواه يحتاج إليه في بقائه كما يحتاج إليه في وجوده كالظل بالنسبة إلى الأصل بل أشد منه احتياجا وللّه المثل الأعلى لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة فتور يتقدم النوم في الوجود ولذا قدم ذكره مع ان قياس المبالغة يقتضى العكس - والنوم حالة تعرض الحيوان من استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الابخرة المتصاعدة بحيث يعطل الحواس الظاهرة عن الاحساس رأسا - وهذه الجملة صفة سلبية ينفى التشبيه فهى تأكيد لكونه حيا قيوما فانه من اخذه نعاس أو نوم كان ما دون الحيوة فان النوم أخ الموت قاصرا في حفظ الأشياء وقيوميتها ولذاك ترك العاطف عن أبى موسى رضى اللّه عنه قال قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخمس كلمات فقال ان اللّه لا ينام ولا ينبغى له ان ينام - يخفض « 1 » القسط ويرفعه - يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل - « 2 » حجابه النور لو كشفت لا حرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه رواه مسلم لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقرير لقيوميته واحتجاج على تفرده في الالوهية والمراد بما فيهما ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فهو ابلغ من قولنا له السموات والأرض وما فيهن مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ بيان لكبرياء شأنه وانه لا أحد يساويه أو يدانيه يستقل بان يدفع ما يريده شفاعة فضلا من ان يعاوقه مناصبة يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ أى ما قبلهم وما بعدهم - أو ما يدركونه وما لا يدركونه - أو ما يأخذونه وما يتركونه - فان ما تركوه كانهم نبذوه خلف ظهورهم - والضمير لما في السموات والأرض تغليبا للعقلاء على غيرهم أو لمدلول ذا من الملائكة والأنبياء وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ أى من معلوماته انما قيد بقوله من علمه مع ان كل شىء معلومه تنبيها على ان المراد(1/666)
بالاحاطة الإحاطة العلمية - ولم يقل ولا يعلمون شيئا تنبيها على ان العلم التام المحيط بكنه الأشياء كلها مختص به تعالى ولا يوجد احاطة علم غيره بكنه شىء الا نادرا - أو المراد بعلمه العلم المختص به وهو علم الغيب فهم لا يحيطون بشىء من علم الغيب إِلَّا بِما شاءَ احاطته وذلك قليل قال اللّه تعالى وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا والواو في ولا يحيطون اما للحال من فاعل يعلم ما بين أيديهم أو للعطف وانما ذكر بالعطف لان مجموع الجملتين يدل على تفرده بالعلم الذاتي التام المحيط بأحوال خلقه
_________
(1) قال البغوي ولكنه يخفض القسط ويرفعه إليه عمل الليل 12 منه
(2) قال البغوي ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال حجاب الدار 12 منه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 359(1/667)
الدال على وحدانيته وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قال البيضاوي تصوير لعظمته وتمثيل مجرد ولا كرسى في الحقيقة ولا قاعد وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال أراد بالكرسي علمه وهو قول مجاهد ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة وقيل كرسيه ملكه وسلطانه والعرب تسمى الملك القديم كرسا - قلت ولو كان الكرسي بمعنى العلم أو الملك كان هذه الجملة بعد قوله له ما في السّموت وما في الأرض يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم مستدركا والمشهور عند المحدثين ان الكرسي جسم قال البغوي اختلفوا في الكرسي قال الحسن هو العرش نفسه وقال أبو هريرة الكرسي موضوع امام العرش ومعنى قوله وسع كرسيّه السّموت والأرض أى سعته مثل سعة السموات والأرض - وروى ابن مردوية من حديث أبى ذر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما السموات السبع والأرضون السبع مع الكرسي الا كحلقة في فلاة - وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ويروى عن ابن عباس ان السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقال على ومقاتل كل قائمة من الكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع وهو بين يدى العرش ويحمد الكرسي اربعة املاك لكل ملك اربعة وجوه وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام وهو يسئل للادميين الرزق من السّنة إلى السّنة وملك على صورة سيد الانعام وهو الثور وهو يسئل للانعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه عضاضة منذ عبد العجل وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسئل للسباع الرزق من السنة إلى السنة وملك على صورة سيد الطير وهو النسر يسئل للطير الرزق من السنة إلى السنة وفي بعض الاخبار ان بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة سنة لو لا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش و(1/668)
الكرسي في الأصل اسم لما يقعد عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد كأنَّه منسوب إلى الكرسي وهو « 1 » ضم الشيء بعضه إلى بعض - ونسبة الكرسي إلى اللّه تعالى كنسبة العرش إليه وكذا نسبت بيت اللّه إليه لنوع من التجلي مختص به وقد ذكرنا فى تفسير قوله تعالى فسوهنّ سبع سموات ان المستنبط من الحديث ان العرش كروى محيط بالسماوات وما ذكرنا هاهنا من حديث أبى ذر يستفاد منه ان الكرسي محيط بالسماوات والعرش
_________
(1) فى الأصل وهم -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 360(1/669)
محيط به واحاطة بعضها بعضا يقتضى كون كل منها كرويا ومن هاهنا قال من قال ان الكرسي هو الفلك الثامن والعرش الفلك التاسع - ولعل العرش والكرسي متبائتان من السموات في الماهية وممتازان بانواع التجليات ومن ثم لم يعد « اللّه من السموات ولم يزد عدد السموات على سبع واللّه اعلم وَلا يَؤُدُهُ أى لا يثقله مأخوذ من الأود وهو الاعوجاج حِفْظُهُما أى السموات والأرض أو الكرسي وما وسعه فهذه الجملة مع ما عطف عليه بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظمة قدره وعموم قيوميته للاشياء فهاتين الجملتين كان كحكم جملة واحدة ولمّا كان كل جملة منها تأكيدا وبيانا لما سبق لم يذكر العاطف بين تلك الجمل وَهُوَ الْعَلِيُّ المتعالي عن الانداد والأشباه ليس كمثله شىء في الذات ولا في شىء من الصفات بوجه من الوجوه فهو متعال من ان يحمده الحامدون ويصفه الواصفون كما يليق به الْعَظِيمُ (255) المستحقى بالاضافة إليه كل ما سواه - ولما كانت هذه الآية خالصة في مباحث الذات والصفات دالة على كونه تعالى هو المتوحد بالوجود المتأصل المتصف بصفات الكمال من الحيوة وما يستتبعه من العلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام المفيض للوجود والتقوم لكل ما سواه بحيث يكون قيام كل ما سواه به تعالى لا كقيام العرض بالعين كما يتوهم من كلام بعض الأكابر حيث قال العالم اعراض مجتمعة في عين واحد بل على نحو لا يسعه مجال الخيال واقرب العبارات التي يعبر بها ذلك القيام انه تعالى اقرب إلينا من حبل الوريد المنزه عن التحيز والحلول والمبرا عن التغير والفتور مالك الملك والملكوت ذو البطش الشديد الذي لا يطاق انتقامه الا بشفاعة من اذن له عالم بالأشياء علما محيطا بالاحاطة التامة بكنه كل جلى وخفى متوحدا بعلومه لا يعلم أحد شيئا منها الا بتعليمه واسع الملك والقدرة يتجلى على بعض مخلوقاته تجليا لا ينافى علو تنزيهه لا(1/670)
يؤده شاق ولا يغنيه شأن عن شأن متعال عما لا يليق به بل متعال من ان يصفه الواصفون عجز عن حمده من بيده لواء الحمد يوم القيامة حيث قال أنت كما أثنيت على نفسك عظيم يستحقر بإضافته كل شىء ولا يحيط به علم عالم ولا تناسب عظمته عبادة عابد معترف بالقصور في عبادته اسبق السابقين حيث قال ما عبدناك حق
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 361(1/671)
عبادتك فلذلك لما قيل يا رسول اللّه اىّ اية أعظم قال اية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ - ولما قيل أى سورة أعظم قال قل هو اللّه أحد رواه الدارمي من حديث اسقع بن عبد الكلاعى - واخرج الحارث بن اسامة عن الحسن مرسلا أعظم اية اية الكرسي واخرج مسلم من حديث أبى بن كعب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « 1 » يا أبا المنذر أى اية من كتاب اللّه أعظم قلت اللّه لا الله الّا هو الحىّ القيّوم قال فضرب في صدرى وقال ليهنئك العلم ثم قال والذي نفسى بيده ان لهذه الآية لسانا وشفتين يقدس الملك عند ساق العرش قلت لعل معنى هذا الحديث ان حملة العرش يقدسون اللّه بهذه الآية - والظاهر ان يقال لكل شىء صورة في المثال حتى القرآن وآياته ورمضان وغير ذلك واخرج ابن مردوية من حديث ابن مسعود - وابن راهويه في مسنده من حديث عوف بن مالك - وأحمد ومالك من حديث أبى ذر نحوه واخرج الترمذي والحاكم من حديث أبى هريرة مرفوعا سيد أى القرآن اية الكرسي أخرج احمد من حديث انس اية الكرسي ربع القرآن وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرأ حين يصبح اية الكرسي وايتين من حم تنزيل الكتب من اللّه العزيز العليم حفظ من يومه ذلك حتى يمسى فان قراها حين يمسى حفظ من ليلته تلك حتى يصبح رواه الترمذي والدارمي وقال الترمذي هذا حديث غريب وعن أبى هريرة قال وكلنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحفظ زكوة رمضان فاتى ات فجعل بحثوا من الطعام فاخذته وقلت لا رفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال انى محتاج وعلىّ عيال ولى حاجة شديدة فخليت عنه فاصبحت فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة قلت يا رسول اللّه شكا حاجة شديدة وعيالا(1/672)
فرحمته فخليت سبيله قال اما انه قد كذبك وسيعود فعرفت انه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه سيعود فرصدته فجاء يحثوا من الطعام فاخذته فقلت لا رفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال دعنى إلخ كما قال اولا وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما قال اولا ثم قال أبو هريرة في المرة الثالثة هذا اخر ثلاث مرات انك تزعم لا تعود ثم تعود قال دعنى أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها إذا أويت إلى فراشك فاقرأ اية الكرسي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الآية فانك لن تزال عليك من اللّه حافظا ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله - فاصبحت فقال لى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
_________
(1) فى الأصل بغير النداء
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 362
ما فعل أسيرك البارحة قلت زعم انه يعلمنى كلمات ينفعنى اللّه بها قال اما انه صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال قلت لا قال ذاك شيطان رواه البخاري - واخرج النسائي وابن حبان والدارقطني من حديث أبى امامة والبيهقي في شعب الايمان من حديث الصلصال الديهمى ومن حديث على بن أبى طالب عليه السلام عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من قرأ اية الكرسي دبر كل صلوة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت وفي رواية من قراها حين يأخذ مضجعه امنه اللّه على داره ودار جارّه واهل دويرات حوله واخرج البيهقي في شعب الايمان من حديث انس مرفوعا من قرأ اية الكرسي في دبر كل صلوة مكتوبة حفظه اللّه إلى الصلاة الاخرى ولا يحافظ الا نبى أو صديق أو شهيد واللّه اعلم « 1 » - روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن ابن عباس قال كانت المرأة تكون مقلّاة فتجعل في نفسها ان عاش لها ولدان تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فانزل اللّه تعالى.(1/673)
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد خير أصحابكم فان اختاروكم فمنكم وان اختاروهم فاجلوهم معهم - وقال مجاهد كان ناس مسترضعين في اليهود من الأوس فقال « 2 » الذين كانوا المسترضعين فيهم لنذهبن معهم أو ليدينن بدينهم فمنعهم أهلهم فنزلت - واخرج ابن جرير من طريق سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال نزلت في رجل من الأنصار من بنى سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما فقال للنبى صلى اللّه عليه وسلم الا استكرههما فانهما قد أبيا الا النصرانية فانزل اللّه تعالى لا اكراه في الدّين يعنى لا يتصور الإكراه في ان يؤمن أحد إذ الإكراه الزام الغير فعلا لا يرضى به الفاعل وذالا يتصور الا فى افعال الجوارح واما الايمان فهو عقد القلب وانقياده لا يوجد بالإكراه - أو المعنى لا تكرهوا في الدين فهو اخبار بمعنى النهى - ووجه المنع اما ما ذكرنا انه لا يوجد الايمان بالإكراه فلا فائدة فيه
_________
(1) واخرج الدينوري في المجالس عن الحسن ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ان جبرئيل أتاني فقال ان عفر يتامن الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ اية الكرسي وفي الفردوس من حديث أبى قتادة من قرأ اية الكرسي عند الكرب أعانه اللّه عن ابن عمران عمر بن الخطاب خرج ذات يوم إلى الناس فقال أيكم يخبر لى بأعظم اية في القرآن - وأعدلها - واخوفها - وارجاعا فسكت القوم فقال ابن مسعود سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول أعظم اية في القرآن اللّه لا الله الّا هو الحىّ القيّوم - واعدل اية في القرآن انّ اللّه يأمر بالعدل والإحسان الآية - وأخوف اية فى القرآن فمن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره وارجا اية في القرآن قل يعبادى الّذين أسرفوا على أنفسهم الآية - منه برد اللّه مضجعه
(2) فى الأصل فقال المسترضعين - (1/674)
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 363
و اما لان إيجاب الايمان وسائر العبادات انما هو للابتلاء قال اللّه تعالى ليبلوكم ايّكم احسن عملا والمعتبر فيها الإخلاص قال اللّه تعالى واعبدوا اللّه مخلصين له الدّين والإكراه ينافى الابتلاء والإخلاص - فقيل هذا الحكم بعدم الإكراه خاص باهل الكتاب لنزوله فيما ذكرنا من شأن الأنصار كان أبناؤهم هودا أو نصارى - قلت خصوص المورد لا يقتضى تخصيص النص وهو عام - وقيل هذا الحكم منسوخ بقوله تعالى قاتلوا المشركين كافّة - وجاهد الكفّار والمنفقين قال البغوي هو قول ابن مسعود قلت لا يتصور النسخ الا بعد التعارض ولا تعارض فان الأمر بالقتال والجهاد ليس لاجل الإكراه على الدين بل لدفع الفساد من الأرض فان الكفار يفسدون في الأرض ويصدون عباد اللّه عن الهدى والعبادة فكان قتلهم كقتل الحية والعقرب والكلب العقور بل أهم من ذلك ومن ثم جعل اللّه تعالى غاية قتلهم إعطاء الجزية حيث قال حتّى يعطوا الجزية عن يدوّهم صغرون - ولاجل هذا نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قتل الولدان والنساء والمشائخ والرهبان والعميان والزمنا الذين لا يتصور منهم الفساد في الأرض وكيف يقال بالنسخ مع ان الإكراه في الدين لا يتصور ولا يفيد كما ذكرنا قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يعنى وضح الأمر ودلت الدلائل العقلية والمعجزات النبوية على ان الايمان رشد يوصل إلى السعادة الابديّة والكفر غىّ يؤدى إلى الشقاوة السرمدية فتم حجة اللّه على الخلق وزال عذرهم وصح ابتلاؤهم ولا حاجة إلى إكراههم - وقال البيضاوي في تفسير الآية ان الإكراه الزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا فلا اكراه في الدين - إذ قد تبيّن الرّشد من الغىّ والعاقل متى تبين له ذلك بادرت نفسه إلى الايمان طلبا للفوز بالنجاة والسعادة ولم يحتج إلى الإكراه والإلجاء وهذا التقدير لو تم لزم ان يكون كل عاقل مؤمنا طوعا ولو أريد بالعاقل من(1/675)
له عقل سليم وتم معرفته فذا لا ينفى الإكراه من الكفار فان عقلهم غير سليم ولذلك لم يبادروا فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ فعلوت من الطغيان قلب عينه ولامه أو فاعول منه حذف لامه وزيدت التاء بدلا من اللام والمراد به كل ما عبد من دون اللّه أو ما صد عن عبادة اللّه من شياطين الجن والانس وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ كما ارشد به الرسول فان الايمان باللّه تعالى كما ينبغى لا يتاتى الا بعد تصديق الرسول والاهتداء به فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أى طلب الإمساك من نفسه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى من الحبل الوثيق وهى مستعارة لمتمسك الحق لَا انْفِصامَ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 364
لَها
اى لا « 1 » انقطاع وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائك إياهم ولا قوالك وأقوالهم عَلِيمٌ (256) بحرصك إياهم وبنيات كل حثّ على تصحيح الأعمال والنيات وتهديد على الكفر والنفاق.(1/676)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا محبهم ومتولى أمرهم والمراد به من أراد إيمانه يُخْرِجُهُمْ بهدايته وتوفيقه مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الجهل واتباع الهوى وقبول الوساوس والشبه المؤدية إلى الكفر إِلَى النُّورِ 5 إلى الهدى الموصل إلى الايمان - قال الواقدي كل ما في القرآن من الظلمة والنور فالمراد به الكفر والايمان غير ما في الانعام جعل الظّلمت والنّور فانه الليل والنهار - وهذه الآية تدل على ان الايمان امر وهبى والجملة خبر بعد خبرا وحال من المستكن في الخبر أو من الموصول أو منهما أو استيناف مبيّن أو مقرد للولاية وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعنى شياطين الجن والانس منهم كعب بن الأشرف وحيى بن اخطب وغيرهما - أو المضلات من الهوى والشياطين وغيرهم فهؤلاء متولى أمورهم ومحبيهم فى زعمهم وإلا ففي الحقيقة هم أعداؤهم يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ الذي هو في اصل الفطرة كما في حديث أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما من مولود الا يولد على الفطرة فابواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه متفق عليه واخرج ابن جرير عن عبدة بن أبى لبابة قال هم الذين كانوا أمنوا بعيسى فلما جاءهم محمد صلى اللّه عليه وسلم كفروا به إِلَى الظُّلُماتِ أى الشكوك والشبهات والانهماك في الشهوات وفساد الاستعداد الموجب إلى الكفر - واسناد الإخراج إلى الطاغوت باعتبار السبب والكسب لا يأبى تعلق قدرته تعالى وإرادته به - والطاغوت يكون مذكرا ومؤنثا وواحدا وجمعا قال اللّه تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ - وقال والّذين اجتنبوا الطاغوت ان يعبدوها - أخرج ابن جرير عن مجاهد قال كان قوم آمنوا بعيسى وقوم كفروا به فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم أمن به الذين كفروا بعيسى وكفر به الذين آمنوا بعيسى فانزل اللّه تعالى هذه(1/677)
الاية واخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن ابن عباس انها نزلت في قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمد كفروا به واللّه اعلم
_________
(1) عن أبى الدرداء قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر فانهما حبل اللّه الممدود فمن تمسك بهما فقد تمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها - منه رحمه اللّه.
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 365
أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) وعيد وتحذير - قيل عدم مقابلته بوعد المؤمنين لتعظيم شأنهم - والاولى ان يقال ان قوله تعالى اللّه ولىّ الّذين أمنوا تضمن كل ما يتصور من الوعد - .(1/678)
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ تعجيب من محاجة نمرود وحماقته قال البغوي هو أول من وضع التاج على رأسه وتجبر في الأرض وادّعى الربوبية أَنْ أى لان آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ فطغى أى كان محاجته لاجل بطر الملك وطغيانه - أو أسند المحاجة إلى إيتاء الملك على طريقة العكس يعنى كان الواجب عليه الشكر فعكس كما يقال عاديتنى لانى أحسنت إليك - أو المعنى وقت ان أتى اللّه الملك وهو حجة على منع إيتاء الملك الكافر من المعتزلة قال البغوي ملك الأرض اربعة مؤمنان وكافران سليمان وذو القرنين ونمرود وبخت نصر قيل لما كسر ابراهيم الأصنام سجنه نمرود ثم أخرجه ليحرقه فقال من ربك الذي تدعونا إليه - وقيل كان هذا بعد القائه في النار قحط الناس فكانوا يمتارون من عند نمرود فكان نمرود إذا أتاه رجل ساله من ربك فان قال أنت باع منه الطعام فاتاه ابراهيم فقال من ربك قال ربّى الّذى يحيى ويميت فحاجه ولم يعطه شيئا فرجع ابراهيم فمر على كثيب من رمل فاخذ منه تطيبا لقلوب اهله فلما اتى اهله ووضع متاعه نام - فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هو أجود طعام فصنعت له منه فقرّبت إليه فقال من اين هذا؟ قالت « 1 » من الطعام الذي جئت به فحمد اللّه تعالى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لقال انا احيى وأميت - وهو بيان لحاج - أو هو استيناف في جواب سوال مقدر كأنَّه قيل كيف حاج أو الظرف متعلق لحاجّ وقال بيان له أو استيناف - أو الظرف بدل من ان آتاه اللّه الملك ان كان المصدر مقدرا بالوقت رَبِّيَ قرأ حمزة بإسكان الياء وصلا ووقفا وكذا في رَبِّيَ الْفَواحِشَ - وعَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ - وقُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ وآتانِيَ الْكِتابَ - ومَسَّنِيَ الضُّرُّ - وعِبادِيَ الصَّالِحُونَ - وعِبادِيَ الشَّكُورُ - ومَسَّنِيَ الشَّيْطانُ - وإِنْ أَرادَنِيَ « 2 » اللَّهُ وإِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ - ووافقه ابن عامر و(1/679)
الكسائي في لعبادى الّذين أمنوا - وابن عامر في آياتي الّذين وو فتح الآخرون كلها الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ جواب لقول نمرود من ربك الذي تدعونا إليه استدل ابراهيم عليه السلام على وجود الصانع الواجب الوجود بالآثار الدالة عليه من الاحياء
_________
(1) فى الأصل قال - 2 أبو محمد
(2) فى الأصل إرادتي -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 366
و الاماتة المشهودتين في عالم الإمكان - ونمرود لعله كان دهريا غبيا يزعم الحوادث بالاتفاق كما يزعمه الدهريون - ويزعم ان ذوى العقول من الممكنات خالقة لافعالها كما يزعمه المعتزلة والروافض - فدعا برجلين فقتل أحدهما واستحيى الاخر وقالَ نمرود أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قرأ أهل المدينة انا بإثبات الالف والمد في الوصل إذا تلقتها همزة متحركة - والباقون بحذف الالف ووقفوا جميعا بالألف فلما راى ابراهيم غباوته عن الاستدلال بالحوادث المعتادة قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ يعنى وهو قادر على ان يأتيها من المغرب أو كيف يشاء فَأْتِ بِها أنت مِنَ الْمَغْرِبِ ان كنت تزعم انك قادر على ما تفعل وتنكر الواجب فان الممكنات كلها سواء في الخلق فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أى تحير ودهش وانقطعت حجته - لما راى انه لو سال ابراهيم ربه فربه يأتى بالشمس من المغرب كما جعل النار عليه بردا وسلاما وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) وان يروا كلّ اية حتّى يروا العذاب الأليم.(1/680)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ يعنى بيت المقدس أو دير هرقل كما سنذكر القصة والكاف زائدة والموصول معطوف على الذي حاج - والذي مر هو آدميا وهو الخضر عليه السلام على ما رواه محمد بن إسحاق - واخرج الحاكم عن علىّ وإسحاق بن بشير عن عبد اللّه بن سلام وابن عباس انه عزيز - وقال مجاهد هو كافر شك في البعث نظرا إلى نظمه مع نمرود وهذا ليس بشىء فان الكافر لا يستحق تلك الكرامة ولو قيل انه أمن حين راى الاحياء بعد الاماتة قلنا هذا ليس إيمانا بالغيب فلا يعتد به ونظم القصتين معا انما هو لاشتراكهما في التعجيب بلا دعاء الربوبية فمن يرى عجزه في كل حين وزمان اعجب من الحيوة بعد الممات بإذن اللّه تعالى فان ذلك شائع كما ترى تصير النطفة رجلا والبذر شجرا ونحو ذلك وَهِيَ خاوِيَةٌ خالية ساقطة حيطانها عَلى عُرُوشِها يعنى سقطت سقوفها ثم وقعت حيطانها عليها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ القرية اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها قال ذلك على الطلب والتمني في إحيائها مع استبعادها عادة وهضما لنفسه عن مرتبة الاستجابة - وكان القصة على ما روى محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه ان اللّه تعالى بعث ارميا إلى ناشية بن اموص ملك بنى إسرائيل ليسدد امره وكان ملكا صالحا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 367(1/681)
يأتيه ارميا باحكام اللّه تعالى فعظمت المعاصي في بنى إسرائيل فاوحى اللّه تعالى إلى ارميا لا قبضن عليهم فتنة ولا سلطنّ عليهم جبارا ولاهلكن أكثرهم فصاح ارميا وبكى فاوحى اللّه تعالى إليه ان لا اهلكنهم ما لم تأذن فاستبشر فلبثوا ثلاث سنين وما زادوا لا معصية وطغيانا فلما بلغ الاجل وقلّ الوحى دعاهم الملك إلى التوبة فلم يفعلوا فسار بخت نصر من بابل إلى بيت المقدس في جنود لا قبل لها ففزع ملك بنى إسرائيل فقال ارميا انى واثق بما وعدني اللّه فبعث اللّه تعالى إلى ارميا ملكا في صورة رجل من بنى إسرائيل فقال يا نبى اللّه استفتيك في أهلي لم ات إليهم الا حسنا ولا يزيدون بي الا اسخاطا قال احسن وصلهم والبشر بخير ثم بعد ايام جاء إليه الملك في صورة ذلك الرجل فقال مثل مقاله وأجيب مثل ما أجيب اولا ثم بعد زمان لما حاصر بخت نصر بيت المقدس وارميا قاعد على جداره وملك بنى إسرائيل يقول اين ما وعدك اللّه وارميا واثق مستبشر بالوعد إذ جاءه الملك في صورة ذلك الرجل وشكى اهله إليه فقال ارميا الم يأن ان ينزجروا من الذي هم فيه فقال له الملك يا نبى اللّه كل شىء كان يصيبنى قبل ذلك اليوم صبرت عليه وهم اليوم على عمل عظيم من سخط اللّه فغضبت للّه وأسئلك باللّه الذي بعثك بالحق ان تدعو اللّه عليهم ليهلكنهم فقال ارميا يا ملك السموات والأرض ان كانوا على عمل لا ترضاه فاهلكهم فارسل اللّه صاعقة فالتهب مكان القربان وخسف سبعة أبواب فقال ارميا يا رب اين ميعادك فنودى انه ما أصابهم الا بدعائك فعلم ان ذلك السائل كان رسول ربه فلحق ارميا بالوحوش وخرب بخت نصر بيت المقدس ووطى الشام وقتل بنى إسرائيل وسباهم - فكانت هذه الوقعة الاولى التي أنزلها اللّه ببني اسراءيل بظلمهم فلما ولى بخت نصر عنهم راجعا إلى بابل اقبل ارميا على حمار له معه عصير عنب في ركود وسلة تين حتى جاء ايليا فلما وقف عليها وراى خرابها قال انّى يحى(1/682)
هذه اللّه بعد موتها وانى في موضع النصب على الظرف بمعنى متى - أو على الحال بمعنى كيف - ثم ربط ارميا حماره بحبل والقى اللّه عليه النوم فَأَماتَهُ اللَّهُ ضحى أخرجه سعيد بن منصور عن الحسن وابن أبى حاتم عن قتادة فلبث ميتا مِائَةَ عامٍ وحماره ومصيره وتينه عنده وأعمى اللّه عنه العيون فلم يره أحد فلما مضى من موته سبعين سنة أرسل اللّه ملكا إلى ملك من ملوك فارس يقال له نوشك فقال ان اللّه يأمرك ان تعمر بيت المقدس وايليا حتى يعودا عمر ما كان فجعل يعمرها - وأهلك اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 368
بخت نصر ببعوضة دخل دماغه ونجى اللّه من بقي من بنى إسرائيل ولم يمت ببابل وردهم جميعا إلى بيت المقدس ونواحيه وعمروها ثلاثين سنة حتى عادوا على احسن ما كانوا عليه فاحيا اللّه ارميا ثُمَّ بَعَثَهُ وكان بعثه قبل غيبوبة الشمس فبعث اللّه إليه ملكا قالَ الملك لا رميا(1/683)
كَمْ لَبِثْتَ فلما زعم ارميا ان الشمس غربت من ذلك اليوم الذي نام فيه قالَ لَبِثْتُ يَوْماً ثم التفت فراى بقية من الشمس فقال أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له الملك بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعنى التين وَشَرابِكَ يعنى العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ أى لم يتغير فكان التين كانّه قطف من ساعته والعصير كانّه عصر من ساعته قال الكسائي كانّه لم يأت عليه السنون قرأ حمزة والكسائي ويعقوب لم يتسنّ بحذف الهاء في الوصل وإثباته في الوقف وكذلك فبهديهم اقتد وقر الآخرون بالهاء وصلا ووقفا فمن أسقط الهاء في الوصل جعلها صلة زائدة ومن أثبتها جعلها اصلية « 1 » قالوا اشتقاقه من السنة والهاء اصلية ان قدر لام السنة هاء أصله سنهة بدليل سنيهة والفعل منه مسانهة - وهاء سكت ان قدر لامه واوا فابدلت الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فحذف الالف للجزم وزيدت الهاء في الوقف - وقيل أصله لم يتسنّن من الحماء المسنون فابدلت النون الثالثة حرف علة كما فى قوله تعالى دسّها - وأفرد الضمير لان الطعام والشراب كالجنس الواحد وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ فنظر قيل فراه قائما واقفا كهيئته يوم ربطه حيا لم يطعم ولم يشرب مائة عام ونظر إلى حبله في عنقه جديدة لم يتغير - وقيل راى حماره قد هلك وبليت عظامه فبعث اللّه ريحا فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت بها الطيور والسباع فاجتمعت - قلت والظاهر هو القول الثاني يدل عليه تكرار كلمة انظر ولو كان الحمار باقيا على حاله كالطعام والشراب لكان المناسب ان يقال فانظر إلى طعامك وشرابك وحمارك وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ على البعث بعد الموت قيل الواو مقحمة وقال الفراء دخلت الواو فيه دلالة على انها متعلق بفعل مقدر أى وفعلنا ذلك لنجعلك اية وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أى عظام الحمار على تقدير كونه هالكا وبه قال اكثر المفسرين - وقال قوم أراد به عظام نفسه أحيا اللّه(1/684)
عينه ورأسه وسائر جسده ميت صار عظاما بيضاء متفرقا ويردّ
_________
(1) اما عند القراء فهى زائدة اجماعا زيدت لاظهار فتحة النون - أبو محمد عفا اللّه عنه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 369
هذا القول قوله صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه حرم على الأرض أجساد الأنبياء كَيْفَ نُنْشِزُها قرأ أهل الحجاز والبصرة ننشرها بالراء المهملة معناه نحييها قال اللّه تعالى ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ - واليه النّشور - وقرا الآخرون بالزاء المعجمة أى نرفعها من الأرض ونركب بعضها على بعض - وكيف منصوب بنشز والجملة حال من العظام ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فلما كسى العظام لحما ودما فصار الرجل حيا أو صار الحمار حمارا لا روح فيه فنفخ فيه الملك فقام الحمار ونهق بإذن اللّه تعالى - وفي الآية تقديم وتأخير وتقديره قال بل لبثت مائة عام امتناك ثم أحيينا فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما وفعلنا ذلك لنجعلك اية للنّاس فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ ما فعل به قالَ الرجل أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) قرأ الجمهور على صيغة المضارع للمتكلم وقرا حمزة والكسائي على صيغة الأمر وحينئذ يكون القائل الملك أو اللّه سبحانه أو الرجل خاطب به نفسه وقيل ان بخت نصر لمّا خرّب بيت المقدس وقدم بابل بسبى بنى إسرائيل كان فيهم عزيز ودانيال وجماعة من ال داود فلما نجا عزيز من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل على شط دجلة فطاف في القرية فلم ير أحدا وعامة شجرها حامل فاكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه وجعل فضل الفاكهة في سلّة وفضل العصير في زق فلما راى خراب القرية وهلاك أهلها قال انّى يحى هذه اللّه بعد موتها إلى اخر الحديث قال قتادة عن كعب والضحاك عن ابن عباس والسدّى عن مجاهد عن ابن عباس وابن عساكر(1/685)
عنه لما أحيا اللّه عزيرا بعد ما أماته مائة عام ركب حماره واتى محلته فانكر الناس ومنازلهم وأنكره الناس فاتى منزله على وهم فإذا بعجوز عمياء مقعدة أتت عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة لعزيز خرج عزير عنهم وهى بنت عشرين سنة فقال لها عزيز هذا منزل عزيز قالت نعم وقالت ما رايت أحدا منذ كذا يذكر عزيرا قال فانى عزيز أماتني اللّه مائة عام ثم بعثني قالت فان عزيزا كان رجلا مستجابا فان كنت عزيزا فادع اللّه ان يردّ عليّ بصرى فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصحتا وأخذ بيدها فقال قومى بإذن اللّه فقامت صحيحة فنظرته فعرفته فقالت اشهد انك عزيز فانطلقت إلى بنى إسرائيل وهم في مجالسهم وابن لعزيز شيخ ابن مائة سنة وأولاد بنيه شيوخ وعجائز وهو اسود الرأس واللحية فنادت هذا عزير
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 370
فكذبوها فقالت انا فلانة مولاتكم دعالى ربه فردّ على بصرى واطلق رجلى وزعم ان اللّه أماته مائة عام ثم بعثه فنهض الناس فقال ابنه كان لابى شأمة سوداء مثل الهلال بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز وقال السدى والكلبي لما رجع عزيز إلى قومه وقد احرق بخت نصر التورية بكى عزيز على التورية فاتاه ملك باناء فيه ماء فسقاه فمثلت التورية في صدره فرجع إلى بنى إسرائيل وقد علمه اللّه التورية وبعثه نبيا فقال انا عزيز فلم يصدقوه فاملا عليهم التورية من ظهر قلبه قالوا ما جعل اللّه التورية فى قلب رجل بعد ما ذهبت الا انه ابنه فقالوا عزيز ابن اللّه وسيأتى القصة في سورة التوبة ان شاء اللّه تعالى.(1/686)
وَ اذكر إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قال الحسن وقتادة وعطاء الخراسانى وابن جريح كان سبب هذا السؤال انه كانت جيفة حمار بالساحل فكان إذا مدّ البحر أكلت منها دواب البحر وإذا جزر أكلت السباع والطيور فراها ابراهيم وتعجب وقال يا رب قد علمت انك تجمعها من البحر والبر فارنى كيف تحييها لاعاين فازداد يقينا - وقيل لما قال نمرود انا أحيي وأميت وقتل أحد الرجلين واطلق الاخر قال ابراهيم ان اللّه يحيى بعد ما يميت فقال له نمرود أنت عاينته فلم يقدر ان يقول نعم فحينئذ سال ربه ان يريد احياء الموتى حتى إذا قيل له بعد ذلك أنت عاينته يقول نعم وقال سعيد بن جبير لما اتخذ اللّه ابراهيم خليلا جاء ملك الموت بإذن اللّه إلى ابراهيم ليبشره بذلك فبشره فقال ابراهيم ما علامة ذلك قال ان اللّه يجيب دعاءك ويحيى الموتى بسوالك فحينئذ سال ابراهيم ذلك قالَ اللّه تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ بانى قادر على الاحياء باعادة التركيب بعد الاماتة وانما قال ذلك وقد علم انه أقوى الناس في الايمان ليجيب بما أجاب فيعلم السامعون قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ويزيد بصيرتى وسكون قلبى بضم العيان إلى الوحى والاستدلال أو ليطمئن قلبى انك اتخذتني خليلا وتجيبنى إذا دعوتك عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نحن أحق بالشك من ابراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى الآية ورحم اللّه لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي متفق عليه وللعلماء في هذا المقام مقال فقال إسماعيل بن يحيى المزني لم يشك النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا ابراهيم في ان اللّه يحيى الموتى وانما شكافى انه هل يجيبهما اللّه تعالى إلى ما سالاه وهذا القول لا يصاعده قوله تعالى أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 371(1/687)
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
- وقال الامام أبو سليمان الخطانى ليس في الحديث اعتراف بالشك على نفسه ولا على ابراهيم بل فيه نفى الشك عنهما يعنى إذا لم أشك انا فابراهيم اولى بان لا يشك وانما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك تواضعا وهضما لنفسه وكذلك قوله لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لاجبت الداعي وفيه اعلام بان المسألة من ابراهيم لم تعرض من جهة الشك لكن لاجل طلب زيادة العلم بالعيان فان العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس الخبر كالمعائنة ان اللّه اخبر موسى بما صنع قومه في العجل فلم يلق الألواح فلما عاين ما صنعوا القى الألواح فانكسرت رواه احمد والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس وروى الطبراني عن انس والخطيب عن أبى هريرة بسند حسن وليس فيه ذكر موسى - وقيل لما نزلت هذه الآية قال قوم شك ابراهيم ولم يشك نبينا صلى اللّه عليه وسلم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تواضعا وتقديما لابراهيم على نفسه - قلت هذا القول وهذا التأويل في الحديث ضعيف لان نفى الشك عن ابراهيم ثبت بنفس كلام اللّه تعالى حيث قال بلى ولكن ليطمئن قلبى فكيف يقال شك ابراهيم وايّ حاجة إلى دفع ذلك التوهم - والتحقيق عندى ما قالت الصوفية العلية ان لاهل اللّه تعالى في السلوك مقامان الأول مقام العروج وهو الانخلاع عن الصفات البشرية والتلبس بالصفات الملكية والصفات القدسية ويحكى عن هذا المقام قوله صلى اللّه عليه وسلم حين نهى عن صوم الوصال لست كهيئتكم أبيت عند ربى يطعمنى ويسقينى ويقال فى اصطلاحهم بهذا السير السير إلى اللّه والسير في اللّه - والثاني مقام النزول وهو التلبس بالصفات البشرية ثانيا بعد الانخلاع التام وهذا المقام مقام التكميل ودعوة الخلق إلى اللّه تعالى ويقال لهذا السير السير من اللّه باللّه والحكمة في النزول انه لا بد(1/688)
بين المفيض والمستفيض من المناسبة حتى يتيسر به الاستفاضة على طريقة الصبغ والانصباغ ولاجل هذا أرسل الرسل من البشر لدعوة البشر ولم يتصور للعوام أخذ الفيض من اللّه تعالى لفقد المناسبة وهو تعالى غنى عن العالمين ولا من الملائكة قال اللّه تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا و
قال وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ وكلّما كان لرجل نزوله أتم كان دعوته أشمل وأكمل كما ان الرامي إذا كان في أعلى مكان من المرمى إليه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 372(1/689)
ما أصاب رميته غالبا قال الشيخ الأكبر محى الدين ابن العربي قدس سره أنكروا دعوة نوح لما كان من الفرقان وأجابوا دعوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لما كان من القرآن يعنى لما كانت استعدادات العوام في غاية الانخفاض ونوح عليه السلام كان في مقام العروج لم يتأثر العوام منه لاجل الفراق بينهما ولما نزل محمد صلى اللّه عليه وسلم غاية النزول أجابوا دعوته لحصول مقارنة - إذ سمعت هذا فاعلم ان العارف تام المعرفة قد يظهر عليه اثار النزول فحينئذ يكون على هيئة العوام متشبثا بالأسباب - ويحكى عن هذا المقام انه صلى اللّه عليه وسلم لبس في الحرب درعا من حديد فوق درع وحفر الخندق حول المدينة وفي هذا المقام يتشبث العارف لطلب زيادة اليقين واطمينان القلب بتحتم الاستدلال ونحو ذلك وعن هذا المقام قصة ابراهيم عليه السلام هذه وقصة لوط حين قال لو انّ لى قوّة « 1 » أو أوى إلى ركن شديد - وعبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم طلب زيادة اليقين بالشك مجازا للمشابهة الصورية واخبر عن مقام نزوله بقوله نحن أحق بالشك من ابراهيم بمعنى ان نزولنا أتم من نزول ابراهيم فنحن اولى بطلب زيادة اليقين منه ولا شك ان نزوله عليه السلام كان أتم من نزول ابراهيم يدل عليه كونه مبعوثا إلى كافة الأنام كما ان عروجه صلى اللّه عليه وسلم كان فوق كل عروج فكان قاب قوسين أو ادنى فهو المحدد لجهات الكمال عليه وعلى اللّه الصلاة والسلام ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم رحم اللّه لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد انه كان في مقام النزول فهذا مدح له عليه السلام وقوله صلى اللّه عليه وسلم لو لبثت في السجن طول ما لبث يوسف لا جبت الداعي أيضا يدل على ان نزول محمد صلى اللّه عليه وسلم كان أتم من نزول يوسف عليه السلام ولو كان نزول يوسف مثل نزوله عليه السلام لاجاب الداعي واللّه اعلم - قالَ اللّه تعالى فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ الطير مصدر اسمى(1/690)
به أو جمع طائر كصحب وصاحب قال مجاهد وعطاء بن « 2 » رباح وابن جريح أخذ طاء وساوديكا وحمامة وغرابا وحكى عن ابن عباس تسر بدل الحمامة وقال عطاء الخراسانى اوحى اللّه إليه انّ خذ بطة خضراء وغرابا اسود وحمامة بيضاء وديكا احمر قلت لعله امر بأخذ اربعة من الطير لان الإنسان وكذا سائر الحيوانات مركب من الاخلاط الاربعة المتولدة من العناصر الاربعة فالديك الأحمر يحكى عن الدم والحمامة البيضاء عن البلغم والغراب الأسود عن السوداء والبط الخضراء عن الصفراء -
_________
(1) فى القرآن بكم قوّة - أبو محمد عفا اللّه عنه
(2) الصحيح ابن أبى رباح - أبو محمد عفا اللّه عنه [.....]
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 373(1/691)
فاحياؤها بعد الاماتة دليل على احياء اجزاء الإنسان بعد الاماتة - قال البيضاوي فيه ايماء إلى ان احياء النفس بالحياة الابدية انما يتاتى باماتة حب الشهوات والزخارف الذي هو صفة الطاووس والصولة المشهور بها الديك وخسة النفس وبعد الأمل المتصف بها الغراب والترفع والمسارعة إلى الهوى الموسوم بها الحمام - قلت لما كان ابراهيم عليه السلام في مقام النزول والدعوة علمه اللّه تعالى طريق الإرشاد من إعطاء المريد الفناء والبقاء فاخذها وقطعها ينبىء عن السلوك والفناء ودعاؤها بإذن اللّه تعالى ينبىء عن الجذب إلى اللّه والبقاء وهذه كلمات من أهل الاعتبار لا مدخل لها في التفسير واللّه اعلم فَصُرْهُنَّ قرأ أبو جعفر وحمزة بكسر الصاد أى قطعهن ومزقهن من صار يصير صيرا إذا قطع قال الفراء هو مقلوب من صرى يصرى صريا وقرا الآخرون بضم الصاد ومعناه املهن يقال صرت اصتورا إذا أملته وقال عطاء معناه اجمعهن يقال صار يصور إذا جمع إِلَيْكَ متعلق بصرهنّ على قراءة الجمهور ومتعلق بمحذوف حال من المفعول على قراءة حمزة أى منضما إليك ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً قرأ عاصم برواية أبى بكر بضم الزاء والهمز حيث وقع وقرا أبو جعفر بتشديد الزاء بلا همز والآخرون بإسكان الزاء والهمزة - أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس امر اللّه تعالى ابراهيم ان يذبح تلك الطيور وينتف ريشها ويخلطها ودماءها ولحومها بعضها ببعض ثم امره ان يجعل اجزاءها على الجبال فجزاها سبعة اجزاء على سبعة اجبل وامسك رءوسهن عنده وكذا أخرج ابن جريح والسدى وروى ابن جرير من طريق ابن إسحاق عن ابن عباس وقتادة انه جعل كل طائر اربعة اجزاء على كل جبل ربعا من كل طائر ثُمَّ ادْعُهُنَّ قل لهم تعالين بإذن اللّه يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات طيرانا أو مشيا فدعاهن فجعل كل قطرة من دم طائر يصير إلى قطرة اخرى وكل ريشة يصير إلى الريشة(1/692)
الاخرى وكل عظم وبضعة إلى اخرى وابراهيم ينظر حتى تمت كل جثة بغير رأس ثم اقبلن إلى رءوسهن فصرن كما كن بإذن اللّه تعالى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء عما يريد حَكِيمٌ (260) ذو حكمة بالغة في كل ما يفعل ويذر - ذكر اللّه سبحانه في القصة السابقة أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وذكره هاهنا اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ يدل على انه قوله أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها كان على سبيل التعجب والاستبعاد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 374
من حيث كونه على خلاف العادة وقول ابراهيم ربّ أرني كيف تحي الموتى كان مبنيا على حال لطيف يقتضيه الحكمة واللّه اعلم - قال البيضاوي كفى لك شاهدا على فضل ابراهيم ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال انه تعالى أراه ما أراد في الحال على أيسر الوجوه وارى عزيزا بعد ما أماته مائة عام.(1/693)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجهاد أو غير ذلك من أبواب الخير كَمَثَلِ حَبَّةٍ فيه تقدير المضاف اما في المبتدأ أو في الخبر يعنى مثل نفقة الّذين ينفقون كمثل حبّة أو مثلهم كمثل باذر حبّة أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أسند الإنبات إلى الحبة مجازا لما كانت من الأسباب عادة فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما يكون في الدخن وغير ذلك وَاللَّهُ يُضاعِفُ ما يشاء من الأضعاف لِمَنْ يَشاءُ من عباده في الدنيا والاخرة وَاللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ (261) بنيات المنفقين يجزى على حسب نياتهم الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال البغوي قال الكلبي جاء عبد الرحمن بن عوف باربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال كانت عندى ثمانية آلاف فامسكت منها لنفسى وعيالى اربعة آلاف واربعة آلاف اقرضتها ربى فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بارك اللّه فيما أمسكت وفيما أعطيت - وعثمان جهّز المسلمين في غزوة تبوك بألف بعير بأقتابها وأحلاسها فنزلت هذه الآية وقال قال عبد الرحمن ابن سمرة جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة فصبّها في حجر النبي صلى اللّه عليه وسلم فرايت النبي صلى اللّه عليه وسلم يدخل فيها يده ويقلبها ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم فانزل اللّه تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وروى احمد عن عبد الرحمن بن سمرة وليس فيه ذكر نزول الآية ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً ذكر كلمة ثم للتفاوت بين الانفاق وترك المن والأذى - والمن ان يعتد بإحسانه على من احسن إليه والأذى ان يتطاول عليه أو يقول إلى كم تسئل وكم تؤذيني أو يذكر إنفاقه عليه عند من لا يجب وقوفه قال البغوي قال عبد الرحمن بن زيد بن اسلم كان أبى يقول إذا أعطيت رجلا شيئا و(1/694)
رايت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 375
وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ
(262) لعله لم يدخل الفاء فيه وقد تضمين المبتدأ معنى الشرط إيهاما بانهم أهل لذلك وان لم يفعلوا فكيف بهم إذا فعلوا.
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام حسن ورد جميل على السائل قال الكلبي دعاء صالح يدعو لأخيه بظهر الغيب وقال الضحاك نزل في إصلاح ذات البين وَمَغْفِرَةٌ أى تجاوز عن السائل الملح بالرد الجميل وقال البغوي أى يستر على السائل خلته ولا يهتك عنه ستره وقيل المراد به نيل مغفرة من اللّه بالرد الجميل - وقيل المراد مغفرة السائل المسئول عنه بان يعذره ويغتفر رده وقال الكلبي والضحاك والمراد بالمغفرة التجاوز عن من ظلمه خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً خبر عنهما وانما صح الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن انفاق بمن وإيذاء حَلِيمٌ (263) عن معاجلة من يمن ويؤذى بالعقوبة - .(1/695)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا أجور صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ على السائل وقال ابن عباس بالمن على اللّه وَالْأَذى أى بكل واحد منهما عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يدخل الجنة منان ولا عاق - رواه النسائي والدارمي كَالَّذِي الكاف في محل النصب على المصدر أو الحال أى ابطالا كابطال الذي أو مماثلين الذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ منصوب على السببية أو الحال أو المصدرية أى لان يرى الناس أو مرائيا أو إنفاقا رياء وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ليس هذا قيدا لابطال الصدقة فان الصدقة يبطل بالرياء وان كان المنفق مؤمنا باللّه واليوم الاخر لكن ذكر هذا تنبيها على ان الانفاق رياء ليس من شأن المؤمن بل هو من سيرة المنافق فَمَثَلُهُ أى المرائى كَمَثَلِ صَفْوانٍ حجرا ملس قيل هو واحد جمعه صفى وصفى وقيل جمع واحده صفواته عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس نقيّا من التراب لا يَقْدِرُونَ الضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى فان المراد به الجنس أو الجمع عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا أى لا يقدرون في الاخرة على الانتفاع بشيء ممّا كسبوا في الدنيا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) فيه تعريض بان الرياء والمن والأذى من صفات الكفار لا ينبغى لمؤمن ارتكابه أو المعنى انه من فعل من هذه الأمور
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 376(1/696)
شيئا فهو كافر لنعمة المنعم الحقيقي غير شاكر - عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى تركته وشركه - وفي رواية فانا منه بريء هو للذى عمله رواه مسلم - وعن جندب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سمع سمع اللّه به ومن يرائى يرائى اللّه به متفق عليه - وعن أبى سعيد بن أبى فضالة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال إذا جمع اللّه الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله للّه أحدا فليطلب ثوابه من عند غير اللّه فان اللّه اغنى الشركاء عن الشرك رواه احمد - وعن معاذ بن جبل قال سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ان يسار الرياء شرك الحديث رواه ابن ماجة - وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من صلى يرائى فقد أشرك ومن صام يرائى فقد أشرك ومن تصدق يرائى فقد أشرك رواه احمد - وعن محمود بن لبيد ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال انّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول اللّه وما الشرك الأصغر قال الرياء رواه احمد وزاد البيهقي في شعب الايمان يقول اللّه لهم يوم يجازى العباد بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء أو خيرا وعن شداد بن أوس قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول اتخوّف على أمتي الشرك والشهوة الخفية - قال قلت أ تشرك أمتك من بعدك قال نعم اما انهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم والشهوة الخفية ان يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه رواه احمد والبيهقي وعن أبى هريرة ان أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد - فاتى به فعرّفه نعمته فعرفها فقال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لان يقال جرىء فقد(1/697)
قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرا القرآن فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرات فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال انك عالم وقرات القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم امر به فسحب على وجهه حتى القى في النار ورجل وسّع اللّه عليه وأعطاه من اصناف المال كله فاتى به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب ان ينفق في سبيل اللّه الا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 377
ليقال هو جواد فقد قيل به ثم امر به فسحب على وجهه ثم القى في النار رواه مسلم وروى البغوي نحوه وفي آخره ثم ضرب رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم ركبتى فقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق اللّه تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة - .(1/698)
وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أى لطلب رضائه وَتَثْبِيتاً للاسلام وتصديقا بما وعده اللّه من الجزاء واحتسابا - ويحتمل ان يكون معناه تثبيتا للمال فان الباقي من المال ما ينفعه في الاخرة وما سوى ذلك هالك عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ايّكم مال وارثه أحب إليه من ماله - قالوا يا رسول اللّه ما منا أحد الا ماله أحب إليه من مال وارثه قال فان ماله ما قدم ومال وارثه ما اخر - رواه البخاري وعن عائشة قالت انهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ما بقي منها قالت ما بقي منها الا كتفها قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقي كلها غير كتفها رواه الترمذي وصححه مِنْ أَنْفُسِهِمْ من للابتداء متعلق بالتثبيت يعنى تثبيت الايمان والتصديق أو المال يبتدى من نفسه - أو للتبعيض ويكون ظرفا مستقرا صفة لمفعول محذوف أى تثبيتا شيئا من أنفسهم على الايمان فان للنفس قوى بعضها مبدأ لبذل المال وبعضها مبدأ لبذل الروح والمال شقيق الروح فمن بذل المال لوجه اللّه فقد ثبّت بعض نفسه على الايمان ومن بذل المال والروح جميعا فقد ثبت كل نفسه عليه قال البيضاوي فيه تنبيه على ان حكمة الانفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال قلت ومن ثم قال أبو حنيفة لا يجب الزكوة في مال الصبى حتى يؤديها الولي لان الحكمة فيها ابتلاء المكلف ببذل ما هو شقيق الروح ابتغاء مرضات اللّه تعالى وذا لا يحصل بأداء الولي كَمَثَلِ جَنَّةٍ أى بستان بِرَبْوَةٍ قرأ ابن عامر وعاصم هاهنا والى ربوة في سورة المؤمنين بفتح الراء والباقون بالضم وهما لغتان وهى المكان المرتفع المستوي الذي تجرى فيه الأنهار فلا يعلوه الماء ولا يعلوا عن الماء وانما قيد الجنة بهذه لان شجرها يكون احسن وازكى أَصابَها وابِلٌ مطر عظيم القطر فَآتَتْ اعطت أُكُلَها قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإسكان(1/699)
الكاف للتخفيف والباقون بالضم يعنى ثمرتها ضِعْفَيْنِ نصبه على الحال أى مضاعفا ومثلى ما كانت تثمر بلا وابل فالمراد بالضعف المثل كما أريد بالزوج
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 378
فى قوله تعالى زوجين اثنين وقيل اربعة أمثاله أى مضاعفا بتضعيفين فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أصابها أو فاصابها طل أتت أكلها على قدر وعلى كلا التقديرين إصابة الوابل وعدمه لا تضيع تلك الجنة أو المعنى فطل يكفيها لكرم منبتها وبرودة هوائها - والطل هو المطر صغير القطر - ومعنى الآية اما بتقدير المضاف يعنى مثل نفقات الذين ينفقون كمثل جنة فكما ان تلك الجنة لا يضيع كذلك نفقات المؤمن لا يبطل بل اما ان ينضم إليه امور توجب تضاعف الاجر فحينئذ تضاعفت الأجود إلى ما شاء اللّه تعالى أو لا فحينئذ لا يبطل اصل العمل ويوجب الاجر - واما بغير تقدير يعنى مثل المؤمن الذي ينفق كمثل جنة يعنى كما ان الجنة تثمر على حسب الوابل كذلك المؤمن المنفق يؤجر على حسب النفقة قل أو كثر لا يضيع منها شيء وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) هذه الجملة يتعلق بكلا الفريقين الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى أو ينفقون أموالهم رئاء الناس والذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللّه ففيه تحذير وترغيب.(1/700)
أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الهمزة للانكار وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جعل النخيل والأعناب بيانا للجنة مع ما فيها من سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما وكثرة منافعهما ثم ذكر ان فيها من كل الثمرات ليدل على عدم اقتصار الجنة عليهما وَأَصابَهُ الْكِبَرُ بحيث لا يقدر على الكسب والواو للحال بمعنى وقد أصابه الكبر أو للعطف حملا على المعنى بمعنى أ يود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ صغار أو نساء لا يقدرون على الكسب والواو للعطف على أصابه أو للحال من ضمير المفعول لاصابه فَأَصابَها إِعْصارٌ ريح عاصفة ترتفع إلى السماء كانها عمود عطف على أصابه أو على تكون باعتبار المعنى فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ والمعنى انه لا يود أحدكم ان يكون له مال جيد كما ذكر فيحترق في حال كمال حاجته إلى ذلك المال فيخيب ويتحسر ما دام حيّا في عالم الفناء فكيف يود أحدكم ان يبطل حسناته يوم القيامة في حال كمال حاجته إليها فيخيب ويتحسر ابدا في عالم البقاء قال عبيد بن عمير قال عمر رضى اللّه عنه لاصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ الآية قالوا اللّه اعلم فغضب عمر وقال قولوا نعلم اولا نعلم فقال ابن عباس في نفسى منها شيء قال عمر يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 379
قال ابن عباس ضربت مثلا لعمل قال عمر لرجل يعمل بطاعة اللّه بعث اللّه له شيطانا فعمل بالمعاصي حتى أغرق اعماله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) فيها فتعتبرون بها - .(1/701)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ جياد وقال ابن مسعود ومجاهد من حلالات ما كَسَبْتُمْ عن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يكسب عبد مال حرام فيتصدق منه فيقبل منه ولا ينفق منه فيبارك له فيه ولا يترك خلف ظهره الا كان زاده إلى النار لا يمحو السّيء بالسّيئ لكن يمحو السّيّء بالحسن ان الخبيث لا يمحو الخبيث رواه احمد - وهذه الآية سند للاجماع وحجة للجمهور على داود حيث قال لا يجب الزكوة الا فى الانعام أو النقود وعند الجمهور يجب في العروض والعقار أيضا إذا كان للتجارة وانما شرطوا بنية التجارة لان النمو شرط لوجوب الزكوة بالإجماع ولا نمو في العروض الا بنية التجارة - عن ابن عمر ليس في العروض زكوة الا ما كان للتجارة رواه الدارقطني وعن سمرة بن جندب كان يأمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان نخرج الزكوة مما نعد للبيع رواه أبو داود والدارقطني والبزار - وعن سليمان بن سمرة عن أبيه عند البزار وفي اسناده جهالة - ومما يدل على وجوب الزكوة في العروض ما روى عن حماس قال مررت على عمر بن الخطاب وعلى عنقى ادمة احملها فقال الا تودى زكاتك يا حماس فقال مالى غير هذا اوهب في القرط قال تلك مال ضعها فوضعها بين يديه فحسبها فوجدها قد وجبت الزكوة فيها فاخذ منها الزكوة رواه الشافعي واحمد وان أبى شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني - وعن أبى ذر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي البز صدقته قالها بالزاء المعجمة رواه الدارقطني بثلاثة طرق ضعاف مدار الطريقين على موسى بن عبيدة الزيدي قال احمد لا يحل الرواية عنه وفي الطريق الثالث عبد اللّه بن معاوية بن عاصم ضعفه النسائي وأنكره البخاري وفيه اب
حديث معاذ ورواه أبو داود و(1/702)
الواقعة فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ فان ابتدا بهذه التاءات خففن لا غير - وان كان قبلهن حرف مد كما في هذه الآية زيد في تمكينه والباقون بتخفيف في التاءات كلهن في الحالين الْخَبِيثَ مِنْهُ يعنى الردى تُنْفِقُونَ حال مقدرة من فاعل تيمّموا ويجوز ان يتعلق به منه ويكون الضمير للخبيث والجملة حالا منه - روى الحاكم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن البراء قال نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار كنا اصحب نخل فكان الرجل يأتى في نخله على قدر كثرته وقلته وكان من لا يرغب في الخير يأتى بالقنو فيه الشيص « 1 » والحشف « 2 » والقنو قد انكسر فتعلفه فنزلت - وروى أبو داود والنسائي والحاكم عن سهيل بن حنيف قال كان الناس يتممون ش؟؟ مارهم يخوجونها في الصدقة فنزلت - وروى الحاكم عن جابر قال امر النبي صلى اللّه عليه وسلم بزكوة الفطر بصاع من نمر فجاء بتمر روى فانزل اللّه تعالى هذه الآية - وروى ابن أبى حاتم عن ابن عباس قال كان اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يشترون الطعام الرخيص ويتصدقون فانزل اللّه تعالى هذه الآية وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أى وحالكم انكم لا تأخذون الخبيث الردى في حقوقكم لرداءته إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ الإغماض غضّ البصر المراد هاهنا المسامحة مجازا - يعنى لو كان لاحدكم على رجل حق فجاءه بهذا لم يأخذه الا وهو يرى انه قد ترك حقه - قال الحسن وقتادة لو وجدتموه يباع فى السوق ما أخذتموه بسعر الجيد - وروى عن البراء انه قال لو كان اهدى ذلك لكم ما أخذتموه
_________
(1) التمر الذي لا يشتد نواه وتقوى وقد لا يكون له نوى أصلا نهايه منه رح
(2) اليابس الفاسد من التمر وقيل الضعيف الذي لا قوى له أصلا نهايه منه نور اللّه مرقده
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 387(1/703)
الا استحياء من صاحبه وغيظا فكيف ترضون للّه ما لا ترضون لانفسكم - هذا إذا كان المال كله جيدا فليس له إعطاء الردى - وان كان كل ماله رديا فلا بأس بإعطاء الردى ولو كان بعضه جيدا وبعضه رديا فليعط من كل جنس بحصته وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن صدقاتكم انما يعود منفعتها إليكم حَمِيدٌ (267) محمود في أفعاله.(1/704)
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ والوعد يستعمل في الخير والشر لكن إذا لم يكن هناك قرينة يقال في الخير وعدته وفي الشر أوعدته - والفقر سوء الحال وقلة ذات اليد أصله من كسر الفقار - يعنى الشيطان يخوفكم بالفقر إذا تصدقتم وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أى المعصية وهى منع الزكوة أو ما يعم ذلك قال الكلبي كل فحشاء في القرآن فهو الزنى الا هذا وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ فى الانفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم وَفَضْلًا خلفا أفضل مما أنفقتم في الدارين أو في الاخرة وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل لمن أنفق عَلِيمٌ (268) عن أبى هريرة مرفوعا ما من يوم يصبح العباد فيه الا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الاخر اللهم أعط ممسكا تلفا - متفق عليه وعن اسماء قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انفقى ولا تحصى فيحصى اللّه عليك ولا توعى فيوعى اللّه عليك ارضحى ما استطعت - متفق عليه - وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هم الأخسرون ورب الكعبة قلت ومن هم قال هم الأكثرون أموالا الا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم - متفق عليه - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السخي قريب من اللّه قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار والبخيل بعيد من اللّه بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار وجاهل سخى أحب إلى اللّه من عابد بخيل - رواه الترمذي - وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السخا شجرة في الجنة فمن كان سخيا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله الجنة والشح شجرة في النار فمن كان شحيحا أخذ بغصن منها فلم يتركه الغصن حتى يدخله النار ... رواه البيهقي وعن عليّ مرفوعا بادروا بالصدقة فان البلاء لا يتخطاها - رواه رزين.(1/705)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أى العلم النافع على ما هو في نفس الأمر الموصل إلى رضاء اللّه تعالى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 388
و العمل به وذلك لا يتصور الا بالوحى فهو للانبياء أصالة ولغيرهم وراثة - أخرج ابن مردوية من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا قال الحكمة القرآن قال ابن عباس يعنى تفسيره فانه قد قراه البر والفاجر مَنْ يَشاءُ مفعول أول اخّر للاهتمام بالمفعول الثاني ولذلك بنى الفعل للمفعول لأنه هو المقصود في قوله تعالى وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فى قراءة الجمهور وقرا يعقوب بالكسر أى من يؤتيه اللّه الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً التنكير للتعظيم أى خيرا كثيرا يجمع خير الدارين - عن معاوية قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يرد اللّه به خيرا يفقهه في الدين وانما انا قاسم واللّه يعطى - متفق عليه وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا مات الإنسان انقطع عمله الا من ثلاثة صدقة جارية - أو علم ينتفع به - أو ولد صالح يدعوله - رواه مسلم وعن أبى مسعود الأنصاري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من دل على خير فله اجر مثل اجر فاعله - رواه مسلم وعن أبى الدرداء قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء وان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وانما ورثوا العلم فمن اخذه أخذ بحظ وافر رواه احمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة والدارمي - وعن أبى امامة الباهلي قال ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والاخر عالم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضل العالم على العابد كفضلى على أدناكم - ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه وملائكته واهل السموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت في الماء ليصلّون على معلم النّاس الخير - رواه(1/706)
الترمذي وَما يَذَّكَّرُ أى يتعظ بما قص اللّه عليه من الآيات في الانفاق وغيره ويتفكر فيما أودع اللّه تعالى في قلبه من العلوم بالفعل أو بالقوة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (269) أى ذووا العقول السليمة عن معارضة الوهم وخطرات الشيطان - قلت وذلك بعد الفناء الأتم للنفس - .
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة في سر أو علانية في حق أو باطل أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ أى ما أوجبتم للّه تعالى على أنفسكم من الطاعات بشرط أو غير شرط فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ فيجازيكم عليه - الضمير عائد إلى ما وَما لِلظَّالِمِينَ الذين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 389
لا ينفقون في سبيل اللّه ولا يوفون بالنذور أو ينفقون رياء أو في معصية مِنْ أَنْصارٍ (270) ينصرونهم ويدفعون عذاب اللّه عنهم.(1/707)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أى تظهروها « 1 » لا على قصد الرياء فَنِعِمَّا هِيَ أى فنعم شيئا ابداؤها - قرأ ابن كثير وورش وحفص هنا وفي النساء بكسر النون والعين - وقالون وأبو بكر وأبو عمرو بكسر النون وإخفاء حركة العين ويجوز إسكانها والباقون بفتح النون وكسر العين وكلها لغات صحيحة وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ مع الإخفاء فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأفضل من الصدقة العلانية عن أبى امامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة السّر تطفئ غضب الرب وصلة الرحم تزيد في العمر - رواه الطبراني بسند حسن - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظل الا ظله امام عادل - وشاب نشأ في عبادة اللّه - ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه - ورجلان تحابا في اللّه عز وجل اجتمعا على ذلك وتفرقا - ورجل ذكر اللّه خاليا ففاضت عيناه - ورجل دعته امراة ذات حسب وجمال فقال انى أخاف اللّه تعالى - ورجل تصدق بصدقة فاخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه - متفق عليه وعن ابن مسعود يرفعه قال ثلاثة يحبهم اللّه رجل قام من الليل يتلو كتاب اللّه - ورجل تصدق بصدقة بيمينه يخفيها (أراه قال) من شماله ورجل كان في سرية فانهزم أصحابه فاستقبل العدو - رواه الترمذي - وعن أبى ذر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثة يحبهم اللّه وثلاثة يبغضهم « 2 » اللّه فاما الذين يحبهم اللّه فرجل اتى قوما فسالهم باللّه لم يسئلهم لقرابة بينه وبينهم فمنعوه فتخلف رجل بأعيانهم فاعطاه سرا لا يعلم عطيته الا اللّه والذي أعطاه وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به فوضعوا رؤسهم فقام يتملقنى ويتلوا آياتي ورجل كان في سرية فلقى العدو فهزموا فاقبل بصدر حتى يقتل أو يفتح له - والثلاثة الذي يبغضهم الشيخ الزاني والفقير المختال والغنى الظلوم - رواه(1/708)
الترمذي والنسائي وَيُكَفِّرُ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالنون على صيغة المتكلم المعلوم والرفع وقرا حفص وابن عامر بالياء على صيغة الغائب والرفع على انه جملة فعلية مبتدئة أو اسمية معطوفة
_________
(1) عن الشعبي قال نزلت هذه الآية ان تبدوا الصّدقت فنعمّا هى الآية في أبى بكر الصديق وعمر جاء عمر بنصف ماله يحمله إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على رءوس الناس وجاء أبو بكر بماله اجمع يكاد ان يخفيه من نفسه فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - ما تركت لاهلك - قال عدة اللّه وعدة رسوله فقال عمر لابى بكر ما استبقنا إلى باب خير قط الا سبقتنا إليه منه رحمه اللّه
(2) فى الأصل يبغضهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 390
على ما بعد الفاء أى ونحن نكفر أو اللّه يكفر أو يكفر اللّه - وقرا نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم على انه معطوف على محل الفاء لان موضعها موضع الجزم بالجزاء عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قيل من زائدة وقيل هو للتبعيض أى يكفر الصغائر من الذنوب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم صدقة السر تطفى الذنب - رواه الطبراني في الصغير من حديث أبى سعيد وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) ترغيب في الاسرار روى النسائي والطبراني والبزار والحاكم وغيرهم عن ابن عباس قال كانوا يكرهون ان يرضحوا لانسابهم من المشركين فسالوا فرخص لهم فنزلت ليس عليك هدهم - وكذا روى ابن أبى شيبة عن محمد بن حنفية مرسلا واخرج ابن أبى حاتم عنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يأمر ان لا يتصدق الا على أهل الإسلام فنزلت - .(1/709)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ فامر بالصدقة على كل انسان من كل دين - وكذا ذكر البغوي قول سعيد بن جبير وروى ابن أبى شيبة مرسلا عن سعيد بن جبير قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا تصدقوا الأعلى أهل دينكم فانزل اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ الآية فقال عليه الصلاة والسلام تصدقوا على أهل الأديان كلها - يعنى لا يجب عليك ان تجعل الناس مهديين حيث تمنعهم من الصدقة ليدخلوا في الإسلام لحاجة منهم إليهم - وذكر البغوي قول الكلبي في سبب نزوله ان ناسا من المسلمين كانت لهم قرابة واصهار في اليهود وكانوا ينفقونهم قبل ان يسلموا فلما اسلموا كرهوا ان ينفقوهم وارادوهم على ان يسلموا وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي أى يجعل مهديا مَنْ يَشاءُ فان الهداية من اللّه تعالى وبمشيته وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من نفقة معروفة أو المراد بالخير المال فَلِأَنْفُسِكُمْ يعنى يعود نفعها إلى أنفسكم فلا تمنوا به على الفقير ولا تنفقوا الخبيث وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ الواو للحال من فاعل تنفقوا يعنى ما تنفقوا من خير غير منفقين الا ابتغاء وجه اللّه فهو لا نفسكم - أو هو عطف على ما قبله يعنى ليس نفقتكم أيها المؤمنون الا ابتغاء وجه اللّه فما لكم تمتون بها على الفقير أو تنفقون الخبيث فهو اخبار عن حال للمؤمنين يقتضى ذلك الحال ترك المن ونحو ذلك أو هو نفى لفظا ونهى معنى يعنى لا تنفقوا الا ابتغاء وجه اللّه - وهذا يقتضى تحريم الانفاق إذا لم يكن فيه ابتغاء وجه اللّه فانه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 391(1/710)
اضافة المال وذلك حرام وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفر لكم ثواب أضعافا مضاعفة ولما كان فيه معنى الأداء عدى بالى - أو المعنى ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ خلفه استجابة لقول الملك اللهم أعط منفقا خلفا كما مر - ذكر بين الجمل الثلاث حرف العطف مع ان الظاهر ان هذه الشرطية تأكيد للشرطية السابقة فينبغى ان لا يعطف - لأنه ليس المقصود به التأكيد فقط بل أريد به إيراد دليل بعد دليل على قبح المن والأذى فان الجملة الاولى تدل على ان المنة على الغير بما فيه منفعة لكم قبيح - والثانية على ان المنة على الفقير بالذي يبتغون به وجه اللّه طلب عوض من غير من هو له والثالثة بانه منة على الغير بما تأخذون العوض منه أضعافا مضاعفا ولا مفة فيما يؤخذ منه العوض مرة كالبيع وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) أى لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا - وهذا في صدقة التطوع يجوز ان يعطى الذمي منها - واما الصدقة المفروضة فلا يجوز وضعها الا في المسلمين - واختلفوا في صدقة الفطر والكفارات والنذور فقال أبو حنيفة يجوز دفعها إلى الذمي لعموم قوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وانما لم يجز دفع الزكوة إليه لحديث بعث معاذ إلى اليمن وفيه قد فرض اللّه عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم - متفق عليه من حديث ابن عباس قال صاحب الهداية هو حديث مشهور جازبه الزيادة على اطلاق الكتاب وقال ابن همام الآية عام خص منه الحربي بالإجماع مستندين إلى قوله تعالى إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ - الآية فجاز تخصيصه بعد بخبر الواحد.(1/711)
لِلْفُقَراءِ الظرف اما لغو متعلق بقوله ما تُنْفِقُوا يعنى ما تنفقوا من خير للفقراء فهو لانفسكم يؤف إليكم أو هو متعلق بفعل محذوف دل عليه ما سبق يعنى اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء - أو هو ظرف مستقر خبر مبتدأ مقدر قبله يعنى صدقاتكم للفقراء أو مقدر بعده يعنى للفقراء الذين أحصروا حق عليكم الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى تحصيل العلوم الظاهرة والباطنة والجهاد لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم بالعلم والجهاد ضَرْباً ذهابا فِي الْأَرْضِ للكسب والتجارة يَحْسَبُهُمُ قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين في المضارع على وزن يسمع وقرا الآخرون
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 392(1/712)
بالكسر وهو شاذ في غير المثال الْجاهِلُ بحالهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أى من أجل تعففهم من السؤال - والتعفف تفعل من العفة وهو ترك السؤال تكلفا لقناعتهم تَعْرِفُهُمْ يعنى تعرف أيها النبي حاجتهم وفقرهم بِسِيماهُمْ لا بقولهم والسيماء العلامة التي يعرف بها الشيء - يعنى بصفرة ألوانهم من الجوع والضرّ ورثاثة ثيابهم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إلحاحا وهو ان يلازم المسئول منه حتى يعطيه - والمعنى انهم لا يسئلون غالبا ولاجل هذا يحسبهم الجاهل بحالهم اغنياء وتعرف حاجتهم بسيماهم وان سالوا عن ضرورة أحيانا لم يلحفوا وقيل هو نفى لمطلق السؤال يعنى لا يسئلون أصلا « 1 » فيقع فيه الالحاف - منصوب على المصدر فانه كنوع من السؤال - أو على الحال أى ملحفين - أخرج ابن المنذر عن ابن عباس هم أهل الصّفة كانوا نحوا من اربعمائة رجل من فقراء المهاجرين لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر يسكنون صفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والعبادة وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - فحث اللّه تعالى عليهم الناس فكان من عنده فضل أتاهم به إذا امسى - عن عطاء بن يسهار عن رجل من بنى اسد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال منكم وله وقية أو عدلها فقد سال إلحافا - رواه مالك وأبو داود والنسائي وعن الزبير بن العوام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لان يأخذ أحدكم حبله فيأتى بحزمة حطب على ظهره فيكف اللّه بها وجهه خير له من ان يسئل الناس أعطوه أو منعوه - رواه البخاري - وعن ابن عمر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة اليد العليا خير من اليد السفلى - متفق عليه وعن ابن مسعود قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسئلته في وجهه خموش « 2 » أو خدوش أو كدوح - قيل يا رسول(1/713)
اللّه وما يغنيه قال خمسون درهما أو قيمتها من الذهب - رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وعن سهل بن حنظلة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سال وعنده
_________
(1) أخرج احمد عن ابن أبى مليكة قال - ربما سقط الحطام من يد أبى بكر الصديق فضرب بذراع ناقته فينحها فيأخذه فقالوا له فلا امرتنا نتناولكه فقال ان حبيبى صلى اللّه عليه وسلم امرني ان لا اسئل الناس شيئا - منه رحمه اللّه تعالى
(2) خموش الخدوش نهاية خدوش جمع خدش وخدش الجلد قشره بعود أو نحوه نهاية الكدوح الخدش وكل اثر من خدش أو عض فهو كدح - نهاية منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 393
ما يغنيه فانما يستكثر من النار « 1 » - قال النفيلى وهو أحد رواته وما الغنى الذي لا ينبغى معه المسألة قال قدر ما يغديه ويغشيه وقال في موضع اخر ان يكون له شبع يوم أو ليلة ويوم - رواه أبو داود قلت والجمع بين هذه الأحاديث الواردة في نصاب حرمة السؤال الحمل على اختلاف احوال الرجال فمن كان عنده شبع يوم وليلة وكان يرجو تيسر شبع الغد في الغد لا يحل له المسألة ومن كان لا يرجو ذلك يجوز له السؤال حتى يحصل عنده ما يكفى لمدة يتيسر له ما يحتاج إليه غالبا ومن كان له شبع ولا يكون عنده ما يستر به عورته أو ما يسد به خلته يجوز له سوال ما يحتاج إليه وأربعون درهما نصاب لحرمة السؤال مطلقا واللّه اعلم وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) وعليه مجاز ترغيب في الانفاق خصوصا على مثل هؤلاء.(1/714)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً يعنى في جميع الأوقات والأحوال كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا في قضائها ولم يؤخروه ولم يعللوا بوقت ولا حال - أخرج ابن المنذر عن ابن المسيب انها نزلت في عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان في نفقتهم في جيش العسرة - واخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال نزلت في على بن أبى طالب كانت معه اربعة دراهم فانفق باليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما - وذكر البغوي عن الضحاك عن ابن عباس قال لما نزلت لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا الآية بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير كثيرة إلى اصحاب الصفة وبعث على بن أبى طالب في جوف الليل بوسق من تمر فانزل اللّه تعالى فيهما عنى بالنهار علانية صدقة عبد الرحمن وبالليل سرا صدقة على - وذكر البغوي انه قال أبو امامة وأبو الدرداء ومكحول والأوزاعي انها نزلت في الذين يرتبطون الخيل للجهاد فانها تعتلف ليلا ونهارا سرا وعلانية وكذا أخرج الطبراني وابن أبى حاتم عن يزيد بن عبد اللّه بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ويزيد وأبوه مجهولان - وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه
_________
((1/715)
1) أخرج احمد وأبو يعلى عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اما واللّه ان أحدكم ليخرج بمسئلته من عندى تبا بطنها نارا قال عمر يا رسول اللّه لم تعطها إياهم قال فما اصنع يأبون الا مسئلتى ويأبى اللّه لى البخل وفي الصحيحين عن ابن عمر ان عمر قال كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يعطنى العطاء فاقول أعطه من هو أفقر إليه منى فقال خذه إذ جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه فتقبله ان شئت كله وان شئت تصدق به وما لا فلا تتبعه نفسك قال سالم بن عبد اللّه فلا جل ذلك كان عبد اللّه لا يسئل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه - منه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 394
صلى اللّه عليه وسلم من احتبس فرسا في سبيل اللّه إيمانا باللّه وتصديقا بوعده فان شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة - رواه البخاري فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ خبر لقوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ وحينئذ الفاء للسببية وقيل قوله تعالى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلى آخره مبتدأ خبره محذوف أى منهم الّذين ينفقون وحينئذ الفاء لعطف الجملة على الجملة وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274).(1/716)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة وزيدت الالف بعدها تشبيها بواو الجمع لا يَقُومُونَ من قبورهم كذا أخرج عبد الرزاق في تفسيره عن عبد اللّه بن سلام إِلَّا كَما يَقُومُ أى قياما كقيام الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ يعنى الجن والخبط الضرب الشديد والإفساد - فى القاموس خبط الشيطان فلانا مسّه بأذى كتخبطه أو يتخبطه يفسده مِنَ الْمَسِّ أى الجنون أو اللمس متعلق بيقوم أو بيتخبط أى لا يقومون الا كما يقوم من الجنون الذي مسّه الشيطان بأذى وأفسد عقله أو الا كقيام الذي يفسده الشيطان من اللمس يعنى عرضه الجنون وفساد العقل بمس الشيطان وخبطه والمرض والصرع والجنون قد يحصل بمس الشيطان فلا يحتاج ذلك إلى ما قيل انه وارد على ما يزعمون ان الشيطان يخبط الإنسان فان حدوث المرض بمس الشيطان ثابت بالكتاب والسنة قال اللّه تعالى في قصة أيوب عليه السلام ربّ انّى مسّنى الشّيطن بنصب وعذاب وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المستحاضة ركضة من ركضات الشيطان وقيام أكلة الربوا هكذا لاجل ان اللّه تعالى يربى ما في بطونهم ما أكلوه من الربوا فيكون بطونهم كالبيوت فيها حيات فاثقلهم - عن أبى سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في قصة الاسراء قال فانطلق بي جبرئيل إلى رجال كثيرة كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم متصدين على ساهلة ال فرعون يعرضون على النار غدوا وعشيا قال فيقبلون مثل الإبل المنهومة يخبطون الحجارة والشجر لا يسمعون ولا يعقلون فإذا أحس بهم اصحاب تلك البطون قاموا فتميل بهم بطونهم فيصرعون ثم يقوم أحدهم فتميل به بطنه فيصرع فلا يستطيعون ان يبرحوا حتى يغشاهم إلى فرعون فيترددونهم مقبلين ومدبرين فذالك عذابهم في البرزخ
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 395(1/717)
بين الدنيا والاخرة قال وال فرعون يقولون اللهم لا تقم الساعة ابدا قال ويوم القيامة يقول ادخلوا ال فرعون أشدّ العذاب - قلت يا جبرئيل من هؤلاء قال هؤلاء الّذين يأكلون الرّبوا لا يقومون الّا كما يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطن من المسّ - رواه البغوي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أتيت ليلة اسرى بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل قال هؤلاء أكلة الربوا - رواه احمد وابن ماجة - واخرج أبو يعلى عن ابن عباس في هذه الآية قال يعرفون يوم القيامة بذلك لا يستطيعون القيام الا كما يقوم المتخبط المخفق - واخرج ابن أبى حاتم بسند صحيح عنه قال أكل الربوا يبعث يوم القيامة مجنونا يخفق - والطبراني عن عوف بن مالك عنه صلى اللّه عليه وسلم نحوه - بلفظ مجنونا يتخبط - ويحتمل ان يقال في تأويل الآية انهم لا يقومون من مجلس يأكلون فيه مال الربوا الا كما يقوم المجنون بمعنى ان أكل الربوا يسود به قلبه بمجرد الاكل فلا يميز بعد ذلك بين الحق والباطل والحلال والحرام كما لا يميز المجنون بين الخير والشر فان لقمة الحرام يصير جزء من بدنه فيتغير به حقيقته بخلاف غير ذلك من المعاصي فانها كالاعراض الزائدة على الحقيقة ومن ثم لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكل الربوا وجعله أشد من الزنى عن جابر وابن مسعود عند مسلم - وعن أبى جحيفة عند البخاري قال - لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكل الربوا ومؤكله - وزاد أبو داود والترمذي عن ابن مسعود ومسلم عن جابر - وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء - وعن عليّ نحوه رواه النسائي وفيه مانع الصدقة مكان شاهديه - وعن عبد اللّه بن حنظلة غسيل الملائكة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم درهم ربوا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ستة وثلاثين زنية - رواه احمد والدارقطني وعن انس نحوه رواه ابن أبى الدنيا - وعن ابن عباس(1/718)
نحوه وزاد من نبت لحمه بالسحت فالنار اولى به - رواه البيهقي وعن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الربوا سبعون حوبا أيسرها ان ينكح الرجل امه - رواه ابن ماجة والبيهقي والحوب الإثم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أى ذلك العقاب بسبب كفرهم واستحلالهم الحرام وهذا يدل على ان هذا العقاب مخصوص بالكفار دون من ارتكبه من المؤمنين معترفا بتقصيره - أو يكون ذلك اشارة إلى تأبيد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 396
هذا العذاب المستفاد من قوله تعالى لا يَقُومُونَ إِلَّا كذلك(1/719)
فانه نفى داخل على مصدر منكر في زمان منكر من الازمنة المستقبلة والنكرة في حيز النفي تفيد العموم - فمعناه ان تأبيد هذا العذاب مخصوص بالكفار واما من ارتكبه من المؤمنين فقد يلحقه ذلك العذاب إلى ان يتداركه شفاعة من نبيه أو رحمة من ربه وكلمة لا الله الا اللّه محمد رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - وكان الأصل - انما الربوا مثل البيع لكن عكس للمبالغة في نفى تحريم الربوا كانهم جعلوا أصلا في الحل وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ قال فخر الإسلام البيع لغة مبادلة المال بالمال وكذا في الشرع لكن زيد فيه قيد التراضي - والصحيح ان التراضي مأخوذ في المعنى اللغوي أيضا فانه ما لا يكون بالتراضي يطلق عليه في اللغة اسم الغصب دون البيع - والمبادلة بالاختيار والتراضي لا بد فيه من التميز ومن ثم انعقد الإجماع على انه لا يصح بيع المجنون والصبى الذي لا يعقل - واختلفوا في بيع الصبى العاقل فقال مالك والشافعي لا يصح لقصور عقله - وقال أبو حنيفة واحمد يصح لكن يشترط انضمام رأى الولي لدفع ضرر عنه متوقع من قصور عقله وهذا الاشتراط ثابت بالشرع قال اللّه تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وقال اللّه تعالى وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ - وذلك المبادلة إنشاء امر يحصل بالإيجاب والقبول بلفظي ماض نحو بعت واشتريت فان الشرع وضع تلك الألفاظ لذلك الإنشاء - ويقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول عند أبى حنيفة ومالك رحمهما اللّه تعالى وهو رواية عن الشافعي واحمد - وقال الكرخي انما ينعقد بالتعاطى في الخسيس دون النفيس وبه قال احمد والراجح من مذهب الشافعي انه لا ينعقد بالتعاطى - قلنا التعاطي يدل على التراضي كالقول وهو المقصود قال اللّه تعالى إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ - ويشترط في المباشر من(1/720)
ولاية شرعية كائنة من ملك أو وكالة أو وصية أو قرابة أو غير ذلك (مسئلة) واختلفوا في بيع الفضولي فقال أبو حنيفة ومالك الاجازة اللاحقة كالوكالة السابقة فيصح بيعه ويتوقف على اجازة المالك - وكذلك شراء الفضولي عندهما يتوقف على اجازة المشترى له إذا أضاف الفضولي العقد إلى المشترى له بان قال بع عبدك لزيد فقال بعت فقال الفضولي اشتريت لزيد - واما إذا لم يضف ينفذ على العاقد وبه قال الشافعي
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 397(1/721)
فى القديم والراجح من مذهب الشافعي انه لا يصح - وعن احمد كالروايتين - احتج الشافعي بقوله صلى اللّه عليه وسلم لحكيم بن حزام لا تبع ما ليس عندك وما رواه ابن الجوزي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل بيع ما ليس عندك ولا ربح ما لم يضمن - قلنا المراد به البيع الذي تجرى فيه المطالبة من الجانبين وهو النافذ فالمنهى عنه بيع شيء معدوم عنده وقت البيع ثم يشتريه فيسلمه المشترى - يفيد هذا المراد سياق قصة حديث حكيم حيث قال حكيم يا رسول اللّه ان الرجل يأتينى فيطلب منى سعة ليست عندى فابيعها منه ثم ادخل السوق فاشتريها فاسلمها قال عليه السلام - لا تبع ما ليس عندك - رواه احمد واصحاب السنن وابن حبان فى صحيحه من حديث يوسف بن ماهك عن حكيم ووقع التصريح عن يوسف انه حدثه حكيم وادخل فى بعض الطرق عبد اللّه بن عصمة بين يوسف وحكيم وزعم عبد الحق ان عبد اللّه ضعيف جدا ونقل عن ابن حزم انه مجهول - قال ابن حجر هذا جرح مردود وقد روى عنه الثلاثة واحتج به النسائي - وقال الترمذي حسن صحيح ولنا حديث عروة البارقي ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دفع دينار إليه ليشترى به شاة فاشترى شاتين وباع أحدهما بدينار وجاء بشاة ودينار فقال بارك اللّه لك في صفقة يمينك فكان لو اشترى ترابا ربح فيه - رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني وفي اسناده سعيد بن زيد ضعفه القطان والدارقطني ووثقه ابن معين - واخرج عنه مسلم في صحيحه وفيه أبو لبيد لمازة بن زياد قيل انه مجهول لكن وثقه ابن سعد واثنى عليه احمد وقال المنذرى والنووي اسناده حسن صحيح ورواه الشافعي والكرخي بسند اخر عن ابن عيينة عن شبيب بن عرفدة سمعه من قومه عن عروة البارقي - وقال الشافعي ان صح قلت(1/722)
به قال البيهقي انما ضعفه الشافعي لان قومه غير معروف فهو مرسل كذا قال الخطابي - وروى الكرخي بسند اخر عن شبيب بن عرفدة أخبرنا الحسن عن عروة البارقي فذهب الإرسال واتصل وأيضا المرسل عندنا حجة وقد اعتضد بمسند ذكرنا قبله عن أبى لبيد عن عروة - وروى الترمذي من طريق حبيب بن أبى ثابت عن حكيم ابن حزام ان النبي صلى اللّه عليه وسلم دفع إليه دينارا ليشتري أضحية فاشترى شاة ثم باعها بدينارين ثم اشترى شاة بدينار فجاء بالشاة والدينار إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فاخبره بذلك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بارك اللّه في صفقتك فاما الشاة فضحى بها واما الدينار
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 398(1/723)
فتصدق - قال الترمذي لا يعرف هذا الحديث الا من هذا الوجه وحبيب لم يسمع عندى من حكيم وروى أبو داود من طريق شيخ من أهل المدينة عن حكيم قال البيهقي ضعيف من أجل هذا الشيخ واللّه اعلم وإذا ظهر لك ان البيع هو مبادلة مال بمال والمال ينقسم إلى قسمين ما هو مقصود بذاته فيقصد به صورته وماليته وهو العين - وما هو غير مقصود بذاته بل هو وسيلة لتحصيل غيره خلقه وهو النقدين - فالبيع ينقسم إلى اربعة اقسام بيع العين بالنقد وهو البيع المطلق حيث ينصرف الذهن عند الإطلاق إليه فالعين هو المبيع والنقد هو الثمن ويشترط فيه وجود المبيع وتعيينه عند العقد اجماعا لأنه هو المقصود بذاته ويقصد صورته وماليته ويدل على اشتراط كونه موجودا « 1 » حديث حكيم بن حزام وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المذكورين وحديث ابن عمر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم تهى عن بيع الكالى بالكالئ - رواه الدارقطني - ولا يشترط فيه وجود الثمن ولا تعيينه بل يثبت في الذمة لأنه غير مقصود بذاته ولا يقصد صورته - وكان القياس ان يشترط وجوده لان المعدوم ليس بمال لكن الشرع أبطل هذا الشرط دفعا للحرج واعتبر وجوده في الذمة لكن يشترط ان يكون الثمن معروفة الجنس والقدر والصفة والاجل ان كان مؤجلا كيلا يفضى إلى المنازعة وهى يمنع الجواز - عن عائشة رضى اللّه عنها قالت اشترى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يهودى طعاما إلى أجل ورهنه درعا له من حديد - متفق عليه وعنها قالت توفى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودى بثلاثين صاعا من شعير - رواه البخاري وكذا روى احمد والترمذي عن ابن عباس وقال الترمذي هذا حديث صحيح وانعقد الإجماع على اشتراط تعيين المبيع دون الثمن وكون الثمن معروفا - والقسم الثاني بيع العين بالعين ويسمى مقائضة فكل واحد من البدلين هاهنا مبيع يشترط فيه ما يشترط في المبيع اجماعا ان كان البدلان « 2 » من ذوات القيم(1/724)
و ان كان أحدهما من ذوات الأمثال والاخر من ذوات القيم تعين هذا المبيع وذلك للثمن لان الثمن لا يشترط وجوده فيكون في الذمة ولا يتصور الوجود في الذمة الا ما يحيط الذهن بقدره ووصفه - وان كانا من ذوات الأمثال فعلى قول علماء الحنفية يجب وجود أحدهما وتعيينه فيكون ذلك مبيعا وما كان
_________
(1) فى الأصل موجود
(2) فى الأصل البدلين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 399(1/725)
فى الذمة يكون ثمنا - وعلى ما ارى يجب وجودهما وتعيينهما معا لعدم ترجيح أحدهما على الاخر فى كونه مبيعا ولقوله عليه السلام إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد - وفي رواية عينا بعين - وعليه يحمل رواية يدا بيد - والقسم الثالث بيع النقد بالنقد ويسمى صرفا - ولما انتفى فيه المبيع ولا وجه لجعل أحدهما مبيعا والاخر ثمنا اعطى هاهنا أيضا كلا البدلين حكم المبيع ويجب وجودهما وتعيينهما في المجلس بل يجب قبضهما أيضا في المجلس لان النقدين لا يتعينان بالتعيين بل بالقبض - والقسم الرابع السلم وهو ضد البيع المطلق وهو ان يكون المبيع معدوما والثمن موجودا - وكان القياس ان لا يجوز هذا العقد لما ذكرنا لكن الشرع اباحه لدفع حاجة المساكين واعطى للثمن حكم المبيع واشترط في جانب المبيع شرائط وسنذكر هذه المسألة في تفسير اية المداينة ان شاء اللّه تعالى - وإذا تقرر ان البيع لا يكون الا مبادلة مال بمال ظهر ان بيع الميتة والدم والخمر والخنزير وكذا أكل ما ليس بمال أو أبطل الشرع ماليته باطل لفقد ان معنى البيع - وكذا بيع ثوب ونحوه بتلك الأشياء خلافا لابى حنيفة فى بيع الثوب بالخمر والخنزير فانه قال فاسد حيث يملك المشترى عنده الثوب بالقبض ويجب عليه القيمة ولكل واحد منهما حق الفسخ دفعا للاثم وَحَرَّمَ الرِّبا الربوا في اللغة الزيادة قال اللّه تعالى ويربى الصّدقت والمعنى ان اللّه تعالى حرم الزيادة في القرض على القدر المدفوع والزيادة في البيع لاحد البدلين على الاخر - قال جمهور العلماء هذا مجمل طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في الجملة قال اللّه تعالى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فالمحرم انما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك الا من قبل الشارع فهو مجمل وما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحرمة الربوا في الأشياء الستة التحقه بيانا عن عبادة بن(1/726)
الصامت قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد - رواه مسلم وفي رواية لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلى اخر الستة الأسواء بسواء عينا بعين يدا بيد لكن تبيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 400(1/727)
و الشعير بالبر والتمر بالملح والملح بالتمر يدا بيد كيف شئتم نقص أحدهما الملح أو التمر أو زاد أحدهما من زاد أو ازداد فقد اربى - رواه الشافعي - وروى مسلم عن أبى سعيد الخدري كما روى عن عبادة وزاد في آخره فمن زاد أو استزاد فقد اربى الاخذ والمعطى فيه سواء - وفي رواية عنه - لا تبيعوا الذهب بالذهب الا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق الا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ولا تبيعوا غائبا منها بناجز - متفق عليه - وفي رواية - لا تبيعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق الا وزنا بوزن - وفي الباب عن عمر في الستة وعن على في المستدرك وعن أبى هريرة في مسلم - وعن انس في الدارقطني وعن أبى بكر في الصحيحين وعن بلال في البزار وعن ابن عمر في البيهقي فقال اصحاب الظواهر وابن عقيل من الحنابلة ان حرمة الربوا مقتصرة في هذه الأشياء الستة وهو المروي عن قتادة وطاءوس وعند الجمهور حكم الحرمة معلول وصف في هذه الأشياء يتعدى منها إلى غيرها فذهب قوم إلى ان العلة في الجميع امر واحد وهو المالية فاثبتوا الربوا في جميع الأموال - وذهب الأكثرون إلى ان الربوا نثبت في النقدين بوصف وفي الاربعة بوصف اخر - اما النقدين فقال الشافعي ومالك العلة فيهما الثمنية فلا يتعدى الحكم عنهما إلى غيرهما - وقال أبو حنيفة واحمد العلة فيهما الوزن فيتعدى منهما إلى الحديد والرصاص والزعفران وكل موزون واما الاربعة فقال أبو حنيفة العلة فيها الكيل مع الجنس فيثبت الربوا في كل مكيل يباع بجنسه مطعوم وغير مطعوم - وبه قال احمد وفي رواية عنه الطعم مع الجنس وقال مالك - الاقتيات مع الجنس - وقال الشافعي في القديم الطعم مع الكيل أو الوزن فكل مطعوم مكيل او(1/728)
موزون يثبت فيه لا فيما ليس بمكيل ولا موزون كالبيض وفي الجديد علة الربوا عنده الطعم مع الجنس فيثبت الربوا في جميع المطعومات من الثمار والفواكه والبقول والادوية - وجه قول مالك والشافعي في كون العلة هو الثمنية والطعم أو الاقتيات ان اشتراط التقابض والتماثل في هذه الأموال يشعر بالعزة والخطر كاشتراط الشهادة فى النكاح لاظهار خطر البضع فوجب تعليلها بعلة يوجب العزو في الطعم بل في الاقتيات ذلك لتعلق بقاء النفوس به وفي الثمنية التي بها يتوصل إلى جميع المقاصد اولى ان يعتبر العز والخطر ولا اثر للجنسية والكيل والوزن في ذلك فجعلناه شرطا والحكم قد يدور مع الشرط كالرجم مع الإحصان
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 401(1/729)
و أيضا يدل على كون الطعم علة حديث معمر بن عبد اللّه مرفوعا الطعام بالطعام مثلا بمثل - رواه مسلم فان ترتب الحكم على المشتق يدل على علية ماخذ الاشتقاق - والجواب انه لا بد في التعليل من كون العلة مناسبا - والترتيب على المشتق أيضا انما يدل على علية المأخذ بشرط المناسبة - والمناسبة هاهنا مفقودة لان ما به بقاء النفوس يشتد به الحاجة وما يشتد به « 1 » الحاجة يجرى فيه من اللّه تعالى التوسعة كالماء والكلاء ولا يناسب به التضيق - وأيضا كون الطعام اسما مشتقا ممنوع بل هو اسم لبعض الأعيان كالبر والشعير لا يعرف به المخاطبون غيره من المطعومات كالقمر مع انه غالب مأكولاتهم ووجه قول أبى حنيفة في كون العلة الكيل أو الوزن ان الحكمة في تحريم الربوا صيانة اموال الناس عن التوى ولاجل ذلك الصيانة وضع الكيل والوزن وامر اللّه تعالى بالعدل فيهما وقال وزنوا بالقسطاس المستقيم وقال وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ وقد حرم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الزيادة وأوجب المماثلة والزيادة والمماثلة لا يعرف الا بالكيل أو الوزن فالمناسب ان يجعل ذلك علة وقد اعتبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا وماكيل فمثل ذلك وإذا اختلف النوعان فلا بأس به - رواه الدارقطني من حديث عبادة وانس وفي حديث أبى سعيد وابى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث سواد بن عرية وامّره على خيبر فقدم عليه بتمر جنيب يعنى طيب فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أكل تمر خيبر هكذا قال لا واللّه يا رسول اللّه انا نشترى الصاع بالصاعين والصاعين بثلاثة اصع من الجمع فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - لا تفعل ولكن بع هذا بثمنه واشتر بثمنه من هذا وكذلك الميزان - يعنى ما يدخل في الميزان - (1/730)
رواه الدارقطني - قال العبد الضعيف عفا اللّه تعالى عنه والذي سخ لى ان اية الربوا ليست بمجلة فان المجمل ما لا يدرك معناه بالطلب والتأمل بل من جهة الشرع فقط وهاهنا ليس كذلك لكن فيه نوع إشكال يظهر بالتأمل وبيانه ان الربوا في اللغة الزيادة والزيادة عبارة عن فضل يعلو على المماثلة والمساوات وهى ضد الجنس والتنقيص فهذه الآية نظير قوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاللّه سبحانه كما أوجب ضمان العدوان بالمثل والمساوى كذلك أوجب في المبايعة والمقارضة
_________
(1) وفي الأصل وما به يشتد الحاجة -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 402(1/731)
المماثلة والمساوات والواجب في ضمان العدوان في ذوات الأمثال اعنى المكيلات والموزونات المثل صورتا ومعنى برعاية اتحاد الجنس والقدر وفي ذوات القيم حيث لا يتصور المماثلة صورة ومعنى يكتفى بالمماثلة معنى ويقال الواجب هناك القيمة عملا بقدر الإمكان والقيمة عبارة عما يعتبره أهل البصارة مثلا له في المالية وذلك يختلف باختلاف الازمنة بكثرة الراغبين وقلتهم هذا في ضمان العدوان واما في المبادلات فالمعتبر في المماثلة المماثلة بالاجزاء كيلا أو وزنا ان اتحد جنس البدلين وكانا من ذوات الأمثال كما في ضمان العدوان وان اختلف جنسهما سواء كانا من ذوات الأمثال أو لم يكن أحدهما أو كلاهما من ذوات الأمثال فحينئذ لا يتصور المماثلة صورة ومعنى لاختلافهما في الصورة فيكتفى حينئذ على المماثلة المعنوية في القيمة لما ذكرنا في ضمان العدوان - غير انه فى ضمان العدوان لم يسبق من المالك جعل شيء مثلا لماله فاعتبر هناك تحكيم أهل البصارة وفي المبادلات لما رضى مالكا البدلين بالمبادلة فقد حكم كل واحد منهما بالمماثلة بين البدلين فحكهما على أنفسهما اولى من حكم غيرهما عليهما - فصار مجموع كل من البدلين مثلا لمجموع البدل الاخر باصطلاحهما ولم يظهر الفضل ولذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم - وإذا تقرر هذا ثبت ان المكيلات والموزونات إذا بيع شيء منها بجنسه يحرم التفاضل بالاجزاء قطعا لقوله تعالى وَحَرَّمَ الرِّبا ويحرم النساء أيضا لان للنقد مزية على النسية فبعد تحقق المساوات في الكيل أو الوزن يبقى ذلك المزية زيادة ربوا ولا جائز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا للاجل كما إذا بيع عشرة دراهم حالا بأحد عشر نسية لان الدرهم ذات والاجل وصف لا يعقل بينهما المساوات عقلا ولم يثبت شرعا بل الشرع أبطله ونهى عنه - فبقى بيع عشرة بأحد عشر وهو ربوا وكما لا يجوز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا(1/732)
لاجل كذلك لا يجوز ان يجعل بعض الاجزاء مقابلا لوصف الجودة لان الجودة أيضا وصف لا يعقل المساوات بينه وبين الذات عقلا ولا شرعا بل ثبت عن الشرع نفيه والنهى عنه كما ذكرنا حديث أبى سعيد وابى هريرة في قصة سواد بن عرية واللّه اعلم - وهل يحرم التفاضل بوصف الجودة مع المساوات في الكيل أو الوزن فالجمهور على انه لا يحرم ذلك بل الوصف ملغاة شرعا قال صاحب الهداية لقوله صلى اللّه عليه وسلم جيدها ورديئها سواء فان صح هذا الحديث فهو حجة والا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 403(1/733)
فنقول الأوصاف لا يمكن ضبطها واعتبارها قال ابن همام فينسد باب البيعات قلت باب البيعات لا ينسد إذ يمكن ان يبيع الردى بالثمن ثم يشترى به الجيد كما امر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولكن ينسد باب القرض وقد قال اللّه تعالى وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يعنى لستم بآخذى الردى في مقابلة الجيد ان كان لاحدكم على اخر حق من قرض أو غير ذلك الا ان تغمضوا فيه فالاستثناء يدل على ان مراعاة الوصف في القرض ليس بلازم لكن يدل على ان صاحب الحق لو لم يأخذ الردى مكان الجيد كان له ذلك واللّه اعلم (مسئلة) وإذا بيع الرطب بالتمر أو الذبيب بالعنب فالظاهر انه لا يجوز ذلك أصلا لا متساويا فى الكيل ولا متفاضلا وبه قال الجمهور وكذا الحال في الحنطة الرطبة واليابسة والمقلية - وقال أبو حنيفة يجوز بيع الرطب بالتمر وفي الذبيب والعنب عنه روايتان - لنا حديث سعد بن أبى وقاص قال سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يسئل عن الرطب بالتمر فقال أ ينقص إذا يبس قالوا نعم قال فلا اذن وفي رواية - فنهى عن ذلك - رواه مالك والشافعي واحمد واصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني والبزار والبيهقي كلهم من حديث زيد أبى عياش قال في الهداية ضعفه اصحاب النقل قلت لم يثبت تضعيفه عن أحد - وقال ابن الجوزي قال أبو حنيفة زيد أبو عياش مجهول فان كان لا يعرفه أبو حنيفة فقد عرفه أهل النقل انتهى وقال ابن حجر وذكر روايته الترمذي وصححها وذكره مسلم في كتاب الكنى وقال سمع من سعد وروى عن عبد اللّه بن يزيد وذكره ابن خزيمة في رواية العدول عن العدول وقال الدارقطني هو ثقة قلت فصح الحديث وهذا الحديث(1/734)
يدل على ان الرطوبة ليست من اجزاء الاصلية الرطب والمعتبر المساوات في الاجزاء وذا لا يدرك فلا يجوز بيعه متفاضلا ولا متساويا - وقال الحنفية الرطب ان كان من جنس التمر جاز البيع لقوله صلى اللّه عليه وسلم بيعوا مثلا بمثل - وان كان من غير جنسه جاز لقوله صلى اللّه عليه وسلم فبيعوا كيف شئتم - قلنا انه من جنسه لكن لاجل رطوبته وتخلخل اجزائه لا يدرك المماثلة بالكيل فصار كالمجاز؟؟ فة - والعددى المتقارب كالجوز والبيض أيضا من المثليات فالظاهر ان لا يجوز بيع الجوز بالجوز وكذا البيض بالبيض إذا كانا من حيوان واحد لاحتمال التفاضل في الاجزاء الا بالوزن فان الوزن معتبر للتسوية شرعا ويحصل في هذا النوع به التسوية
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 404(1/735)
و ان لم يعهد وان كان البيض من حيوانين فحكمهما حكم مختلف الجنسين (مسئلة) وإذا بيع البر مثلا بالشعير فجميع ما قوبل من كل من البدلين صار مثلا لجميع الاخر باصطلاحهما فجاز الفضل بينهما ولم يجز النسية لان نقدية أحد البدلين زائد على المثل المصطلح فكان ربوا ولا يجوز جعلها مقابلا لبعض الاجزاء لما ذكرنا في المثلين الحقيقيين - (مسئلة) وإذا بيع البر بالحديد مثلا فقياس قولنا هذا يقتضى ان لا يجوز هناك النسية أيضا ويجوز التفاضل وبه يحكم لعموم قوله صلى اللّه عليه وسلم إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (مسئلة) وإذا بيع الحيوان بالبر أو نحوه أو بالحديد أو نحوه فحينئذ كان الحيوان مبيعا والمكيل أو الموزون ثمنا ولا يشترط وجود الثمن بل يصح البيع بالثمن المؤجل اجماعا وكان القياس عدم جواز هذا البيع لكن ترك القياس بالنصوص والإجماع (مسئلة) وإذا بيع الحيوان بالحيوان من جنس واحد أو من جنسين جاز التفاضل اجماعا وهل يجوز فيه النسية فقال أبو حنيفة لا يجوز مطلقا وقال الشافعي واحمد يجوز مطلقا وقال مالك ان كان من جنس واحد لا يجوز النسية مع التفاضل ويجوز من غير التفاضل وان كانا من جنسين يجوز مطلقا - احتج القائلون بالجواز مطلقا بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جهر جيشا فقال عبد اللّه بن عمرو ليس عندى ظهر قال فامره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يبتاع ظهرا إلى خروج المصدق فابتاع عبد اللّه بن عمرو البعير بالبعيرين إلى أجل وسنذكر هذا الحديث في مسئلة السلم في اية المداينة ان شاء اللّه تعالى - وجه قول أبى حنيفة ان الحيوان لا يكون ثمنا في الذمة لكونه غير معلوم قدرا ووصفا ولا ينضبط بذكر الجنس والنوع والوصف ولذلك لا يجوز السلم فيه لعدم انضباطه ومن المنقول ما رواه احمد والترمذي والنسائي والدارمي وابن ماجة وأبو داود عن سمرة ابن جندب ان(1/736)
النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسية وروى الدارقطني عن ابن عباس نحوه - وروى الترمذي واحمد عن الحجاج بن ارطاة عن أبى الزبير عن جابر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الحيوان اثنين بواحد لا يصح نساء ولا بأس به يدا بيد قال الترمذي حديث حسن واخرج الطبراني عن ابن عمر نحوه وروى ابن الجوزي حديث سمرة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 405
و ابن عباس وجابر ولم يذكر الطعن - وإذا تعارض هذه الأحاديث بحديث عبد اللّه بن عمرو في بيع البعير بالبعيرين إلى أجل يترجح هذه الأحاديث بوجهين - أحدهما ان الاخذ بالمحرم اولى من المبيح احتياطا ولئلا يلزم تكرار النسخ - ثانيهما ان هذه الأحاديث موافق للقياس دون ذلك - (مسئلة) والشروط التي لا يقتضيها العقد في البيع وفيه منفعة لاحد العاقدين فهو من باب الربوا يفسد به البيع عند أبى حنيفة والشافعي وقال ابن أبى ليلى والنخعي والحسن البيع جائز والشرط فاسد - وقال ابن شبرمة واحمد البيع والشرط جائزان وقال مالك الشرط بمنفعة يسيرة للبائع من المبيع يصح والباقي لا يصح - لنا ان قوله تعالى وَحَرَّمَ الرِّبا يشتمله لأنه زيادة فى أحد البدلين بعد التماثل بالاجزاء في متحد الجنس من المثليات وبالقيمة المصطلحة من العاقدين في غير ذلك ولا يمكن جعل الشرط مقابلا لبعض الاجزاء كالاجل والجودة - وكذا قول أبى حنيفة في كل شرط لا يقتضيه العقد وفيه نفع للمبيع وهو من أهل النفع كما إذا باع عبدا او(1/737)
امة على ان يعتقه أو يكاتبه أو يستولدها - روى ابن حزم في المحلى والطبراني في الأوسط والحاكم في علوم الحديث والخطابي من طريق محمد بن سليمان الذهلي عن عبد الوارث ابن سعيد قال قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة وابن أبى ليلى وابن شبرمة فسالت أبا حنيفة عن رجل باع بيعا وشرط شرطا قال البيع باطل والشرط باطل - ثم أتيت ابن أبى ليلى فسالته فقال - البيع جائز والشرط باطل - ثم أتيته ابن شبرمة فسالته فقال - البيع جائز والشرط جائز - فقلت سبحان اللّه ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا في مسئلة واحدة فاتيت أبا حنيفة فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه نهى عن بيع وشرط البيع باطل والشرط باطل - ثم أتيت ابن أبى ليلى فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أمرني النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اشترى بريرة فاعتقها البيع جائز والشرط باطل - ثم أتيت ابن شبرمة فاخبرته فقال ما أدرى ما قالا حدثنى مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال بعت من النبي صلى اللّه عليه وسلم ناقة وشرط لى حملانها إلى المدينة البيع جائز والشرط جائز انتهى فان قيل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرسل عند كثير من أهل العلم - أجيب بان هذا إذا لم يصرح بمرجع
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 406(1/738)
الضمير من جده وقد ورد هاهنا التصريح فيما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يحل سلف ولا بيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك - قال الترمذي حديث حسن صحيح - ويؤيده حديث حكيم بن حزام في مؤطا مالك بلاغا - وأخرجه الطبراني من حديث محمد بن سيرين عن حكيم قال نهانى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن اربع خصال فى البيع عن سلف وبيع وشرطين في بيع وبيع ما ليس عندك وربح ما لم يضمن - ومعنى السلف فى البيع البيع بشرط ان يقرضه دراهم وهو فرد من البيع الذي شرط فيه منفعة لاحد المتعاقدين هذا تحقيق ما احتج به أبو حنيفة من حديث عمرو بن شعيب - واما ما احتج به ابن أبى ليلى من حديث عائشة فقد رواه الشيخان في الصحيحين من حديثها انها قالت جاءت بريرة فقالت انى كاتبت على تسع أواق في كل عام وقية فاعينينى فقالت عائشة ان أحب أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة واعتقك فعلت ويكون ولائك لى فذهبت إلى أهلها فابوا الا ان الولاء لهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خذيها فاعتقيها ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الناس فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال اما بعد فما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب اللّه ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل وان كان مائة شرط فقضاء اللّه أحق وشرط اللّه أوثق انما الولاء لمن أعتق - وفي رواية ان عائشة أخبرت النبي صلى اللّه عليه وسلم ان مواليها لا يبيعونها الا بشرط ان يكون لهم الولاء فقال لها اشترى واشترطى لهم الولاء انما الولاء لمن أعتق - متفق عليه أيضا بهذا اللفظ قال الرافعي قالوا ان هشاما تفرد بقوله اشترطى لهم الولاء ولم يتابعه سائر الروات - قال ابن حجر وقد قيل ان عبد الرحمن بن ايمن تابع هشاما على هذا فرواه عن الزهري عن عروة نحوه - واما حديث(1/739)
جابر فقد رواه الشيخان عنه قال غزوت ومع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وانا على ناضح قد أعيى فلا يكاد يسير فتلا حق بي النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال ما لبعيرك قلت قد أعيى فتخلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فزجره فدعاله فما زال بين يدى الإبل قدامها تسير فقال لى كيف ترى بعيرك قلت بخير قد أصابته بركتك قال افتبيعنيه بوقية - فبعته على ان لى فقار ظهره إلى المدينة فلما قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 407
غدوت عليه بالبعير فاعطانى ثمنه وردده علىّ - وفي رواية قال بعنيه بوقية - قال فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي - متفق عليه وفي رواية للبخارى قال(1/740)
للبلال اقضه دينه وزده وزاد قيراطا - واحتج ابن الجوزي على جواز البيع والشرط بحديث جابر هذا - وبما روى بسنده عن عائشة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال المسلمون عند شروطهم ما وافق الحق - وعن انس بن مالك قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك - فلا بد هاهنا من البحث والتأمل حتى يندفع تعارض الأحاديث ويظهر المراد فنقول قوله عليه الصلاة والسلام ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل وان كان مائة شرط - لا يعارض قوله صلى اللّه عليه وسلم المسلمون على شروطهم ما وافق الحق من ذلك فان كلا الحديثين يدلان على ان من الشروط ما هو باطل ومنها ما هو صحيح وعليه انعقد الإجماع حيث يجوز في البيع شرط الخيار اجماعا ويبطل شرط ان يكون الولاء للبائع اجماعا فظهر ان حديث سمرة نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع وشرط ليس على عمومه بل المراد منه بعض انواع الشرط فحينئذ لا بد ان يبحث عن الشروط أيها يبطل في نفسها ولا يفسد به البيع ويكون ذلك محملا لقصة بريرة - وايها يبطل بحيث يفسد به البيع فيكون موردا للنهى في حديث سمرة - وايها لا يبطل فيكون محملا لحديث انس وعائشة فنقول اما الذي يبطل في نفسه ولا يفسد به البيع فمنها شرط لا يمكن للمشروط عليه إتيانه مثل شرط ان لا يقع العتق بإعتاق المشترى أو ان يكون الولاء للبايع فمثل هذا الشرط باطل لغو وان كان مائة شرط ويعتبر كأنَّه لم يكن فلا يفسد البيع وقصة بريرة من هذا الباب قال الشيخ ابن حجر ليس فيه التصريح بانهم اشترطوا العتق بل انما اشترطوا الولاء لهم - ومنها شرط ليس على مقتضى العقد حتى يصح وليس فيه منفعة لاحد حتى يكون في معنى الربوا كبيع ثوب على ان يلبسه المشترى في الأعياد أو دابة على ان يكثر لها العلف فهو لغو لا يفسد البيع به - واما الذي لا يبطل من الشروط ويجب الإتيان بها ويكون محملا لحديث انس و(1/741)
عائشة فمنها ما كان على مقتضى العقد كشرط ان يحبس البائع المبيع إلى ان يقبض الثمن فيجوز لأنه مؤكد لموجب العقد - ومنها ما ثبت تصحيحه شرعا بما لا مرد له كشرط الاجل في الثمن في البيع المطلق - وفي المثمن في السلم فيجوز أيضا للنص وان كان على
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 408
خلاف القياس والحق أبو حنيفة بهذا ما كان متعارفا في الصدر الأول كشراء نعل على ان يحذوها البائع أو يشركها - ومنها ما يتضمن التوثق بالثمن كالبيع بشرط الكفيل أو الرهن فيجوز أيضا لأنه مقرر لمقتضى العقد وهو تسليم الثمن - فان كان الكفيل حاضرا وقت البيع وقبل الكفالة وكان المرهون معلوما وقبضه البائع بإذن المشترى تم البيع والكفالة والرهن - والا فان اتى المشترى بما شرط عليه فبها والا يؤمر بدفع الثمن فان لم يدفع الثمن خير البائع في الفسخ - واما الذي يبطل العقد فشرط ليس مما ذكرنا وفيه منفعة لاحد العاقدين أو للاجنبى أو للمبيع وهو من أهل الاستحقاق كبيع الحنطة بشرط ان يطحنها البائع أو يتركها في داره شهرا أو يوما - أو ثوب على ان يخيطه البائع أو جمل على ان يركبه البائع إلى مراحل أو على ان يبيعه المشترى من فلان - فهذه الشروط يفسد العقد لأنه زيادة عارية عن العوض فهو ربوا - ومن هذا الكلام اندفع التعارض وثبت العمل باية الربوا وبالأحاديث كلها غير حديث جابر انه شرط الركوب إلى المدينة - فقيل الشرط في حديث جابر وهو استثناء حملانه لم يقع في صلب العقد قال ابن همام كذا قال الشافعي - قلت ولفظ الصحيحين يأبى عن ذلك وقال مالك لا بأس بشرط يكون فيه منفعة يسيرة لاحد المتعاقدين عملا بهذا الحديث قلت العمل بهذا الحديث ليس اولى من العمل باية الربوا فالاولى ان يقال حديث جابر منسوخ لان اية الربوا من اخر آيات القرآن نزولا قال الشعبي عن ابن عباس اخر اية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اية الربوا وأيضا تقرر في الأصول ان المحرم والمبيح(1/742)
إذا تعارضا قدم المحرم على المبيح احتياطا وكيلا يلزم تكرار النسخ وامر الربوا أشد واغلظ فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره قد ذكر اللّه تعالى الوعيد على الربوا بخمسة أوجه
اولا بالتخبط حيث قال لا يقومون الّا كما يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطن وثانيا بالخلود في النار حيث قال ومن عاد فاولئك اصحاب النّار هم فيها خلدون وثالثا بالحق حيث قال يمحق اللّه الرّبوا ورابعا بالكفر حيث قال وذروا ما بقي من الرّبوا ان كنتم مؤمنين وخامسا بالحرب حيث قال فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من اللّه ورسوله - وعن عمر بن الخطاب ان اخر ما نزلت اية الربوا وان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبض ولم يفسره لنا فدعوا الربوا والريبة - فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعنى بلغه بتبليغ الرسول صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 409
حرمة الربوا ونهيه عنه فَانْتَهى أى اتبع النهى فَلَهُ ما سَلَفَ أى ما تقدم اخذه قبل التحريم لا يسترد منه وما مضى من أخذ الربوا غفر له - وما في موضع الرفع بالظرف ان جعل من موصولة وبالابتداء ان جعلت شرطية على رأى سيبويه إذا الظرف غير معتمد على ما قبله وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فيما يستقبل من المعاصي ان شاء عذبه عليها وان شاء غفر له - وقيل معناه ان اللّه يجازيه ان كان قد انتهى بصدق النية - وقيل معناه وامره بعد النهى إلى اللّه ان شاء عصمه حتى يثبت على الانتهاء وان شاء خذله حتى يعود فيه وَمَنْ عادَ إلى أكل الربوا أو إلى القول بانما البيع مثل الربوا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) على التأويل الثاني ظاهر فان استحلال الحرام كفر موجب للخلود في النار واما على التأويل الأول فالخلود مجاز عن المكث البعيد كما في قوله تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها - .(1/743)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أى يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه - عن ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ما أحد اكثر من الربوا الا كان عاقبة امره إلى قلة رواه ابن ماجة وصححه الحاكم وفي رواية له الربوا وان كثر فان عاقبته إلى قل وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أى يضاعف ثوابها ويبارك فيما أخرجت منه - قد مر حديث أبى هريرة مرفوعا ان اللّه يقبل الصدقة فيربيها كما يربى أحدكم فلوه الحديث - متفق عليه وعنه ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال ما نقصت صدقة من مال ومازاد اللّه بعفو إلا عزا وما تواضع أحد للّه الا رفعه - رواه مسلم والترمذي وروى احمد من حديث عبد الرحمن بن عوف بلفظ - ما نقص مال من صدقة - وقد تقدم حديث الملكين النازلين كل يوم يقول أحدهما - اللهم أعط منفقا خلفا الحديث وَاللَّهُ لا يُحِبُّ أى يبغض فان مقتضى القيومية المحبة ولا ينتفى المحبة الا بعارض يوجب البغض وهو الكفر ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - الخلق عيال اللّه فاحب الخلق إلى اللّه من احسن إلى عياله - رواه البيهقي في الشعب عن عبد اللّه كُلَّ كَفَّارٍ مصر على تحليل المحرمات أَثِيمٍ (276) منهمك في الآثام.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه ورسله وبما جاءوا به منه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ - أتوا بما أمرهم اللّه على لسان رسله وانتهوا عما نهى عنه ومنه الربوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ خصهما بعد التعميم لاظهار شرفهما
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 410(1/744)
فانهما رأس العبادات البدنية والمالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من ات وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) على ما فات عنهم بعد ما أدركوا أعظم نعم اللّه تعالى وهو الايمان مع الأعمال الصالحة - أخرج أبو يعلى في مسنده وابن مندة من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال بلغنا ان بنى عمرو بن عوف الثقفي كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد اللّه بن عمير بن مخزوم وكانوا يربون فلما اظهر اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم على مكة ووضع يومئذ الربوا كله فاتوا بنو عمر وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة ما جعلنا اللّه أشقى الناس بالربا ووضع عن الناس غيرنا فقال بنوا عمرو وصولحنا على ان لنا ربوانا فكتب عتاب في ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنزلت الآيتين.(1/745)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا أى اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) بقلوبكم فامتثلوا بما أمركم اللّه به فان امتثال الا وامر والنواهي دليل صدق الايمان - واخرج ابن جرير عن عكرمة انها نزلت في ثقيف اربعة اخوة منهم مسعود وعبدياليل وحبيب وربيعة بنوا عمرو بن عمير كذا قال مقاتل وقال البغوي قال السدى نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربوا إلى بنى عمرو بن عمير ناس في ثقيف فجاء الإسلام ولهما اموال عظيم في الربوا فانزل اللّه هذه الآية فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يوم عرفة - الا كل شيء من امر الجاهلية تحت قدمى موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وان أول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بنى سعد فقتله هزيل وربوا الجاهلية موضوعة وأول ربوا أضعها ربوا عباس بن عبد المطلب فانها موضوعة كلها وروى مسلم في حديث جابر في قصة حجة الوداع في خطبة يوم عرفة هذه العبارة ولم يذكر ذكر نزول الآية فيه - وقال البغوي قال عطاء وعكرمة ان العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان رضى اللّه عنهما اسلفا في التمر فلما حضر الجذاذ قال لهما صاحب التمر ان أنتما أخذتما حقكما لا يبقى لى ما يكفى عيالى فهل لكما ان تأخذ النصف وتؤخر النصف وأضعف لكما ففعلا فلما حل الاجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 411
عليه وسلم فنهاهما وانزل اللّه تعالى هذه الآية فسمعا وأطاعا وأخذا رءوس أموالهما.(1/746)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أى لم تذروا ما بقي من الربوا فَأْذَنُوا قرأ حمزة وأبو بكر فاذنوا بالمد على وزن أمنوا وكسر الذال أى فاعلموا غيركم انكم حرب اللّه ورسوله - واصله من الاذن أى أوقعوا في الاذان وقرا الآخرون فاذنوا بهمزة ساكنة على وزن المجرد بفتح الذال أى اعلموا أنتم وأيقنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ تنكير الحرب للتعظيم - قال سعيد بن جبير عن ابن عباس يقال لا كل الربوا يوم القيامة خذ سلاحك للحرب وعن ابن عباس قال - نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان يشترى التمرة حتى يطعم وقال إذا ظهر الربوا في قرية فقد أحلوا بانفسهم عذاب اللّه رواه الحاكم وقال صحيح الاسناد وعن عمرو بن العاص قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ما من قوم يظهر فيهم الربوا الا أخذوا بالسّنة وما من قوم يظهر فيهم الرشا الا أخذوا بالرّعب رواه احمد وَرَسُولِهِ قال أهل المعاني حرب اللّه النار وحرب الرسول السيف - ومن ثم قال البيضاوي ذلك يقتضى ان يقاتل المربى بعد الاستتابة حتى يفىء إلى امر اللّه كالباغى - قلت والظاهر انه ان لم يكن له منعه يجب على الامام ان يحبسه حتى يتوب وان كان له منعه لا يقدر الامام على حبسه فهو الباغي يقاتل معه حتى يفىء إلى امر اللّه وهذا هو الحكم فيمن ترك فريضة من الفرائض كالصلوة والزكوة ونحوهما أو ارتكب كبيرة من الكبائر وأصر عليها بالإعلان روى رزين عن عمر بن الخطاب في مناقب أبى بكر - انه لما قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ارتدت العرب وقالوا لا نؤدى زكوة فقال أبو بكر لو منعونى عقالا لجاهدتهم عليه فقلت يا خليفة رسول اللّه تالف الناس وارفق بهم فقال لى أ جبّار في الجاهلية وخوار في الإسلام انه قد انقطع الوحى وتم الدين أ ينقص وأنا حي - وفي الصحيحين من حديث أبى هريرة قال أبو بكر - واللّه لا قاتلن من فرق بين الصلاة والزكوة فان الزكوة حق المال واللّه لو منعونى عناقا(1/747)
كانوا يؤدونها إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لقاتلتهم على منعها قال فعرفت انه الحق وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزيادة عليها وَلا تُظْلَمُونَ (279) بالمطل والنقصان عن رأس المال - عن أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال مطلق الغنى ظلم وإذا اتبع على ملئى فليتبع - متفق عليه قال البيضاوي يفهم منه انهم ان لم يتوبوا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 412
فليس لهم ما لهم إذا المصر على التحليل مرتد وماله فيء وهو سديد على ما قلنا يعنى على قول الشافعي فان مال المرتد كله فيء عنده - واما عند أبى حنيفة رحمه اللّه فما اكتسبه في حال الإسلام ينتقل بعد قتله أو لحوقه بدار الحرب إلى ورثته المسلمين وما اكتسبه في حالة الردة كان فيا والمفهوم ليس بحجة عند أبى حنيفة على انه إذا كان لورثته لم يكن له واللّه اعلم قال البغوي لما نزلت هذه الآية قالت بنو عمر والمربون بل نتوب إلى اللّه تعالى لا يدلنا بحرب اللّه ورسوله - فرضوا برأس المال - هذا تتمة حديث ذكره أبو يعلى قال البغوي فشكا بنوا مغيرة العسرة وقالوا أخرونا إلى ان تدرك الغلات فابوا ان يؤخروا فانزل اللّه تعالى.(1/748)
وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ كان هاهنا تامة لا يقتضى الخبر يعنى ان وقع غريم ذو عسرة - وقال البغوي لم يأت لها بخبر وذلك جائز في النكرة يقول ان كان رجل صالح فاكرمه - قلت يعنى ان كان ذو عسرة غريما - قرأ أبو جعفر عسرة بضم السين والباقون بالإسكان فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أى فالحكم نظرة أو فعليكم نظرة - أو فليكن نظرة وهى الامهال قرأ نافع بضم السين والباقون بفتحها عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من يسر على معسر « 1 » يسر اللّه عليه في الدنيا والاخرة - رواه مسلم في حديث وابن حبان هكذا مختصرا وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ اكثر ثوابا من الانظار - ويحتمل ان يراد بالتصدق هو الانظار لحديث عمران ابن حصين مرفوعا لا يحل دين امر مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة - رواه احمد يعنى الانظار خير لكم مما تأخذون - والظاهر ان المراد بالتصدق الإبراء وهو خير واكثر ثوابا من الانظار عن أبى هريرة قال اشهد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسمعته يقول ان أول الناس يستنظل في ظل اللّه يوم القيامة لرجل انظر معسرا حتى يجد شيئا أو تصدق عليه مما يطلبه يقول مالى عليك صدقة ابتغاء وجه اللّه ويحرق صحيفته - رواه الطبراني وروى البغوي في شرح السنة بلفظ من نفّس عن غريم أو محى عنه كان في ظل العرش يوم القيامة - وعن عثمان بن عفان نحوه - وروى البغوي عن أبى اليسر نحوه وروى الطبراني في الكبير من حديث اسعد بن
_________
(1) عن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من أحب ان يسمع اللّه دعوته ويفرج كربته في الدنيا والاخرة فلينظر معسرا وليدع له ومن سره ان يظله اللّه من قعر جهنم يوم القيامة ويجعله فى ظله فلا يكونن على المؤمنين غليظا وليكن بهم رحيما منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 413(1/749)
زرارة - وفي الأوسط من حديثه شداد بن أوس نحوه وعن أبى قتادة - انه كان يطلب رجلا بحق فاختبى منه فقال ما حملك على ذلك قال العسرة فاستخلفه على ذلك فحلف فدعا بصكه فاعطاه إياه وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول من انظر معسرا ووضع عنه أنجاه اللّه من كرب يوم القيامة - وروى مسلم المرفوع منه - وعن أبى مسعود قال ان الملائكة تسلقت روح رجل كان قبلكم فقالوا له هل عملت خيرا قط قال لا قالوا تذكّر قال لا الا انى رجل كنت اداين الناس فكنت امر فتياتى ان تنظروا الموسر وتتجاوزوا عن المعسر قال اللّه تعالى تجاوزوا عنه - رواه مسلم - وروى مسلم عن عقبة بن عامر نحوه - وفي الصحيحين عن حذيفة نحوه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) فضل الانظار والتصدق ما شق ذلك عليكم.
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ أى يوم القيامة أو يوم الموت فتاهبوا لمصيركم إليه - قرأ أبو عمرو ويعقوب بفتح التاء أى تصيرون والآخرون بضم التاء وفتح الجيم على البناء للمفعول أى تردون ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أى جزاء ما كسبت من خير أو شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) بتنقيص ثواب أو تضعيف عقاب قال ابن عباس هذه اخر اية نزلت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال له جبرئيل ضعها على رأس مأتى اية وثمانين اية من سورة البقرة كذا قال البغوي وأخرجه الثعلبي من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبى صالح عنه وعاش رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزولها أحد وعشرين يوما كذا قال البغوي وقيل أحد وثمانين يوما أخرجه الفرياني عن ابن عباس وقيل سبع ليال ومات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول حين زاغت الشمس سنة أحد عشر من الهجرة كذا أخرجه ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير واللّه اعلم وان اللّه قد ختم الوحى باية التهديد - .(1/750)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ أى تعاملتم معاملة يجب فيه دين في ذمة أحد المتعاقدين - وانما قيدنا بقولنا في ذمة أحد المتعاقدين - لأنه لا يجوز بيع الكالى بالكالئ بالإجماع مستندا بحديث ابن عمر - نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنه - رواه الدارقطني وهذه الآية يشتمل البيع والسلم والاجارة والقرض بل النكاح والخلع والصلح أيضا بِدَيْنٍ انما ذكره لئلا يتوهم من التداين المجازات وليكون مرجعا لضمير فاكتبوه - وهو نكرة وقع في حيز الشرط فيعم كل دين ثمنا كان أو مثمنا مكيلا أو موزونا أو غيرهما مؤجلا كان أو حالا - وبقوله
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 414(1/751)
إِلى أَجَلٍ خرج منه ما كان حالا فانه لا حاجة إلى كتابته غالبا مُسَمًّى أى سمى مدته بالأيام أو الأشهر أو السنين حتى يكون معلوما - وانما قيد به لان البيع بثمن مؤجل والسلم لا يجوز ما لم يكن الاجل معلوما فان جهالته يفضى إلى المنازعة والاجل يلزم في الثمن في البيع وفي المبيع فى السلم وفي النكاح وغير ذلك الا في القرض فلا يكون لصاحب الحق الطلب قبل محله ولا لمن عليه الحق المطل بعد محله - واما في القرض فلا يلزم الاجل بالتأجيل لان الشرع اعتبره عارية كانّ المؤدّى عين المدفوع كيلا يلزم ربوا النساء - فهذه الآية بعبارته يشتمل البيع بثمن مؤجل والسلم وهو المعنى من قول ابن عباس اشهد ان السلف المضمون إلى أجل مسمّى قد أحله اللّه في الكتاب واذن فيه قال اللّه تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ الآية - أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه على شرطهما عن قتادة عن أبى حسان الأعرج عنه ورواه الشافعي في مسنده والطبراني وابن أبى شيبة وعلقه البخاري والقياس يقتضى عدم جواز السلم لأنه بيع المعدوم إذا المقصود من البيع هو المبيع والثمن انما يكون وسيلة إليه فيكفى فى الثمن وجوده الاعتباري وصفا ثابتا في الذمة واما المبيع فهو محل لورود البيع فانعدامه يوجب انعدام البيع ولهذا نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك - لكن ترك هذا القياس لورود النصوص بإباحته وانعقاد الإجماع عليه - عن ابن عباس قال قدم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهم يسلفون في التمر السنة والسنتين وربما قال والثلاث فقال من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم - متفق عليه - وعن عبد اللّه بن أبى اوفى قال كنا نستسلف على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وابى بكر وعمر في الحنطة والشعير والتمر والزبيب - رواه البخاري - وروى ابن الجوزي من(1/752)
طريق احمد سالت ابن أبى اوفى هل كنتم تسلفون في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في البر والشعير والزيت قال نعم كنا نصيب غنائم في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فنسلفها في البر والشعير والتمر والزيت فقلت عند من كان له زرع أو عند من لم يكن له ذرع قال ما كنا نسئلهم عن ذلك - ثم انطلق الراوي إلى ابن أبى أبزى فقال مثل ما قال ابن أبى اوفى - ولما كان جواز السلم على خلاف القياس اقتصر على مورد النص وهو المؤجل فلا يجوز السلم حالا عند أبى حنيفة ومالك واحمد وقال الشافعي يجوز حالا بالطريق الاولى أو المساواة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 415
قلنا انما أبيح على خلاف القياس لرفع حاجة الفقير العاجز حالا عن نفقة عياله القادر على المسلم فيه مالا وحاجة المشترى إلى الاسترباح لعياله وهو بالسلم أسهل إذ يكون المبيع في السلم نازلا عن قيمته فى البيع غالبا وذا لا يكون الا بالتأجيل فليس الحال في معنى المؤجل - (مسئلة) اجمعوا على انه لا يجوز السلم الا فيما ينضبط في الذهن بذكر جنسه ونوعه وصفته وقدره - وعلى انه لا يجوز الا بذكر هذه الاربعة وذكر قدر الاجل حتى يتعين المبيع بقدر الإمكان ولا يقضى إلى المنازعة وأيضا يشترط عند الجمهور معرفة قدر رأس المال خلافا لابى يوسف ومحمد فيما إذا عين رأس المال بالاشارة - قلنا ربما يوجد بعضها زيوفا ولا يستبدل فى المجلس فلو لم يعلم قدره لا يدرى في كم بقي السلم وربما لا يقدر على المسلم فيه فيحتاج إلى رد رأس المال والموهوم في هذا العقد كالمتحقق لشرعه مع المنافى - وزاد(1/753)
ابو حنيفة شرطا سابعا وهو تسمية مكان التسليم إذا كان لحمله مؤنة - وقال باقى الائمة مكان التسليم متعين وهو مكان العقد - وأيضا زاد أبو حنيفة شرطا ثامنا وهو ان يكون المبيع موجودا من وقت العقد إلى محله - وقال الجمهور لا يشترط ذلك بل يكفى وجوده عند محله - وجه قول الجمهور انه لم يرد هذا الشرط من الشرع والأصل العدم والعمومات كافية للاباحة - ووجه قول أبى حنيفة ما رواه أبو داود وابن ماجة واللفظ له عن ابن إسحاق عن رجل نجرانى قلت لعبد اللّه بن عمر اسلم في نخل قبل ان تطلع قال لا قلت لم قال لان رجلا اسلم في حديقة نخل فى عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل ان يطلع النخل فلم يطلع النخل شيئا ذلك العام فقال المشترى أؤخرك حتى تطلع وقال البائع انما النخل هذه السنة فاختصما إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال للبائع أخذ من نخلك شيئا قال لا قال بم تستحل ماله اردد إليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى تبدأ صلاحها واخرج البخاري عن أبى البختري - سالت ابن عمر عن السلم في النخل قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع النخل حتى يصلح وعن بيع الورق نسأ بناجز - وسالت ابن عباس عن السلم في النخل قال نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل - قلت وذلك الحديث فيه رجل نجرانى مجهول وابن إسحاق مختلف فيه والآثار لا يصلح حجة لكن قول أبى حنيفة أحوط في
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 416(1/754)
عقد شرع مع المنافى (مسئلة) اتفقوا على جواز السلم في المكيلات والموزونات والمزروعات التي تنضبط فيجوز السّلم في هذه الديار في ثوب غليظ يكون في عرضه ثلاثمائة أو اربعمائة أو خمسمائة خيطا فانه قلما يتفاوت تلك الثوب ولا يجوز في غير مثل ذلك من الأثواب - وفي المعدودات التي لا يتفاوت احادها كالجوز والبيض الا في رواية عن احمد - واختلفوا في المعدودات المتفاوتة كالرمان والبطيخ فقال أبو حنيفة لا يجوز فيه السلم لا وزنا ولا عددا وهذا في ديار يباع فيها البطيخ عددا واما في ديارنا فيباع وزنا فيجوز وقال مالك يجوز مطلقا - وقال الشافعي - يجوز وزنا - وهو رواية عن احمد - (مسئلة) لا يجوز السلم في الحيوان عند أبى حنيفة ويجوز عند الثلاثة احتجوا بحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم امره ان يجهّز جيشا فنفدت الإبل فامره ان يأخذ على قلائص الصدقة وكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى ابل الصدقة - رواه أبو داود عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب عن مسلم بن جبير عن أبى سفيان عن عمرو بن حريش عنه - ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وقال ابن القطان هذا حديث ضعيف مضطرب الاسناد فرواه حماد بن سلمة هكذا ورواه جرير بن حازم عن ابن إسحاق فاسقط يزيد ابن أبى حبيب وقدم أبا سفيان على مسلم بن جبير - قلت كذا ذكر ابن الجوزي في التحقيق ورواه عفان عن حماد بن سلمة فقال فيه عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبى حبيب عن أبى حبيب عن مسلم عن أبى سفيان عن عمرو بن حريش - ورواه أبو بكر بن أبى شيبة عن عبد الأعلى فاسقط يزيد بن أبى حبيب وقدم أبا سفيان كما فعل جرير بن حازم وقال مكان مسلم بن جبير مسلم بن كثير ومع هذا الاضطراب فعمرو بن حريش مجهول الحال ومسلم بن جبير لم أجد له ذكرا وأبو سفيان فيه نظر - وقال الشيخ ابن حجر ابن إسحاق قد اختلف فيه لكن أورده البيهقي في السنن وفي الخلافيات من طريق عمرو بن(1/755)
شعيب عن أبيه عن جده وصححه قلت ورواه ابن الجوزي - قلت هذا الحديث معارض بما ذكرنا من قبل من حديث سمرة وابن عباس وجابر انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسية فيقدم المحرم على المبيح كما ذكرنا ثمه - واحتج أبو حنيفة على عدم جواز السلم في الحيوان بما أخرجه الحاكم والدارقطني عن إسحاق بن ابراهيم بن حوتا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 417
حدثنا عبد الملك الذمارى حدثنا سفيان الثوري عن معمر عن يحيى بن أبى كثير عن عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان و(1/756)
قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه - قال ابن الجوزي قال أبو ذرعة عبد الملك الذمارى منكر الحديث - وقال الرازي ليس بالقوى ووثقه العلاس واما إسحاق بن ابراهيم فمجهول - قلت لعل الحاكم عرف إسحاق حتى حكم بصحة الحديث والظاهر ان الحديث حسن قال ابن همام تضعيف ابن معين ابن حوتا فيه نظر بعد تعدد ما ذكر من الطرق الصحيحة والحسان مما هو بمعناه يرفعه إلى الحجية بمعناه - وفي الباب اثر ابن مسعود رواه أبو حنيفة عن حماد بن أبى سليمان عن ابراهيم قال دفع عبد اللّه بن مسعود إلى زيد بن خويلة البكري مالا مضاربة فاسلم زيد إلى عريس بن عرقوب الشيباني فى قلائص فلما حلت أخذ بعضها وبقي بعض فاعسر عريس وبلغه ان المال لعبد اللّه فاتاه يسترفقه فقال عبد اللّه افعل زيد فقال نعم فارسل إليه يسئله فقال عبد اللّه اردد ما أخذت وخذ رأس مالك ولا تسلمن ما لنا في شيء من الحيوان - قال صاحب التنقيح فيه انقطاع يعنى بين ابراهيم وعبد اللّه فانه انما يروى بواسطة علقمة أو الأسود - قال ابن همام هذا غير قادح عندنا خصوصا فى إرسال ابراهيم النخعي - قلت لو صح هذا الحديث انه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان لكان سندا لابى حنيفة في خلافية اخرى وهو انه لا يجوز قرض الحيوان عنده خلافا لمالك والشافعي واحمد احتجوا على جواز فرض الحيوان بحديث أبى رافع ان النبي صلى اللّه عليه وسلم استسلف من رجل بكرا فاتاه ابل من ابل الصدقة فقال أعطوه فقالوا لا نجد الا رباعيا خيارا قال أعطوه فان خير الناس أحسنهم قضاء رواه مسلم وحديث أبى هريرة - كان لرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حقّا فاغلظ له فهم له أصحابه فقال دعوه فان لصاحب الحق مقالا فقال لهم اشتروا سنّا فاعطوه إياه فقالوا انا لا نجد سنّا الا خيرا من سنه قال اشتروه وأعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء - متفق عليه وجه قول أبى حنيفة في عدم جواز القرض فى الحيوان انه لا ينضبط فلا يجوز(1/757)
قرضه كما لا يجوز جعله ثمنا في البيع نسية والسلم فيه - وهذا التعليل في مقابلة الحديثين الصحيحين غير مقبول ما لم يصح حديث النهى عن السلف في الحيوان فان السلف يعم السلم والقرض فان صح حديث ابن عباس يجب تقديم المحرم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 418
على المبيح والا فما ثبت عن رسول اللّه من استقراض البكر يقتصر على مورده ولا يقاس عليه غيره من الحيوانات لأنه معدول عن سنن القياس فان قيل ان كان الحيوان غير منضبط ولا يجوز ثبوته في الذمة فلم جوزتم النكاح والخلع على عبد أو أمة أو فرس وأوجبتم فيه الوسط - قلنا هاهنا قياسين قياس على البيع حيث نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البيع نسية وقياس على الدية حيث أوجب فيها الإبل فقلنا ما كان فيه مبادلة مال بمال لا بد فيه كمال الانضباط وذلك كالبيع والاجارة والصلح عن الإقرار بمال - وما كان فيه مبادلة مال بغير مال كالنكاح والخلع والصلح عن دم عمد والصلح عن انكار لا يشترط فيه كمال الانضباط فيجوز فيه ذلك قياسا على الدية - ومن ثم اجمع المسلمون على ان غرة جنين الحرة عبد أو أمة وليس ذلك في غرة جنين الامة بل فيه دراهم أو دنانير عشر قيمة الجنين أو نصفه عند أبى حنيفة - ونصف عشر قيمة أم الجنين عند غيره وفي غرة البهائم ما نقص أم الجنين - ووجه الفرق ان في مبادلة المال بالمال يجرى المشاجرة والمماكسة عادة غالبا دون في مبادلة ما ليس بمال بمال فان المال فيه بمنزلة الصلة - ولعل الإبل في تلك البلاد بعد رعاية السن وغيره من الأوصاف تكون قليل التفاوت والتفاوت القليل مفتقر ضرورة واللّه اعلم - واعلم ان القياس يقتضى عدم جواز القرض مطلقا لأنه ان كان في الدراهم أو الدنانير يلزم النسية في الصرف وان كان في غيرهما يلزم بيع المعدوم ويلزم ربوا النسية أيضا في بعض المواد ولما ثبت بالنصوص والإجماع جواز الاقراض لاجل الضرورة قال العلماء في توجيه تصحيحه ان الشرع(1/758)
اعتبر القرض عارية كانّ المستقرض استعار مال الغير للانتفاع به ولمّا كان من الأموال ما لا يمكن الانتفاع به الا بالاستهلاك كالدراهم والدنانير والطعام وكان دفعه بعد الانتفاع به غير ممكن اعطى الشرع لمثله حكم عينه
فمن ادى القرض بمثله كان كمن دفع المأخوذ بعينه ولاجل ذلك لا يلزم الاجل في القرض كما لا يلزم في العادية فان للمعير استرداد ماله من المستعير متى شاء فكلما يمكن فيه ذلك التوجيه قلنا بجواز الاقراض فيه ومالا فلا - وإذا تمهد هذا فنقول لا يتصور الاقراض الا في الدراهم والدنانير وما كان مثليا ينتفع به بالاستهلاك كالطعام واما ما كان باقيا بعد الانتفاع به كالثوب والدابة والعبد والامة والدار ونحو ذلك فلا يتصور ذلك التوجيه فيه إذ مع بقاء عين المدفوع إلى المستقرض
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 419(1/759)
عنده لا يمكن اعتبار مثله عينه بل حينئذ ان اعطى المالك ماله لغيره للانتفاع به يجب على المعطى له رد عين المأخوذ إلى المعطى فيكون ذلك عارية حقيقة ومن ثم قال أبو حنيفة لا يجوز قرض الحيوان والثياب والإماء والعبيد وغير ذلك واختلف في بعضها - واجمعوا على عدم جواز اقراض الامة للوطى - (مسئلة) ان اهدى المستقرض إلى المقرض شيئا أو حمله على دابته أو اسكنه في داره ولم يكن ذلك عادة بينهما أو اعطى اكثر مما أخذ منه أو أجود هل يحل ذلك للمقرض أم لا - فقال أبو حنيفة ومالك واحمد لا يحل له ذلك بل يكره وان لم يشترط - وقال الشافعي ان كان بغير شرط جاز وان كان بشرط لم يجز - احتج الجمهور بحديث انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا اقرض أحدكم قرضا فاهدى إليه طبقا فلا يقبله أو حمله على دابة فلا يركبها الا ان يكون بينه وبينه قبل ذلك - رواه ابن ماجة والبيهقي ورواه البخاري في التاريخ بلفظ فلا يأخذ هدية وعن سالم بن أبى الجعد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال انى اقترضت رجلا يبيع السمك عشرين درهما فاهدى الىّ سمكة قومتها ثلاثة عشر درهما فقال خذ منه سبعة دراهم رواه ابن الجوزي - وعن عبد اللّه بن سلام إذا كان لك على رجل حق فاهدى إليك حمل تين أو حمل شعيرا وحمل قت فلا تأخذه فانه ربوا - رواه البخاري وعن على رضى اللّه عنه ان النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة رواه الحارث بن اسامة في مسنده وفي اسناده سوار بن مصعب متروك ورواه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربوا - ورواه البيهقي فى السنن الكبير عن ابن مسعود وابى بن كعب وعبد اللّه بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم واحتج الشافعي بما مر من حديث أبى رافع وابى هريرة - قالوا انا لا نجد الا سنا هو خير من سنة قال أعطوه فان خيركم أحسنكم قضاء - ويؤيد قول الشافعي حديث عائشة انها قالت - سالت رسول(1/760)
اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الخمير والخبز يقرضه الجيران فيردون اكثر أو اقل فقال - ليس بذلك بأس انما هو امر يترافق بين الجيران وليس يراد به الفضل - وعن معاذ بن جبل انه سئل عن استقراض الخمير والخبز فقال سبحان اللّه هذا مكارم الأخلاق فخذ الصغير وأعط الكبير وخذ الكبير واعط الصغير خيركم أحسنكم قضاء سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول ذلك - رواهما ابن الجوزي لكن يمكن ان يقال المساهلة والمهاداة جارية بين الجيران والخلاف فيما لم يجر بينه وبينه ذلك - و
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 420
هذين الحديثين حجة للجمهور في جواز اقراض الخبز والخمير فقيل يجوز اقراضها عددا وقيل وزنا وقال أبو حنيفة - لا يجوز واللّه اعلم فَاكْتُبُوهُ أى اكتبوا الذي تداينتم به لأنه أوثق وادفع للنزاع - والجمهور على انه امر استحباب فان تركت فلا بأس به كقوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا - وقال بعضهم هى واجبة - وقال الشعبي - كانت كتابة الدين والاشهاد أو الرهن فرضا ثم نسخ الكل بقوله تعالى فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ - قلت الناسخ ما يكون متراخيا في النزول وهذا ليس كذلك بل الآيتين نزلتا معا فهو قرينة دالة على كون الأمر بالكتابة ونحوها للاستحباب وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ يكتب برعاية حقوق الطرفين لا يزيد ولا ينقص امر للكاتب بالعدل وذلك امر وجوب ويتضمن ذلك امرا للمتداينين باختيار كاتب فقيه متدين وَلا يَأْبَ أى لا يمتنع كاتِبٌ من يعلم الكتابة أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ مثل ما علّمه من كتبة الوثائق(1/761)
- أو لا يأب ان ينفع غيره بكتابته كما نفعه اللّه بتعليمها كقوله تعالى أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ - فَلْيَكْتُبْ تلك الكتابة المعلمة - امر بها بعد النهى عن الإباء بها تأكيدا - ويجوز ان يكون كما علّمه متعلقا به فيكون الأمر بالكتابة مطلقا في ضمن النهى عن الإباء عنها ثم الأمر بها مقيدة - واختلفوا في وجوب الكتابة على الكاتب وتحمل الشهادة على الشاهد - فقال مجاهد بوجوبها إذا طولب - وقال الحسن بوجوبها إذا تعين نهما يعنى واجب على الكفاية وقال الضحاك - كانت واجبة على الكاتب والشاهد فنسخها قوله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وفيه ما ذكرنا فيما قبل وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ - والإملال والاملاء لغتان فصيحتان بمعنى واحد - يعنى ليكن الممل « 1 » على الكاتب المديون لان إقراره حجة عليه بخلاف الدائن فان قوله لا يعتد به ما لم يقربه المديون أو يحكم به الحاكم بعد ثبوت شرعى وَلْيَتَّقِ المملل أو الكاتب اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ أى لا ينقص من الحق الذي عليه أو مما املى عليه المديون شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً ناقص العقل مبذرا ويدخل فيه المجنون والمعتوه أَوْ ضَعِيفاً أى صغيرا أو شيخا كبيرا اختل عقله وقيل هو ضعيف العقل « 2 » لصغر أو عته أو جنون أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لخرس اوعى أو جهل باللغة أو حبس أو مرض
_________
(1) فى الأصل المملى
(2) فى الأصل ضعيف عقل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 421(1/762)
او غيبة لا يمكنه حضور الكاتب أو كانت امراة مخدرة لا تستطيع حضور الكاتب فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أى الذي يليى امره من ولى الصبى أو الذي اختل عقله أو الوكيل أو المترجم - قال البغوي قال ابن عباس ومقاتل أراد بالولى صاحب الحق يعنى ان عجز من عليه الحق من الإملال فليملل ولى الحق وصاحب الدين بِالْعَدْلِ لا يزيد على حقه لأنه اعلم بالحق واولى من غيرهما للاملال فان قيل ايّ فائدة في املال الدائن مع ان قوله ليس ملزما على غيره قلنا فائدة الكتابة ان لا ينسى العاقد ان قدر الثمن أو قدر رأس المال أو المسلم فيه أو الاجل أو نحو ذلك لا ان يكون حجة فان الحجة انما هو الشهود - وَاسْتَشْهِدُوا أى اطلبوا ان يشهد المداينة شَهِيدَيْنِ اثنين مِنْ رِجالِكُمْ أى من المسلمين الأحرار فانهم هم المخاطبون بقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ والمداينة غالبا لا يكون إلا بين الأحرار فلا يجوز عندنا شهادة الصبى لأنه ليس برجل وبه قال مالك والشافعي واحمد وعامة العلماء - وفي رواية عن مالك يقبل في الجراح إذا كانوا مجتمعين لامر مباح قبل ان يتفرقوا - ويروى ذلك عن ابن الزبير والوجه لعدم قبول شهادتهم نقصان العقل والتميز فلا يجوز شهادة المجنون والمعتوه أيضا وعليه انعقد الإجماع لأنه في معنى الصبى بل اولى لعدم القبول - ولا يجوز شهادة العبد عندنا وبه قال مالك والشافعي - وقال احمد تقبل شهادة العبد على الأحرار والعبيد - وهو قول انس بن مالك وبه قال إسحاق وداود - قال البخاري في صحيحه قال انس شهادة العبد جائزة إذا كان عدلا واجازه شريح وزرارة بن أبى اوفى - وقال ابن سيرين شهادته جائزة الا العبد لسيده - واجازه الحسن وابراهيم وقال شريح كلكم بنوا عبيد وإماء - إلى هاهنا لفظ البخاري ولا يجوز شهادة كافر على مسلم اجماعا - وكذا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض عند مالك والشافعي واحمد لأنه فاسق(1/763)
قال اللّه تعالى وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ - وعند أبى حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض وان اختلف ملتهم لان الذمي من أهل الولاية بخلاف العبد بدليل ولاية الذمي على أولاده الصغار وقال اللّه تعالى بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وبدليل مالكيته وكفره فسق في نفس الأمر واما في زعمه فديانة والكذب حرام في الأديان كلها - وقال ابن أبى ليلى وأبو عبيدة مع اختلاف الملة لا تقبل شهادتهم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 422(1/764)
كشهادة اليهودي على النصراني - قال البيضاوي قوله تعالى مِنْ رِجالِكُمْ دليل على اشتراط الإسلام قلت الخطاب مع المؤمنين فالاية لا تدل على اشتراط سلام الشهود الا إذا كان المشهود عليه مؤمنا - واحتج ابن الجوزي بحديث أبى هريرة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لا يرث ملة ملة ولا يجوز شهادة أهل ملة على ملة الا أمتي فانه يجوز شهادتهم على من سواهم رواه الدارقطني وابن عدى - وهذا الحديث لو صح لكان حجة لابن أبى ليلى ولا يكون حجة لاحمد - وقال أبو حنيفة الكفر ملة واحد قال اللّه تعالى فَمِنْهُمْ « 1 » مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وحينئذ يكون حجة لابى حنيفة أيضا - لكن الحديث ضعيف في سنده عمر بن راشد قال الدارقطني ضعيف واحتج أبو حنيفة بحديث جابر ان النبي صلى اللّه عليه وسلم أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض رواه ابن ماجة - وعنه قال - جاءت اليهود برجل وامراة منهم زنيا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لليهود ما يمنعكم ان تقيموا عليهما الحد فقالوا كنا نفعل إذا كان الملك لنا فلما ان ذهب ملكنا فلا نجترئ على الفعل فقال لهم ايتوني بأعلم رجلين منكم - فاتوه بابني صوريا فقال لهما أنتما اعلم من ورائكما قالا يقولون قال انشد كما باللّه الذي انزل التورية على موسى كيف تجدون حدهما في التورية فقالا إذا شهد اربعة انهم راوا يدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة رجم - فقال ايتوني بالشهود فشهد اربعة فرجمهما النبي صلى اللّه عليه وسلم - رواه أبو داود وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى الموصلي والبزار والدارقطني - ورواه الطحاوي بلفظ قال عليه الصلاة والسلام تأتونى باربعة منكم يشهدون وهذان « 2 » الحديثان لجابر كلاهما ضعيفان تفرد به مجالد بن سعيد قال احمد - هو ليس بشيء - وقال يحيى - لا يحتج بحديثه - فَإِنْ لَمْ يَكُونا أى الشهود رَجُلَيْنِ أى لم؟؟ تشهادهما فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ اى(1/765)
فليستشهد رجل وامرأتان - واشتراط عدم تيسر رجلين للاستشهاد بالمرأتين مع الرجل يشعر كونهما بدلا من الرجل وان الأصل عدم الاستشهاد بهن فلشبهة البدلية لا يجوز شهادة النساء فيما يندرىء بالشبهات من الحدود والقصاص اجماعا - ويؤيده ما روى ابن أبى شيبة حدثنا حفص عن حجاج عن الزهري قال مضت السنة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والخليفتين بعده انه لا يجوز شهادة النساء في الحدود والدماء انتهى - وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة وتخصيص
_________
(1) فى الأصل منهم - [.....]
(2) فى الأصل وهذين الحديثين
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 423(1/766)
الخليفتين يعنى أبا بكر وعمر لانهما اللذان كان معظم تقرير الشرع وانعقاد الإجماعات في زمانهما وبعدهما ما كان من غيرهما الا الاتباع وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر رواه الترمذي عن حذيفة - قال الشيخ ابن حجر روى عن مالك عن عقيل عن الزهري كما رواه ابن أبى شيبة وزاد ولا في النكاح ولا في الطلاق - ولا يصح هذا عن مالك وقال الشافعي ومالك لا يجوز شهادة النساء الا في الأموال خاصة وتوابعها كالاذن وشرط الخيار والشفعة والاجارة وقتل الخطاء وكل جرح لا يوجب الا المال لا في النكاح والطلاق والوكالة والوصية والعتق والرجعة والنسب ونحو ذلك - وقال أبو حنيفة يجوز شهادة رجل وامرأتين في الحقوق كلها سوى الحدود والقصاص - وجه قولهم ان قبول شهادة رجلين أو رجل وامرأتين امر تعبدى على خلاف القياس لأنه من باب خبر الآحاد لا يفيد اليقين بصدق المدعى وكذب الاخر فكيف يرجب الزام المدعى عليه دعوى المدعى مع احتمال صدقه وكذب الشهود فيقتصر على مورد النص وهو الأموال كيف وقد قال اللّه تعالى في الرجعة واشهدوا ذوى عدل منكم - وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا نكاح الا بولي « 1 » وشاهدى عدل رواه الدارقطني عن عائشة وابن مسعود وابن عمر وابن عباس نحوه - بخلاف رواية الحديث فانه ليس هناك الزام بل المسلمون ملتزمون احكام اللّه تعالى طالبون العلم به يلتمسون طرقه - فإذا وصل إليهم حكم بطريق قطعى اعتقدوه وعملوا به وان وصل إليهم بطريق ظنى بحيث لم يترتب عليه العلم اليقيني عملوا به رجاء للثواب أو خوفا عن العذاب ما لم يعارضه حكم اخر بطريق أقوى منه وهذا امر يقتضيه العقل وأيضا ثبت وجوب العمل بأحاديث الآحاد بالنصوص القطعية والإجماع ولهذا لا يشترط في الرواية
_________
((1/767)
1) (فائدة) اجمع العلماء على اشتراط الإعلان في النكاح لكن قال أكثرهم يحصل الإعلان بشهادة رجلين - وقال مالك لا يحصل - فلما ثبت اشتراط الإعلان بالإجماع جاز به الزيادة على الكتاب وهو قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم - وقوله تعالى وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ - منه قدس سره فائدة - قال احمد - لم يثبت في الشهادة في النكاح شيء وكذا قال ابن المنذر فان قيل إذا لم يثبت في اشتراط الشهادة في النكاح شيء فما وجه القول بكون الشهادة شرطا في النكاح قلت قد صح قوله صلى اللّه عليه وسلم أعلنوا النكاح - رواه احمد وابن حبان والحاكم في المستدرك والطبراني وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن الزبير والترمذي من حديث عائشة وحسنه فقال أبو حنيفة ومن معه في اشتراط الشهود في النكاح ان الا علان لما كان شرطا في النكاح يعتبر فيه ما هو طريق الظهور شرعا وذلك بشهادة شاهدين فان مع شهادتهما لا يبقى سرا وذلك ادنى مراتب الإعلان إذ لاحد لاقصاه قال الكرخي نكاح السر ما لم يحضره شهود فإذا حضروا فقد علن - وقال مالك الا علان قد يحصل بالدف وبالأخبار بعد النكاح ويفوت الإعلان إذا اشهد رجلين على النكاح ثم قيل لهما لا تخبرا بهذا النكاح أحدا - قلت بعد النكاح انما هى حالة البقاء ولا يشترط الإعلان في حالة البقاء اجماعا ولا ينفسخ النكاح بعد الانعقاد بالكتمان والإنكار - والضرب بالدف انما يوجب الإعلان بعد الانعقاد - ولذا شرطنا حضور الشاهدين وسما عهما سعا الإيجاب والقبول عن العاقدين حتى يثبت الإعلان في حال الانعقاد - منه رحمه اللّه
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 424(1/768)
ما يشترط في الشهادة من الحرية والذكورة والعدد - ووجه قول أبى حنيفة - ان قبول الشهادة وان كان امرا تعبديا على خلاف القياس لكنه جار في جميع الحقوق اجماعا ماليا كان أو لا - وهذه الآية لما اثبت جواز قبول شهادة النساء في الأموال بالعبارة أثبتت في غير ذلك من الحقوق بالدلالة بالطريق الاولى أو المساوى - لان قبول الشهادة مطلقا انما شرع صيانة لحقوق الناس من الأموال والاعراض والإيضاع وصيانة الابضاع والاعراض اولى من صيانة الأموال أو مثله قال عليه الصلاة والسلام في خطبته يوم عرفة ويوم النحر في حجة الوداع ان دماءكم وأموالكم واعراضكم حرام - الحديث في الصحيحين وغيرهما وقال حرمة مالكم كحرمة دمكم - وقال عليه الصلاة والسلام من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون اهله فهو شهيد - رواه احمد وابن حبان عن سعيد بن زيد وانما قلنا بعدم جواز شهادة النساء في الحدود ونحوها لوجوب اندرائها بالشبهات ولا كذلك النكاح وغير ذلك - وقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ - لا يدل على عدم قبول شهادة النساء والزيادة على النص بدلالة نص اخر جائز اجماعا - واما حديث لا نكاح الا بولي وشاهدى عدل - فليس بصحيح اما حديث عائشة ففيه محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه قال احمد وعلى ضعيف وقال يحيى ليس بثقة وقال النسائي متروك الحديث وقال الدارقطني هو وأبوه ضعيفان وفي طريقة الاخر نافع بن ميسر أبو خطيب مجهول - واما حديث ابن عباس فقيه النهاش قال يحيى ضعيف وقال ابن عدى لا يساوى شيئا - واما حديث ابن مسعود ففيه بكر بن بكار قال يحيى ليس بشيء وأيضا فيه عبد اللّه بن محرز قال الدارقطني متروك واما حديث ابن عمر فيه ثابت بن زهير منكر الحديث أحاديثه يخالف الثقات خرج عن جملة من يحتج به كذا قال أبو حاتم وابن عدى وابن حبان - (مسئلة) بهذه الآية يحتج أبو حنيفة على انه لا(1/769)
يجوز الحكم بشاهد واحد مع يمين المدعى في الأموال كما لا يجوز فى غيرها بالإجماع - والجمهور يجوزون في الأموال دون غيرها محتجين بما روى عن رسول صلى اللّه عليه وسلم انه قضى باليمين مع الشاهد - رواه ابن الجوزي من حديث جابر وعليّ وقال وقد روى هذا الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وسعد بن عبادة وعامر ابن ربيعة وسهل بن سعد وعمارة وعمرو ابني حزم والمغيرة بن شعبة وبلال بن الحارث وسلمة بن قيس وانس بن مالك وتميم الداري وزينب بنت ثعلبة وبيرق - قلت الحديث جابر فرواه احمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي والطحاوي من حديث عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه قال الترمذي ورواه الثوري وغيره
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 425(1/770)
يعنى مالكا « 1 » عن جعفر عن أبيه مرسلا وهو أصح ورواه الدارقطني عن أبيه عن على عليهم السلام بلفظ ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بشاهد واحد ويمين صاحب الحق - وهو منقطع قال الدارقطني في العلل كان جعفر ربما أرسله وربما وصله وقال الشافعي والبيهقي عبد الوهاب وصله وهو ثقة قلت قال الذهبي اختلط في اخر عمره - واما حديث ابن عباس ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد - أخرجه أبو داود والطحاوي وحسنه الترمذي وقال الطحاوي حديث منكر لأنه من رواية قيس بن سعد عن عمرو بن دينار ولا نعلمه يحدث عن عمرو بن دينار بشىء - واما حديث أبى هريرة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين - رواه الشافعي واصحاب السنن وابن حبان وقال ابن أبى حاتم عن أبيه هو صحيح وهذا الحديث رواه سهيل بن أبى صالح عن أبيه وسمعه منه ربيعة ابن أبى عبد الرحمن ثم اختلط حفظه بشيخه فكان يقول أخبرني ربيعة انى أخبرته عن أبى عن أبى هريرة - ذكر هذه القصة الشافعي والطحاوي عن الدراوردي - وروى هذا الحديث البيهقي من حديث مغيرة بن عبد الرحمن بن الزياد عن الأعرج(1/771)
عن أبى هريرة ونقل عن أحمد أن حديث الأعرج ليس في الباب أصح منه وروى الطحاوي عن سهيل بن أبى صالح عن أبيه عن زيد بن ثابت نحوه - وقال الطحاوي - منكر لان أبا صالح لا يعرف وله رواية عن زيد وفيه عثمان بن الحكم شيخ عبد اللّه بن وهب ليس بالذي يثبت مثل هذا بروايته - قلت قال الذهبي عثمان بن الحكم الجرامى شيخ لابن وهب قال أبو حاتم ليس بالمتين - قال أبو حنيفة - هذا الحديث لو صح فهو حديث احاد لا يجوز به الزيادة على الكتاب مع انه معارض بما هو أقوى منه روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عباس ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لو ان الناس اعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه - ورواه البيهقي بلفظ ولكن البيّنة على المدعى واليمين على من أنكر - وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه - رواه الدارقطني والترمذي - وحديث وائل بن حجر ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للمدعى بينتك فقال ليس لى بينة قال يمينه قال إذا يذهب بها يعنى بالأرض قال ليس الا ذلك - رواه الطحاوي بطرق - وجه التعارض ان النبي صلى اللّه عليه وسلم جعل جنس اليمين على المدعى عليه وليس سوى الجنس شىء يرد على المدعى - وأيضا القسمة بين المدعى والمدعى عليه بالبينة واليمين ينافى الشركة قال الطحاوي وما رويتم انه صلى اللّه عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين يحتمل ان يكون مراده كما ذكرتم من يمين المدعى مع شاهد واحد ليحكم له ويجوز ان أريد به يمين المدعى عليه يعنى لما يقم المدعى على دعواه الا شاهدا واحدا فلم يعتد به
_________
(1) فى الأصل مالك -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 426(1/772)
النبي صلى اللّه عليه وسلم واستحلف المدعى عليه ليحكم له فروى ذلك ليعلم الناس ان المدعى يجب له اليمين بمجرد الدعوى لا كما قيل لأنه لا يجب له اليمين ما لم يقم بينة انه كانت بينه وبين المدعى عليه خلط ولبس - ويحتمل ان يكون الشاهد الذي شهد وحده خزيمة الذي جعله النبي صلى اللّه عليه وسلم ذا الشهادتين - قلت وهذا التأويل الثاني بعيد جدا - قلت وعندى تأويل اخر وهوان اللام في الشاهد واليمين للعهد أى بالشاهد المعهود في الشرع وهو رجلين أو رجل وامرأتين من المدعى وباليمين المعهود على المنكر - أو للجنس كما في حديث البينة للمدعى واليمين على من أنكر يعنى قضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالشاهد واليمين لا بشىء اخر من الوحى وغير ذلك - وتأويل آخر أن اللام للجنس والمراد باليمين يمين الشاهد يعنى قضى بالشاهد مع يمينه والمراد باليمين قوله اشهد فان لفظة اشهد من صيغ اليمين ويشترط لقبول الشهادة لفظة اشهد وهذه التأويلات وان كانت بعيدة لكن يرتكب مثلها لدفع تعارض النصوص واللّه اعلم والتحقيق ان المسألة مبنية على خلافية اصولية انه يجوز الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد عندهم لا عنده واللّه اعلم - ( (مسئلة)) اجمعوا على انه يجوز شهادة النساء وحدهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالولادة والبكارة وعيوب النساء ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة يكفى هناك شهادة امراة واحدة حرة مسلمة عادلة والثنتان أحوط - وقال مالك لا بد من ثنتين - وقال الشافعي لا بد من اربع لأنه أقيمت شهادة امرأتين مقام رجل واحد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ ليس شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل - ووجه قول مالك ان المعتبر في الشهادة العدد والذكورة لكن الذكورة سقطت للضرورة فبقى العدد لنا ما رواه محمد بن الحسن عن أبى يوسف عن غالب بن عبد اللّه عن مجاهد عن سعيد بن المسيب وعطاء بن رياح « 1 » وطاؤس قالوا قال رسول اللّه صلى اللّه(1/773)
عليه وسلم شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه - وهذا مرسل يجب العمل به وجه الاحتجاج ان اللام للجنس لعدم العهد فيصح بواحدة والأكثر احسن - وروى عبد الرزاق عن ابن جريح عن الزهري قال مضت السنة انه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال من ولادات النساء وعيوبهن - ورواه ابن أبى شيبة - وروى عبد الرزاق عن ابن عمر قال لا يجوز شهادة النساء وحدهن الا ما لا يطلع عليه الا هن من عورات النساء - وله مخارج اخرى - وعن حذيفة ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أجاز شهادة قابلة - رواه الدارقطني من حديث محمد بن عبد الملك عن الأعمش قال الدارقطني هو لم يسمع من الأعمش بينهما رجل مجهول - مِمَّنْ تَرْضَوْنَ - يعنى من كان غير متهم في شهادته بالفسق أو قلة المروة أو العداوة الدنيوية
_________
(1) أبى رباح -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 427(1/774)
بينه وبين المشهود عليه أو القرابة بينه وبين المشهود له - فلا يقبل شهادة الفاسق اجماعا لان العدالة شرط في الرواية حيث قال اللّه تعالى إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا - ففى الشهادة بالطريق الاولى والعدالة هو إتيان الواجبات والاجتناب عن الكبائر وترك الإصرار على الصغائر - وفي تفسير الكبائر كلام وقد روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الكبائر الشرك باللّه - والسحر - وقتل النفس - وأكل الربوا - وأكل مال اليتيم - والتولي يوم الزحف - وقذف المؤمنات المحصنات في المتفق عليه عن أبى هريرة وعقوق الوالدين - واليمين الغموس عند البخاري عن عبد اللّه بن عمر وشهادة الزور في المتفق عليه عن انس وابى بكرة قالا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أنبئكم بأكبر الكبائر قال الشرك وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال الا وقول الزور الا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت وقال عليه السلام لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن الحديث فذكر نحوه - السرقة - وشرب الخمر والنهبة - والغلول رواه البخاري عن أبى هريرة وقال عليه الصلاة والسلام اربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر متفق عليه عن عبد اللّه بن عمرو وفي المتفق عليه عن أبى هريرة ثلاث فذكر إذا وعدا خلف بدل الأخيرين وقيل الكبيرة ما فيه حد وقيل ما ثبت حرمته بنص القرآن - وقيل ما كان حراما بعينه كاللواطة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اللّه بن عمرو قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذى غمر على أخيه ولا يجوز شهادة القانع لاهل البيت ويجوز شهادته لغيرهم - والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت رواه احمد وأبو داود وابن ماجة وابن دقيق العبد والبيهقي وزاد أبو داود بعد(1/775)
قوله ولا خائنة ولا زان ولا زانية - قال ابن الجوزي فيه محمد بن راشد ضعيف - وقال في التنقيح - وثقه احمد بن حنبل - وعن عائشة قالت قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذى غمر لاخيه يعنى ذى عداوة ولا قانع لاهل البيت لهم ولا ظنين في ولاد ولا قرابة رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي من حديث يزيد بن زياد الدمشقي وهو ضعيف وعن عائشة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم انه قال لا يجوز شهادة الوالد لولده ولا الوالدة ولا المرأة لزوجها ولا الزوج لامراته ولا العبد لسيده ولا السيد لعبده ولا الشريك لشريكه في الشيء بينهما ولكن في غيره ولا الأجير لمن استأجر - رواه الخصاف بسنده -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 428
( ((1/776)
مسئلة)) قال أبو حنيفة يقتصر الحاكم في العدالة على ظاهر صلاحه ولا يسئل عن حاله الا إذا طعن فيه الخصم - وقال أبو يوسف ومحمد لا بدان يسئل عنهم سرا وعلانية طعن الخصم أو لا - وبه قال الشافعي واحمد وقال مالك من كان مشهورا بالعدالة لا يسئل عنه ومن عرف جرحه ردت شهادته ويسئل إذا شك - احتج أبو حنيفة بقوله صلى اللّه عليه وسلم - المسلمون عدول بعضهم على بعض الا محدودا في قذف - رواه ابن أبى شيبة - وعن عمر بن الخطاب انه كتب لابى موسى الأشعري وفيه المسلمون عدول بعضهم على بعض الا مجلودا في قذف أو مجربا في شهادة زورا وظنينك في ولاء أو قرابة - رواه الدارقطني من طريق فيه عبد اللّه أبو حميد وهو ضعيف ومن طريق اخر حسنه واخرج البيهقي من طريق غير الطريقين قال العلماء الحنفية والفتوى على قول أبى يوسف ومحمد قالوا والخلاف انما هو خلاف زمان لا خلاف حجة وبرهان لان الغالب في زمان أبى حنيفة كان الصلاح ثم فسد الزمان في وقت صاحبيه والحق كذلك قلت والفتوى في زماننا هذا على قول أبى حنيفة لان في زماننا لا يوجد رجل عدل على ما شرط في الكتب فلو ضيقنا الأمر يتوى حقوق الناس وينسد باب القضاء بل في زماننا هذا الفاسق إذا كان
وجيها ذا مروة يغلب على الظن انه لا يكذب في الشهادة أو دلت القرائن على صدقه يقبل شهادته - واختار المتأخرون تحليف الشهود مقام التزكية - فان قيل هذا تعليل فى مقابلة النص فلا يقبل - قلنا بل هو مقتضى النص فان قوله تعالى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ... - (1/777)
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ يقتضى كون الشهداء من رجال كل قرن مرضيين منهم وكيف يمكن في قرتنا هذا ان تستشهد مثل أبى حنيفة إذ لا يوجد عادل في هذا القرن وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لاصحابه انكم في زمان من ترك منكم عشر ما امر به هلك ثم يأتى زمان من عمل منهم عشر ما امر به نجا - رواه الترمذي عن أبى هريرة - وتأويل هذا الحديث ان اللّه سبحانه يغفر ذنوب رجال يريدون اللّه والدار الاخرة في الازمنة الفاسدة اكثر مما يغفر ذنوب رجال صالحين من القرون الصالحة وان كان ذنوبهم اكثر من ذنوب أولئك لان المعاصي صارت مباحة في هذه القرون ومثل الفريقين كمثل العسكرين عسكر يجاهدون كلهم كمال المجاهدة وعسكر في أكثرهم وصبر بعضهم نوع صبر ولم يفروا فالسلطان يعطى هؤلاء الصابرين اكثر مما يعطى أولئك المجاهدين والفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء ويغفر لمن يشاء الكبائر ويعذب من يشاء على الصغائر مِنَ الشُّهَداءِ كلمة من للتبعيض فهو يدل على ان الفاسق أيضا أهل للشهادة فان قبل القاضي
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 429(1/778)
شهادته جار لكنه يأثم إذا لم يبالغ في طلب الحق غاية وسعه أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما قرأ حمزة ان بكسر الهمزة فحينئذ تضل مجزوم بناء على الشرط لم يظهر جزمه بالتشديد ومعناه ينسى فَتُذَكِّرَ بالرفع على انه خبر مبتدأ والجملة الاسمية جزاءاى فهى تذكرها إِحْداهُمَا الْأُخْرى وقرأ العامة ان بالفتح ونصب تضل بان فتذكّر منصوبا معطوفا على ما سبق قرأ ابن كثير وأبو عمرو فتذكر مخففا من الافعال والباقون مشددا من التفعيل ومعناهما واحد من الذكر ضد النسيان - وفيه اشعار على نقصان عقلهن وقلة ضبطهن.(1/779)
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما رايت من ناقصات عقل ودين اذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن يا رسول اللّه ما نقصان عقلنا قال أ ليس شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل قلن بلى قال فذلك من نقصان عقلها قلن فما نقصان ديننا يا رسول اللّه قال أ ليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم قال فذلك من نقصان دينها وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قيل أراد به إذا دعو التحمل لشهادة واسم الشهداء حينئذ مجاز فيمن سيتصف بالشهادة وهو امر إيجاب عند بعضهم وقال قوم يجب الاجابة إذا لم يكن غيرهم فان وجد غيرهم فهم مخيرون وهو قول الحسن - وقال قوم هو امر ندب - وقيل معناه إذا دعوا لاداء شهادة تحملوها من قبل وهو قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وذلك واجب البتة بدليل قوله تعالى وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وعن أبى موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال من كتم شهادة إذا دعى إليها كان كمن شهد بالزور رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفي سنده عبد اللّه بن صالح كاتب ليث احتج به البخاري ( (مسئلة)) إذا دعى الشاهد إلى مجلس الحاكم كى يؤدى شهادته قيل يلزم ذلك إذا كان مجلس القاضي قريبا فان كان بعيدا فلا لقوله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ - وعن نصر ان كان بحال يمكنه الرجوع إلى اهله فى يومه يجب لأنه لا ضرر عليه ( (مسئلة)) لو كان الشاهد شيخا فاركبه الطالب على دابته فلا بأس به - وعن سليمان فيمن أخرج الشهود إلى ضيعه فاستأجر لهم حميرا فركبوها لا يقبل شهادتهم - وفصّل في النوازل بين كون الشاهد شيخا لا يقدر على المشي ولا يجد ما يستاجر به دابة فيقبل وما ليس كذلك فلا يقبل - قال ابن همام وفيه نظر لان إكرام الشهود مأموربه ( (مسئلة)) ولو وضع للشهود طعاما فاكلوا ان كان مهيا من قبل ذلك يقبل شهادتهم وان صنعه لاجلهم لا يقبل هذا قول أبى حنيفة وعن محمد لا يقبل فيهما وعن أبى يوسف يقبل فيهما - قال ابن(1/780)
همام وهو الاوجه للعادة الجارية بالطعام
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 430
من حل محله ممن يعز عليه شاهدا كان اولا هذا فيما لا يشترط واما إذا اشترط فهو اجرة ورشوة حرام على الشاهد اخذه وعلى المشهود له إعطاؤه وان أخذ الشاهد لا يقبل شهادته سواء تعين هو للشهادة بان لا يكون غيره شاهدا أو لم يتعين لأنه إذا اشترط صارا جيرا عاملا لنفسه بالاجرة - وقال الشافعي ان تعين عليه لا يجوز له أخذ الاجرة وان لم يتعين عليه جاز لأنه ليس بفريضة عليه - قلنا ان تعين فهو فرض عين والا(1/781)
ففرض كفاية ولو سلمنا فهو مندوب ولا يجوز أخذ الاجرة على العبادة عندنا وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الراشي والمرتشي في النار رواه الطبراني في الصغير عن ابن عمر بإسناد حسن - وَلا تَسْئَمُوا أى لا تملوا من كثرة مدايناتكم أَنْ تَكْتُبُوهُ أى الدين أو الحق أو الكتاب صَغِيراً كان الحق أَوْ كَبِيراً مضافا إِلى أَجَلِهِ أى وقت حلوله ذلِكُمْ اشارة إلى ان تكتبوه أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أى اكثر عدلا وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أى اثبت لاداء الشهادة وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أى اقرب ان لا تشكوا عند الشهادة في جنس الدين أو قدره أو اجله أو نحو ذلك وهما مبيّنان لاقسط - أو يكون المعنى ذلك أى الكتابة اقسط عند اللّه في حق من له ومن عليه الحق فلا ينسى ما له وما عليه فلا يدعى المدعى الزيادة ويقربه المدعى عليه وأقوم في حق الشاهد للشهادة فلا يزيد ولا ينقص فى الشهادة وقت الأداء وأدنى ان لا ترتابوا أيها الخصماء والشهداء - قيل فائدة الكتابة في الشاهد ليس الا ان يتذكر الوقعة التي شهدها ولا يجوز للشاهدان راى خطه ان يشهد الا ان يتذكر شهادته كذا ذكر في القدورى وغيره وقال صاحب الهداية هذا قول أبى حنيفة وعندهما يحل له الشهادة إذا راى خطه وان لم يتذكر وقيل هذا يعنى عدم جواز الشهادة بالاتفاق - وانما الخلاف فيما إذا وجد القاضي شهادته في ديوانه وهو تحت ختمه يؤمن عليه من الزيادة والنقصان هل يجوز للقاضى العمل عليه - ولا كذلك الشهادة فى الصك إذا كان في يد المدعى لأنه لا يؤمن من التغير والخط يشبه الخط وهذا يدل على انه ان كان المكتوب عند الشاهد بحيث لا يحتمل التغير يجوز للشاهد ان يشهد عليه وان لم يتذكر عند أبى يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة لا يجوز وجه قول الصاحبين ان المكتوب إذا كان مامونا من التغير فهو كالمتذكر الا ترى ان الصحابة والتابعين كانوا يعملون على كتب النبي صلى اللّه عليه و(1/782)
سلم وخلفائه كما كانوا يعملون على خطاباته - وقد مرقصة عبد اللّه بن جحش وكتابه في تفسير قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ - ووجه قول أبى حنيفة ان الشهادة مبنىّ على المشاهدة ومن ثم يشترط لفظ الشهادة
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 431
و قد قال عليه الصلاة والسلام - إذا رايت مثل الشمس فاشهد إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً قراهما عاصم بالنصب على خبر كان والاسم مضمر أى الا ان تكون التجارة تجارة حاضرة ورفعها « 1 » الآخرون على انه اسم كان تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ ليس فيها أجل - وهذه الجملة صفة لتجارة على قراءة عاصم وكذا على قراءة الجمهور ان كان تامة والا فهو خبرها - والاستثناء منصرف إلى الأمر بالكتابة - والتجارة الحاضرة يعم المبايعة بدين حال أو عين فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أى التجارة - وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ قال الضحاك وداود الأمر للوجوب فالاشهاد واجب سواء كان بالنقد أو النسية - وقال أبو سعيد الخدري كان واجبا فنسخ بقوله تعالى - فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً - وعند الجمهور الأمر للندب - وكثيرا ما لم يشهد النبي صلى اللّه عليه وسلم عند المبايعة روى احمد من حديث عمارة بن خزيمة عن عمه وهو من اصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ان النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاسرع النبي صلى اللّه عليه وسلم في المشي ليؤتى ثمن فرسه وابطا الاعرابى فطفق « 2 » رجال يعرضون للاعرابى فيساومون بالفرس لا يشعرون ان النبي صلى اللّه عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الاعرابى في السوم على ثمن الفرس فنادى الاعرابى النبي صلى اللّه عليه وسلم ان كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقام النبي صلى اللّه عليه وسلم حين سمع نداء الاعرابى فقال أو ليس قد ابتعته منك - فقال لا واللّه ما بعتك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم بلى قد ابتعته فطفق(1/783)
الاعرابى يقول هلم شهيدا يشهدانى قد بايعتك - فطفق الناس يقولون للاعرابى ويلك ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن ليقول الا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع مراجعة النبي صلى اللّه عليه وسلم ومراجعة الاعرابى وطفق الاعرابى يقول هلم شهيدا يشهد انى بعتك فقال خزيمة انا اشهد انك قد بايعته - فاقبل النبي صلى اللّه عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد قال بتصديقك يا
رسول اللّه فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين - قلت وعندى ان النبي صلى اللّه عليه وسلم انما حكم كذلك لعلمه بانه قد بايع وان الاعرابى كاذب في إنكاره لا بشهادة خزيمة وحده وانما جعل شهادة خزيمة بشهادة رجلين لما راى قوة إيمانه ولمال عقله ودرايته - ويستنبط من هذا الحديث ان القاضي لو كان عالما بالحق يسعه الحكم على وفق علمه لان علمه فوق ما يحصل من الظن بشهادة رجلين - كما ان أبا بكر حكم على فاطمة بمنع الإرث بحديث سمعه من النبي صلى اللّه عليه وسلم نحن معاشر الأنبياء لا نورث - وان السلطان أو القاضي أو غيرهما لو ابتاع من غيره شيئا أو كان له حقّ « 3 » على الغير وهو يعلم ذلك يقينا وسعه ان يأخذ من ذلك الغير حقه جبرا وان كان ذلك الغير
_________
(1) فى الأصل رفعها
(2) فى الأصل فطق
(3) فى الأصل حقا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 432(1/784)
منكرا لحقه ولا تبيعة عليه في ذلك عند اللّه تعالى - لكن لو رفع هذا الأمر إلى قاضى غيره لا يجوز لذلك الغير الحكم بعلم السلطان والقاضي المدعى ما لم يقم عليه بينة واللّه اعلم وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يحتمل ان يكون لا يضار مبنيا للفاعل يعنى لا يضر كاتب ولا شهيد أحدا من المتبايعين من ترك الاجابة إذا كان متعينا للشهادة والكتابة والتحريف والتغيير في الكتابة أو الشهادة وهذا قول طاؤس والحسن وقتادة - ويحتمل ان يكون مبنيا للمفعول أى لا يضر المتبايعان الكاتب فلا يعطيان جعله ولا الشاهد ان يدعوه إلى الشهادة وهو على شغل أو مريض أو ضعيف وهو غير معين للشهادة بل كان على تلك الوقعة شهود « 1 » غيره أيضا وَإِنْ تَفْعَلُوا سانهيتكم من الضرار فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ أى خروج عن طاعة اللّه تعالى ومعصيته لاحق بكم فيها وَاتَّقُوا اللَّهَ فى مخالفة امره وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ مصالح دينكم ودنياكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) كرر لفظ اللّه في الجمل الثلاث لاستقلالها فان الاولى حث على التقوى والثانية وعد بانعامه والثالثة تعظيم لشأنه - .(1/785)
وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أى مسافرين وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم الراء والهاء والباقون فرهان بكسر الراء والف بعد الهاء - ورهن جمع رهن بفتح الراء وسكون الهاء مثل بغل وبغال - ورهن بالضمتين جمع رهان جمع الجمع كذا قال الفراء والكسائي وقال أبو عبيد وغيره رهن بالضمتين جمع رهن بالفتح والسكون أيضا على وزن يسقف وسقف - والرهن لغة حبس الشيء قال اللّه تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ - وفي الشرع جعل اسما لما يحبس بحق يمكن استيفاؤه منه - ولما كان الحبس هو معناه اللغوي والمعنى اللغوي يكون معتبرا في المعنى الشرعي فهو عقد لازم لا يجوز للراهن استرداده من المرتهن ما بقي عليه درهم - وقوله تعالى فرهن خبر مبتدأ محذوف أو فاعل فعل محذوف مبنى للمفعول أى فالذى يستوثق به رهن أو فليؤخذ رهن أو فعليكم رهان - والأمر ليس للايجاب اجماعا بل للارشاد والشرط خرج مخرج العادة على الأعم الا غلب فليس مفهوم معتبرا عند القائلين بالمفهوم أيضا حيث يجوز الرهن في الحضر ومع وجود الكاتب اجماعا وقال مجاهد وداود لا يجوز الا في السفر عند عدم الكاتب - لنا حديث عائشة رواه الائمة الستة وحديث انس رواه البخاري ان النبي صلى اللّه عليه وسلم رهن درعه بالمدينة من يهودى بعشرين صاعا من شعير اخذه لاهله ومات عليه السلام وكان درعه مرهونا عنده مَقْبُوضَةٌ لاجل هذا القيد قال أبو حنيفة والشافعي واحمد لا يجوز الرهن أى لا يلزم بدون القبض - وقال مالك يلزم بنفس العقد ويجبر الراهن على التسليم لنا ان مشروعيته ولزومه ثبت بنص القرآن مقبوضة وكان
_________
(1) فى الأصل شهودا
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 433(1/786)
القياس يقتضى كونه تبرعا غير لازم لان الراهن لا يستوجب بمقابلته على المرتهن شيئا فيقتصر على مورد النص - ولاجل اشتراط القبض في الرهن قال أبو حنيفة لا يجوز رهن المشاع سواء كان قابلا للقسمة اولا لان الشيوع ينافى دوام القبض بل يقتضى المهاباة فصار كما إذا قال رهنتك يوما دون يوم والرهن بمعنى الحبس يقتضى دوام الحبس لان المطلق ينصرف إلى الكامل - بخلاف الهية فان المانع هناك من الهبة في المشاع غرامة القسمة على الواهب وهو فيما يحتمل القسمة لا فيما لا يحتمله وقال مالك والشافعي واحمد يجوز رهن المشاع مطلقا سواء كان قابلا للقسمة اولا - (مسئلة) وإذا تم الرهن بالقبض خرج المرهون من ملك الراهن يدا وبقي في ملكه رقبة وملكه المرتهن يد الا رقبة فلا يجوز للراهن الانتفاع بالمرهون من ركوب الدابة المرهونة والسكون في الدار ولبس الثوب ونحو ذلك الا برضاء المرتهن لأنه ينافى مالكية المرتهن يدا ولزوم حبسه دائما هذا عند أبى حنيفة رحمه اللّه وقال الشافعي يجوز للراهن الانتفاع به لقوله صلى اللّه عليه وسلم الرهن مركوب محلوب - رواه الدارقطني والحاكم عن حديث الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم واعل هذا الحديث ابن أبى حاتم فقال قال أبى رفعه مرة ثم ترك الرفع بعده - ورجح الدارقطني ثم البيهقي رواية من وقفه عن من رفعه - قلنا هذا الحديث مجمل يحتمل ان يكون مركوبا للراهن ويحتمل ان يكون مركوبا للمرتهن فلا يجوز الاستدلال به (مسئلة) ولا يجوز للراهن شىء من التصرفات الشرعية في المرهون - فان فعل فما كان منها يحتمل الفسخ كالبيع والهبة ونحو ذلك ينعقد بناء على ملك الرقبة ويتوقف على اجازة المرتهن أو فك الرهن - واما ما لا يحتمل الفسخ كالعتق فينفذ بناء على ملك الرقبة وعدم احتمال الفسخ - ويجب عليه قيمة العبد رهنا عند المرتهن ان كان موسرا وعلى العبد السعى في قيمته ان كان معسرا هذا عند ابى(1/787)
حنيفة واحمد - وعند مالك يتوقف عتقه كالبيع - وعند الشافعي ينفذ ان كان موسرا ولا ينفذ ان كان معسرا - (مسئلة) يجب على الراهن نفقة المرهون بناء على ملك الرقبة - وزوائد المرهون من الولد والصوف واللبن والثمر ونحوه كلها ملك الراهن اجماعا قال عليه الصلاة والسلام له غنمه وعليه غرمه وقيل ملك للمرتهن عند احمد لكن عبارة ابن الجوزي في التحقيق يقتضى انه ملك الراهن عنده حيث قال للمرتهن استيفاء النفقة من دره وظهره (مسئلة) زوائد المرهون يكون مرهونا عند
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 434(1/788)
ابى حنيفة رحمه اللّه لان لها حكم الأصل فيكون مملوكة للراهن رقبة وللمرتهن يدا - وبناء على عدم مالكيته رقبة لا يجوز للمرتهن الانتفاع بالمرهون بل يكون ذلك ربوا ولا يجوز للمرتهن في المرهون شىء من التصرفات المبنية على الملك (مسئلة) ما أنفق المرتهن على المرهون ان كان بإذن الراهن يكون دينا عليه وان كان بغير اذنه يكون متطوعا - وقال احمد يكون دينا عليه مطلقا ويجوز للمرتهن استيفاؤه من ظهره ودره - واستدل على ذلك ابن الجوزي بحديث الرهن مركوب محلوب وبما رواه البخاري عن الشعبي عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرهن بما فيه يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة - ورواه أبو داؤد بلفظ يحلب مكان يشرب ورواه الطحاوي بلفظ الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا - قلنا هذا الحديث يدل على ان نفقة الرهن واجب على من يركب والإجماع انعقد على ان نفقة الرهن على الراهن فلعل هذا الحكم كان قبل تحريم الربوا حين لم يكن القرض الذي يجر منفعة منهيا عنه - وحين لم يكن أخذ الشيء بالشيء وان كانا غير متساويين بالمعيار الشرعي من غير عقد جرى بين المالكين منهيا عنه فهذا الحكم منسوخ على ما يقتضيه الإجماع باية الربوا - وبقوله تعالى فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ - وبقوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ واما قوله الرهن بما فيه فغير منسوخ ومعناه الرهن مضمون بما رهن فيه من الدين يعنى ان كان الدين مثل الرهن أو اقل منه فالدين يسقط بهلاك الرهن والفضل من الرهن امانة - (مسئلة) إذا مات الراهن يباع المرهون في دين(1/789)
المرتهن فقط ولا يتعلق به حق سائر غرماء الراهن لأنه كان مالكا يدا من الابتداء ومستحقا لملك الرقبة وكان يده يد استيفاء (مسئلة) وان هلك الرهن في يد المرتهن من غير تعد كان مضمونا عند أبى حنيفة ومالك لأنه كان مالكا يدا ويده كان يد استيفاء وبالهلاك تقرر الاستيفاء فلو وجب على الراهن أداء الدين ثانيا لزم الربوا - فقال مالك - يضمن بالقيمة لوقوع الاستيفاء به وقال أبو حنيفة - بالأقل من الدين والقيمة والفضل امانة - كذا روى الطحاوي عن عمر رضى اللّه عنه - وعند شريح والحسن والشعبي مضمون بالدين وقال الشافعي واحمد أمانته فى يد المرتهن لا يضمن الا بالتعدي لقوله صلى اللّه عليه وسلم لا يعلق الرهن من صاحبه الذي رهنه الرهن لمن رهن له غنمه وعليه غرمه - رواه ابن حبان في صحيحه والدارقطني والحاكم من طريق زياد
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 435(1/790)
ابن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبى هريرة مرفوعا لا يعلق الرهن له غنمه وعليه غرمه قال الدارقطني زياد بن سعد أحد الحفاظ الثقات وهذا حديث حسن متصل - وأخرجه ابن ماجة من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري - وأخرجه الحاكم من طرق عن أبى هريرة موصولا أيضا - ورواه الأوزاعي ويونس وابن أبى ذئب عن الزهري - عن سعيد مرسلا - ورواه الشافعي عن ابن أبى فديك وابن أبى شيبة عن وكيع - وعبد الرزاق عن الثوري كلهم عن ابن أبى ذئب كذلك ولفظه لا يعلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه - وصحح أبو داود والبزار والدارقطني إرساله وله طرق عند الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة وروى ابن حزم والدارقطني من طريق شبابة عن ورقاء عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وابى سلمة بن عبد الرحمن عن أبى هريرة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يعلق الرهن الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه - قال ابن حزم - هذا حديث حسن وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله قال الحافظ ابن حجر فيه عبد بن نصر له أحاديث منكرة - وقوله له غنمه وعليه غرمه قيل انها مدرجة من قول ابن المسيب - كذا قال أبو داود في المراسيل - قال ابن عبد البر هذه اللفظة اختلف في رفعها ووقفها فرفعها ابن أبى ذئب ومعمر وغيرهما مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف على ابن أبى ذئب ووقفها غيرهم وجه احتجاج الشافعي بهذا الحديث ان الحديث يدل على ان الرهن لا يخرج من ملك الراهن وهو معنى قوله لا يعلق الرهن - ومعنى قوله - لصاحبه غنمه يعنى سلامته وعليه غرمه يعنى هلاكه - قلنا تأويل الحديث ليس هكذا بل تأويله على ما ذكره ابن الجوزي عن ابراهيم النخعي انهم كانوا يرهنون ويقولون ان جئتك بالمال إلى وقت كذا والا فهو لك فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يعلق الرهن - وروى الطحاوي بسنده عن ابراهيم نحوه وروى عن مالك بن انس وسفيان بن سعيد انهما يفسران هكذا - و(1/791)
معنى قوله له غنمه يعنى زوائد المرهون له وعليه غرمه يعنى عليه نفقته وهذا المعنى مجمع عليه ولنا في وجوب الضمان ما رواه الطحاوي ثنا محمد بن خزيمة ثنا عبيد اللّه بن محمد التيمي قال انا عبد اللّه بن مبارك قال ثنا مصعب بن ثابت عن عطاء بن أبى رباح ان رجلا ارتهن فرسا فمات الفرس في يد المرتهن فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذهب حقك هذا مرسل والمرسل عندنا حجة ويؤيده ما رواه البخاري عن أبى هريرة الرهن بما فيه وقد مر وكذا عن انس عند الدارقطني رواه ابن الجوزي بطريقين ضعيفين وهذا يدل على ان ما فضل من القيمة فهو امانة وهو القياس إذا الاستيفاء لا يتحقق الا بقدر الواجب -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 436
فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أى بعض الدائنين بعض المديونين واستغنى بامانته عن الرهن والكتابة - وفي قراءة أبيّ فان ائتمن والمعنى واحد فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ أى دينه سماه امانة لايتمانه بترك الكتابة والرهن عن انس قال فلما خطبنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا قال لا ايمان لمن لا امانة له ولا دين لمن لا عهد له - رواه البيهقي في الشعب وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ فى الخيانة والإنكار من الحق وفيه(1/792)
مبالغات - وقد مر في الحديث اية المنافق ثلث وذكر فيه إذا اؤتمن خان وَلا تَكْتُمُوا أيها الشهداء الشَّهادَةَ على المديونين إذا ما خانوا ولم يؤدوا ما أمن بعضكم بعضا وأنكروا الحق الذي عليهم - ويحتمل ان يكون المراد لا تكتموا أيها المديونين الشهادة بالحقوق الذي عليكم أى أقروا على أنفسكم وَمَنْ يَكْتُمْها أى الشهادة بالحق فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ مرفوع بالفاعلية أو الابتداء أى يأثم قلبه أو قلبه اثم - والجملة خبران وأسند الإثم إلى القلب لان الكتمان فعل القلب ففى الاسناد إليه تأكيد ومبالغة كما يقال رايته بعيني وسمعته بأذنى وحفظته بقلبي أو لأنه رئيس الأعضاء وأفعاله أعظم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان في جسد بنى آدم لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله الا وهى القلب - متفق عليه عن النعمان بن بشير قيل أراد به مسخ القلب نعوذ باللّه منها وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الشهادة والكتمان عَلِيمٌ (283) تهديد وهذه الآية دليل على ان كتمان الشهادة حرام وأداؤها فريضة وان لم يسئله المشهود له - وإذا كان المشهود له لا يعلم بشهادة الشاهد يجب على الشاهد ان يعلّمه بانه شاهد - وقال قوم الشهادة من قبل ان يستشهد مذموم لحديث عمران بن حصين قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خير أمتي قرنى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم ان بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن - وفي رواية ويحلفون ولا يستحلفون - متفق عليه - وعن عمر بن الخطاب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - أكرموا أصحابي فانهم خياركم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يظهر الكذب حتى ان الرجل ليحلف ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد رواه النسائي واسناده صحيح وفي الباب حديث أبى هريرة نحوه وحديث ابن مسعود بلفظ يسبق شهادتهم ايمانهم وايمانهم شهادتهم - روى(1/793)
الطحاوي الحديثين بطرق - قلنا المراد بهذه الشهادة المذمومة الشهادة على الكذب بقرينة قوله ثم يفشوا الكذب وقوله ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون - وقد روى الطحاوي بسنده من طريق مالك عن زيد بن خالد الجهني ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 437
قال - الا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتى بشهادته قبل ان يسئل عنها - أو يخبر بشهادته قبل ان يسئلها - .(1/794)
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وملكا قيل فيه دليل على ان كل ما سواه تعالى متحيز ولا شىء من الممكنات مجردا والا لكان بيان خالقيته ومالكيته قاصرا لان الأهم اثبات مالكية المجردات وهذا ليس بشىء بل التحقيق ان من الممكنات مجردات وهى أرواح البشر والملائكة وغيرهم وقد انكشف على ارباب القلوب من المجردات القلب والروح والسر والخفي والأخفى واللّه تعالى أعلم بخلقه ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وانما اقتصر هاهنا على ذكر ما في السموات وما في الأرض بناء على قصر نظر العوام عليها وذكرها كاف للاستدلال على الصانع جلت قدرته - ولان الاستدلال لا يتصور الا بامور مشهودة معلومة للعوام لا بامور مختفية على الخواص ومن ثم لم يذكر هاهنا العرش والكرسي مع انهما ليسا في السموات والأرض واللّه اعلم - وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ من الرذائل كالنفاق والرياء والعصبية « 1 » وحب الدنيا والغضب والكبر والعجب والأمل والحرص وترك التوكل والصبر والحسد والحقد ونحو ذلك مما هو من افعال القلوب والنفوس - عن جبير بن مطعم قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ليس منا من دعا على عصبيته وليس منا من مات على عصبيته رواه أبو داؤد وعن حارثة بن وهب قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الا أخبركم باهل الجنة كل ضعيف متضعّف لو اقسم على اللّه لابره الا أخبركم باهل النار كل عتلّ « 2 » جوّاظ « 3 » مستكبر - متفق عليه - وفي رواية لمسلم كل جواظ زنيم « 4 » متكبر - وعن الحسن مرسلا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - حب الدنيا رأس كل خطيئة - رواه البيهقي في شعب الايمان عن انس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حب أبى بكر وعمر ايمان وبغضهما نفاق - رواه ابن عدى - وعن جابر مرفوعا حب أبى بكر وعمر من الايمان وبغضهما كفر وحب الأنصار من الايمان و(1/795)
بغضهم كفر وحب العرب من الايمان وبغضهم « 5 » كفر ومن سب أصحابي فعليه لعنة اللّه ومن حفظنى فيهم فانا احفظه يوم القيامة - رواه ابن عساكر وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال - حب علىّ عبادة « 6 » وعن علىّ قال والذي فلق الحبة وبرىء النسمة لعهد النبي الأمي صلى اللّه عليه وسلم إلى ان لا يحبنى الا مؤمن ولا يبغضنى الا منافق رواه مسلم وعنه قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيك مثل من عيسى « 7 » أبغضته اليهود حتى بهتوا امه وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزلة التي ليست له - ثم قال يهلك فيّ رجلان محب مفرط يفرطنى بما ليس في ومبغض يحمله شتانى على ان يبهتنى - رواه احمد وعن أبى هريرة مرفوعا
_________
(1) العصبية والتعصب المحامات - نهاية يعنى حمية الجاهلية - منه
(2) عتل الشديد الجافي الفظ الغليظ من الناس - منه رح
(3) الجواظ الجموع المنوع وقيل الكثير اللحم المختال - منه رح
(4) الزنيم الملحق بالقوم ليس منهم - منه رح
(5) فى الأصل وبعضهم
(6) هكذا بياض في الأصل - أبو محمد [.....]
(7) وفي الأصل مثل عيسى
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 438(1/796)
قال اللّه تعالى الكبرياء ردائى والعظمة إزاري فمن نازعنى واحدا منهما أدخلته النار - رواه مسلم وعن عطية السعدي مرفوعا ان الغضب من الشيطان - رواه أبو داؤد وعن بهزين حكيم عن أبيه عن جده مرفوعا ان الغضب يفسد الايمان كما يفسد الصير العسل - رواه البيهقي في الشعب وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا أول صلاح هذه الامة اليقين والزهد وأول فسادها البخل والأمل - رواه البيهقي وعن سعد قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من سعادة ابن آدم رضاؤه بما قضى اللّه ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى اللّه - رواه احمد والترمذي - وعن معاذ بن جبل مرفوعا قال يطلع اللّه إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه الا المشرك أو مشاحن - رواه الدارقطني وصححه ابن حبان - وفي رذائل النفس ومحامدها أحاديث لا تكاد تحصى - وقيل معناه إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ - من كتمان الشهادة - كذا قال الشعبي وعكرمة - أو من ولاية الكفار فهو نظير ما في ال عمران لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ إلى ان قال قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ الآية - كذا قال مقاتل - والتحقيق ان كتمان الشهادة وولاية الكفار داخلان فيما استقر في أنفسكم ولا وجه للتخصيص بعد ثبوت المؤاخذة على الجميع بالنصوص والإجماع - وقيل المراد به العزم المصمم على المعاصي من افعال الجوارح قال عبد اللّه بن المبارك قلت لسفيان أ يؤاخذ اللّه العبد بالهمّ قال إذا كان عزما أخذ بها - قلت لو ثبت المؤاخذة على العزم فالعزم أيضا داخل في المعاصي القلبية - لكن الصحيح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انه قال من هم بسيئة فلم يعمل بها لم يكتب عليه وإذا عمل بها كتب بمثلها - الحديث يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ يوم القيامة اما حساب عرض حسابا يسيرا فَيَغْفِرُ وذلك لِمَنْ يَشاءُ مغفرته واما حساب مناقشة فيأخذ به وَيُعَذِّبُ مَنْ(1/797)
يَشاءُ تعذيبه - قرأ أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب برفع الفعلين على الاستيناف والباقون بالجزم عطفا على جواب الشرط وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من العذاب والمغفرة وغير ذلك قَدِيرٌ (284) لا يمكن لاحد الاعتراض عليه ان شاء عذب على الصغيرة وان شاء غفر الكبيرة من غير توبة اجمع أهل السنة والجماعة على ان الحساب على المعاصي القلبية والنفسانية والقالبية حق والتعذيب على الذنوب صغائرها وكبائرها حق لكنه ليس بواجب بل في مشية اللّه تعالى - روى طاؤس عن ابن عباس قال فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم يعنى سواء تاب عنه المذنب أو لم يتب ويعذب من يشاء على الذنب الصغير لا يسئل عما يفعل - وأنكر المعتزلة والروافض وغيرهم الحساب
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 439(1/798)
و قالت المعتزلة وغيرهم بوجوب العذاب على العصاة وهذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث حجة لنا عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه وسلم قال ليس أحد يحاسب يوم القيامة الا هلك قلت أو ليس يقول اللّه تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا فقال انما ذلك العرض ولكن من نوقش في الحساب يهلك متفق عليه وعن ابن عمر قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه يدنى المؤمن فيضع عليه كتفه ويستر فيقول أ تعرف ذنب كذا أ تعرف ذنب كذا فيقول نعم أى رب حتى قرره بذنوبه وراى في نفسه انه قد هلك قال سترتها عليك في الدنيا وانا اغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته فاما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤس الخلائق هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ - متفق عليه - وعن عائشة قالت جاء رجل فقعد بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه ان لى مملوكين يكذبوننى ويخونوننى ويعصوننى واشتمهم واضربهم فكيف انا منهم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فان كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وان كان عقابك إياهم دون ذنبهم كان فضلا لك وان كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الحديث - رواه الترمذي وفي كلى بابى الحساب والمغفرة أحاديث كثيرة لا تحصى (فصل) ومن الناس من يدخلون الجنة بغير حساب عن أبى امامة قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم(1/799)
يقول وعدنى ربى ان يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل الف سبعون الفا وثلاث حثيات « 1 » من حثيات ربى - رواه احمد والترمذي وابن ماجة - وعن اسماء بنت يزيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال يحشر الناس في صعيد واحد يوم القيامة فينادى مناد فيقول اين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يؤمر سائر الناس إلى الحساب - رواه البيهقي - وعن ابن عباس قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدخل الجنة من أمتي سبعون الفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكّلون - متفق عليه وعنه كذلك في حديث طويل قلت والذي يظهر من سياق الكتاب والسنة ان هؤلاء الذين لا يحاسبون هم الصوفية العلية المتعشقة فان اللّه سبحانه علق الحساب برذائل النفس حيث قال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ - وذكر ابدائها واخفائها للتسوية كما في قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ - وانما علقه برذائل النفس دون اعمال الجوارح مع ان الحساب ليس مختصا بها لانها أشد واغلظ من اعمال الجوارح ولانه منشأ للمعاصى القالبية غالبا وبعد تزكية النفس
_________
(1) حثية واحدة أى غرفة بيديه وحثيات جمع كناية عن المبالغة في الكثرة والا فلا حثية ثم - نهاية - وحتى خاك انداختن بر شىء - صراح منه رح
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 440(1/800)
و تصفية القلب لا يصدر المعاصي الا نادرا - كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله - ولإن صدرت المعاصي نادرا فالنفس المطمئنة بالخيرات والقلب المصفى عن الزيغ والكدورات يندم فورا ويتوب إلى اللّه متابا بحيث يجعل اللّه سيئاتهم حسنات وكان اللّه غفورا رحيما - عن ابن مسعود مرفوعا - التائب من الذنب كمن لا ذنب له - رواه ابن ماجة والبيهقي وعنه في شرح السنة موقوفا الندم توبة - وهؤلاء القوم هم المسميون بفقراء المؤمنين في قوله صلى اللّه عليه وسلم انا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح اللّه لى فيدخلنى ومعى فقراء المؤمنين ولا فخر - وقد مر في تفسير قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ اعلم ان الفقير من لا شىء له وهؤلاء القوم لا شىء لهم من الوجود وتوابعه - اما الرذائل وصفات النفس الا مادة بالسوء فقد انسلبت منهم بأسرها - واما الوجود وصفات الكمال فوجدوها مستعارة مستودعة من اللّه ذى الجلال والإكرام فلما أدوا الامانة إلى أهلها ونسبوها إليه تعالى لم يبق منهم اسم ولا رسم ولذلك لا ترى منهم عجبا ولا كبرياء ولا شيئا من مقتضيات الالوهية الباطلة نعوذ باللّه منها - وكلمة مع فى قوله صلى اللّه عليه وسلم سبعون الفا مع كل الف سبعون الفا - تدل على ان سبعين الفا تابع لكل الف فلعل المراد به (و اللّه اعلم بمراده) انهم سبعون الفا من المكملين مع كل الف منهم سبعون الفا من الكاملين من العلماء الراسخين والصديقين والأولياء الصالحين - وقوله صلى اللّه عليه وسلم وثلاث حثيات من حثيات ربى الظاهر انه ليس المراد به كثرتهم لأنه لو أريد الكثرة فحثية واحدة من حثيانه تعالى يتسعه الأولون والآخرون فانّ الأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ - بل المراد به التنويع - فلعل المراد بالحثيات الثلاث الذين بذلوا أنفسهم في سبيل(1/801)
اللّه وهم الشهداء - والذين بذلوا عمرهم في طاعة اللّه (ما عدا المذكورين السابقين) من العلماء المريدين المتشبثين بالأولياء - والذين بذلوا أموالهم ابتغاء مرضات اللّه هؤلاء هم الذين أحبوهم وسلكوا سبيلهم وان لم يبلغوا درجة الأولين - وقوله عليه الصلاة والسلام وعلى ربهم يتوكلون صفتهم من حيث الباطن وتتجافى جنوبهم سيماهم من حيث الظاهر - جعلنى اللّه سبحانه منهم بفضله ومنّه - روى البخاري ومسلم واحمد وغيرهم عن أبى هريرة وروى مسلم وغيره فحوه عن ابن عباس انه لمّا نزلت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ الآية - اشتد ذلك على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فجثوا على الركب وقالوا - يا رسول اللّه كلفنا من الأعمال
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 441
ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت إليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أ تريدون ان تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا واطعنا غفرانك ربّنا وإليك المصير - فلما اقتراها القوم وذلت بها ألسنتهم انزل اللّه تعالى في اثرها - .(1/802)
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ قلت لعل الصحابة حين نزلت وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية فهموا منه ان اللّه يحاسب على خطرات الأنفس - أو انهم بناء على هضم أنفسهم اتهموا أنفسهم بالرذائل فاشتد ذلك عليهم فعلمهم النبي صلى اللّه عليه وسلم طريقة التسليم والرضاء والتوكل التي هى صفات النفوس المطمئنة الكريمات - وانزل اللّه تعالى لرفع ظنهم عن محاسبة الخطرات وتسلّيتهم بالشهادة على صدق ايمانهم وصحة نياتهم وتزكية نفوسهم وتصفية قلوبهم فان زوال رذائل النفس مقتضى الايمان - والايمان الحقيقي الكامل لا يكون الا بعد فناء النفس وزوال رذائلها والمطلق ينصرف إلى الكامل - والمراد بالمؤمنين المؤمنون الموجودون في ذلك الزمان وهم الصحابة رضى اللّه عنهم كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والتحق بهم من كان ايمانهم كايمانهم من أهل السنة والجماعة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ان بنى إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة - قالوا من هى يا رسول اللّه قال ما انا عليه وأصحابي رواه الترمذي عن عبد اللّه بن عمرو كُلٌّ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أى كل واحد منهم - قال البيضاوي لا يخلو من ان يعطف المؤمنون على الرسول فيكون الضمير الذي ينوب عنه التنوين راجعا إلى الرسول والمؤمنين أو يجعل المؤمنون مبتدأ فيكون الضمير للمؤمنين وباعتباره يصح وقوع كل مع خبره خبر مبتدأ - ويكون افراد الرسول بالحكم اما لتعظيمه أو لأن إيمانه عن مشاهدة وعيان وايمانهم عن نظر واستدلال آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ قرأ حمزة والكسائي وكتابه على الافراد يعنى القرآن والايمان به يتضمن الايمان بجميع الكتب أو المراد بالكتاب الجنس والفرق بينه و(1/803)
بين الجمع انه شائع في وحدان الجنس والجمع في جموعه ولذلك قيل الكتاب اكثر من الكتب وَرُسُلِهِ وقالوا أو قائلين لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أى في الايمان بهم كما فرق اليهود فقالوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض - وأحد نكرة فى سياق النفي فعمت كلهم ولذلك دخل عليه بين - وقرأ يعقوب لا يفرّق على الغيبة والضمير راجع
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 442
الى كل نظرا إلى لفظه كضمير أمن راجع إليه وَقالُوا الضمير راجع إلى الرسول والمؤمنين جميعا أو إلى لفظة كل من حيث المعنى سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك وأجبناك - قال البغوي روى عن حكيم بن جابر رضى اللّه عنه ان جبرئيل عليه السلام قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم حين نزلت هذه الآية - ان اللّه قد أثني عليك وعلى أمتك فسل تعطه فسال بتلقين اللّه عز وجل فقال غُفْرانَكَ أى اغفر غفرانك أو نسئلك غفرانك رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) المرجع بعد الموت وهو اقرار منهم بالبعث فهو داخل فى الايمان - وما ذكرنا من حديث الصحيحين يدل على « 1 » ان قولهم سمعنا إلخ كان قبل نزول هذه الآية فذكر اللّه تعالى حكاية عنهم وثناء عليهم وهو الأرجح - .(1/804)
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أى ما يسعه قدرتها وذلك فيما يبتنى من الاحكام على القدرة الممكّنة - أو ما دون مدى قدرتها وذلك فيما يبتنى من الاحكام على القدرة الميسرة كالزكوة على نمو المال وحولان الحول وغير ذلك - وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه - والمراد بالقدرة هاهنا هى القدرة الموهومة الموجودة قبل الفعل من سلامة الأسباب والآلات بعد اقامة الدلائل والبراهين على الأوامر والاحكام من الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة - لا القدرة الحقيقية التي لا توجد الا مع الفعل - ولهذا يتوجه الخطاب والعذاب إلى قوم نوح وفرعون وابى جهل وأشباههم الذين ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة واخبر عنهم بانهم لا يؤمنون قال اللّه تعالى لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ - ومشية اللّه تعالى غير مقدور للبشر فكذا مشيته التي علقت بمشيت اللّه تعالى - وهذا سر من اسرار اللّه تعالى يجب الايمان به والسكوت عنه وترك البحث فيه فانه مزلة الاقدام قال أبو هريرة فيما روى عنه الشيخان وغيرهما ان الصحابة لما اشتد عليهم نزول قوله تعالى إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية وقالوا يعنى بتعليم النبي صلى اللّه عليه وسلم سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ انزل اللّه تعالى هذه الآية فنسخ بهذا ذلك قلت وقول أبى هريرة فنسخ بهذا ذلك مبنى على التجوز فان حقيقة النسخ هو رفع حكم شرعى بعد ثبوته وذا لا يتصور الا في الاحكام دون الاخبار - وذلك اخبار بالمؤاخذة على افعال القلوب - وهذا اخبار بعدم وقوع التكليف فوق الطاقة فلا يحتمل النسخ غير ان هذه الآية لما كان مزيلا لظنهم بالمؤاخذة على حديث النفس وموجبا لتسليتهم عبر أبو هريرة بالنسخ مجازا(1/805)
_________
(1) فى الأصل يدل ان لو لهم 12
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 443
الا ان يقال ان قوله تعالى وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية وان كان اخبارا لكنه يدل على تحريم رذائل النفس كما يدل قوله تعالى كتب عليكم الصّيام على الإيجاب وكان بصيغته شاملا لحديث النفس وقوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ الآية على عدم التكليف على حديث النفس فانه ليس في وسعنا والتحريم تكليف فهو يدل على عدم التحريم فكان ناسخا للتحريم في بعض ما اشتملت عليه الآية الاولى واللّه اعلم - عن أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ان اللّه تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل به أو تتكلم - متفق عليه قال البغوي - ذهب ابن عباس وعطاء واكثر المفسرين إلى انه تعالى أراد بهذه الآية حديث النفس الذي ذكره في قوله وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية - قلت معناه ان حديث النفس داخل في حكم الآيتين بالمؤاخذة وعدم التكليف فلزم النسخ كما ذكرنا لا ان حكم الآيتين منحصر في حديث النفس بل عموم الآيتين ظاهر واللّه اعلم - (فائدة) بعد ما ثبت ان المؤاخذة على رذائل النفس أشد من المؤاخذة على اعمال الجوارح وان التكليف فوق الطاقة غير واقع أرجو أن المؤمن إذا بذل جهده وصرف همته مهما أمكن على دفع رذائل النفس بالمجاهدة ولم يقتف هواها ولو بالتكلف وتشبث بأذيال الفقراء مريد إزالتها لعل اللّه تعالى يغفر له رذائلها ولم يؤاخذه عليها لأنه قد بذل جهده ووسعه في الانتهاء عما نهى اللّه عنه وان اللّه تعالى وعد العفو عما ليس في وسعه - واما من لم يرفع رأسه لملاحظة عيوبها ولم يقصد دفع رذائلها فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً وَيَصْلى سَعِيراً - وبهذا يظهر فرضية أخذ طريقة الصوفية والتشبث بأذيال الفقراء كفرضية قراءة كتاب اللّه تعالى وتعلم أحكامه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تركت فيكم(1/806)
الثقلين كتاب اللّه وعترتى - رواه « 1 » فلا بد من أخذ كتاب اللّه تعالى لاستنباط أحكامه والعمل والتذكر والاتعاظ به وصعود مدارج القرب بتلاوته وأخذ أذيال آل رسوله وعترته لتهذيب النفوس والقلوب على حسب مرضات اللّه تعالى وهدايته لَها أى للنفس اجر ما كَسَبَتْ من خير بواسطة الجوارح أو بغير واسطتها وَعَلَيْها وزر مَا اكْتَسَبَتْ من شر كذلك يعنى لا ينتفع بطاعتها ولا يتضرر بمعصيتها الا هى وتخصيص الخير بالكسب والشر بالاكتساب لان الاكتساب فيه اعتمال والشر يشتهيه النفس ويجتذب إليه فكانت اجدّ في تحصيله واعمل بخلاف الخير - رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا تقديره قولوا ربّنا لا تؤاخذنا أى لا تعاقبنا إِنْ نَسِينا أى تركنا
_________
(1) هكذا بياض في الأصل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 444(1/807)
شيئا مما وجب علينا بالنسيان وهو ضد الذكر أَوْ أَخْطَأْنا فى إصابة العمل من قلة مبالاة - وهذه الآية تدل على ان المؤاخذة على الخطاء والنسيان لم يكن ممتنعا عقلا فان الذنوب كالسموم فكما ان تناول السموم يؤدى إلى الهلاك وان كان خطأ كذلك تعاطى الذنوب يفضى إلى العقاب لو لم يغفره اللّه وان كان بغير عزم أو يوجب ضيق الصدر وغين القلب - كان حضرت الشيخ الشهيد رضى اللّه عنه يروى عن شيخه السيد السند نور محمد البداونى رضى اللّه عنه انه كان إذا اهدى إليه طعام أو شىء يتوجه إليه بنظر البصيرة فان لم يرفيه ظلمة أكله واستعمله أو اعطى غيره وربما دفن بعض الاطعمة التي أهديت إليه فقال له من لا بصيرة له ما ذا تفعل أيها الشيخ هلّا تطعم به غيرك فيقول سبحان اللّه هل يجوز لمسلم راى في طعام سمّا ولا يأكله فيعطى غيره ليأكل - وهؤلاء الرجال هم المخاطبون بقوله صلى اللّه عليه وسلم استفت قلبك وان أفتاك المفتون - « 1 » لكن ثبت بالسنة وانعقد عليه الإجماع ان اللّه سبحانه بفضله ورحمته تجاوز لهذه الامة عن الخطاء والنسيان فورود هذا الدعاء لاجل الاستدامة واعتداد النعمة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم - رفع عن أمتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه - أخرجه الطبراني من حديث ابن عمر وقد مر فيما قبل - ومعنى قوله صلى اللّه عليه وسلم رفع عن أمتي الخطاء والنسيان الحديث - انه رفع إثمهما فلا يؤاخذ بها اللّه تعالى في الاخرة ولا اثر لهذا الرفع في الدنيا فان الخطاء والنسيان والإكراه واقع محسوس غير مرفوع والدنيا دار العمل فإذا وقع شىء منها لا بد للمكلف تداركها مهما أمكن ومن ثم قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فلا يسقط قضاء الصلاة والصوم ونحو ذلك بعلة الخطاء والنسيان اجماعا ويجب سجدتا السهو بالسهو في الصلاة اجماعا والقتل خطأ يوجب الكفارة والحرمان عن الإرث(1/808)
اجماعا والشافعي رحمه اللّه قد يعتبر الخطأ والنسيان في احكام الدنيا أيضا - (مسئلة) الكلام في الصلاة ناسيا يفسد الصلاة عند أبى حنيفة لما قلنا وقال الشافعي لا يفسد لحديث أبى هريرة قال صلى بنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم احدى صلوة العشى اما المظهر واما العصر فسلم في ركعتين ثم اتى جذعا في قبلة المسجد
_________
(1) هكذا بياض في الأصل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 445(1/809)
فاستند إليه مغضبا وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا ان يكلماه وخرج سرعان الناس فقالوا قصرت فقام ذو اليدين فقال يا رسول اللّه أ نسيت أم قصرت الصلاة فنظر يمينا وشمالا فقال ما يقول ذو اليدين فقالوا صدق لم تصل الا ركعتين فصلى ركعتين وسلم ثم كبر ثم سجد ثم كبر فرفع ثم كبر فسجد ثم كبر ورفع - متفق عليه قلنا هذا الحديث منسوخ بقوله تعالى قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وحديث زيد بن أرقم وقد مر في تفسير تلك الآية - ( (مسئلة)) الحج يفسد بالجماع ناسيا عند الجمهور خلافا للشافعى وطلاق المكره والمخطى يقع عندنا خلافا للشافعى - ومبنى الخلاف الخلاف في تفسير قوله عليه السلام رفع عن أمتي ( (مسئلة)) والصوم يفسد بالأكل خطاء عند أبى حنيفة وصاحبيه ومالك - وقال احمد والشافعي لا يفسد - ويفسد الصوم بالأكل ناسيا عند مالك وهو القياس وعند الجمهور لا يفسد وانما قال أبو حنيفة بعدم فساد الصوم بالنسيان لحديث أبى هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال إذا نسى أحدكم فاكل وشرب فليتم صومه فانما أطعمه اللّه وسقاه - متفق عليه (مسئلة) الذبيحة يحرم بترك التسمية ناسيا عند مالك واما عندنا فلا يحرم بالحديث على خلاف القياس - وسنذكر هذه المسألة في سورة الانعام ان شاء اللّه تعالى (فائدة) قال الكلبي كانت بنو إسرائيل إذا نسوا شيئا مما أمروا به أو أخطئوا عجلت لهم العقوبة فحرم عليهم شىء من مطعوم أو مشروب على حسب ذلك الذنب - رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً - عباء ثقيلا يأصر صاحبه أى يحبسه - والمراد به التكاليف الشاقة التي لا يستطيع القيام بها كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا يعنى اليهود وذلك بان اللّه تعالى فرض عليهم خمسين صلوة - وأمرهم بأداء ربع المال في الزكوة - ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها - ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه - ولما عبدوا العجل قيل لهم فَتُوبُوا « 1 » إِلى بارِئِكُمْ(1/810)
فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وقيل المراد بالإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا من مثله - أو المعنى لا تجعل في شريعتنا ذنبا لا يكون له توبة رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ
_________
(1) فى الأصل توبوا -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 446(1/811)
من البلاء والعقوبة أو من التكاليف الشاقة وهذا يدل على جواز التكليف بما لا يطاق وقد ثبت بالشرع عدم وقوعه فضلا - والتشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني وَاعْفُ عَنَّا أى تجاوز عن المعاقبة على ذنوبنا وَاغْفِرْ لَنا أى امح ذنوبنا واسترها علينا - وَارْحَمْنا فانا لا نأتى بالحسنات ولا نترك السيئات الا برحمتك لا حول ولا قوة الا بك أَنْتَ مَوْلانا سيدنا وناصرنا وحافظنا وولينا فَانْصُرْنا تفريع على الولاية فان من حق المولى ان ينصر عبيده ومواليه عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (287) المراد بهم عامة الكفرة من الجن والانس حتى النفس الامارة بالسوء قال البغوي كان معاذ رضى اللّه عنه إذا ختم سورة البقرة قال أمين - ورد في الصحيحين في حديث أبى هريرة الذي ذكرناه سابقا ان اللّه سبحانه قال نعم يعنى بعد ما قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا وكذا بعد الجملة الثانية إلى قوله من قبلنا والثالثة إلى قوله ما لا طاقة لنا به والرابعة إلى اخر السورة كل ذلك قال نعم - وفي رواية ابن عباس عند مسلم والترمذي قال كل ذلك قد فعلت بدل نعم وفي رواية عنه قال بعد غفرانك قد غفرت لكم وعبد قوله أو أخطأنا لا اؤاخذكم وبعد لا تحمل علينا لا احمل عليكم وبعد لا تحمّلنا لا أحملكم واعف عنّا إلى آخره قد عفوت عنكم وغفرت لكم ورحمتكم ونصرتكم على القوم الكفرين - هذا الحديث تدل على اجابة الدعاء من اللّه تعالى - فاما عدم المؤاخذة على النسيان والخطاء فثابت في حق جميع الامة اجماعا وكذا عدم حمل الإصرار وتحميل ما لا طاقة لنا به كما يدل عليه قوله تعالى لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لان الشرع واحد مؤبد فما سقط عن الأوائل سقط عن الأواخر ولا نسخ ولا تبديل بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم خاتم النبيين واما العفو والمغفرة لجميع الذنوب والرحمة(1/812)
العامة والنصرة على القوم الكفرين فالظاهر ان الاجابة في هذه الأمور مختصة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه يدل عليه صيغة قد عفوت وغفرت ورحمت ونصرت والا لزم مذهب المرجئة بل الذنوب كلها في مشية اللّه تعالى ان شاء غفر
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 447
و ان شاء عذب ومن ثم ترى في كثير من الأوقات عدم النصر على الكفار والخذلان - كيف والنصر متفرع على الولاية كما يدل عليه كلمة الفاء فانى يكون النصر عند ارتكاب المعاصي اللهم اغفر أمة محمد اللهم ارحم أمة محمد اللهم أصلح أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم - ( (فصل)) قد مر في فضائل سورة الفاتحة قول ملك نزل من السماء ابشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما الا أعطيته يعنى تعليم اللّه سبحانه الدعاء بقوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ إلى اخر السورة وبقوله رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إلى اخر السورة مختص بنبينا صلى اللّه عليه وسلم ولهذا لا يضل أمته بعد إلى يوم القيامة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يجتمع أمتي على الضلالة رواه ( « 1 » ) وقال لا يزال من أمتي أمة قائمة بامر اللّه لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتى امر اللّه وهم على ذلك رواه الشيخان في الصحيحين من حديث معاوية - عن عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه قال لما اسرى برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى به إلى السدرة المنتهى وهو في السماء السادسة إليها ينتهى ما يعرج به من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهى ما يهبط به من فوقها فيقبض منها قال إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى فراش من ذهب قال فاعطى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثلاثا اعطى الصلوات الخمس واعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك باللّه من أمته شيئا المقحمات - رواه مسلم يعنى وعد بمغفرة المقحمات اما بالتوبة أو برحمة من اللّه تعالى لمن شاء من(1/813)
غير تعذيب ولو لم يتب أو برحمة من اللّه تعالى بعد العقاب - والحاصل ان المؤمن لا يخلد في النار لاجل الكبائر كما زعمه المعتزلة والروافض والخوارج خذلهم اللّه تعالى - وعن ابن مسعود الأنصاري قال قال النبي صلى اللّه عليه وسلم الآيتان من اخر سورة البقرة من قرأ بهما في ليلة كفتاه - رواه الائمة الستة
و عن النعمان بن بشير ان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال
_________
(1) هكذا بياض في الأصل -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 448
ان اللّه تبارك وتعالى كتب كتابا قبل ان يخلق السموات والأرض بألفي عام انزل منه ايتين ختم بهما سورة البقرة فلا تقران في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان رواه البغوي - وعن أبى مسعود الأنصاري مرفوعا انزل اللّه ايتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بألفي سنة من قراهما بعد العشاء الاخرة اجزتاه من قيام الليل - أخرجه ابن عدى في الكامل - وعن أبى سعيد الخدري قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم السورة التي يذكر فيها البقرة قسطاس القرآن فتعلّموها فان تعلّمها بركة وتركها حسرة ولن يستطيعها البطلة - قيل وما البطلة قال السحرة « 1 » أخرجه الديلمي في مسند الفردوس - تم بحمد اللّه في الخامس 25 والعشرين من الربيع الثاني سنة الف ومائة وست وتسعين سنة 1196 والحمد للّه والصلاة على رسوله.
بتصحيح : مولانا غلام نبى تونسوى الراجي إلى مغفرة ربه القوى 1412 ه 1991 م.
_________
((1/814)
1) روى البيهقي في الشعب من حديث الصلصال بسند ضعيف مرفوعا من قرأ سورة البقرة توج بتاج في الجنة أخرج الديلمي من حديث أبى هريرة مرفوعا آيتان هما قران وهما يشفعان وهما مما يحبهما اللّه الآيتان من اخر سورة البقرة - أخرج أبو عبيد من حديث - ان الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة تقرأ فيه وفي الباب عن ابن مسعود وابى هريرة وعبد اللّه بن مغفل - واخرج احمد من حديث بريدة تعلموا سورة البقرة فان أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة - تعلموا سورة البقرة وال عمران فانهما الزهرا وان تظلان صاحبهما كانهما عمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف - واخرج ابن حبان وغيره من حديث سهل بن سعد ان لكل شىء سنام وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة ايام ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال - واخرج أبو عبيدة عن عمر بن الخطاب موقوفا من قرأ البقرة وال عمران في ليلة كتب من القانتين - أخرج الدارمي عن المغيرة بن شفيع وكان من اصحاب عبد اللّه قال من قرأ عشر آيات من البقرة عند منامه لم ينس القرآن اربع من أولها واية الكرسي وآيتان بعدها وثلث من آخرها - منه نور اللّه مرقده
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 449
(بسم اللّه الرّحمن الرّحيم (1))
فهرس للتفسير المظهرى من الفاتحة إلى اخر البقرة
المضمون/ الصفحة
فاتحة الكتاب
2 حديث هى أم القرآن وفاتحة الكتاب والسبع المثاني - 2 حديث انها أنزلت من كنز تحت العرش - 2 البسملة - 2 ما ورد فيه - 3 الحمد - 4 الإدغام الكبير - 4 الروم والإشمام في نستعين - 8 مسئلة اختلاف القراء في حركة هاء عليهم 9 إليهم - لديهم - بهم الأسباب ونحوها - إشباع ضمير الجمع - 9 حديث المغضوب عليهم اليهود 10 والضّالّين النصارى - ما ورد في أمين - 10 فصل في فضائل الفاتحة - 11.
سورة البقرة(1/815)
12 الم تحقيق المقطعات على الرواية والكشف 12 فيه مسئلة إشباع هاء ضمير الغائب - 17 ذكر المتقين - 18 ما ورد في التقوى وصلاح القلب أى فناء القلب - 18 حديث الحلال بين إلخ - 18 حديث ان في الجسد مضغة إلخ - 18 يؤمنون - 18 مسئلة همزة مفردة ساكنة - 18 مسئلة الايمان التصديق بالقلب واللسان 19 جميعا بما جاء به النبي ولا يعتبر التصديق بالقلب بدون اللسان الا في حالة الإكراه ولا يعتبر التصديق باللسان بدون القلب أصلا - مسئلة الأعمال غير داخلة في الايمان - 19 المضمون/ الصفحة حديث جبرئيل في الإسلام والايمان والإحسان - 19 حديث ثلاثة لهم أجران رجل من أهل الكتاب إلخ 21 مسئلة مد منفصل ومتصل ولازم 21 وبالاخرة - 21 مسئلة نقل الحركة من الهمزة المفردة وحذفها 21 والسكتة قبلها - مسئلة يمدورش مدا قصيرا ومتوسطا وطويلا على 21 كل مدة وقع بعد همزة ثابتة أو محذوفة أو مبدلة - ذكر الّذين كفروا - 22 ءانذرتهم - 22 مسئلة الهمزتين المتحركتين في أول الكلمة 23 ختم اللّه على قلوبهم - 23 مسئلة خلق العلم بعد استعمال الحراس وكذا بعد 23 ترتيب المقدمتين امر عادى - حديث ان القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن - 23 حديث ان المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء - 24 مسئلة الامالة وفتح أبصارهم وكل الف بعدها راء 24 ذكر المنافقين - 25 مسئلة امالة الف النّاس في موضع الجر - 25 مسئلة امالة زاد - جاء - شاء - ران - خاف - 26 خاب - طاب حاق - زاغ - (و ضاق أبو محمد) مسئلة إشمام قيل - غيض - جىء - حيل - سيق 26 سيئت - سىء - مسئلة الهمزتين المتحركتين اجتمعتا من كلمتين و27 حركتهما مختلفة مسئلة حذف الهمزة للفردة المضمومة قبل الواو 28 بعد الكسر نحو مستهزءون حديث المستهزئ بالناس يفتح له باب إلى الجنة 28 فإذا اتى اغلق -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 450(1/816)
مثلهم أى المنافقين - 29 ما ورد في ان المطر من السماء - 30 مسئلة امالة آذانهم - وآذاننا - وطغيانهم - 31 مسئلة امالة فتح الكفرين - 31 بيان وجه المثلين للمنافقين على ما قرر السلف 31 وعلى ما سخ لى وحينئذ يشتمل اثنتين وسبعين فرقة أهل الأهواء - حديث حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات 32 حديث يد اللّه على الجماعة 34 يا ايّها النّاس اعبدوا إيجاب العبادة والتوحيد 34 فاتوا بسورة إيجاب الايمان بالرسول - 37 ما ورد في النار التي وقودها الناس والحجارة - 38 وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ - 38 العمل الصالح منه العلم - والنية والصبر والإخلاص 38 ما ورد في الجنات والأنهار وما أعدت لاهل الجنة فيهن 38 إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما 41 حديث ان اللّه يستحيى عن ذى الشيبة المسلم ان يعذبه 42 حديث ان اللّه حيى كريم إذا رفع إليه العبد 42 يديه ان يردهما صفرا - كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ - انكار على الكفر ببيان 43 موجبات الايمان من الاحياء والاماتة والبعث - ذكر الثواب والعذاب في القبر - 44 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ 45 اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ - قول اصحاب الارصاد في السماوات 45 ما ثبت بالشرع هيئة السماوات والأرضين - 46 تجلى الرحمن على العرش والقلب والكعبة - 47 مسئلة اسكان هاء هو وهى بعد الواو والفاء واللام وثم 48 إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً 48 ذكر اسكان الملائكة السماء - والجن الأرض زمانا ثم 48 إعطاء ملك الأرض وغيرها لابليس مع جند من الملائكة وإعجابه بنفسه واستخلاف آدم - حديث خلق اللّه التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد 48 والشجر يوم الاثنين الحديث إلى قوله وآدم بعد العصر يوم الجمعة ذكر استبعاد الملائكة استخلاف آدم ووجه استحقاقه 49 حديث(1/817)
سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ايّ الكلام 49 أفضل قال سبحان اللّه وبحمده - حديث المرء مع من أحب - 50 حديث لا يزال عبدى يتقرب الىّ بالنوافل إلخ 50 حديث يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى - 50 حديث ان اللّه خلق آدم من قبضة قبضها من 50 جميع الأرض لاستجماع استعداده إلخ - وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ - أى اسماء الخلائق عندهم 49 واسماء اللّه عندى علما اجماليا وفيه ذكر المعية الذاتية والصفاتية - حديث أسئلك بكل اسم هو لك الحديث - 51 مسئلة ما لا يجوز في القرآن القول بالرأى وما يجوز - 51 حديث كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد - 53 التجلي الذاتي مشروط بالجسد 53 مسئلة اجتماع الهمزتين المكسورتين من 53 كلمتين والمفتوحتين والمضمومتين - مسئلة خواص البشر أفضل من خواص الملائكة 54 وعوام البشر يعنى الأولياء أفضل من بعض الملائكة ووجه أفضليته بالنقل والكشف - مسئلة عصاة المؤمنين بعد العذاب أو المغفرة 55 بعد دخول الجنة التحقوا بالأولياء - مسئلة ترقيات الملائكة والبشر في مقامات الصفات 55 وغير ذلك - وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ - 55 حديث إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى 55 حديث من
لم يشكر الناس لم يشكر اللّه - 56 حديث خلقت الملائكة من نور إلخ - 56 قصة اسكان آدم الجنة وإخراجه - 57 حديث قتل الحيات - 85
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 451(1/818)
مسئلة امالة هداى - ومثواى - ومحياى ودعياك 59 مسئلة الجنة مخلوقة موجودة في الجهة العالي - 59 مسئلة عذاب الكفار مخلد - 59 مسئلة عصمة الأنبياء - 59 يبنى إسرائيل - خوطبوا خاصة بعد خطاب 60 الناس عامة - مسئلة اثبات الياءات المحذوفة في الخط - 61 حديث الا ان شر الشرار شرار العلماء وان خير 62 الخيار خيار العلماء - مسئلة الكفار مخاطبون بالفروع - 63 مسئلة الجماعة في الصلاة وما ورد فيه - 63 ما ورد في الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم 64 ما جاء في الصلاة عند الفزع والحاجة والصبر على 64 الطاعة وعن المعصية خوفا وطمعا واستلذاذا بامر المحبوب - حديث جعلت قرة عينى في الصلاة - 65 مسئلة الصلاة معراج المؤمن تكون وسيلة للرؤية 65 حديث قيل أسئلك مرافقتك في الجنة قال فاعنى 65 بكثرة السجود - حديث اقرب ما يكون العبد إلى الرب وهو ساجد - 65 وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ - 66 قصة عذاب فرعون على بنى إسرائيل وقتل أبنائهم 67 قصة نجاة بنى إسرائيل وغرق فرعون واله - 68 مسئلة امالة ذوات الياء والف التأنيث المقصورة 69 من الأسماء والافعال والصفات وانى وبلى ومتى وعسى غير حتى والى وعلى ولدي (و ما زكى أبو محمد) قصة ذهاب موسى إلى الطور وعبادة بنى إسرائيل 70 العجل وإيتاء التورية ونزول توبتهم بقتل أنفسهم - فتيب عليهم مسئلة ادغام الذال في التاء - 70 مسئلة اختلاس بارئكم ويأمركم ويأمرهم 171 وينصركم ويشعركم - مسئلة امالة بارئكم وسارعوا ونحوه والجار و71 جبّارين والجوار وانصارى إلى اللّه ولمشكوة في النور - قصة قولهم لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه - وصعقهم 72 وبعثهم - وتظليل الغمام - ونزول المن والسلوى وأمرهم بدخول القرية سجدا قائلين حطة فقالوا غير الذي قيل لهم ونزول الرجز عليهم - ذكر استسقاء موسى وانفجار العيون من الحجر بضربه 74 ذكر استبدال بنى إسرائيل من المن والسلوى العدس(1/819)
76 والبصل - قيل اهبطوا مصرا - 76 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا إلى اخر الآية 77 حديث لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه - 77 حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لاخيه ما يجب لنفسه - 78 حديث لا يبلغ العبد حقيقة الايمان حتى يحزن 78 من لسانه - وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ - 78 قصة ابتلائهم بمنع الصيد في السبت وجعلهم قردة - 79 قصة أمرهم بذبح البقرة حين قتلوا نفسا وتدارءوك 80 وان البقرة كانت لفتى بارا لامه - 80 ولبره لامه اعطى بملا مسكها دنانيز - 81 مسئلة لا يجوز حمل المطلق على المقيد ان كانا في - 82 حادثتين - أو دخل التقييد في السبب دون الحكم وعندى انه يحتمل التقييد - مسئلة الحوادث بإرادة اللّه 83 تنبيه - من حق الطالب ان يقرب قربة والمتقرب يبتغى 84 الأحسن والغالي في الثمن - مسئلة ذهب أهل السنة ان اللّه تعالى علما في الجمادات 84 والحيوانات فلها تسبيح وصلوة وخشية - ما ورد في تسليم الأحجار والأشجار على النبي صلّى اللّه عليه وسلم 85 وحديث ان أحدا يحبنا ونحبه - وكلام البقر وحنين الجزع - 85 قطع طمع النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ايمانهم وذكر منافقيهم 85 حديث الويل في جهنم يهوى به الكافر أربعين خريقا - 88
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 452(1/820)
ذكر قبائح اليهود ونقضهم العهود - 88 مسئلة وقف حمزة بابدال الهمزة المنفردة أو 89 حذفها أو تسهيلها - وايّدنه بروح القدس - 92 حديث ما من بنى آدم مولود الا يمسه الشيطان إلخ - 92 وفريقا تقتلون - 93 حديث سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم - 93 حديث يهودية سمت شاة وأهدت - 93 حديث هذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم - 93 حديث ما من مولود الا يولد على الفطرة إلخ - 94 مسئلة ادغام دال قد في أحرف 8 - 96 حديث تحفة المؤمن الموت - 97 حديث القبر أول منزل - 97 حديث لم تمنوا أى اليهود الموت لماتوا - 97 فصل هل يجوز التمني بالموت - 98 مسئلة عداوة الملائكة والرسل كفر - 104 مسئلة السحر كفر وحكم من قتل رجلا بالسحر - 106 مسئلة حكم من قتل إنسانا بالسيفى والدعاء - 106 وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ 107 ما روى في هذه القصة عن ابن عباس - 108 قال البيضاوي هذه القصة من رموز الأوائل - 109 ما قلت في حله - 109 مسئلة علم يتعلق بظاهر القلب وعلم يتخلص 110 إلى صميم القلب - حديث العلماء ورثة الأنبياء - 110 حديث خير الخيار خيار العلماء - 110 مسئلة النسخ والانساء - 112 ما ورد في الصلاة على الراحلة في السفر 117 ما ورد في الصلاة في ليلة مظلمة فلم يدر اين القبلة - 117 مسئلة حقيقة الصلاة وسعة ذاتية بلا(1/821)
كيف - 117 حديث قدسى كذبنى ابن آدم وشتمنى إلخ - 117 حديث أفضل الصلاة طول القنوت - 118 مسئلة كن فيكون بالنصب يدل على كون في 119 الأعيان الثابتة وكون في الخارج بوجود ظلى وعلى التوحيد الشهودى دون الوجودي - حديث ليت شعرى ما فعل أبواي - 120 مسئلة ايمان اباء النبي صلّى اللّه عليه وسلم وما ورد فيه 120 مسئلة امامة الفاسق - 124 حديث لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - 124 حديث اسمعوا وأطيعوا ولو كان عبدا حبشيا 124 مسئلة ادغام ذال إذ في أحرف 6 124 حديث ان هذا البلد حرّمه اللّه يوم خلق السموات إلخ 125 مسئلة الركعتان بعد الطواف هل هى واجبة 126 ومكان أدائها وما ورد فيها - حديث انما الأعمال بالنيات - 126 قصة اسكان ابراهيم إسماعيل وهاجر بمكة و127 وتزويج إسماعيل وبناء البيت ومقام ابراهيم - حديث الركن والمقام ياقوتتان إلخ - 128 إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً 128 آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ - حديث لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة إلخ 129 حديث الدنيا ملعونة إلخ 129 قصة بناء البيت وأول امره 130 حديث المسلم من سلم المسلمون إلخ - 131 حديث انى عند اللّه مكتوب خاتم النبيين وآدم 131 بدل في طينة وساخبركم باول امرى ودعوة ابراهيم إلخ - سفه نفسه - تفسيره من عرف نفسه فقد عرف ربه - 132 كمال الصلاح العصمة - 133 قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ - 133 قال له جبرئيل لما رمى في النار هل لك حاجة قال لما إليك فلا - 133 حديث عم الرجل صنو أبيه - 134 حديث ردوا على أبى يعنى العباس - 134 حديث انا اولى الناس بعيسى - الأنبياء اخوة 136 من علات ومعناه إلخ -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 453(1/822)
1 سيقول السّفهاء من النّاس ما وليهم 138 عن قبلتهم جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً - 138 حديث هذه الامة توفى سبعين أمة هى أخيرها - 139 ما ورد في كون هذه الامة شهداء للانبياء على الأمم - 139 مسئلة علم اللّه تعالى قديم وبيان حدوث التعلق - 141 ذكر كيفية قبلته صلّى اللّه عليه وسلم قبل الهجرة - 142 وبيان التحويل إلى الكعبة بعد الهجرة - 142 حديث ما بين المشرق والمغرب قبلة - 143 قصة استدارة النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الظهر في 144 مسجد بنى سلمة وأول صلوة صلّى إلى الكعبة العصر بتمامه واهل قبا استداروا في الفجر - ما ورد في الصلاة في الكعبة - 144 فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ - امر للامة 146 بمصاحبة العارفين والاجتناب عن الشاكين - حديث فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا 147 كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا - حديث تمام النعمة دخول الجنة - 148 مسئلة ما ورد في العلم اللدني - 149 ما ورد في الاذكار - وما اختار المجدد رضى اللّه عنه في العزلة 151 حديث خير مال المسلم الغنم 152 حديث الصلاة عماد الدين - الصلاة نور المؤمن - 152 مسئلة حيوة الشهداء - والأنبياء - والأولياء 152 والصديقين يعنى ارباب كمالات النبوة - والوجود الموهوب - ما ورد في ثواب المصيبة والاسترجاع 154 مسئلة السعى بين الصفا والمروة وشرائطها - 157 حديث ان الكافر يضرب بين عينيه يعنى في القبر - 158 ما ورد في التوبة - 159 حديث في هاتين الآيتين الاسم الأعظم إلهكم 160 اله واحد - واللّه لا الله الّا هو الحىّ القيّوم - إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ - الآيات على وجود الصانع 160 وصفاته - مسئلة افراد الريح وجمعه 161 وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ - 162 مسئلة تحقيق الحب للّه تعالى من العوام والخواص - 163 مسئلة إيلام المحبوب ألذ - 163 حديث ان إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه 165 حديث ان للشيطان لمة(1/823)
و للملك لمة 165 مسئلة ادغام لام هل وبل في أحرف 8 - 166 حديث ان اللّه طيب لا يقبل الا الطيب إلخ ثم ذكر 167 الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء مطعمه حرام إلخ حديث قدسى انى والانس والجن في نبأ عظيم اخلق 168 ويعبد غيرى وارزق ويشكر غيرى - مسئلة حرمة الميتة الا السمك والجراد وان لا يجوز 168 بيعه ولا أكل ثمنه ولا الانتفاع بشحمه ولا بجلده قبل الدباغ - 169 مسئلة الجلد بعد الدباغ - 169 مسئلة شعر الميتة وعظمها وعصبها وقرنها وحافرها - 169 مسئلة الخنزير نجس عينه لا يجوز بيع شيء من اجزائه - 170 مسئلة هل يجوز الانتفاع بشعره 170 مسئلة أكل الميتة ونحوها عند الاضطرار - 171 مسئلة الايمان باللّه ويوم القيمة مع ما فيه والملائكة 173 وماهيتهم وكيف جزاء أعمالهم - والكتب والنبيين وكيفية الايمان بها وبهم وليس منها الايمان بالائمة - مسئلة ما ورد في الانفاق على حب اللّه من غير رياء وفي 174 حالة الصحة وخشية الفقر ومن أحب الأموال وبسخاوة القلب مسئلة ما ورد في انفاق على ذوى القربى - 175 حديث ان ال أبى فلان ليسوا لى اولياء
انما وليي اللّه 175 وصالحوا المؤمنين ولكن لهم رحم ابلها - 175 حديث ليس الواصل بالمكافئ - 175 حديث انا وكافل اليتيم كهاتين - 175 حديث من كان يؤمن باللّه فليكرم ضيفه - 176 ما ورد في حق السائل - 176 حديث ان في المال حقا سوى الزكوة إلخ - 176
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 454(1/824)
حديث اية المنافق إذا حدث كذب إلخ - 177 بيان منصب الأبرار واما الصديقون المقربون 177 فمزيد فضلهم مبنى على الفضل والاجتباء - 177 مسائل القصاص - 177 مسئلة هل يجوز لوارث المقتول أخذ المال 178 من غير رضاء الجاني - ما ورد في قتل النفس بالنفس - 179 مسئلة هل يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر - 180 مسئلة هل يقتل الوالد بالولد 182 مسئلة إذا قتل الجماعة واحدا قتلوا - 182 مسئلة واحد قتل جماعة هل يجب عليه القصاص 182 والدية معا - مسئلة لا قصاص في الخطأ والعمد ما هو - 182 مسئلة هل يقتص بمثل ما قتل 183 مسئلة القاتل لا يصير كافرا - 185 مسئلة القاتل لا يصير كافرا - 185 مسئلة الوصية للوالدين والأقربين كانت فريضة 187 ثم نسخت في حق الورثة وبقي جائزا في حق غير الورثة من الأقارب ويجوز للاجانب - مسئلة لا يجوز الوصية فيما زاد على الثلث الا 186 برضاء الورثة - مسئلة ان جار الموصى في الوصية يجب الإصلاح 187 على الحاضرين وولاة امور المسلمين - حديث ان الرجل ليعمل والمرأة بطاعة اللّه فيضاران 187 فى الوصية يجب لهما النار كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ - 188 حديث يا معشر الشباب من استطاع الباه فليتزوج 188 ومن لم يستطع فعليه بالصوم - ما ورد في صوم عاشوراء - 189 مسئلة يجوز الفطر للمريض والمسافر - 189 مسئلة مقدار السفر المرخص - ماذا 190 حديث المسح على الخفين ثلاثة ايام للمسافر - 190 مسئلة سفر المعصية هل يبيح الفطر - 190 مسئلة وجوب القضاء على المريض والمسافر 190 والتتابع ليس بشرط مسئلة الحامل والمرضع إذا أفطرتا هل يجب عليهما 191 الفدية مع القضاء - مسئلة من اخّر قضاء رمضان بعذر حتى جاء رمضان 191 اخر فلا فدية عليه وان اخّر بغير عذر فهل يجب عليه الفدية مع القضاء - مسئلة كانوا في ابتداء الإسلام مخيرين بين الصوم 191 والفدية مع القدرة على الصوم ومن غير قدرة بالطريق الاولى ثم نسخ مع القدرة فيجوز للشيخ الفاني الفطر وهل يجب(1/825)
عليه الفدية - مسئلة ما مقدار الفدية - 193 مسئلة الصوم أفضل للمسافر ان لم تضرر به والا 193 فالفطر أفضل كالمريض ولا فطر للمريض بلا تضرر - مسئلة اثم من أفطر رمضان بلا عذر - 194 حديث انما سمى رمضان لأنه يرمض الذنوب 194 ما ورد في نزول القرآن وغيره من الكتب السماوية في رمضان - 195 مسئلة لا يصح صوم الحائض - 195 مسئلة من سافر في رمضان جازله الفطر - 195 مسئلة من سافر وهو صائم هل يجوز فطر ذلك اليوم 196 مسئلة يجب القضاء على الحائض والنفساء - 196 مسئلة من مات وعليه صوم فان اوصى بالفدية 197 يجب الإنفاذ من الثلث وهل يجب على الوارث الفدية أو القضاء ان لم يوص والتحقيق انه ان تطوع الوارث بالقضاء من الميت يجزيه - مسئلة يجوز الصوم من المريض والمسافر - 197 حديث الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى ترووا الهلال ولا تفطروا - فان غم عليكم إلخ - 198 مسئلة صلوة العيد والتكبيرات - 198 فصل في فضائل شهر رمضان وصيامه - 199 حديث اربعوا على أنفسكم انكم لا تدعون اصمّ ولا غائبا 201 مسئلة قربه تعالى بالمخلوقات - 201 مسئلة اجابة الدعاء وما ورد فيه وما يمنعه - 201
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 455(1/826)
مسئلة اباحة الجماع ليلة رمضان بعد ما لم يكن 203 مباحا بعد النوم والعشاء أو في رمضان كله - حديث من تزوج فقد احرز ثلثى دينه - 203 مسئلة من جامع امرأته ينبغى ان يريد الولد دون 204 قضاء الشهوة فالعزل مكروه - والجماع مقتصر على محل الولد - ما ورد في جواز الاكل للصائم بعد الفجر المستطيل 204 يعنى الكاذب ما لم يطلع المستطير يعنى الصادق - ما يدل على جواز الاكل بعد الفجر ما لم يتبين الخيطان 205 الأبيض والأسود ثم نسخ واستقر الأمر على ان المراد بالخيط الأبيض هو الفجر - مسئلة حقيقة الصوم الإمساك من الصبح إلى 206 الغروب مع النية - مسئلة هل يجوز النية بعد الفجر - 206 مسائل الاعتكاف وانه في العشر الأخير سنة - 208 مسئلة دراعى الوطي حرام في الصوم والاعتكاف 209 وان انزل فسدا - لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - 209 حديث اما ان حلف على ماله ليأكل ظلما إلخ - 209 مسئلة حرمة الدعوى الباطل وانكار الحق عند الحكام 209 مسئلة قضاء القاضي لا يحل حراما وهل ينفذ في 210 العقود والفسوخ باطنا - مسئلة الاشتغال بالعلوم التي ليس فيها فائدة 210 دينية لا ينبغى - ما ورد في النهى عن قتل النساء والصبيان والشيوخ 212 والرهبان من أهل الحرب - مسئلة لا يجوز في الحرم البداية بالقتال - 213 حديث أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان(1/827)
لا الله الا اللّه إلخ - 213 مسئلة لا فرق بين الوثني والكتابي - 214 حديث لا تقتله يعنى الكافر بعد قول لا الله الا اللّه 214 فان قتلته فانه بمنزلتك قبل ان تقتله وأنت بمنزلته إلخ - مسئلة يجوز القتال في الحرم والشهر الحرام 215 والإحرام ان كان البداية في القتال من الكفار - حديث من مات ولم يغزو لم يحدث نفسه بالغزوة إلخ 215 ما ورد في وجوب الحج وما ورد في وجوب العمرة وكونها سنة - 217 هل يجوز فسخ الحج بالعمرة أم نسخت هذه المتعة أيضا - 218 مسئلة الإحصار عن الحج أو العمرة بمرض أوعدوا وغيرهما - 220 والاشتراط بالتحلل لعذر - 221 مسئلة وجوب الهدى على المحصر - 222 مسئلة محل الذبح للمحصر - 222 مسئلة على القارن المحصر دمان أو دم 224 مسئلة التحلل يحصل بنفس الإحصار أو الذبح أو الحلق والحلق واجب املا - 224 مسئلة المحصر إذا حل هل يجب عليه القضاء وقضاء 225 العمرة عمرة وللحج حج وعمرة - 225 مسئلة إذا حلق المحرم بعذر 225 مسئلة في القرآن والتمتع يجب دم فهل هو دم شكر 226 فيجوز أكلها ودم جبر فلا يجوز مسئلة لا يجوز ذبح دم التمتع قبل يوم النحر 227 مسئلة المتمتع إذا لم يجد الهدى صام ثلاثة ايام 227 فى الحج آخرها يوم عرفة وجاز قبل ذلك في الإحرام ولا يجوز بعد ذلك لعدم الإحرام - ما ورد في النهى عن صوم يوم الفطر ويوم النحر و227 ايام التشريق.
مسئلة المتمتع إذا لم يصم إلى يوم عرفة هل يصوم 227 فى ايام التشريق - مسئلة إذا لم يصم الثلاثة في الحج هل يقتضى الثلاثة 228 أو تعين عليه الدم مسئلة متى يصوم السبعة - 229 مسئلة هل يجوز للمكى التمتع وان تمتع هل يجب عليه الهدى فان وجب إلخ - مسئلة ما دون المواقيت أو دون مسافة السفر في حكم 229 المكي اولا -
التفسير المظهري ج 1 ، ص : 456(1/828)
مسئلة التمتع أفضل أو القرآن - 230 مسئلة النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان مفردا وقارنا أو متمتعا 230 مسئلة هل يكفى للقارن طواف وسعى للنسكين أو 230 لا بد من طوافين وسعيين - صحّ انه صلّى اللّه عليه وسلم طاف للقدوم والزيارة وسعى سعيين 230 الحجّ أشهر معلومت يعنى وقت الإحرام - 230 مسئلة هل يجوز الإحرام قبل ذلك - 231 مسئلة الإحرام شرط للحج - 231 مسئلة الإحرام ما هو - 232 مسئلة ما يحرم على المحرم وهل يجوز له النكاح ويعقد 233 مسئلة يكره الحج بلا زاد 234 مسئلة يجوز التجارة في الحج - 235 حديث عرفة كلها موقف وارتفعوا من بطن عرنة ومزدلفة كلها إلخ 236 مسئلة الوقوف بعرفة ركن وبالمزدلفة ليس بركن وهل 237 هو واجب وما القدر الواجب منه - مسئلة وقت الوقوف بعرفة - 239 مسئلة مناسك يوم النحر الرمي والذبح والحلق 239 والطواف والسعى ان لم يسع بعد طواف القدوم - مسئلة اركان الحج الإحرام والوقوف بعرفة وطواف 239 الزيادة وقيل السعى والحلق أيضا - ما ورد في قوله رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ الآية - 240 فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ - 241 مسئلة لا يحل النفر بعد دخول الليلة الثالثة أو طلوع 241 الصبح الا بعد الرمي - مسئلة المقار بمنى ايام التشريق والمبيت بها في لياليها 241 والرمي ليس شيء منها ركن فقيل بوجوب الثلاثة - وقيل بالرمي فقط وقيل بهما دون الرمي - مسئلة وقت الرمي - 242 مسئلة الترتيب بين الجمار وهى ثلاث في ايام التشريق 244 وجمرة العقبة فقط يوم النحر بسبع حصيات - حديث ابغض الرجال إلى اللّه الا لد الخصام - 244 حديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر - 245 قصة سرية الرجيع أميرهم عاصم بن ثابت وفيهم خبيب وزيد بن الدلعة 246 حديث الايمان بضع وسبعون شعبة فافضلها قول لا إله الا اللّه إلخ 248 حديث أ متهوّكون أنتم لقد جئتكم بيضاء نقية ولو كان 249 موسى حيا(1/829)