لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)
وقوله تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } ؛ أي لا يسمَعون في الجنَّة إلاَّ قولاً يَسلَمُون فيه من اللَّغوِ والتأثيمِ ، واللَّغوُ : الكلامُ الذي لا فائدةَ فيه ، التَّأثِيمُ : أن يُؤثِمَ بعضُهم بعضاً ولا يتكلَّمون بما فيه إثْمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } ؛ أي ولكن يقُولون قِِيْلاً ويَسمَعون قِيْلاً سَلاَماً يَسلَمُون فيه من اللَّغوِ والإثمِ. قال عطاء : يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلاَمِ عَلَى أحْسَنِ الآدَاب وَكَرِيمِ الأَخْلاَقِ مَعَ كَمَالِ النَّعِيمِ ، وَيَقُولُ لَهُمُ الْمَلاَئِكَةُ : سَلَّمَكُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْمَكَارِهِ).
هذا كله نعتُ السَّابقين ، ثم ذكرَ الصنفَ الثاني :
فقال تعالى : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ } ؛ وهم عامَّةُ المؤمنين دون النَّبيِّين والصدِّيقين والشُّهداء والصالحين ، ما تَدري ما لَهم يا مُحَمَّدُ في الجنَّة من النعيمِ والسُّرور.
(0/0)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } ؛ السِّدرُ شجرٌ مُثمِرٌ مرتفعُ المنظرِ ، طيِّبُ الرائحةِ. والمعنى : في ظِلاَلِ سِدْرٍ قد نُزِعَ شوكهُ وكَثُرَ حَملهُ ، والْخَضْدُ عطفُ العُودِ اللِّيِّنِ ، ولذلك قِيْلَ : لا شوكةَ فيهِ ، قد خَضَّدَ شوكَهُ ؛ أي قطعَ ، ومنه الحديثُ : " لاَ يُخْضَدُ شَوْكُهَا وَلاَ يَعْضَدُ شَجَرُهَا ".
وقال مجاهدُ والضحاك ومقاتل : (مَعْنَى قَوْلِهِ { مَّخْضُودٍ } أيْ مُوقَرُ حِمْلاً) ، ويقالُ : إنَّ السِّدْرَ شجرُ النَّبَقِ إلاَّ أنَّ ثَمَرَةَ تلك الشجرةِ لا تكونُ مثل شجرِ النَّبَقِ في الدُّنيا ولا رائحتُها تشبهُ رائحتَها.
(0/0)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } ؛ الطَّلْحُ شجر الْمَوْز ، وقوله { مَّنضُودٍ } أي بتَرَاكُب الموز على أغصَانِها من أوَّلها إلى آخرِها ، فليس لها شَوكٌ بارزٌ ، وقال الحسنُ : (الطَّلْحُ شَجَرٌ لَهُ ظِلٌّ بَاردٌ طَيِّبٌ) ، وقرأ علي رضي الله عنه (مَعْضُودٍ) بالعينِ أي تحل بتَراكُب الرُّطب على أغصانِها كما في قوله{ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ }[ق : 10].
(0/0)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } ؛ أي لا تنسخهُ الشمسُ ، قال الربيع : (يَعْنِي ظِلَّ الْعَرْشِ) ، قال عمرُو بن ميمون : (مَسِيرَةَ سَبْعِينَ ألْفَ سَنَةٍ). وعن أبي هريرة قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ، شَجَرُ الْخُلْدِ ، إقْرَأواْ إنْ شِئْتُمْ { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } ".
(0/0)
وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } ؛ أي ماءٍ مَصبُوبٍ عليهم من ساقِ العرشِ في أوعِيَتِهم يشرَبوهُ على ما يرَونَ من حُسنهِ وصفائهِ وطيب رائحتهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وماءٍ مَصبُوبٍ يجرِي دائماً في غيرِ أُخدُودٍ لا ينقطعُ.
(0/0)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } ؛ أي وأنواعِ فاكهةٍ كثيرةٍ ، لا ينقطعُ عنهم في وقتٍ من الأوقاتِ ، بخلافِ فاكهة الدُّنيا ، ولا تكون مَمنوعةً ببُعدِ مُتناوَلٍ أو شوكةٍ تُؤذِي ، بخلافِ ما يكون في الدُّنيا. وَقِيْلَ : لا مقطوعةٍ بالأزمانِ ولا ممنوعةٍ بالأثمانِ ، ولا ينقطعُ ثَمرُها إذا جُنيَت بل يخرجُ مكانَها مثلُها. قال صلى الله عليه وسلم : " مَا قُطِعَتْ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَار الْجَنَّةِ إلاَّ أُبْدِلَ مَكَانَهَا ضِعْفَيْنِ ".
(0/0)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " ارْتِفَاعُهَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ ، مَوْضُوعَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، إذا أرَادَ الْعَبْدُ أنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ حَتَّى يَجْلِسَ ، ثُمَّ تَرْتَفِعُ فِي الْهَوَاءِ " قال عليٌّ رضي الله عنه : (مَرْفُوعَةٌ عَلَى الأَسِرَّةِ).
وَقِيْلَ : إنه أرادَ بالفُرشِ هَهُنا النساءَ المرتَفِعات القدر في عُقولِهنَّ وحُسنِهنَّ وكمالهن ، رُفِعْنَ بالْحُسنِ والجمالِ والفضلِ على نساءِ الدُّنيا ، ودليلُ هذا التأويل قوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } ؛ وقد تُسمَّى المرأةُ فِرَاشاً ولِبَاساً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } أي خَلقنَاهُنَّ لأوليائِنا بلا ولادةٍ ولا تربية ، بخلافِ نساء الدُّنيا. وَقِيْلَ : المرادُ بهذه الآية نساءَ أهلِ الدُّنيا يُخلَقْنَ خَلْقاً بعدَ خلقٍ ، كما رُوي في بعض الأحاديثِ : " أنَّهُنَّ عَجَائِزُكُمْ فِي الدُّنْيَا جُعِلْنَ صَبَايَا ، وَيُلْبَسْنَ مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ أكْثَرَ مِمَّا يُلْبَسُ الْحُورُ الْعِينُ ؛ لأَنَّهُنَّ عَمِلْنَ فِي الدُّنْيَا ، وَالْحُورُ لَمْ يَعْمَلْنَ ".
(0/0)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ الْيَمِينِ } ؛ العُرُبُ : جمعُ عَرُوبٍ ، وهي الْمُتَحَببَةُ إلى زوجِها اللاَّعبَةُ معه أُنْساً به ومحبَّةً له ، قال المبرِّدُ : (هِيَ الْعَاشِقَةُ لِزَوْجِهَا الْحَسَنَةُ التَّبَعُّلِ لَذِيذةُ الْكَلاَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتْرَاباً } أي مُستويات في السنِّ على ميلادٍ واحد ، كلُّهن في سنِّ ثلاثٍ وثلاثين سنةً ، سِنُّهُنَّ مثلُ سنِّ أزواجِهن ، ومثلُ هذا يكون أبلغُ في اللَّذة. قولهُ { لأَصْحَابِ الْيَمِينِ } أي جميعُ الذي ذكرنَاهُ لأصحاب اليمين. وَقِيْلَ : معناه : فَأنشَأْناهنَّ إنشاءً لأصحاب اليمين.
(0/0)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ } أي جماعةٌ من أوائلِ الأُمم ، وجماعةٌ من أُمَّة نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. ورُوي : أنَّهُ لَمَّا أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ } بَكَى عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ يَنْجُو مِنْ قَلِيلٍ ؟ فأنزل الله { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ }.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " " يَا ابْنَ الْخَطَّاب ؛ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيمَا قُلْتَ ، فَجَعَلَ ثُلَّةً مِنَ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةً مِنَ الآخِرِينَ " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : (رَضِينَا عَنْ رَبنَا وَتَصْدِيقِ نَبيِّنَا صلى الله عليه وسلم ؛ مِنْ آدَمَ إلَيْنَا ثُلَّةٌ ، وَمِنَّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُلَّةٌ) " وقال مجاهدُ والضحاك : (الثُّلَّتَانِ جَمِيعاً مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ).
(0/0)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ الشِّمَالِ } ؛ يعني الذين يُعطَون كُتبَهم بشَمائِلِهم ، ما تَدري يا مُحَمَّدُ ما لَهم من الهوانِ في العذاب من حرِّ نارٍ وريحٍ حادَّةٍ تدخلُ في مسامِّهم ، وهو قَوْلُهُ تَعَالََى : { فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ } ؛ أي في حرِّ نارٍ وماءٍ حارٍّ ، { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } ؛ أي من دُخَّان شديدِ السَّوادِ لا كبَردِ ظلِّ الدُّنيا ؛ لأنه ظلُّ دُخانِ جهنَّم.
وقال ابنُ زيدٍ : (الْيَحْمُومُ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } ؛ أي لا باردِ الْمُدخَلِ ولا كريمِ المنظرِ. وَقِيْلَ : لا باردِ المنْزِل ولا حسنِ المنظرِ.
(0/0)
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } ؛ فيه بيانُ سبب العقوبةِ ، معناهُ : إنَّهم كانوا في الدُّنيا مُنَعَّمِينَ مُتكبرين في تركِ أمرِ الله ، وكانوا مُمتَنِعين من الواجب الذي عليهم طَلباً للترَفُّهِ ، { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ } ؛ أي وكانُوا يُقيمون على الشِّركِ باللهِ. وسُمي الشِّركُ حِنثاً ؛ لأنَّهم كانوا يَحلِفُونَ أنَّ اللهَ لا يبعثُ مَن يموتُ ، والْحِنثُ : الإثْمُ.
وقال الشعبيُّ : (الْحِنْثُ الْعَظِيمُ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ) وهم كانُوا يحلِفون باللهِ أنَّهم لا يُبعثون وكذبُوا في ذلك ، { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؛ بيانُ إنكارهم للبعثِ ، وقولهُ تعالى : { أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ } ؛ هذا القولُ منهم زيادةُ استبعادٍ واستنكارٍ.
(0/0)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
يقولُ اللهُ تعالى : { قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّ آباءَكم ومَن قبلَهم وأنتم ومَن بعدَكم لَمجمُوعون في قبورهم إلى يومِ القيامة.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضِّآلُّونَ الْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ }. وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى يُلقي عليهم الجوعَ حتى يضطَرُّهم إلى أكلِ الزَّقُّومِ ، فيأكُلون منه حتى تَمتَلئَ بطونُهم ، ثم يُلقِي عليهم العطشَ فيضطرُّهم ذلك إلى شُرب الحميمِ ، فيشرَبون شُربَ الإبلِ العِطَاشِ التي يُصيبها داءُ الهيامِ فلا تروَى من الماءِ.
والْهِيمُ : الإبلُ العِطَاشُ التي بها الْهِيَامُ لا تروَى ، وواحدُ الْهيمِ أهْيَمُ ، والأُنثى هَيْمَاءُ ، ويقالُ : الْهِيمُ هي الرمالُ التي لا يَرويها ماءُ السَّماء ، مأخوذٌ من قولِهم : كثيبٌ أهيَمُ ، وكثبانٌ هِيمٌ. قرأ نافع وعاصم وحمزةُ (شُرْبَ) بضم الشين ، وقرأ الباقون بفتحِها ، والمعنى فيها واحدٌ مثل ضَعف وضُعف ، { هَـاذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ } أي هذا غِداؤُهم وشرابُهم يومَ الجزاءِ.
(0/0)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } ؛ أي نحن خلقنَاكُم أيُّها الكفارُ ولم تكونوا شيئاً ، { فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } ؛ أي فهَلاَّ تُصدِّقون بالبعثِ اعتباراً بالْخِلْقَةِ الأُولى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ } ؛ معناهُ : أخبرُوني يا أهلَ مكَّة ما تقذفونَهُ من المنِيِّ وتصبُّونَهُ في أرحامِ النساء ، أأنتُم تخلُقونَهُ ولداً أم نحنُ نخلُقه ونجعله بَشراً سويّاً.
(0/0)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ } ؛ أي كتبناهُ عليكم وسوَّينا به بين أهلِ السَّماء والأرضِ على مقاديرِ آجالهم في مكانٍ معلوم وفي زمان معلومٍ ، فمِنكُم مَن يموتُ صغيراً ومَن يموتُ كبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَـالَكُمْ } ؛ أي ما نحنُ بمَغلُوبين عاجزِين على أن نُبَدِّلَ غيرَكم أطوعَ وأخشعَ منكم ، وعلى أنه { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي في موضعٍ لا تعلمونَهُ وهو النارُ. وَقِيْلَ : في صُوَرٍ لا تعلمونَها من سَوادٍ في الوُجوهِ وزُرقَةِ الأعيُن ، ولو أردنا أنْ نجعلَ منكم القردةَ والخنازيرَ لم نُسبَقْ ولا فَاتنَا ذلك. قرأ ابنُ كثير (نَحْنُ قَدَرْنَا) مخفَّفاً وهما لُغتان.
(0/0)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
قَوْلهُ تعَالَى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ أي قد عَلِمتُم الخِلقَةَ الأُولى ولم تكونوا شيئاً ، فخلَقناكم من نُطفةٍ وعلقة ومُضغَةٍ ، وهلاَّ تذكَّرُونَ أنِّي قادرٌ على إعادَتِكم كما قَدرتُ على أعدائكم.
(0/0)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
قَوْلُهُ تعَالَى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ } ؛ معناهُ : أخبرونِي ما تُلقُونَ من البَذر في الأرضِ ؛ أأنتُم تُنبتُونَهُ وتجعلونَهُ زَرعاً أم نحنُ فَاعِلونَ ذلك؟.
(0/0)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ؛ أي يَابساً مُتَنَكِّساً بعدَ خُضرَتهِ لا حبَّ فيه فأبطلناهُ ، { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } ؛ أي فصِرتُم تَعجَبُونَ مما نزلَ بكم في زَرعِكم ، ونادمون على ما أنفَقتُم فيه وتحمَّلتُم فيه مِن المشقَّة ، وتقولون : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } ؛ أي طقنا غَرمٌ عظيمٌ فهذا الزرع ، وغَرمُ الْحَبِّ الذي بَذرنَاهُ فذهبَ علنيا بغيرِ عِوَضٍ ، { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } ؛ أي ممنُوعون من الرِّزقِ منه.
وأصلُ ظَلْتُمْ : ظَلَلْتُمْ فحَذفَ اللامَ الأُولى. والتَّفَكُّهُ من الأضدادِ ، يقالُ : تَفَكَّهَ ؛ أي تَنَعَّمَ ، وتَفَكَّهَ ؛ تَحَزَّنَ.
(0/0)
أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ } ؛ أي من السَّحاب ، { أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ } ؛ عليكم منه ، { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } ؛ أي مُرّاً شَديداً ، مِرَاراً مُحرِقاً للحَلقِ والكبدِ ، لا يمكنُ شُربه والانتفاعُ به ، { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } ، فهلاَّ تُنكِرون عُذوبَتهُ. وَقِيْلَ : الأُجَاجُ : شديدُ الملوحةِ مع المرارةِ.
(0/0)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ } ؛ يعني التي تُظهِرُونَها بالزِّنادِ من الأعوادِ ، ومعنى : تُورُونَ : تَقدَحُونَ وتستخرجون من زنَادِكم ، يقالُ : أوْرَيْتُ النارَ إذا قدحتُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ } أي أأنتم أنبتُّم شجرةَ النار أم نحن الْمُنبتُونَ لها في الأرضِ ، وجعلناها خضراءَ وفيها النارُ.
(0/0)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
قَوْلُهُ تعَالَى : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } ؛ أي نحن جعَلنا النارَ عِظَةً ليتَّعِظَ بها المؤمنُ. وَقِيْلَ : جعَلناها تَذكِرَةً للنار الكُبرَى ؛ إذا رآهَا الرَّائِي ذكرَ جهنَّم ، فذكرَ اللهَ تعالى فاستجارَ به منها ، وتركَ المعصيةَ.
وقوله تعالى : { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } أي وجعَلناها منفعةً للمُسافِرين الذين ينْزِلون في الأرضِ القَيُّ في المفَاوز ، يقالُ : أقوَى الرجلُ إذا نزلَ بالأرضِ القوى وهي الخاليةُ القَفرَاءُ ، ويقال : أرضٌ قَيْءٌ أي القفرى ، قال الراجزُ : قَيٌّ يُنَاصِيهَا بلاَدٌ قَيُّ والقَيُّ والقَوَى هي الأرضُ القَفْرَى الخاليةُ البعيدةُ من العِمرَانِ ، يقالُ : أقْوَتِ الأرضُ مِن سُكَّانِها ، قال النابغةُ : يَا دَارَ مَيَّةَ بالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَمَدِومنفعةُ المسافرِين بالنار أكثرُ من منفعةِ المقيمين ؛ لأنَّهم يُوقِدونَها ليلاً لتَهرُبَ منها السبِّاعُ ، ويهتَديها الضالُّ من الطريقِ ، ويستَضِيئوا بها في ظُلمَةٍ ، ويصطلوا بها من البردِ ويطبخون بها ويخبزُوا ، وضررُ فَقِدها عليهم أشدُّ. وقد يقالُ للذي فقدَ زادَهُ : الْمُقْوِي من أقْوَتِ الدارُ إذا خَلَتْ ، ويقالُ للمُقْوِينَ : مُقوٍ لِخُلُوِّهِ من المالِ والغِنَى ، مُقْوٍ لقُوَّتهِ على ما يريدُ ، فعلَى هذا الْمُقْوِي من الأضدادِ ، والمعنى : متَاعاً للغنيِّ والفقيرِ ، وذلك أنه لا غِنَى لأحدٍ عنها.
ولَمَّا ذكرَ اللهُ سبحانَهُ ما يدلُّ على توحيدهِ وما أنعمَ به ، فقالَ تعالى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } ؛ أي بَرِّئِ اللهَ مما يقولُ الظَّالمون في وصفهِ ونَزِّهْهُ عمَّا لا يليقُ به. وفي الحديثِ : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قالَ صلى الله عليه وسلم : " اجْعَلُوهَا فيِ رُكُوعِكُمْ " ".
(0/0)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } ؛ معناهُ : فأُقسِمُ ، وإنما دخلت (لاَ) زائدةً للتوكيدِ ، ويجوزُ أن يكون قولهُ : { فَلاَ } رَدّاً لِمَا يقولهُ الكفَّارُ في القرآنِ : أنه سِحرٌ أو شعرٌ أو كهانة ، ثم استأنفَ القسَمَ على أنه قرآنٌ كريم في كتابٍ مكنون ، ويعني بقوله { بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ } نجومُ القرآنِ التي كانت تنْزِلُ على رسولِ الله متفرِّقاً قِطَعاً نُجوماً ، وَقِيْلَ : يعني مغاربَ النُّجوم ومساقِطَها ، وقرأ حمزةُ والكسائي (مَوْقِعَ) على المصدر ، والمصدرُ يصلح للواحدِ والجمع.
(0/0)
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
قوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } ؛ قال الزجَّاجُ : (هَذا يَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمُرَادَ بمَوَاقِعِ النُّجُومِ نُزُولَ الْقُرْآنِ) والضميرُ في (إنَّهُ) يعودُ على القَسَمِ ودلَّ عليه (أقْسِمُ) ، والمعنى : أنَّ القسَمَ بمواقعِ النجومِ عظيمٌ.
(0/0)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } ؛ هذا جوابُ القسَمِ ، ومعناهُ : كثيرُ الخير دالٌّ على أنه من عندِ الله لأنَّهُ لا يأتِي أحدٌ بمثلهِ { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } ؛ هَهُنا هو اللوحُ المحفوظُ مَصُونٌ عن التغيُّرِ والتبديلِ والزيادةِ والنقصان.
(0/0)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ قال بعضُهم : الضميرُ يعود إلى الكتاب الْمَكْنُونِ ، معناهُ : لا يَمَسُّ اللوحَ المحفوظَ إلاّ المطَهَّرون من الذُّنوب وهم الملائكةُ. وقال : الضميرُ يعود إلى القرآنِ ، ومعناهُ : الْمُصْحَف لا يَمسُّه إلاَّ المطهَّرون من الأحداثِ والجناباتِ والحيضِ ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلاَّ طَاهِرٌ ".
وَقِِيْلَ : معنى الآيةِ : لا يعملُ به إلاّ الموَفَّقُون. وَقِيْلَ : لا يجدُ حلاوتَهُ إلاّ المفسِّرون : وَقِيْلَ : معناهُ : لا يقرَؤُه إلاّ الموحِّدُون المطَهَّرون من الشِّركِ ، وكان ابنُ عبَّاس (يَنْهَى أنْ يُمَكَّنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ). وَقِيْلَ : معناهُ : لا يَجِدُ لذتَهُ إلاّ مَن آمَنَ به. وَقِيْلَ : لا يُوفَّقُ للعملِ به إلاّ السُّعداءُ.
فظاهرُ الآيةِ : لا يجوزُ للمُحْدِثِ مَسُّ المصحفِ ، وإنْ كان ظاهِرُها نفيٌ ، فمعناهُ : النهيُ ؛ أي لا يَمَسُّ المصحفَ إلاّ المطَهَّرون من الأحدَاثِ ، وإلى هذا ذهبَ جمهورُ الفقهاءِ.
وذهبَ حكيمُ وداودُ بن عليٍّ إلى أنه يجوزُ للمُحدِثِ مسُّ المصحَفِ اذا كان مُسلِماً ، ولا يجوزُ ذلك للمُشركِ.
والدليلُ على أنه لا يجوزُ للمُحدِثِ مسُّهُ قوله عليه السلام : " لاَ تَمَسَّ الْقُرْآنَ إلاَّ وَأنْتَ طَاهِرٌ " وعليه إجماعُ الصَّحابة. وسُئِلَ عليٌّ رضي الله عنه : أيَمَسُّ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ ؟ فَقَالَ : (لاَ).
(0/0)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَبِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } ؛ معناهُ : أفَبهذا القرآنِ الذي يُقرَأُ عليكم يا أهلَ مكَّة أنتم تَكفُرون وتُكَذِّبون. والْمُدْهِنُ والْمُدَاهِنُ : الكذابُ المنافقُ. وَقِيْلَ : معنى تُدهِنُونَ : تُظهِرُونَ خلافَ ما تُضمِرُونَ ، مأخوذٌ من الدُّهنِ ومُدَاهَنَةِ العدوِّ ومُلايَنَتِهِ ومُصانَعتِهِ وإظهار مُسالَمَتهِ خلافَ ما يضمرُ.
(0/0)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } ؛ أي وتجعَلون شُكرَكم أنَّكم تكذِّبون بنعمةِ اللهِ عليكم ، فيقولون : سُقِينَا بنَوءِ كذا. وذلك أنَّهم كانوا يقُولون : مُطِرنَا بنَوءِ كذا ، لا يَنسِبُون السُّقيا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فقيلَ لهم : وتجعَلُون شُكرَ رزقكم التكذيبَ ؛ أي تجعلون بدلَ شُكرِكم تكذيبَكم بأنه من عندِ الله الرزَّاق.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " لَوْ حَبَسَ اللهُ عَنْ أُمَّتِي الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ أنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ لأَصْبَحَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَقُولُونَ : مُطِرْنَا ".
ورُوي : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ فِي سَفَرٍ ، فَنَزَلُواْ فَأَصَابَهُمُ الْعَطَشُ ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ ، فَذكَرُواْ ذلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " أرَأيْتُمْ إنْ دَعَوْتُ لَكُمْ إنْ سُقِيتُمْ ، فَلَعَلَّكُمْ تَقُولُونَ : سُقِينَا هَذا الْمَطَرَ بنَوْءِ كَذا ؟ " فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا هَذا بحِينِ الأَنْوَاءِ! فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهَاجَتِ ريحٌ ثُمَّ هَاجَتْ سَحَابَةٌ ، فَمُطِرُوا حَتَّى سَالَتِ الأَوْدِيَةُ وَمَلأَوا الأَسْقِيَةَ.
فَرَكِبَ صلى الله عليه وسلم فَمَرَّ برَجُلٍ يَغْرِفُ بقَدَحٍ لَهُ وَهُوَ يَقُولُ : سُقِينَا بنَوءِ كَذا ، وَلَمْ يَقُلْ : هَذا مِنْ رزْقِ اللهِ تَعَالَى. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } " أي وتجعَلُون شُكرَكم للهِ على رزقهِ إيَّاكم أنَّكم تُكذِّبون بنعمَتهِ ، وتقولون : سُقينا بنوءِ كذا.
وعن معاويةَ الليثي : أنَّ رَسُولَ اللهَ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " يُصْبحُ النَّاسُ مُجْدِبينَ ، فَيَأْتِيَهُمُ اللهُ برِزْقٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَيُصْبحُونَ مُشْرِكِينَ ، يَقُولُونَ : مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذا وَكَذا ".
(0/0)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } ؛ معناه : وهلاَّ إذا بلَغَتِ النَّفسُ الحلقومَ عند الموتِ ، { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ } ؛ يا أهلَ الميِّت ، { تَنظُرُونَ } ؛ مَآلَ الميتِ ، وأنتم حولَهُ ترَونَ نفسَهُ تخرجُ ولا تقدِرون على ردِّها ، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } ؛ منكم ، ورسُلنا أقربُ إليه ، { مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّ تُبْصِرُونَ }.
ويجوزُ أن يكون معناهُ : يعني مَلَكَ الموتِ وأعوانَهُ ، والمعنى : ورسُلنا القابضُون روحَهُ أقربُ إليه منكم ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : ونحنُ أقربُ إليه منكم بالعلمِ والقُدرَةِ ، نراهُ من غيرِ مسافةٍ بيننا وبينَهُ ، وأنتم لا تنظرونَهُ إلاَّ بمسافةٍ.
(0/0)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي فهلاَّ إن كنتم غيرَ مجزيين ومحاسَبين كما تزعُمون ترُدُّون نفسَ هذا الميِّت إلى جسدهِ إذا بلغَتْ تَرَاقِيَهُ إنْ كُنتم صَادِقين في ظنِّكم أنَّ لكم شَيئاً من القُدرةِ ، فعجزُكم عن ردِّ هذه الروحِ إلى الجسدِ دليلٌ على أنَّكم مَقهُورون عاجزون.
والمعنَى : إنْ كان الأمرُ كما يقولون إنَّهُ لا بعثَ ولا حسابَ ولا جزاءَ ولا إلهَ يحاسِبُ ويُجازي ، فهلاَّ تردُّون نفسَ من يعزُّ عليكم إذا بلغتِ الحلقومَ ، وإذا لم تقدروا على ذلك فاعلَمُوا أنَّ الأمرَ إلى غيرِكم وهو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَرْجِعُونَهَآ } جوابٌ عن قولهِ { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } أُجيب بجوابٍ واحد.
(0/0)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } ؛ معناهُ : فأما إنْ كان هذا المحتضِرُ الذي بلغَت نفسهُ الحلقومَ من السَّابقين المقرَّبين عندَ اللهِ ، فله رَوْحٌ وهو الرَّوحُ والاستراحةُ ، وقال مجاهد : (الرَّوْحُ : الْفَرَحُ ، وَرَيْحَانٌ يَعْنِي الرِّزْقَ فِي الْجَنَّةِ). قرأ الحسنُ وقتادة ويعقوب : (فَرُوحٌ) بضمِّ الراء ، معناهُ : الحياةُ الدائمةُ التي لا موتَ فيها.
ويقالُ : إن الرَّوح بنصب الراء نسيمٌ تستريحُ إليه النفسُ ، والرَّيحانُ هو السَّمُومُ ، قال أبو العاليةِ : (يُؤْتَى بَعْضٌ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيَشُمُّهُ قَبْلَ أنْ يُفَارقَ الدُّنْيَا ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحُهُ). وقال أبو بكر الوراق : (الرَّوحُ النَّجَاةُ مِنَ النَّار ، وَالرَّيْحَانُ دُخُولُ الْقَرَار).
وقال الترمذيُّ : (الرَّوْحُ فِي الْقَبْرِ ، وَالرَّيْحَانُ دُخُولُ الْجَنَّةِ). وقال بسطامُ : (الرَّوْحُ السَّلاَمَةُ ، وَالرَّيْحَانُ الْكَرَامَةُ). وقال الشعبيُّ : (الرَّوْحُ مُعَانَقَةُ الأَبْكَار ، وَالرَّيْحَانُ مُرَافَقَةُ الأَبْرَار).
وَقِيْلَ : الرَّوحُ كَشفُ الكروب ، والريحانُ غُفران الذنوب. وَقِيْلَ : الرَّوح تخفيفُ الحساب ، والريحانُ تضعيفُ الثواب ، وَقِيْلَ : الرَّوح عَفوٌ بلا عتابٍ ، والرَّيحان رزقٌ بلا حسابٍ. وَقِيْلَ : الرَّوح لأرواحِهم ، والريحانُ لقلوبهم ، وجنةُ النعيمِ لأبدانِهم.
(0/0)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ } ؛ معناهُ : وأما إنْ كان هذا المتوفَّى من أصحاب اليمين ، يعني من عامَّة المؤمنينَ دون السابقين ، فسلامٌ لكَ أيُّها الإنسانُ الذي مِن أصحاب اليمين مِن عذاب الله ، وسلَّمت عليكَ ملائكةُ اللهِ ، وسَلِمْتَ مما تكرهُ لأنَّك من أصحاب اليمين ، وترَى في الجنةِ ما يجبُ من السَّلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَلاَمٌ لَّكَ } رُفع على معنى : لكَ سلامٌ ؛ أي سلامةٌ من العذاب. وَقِيْلَ : معناهُ : فسلامٌ عليكَ من أصحاب اليمين.
(0/0)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ } ؛ وأما إنْ كان هذا المتوفَّى من المكذِّبين بالبعثِ والرسالةِ ، { الضَّآلِّينَ } ؛ من الْهُدَى ، { فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ } ؛ أي فالحقُّ الذي يُعَدُّ له حميمُ جهنَّمَ ، { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } ، أي أُدخِلَ ناراً عظيمةً.
(0/0)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ } ؛ يعني ما ذُكِرَ من قصَّة الْمحتَضِرين ، وجميعُ ما سبقَ ذِكرهُ ليقينٌ حقُّ اليقينِ لا شكَّ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } ؛ أي نَزِّهِ اللهَ عن السُّوء ، والباءُ زائدةٌ ، والاسمُ بمعنى الذات والنفسِ ، كأنه قِيْلَ : فسبح ربَّكَ العظيمَ.
(0/0)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي خضعَ وصلَّى للهِ ما في السَّموات من الملائكةِ من الخلْقِ ، ونزَّهوهُ عن السُّوء والأنداد ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } ؛ في مُلكهِ وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } ؛ في أمرهِ وقضائهِ.
(0/0)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له خزائنُ السَّموات والأرضِ من المطرِ والنبات وغير ذلك ، { يُحْيِـي } ؛ للبعثِ ، { وَيُمِيتُ } ؛ عند انقضاءِ الآجالِ ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ من الإحياءِ والإماتةِ ، { قَدِيرٌ } أي قادرٌ.
(0/0)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } ؛ أي هو الأولُ بلا ابتداءٍ ، والآخرُ بلا انتهاءٍ ، لم يزَلْ قديماً قبلَ كلِّ شيء ، وهو الدائمُ بعد فناءِ كلِّ شيء ، وهو الظاهرُ الغالبُ على كلِّ شيء ، والظاهرُ هو القاهرُ ، ومنه قولهُ{ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }[الصف : 14] أي غالِبين. ويقالُ : ظهرَ الأميرُ على بلدِ كذا ؛ إذا غلبَ عليها ، وهو الباطنُ الذي لا يدرَكُ بالحواسِّ ولا يقاسُ بالناسِ. وَقِيْلَ : معناهُ : هو الظاهرُ بأدلَّتهِ العالِمُ بما بَطُنَ من أُمور خلقهِ. وَقِيْلَ : الباطنُ الْمُحْتَجِبُ عن الأبصار ، { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ } ؛ من الظاهرِ والباطنِ ، { عَلِيمٌ }.
(0/0)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك.
قوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } ؛ أي ما يدخلُ فيها فيُستَرُ ، كما يعلمُ { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } ؛ فيظهَرُ ، وَيعلمُ ، { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ } ، مِن مَلَكٍ ورزقٍ ومطر ، { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } ؛ وما يصعَدُ إليها من الملائكةِ وأعمالِ العباد ، { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } ؛ أي وهو أعلمُ بأقوالِكم وأفعالِكم وعزائِمكم في أيِّ موضعٍ كنتم ، فليس يخلُو أحدٌ من علمِ الله وقُدرتهِ أينَما كان في الأرضِ أو في السَّماء أو في برٍّ أو في بحرٍ ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }. وما بعدَ هذا : { لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ * يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }. ظاهرُ المعنى.
(0/0)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي صدِّقُوا باللهِ بأنَّهُ خالقُكم وإلهكم ، وصدِّقُوا برسولهِ أنَّهُ صادقٌ فيما يؤدِّيه إليكم ، { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } ؛ في الجهادِ وعلى الضُّعفاء ، وغيرِ ذلك من سُبل الخيرِ من الأموالِ التي جعلَكم اللهُ مُستَخلفين فيها بأن أورثْكُموها ممن كان قبلَكم.
ويقال : إن الأموالَ التي في الدُّنيا لا تخلُو إمَّا أنْ تكون قد صارت إلينا فنحنُ خلفاؤُهم فيها ، أو تصيرُ منَّا إلى غيرِنا فهم خلفاءنا فنحفَظُها ، قَوُلهُ تَعَالَى : { فَالَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ؛ أي لهم ثوابٌ عظيم في الآخرةِ.
(0/0)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قَوْلُه تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ؛ هذا استفهامُ إنكارٍ ؛ معناهُ : أيُّ شيءٍ لكم من الثَّواب في الآخرةِ إذا لم تُؤمِنوا باللهِ بعدَ قيامِ الحجَّة عليكم على وحدانيَّة اللهِ تعالى وتَمامِ علمهِ وكمالِ مُلكهِ ، وأيُّ عُذرٍ يَمنَعُكم من الأيمانِ بالله تعالى ، { وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } ؛ في ظهرِ آدمَ بأنَّ اللهَ ربَّكم لا إلهَ إلاّ هو ولا معبودَ سواهُ. وَقِيْلَ : معنى : { أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } ركَّبَ فيكم العقولَ وأقامَ الحججَ والدلائل التي تدعُو إلى متابعةِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
قرأ العامَّةُ (أخَذ) بفتحِ الهمزة وفتحِ القاف ، وقرأ أبو عمرٍو بضمِّها على ما لَمْ يسَمَّ فاعلهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ؛ يعني إنْ كُنتم مُصدِّقين كما تزعُمون.
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ؛ معناهُ : هو الذي يُنَزِّلُ على عبدهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم آياتٍ بيِّناتٍ ، يعني القرآنَ ، ليُخرِجَكم من ظُلماتِ الشِّرك إلى نُور الإيمانِ ، ومِن ظُلمات الجهلِ إلى نور العلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ يعني حين بعثَ الرسولَ ونصبَ الأدلَّة.
(0/0)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } معناهُ : أيُّ شيءٍ لكم في تركِ الإنفاقِ في نُصرَةِ الإسلامِ ومُواساةِ الفُقراءِ وأنتم ميِّتون تَاركون أموالَكم ، واللهُ سبحانه يرزُقكم ، ويرِثُ ما في السَّموات والأرضِ ، يُمِيتُ مَن فيهما ويرِثُ مَن عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ } ؛ معناهُ : لا يستوِي منكم في الفَضلِ مَن أنفقَ مالَهُ وقاتلَ العدوَّ مِن قبلِ فتح مكَّة مع مَن أنفقَ من بعدُ وقاتلَ. قال الكلبيُّ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه) قِيْلَ : هذا أنَّهُ كان أوَّلَ مَن أنفقَ المالَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في سبيلِ الله ، وأوَّلَ مَن قاتلَ في الإسلامِ. وقال ابنُ مسعودٍ : (أوَّلُ مَنْ أظْهَرَ إسْلاَمَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ النِّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأَنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ).
قَالَ العلاءُ بن عمرٍو : " بَيْنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ، قَدْ خَلَّهَا علَىَ صَدْرهِ بخِلاَلٍ إذْ نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ : مَا لِي أرَى أبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ ؟ فَقَالَ : يَا جِبْرِيلُ إنَّهُ أنْفَقَ مَالَهُ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَيَّ ، قَالَ : فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلاَمَ وَقُلْ لَهُ : يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا أبَا بَكْرٍ ؛ هَذا جِبْرِيلُ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَيَقُولُ لَكَ رَبُّكَ : أرَاضٍ أنْتَ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذا أمْ سَاخِطٌ ؟ " فَبَكَى أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَالَ أعَلَى رَبي أغْضَبُ؟! أنَا عَنْ رَبي رَاضٍ ".
وفي هذه الآيةِ دلالةٌ واضحة وحُجَّةٌ بَيِّنَةٌ على فضلِ أبي بكر وتَقديمِه على سائرِ الصَّحابة ، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال : (لاَ أُؤتَي برَجُلٍ فَضَّلَنِي عَلَى أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ إلاَّ جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ } ؛ معناهُ : أولئكَ أعظمُ ثَواباً وأفضلُ درجةً عند اللهِ من الذين أنفَقُوا من بعدِ فتحِ مكَّة وقاتَلُوا بعدَهُ ، وإنما فضَّلَ اللهُ المنفقِين والمقاتلين من قبلِ الفتحِ ؛ لأن الإنفاقَ والقتالَ في ذلك الوقتِ كان أشدَّ على النفسِ ، وكانت الحاجةُ اليها أمَسُّ لقلَّة المسلمِين.
ثم بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ لِكِلاَ الفرِيقين الحسنَى وهو الجنةُ ، إلاّ أنَّهم مُتفاوتون في الدَّرجَات فقال : { وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ؛ أي وكِلاَ الفريقين وعدَ اللهُ الجنةَ ، وقرأ ابنُ عامرٍ (وَكُلٌّ) بالرفعِ على الاستئنافِ على لُغة مَن يقولُ : زيدٌ ضرَبتُ. وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ أي عالِمٌ بما يعملهُ كلُّ واحدٍ منكم.
(0/0)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ في البقرةِ. قال أهلُ العلمِ : القرضُ الحسَنُ أنْ يكون من الحلالِ ؛ لأنَّ اللهَ طِّيبٌ لا يقبلُ إلاّ طيِّباً ، وأنْ يكون من أحسَنِ ما يملكهُ دون أن يقصِدَ الرديءَ لقولهِ تعالى : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ }[البقرة : 267] ، وأن يتصدَّقَ وهو لِحُب المالِ ويرجُو الحياةَ ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئل عن أفضلِ الصَّدقات فقالَ : " أنْ تَتَصَدَّقَ وَأنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ ، وَلاَ تُمْهِلْ حَتَّى إذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ، قُلْتَ : لِفُلاَنٍ كَذا وَلِفُلاَنٍ كَذا ، وَأنْ تَضَعَ الصَّدَقَةَ فِي الأَحْوَجِ الأَوْلَى " وأنْ يكتُمَ الصدقَةَ ما أمكنَ لقولهِ{ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }[البقرة : 271] ، وإن لا يتبعَ الصدقةَ المنَّ والأذى لقوله تعالى{ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى }[البقرة : 264] ، وأن يقصِدَ بها وجهَ اللهِ ولا يُرائِي بها ، وأن يستحقرَ ما يُعطي وإنْ كَثُرَ ؛ لأن الدُّنيا كلها قليلةٌ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء : 77] وأن يكون مِن أحب مالهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ }[آل عمران : 92] وهذه تسعةُ أوصافٍ إذا استكمَلَتها الصدقةُ كانت قَرْضاً حَسناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } فيه قراءَتان : مَن قرأ بالرفعِ فعلى العطفِ على { يُقْرِضُ } أو على الاستئنافِ على معنى فهو يضاعفُهُ ، ومَن قرأ بنصب الفاء فعلى جواب الاستفهامِ بالفاء ، وقولهُ تعالى : { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } الأجرُ الكريم الذي يقعُ به النفعُ العظيم وهو الجنَّة.
(0/0)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } معناهُ : اذكُرْ يومَ تراهُم ، ويجوزُ أن يكون انتصابُ اليومِ على معنى ولَهم أجرٌ كريم يسعَى نورُهم بين أيدِيهم وبأَيمانِهم على الصِّراطِ يومَ القيامةِ ، وهو دليلُهم إلى الجنَّة.
وأرادَ بالنور القرآنَ ، وَقِيْلَ : نورُ الإيمانِ والطاعةِ ، تظهرُ لهم فيمشون فيه ، قال ابنُ مسعودٍ : (يُؤتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْر أعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ مِثْلُ الْجَبَلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقائِمِ ، وَأدْنَاهُمْ نُوراً نُورُهُ عَلَى إبْهَامِهِ يُطْفِيءُ مَرَّةً وَيُوقَدُ أُخْرَى). وقال قتادةُ : (الْمُؤْمِنُ يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ كَمَا بَيْنَ عَدَنَ وَصَنْعَاءَ وَدُونَ ذلِكَ ، حَتَّى أنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِين مَنْ لاَ يُضِيءُ لَهُ نُورُهُ إلاَّ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِأَيْمَانِهِم } قال الضحَّاكُ ومقاتل : (وَبأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمُ الَّتِي أُعْطُوهَا ، فَكُتُبُهُمْ بأَيْمَانِهِمْ ، وَنُورُهُمْ بَيْنَ أيْدِيهِمْ). وتقولُ لَهم الملائكةُ : { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ يعني أنْهارَ اللَّبَنِ والخمرِ والعسلِ والماء ، { خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ لا يَمُوتون ولا يُخرَجون منها ، { ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
(0/0)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً } ؛ أيِ احذرُوا يومَ يقولُ المنافقون للمؤمنينِ المخلصِين : انظُرونا نُضِيءُ بنُوركم فنَمضِي معَكم على الصِّراطِ ، وذلك أنَّ المنافقين تغشَاهُم ظلمةٌ حتى لا يكادُون ينظرون مواضعَ أقدامِهم ، فينادون المؤمنين نَقتَبسْ من نُوركم.
قرأ حمزةُ (أنْظِرُونَا) بقطع الألف وكسرِ الظاء ؛ أي أمهِلُونَا ، وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : انْتَظِرُونَا أيْضاً) ، وقال عمرُو بن كلثوم : أبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وَأنْظِرْنَا نُخَبرْكَ الْيَقِينَاقال المفسِّرون : إذا كان يومُ القيامةِ ، أعطَى اللهُ المؤمنين نُوراً على قدر أعمالهم يَمشُون به على الصِّراطِ ، وأعطَى اللهُ المنافقِين نُوراً كذلكَ خديعةً لَهم فيما بينهم كذلك يَمشون ، إذا بعثَ اللهُ ريحاً وظلمةً فانطفأَ نورُ المنافقِين ، فعندَ ذلك يقولُ المؤمنون : ربَّنا أتْمِمْ لنا نُورَنا ، مخافةَ أن يُسلَبَ كما سُلِبَ المنافِقُون.
ويقولُ : المنافِقُون حينئذٍ للمؤمنين : أنْظُرُونَا نَقتَبسْ من نُوركم ، فيقولون لَهم : لا سبيلَ لكم إلى الاقتباسِ من نُورنا ، فارجِعُوا وراءَكم فاطلُبوا هنالكَ لأنفُسِكم نُوراً ، فيرجِعُون في طلب النُّور فلا يجدُون ، فيقولُ لَهم الملائكةُ : ارجعوا إلى الموضعِ الذي أخَذنا منه النُّور فاطلُبوا نوراً ، فإنَّ المؤمنين حَمَلُوا النورَ من الدُّنيا بإيمانِهم وطاعتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } ؛ معناهُ : فيُميَّزُ بين المؤمنِين والمنافقين بأنْ يُضرَبَ بينهم بجدارٍ كبيرٍ يقالُ له السُّورُ ، وهو الذي يكونُ عليه أصحابُ الأعرافِ ، وهو حاجزٌ بين الجنَّة والنار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُ بَابٌ } ؛ أي للسُّور بابٌ ، { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } ؛ وهي الجنَّة التي فيها المؤمنون ، { وَظَاهِرُهُ } ؛ أي وخارجُ السُّور ، { مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } ؛ يعني جهنَّمَ والنارَ.
(0/0)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } ؛ معناهُ : أنَّ المنافقِين يُنادون المؤمنين من وراءِ السُّور ، ألَمْ نكن معكم في الدُّنيا على دينِكم نناكحكم ونوارثكم ونصَلِّي معكم في مساجدِكم ، { قَالُواْ بَلَى وَلَـاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ } ؛ أي أهلَكتُموها بالنِّفاقِ والمعاصِي والشَّهوات وكلُّها فتنةٌ ، { وَتَرَبَّصْتُمْ } ؛ بمُحَمَّدٍ الموتَ وبالمؤمنين الدوائرَ ، وقُلتم : يوشِكُ أن يموتَ مُحَمَّدٌ فنستريحَ منه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَارْتَبْتُمْ } ؛ أي شَكَكْتُمْ في توحيدِ الله وفي نُبوَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } ؛ يعني : ما كانوا يتمنَّون من قتلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهلاكِ المسلمين ، وغرَّتكُم أيضاً الأباطيلُ وطولُ الآمالِ ، { حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ } ؛ يعني الموتَ والبعثَ ، { وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ؛ أي وغَرَّكم الشيطانُ بحُكمِ اللهِ وإمهالهِ عن طاعة اللهِ.
(0/0)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ } ؛ لا يُقبَلُ منكم بَدْلٌ تَفدُونَ به أنفُسَكم من العذاب ، { وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ ولا من الذين يُظهِرُون الكفرَ ، قرأ ابنُ عامرٍ والحسن ويعقوب : (لاَ تُؤْخَذُ) بالتاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ } ؛ أي أولَى بكم وأحقُّ أن تكون مَسكَناً لكم قد ملَكَت أمرَكم ، فهي أولَى بكم من كلِّ شيءٍ ، وأنتم أولى بها ، ومنه المولَى لأنه أولَى بعبيدهِ من غيره ، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ النارُ ، قال قتادةُ : (مَا زَالُوا عَلَى خُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى قَذفَهُمُ اللهُ فِي النَّار).
(0/0)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } ؛ معناهُ : أمَا حانَ للمؤمنين الذين تكَلَّموا بكلمةِ الإيمان إذا سَمِعُوا القرآنَ أنْ تخشعَ قلوبُهم لذكرِ الله وتَلِينُ وتَرِقُّ ، قال ابنُ مسعود : (مَا كَانَ بَيْنَ إسْلاَمِنَا وَبَيْنَ أنْ عَاتَبَنَا اللهُ بهَذِهِ إلاَّ أرْبَعَ سِنِينَ). والمعنى : يجبُ أن يُورثَهم الذكرُ خُشوعاً ولا يكونوا كمَنْ يَذكُره بالغَفلَةِ ، ولا يخشعُ للذِّكر قلبهُ. وقوله { وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } يعني القرآنَ ، قرأ نافع وعاصم مخفَّفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ } ؛ وهم اليهودُ والنصارى ، وموضعُ { وَلاَ يَكُونُواْ } النصبَ عطفاً على قولهِ تعالى { أَن تَخْشَعَ } و { وَلاَ يَكُونُواْ } ، قال الأخفشُ : (وَإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ نَهْياً) وهذه زيادةٌ في وعظِ المؤمنين ، معناهُ : ولا يَكُونوا في قَسَاوَةِ القلوب كالذين أُعطُوا التوراةَ والإنجيلَ من قبلِ المؤمنين ، { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ } ؛ الزمانُ بينهم وبين أنبيائهم ، { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } ؛ قال ابنُ عباس : (مَالُوا إلَى الدُّنْيَا وَأعْرَضُواْ عَنْ مَوَاعِظِ اللهِ ، فَلَمْ تَلِنْ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ كَلاَمِ اللهِ تَعَالَى). وقوله تعالى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي خارجون عن طاعةِ الله ، وإنَّما قالَ { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ } لأنه كان منهم مَن أسلمَ.
(0/0)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يُحْيِـي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ؛ تنبيهٌ على الاستدلالِ بإحياءِ الأرض بعدَ مَوتِها على البعثِ والنُشور.
(0/0)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } ؛ قرأ ابنُ كثير وعاصم بتخفيفِ الصَّاد من التَّصْدِيقِ ، تقديرهُ : إنَّ المؤمنين والمؤمناتِ ، وقرأ الباقون تشدِيدها ، يعني الْمُصَّدِّقِينَ من الصَّدَقَةِ ، أُدغمت التاءُ في الصادِ ، { وَأَقْرَضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } بالصَّدقة والنفقةِ في سبيله ، { يُضَاعَفُ لَهُمْ } ؛ قرأ ابنُ كثير وابن عامر (يُضَعِّفُ) بالتشديدِ ، وقوله : { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } ؛ يعني الجنَّة.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ؛ واحدُهم صِدِّيقٌ وهو الكثيرُ الصِّدقِ ، والصِّدِّيقُونَ لَمْ يَشُكُّوا في الرُّسل حين أخبَرُوهم ، ولم يُكذِّبُوهم ساعةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ قال بعضُهم : تمامُ الكلامِ عند قولهِ { الصِّدِّيقُونَ } ، ثم ابتدأ فقالَ : { وَالشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ } وخبرهُ : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } ؛ والشهداءُ على هذا القولِ يحتملُ أنَّ المرادَ بهم الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذين يَشهَدُون يومَ القيامةِ لِمَن صدَّقَ بالتصديقِ وعلى مَن كذبَ بالتكذيب ، ويحتملُ أنَّ المرادَ بهم الذين قُتِلُوا في سبيلِ الله.
وقال بعضُهم : وقوله { وَالشُّهَدَآءُ } عطفٌ على الصِّدِّيقِينَ ومعنى : الشُّهداء على سائرِ المؤمنين ، ففي الحديثِ : " الْمُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ فِي أرْضِهِ " وقالَ صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مُؤمِنٍ شَهِيدٌ " { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }.
(0/0)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ } ؛ يعني الحياةَ الدُّنيا كاللَّعب واللَّهوِ في سُرعَةِ فنائِها وانقضائها ، ونظيرُ هذا قولهُ صلى الله عليه وسلم : " الطَّوَافُ بالْبَيتِ صَلاَةٌ " أي كالصَّلاة ، ويقالُ : فلانٌ يجرِي كالبحرِ في السَّخاء ، وفلانٌ أسَدٌ ؛ أي كالأسدِ في الشَّجاعة.
وقولهُ تعالى { وَزِينَةٌ } أي منظرٌ حسَنٌ ، والمعنى : إنما الحياةُ الدُّنيا لعبٌ ولَهوٌ كلعب الصبيان ، وزينةٌ كزِينَةِ النِّسوانِ ، { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ } كتكَاثُرِ الدُّهقان.
قال عليُّ بن أبي طالبٍ لعمَّار بن ياسرٍ : (لاَ تَحْزَنْ عَلَى الدُّنْيَا ؛ فَإنَّهَا سِتَّةُ أشْيَاءٍ : مَطْعُومٌ ؛ وَمَشْرُوبٌ ؛ وَمَلْبُوسٌ ؛ وَمَشْمُومٌ ؛ وَمَرْكُوبٌ ؛ وَمَنْكُوحٌ ، فَأَكْبَرُ طَعَامِهَا الْعَسَلُ وَهُوَ بُزَاقُ ذُبَابَةٍ ، وَأكْبَرُ شَرَابهَا الْمَاءُ وَفِيهِ يَسْتَوِي جَمِيعُ الْحَيْوَانَاتِ ، وَأكْبَرُ مَلْبُوسِهَا الدِّيبَاجُ وَهُوَ نَسْجُ دُودَةٍ ، وَأكْبَرُ مَشْمُومِهَا الْمِسْكُ وَهُوَ دَمُ فَأْرَةٍ أوْ ظَبْيَةٍ ، وَأكْبَرُ مَرْكُوبهَا الْفَرَسُ وَعَلَيْهِ يُقْتَلُ الرِّجَالُ ، وَأكْبَرُ مَنْكُوحِهَا النِّسَاءُ وَهُوَ مُبَالٌ فِي مُبَالٍ).
قَوْلُهُ تََعَالَى : { كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } ؛ أي مثَلُ الدُّنيا كمثلِ مطَرٍ أعجبَ الزُّرَّاعَ نباتهُ ، والكفرُ في اللغةِ هو التَّغطِيَةُ ، وسُمِّي الكافرُ كافراً ؛ لأنه يُغَطِّي الحقَّ بالباطلِ ، والزَّارعُ يُغَطِّي الحبَّ بالأرضِ.
والمعنى : كمَثَلِ غيثٍ أعجبَ الزُّرَّاعَ ما نبتَ من ذلك الغيثِ ، { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً } ؛ أي ثم يَبينُ فيصير مُصْفَرّاً بعدَ خُضرَتِهِ وريِّه ، { ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } ؛ أي متَكَسِّراً مفَتَّتاً تحتَ أرجُلِ الدواب ، كذلك الدُّنيا تزولُ وتفنَى ، كما لا يبقَى هذا الزرعُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ } ؛ أي عذابٌ شديد للكفَّار والمنافقِين ، ومغفرةٌ من اللهِ ورضوانٌ للمؤمنين المطيعِين ، وقولهُ تعالى : { وَمَا الْحَيَاوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } ؛ هي في سُرعَةِ فَنائِها ونفَادِها مثل متاعِ البيت في سُرعةِ فنائه وفراغهِ وسقوطه وانكسارهِ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ كان يقولُ في صفةِ الدنيا : (أمَّا مَاضِي فحَكَم ، وَأمَّا مَا يُغْنِي فَأَمَانِيُّ وَغُرُورٌ). وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تكْثِرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ ".
(0/0)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ أي سَابقوا إلى ما أُمِرتُم وإلى التَّوبةِ لتنالوا مغفرةً من ربكم جنَّةٍ سِعَتُها كسِعَةِ السَّماء والأرضِ. وَقِيْلَ : المرادُ بالآيةِ السَّبْقُ إلى الجهادِ والجمُعة والجماعاتِ وسائر أعمالِ البرِّ ، وباقي الآيةِ ظاهرٌ. { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.
(0/0)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ؛ معناهُ : ما أصابَ أحداً مصيبةً في الأرضِ من قحطِ المطر وقلَّة النباتِ ونقصِ الثِّمار ، { وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ } من المرضِ والموتِ وفَقدِ الأولادِ ، إلاَّ وهو مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظِ من قبل أن نخلُقَ الأرضَ. ويقالُ : من قبلِ أن نخلُقَ النَّفسَ ، ويقالُ : من قبلِ أن نقدِّرَ تلك المصيباتِ في اللَّوح المحفوظِ ؛ لأن خلقَ ذلك وتقديرَهُ على الله هيَّنٌ. والْبَرَأُ في اللغة هو الْخَلْقُ ، والبَارئُ : الخالقُ ، والبَرِيَّةُ : الخليقةُ. قوله : { إِنَّ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ؛ يعني إثباتُ ذلك كله مع كَثرتهِ على الله هيِّنٌ.
(0/0)
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } ؛ بالصبرِ عند المصائب ، والشُّكرِ عند النِّعَمِ ، لأنَّ العاقلَ إذا عَلِمَ الذي فاتَهُ كان مكتوباً عليه ، دعاهُ ذلك إلى تركِ الْجَزَعِ ، وكانت نفسهُ أسكنَ وقلبهُ أطيبَ ، وإذا عَلِمَ أنَّ الذي أتاهُ من الدنيا كان مَكتوباً له قبلَ أن يصيرَ إليه ، وأنه لا يبقَى عليه ، دعاهُ ذلك إلى تركِ النظرِ.
قرأ أبو عمرو (أتَاكُمْ) بالقصرِ ؛ أي جاءَكُم ، واختارَهُ أبو عُبيد لقوله (فَاتَكُمْ) ولم يقل : أفَاتَكُمْ ، وقرأ الباقون (آتَاكُمْ) بالمدِّ ؛ أي أعطَاكُم ، واختارَهُ أبو حاتم ، وكان الحسَنُ يقولُ لصاحب المال : (فِي مَالِهِ مُصِيبَتَانِ لَمْ يَسْمَعِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ بمِثْلِهَا : يُسْلَبُ عَنْ كُلِّهِ وَيُسْأَلُ عَنْ كُلِّهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ؛ فيه ذمٌّ للفرحِ الذي يختالُ ويبطرُ بالمالِ والولدِ والولايةِ.
(0/0)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ } ؛ يعني الذين يمتَنِعون عن أداءِ الحقوق الواجبة في المالِ ، ويمنَعُون الناسَ عن أداءِ تلك الحقوق ، وهذا نعتُ المختالِ الفخور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } ؛ أي مَن يعرِضْ عن الإيمانِ وعن أداءِ الحقوق ، فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عنه وعن إيمانهِ ، وهو المحمودُ في أفعالهِ ، قرأ نافعُ وابن عامر (فَإنَّ اللهَ الْغَنِيُّ) ، وقرأ الباقون (هُوَ الْغَنِيُّ).
(0/0)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالآياتِ والْحُجَجِ ، { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ } ؛ الذي يتضمَّنُ الأحكامَ ، وقولهُ تعالى : { وَالْمِيزَانَ } يعني العدلَ ؛ أي أمَرَ بالعدلِ ، وَقِيْلَ : يعني الذي يُوزَنُ به ؛ أي أمَرَنا بالميزانِ ، { لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } ؛ أي ليتَعامَلُون بينهم بالعدلِ والنُّصفَةِ.
وقولهُ تعالى : { وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ وَمَعَهُ الإِبْرَةُ وَالْمِطْرَقَةُ وَالْكَلْبَتَيْنِ). وَقِيْلَ : المرادُ بإنزالِ الحديد أنه خلقَهُ اللهُ في الجبالِ والمعادن. وقوله تعالى { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي قوَّةٌ شديدةٌ ، لا يُلَيِّنهُ إلاَّ النارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } يعني الفؤوسَ والسكاكينَ والإبرةَ وآلةَ الحرب وآلة الدفعِ يعني السِّلاحَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ } ؛ أي وليعلَمَ اللهُ مَن ينصرُ دِينَهُ وينصرُ رسلَهُ بهذه الأسلحةِ ، واللهُ سبحانه لم يزَلْ عَالِماً بمَن ينصرُ ومَن لا ينصرُ ؛ لأن عِلْمَ اللهِ لا يكون حَادِثاً ، لأنَّ المرادَ بهذا العلمِ الإظهارُ والتمييز. وقوله تعالى { بِالْغَيْبِ } معناهُ : ولَمْ يَرَ اللهَ ولا أحكامَ الآخرة.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ؛ فيه بيانُ أنه تعالَى لم يأمُرْ بالجهادِ عن ضَعْفٍ وعجزٍ ، إنما أمَرَ به ليُثِيبنَا عليه. وما بعدَ هذا : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا } ؛ أي أتبَعْنَا الرُّسل على إثرِ نوحٍ وإبراهيمَ ومَن كان من الرُّسل من أولادِهما ، { وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ } ؛ أي أتبَعنا به وأعطيناهُ الإنجيلَ دُفعةً واحدةً ، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ } ؛ الحواريِّين وأتباعَهم ، { رَأْفَةً وَرَحْمَةً } ؛ يعني المودَّةَ ، كانوا مُتوَادِّين بعضهم لبعضٍ كما وصفَ اللهُ تعالى أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى{ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح : 29].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا } ؛ ليس بعطفٍ على ما قبلَهُ ، وانتصابهُ بفعلٍ مُضمَرٍ يدلُّ عليه ما بعدَهُ ، كأنه قالَ : وابتدَعُوا رهبانيةً ؛ أي جاءُوا بها من قِبَلِ أنفُسِهم ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : ما فرَضنَاها عليهم تلك الرهبانيَّة ، بل هي غلُوُّهم في العبادِة من حملِ المشَاقِّ على أنفُسِهم ، وهي الامتناعُ من المطعمِ والمشرب والملبَسِ والنِّكَاحِ والتعبُّدِ في الجبالِ ، ما فَرضنَا عليهم ذلك إلاّ أنَّهم طلَبُوا بها رضوانَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناها : ما فرَضنا عليهم إلاَّ اتباعَ ما أمرَ اللهُ.
قَوْلُهُ تعَالَى : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } ؛ أي قصَّرُوا فيما ألزَمُوه أنفُسَهم ولم يحفَظُوها حقَّ الحفظِ ، ويقالُ : إنه لَمَّا لم يُؤمِنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حين بُعث كانوا تاركين لطاعةِ الله تعالى غيرَ مُراعين لها فضيَّعوها وكفَرُوا بدينِ عيسى بن مريم ، وتَهَوَّدوا وتنَصَّروا وتركوا الترهيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ } ؛ وهم الذين أقَامُوا على دينِ عيسى حتى أدرَكُوا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فآمَنُوا به فأعطيناهم ثوابَهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ آمَنَ بي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَتَّبعْنِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } ؛ معناهُ : وكثيرٌ منهم خالَفُوا دينَ عيسى فقالوا هو ابنُ اللهِ أو نَحواً من هذا القولِ.
والرهبانيَّةُ في اللغة : خَصْلَةٌُ يظهرُ فيها معنى الرَّهْبَنَةِ ، وذلك إمَّا في لبسهِ أو انفرادهِ عن الجماعة للعبادةِ ، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " لاَ تُشَدِّدُواْ عَلَى أنْفُسِكُمْ فَيُشَدِّدُ اللهُ عَلَيْكُمْ ، فَإنَّ قَوْماً شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ ، { وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } ".
وعن عروةَ قال : " دَخَلَتِ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بَاذةُ الْهَيْبَةِ ، فَسَأَلَتْهَا : مَا شَأْنُكِ ؟ فَقَالَتْ : زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ ، فَذكَرَتْ عَائِشَةُ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍِ ، فَقَالَ لَهُ : " يَا عُثْمَانَ إنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا ، فَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ ، فَوَاللهِ إنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ " ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَءَامِنُواْ بِرَسُولِهِ } ؛ أي يا أيُّها الذين آمَنُوا بموسَى وعيسى اتَّقُوا الله وآمِنُوا برسولهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } ؛ أي يُؤتِكُمْ نَصِيبَين من ثوابهِ وكرامته ، نَصيباً لإيمانكم به اليومَ ونصيباً لإيمانكم المتقدِّم بالأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } ؛ على الصِّراط ، كما قا ل تعالى{ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ }[التحريم : 8] فهذا علامةُ المؤمنين في القيامةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ويجعَلْ لكم نُوراً بالإيمان في الدُّنيا ، يعني الهدَى والبينات تَهتدون به إلى طاعةِ الله ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ } ؛ لمن ماتَ على التوبةِ ، { رَّحِيمٌ }.
(0/0)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ } أي ليعلَمَ أهلُ الكتاب الذين لم يُؤمِنوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وحسَدُوا المؤمنين منهم أن لا يَصرِفوا النبوَّةَ عمَّن تفضَّلَ اللهُ بها عليه إلى غيرهِ ، وأنَّ التوفيقَ بتقديرِ الله يُعطي النبوَّةَ مَن يشاءُ ممن كان أهلاً لها ، صَالحاً للقيامِ بها. وَقِيْلَ : ليعلَم الذين لَم يؤمنوا بُمَحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّهم لا أجرَ لهم ولا نصيبَ لهم في فضلِ الله ، { وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ؛ فآتى المؤمنين منهم أجرَين ، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ؛ يتفضَّلُ على مَن يشاءُ من عبادهِ المؤمنين ، و(لاَ) في قوله { لِّئَلاَّ } زائدةُ المعنى ، لأن يعلمَ مثل قولهِ : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ }[ص : 75].
(0/0)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
{ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } ؛ " هذه الآياتُ نزلَت في خَوْلَةَ بنتِ ثعلبةَ ، وهي امرأةٌ من الخزرجِ من بني عمرِو بن عوفٍ ، وفي زوجِها أوسَ ابن الصَّامت ، وَكَانَ أوْسُ بْنُ الصَّامِتِ وُعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ أخَوَيْن ، وَكَانَتْ خَوْلَةُ حَسَنَةَ الْجِسْمِ ، فَرَآهَا زَوْجُهَا سَاجِدَةً فِي صَلاَتِهَا ، فَنَظَرَ إلَى عَجْزِهَا ، فَلَمَّا فَرغَتْ مِنْ صَلاَتِهَا رَاوَدَهَا فَأَبَتْ ، فَغَضِبَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ لَهَا : أنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ، وَنَدِمَ بَعْدَ ذلِكَ عَلَى مَا قَالَ ، وَكَانَ الظِّهَارُ طَلاَقاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
فَمَضَتْ خَوْلَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ تَغْسِلُ رَأسَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ زَوْجِي أوْسُ بْنُ الصَّامِتِ تَزَوَّجَنِي وَأنَا شَابَّةٌ غَنِيَّةٌ ذاتُ مَالٍ وَأهلٍ ، حَتَّى إذا أَكَلَ مَالِي وَأفْنَى شَبَابي وَتَفَرَّقَ أهْلِي وَكَبُرَ سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي ، وَقَدْ نَدِمَ عَلَى ذلِكَ ، فَهَلْ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللهِ يَجْمَعُنِي وَإيَّاهُ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أرَاكِ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا ذكَرَ طَلاَقاً ، وَإنَّهُ أبُو وَلَدِي وَأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " حَرُمْتِ عَلَيْهِ ". فَقَالَتْ : أشْكُوا اللهَ تَعَالَى.
ثُمَّ جَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ : " حَرُمْتِ عَلَيْهِ " فَقَالَتْ : أشْكُوا إلَى اللهِ فَاقَتِي وَشِدَّةَ حَالِي. فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَضَى الْوَحْيُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " ادْعِي زَوْجَكِ " فَتَلاَ عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } ".
وروي : " أنَّ خَوْلَةَ لَمَّا أتَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أوْساً تَزَوَّجَنِي وَأنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيَّ ، فَلَمَّا خَلاَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي وَنَثَرْتُ ذا بَطْنِي جَعَلَنِي عَلَيْهِ كَأُمِّهِ ، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى قَوْلِهِ ، وَلِي مِنْهُ صِبْيَةٌ صِغَارٌ ؛ إنْ ضَمَمْتَهُمْ إلَيْهِ ضَاعُواْ ، وَإنْ ضَمَمْتَهُمْ إلَيَّ جَاعُوا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدِي فِي أمْرِكِ شَيْءٌ " فَقَالَتْ : زَوْجِي وَابْنُ عَمِّي وَأبُو أوْلاَدِي وَأحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ ، وَهُوَ شَيْخٌ كَبيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَخْدِمَ نَفْسَهُ ، فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " مَا أرَاكِ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ ".
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَقُلْ ذلِكَ ؛ إنَّهُ مَا ذكَرَ طَلاَقاً وَإنَّمَا قالَ كَلِمَةً ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أُمِرْتُ فِي شَأْنِكِ بشَيْءٍ ، وَإنْ نَزَلَ فِي شَأْنِكِ شَيْءٍ بَيَّنْتُهُ لَكِ " فَهَتَفَتْ وَبَكَتْ وَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَتْ : اللَّهُمَّ إنِّي أشْكُو إلَيْكَ شِدَّةَ وَجْدِي وَمَا يَشُقُّ عَلَيَّ مِنْ فِرَاقِهِ ، وَرَفَعَتْ يَدَهَا إلَى السَّمَاءِ تَدْعُو وَتَتَضَرَّعُ.
فَبَيْنَمَا هِيَ كَذلِكَ ، إذْ تَغَشَّى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ ، فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ قَالَ : " يَا خَوْلَةُ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيكِ وَفِي زَوْجِكِ الْقُرْآنَ " ثُمَّ تَلاَ { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } ".
(0/0)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
وقولهُ تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ } ؛ أي ليس هُنَّ بأُمَّهاتِهم ، وما هُنَّ كأُمَّهاتِهم في الْحُرمَةِ ، وقرأ عاصمُ (مَا هُنَّ أُمَّهَاتُهُمْ) بالرفع ، كما يقالُ : ما زيدٌ عالِمٌ. قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ } ؛ معناهُ : وإنَّ المظاهرِين ليقولون ، { مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً } ؛ أي قَبيحاً من حيث يُشبُوا المرأةَ التي هي في غايةِ الإباحةِ بما هو في غايةِ الْحُرْمَةِ وهو ظهرُ الأُمِّ ، والمنكرُ الذي هو لا يُعرَفُ في الشَّرع ، والزُّورُ الكذبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } ؛ أي لكثيرُ العفوِ عن ذُنوب عبادهِ ، كثيرُ الغفران والسَّترِ عليهم ، عفَا عنهم وغفرَ لهم بإيجاب الكفَّارة عليهم.
(0/0)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ؛ اختلف المفسِّرون في معنى العودِ المذكور في الآية ، فذهبَ أصحابُ الظَّواهرِ إلى أنَّ المرادَ به إعادةُ كلمةِ الظِّهار ، وهذا قولٌ مخالف لقولِ أهلِ العلم ، وقد أوجبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الكفارةَ على أوسٍ حين ظاهرَ من امرأتهِ ، ولم يسأَلْ أكرَّرَ الظهارَ أم لا؟.
وذهبَ مالكُ إلى أن العَوْدَ هو العزمُ على الوطئِ ، قال : (وَإذا عَزَمَ عَلَى وَطْئِهَا بَعْدَ الظِّهَار فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، سَوَاءٌ أمْسَكَهَا أوْ أبَانَهَا أوْ عَاشَتْ أوْ مَاتَتْ). وقال الشافعيُّ : (الْعَوْدُ هَا هُنَا هُوَ الإمْسَاكُ عَلَى النِّكَاحِ ، إذا أمْسَكَهَا عُقَيْبَ الظِّهَار وَلَمْ يُطَلِّقْهَا ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْكَفَّارَةُ وَإنْ أبَانَهَا بَعْدَ ذلِكَ.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أنَّ معنى العَوْدِ هو أن يعودَ المقولُ فيه فيستبيحُ ما حرَّمَهُ بالظهار ، وقد يُذكَرُ المصدرُ ويراد به المقولُ كما قال صلى الله عليه وسلم : " الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْب يَعُودُ فِي قَيْئِهِ " وإنَّما هو عائدٌ في الموهوب. ويقالُ : اللهُمَّ أنتَ رجَاؤُنا ؛ أي مَرجُوُّنا ، وقال تعالى : { حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }[الحجر : 99] أي الْمُوقَنُ بهِ ، والعَوْدُ في الشَّيءِ هو فعلُ ما ينقاضُ ذلك الشيءَ ، وحروفُ الصِّفات يقومُ بعضها مقامَ بعضٍ كما في قولهِ تعالى : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ }[طه : 71] ، فيكون المعنى : ثُمَّ يعُودون فيما قَالُوا.
والإمساكُ على النِّكاح عُقيبَ الظِّهار لا يكون عَوْداً على وجهِ التَّراخي ولا يناقضُ لفظَ الظِّهار ، فإنَّ الظهارَ لا يوجِبُ تحريمَ العقدِ حتى يكون إمساكُها على النكاحِ عَوْداً ، ثم على مذهب أبي حنيفةَ : إذا قصدَ أن يستبيحَها ثم أبانَها سقطَتِ الكفارةُ عنه.
وفي قولهِ تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } دليلٌ على أنَّ هذه الكفارةَ إنما شُرِعَتْ لدفعِ الْحُرمَةِ في المستقبلِ ، وفيه دليلُ تحريمِ التَّقبيلِ واللَّمسِ قبلَ التكفيرِ ؛ لأنَّ قولَهُ تعالى : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } يتناولُ جميعَ ضُروب الْمَسِيسِ.
وفي قولهِ تعالى : { مِن نِّسَآئِهِمْ } دليلٌ على أنَّ الظِّهارَ لا يكون في الإماءِ إلاّ إذا كُنَّ زوجاتٍ ؛ لأنَّ إطلاقَ لفظِ النساء ينصرفُ إلى الحرائرِ كما في قولهِ تعال : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ }[النور : 31]. وفي قولهِ تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } دليلٌ على جواز إعتاقِ الرَّقبة الكافِرة في الظِّهار ؛ لأن ذِكرَ الرَّقبة مطلقٌ في الآيةِ ، بخلافِ كفَّارة القتلِ.
والأصلُ في الظِّهار أنه إذا ذكرَ في المرأةِ ما يجمَعُها مثلُ الجسدِ والبدن والرأسِ والرَّقبة ونحوها ، والظهرِ والبطن والفرجِ والفخذ وشبَّهَها بمحارمهِ كان مُظَاهِراً. وإنْ قال : أنتِ علَيَّ كَيَدِ أُمِّي أو رجلِها ، أو قال : يدُكِ علَيَّ أو شَعرُكِ عليَّ كظهرِ أُمي كان بَاطلاً.
وقال مالكُ : (يَصِحُّ الظِّهَارُ بالتَّشْبيهِ بالأَجْنَبيَّةِ). وقال الشعبيُّ : (لاَ يَصِحُّ الظِّهَارُ إلاَّ بالأُمِّ) ، وقال الشافعيُّ : (إذا قَالَ : يَدُكِ ، أوْ قَالَ : أنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي ، فَهُوَ ظِهَارٌ). { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
(0/0)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } ؛ أي فمَن لم يجدْ مِن المظاهرِين الرقبةَ ولا قِيمَتها ، فعليه أنْ يصُومَ شَهرَين متتابعين قبلَ الْمَسيسِ. وهذا يقتضِي أنه إذا أفطرَ فيهما لِمَرضٍ أو غيرهِ كان عليه استقبالُ الصَّوم أيضاً ، وكذا إذا قدرَ على الرقبةِ في خلال الصَّوم فلم يُعتِقها حتى عجزَ عنها كان عليه الاستقبالُ أيضاً في قولِ أبي حنيفةَ ومحمَّد ، سواءٌ كان المسيسُ بالليلِ أو بالنهار. وقال أبو يوسف. (إذا مَسَّهَا باللَّيْلِ عَامِداً أوْ بالنَّهَار نَاسِياً لَمْ يَسْتَقْبلْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } ؛ إذا عجزَ عن الصَّومِ لكِبَرٍ أو مرضٍ فكفَّارتهُ أن يُطعِمَ ستِّين مِسكيناً ، وإنْ مسَّها المظاهرُ بعدَ ما أطعمَ بعضَ الطعامِ لم يستقبلِ الإطعامَ ؛ لأنه ليس في ذكرِ الإطعامِ في هذه الآية مِن قَبْلِ أن يتمَاسَّا ، إلاَّ أنَّا إنما أمَرنَاهُ بالإطعامِ قبلَ المسيسِ ؛ لأنَّا لو لم نَأمُرْهُ بذلكِ لم يُؤمَنْ أن يَمسَّها فقَدِرَ على العتقِ قبل الإطعامِ أو يقدرَ على الصَّوم قبل الإطعامِ فيحصلُ أو الصومُ بعدَ المسيسِ ، وذلك خلافُ ما أوجبَهُ اللهُ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي ذلك الذي أمرَكم اللهُ به لتَسَتدِيْمُوا الإيمانَ بالله ورسولهِ ، وتُصدِّقوا أنَّ الله أمرَ بذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } ، أي التي شرَّعَها اللهُ تعالى في الظِّهار أحكامُ اللهِ وفرائضهُ ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وللجاحِدين لحدودِ الله عذابُ جهنم.
" فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ : " هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُعْتِقَ رَقَبَةً ؟ " قَالَ : فَإنِّي قَلِيلُ الْمَالِ ، قَالَ : " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ ؟ " قَالَ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي إذا لَمْ آكُلْ فِي الْيَوْمِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ كَلَّ بَصَرِي وَخَشِيتُ أنْ تَعْشُو عَيْنِي ، قَالَ : " فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِيناً ؟ " قَالَ : لاَ وَاللهِ إلاَّ أنْ تُعِينَنِي يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي مُعِينُكَ بخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعاً وَأدْعُو لَكَ بالْبَرَكَةِ " فَأَعَانَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
ورُوي : " أنَّ خَوْلَةَ لَمَّا ظَاهَرَ مِنْهَا أوْسُ بْنُ الصَّامِتِ ، خَرَجَ فَجَلَسَ فِي قَوْمِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهَا فَرَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا ، فَقَالَتْ : كَلاَّ ؛ وَالَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بيَدِهِ لاَ تَصِلُ إلَيَّ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ فِيَّ وَفِيكَ. ثُمَّ مَضَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَشَكَتْ عَلَيْهِ قِصَّتَهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مُرِيهِ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً " فَقَالَتْ : وَاللهِ مَا عِنْدَهُ ذلِكَ ، قَالَ : " مُرِيهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعَيْنِ " قَالَتْ : يَا نَبيَّ اللهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبيرٌ مَا بهِ مِنْ صَوْمٍ ، قَالَ : " مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِيناً " قَالَتْ : وَاللهِ مَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ ، قَالَ : " إنَّا سَنُعِينُهُ بعِرْقٍ مِنْ تَمْرٍ " - وهو مكتل سبعٍ وثلاثين صَاعاً - قَالَتْ : أنَا أُعِينُهُ يَا رَسُولَ اللهِ بعِرْقٍ آخَرَ ".
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
وقولهُ تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } معناهُ : إنَّ الذين يخالِفُون اللهَ ورسولَهُ في الدِّين ويصِيرُون في حدٍّ غير الحدِّ الذي فيه أولياءُ اللهِ ، أُذِلُّوا وأُخْزُوا بالعذاب كما أُذِلَّ الذين أشرَكُوا من قَبلِ أهلِ مكَّة ، مِن الذين خالَفُوا الأنبياءَ صلواتُ اللهِ عليهم.
والْكَبْتُ في اللغة : الكَبُّ ، ومنه كَبَتَ اللهُ عدُوَّكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : كُبدُوا أي ضُرِبُوا على أكبَادِهم ، فقُلبت الدالُ تاءً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ؛ أي فرائضَ معروفةٍ ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ؛ أي ولِمَن لم يعمَلْ بها ولم يصدِّقْ بها عذابٌ مُهِينٌ. ثم بيَّن ذلك العذابَ فقالَ تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } ؛ ويَجزِيهم عليه ، وقولهُ تعالى : { أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ مما يجبُ لهم وعليهم ، { شَهِيدٌ } ؛ عالِمٌ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ } ؛ معناهُ : إنَّ اللهَ يعلمُ بكلِّ ما في السَّمواتِ وكلِّ ما في الأرضِ مما ظهرَ للعبادِ ، { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }[يونس : 61].
وقولهُ تعالى : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } يعني الْمُسَّار ؛ ما تُناجِي به صاحبَكَ من شيءٍ إلاّ هو رابعُهم بالعلمِ. يعني نجوَاهم معلومةٌ عندَهُ كما تكون معلومةً عند الرابعِ الذي هم معهم ، { وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } ؛ ولا أقلَّ من ثلاثةٍ ولا أكثرَ من الخمسةِ إلاَّ وهو عالِمٌ بهم وقادرٌ عليهم في أيِّ موضعٍ كانوا ، { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ عند الجزاءِ والحساب ، { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ وهذه الآيةُ نزَلت في اليهودِ والمنافقين لَمَّا أعيَاهُم الإسلامُ وظهورهُ وجعلوا يتنَاجَون فيما بينهم فيُوهِمون المؤمنين أنَّهم يتناجَون فيما يسُوءُهم.
وكانوا إذا خَرجت سريَّةٌ من سَرايا رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فرَأى هؤلاءِ رِجَالاً مِمَّن خرجَ لهم في السريَّة صديقٌ أو قريب تنَاجَوا فيما بينهم ليَظُنَّ الرجلُ أنه حدثَ بصاحبهِ حادثٌ فيحزنُ عليه لذلك. فلمَّا كَثُرَ ذلك وطالَ شَكَوا ذلك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فنهَاهُم عن المناجاةِ دون المسلمين ، فلم ينتَهُوا وعادُوا إلى مُناجَاتِهم ، فأنزلَ اللهُ :
قولَهُ تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُواْ عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } ؛ معناهُ : ألَمْ ترَ إلى هؤلاءِ الذين نَهاهُم اللهُ عن مُنَاجَاةِ بعضهم بعضاً دون المؤمنين في الآيةِ التي قبلَ هذه ، ثم عَادُوا إليها مُغَايَظَةً لأصحاب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ويتشَاوَرُون فيما بينهم بالكَذِب والاعتداءِ ، ويُوصِي بعضُهم بعضاً بمخالفةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { وَإِذَا جَآءُوكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ } ؛ أي سلَّمُوا عليك بما لم يسَلِّمُ به اللهُ عليكَ.
" وَذلِكَ أنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : السَّامُ عَلَيْكَ! وَكَانَتْ عَائِشَةُ مِنْ وَرَاءِ سَتْرٍ فَلَعَنَتْهُمْ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَهْلاً يَا عَائِشَةُ " فَقَالَتْ : أمَا سَمِعْتَ مَا قَالُواْ ؟ قَالَ : " أوَمَا سَمِعْتِ كَيْفَ أجَبْتُهُمْ ؟ " ثُمَّ قَالَ : " إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب فَقُولُواْ : عَلَيْكَ مَا قُلْتَ " والسَّامُ هو الموتَ,
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ } ؛ معناهُ : أنَّهم كانوا يقُولون فِي أنفُسِهِم : ألاَ ينَزِّلُ اللهُ العذابَ بنا بما نقولُ لنَبيِّهِ إنْ كان نَبيّاً كما يزعمُ ، فلو كان مُحَمَّدٌ نَبيّاً لعَذبَنا اللهُ بما نقولُ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } ؛ أي كَافِيهم جهنمُ عذاباً لَهم يلزَمُونَها ويُقَاسُونَ حرَّها ، { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ أي فبئْسَ الْمَرْجِعُ يرجعون إليه.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ } ؛ معناهُ : أي أيُّها الذين آمَنُوا إذا تجالَستُم للسرِّ فيما بينكم ، فلا تُجالِسُوا وتخالفوا بالمعصيةِ والظُّلم ومخالفةِ الرسولِ ، ولا تكونوا كاليهودِ والمنافقين ، { وَتَنَاجَوْاْ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى } ؛ أي بفِعْلِ ما أُمِرتُم به ، وتركِ ما نُهيتم عنه ، { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، واتَّقوا عذابَ الله الذي إليه تُرجَعون في الآخرةِ.
(0/0)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : إنما النَّجوَى الذي يفعلهُ اليهود والمنافقون من عمل الشَّيطان ووَسَاوسِهِ ليُحزِنَ به الشيطانُ الذين آمَنوا وأخلَصُوا ، وليس تناجِيهم يضرُّ المؤمنين شيئاً إلاَّ بعلمِ الله وقضائهِ ، { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ؛ ويستَعِيذُوا به من الشَّيطانِ. ويقرأ (لِيُحْزِنَ) بضمِّ الياء وهما لُغتان.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } ؛ قال مقاتلُ : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْرِمُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ وَمِنْهُمْ ثَابتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسِ وَقَدْ سَبَقُواْ فِي الْمَجْلِسِ ، فَقَامُواْ حِيَالَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا النَّبيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ سَلَّمُواْ عَلَى الْقَوْمِ بَعْدَ ذلِكَ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ.
فَقَامُواْ عَلَى أرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ ، فَعَلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَا لَحِقَهُمْ مِنْ ضَرَر الْقِيَامِ ، فَشُقَّ عَلَيْهِ ، وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ : " قُمْ يَا فُلاَنُ وَأنْتَ يَا فُلاَنُ " فَأَقَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ بقَدْر النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُواْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أهْلِ بَدْرٍ.
فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ ، وَعَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُسْلِمِينَ : ألَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أنَّ صَاحِبَكُمْ يَعْدِلُ بَيْنَ النَّاسِ ؟ فَوَاللهِ مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلاَءِ إنَّ قَوْماً أخَذُواْ مَجَالِسَهُمْ ، وَأحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْ نَبيِّهِمْ فَأَقَامَهُمْ وَأجْلَسَ غَيْرَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
قولهُ تعالى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ } أي أوسِعُوا في المجلسِ { فَافْسَحُواْ } أي أوْسِعُوا على مَن حضرَ مجلسَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأحبَّ سماعَ كلامهِ ؛ لتَشتَرِكُوا في سماعِ الدِّين منه ، وهذا أمرٌ لَهم بالتأديب كي لا يؤذِي أحدٌ جليسَهُ بفعلِ الزِّحامِ ، ولئلاَّ يكون غرضُهم إلاَّ التواضعُ للهِ تعالى وللدِّين ، وذلك أنَّهم كانوا قد جلَسُوا مُتَضايقين حولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأُمِرُوا أن يتنَحَّوا عنه في الجلوسِ ويتوَسَّعوا المجلسَ غيرَهم معهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ } أي يُوسِّع مجالِسَكم في الجنَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ انشُزُواْ فَانشُزُواْ } ؛ معناهُ : وإذا قِيْلَ : انْهَضُوا إلى صلاةٍ أو أمرٍ بمعروف ونُودِيَ للصَّلاة فانْهَضوا. وَقِيْلَ : معناهُ : وإذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى الجهادِ فاخرُجوا يرفعِ الله درجاتِكم في الجنَّة ، ويرفعِ اللهُ الذين أُوتوا العلمَ درجاتٍ فوقَ درجاتِ الذين أُكرِمُوا بالإيمانِ بغير علمٍ.
وفي الحديثِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الَّذِي لَيْسَ بعَالِمٍ سَبْعُونَ دَرَجَةً ، اللهُ أعْلَمُ مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ " وقال صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابدِ كَفَضْلِي عَلَى سَائِرِ أُمَّتِي " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " يُؤتَى بالْعَالِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَابدِ ، فَيُقَالُ لِلْعَابدِ : أُدْخُلِ الْجَنَّةَ ، وَيُحْبَسُ الْفَقِيهُ فَيَقُولُ : فَبمَ حَبَسْتُمُونِي؟! فَيُقَالُ لَهُ : اشْفَعْ ".
قرأ أهلُ المدينة والشام وعاصم (انْشُزُوا فَانْشُزُوا) بضمِّ الشين ، وقرأ الآخرون بكسرِها ، وهما لُغتان ، ومعناهما : إذا قيلَ لكم تحرَّكُوا وقُومُوا وارتفعوا وتوسَّعوا لإخوانِكم فافعَلُوا. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا قيل لكم انْهَضُوا إلى الصَّلاة والذِّكر وعملِ الخير ، فانشُزوا ولا تقَصِّروا.
وقولهُ تعالى : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } ؛ يعني يَرفَعُهم بطاعةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامِهم من مجالسِهم وتوسِعهم لإخوانِهم ، { وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ منهم بفضلِ عَمَلِهم ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ جَاءَتْ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ ، فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَنْبيَاءِ دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ؛ وذلك أنَّ الأغنياءَ كانوا يَسْتَخْلُونَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيُشاورُونَهُ بما يريدون ويُلِحُّونَ عليه بالحاجاتِ والمسائل ، ويشغَلُون بذلك أوقاتَهُ التي كانت مستغرقةً بالعبادةِ والإبلاغِ إلى الأُمة ، وكان الفقراءُ لا يتمكَّنون من النبيِّ صلى الله عليه وسلم كتمكُّنِ الأغنياءِ منه.
فأَمرَ اللهُ الناسَ بتقديمِ الصَّدقةِ على نجوَاهُم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إعْظَاماً له وتَوقِيراً لمقامِ مُناجاتهِ ، ونَفعاً للفُقراءِ بتلك الصَّدقة ، وبيَّن أنَّ ذلك خيرٌ لهم من الكفِّ عن الصدقةِ وأصلحُ لقُلوبهم وقلوب الفقراء ، ورخَّصَ مَن لم يجد ما يتصدَّقُ به أن يُكلِّمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما شاءَ من غيرِ صدقةٍ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
فلمَّا عَلِمَ اللهُ ضيقَ صدر كثيرٍ منهم من ذلك الوجوب نَسَخَ اللهُ ذلك الحكمَ بقوله : { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } ؛ معناهُ : أبَخِلتُمْ يا أهلَ الميسرةِ ، وثَقُلَ عليكم تقديمُ الصَّدقةِ ، بين نجوَاكم مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } ؛ وخفَّفَ اللهُ عنكم بإسقاطِ تلك الصَّدقةِ ، { فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ؛ أي دَاومُوا عليها ، يعني الصَّلاةَ المفروضةَ ، { وَآتُواْ الزَّكَاةَ } ؛ المفروضةَ ، { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ } ؛ في الفرائضِ ، { وَرَسُولَهُ } ؛ في السُّنن ، { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } من الخيرِ والشرِّ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه قال : (إنَّ فِي كِتَاب اللهِ آيَةٌ مَا عَمِلَ بهَا أحَدٌ قَبْلِي ، وَلاَ يَعْمَلُ بهَا أحَدٌ بَعْدِي وَهِيَ آيَةُ النَّجْوَى ، كَانَ لِي مِثْقَالٌ فَبعْتُهُ بعَشْرَةِ دَرَاهِمَ ، فَكُلَّمَا أرَدْتُ أنْ أُنَاجِيَ رَسُولَ اللهِ قَدَّمْتُ دِرْهَماً ، فَقَدَّمْتُ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ بَيْنَ يَدَي نَجْوَايَ ، ثُمَّ نُسِخَتْ). قال مجاهدُ : (نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَتَصَدَّقُواْ ، فَلَمْ يُنَاجِهِ إلاَّ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ، قَدَّمَ دِينَاراً فَتَصَدَّقَ بهِ ، فَنَزَلَتِ الرُّخْصَةُ).
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } ؛ نزلت هذه الآيةُ في قومٍ من المنافقين كانوا يتوَلَّون اليهودَ وينقُلون أسرارَ المسلمين إليهم مُغَايَظَةً لَهم ، ولم يكونوا من المؤمنين ولا من اليهودِ ، وكانوا يَحلِفُون للمؤمنين بأنَّا مُؤمِنون مصَدِّقون ، وهم يعلمون أنَّهم كَاذِبون في حلفِهم ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } أي وَلا من اليهودِ ، { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؛ أنَّهم كَذبَةٌ.
وقال السديُّ ومقاتلُ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ نَبْتَلِ الْمُنَافِقُ ، كَانَ يُجَالِسُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إلَى الْيَهُودِ ، فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ إذْ قَالَ : " يَدْخُلُ عَلَيْكُمُ الآنَ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارِ ، وَيَنْظُرُ بعَيْنَي الشَّيْطَانِ " فَدَخَلَ عَبْدُاللهِ بْنُ نَبْتَل ، وَكَانَ أزْرَقاً.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " عَلاَمَ سَبَبْتَنِي أنْتَ وَأصْحَابُكَ ؟ " فَحَلَفَ باللهِ مَا فَعَلَ ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَقَدْ فَعَلْتَ " فَانْطَلَقَ فَجَاءَ بأَصْحَابهِ فَحَلَفُواْ باللهِ مَا سَبُّوهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ) : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } " { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } ؛ أي هَيَّأَ لهم عَذاباً شَديداً في قُبورهم ، { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا من مُوَالاةِ اليهودِ وكتمان الكُفرِ والحلف الكاذب مع العلمِ به.
(0/0)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16)
وقولهُ تعالى : { اتَّخَذْواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ؛ أي اتَّخذوا أيمانَهم الكاذبةَ تِرْساً من القتلِ وجعَلُوها عُدَّة ليدفَعُوا عن أنفسهم التهمةَ ، وقرأ الحسنُ (إيْمَانَهُمْ) بكسرِ الألف ، وقولهُ تعالى : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي صرَفُوا الناسَ عن ذكرِ الله وطاعتهِ بإلقاء الشُّبهة عليهم في السرِّ. وَقِيْلَ : فصَدُّوا المؤمنين عن جهادِهم بالقتلِ ، { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ؛ يُهِينُهم في الآخرةِ.
(0/0)
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً } ؛ أي لن يدفعَ عنهم كثرةُ أموالهم ولا كثرةُ أولادِهم من عذاب الله شيئاً ، { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
(0/0)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً } ؛ انتصبَ على الظَّرفيةِ من قوله{ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ }[المجادلة : 17] { فَيَحْلِفُونَ لَهُ } ؛ أي يحلِفُون للهِ يومئذ أنَّهم كانوا مُخلِصين في الدُّنيا ، { كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ } ؛ يومئذٍ ؛ { أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } ؛ على صوابٍ ، { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ؛ عندَ اللهِ في حلفهم.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ ، فَيَقُومُ الْقَدَريَّةُ مُسْوَدَّةٌ وُجُوهُهُمْ مُزْرَقَّةٌ أعْيُنُهُمْ ، مَائِلَةٌ أشْدَاقُهُمْ يَسِيلُ لُعَابُهُمْ ، يَقُولُونَ : وَاللهِ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً وَلاَ قَمَراً وَلاَ صَنَماً وَلاَ وَثَناً وَلاَ اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلَهاً ".
قَالَ ابْنُ عبَّاسٍ : (صَدَقُواْ وَاللهِ ؛ أتَاهُمُ الشِّرْكُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) ثُمَّ تلاَ ابنُ عبَّاس هذه الآيةَ { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } هُمْ وَاللهِ الْقَدَريُّونَ ، هُمْ وَاللهِ الْقَدَريُّونَ).
(0/0)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
وقولهُ تعالى : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ } ؛ أي غلبَ عليهم واستولَى عليهم وحَولَهم ، { فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ } ؛ أي شغَلَهم عن ذكرِ الله وعن طاعته حتى ترَكُوهُ وصاروا إلى الْخُسرَانِ ، { أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ } ؛ أي جُنْدُهُ ، { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ }.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ أي يُخالِفُون اللهَ ورسولَهُ ، { أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ } ؛ أي في الْمَغْلُوبينَ المقهورين ، ومِن جُملة مَن يلحَقُهم الذلُّ في الدُّنيا والآخرةِ.
(0/0)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي } ؛ أي كتبَ ذلك في اللوحِ المحفوظ ، وقال الحسنُ : (مَا أُمِرَ نَبيٌّ بحَرْبٍ فَغُلِبَ قَطُّ ، وَإنَّ الرُّسُلَ عَلَى نَوْعَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ بُعِثَ بالْحَرْب ، وَمِنْهُمْ مَنْ بُعِثَ بغَيْرِ حَرْبٍ ، فَهُوَ غَالِبٌ بالْحُجَّةِ) ، وقال تعالى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات : 173]. وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } ؛ أي مَانِعٌ حِزْبَهُ من أنْ يَذِلَّ ، عَزِيزٌ غالبٌ لِمَن نازعَ أولياءَهُ.
(0/0)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ؛ " نزَلت هذه الآيةُ في حاطب بن أبي بَلْتَعَةَ ، وذلك أنَّهُ كتبَ إلى أهلِ مكَّة : أنَّ مُحَمَّداً يُرِيدُ أنْ يَغْزُوَكُمْ فَاسْتَعِدُّوا لَهُ ، فأعلمَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ عليه السلام بذلكَ ، فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " مَا دَعَاكَ يَا حَاطِبُ إلَى مَا فَعَلْتَ ؟ " فَقَالَ : أحْبَبْتُ أنْ أتَقَرَّبَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ لِمَكَانِ عِيَالِي فِيْهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عِيَالِي ذابٌّ هُنَالِكَ. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ".
ومعناها : لا تجدُ قوماً يصَدِّقون بوحدانيَّة اللهِ تعالى وبالعبثِ بعد الموت يُناصِحُون ويطلبُون مَوَدَّةَ مَن خالفَ اللهَ ورسولَهُ في الدِّين ، ولو كانوا أقاربَهم في النَّسب ، فإن البراءةَ واجبةٌ من المْحَادِّينَ للهِ. وسنذكرُ هذه القصَّة أولَ سورةِ الممتَحنة إنْ شاءَ الله ُ تعالى.
أخبرَ اللهُ تعالى بهذه الآيةِ : أنَّ إيمانَ المؤمنين يَفسُد بمودَّةِ الكفَّار ، وإنَّ مَن كان مُؤمناً لا يُوالِي مَن كفرَ ، وإنْ كان أباهُ أو ابنَهُ أو أخاهُ أو أحداً من عَشيرتهِ. وعن عبدِاللهِ بن مسعودٍ في هذه الآية أنَّهُ قالَ : (قَتَلَ أبُو عُبَيْدَةُ أبَاهُ يَوْمَ أُحُدٍ) ، فمعنى قولهِ { وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ }.
" وقوله { أَوْ أَبْنَآءَهُمْ } يعني أبَا بكرٍ رضي الله عنه دعَا ابْنَهُ يَوْماً إلَى الْبرَاز وَقَالَ : (دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أكِرُّ عَلَيْهِ) فقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَتِّعْنَا بنَفْسِكَ يَا أبَا بَكْرٍ ، أمَا تَعْلَمُ أنَّكَ عِنْدِي بمَنْزِلَةِ سَمْعِي وَبَصَرِِي " ".
وقوله تعالى : { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } يعني مصعبَ بن عُمير قتلَ أخاهُ عبيدَ بن عُمير بأُحُد. وقولهُ تعالى : { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } يعني عمرَ رضي الله عنه قتلَ خالدَ العاصِي بن هشامِ بن المغيرة يومَ بدرٍ ، وكذلك عليٌّ رضي الله عنه قتلَ شَيبَةَ بن ربيعةَ ، وكذلك حمزَةُ رضي الله عنه قتلَ عُتبة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } ؛ يعني الذين لا يُوادُّون من حَادَّ اللهَ ورسولَهُ أثبتَ اللهُ في قلوبهم حُبَّ الإيمانِ كأَنَّهُ مكتوبٌ في قلوبهم { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي قوَّاهم بنور الإيمانِ حتى اهتَدَوا للحقِّ وعَمِلُوا بِه. وَقِيْلَ : المرادُ بالرُّوحِ جبريل عليه السلام يُعِينُهم في كثيرٍ من المواطنِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأيَّدهم بنصرٍ منه في الدُّنيا على عدُوِّهم ، لأنَّهم عَادَوا عشيرتَهم الكفار وقاتَلوهم ، غضباً لله ولدينهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ ظاهرُ المعنى. وقولُه تعالى : { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ؛ بإخلاصِهم في التوحيدِ والطاعة ، ورَضُوا عنه بما أعدَّ لهم من الثَّواب والكرامةِ في الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي يا أهلَ هذه القصَّة جندُ اللهِ وأولياؤهُ ، ألاَ إنَّ جُنْدَ اللهِ همُ الفائزون بالبقاءِ الدائم والنعيمِ الْمُقيمِ.
(0/0)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
قَولُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ } ؛ قال المفسِّرون : " نزَلت هذه الآيةُ والسُّورة بأَسرِها في بني النَّضير واليهودِ ، وعاهدوهُ أن لا يكُونوا معَهُ ولا عليهِ ، لا يُقاتِلون معه ولا يقاتلونَهُ ، فكانوا على ذلكَ حتى كانت وقعةُ أحُدٍ ، فأصابَتِ المسلمين يومئذٍ نَكْبَةٌ ، فنقَضُوا العهدَ ، ورَكِبَ كعبُ ابن الأشرَفِ في أربَعين راكباً إلى مكَّة ، فأتَوا قُريشاً فطلَبُوا إلى أبي سُفيان وأصحابهِ فحالَفُوهم وعاقَدُوهم بين الكعبةِ والأستار على حرب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ كلمَتَهم واحدةٌ.
ثم رجعَ كعبُ بن الأشرف وأصحابهُ إلى المدينةِ. فنَزل جبريلُ عليه السلام على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأخبرَهُ بأمرِهم وقال له : " إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بقَتْلِ كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ " فَجَمَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ وَأخْبَرَهُمْ بمَا صَنَعَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ وَقَالَ لَهُمْ : " إنَّ اللهَ أمَرَنِي بقَتْلِهِ ، فَانْتَدِبُوا إلَى ذلِكَ ".
فَانْتَدَبَ رَهْطٌ مِنْهُمْ وَفِيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسلَمَةَ ، وَكَانَ أخَا كَعْبٍ مِنَ الرِّضَاعَةِ وَحَلِيفَهُ ، فَانْطَلَقُوا فِي أوَّلِ اللَّيْلِ إلَى دَار كَعْبٍ ، فَنَادَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَاسْتَنْزَلَهُ مِنْ دَارهِ ، وَأوْهَمَهُ أنَّهُ يُكَلِّمُهُ فِي حَاجَةٍ ، فَلَمَّا نَزَلَ أخَذ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بنَاصِيَتِهِ وَكَبَّرَ ، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ وَكَانُواْ مِنْ وَرَاءِ الْحَائِطِ ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى بَرُدَ مَكَانُهُ ، فَصَاحَتْ امْرَأتهُ وَتَصَايَحَتِ الْيَهُودُ ، فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ وَقَدْ رَجَعَ الْمُسْلِمُونَ.
فَجَاءَ الْمُسْلِمُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرُوهُ بذلِكَ ، فَلَمَّا أصْبَحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَيْهِمْ غَازياً ، فَتَحَصَّنُوا فِي دُورهِمْ فَوَجَدَهُمْ فِي قَرْيَةٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهَا (زَهْوَةُ) وَهُمْ ينُوحُونَ عَلَى كَعْبٍ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ بَاغِيَةٌ عَلَى إثْرِ نَاعِيَةٍ ، وَبَاكِيَةٌ عَلَى إثْرِ بَاكيَةٍ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالُوا : ذرْنَا نَبْكِي شَجْواً عَلَى كَعْبٍ.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ الْمُنَافِقُ وَأصْحَابُهُ أمَرَ إلَى الْيَهُودِ سِرّاً بأَنْ لاَ تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ ، وَقَاتِلُواْ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ ، فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلاَ نُخْذُلُكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدَرَبُواْ عَلَى الأَزقَّةِ وَحَصَّنُوهَا ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
فَلَمَّا عَجَزُوا عَنْ مُقَاوَمَةِ الْمُسْلِمِينَ وَآيَسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ طَلَبُوا الصُّلْحَ ، فَأَبَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنْ يَخْرُجُواْ مِنْ مَدِينَتِهِمْ عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بهِ ، فَقَبلُوا ذلِكَ ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلاَءِ ، وَعَلَى أنْ يَحْمِلَ كُلُّ أهْلِ ثَلاَثَةِ أبْيَاتٍ مِنْ مَتَاعِهِمْ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ مَا شَاءَ ، وَلِنَبيِّ اللهِ مَا بَقِيَ ، وَيَخْرُجُوا, إلَى الشَّامِ ، فَفَعَلُوا ذلِكَ وَخَرَجُواْ إلَى الشَّامِ إلَى أذْرُعَاتٍ وَأريحَا وَالْحِيرَةَ وَخَيْبَرَ.
فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } " يعني بني النَّضير من ديارهم التي كانت بيَثرِبَ وحصونِهم.
(0/0)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
(0/0)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَ ببَنِي النَّضِير وَتَحَصَّنُوا فِي حُصُونِهِمْ ، أمَرَ بقَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإحْرَاقِهَا ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ : مَا بُعِثَ نَبيٌّ إلاَّ بالصَّلاحِ ، وَلَيْسَ فِي هَذا إلاَّ إفْسَادُ الْمَعِيشَةِ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ ، وَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ تُرِيدُ الصَّلاَحَ ، أفَمِنَ الصَّلاحِ قَطْعُ النَّخِيلِ وَالأَشْجَار ؟ وَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا زَعَمْتَ أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ.
فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أنْفُسِهِمْ مِنْ ذلِكَ مَشَقَّةً ، وَكَانَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يُمْعِنُونَ فِي قَطْعِ النَّخْلِ ، وَبَعْضُهُمْ يَنْهَى عَنْ ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ تَصْدِيْقاً لِلَّذِينَ نَهَوا عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ وَتَحْلِيْلاً لِمَنْ قَطَعَهُ ، وَبَرَاءَةً لَهُمْ مِنَ الإثمِ وَتَصْوِيْباً لِلْفَرِيقَيْنِ ، فَقَالَ تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ } بيَّن أنَّ ما قُطِعَ منها قُطِعَ بإذنِ الله ، وما تُرِكَ منها بإذنِ الله.
واللِّينَةُ هي النَّخلَةُ ، قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ : (اللِّينَةُ هِيَ كُلُّ نَخْلَةٍ مَا لَمْ تَكُنْ عَجْوَةً) ، وَقِيْلَ : اللِّينَةُ : مَا خَلاَ العجوةَ والبرني وجمعه لِيَانٌ ، ورُوي : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْطَعُ نَخِيلَهُمْ إلاَّ الْعَجْوَةَ " قال عكرمةُ : (وَالنَّخْلُ كُلُّهُ لِيَانٌ مَا خَلاَ الْعَجْوَةَ) ، وقال سفيانُ : (اللَّينَةُ هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ). وقال مقاتلُ : (هُوَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ ثَمَرُهَا شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يَغِيبُ فِيْهِ الضِّرْسُ عِنْدَ أكْلِهِ ، وَكَانَ مِنْ أجْوَدِ ثَمَرِهِمْ وَأعْجَبهِ إلَيْهِمْ) ، والعربُ تُسمِّي النخلَ كُله لِيَانٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } ؛ معناهُ : ولِيُهِينَ اللهُ ويُذِلَّ اليهودَ ويُخْزِيَهُمْ بأن يُرِيَهم أموالَهم يتحكَّمُ فيها المؤمنون كيف أحَبُّوا لأنَّهم نقَضُوا العهدَ.
(0/0)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } ؛ معناهُ : وما ردَّ اللهُ على رسولهِ من غنائمِ بني النضيرِ ، فمِمَّا لم تُوجِفُوا عليه أنتم خيلاً ولا ركَاباً ولكن مَشَيتُم إليه مَشياً ؛ لأن ذلك كان قَريباً من المدينةِ ؛ أي لم يحصُلْ ذلك بقتَالِكم ، فلا شيءَ لكم مِن ذلك ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ إنما كان ذلك بتسليطِ الله تعالى نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم ، واللهُ يُمَكِّنُ رُسُلَهُ صلواتُ الله عليهم من أعدائهِ بغيرِ قتالٍ ، واللهُ على كلِّ شيءٍ من النَّصرِ والغنيمةِ قادرٌ.
والضميرُ في قوله { أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ } أي على ما أفاءَ اللهُ ، والإيجافُ الإسراعُ والإزعاجُ للسَّير ، يقالُ : أوجفَ السَّيرَ ، وأوْجَفْتُهُ أنَا ، والوَجِيفُ : نوعٌ من السَّيرِ فوق التَّقريب ، ويقال : وَجَفَ الفرسُ والبعير يَجِفُ وَجْفاً إذا أسرعَ السَّيرَ ، وأوْجَفَهُ صاحبهُ إذا حملَهُ على السَّير السريعِ.
ومعنى الآية : { وَمَآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } من مالِ بني النَّضيرِ { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ } أي فما وضَعتُم عليه من خيلٍ ولا إبل ولم تنَالُوا فيه مشقَّةً ولم تلقَوا حَرباً وإنما مَشَيتُم إليه مَشْياً ، إلاَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه رَكِبَ جَملاً فافتَتَحها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأجْلاَهُم وأخذ أموالَهم.
فسألَ المسملون النبيَّ صلى الله عليه وسلم في القِسْمَةِ في تلك الأموالِ ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ ، فجعلَ أموالَ بني النضير خاصَّة لرسولِ اللهِ يضعُها حيث يشاء ، فقسَمَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرِين ولم يُعْطِ الأنصارَ منها شيئاً ، إلاَّ ثَلاثةَ نفرٍ كانت لهم حاجةٌ ، وهم : أبُو دُجَانَةَ ؛ وسَهلُ بن حنيف ؛ والحارثُ بن الصِّمَّةِ.
وعن عمرَ رضي الله عنه : (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ مِنْ مَالِ بَنِي النَّضِيرِ نَفَقَةَ سَنَةٍ ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكِرَاعِ وَالسِّلاَحِ عُدَّةً فِي سَبيلِ الله ؛ لأَنَّهُ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ ، وَلَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ بخَيْلٍ وَلاَ ركَابٍ ، فَكَانَ خَالِصاً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
وأرادَ بهذا ما كان يحصلُ من غُلَّةِ أراضِيهم في كلِّ سنةٍ. وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ كلَّ مالٍ من أموالِ أهلِ الشِّرك لم يغلِبْ عليه المسلمون عُنوَةً وإنما أُخِذ صُلْحاً أنْ يُوضَعَ في بيتِ مالِ المسلمين ويُصرَفَ إلى الوجُوهِ التي تُصرَفُ فيها الجزيةُ والْخَرَاجُ ؛ لأن ذلك بمنْزِلَة أموالِ بني النضيرِ.
(0/0)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } ؛ اختلفَ أهلُ اللغة في الفَيْءِ ما هُوَ ؟ فقالَ بعضُهم : هو مما مَلَّكَهُ اللهُ المسلمين من أموالِ المشرِكين بغيرِ قتالٍ أو بقتالٍ ، فالغنيمةُ فَيْءٌ والخراجُ فَيْءٌ.
قال بعضُهم : الْغَنِيمَةُ اسمٌ لِمَا أخذهُ المسلمون من الكفَّار غُنوةً وقهراً ، والفَيْءُ ما صالَحُوا عليهِ ، فبيَّن اللهُ تعالى في هذه الآيةِ حُكمَ الفيءِ ، فقالَ تعالى : { مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي من غنائمِ قُرَى المدنيةِ في قريظةَ وبني النضير وفدَكٍ ، فإنَّ ذلك خاصَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم دون الغانِمين ، وكان أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ذلك جَائزاً ، فكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصرِفُها بأمرِ الله تعالى إلى قرائب نفسه وفُقراءِ قَرَابَتهِ ويتامَى الناسِ عامَّة والمساكين عامَّة ، يعني المحتاجِين وأبناءِ السَّبيل والفُقَراء المهاجرِين.
واختلفَ العلماءُ في حُكمِ هذه الآيةِ ، فقالَ بعضُهم : أرادَ بقولهِ { مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } الغنائمَ التي يأخذُها المسلمون من أموالِ الكفَّار عُنوةً وغَلبةً ، وكانت في بدءِ الإسلام لعامة الغانِمين المسلمين دون الغانِمين الْمُوجِفين عليها ، ثم نَسَخَ اللهُ ذلك بقولهِ تعالى في سورة الأنفال{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ }[الأنفال : 41] والآيةُ التي قبلَ هذه الآية في بيانِ حُكم أموالِ بني النضير خاصَّة ، وهذه الآيةُ في بيان حُكمِ جلب الأموال التي أُصيبت بغيرِ قتالٍ ولم يوجَفْ عليها بالخيلِ والجمالِ.
وقال آخَرُون : هما واحدٌ ، والثانيةُ بيان قسمِ المالِ الذي ذكر اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الأُولى ، والغنائمُ كانت في بدءِ الإسلام لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم يصنَعُ بها ما يشاءُ ، كما قال تعالى{ قُلِ الأَنفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ }[الأنفال : 1] ثم نُسِخَ ذلك بقوله{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ }[الأنفال : 41] الآيةُ ، فجَعَلَ أربعةَ أخماسِها للغانِمين يُقسَمُ بينهم ، وأما الْخُمْسُ الباقي فيقسمهُ على خمسةِ أسهُمٍ : سهمٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وسهمٌ لذوي القُربَى ، وسهمٌ لليتَامَى ، وسهمٌ للمساكين ، وسهمٌ لبني السَّبيلَ.
وقولهُ تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُم } ؛ معناه : كَي لا يكون الفَيءُ مُتدَاولاً بين الأغنياءِ منكم ، والفرقُ بين الدُّولَةِ والدَّوْلَةِ بفتحِ الدال عبارةٌ عن المدَّة من الاستيلاءِ والغَلبَةِ ، والدُّولَةُ اسمٌ للشيءِ المتداوَل ، والمعنى : كي لا يتداولهُ الأغنياءُ منكم ، يكون لِهذا مرَّة ولهذا مرة ، كما يُعمَلُ في الجاهليَّة ، وكانوا إذا أخَذُوا غنيمةً أخذ الرئيسُ رُبعَها وهو الرِّبَاعُ ، والأغنياءُ والرُّؤساء ، وقال مقاتل : (كَيْ لاَ يَغْلِبَ الأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فَيَقْسِمُونَهُ بَيْنَهُمْ).
ثُم قالَ : { وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ } ؛ من الفَيءِ والغنيمةِ ، { فَخُذُوهُ } ؛ فهو حلالٌ لكم ، { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } ؛ أي عن أخذهِ ، { فَانتَهُواْ } ؛ وهذا نازلٌ في أمرِ الفيءِ ، ثم هو عامٌّ في كلِّ ما أمَرَ اللهُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ونَهى عنه ، قال الحسنُ في قولهِ : { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ } : (يَعْنِي مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ مِنَ الْغَلُولِ). وقولهُ تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ معناهُ : اتَّقوا عذابَ اللهِ ، { إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ إذا عاقبَ فعقوبتهُ شديدةٌ.
(0/0)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } ؛ معناه : كَي لا يكون دُولَةً بين الأغنياءِ ، ولكن يكون للفُقراء المهاجرين الذين أُخرِجُوا من ديارهم ، يعني أنَّ كفارَ مكَّةَ أخرَجُوهم ، { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي رزْقاً يأتيهم ، { وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ رضَى ربهم حين خرَجُوا إلى دار الهجرة ينصرون الله ورسوله ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ؛ في إيمانِهم.
والمعنى بقوله { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ } بيانُ المحتاجِين المذكورين في الآيةِ التي قبلَ هذه الآيةِ ، كأنَّهُ قال : لهؤلاءِ الفقراء المحتاجِين ما تقدَّمَ ذِكرهُ من الفَيءِ ، وكانوا نحواً من مائةِ رجُلٍ ، وكانوا شَهِدُوا بَدراً أجمعين ، ولذلك أثْنَى اللهُ عليهم بقوله { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } أي يطلُبون بتلك الهجرةِ ثوابَ الله ورضوانَهُ ، وينصُرون بالسِّيف والجهادِ أولياءَ اللهِ وأولياءَ رسُولهِ ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } في الإيمان وطلب الثَّواب.
(0/0)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } ؛ قال الكلبيُّ : ( { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ } مُبْتَدَأ ، وَخَبَرُهُ { يُحِبُّونَ } ). وَهَذا ثناءٌ على الأنصار ، " وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أعْطَى الْمُهَاجِرِينَ مَا قَسَمَ لَهُمْ مِنْ فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَأْمَنْ عَلَى غَيْرِهِمْ أنْ يَحْسِدَهُمْ إذْ لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ.
فَقَالَ لِلأَنْصَار : " إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لَهُمْ مِنْ دُوركُمْ وَأمْوَالِكُمْ ، وَقَسَمْتُ لَكُمْ مَا قَسَمْتُ لَهُمْ ، وَإمَّا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْقَسْمُ وَلَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأمْوَالُكُمْ " فَقَالُواْ : لاَ ؛ بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ دِيَارنَا وَأمْوَالِنَا وَلاَ نُشَاركُهُمْ فِي قَسْمِهِمْ. فَأَثْنَى اللهُ تعالَى عليهم بهذه الآيةِ ".
والمعنى : لَزِمُوا دارَ الهجرةِ ولَزِمُوا الإيمانَ من قبلِ هجرةِ المهاجرِين ووَطَنُوا منازلَ أنفُسِهم ، فهم يحبُّون مَن هاجرَ إليهم من مكَّة من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } ؛ ضِيقاً وحسَداً ، { مِّمَّآ أُوتُواْ } ؛ مما أُعطِيَ المهاجرين من الغنائِم.
ومعنى الآيةِ : { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ } يعني المدينةَ ، وهي دارُ الهجرةِ ، وتبَوَّأها الأنصارُ قبلَ المهاجرِين. وتقديرُ الآية : والَّذين تَبوَّءوا الدارَ مِن قبلِهم والإيمانَ ؛ لأن الأنصارَ لم يُؤمِنوا قبلَ المهاجرِين ، وعطفُ (الإيْمَانَ) على (الدَّارَ) في الظاهرِ لا في المعنى ؛ لأنَّ الإيمان ليس بمكانِ تَبَوَّءٍ. والتقديرُ : وآثَرُوا الإيمانَ واعتقَدُوا الإيمانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ؛ معناهُ : ويُؤثِرُون المهاجرِين على أنفُسِهم بأموالِهم ومنازلهم ، ولو كان بهم فقرٌ وحاجة إلى الدار والنَّفقةِ ، بيَّن اللهُ أن إيثارَهم لم يكن عن غِنًى عن المالِ ولكن عن حاجةٍ ، فكان ذلك أعظمَ لأجرِهم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : إنِّي جَائِعٌ فَأَطْعِمْنِي ؟ فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى أحَدِ أزْوَاجِهِ : " هَلْ عِنْدَكُنَّ شَيْءٌ ؟ " فَكُلُّهُنَّ قُلْنَ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إلاَّ الْمَاءُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُطْعِمُكَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ " ثُمَّ قَالَ : " مَنْ يُضِيفُ هَذا هَذِهِ اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ ؟ ".
فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : أنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، - قالَ في صحيحِ مُسلم : هُوَ أبُو طَلْحَةَ ، وَقِيْلَ : أبُو أيُّوبٍ ، والضَّيْفُ أبُو هريرةَ - فَمَضَى بهِ إلَى مَنْزِلِهِ ، فَقَالَ لأَهْلِهِ : هَذا ضيْفُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكْرِمِيهِ وَلاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئاً ، فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ ، قَالَ : قُومِي فَعَلِّلِيهِمْ عَنْ قُوتِهِمْ حَتَّى يَنَامُوا ، ثُمَّ أسْرِجِي وَأحْضِرِي الطَّعَامَ ، فَإذا قَامَ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قُومِي كَأَنَّكِ تُصْلِحِينَ السِّرَاجَ فَأَطْفِئِيهِ ، وَتَعَالَي نَمْضُغْ الْسِنَتَنَا لِضَيْفِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَشْبَعَ.
فَقَامَتْ إلَى الصِّبْيَةِ فَعَلَّلَتْهُمْ حَتَّى نَامُوا وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئاً ، ثُمَّ قَامَتْ فَأَسْرَجَتْ ، فَلَمَّا أخَذ الضَّيْفُ لِيَأْكُلَ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ السِّرَاجَ فَأَطْفَأَتْهُ ، وَجَعَلاَ يَمْضُغَانِ ألْسِنَتَهُمَا ، فَظَنَّ الضَّيْفُ أنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ مَعَهَُ ، فَأَكَلَ الضَّيْفُ حَتَّى شَبعَ ، وَبَاتَا طَوِيَّيْنِ. فَلَمَّا أصْبَحَا غَدَوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِمَا تَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ : " لَقَدْ عَجِبَ اللهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةٍ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ".
(0/0)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } ؛ يعني التَّابعين وهمُ الذين جاءُوا بعدَ المهاجرِين والأنصار إلى يومِ القيامة ، قال ابنُ عمر : (هَؤُلاَءِ هُمُ التَّابعِينَ بالإحْسَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). قال ابنُ أبي ليلى : (النَّاسُ عَلَى ثَلاَثَةِ منَازلَ : الْفُقَرَاءُ ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيْمَانَ ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَاجْهَدْ أنْ لاَ تَكُونَ خَارجاً مِنْ هَذِهِ الْمَنَازلِ).
ثم ذكرَ اللهُ تعالى أنَّ هؤلاء التابعين يدعُون لأنفُسِهم وللسَّلَفِ الذين سبَقُوهم ، فقالَ تعالى { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ } { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي لا تجعَلْ في قُلوبنا غِشّاً وحسَداً وبُغْضاً وحِقْداً للمؤمنين ، فكلُّ مَن لم يترحَّمْ على جميعِ الصَّحابة وكان في قلبهِ غِلٍّ لَهم على أحدٍ منهم كان خَارجاً من أقسامِ المؤمنين ؛ لأنَّ اللهَ رتَّبَ المؤمنين على ثلاثِ مراتب : الهاجرين ، والأنصار ، والتابعين إلى يومِ القيامة.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ } ؛ يعني عبدَالله بنَ أُبَيٍّ وأصحابَهُ ، ومعنى { نَافَقُواْ } أي أظهَرُوا خلافَ ما أضمَرُوا ، { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ؛ وهم بنُو قريظةَ وبنو النضِير ، سَمَّاهم إخوَانَهم لأنَّهم كفارٌ مثلَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } ؛ أي لئن أخرِجتُم من دياركم ؛ أي لغربة { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } ؛ أي لا نُسَاكِنُ مُحَمَّداً ، { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } ؛ ولا نطيعهُ على قتالِكم ، { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } ؛ فإنْ قاتَلَكم مُحَمَّدٌ وأصحابهُ ، لنُعاونَنَّكم عليه حتى تكون أيدِينا يَداً واحدةً في المقاتَلة حتى نغلِبَهم ، وعَدُوهُمْ أنَّهم ينصرونَهم ، فكذبَهم اللهُ في ذلك بقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } في مُقاتَلتِهم ، وقد بانَ كذِبهُم في ما نزلَ ببني النَّضيرِ من الجلاءِ وفيما أصابَ بني قريظةَ من القتلِ.
ثم ذكرَ اللهُ أنَّهم يُخلِفُونَهم ما وَعَدُوهم من الخروجِ والنصرِ ، فقال تعالى : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ } ؛ فكان الأمرُ على ما ذكرَ اللهُ تعالى ؛ لأنَّهم أُخرِجُوا من ديارهم لم يخرُجْ معهم المنافقون ، وقُوتِلُوا فلم يَنصُرونهم أظهرَ اللهُ كَذِبَهم وأبانَ صِدْقَ ما قَالَ اللهُ تَعَالَى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ؛ معناهُ : ولئن قُدِّرَ وجودُ نصرِهم ؛ لأن ما نفاهُ الله لا يجوزُ وجودهُ ، قال الزجَّاجِيُّ : (مَعْنَاهُ : لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَوَلَّوا الأَدْبَارَ مَهْزُومِينَ). { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } يَعْنِي بَنِي النَّضير لا يُصِيرون مَنصُورين إذا انْهزَمَ ناصِرُوهم.
(0/0)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ } ؛ معناهُ : لأَنتم يا معشرَ المسلمين أهْيَبُ في قُلوب المنافقين واليهودِ من عذاب الله ، وخَوفُهم منكم أشدُّ من خوفِهم اللهَ لعِلمِهم بكم وصفاتِكم ، وجَهلِهم باللهِ وعظَمَتهِ ، { ذَلِكَ } ؛ الخوفُ الذي بهم منكم دونَ اللهِ ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ؛ لاَ يعرِفُون اللهَ تعالى ، ولو عَرفوهُ لعَلِمُوا أنَّ عقوبةَ اللهِ أعظمُ مما عساهُ يقع بهم من فعلِ المؤمنين.
وفي هذه الآيةِ بيانُ أنَّهُ لا ينبغِي لأحدٍ أنْ يكون خَوفهُ من الناسِ أزيَدُ من خوفهِ من اللهِ تعالى ، وإنَّ من زادَ خوفهُ من أحدٍ من الناسِ على خوفهِ من اللهِ فليس بفَقِيهٍ ، إنما الفقيهُ من يخشَى اللهَ كما في آيةٍ أخرى{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }[فاطر : 28] ، والفقهُ : الْعِلْمُ بمفهومِ الكلامِ في إدراكِ ظَاهرهِ بمضمونهِ ، والناسُ يتفَاضَلون في الإدراكِ لاختلافِهم في جَوْدَةِ القريحةِ وسُرعَةِ الفطنةِ.
(0/0)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } ومعناهُ : لا يُقاتِلُونَكم بنو قُريظةَ إلاَّ في حُصُونٍ موَثَّقةٍ أو من خَلفِ جِدَارٍ ، لِمَا قذفَ اللهُ في قلوبهم الرُّعبَ ، ولا يُقاتونَكم مبارزةً.
قرأ ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وابن كثير وأبو عمرٍو (أوْ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ) بالألفِ على الواحد. ويَروي بعضُ أهلِ مَّكة (جَدْرٍ) بفتحِ الجيم وجزمِ الدال وهي لغةٌ في الجدار ، وقرأ يحيى بن وثَّاب (جُدْرٍ) بضم الجيم وجزمِ الدال ، وقرأ الباقون بضَمِّهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } ؛ يعني بُغْضُهم وعداوةُ بعضِهم لبعضٍ شديدٌ ، وبينهم مخالفةٌ وعداوة عظيمةٌ ، { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً } ؛ أي تحسَبُهم متَّفقين على أمرٍ واحد بنِيَّات مجتمعةٍ إذا قاتَلُوا المؤمنين ، { وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } ؛ أي متفرِّقةٌ لا يتعاوَنون لمعاداةِ بعضهم بعضاً ، وإنْ أظهَرُوا الموافقةَ ، والمعنى : أنَّهم مختَلِفُون لا تستوِي قلوبُهم ولا نيَّاتُهم لأنَّ اللهَ خذلَهم ، { ذَلِكَ } ؛ الاختلافُ ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ؛ ما فيه الحظُّ لهم ولا يعقِلُون الرُّشدَ من الغيِّ.
(0/0)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } ؛ معناهُ : مَثَلُ هؤلاءِ اليهود كمَثلِ الذين مِن قَبلِهم وهم كفارُ مكَّة ، يعني : مثَلُهم في ما ينْزِلُ من العقوبةِ كمَثَلِ مُشرِكي مكَّة ، وقوله تعالى : { قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } يعني القتلَ والأسرَ ببدرٍ ، وكان ذلك قبلَ غزوةِ بني النَّضير بستَّة أشهُرٍ ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ في الآخرةِ.
(0/0)
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ } ؛ أي مثَلُ الكافرِين في غُرورهم لبني النضير وخِلاَّنِهم ، كمثَلِ الشَّيطانِ في غُرورهِ لابنِ آدمَ إذ دعاهُ إلى الكُفرِ بما زَيَّنَهُ له من المعاصِي ، فلمَّا كَفَرَ الآدميُّ تَبَرَّأ الشيطانُ منه ومن دينهِ في الآخرة.
ويقال : إنَّ المرادَ بهذه الآيةِ إنسانٌ بعَينهِ يقالُ له بَرصِيصَا ، عَبَدَ اللهَ تعالى في صَومعَةٍ له سَبعين سنةً ، وكان من بنِي إسرائيلَ ، فعالَجهُ إبليس فلم يقدِرْ عليه ، فجمعَ ذاتَ يومٍ مَرَدَةَ الشياطين وقال لَهم : ألاَ أحدٌ منكم يكفِيني أمرَ برصيصا ؟ فقال له الأبيضُ : أنا أكفِيكَهُ ، وكان من شدَّة تَمرُّد هذا الأبيضِ أنه اعترضَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليُوَسوِسَ إليه ، فدفعَهُ جبريلُ دفعةً هيِّنة فوقعَ في أقصى أرضِ الهند.
فقالَ الأبيضَ لإبليسَ : أنا أُزَيِّنُ له ، فتزيَّنَ بزينةِ الرُّهبان ومضَى حتى أتَى صومعةَ برصيصا ، فأقبلَ على العبادةِ في أصلِ الصَّومعة فانفتلَ برصيصا فاذا هو يراهُ قائم يصلِّي في هيئةِ حسَنةٍ من هيئة الرُّهبان ، فأقبلَ إليه وقالَ : يا هذا ما حاجَتُكَ ؟ فقال : أحبُّ أن أكون معكَ فأتعلَّمَ منكَ وأقتبسَ عِلمَكَ ، فتدعُو لي وأدعُو لكَ ، فقال برصيصا : إنِّي لفِي شُغلٍ عنكَ ، فإن كُنتَ مُؤمِناً فسيجعلُ الله لكَ نَصيباً مما أدعوهُ للمؤمنين والمؤمناتِ.
ثم أقبلَ على صلاتهِ وتركَ الأبيضَ ، وقامَ الأبيضُ يصَلِّي فلم يلتَفِتْ برصيصا إلاَّ بعد أربعين يَوماً ، فلمَّا التفتَ بعد الأربعين رآهُ قائماً يصلِّي ، فلما رأى برصيصا شدَّةَ اجتهادهِ وكثرةَ ابتهالهِ وتضرُّعه أقبلَ إليهِ ، وقالَ : اطلُبْ حاجتَكَ ، قال حاجَتي أن تأذنَ لي فارتفعَ إليك فأكونَ في صَومَعَتِكَ ، فأَذِنَ له فارتفعَ اليهِ.
فأقامَ في صَومعتهِ حَوْلاً كاملاً يتعبَّدُ ، لا يفطرُ إلاّ في كلِّ أربعينَ يَوماً يوماً ، ولا ينفتِلُ إلاّ في كلِّ أربعين يوماً يَوماً ، فلما رأهُ بَرصِيصا ورأى شدَّةَ اجتهادهِ أعجبَهُ شأنهُ ، وتقاصَرت عندهُ عبادةُ نفسهِ.
فلمَّا حالَ الحولُ قال الأبيضُ لبَرصِيصَا : إنِّي منطلقٌ إلى صاحبٍ لِي غيرك أشدُّ اجتهاداً منكَ ، وإنه قد كان بلَغَني عنكَ من العبادةِ والاجتهاد غيرَ الذي أرَى منكَ ، فدخلَ على برصِيصا من كلامهِ ذلك أمرٌ عظيم وكَرِهَ مفارقتَهُ لِمَا رأى من شدَّة اجتهادهِ في العبادةِ.
فلمَّا ودَّعَهُ قالَ له الأبيضُ : إنَّ عندي دَعَواتٍ أُعلِّمُكَها تدعو بها ، فهي خيرٌ لكَ مما أنتَ فيه ، يَشفَى بها السقيمُ ، ويُعافَى بها الْمُبتَلى والمجنون ، فقال بَرصِيصا : إنِّي أكرهُ هذه المْنزِلَةَ ، وإنَّ لي في نفسي شُغلاً ، وإنِّي أخافُ إنْ عَلِمَ الناسُ بذلك شغَلونِي عن العبادةِ. فلَم يزَلْ به الأبيضُ حتى علَّمَهُ.
وانطلقَ الأبيضُ حتى أتَى إبليسَ وقالَ له : قد واللهِ أهلكتُ الرجلَ. ثم انطلقَ الأبيضُ إلى رجلٍ فخنقَهُ ، ثم جاءَ إلى أهلهِ في صُورَةِ طبيبٍ فقالَ لَهم : إنَّ بصاحبكم جُنوناً ، فقالُوا له : عَالِجْهُ لنا وَدَاوهِ ، فقالَ : إنِّي لا أقوَى على جِنِّيَّتِهِ! ولكن أرشِدُكم إلى مَن يدعُو له فيُعافَى ، قالوا : دُلَّنَا.
(0/0)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ معناهُ : فكان عاقبةُ الشَّيطانِ والذي كفَرَ أنَّهما في النار مُقِيمِين دائمين ، { وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ } ؛ أي وذلكَ عاقبةُ الكافرِين ، فَلْيَحْذر امرِؤٌ أن يقعَ في مثلِ ما وقعَ فيه هذا الكافرُ ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَى الآيَةِ : فَكَانَ عَاقِبَةُ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ أنْ صَارُواْ إلَى النَّار وَذلِكَ جَزَاؤُهُمْ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ معناهُ : واتَّقُوا اللهَ بأداءِ فرائضهِ واجتناب مَعاصيه ، { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } ؛ أي ليومِ القيامةِ عَملاً صَالِحاً يُنجِيها أم عَملاً سَيِّئاً يُوبقُها ، قال الحسنُ : (مَا زَالَ اللهُ يُقَرِّبُ السَّاعَةَ حَتَّى جَعَلَهَا كَغَدٍ). { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }.
(0/0)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ } ؛ أي ترَكُوا حقَّ اللهِ وأمرَهُ حتى صارَ كالْمَنْسِيِّ عندَهم ، { فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ؛ أي فخذلَهم حتى لم يَعْمَلُوا للهِ طاعةً ، ويُقدِّموا خيراً لأنفسهم ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرَ) وباقِي الآيتَين ، { أُولَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ } ، ظاهرُ المعنى.
(0/0)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ معناهُ : لو جُعِلَ في الجبلِ تَمييزٌ وعقلٌ مِثلَكم ، وعَلِمَ من القرآنِ كما تعلَمُون أنتم لرأيتَهُ يخشَعُ ويتصدَّعُ خَوفاً من عذاب اللهِ ، وكبرهُ وصلابتهُ فأنتم مع ضَعفِكم وصِغَرِكم أولَى بالخشُوعِ والعملِ على مقتضَى الدِّين في تمييزِ الحقِّ من الباطلِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : لو شَعَرَ الجبلُ مع صَلابتهِ وشدَّتهِ بالقرآنِ لخشَعَ تَعظيماً للقرآنِ ولصَدعَ من خشيةِ الله ، فالإنسانُ أحقُّ بهذا منه ، وهذا وصفٌ للكافرِ بالقسوَةِ حين لم يَلِنْ قلبهُ بمواعظِ القرآن الذي لو أُنزِلَ على جبلٍ لخشعَ.
(0/0)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22)
قَوُْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَـانُ الرَّحِيمُ } ؛ قِيْلَ : إنَّ هذه الآياتِ مردودةٌ إلى أوَّلِ السُّورة ، والمعنى : هو الذي أخرجَ الذين كفَرُوا وهو اللهُ الذي تَحِقُّ له العبادةُ ، ولا يشركهُ في ذلك غيرهُ ، وهو العالِمُ بكلِّ شيءٍ مما غابَ عن العبادِ ومما علموهُ.
(0/0)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ القُدُّوسُ : هو الظاهرُ على كلِّ عيبٍ ، المنَزَّهُ عن كلِّ ما لا يليقُ به. والسَّلاَمُ : هو الذي سَلِمَ من كلِّ نقصٍ وعيب ، وَقِيْلَ : هو الذي سَلِمَ العبادُ من ظُلمهِ.
والْمُؤْمِنُ : هو الذي أمِنَ أولياؤهُ عذابَهُ. والْمُهَيْمِنُ : هو الشهيدُ على عبادهِ بأعمالهم ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ }[المائدة : 48] أي شَاهِداً عليه ، ويقالُ : هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فهو مُهَيْمِنٌ ، إذا كان رَقِِيباً على الشيءِ.
والْعَزِيزُ : الممتنعُ الذي لا يغلِبهُ شيءٌ ولا يُمنَعُ من مُرادهِ. والْجَبَّارُ : هو العظيمُ ، وجَبَرُوتُ اللهِ عَظَمَتهُ ، ويجوزُ أن يكون فَعَّالاً من جَبَرَ إذا أغنَى الفقيرَ وأصلحَ الكسيرَ. ويجوزُ أن يكون من جَبَرَهُ على كذا اذا أكرهَهُ على ما أرادَ. قال السديُّ ومقاتل : (هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ النَّاسَ وَيُجْبرُهُمْ عَلَى مَا يَشَاءُ). والْمُتَكَبرُ : هو المستحقُّ لصفاتِ التعظيمِ وهو من الكِبْرِيَاءِ ، وإنما تُذمُّ صفةُ المتكبر في الناسِ لأنه يُنْزِلْ نفسَهُ منْزِلَةً لا يستحقُّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ } ؛ الْخَالِقُ : هو الْمُنْشِئُ للأعيانِ. والبَارئُ : الْمُقَدِّرُ والْمُسَوِّي لها ، والبَرِيَّةُ : الْخَلْقُ ، وبَرَيْتُ القلمَ إذا سوَّيتهُ. والْمُصَوِّرُ : النَّاقِشُ كيف يشاءُ ، يعني الْمُمَثِّلُ للمخلوقاتِ بالعلاماتِ المميَّزة والهيئاتِ المتفرِّقة.
(0/0)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، والأسماءُ الْحُسنَى هي الصفاتُ العُلَى.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحَشْرِ ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " وَمَنْ قَرَأ حِينَ يُصْبحُ الثَّلاَثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللهُ بهِ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي ، فَإنْ مَاتَ مِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً ، وَمَنْ قَرَأهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ ".
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال : " سَأَلْتُ حَبيبي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اسْمِ اللهِ الأَعْظَمِ ، فَقَالَ : " عَلَيْكَ بآخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ ، فَأَكْثِرْ قِرَاءَتَهَا " فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ فَأَعَادَ عَلَيَّ ، فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ ، فَأَعَادَ عَلَيَّ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } ؛ " نَزلت هذه الآية في حاطِب بن أبي بَلْتَعَةَ ، وَذلِكَ أنَّ سَارَةَ مَوْلاَةَ أبي عَمْرٍو صَيْفِي بْنِ هِشَامٍ أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ بَعْد بَدْرٍ بسَنَتَيْنِ ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " أمُسْلِمَةً جِئْتِ " قَالَتْ : لاَ : قَالَ : " أمُهَاجِرَةً جِئْتِ ؟ " قَالَتْ : لاَ ، قَالَ : " فَمَا حَاجَتُكَ ؟ " قَالَتْ : كُنْتُمُ الأَهْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالْمَوَالِي ، وَقَدْ ذهَبَتْ أمْوَالِي وَاحْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً ، فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُونِي وَتَحْمِلُونِي ، قَالَ : " وَأيْنَ أنْتِ مِنْ شَبَاب أهْلِ مَكَّةَ ؟ " وَكَانَتْ مُغَنِّيَةً وَنَائِحَةً ، قَالَتْ : مَا طُلِبَ مِنِّي شَيْءٌ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب فَكَسَوْهَا وَأعْطَوْهَا نَفَقَةً.
فَأَتَاهَا حَاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ الأَزَدِيُّ حَلِيفُ بَنِي أسَدٍ ، فَكَتََبَ إلَى أهْلِ مَكَّةََ وَأعْطَاهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أنْ تُوصِلَ الْكِتَابَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ ، وَكَتَبَ فِي الْكِتَاب : مِنْ حَاطِب بْنِ أبي بَلْتَعَةَ إلَى أهْلِ مَكَّةَ : رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُريدُ أنْ يَغْزُوَكُمْ ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ. مَعَ أشْيَاءَ كَتَبَ بهَا يَتَنَصَّحُ لَهُمْ فِيهَا ، فَمَضَتْ سَارَةُ بالْكِتَاب.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بمَا فَعَلَ حَاطِبُ ، فَبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهَا عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَالْمِقْدَادَ ، فَخَرَجُوا يُعَادِي بهِمْ خيْلُهُمْ ، فَطَلَبُوا مِنْهَا الْكِتَابَ ، فَقَالَتْ : مَا عِنْدِي كِتَابٌ ، وَحَلَفَتْ عَلَى ذلِكَ ، فَفَتَّشُواْ مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوهُ ، وَقَالَتْ : إنَّكُمْ لاَ تُصَدِّقُونِي حَتَّى تُفَتِّشُوا ثِيَابي ، وَاصْرِفُواْ وُجُوهَكُمْ عَنِّي فَصَرَفُوهَا ، فَطَرَحَتْ ثِيَابَهَا فَفَتَّشُوهَا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً ، فَتَرَكُوهَا وَهَمُّواْ بالرُّجُوعِ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طَالِبٍ : إنِّي أشْهَدُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكْذِبْنَا ، وَإنَّهَا هِيَ الْكَاذِبَةُ فِيمَا تَقُولُ : فَسَلَّ سَيْفَهُ وَقَالَ : أخْرِجِي الْكِتَابَ وَإلاَّ وَاللهِ لأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ وَأقْسَمَ عَلَى ذلِكَ ، فَلَمَّا رَأتِ الْحَدَّ أخْرَجَتْهُ مِنْ ظَفَائِرِ رَأسِهَا ، فَأَخَذُوهُ وَخَلَّوا سَبيلَهَا وَرَجَعُواْ بالْكِتَاب إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَأَرْسَلَ إلَى حَاطِبٍ فأَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : " يَا حَاطِبُ هَلْ تَعْرِفُ هَذا الْكِتَابَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " مَا حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ ؟ " قَالَ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ ، وَلاَ غَشَشْتُكَ مُنْذُ صَحِبْتُكَ ، وَلاَ أحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ ، فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ يَا رَسُولَ للهِ ، إنِّي كُنْتُ امْرِءاً مُلْصَقاً فِي قُرَيْشٍ ، وَلَمْ أكُنْ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ بمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ ، وَأنَا غَرِيبٌ فِيْهِمْ ، وَكَانَ أهْلِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ ، فَخَشِيتُ عَلَى أهْلِي فَأَرَدْتُ أنْ أتَّخِذ عِنْدَهُمْ يَداً ، فَوَاللهِ مَا فَعَلْتُ ذلِكَ شَكّاً فِي دِينِي وَلاَ رضًى بالْكُفْرِ بَعْدَ الإسْلاَمِ ، وَلاَ ارْتَبْتُ فِي اللهِ مُنْذُ أسْلَمْتُ ، وَقَدْ عَلِمْتُ أنَّ اللهَ تَعَالَى نَزَّلَ عَلَيْهِمْ بَأْسَهُ ، وَإنَّ كِتَابي لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئاً.
فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَذرَهُ وَقَالَ : " إنَّهُ قَدْ صَدَقَ ". فَقَاَمَ عُمَرُ رضي لله عنه وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَ هَذا الْمُنَافِقِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً ، وَمَا يُدْريكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لأَهْلِ بَدْرٍ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غُفِرَ لَكُمْ ".
(0/0)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً } ؛ معناهُ : إنْ يُصادِفُوكم ويَظفَرُوكم في حالٍ لا يخافونَكم عليها يُظهِرُوا عداوتَكم ، { وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } ؛ بالقتلِ والضَّرب ، { وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } ؛ بالشَّتمِ والطعنِ ، { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } ؛ ويحبُّون أن تكفُروا باللهِ بعد إيمانِكم كما أنَّهم كافرون ، والمعنى : لا ينفعُكم التقرُّب إليهم بنقلِ أخبار النبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهم.
(0/0)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } ؛ أي تُوادُّوهم بسبب الأرحامِ والأولاد ، فإنَّ الأرحامَ والأولادَ لا ينفعُوكم ، فلا تَعصُوا اللهَ ولا تخونُوا رسولَهُ لأجلِهم ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } ؛ فيُدخِلُ أهلَ طاعةِ الله الجنةَ ، ويدخل أهلَ الكفرِ النارَ ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ ، { بَصِيرٌ }.
قرأ عاصمُ ويعقوب (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) بفتحِ الياء وكسر الصاد مخفَّفاً ، وقرأ ابنُ عامر والأعرج (يُفَصَّلُ) بضمِّ الياء وفتحِ الصاد مشدَّداً ، وقرأ طلحةُ والنخعي (نُفَصِّلُُ) بالنون وبضمَّة وكسرِ الصاد مشدَّداً ، وقرأ الباقون (يُفْصَلُ) بضم الياء وفتح الصاد مخفَّفاً.
ثُم ضربَ اللهُ لهم إبراهيمَ مَثلاً حين تبرَّأ من قومهِ فقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } ؛ أي قد كانت لكم قدوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ خليلِ الله والذين معَهُ من المؤمنين ، { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ } ؛ لأقاربهم من الكفَّار : { إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ } ؛ ومن دِينكم ، { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ من الأصنامِ ، { كَفَرْنَا بِكُمْ } ، تبرَّأنَا منكم ، { وَبَدَا } ؛ وظهرَ ، { بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ } ؛ بالفعلِ ، { وَالْبَغْضَآءُ } ؛ بالقولِ ، { أَبَداً } ؛ إلى الأبدِ ، { حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ } ؛ تُقِرُّوا وتُصدِّقوا بوحدانيَّة اللهِ تعالى ، فهلاَّ تأَسَّيتَ يا حاطبُ بإبراهيمَ في إظهارهِ مُعاداةَ الكفَّار ، وقطعِ الموالاةِ بينكم وبينهم كما فعلهُ إبراهيم ومَن معهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } ؛ أي قد كانت لكم أسوةٌ حسَنةٌ في إبراهيمَ وأمُورهِ ، إلاَّ في قولهِ لأبيهِ لأستغفرن لك ، { لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } ؛ إنْ عَصَيتَهُ ، نُهُوا أن يتأَسَّوا بإبراهيمَ في هذا خاصَّة فيَستَغفِرُوا للمشركين.
والمعنى : قد كانت لكم أسوةٌ حَسنةٌ في صُنعِ إبراهيمَ إلاَّ في استغفارهِ لأبيهِ وهو مشركٌ. ثم بيَّن اللهُ عُذرَهُ إبراهيمَ في سورةِ التَّوبة في استغفارهِ لأبيه فقالَ تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ }[التوبة : 114] وكان هذا قبلَ إخبار الله تعالى أنْ لا يغفرَ أنْ يُشرَكَ به. وقولُ إبراهيم : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } معناهُ : لا أقدرُ على دفعِ شيءٍ من عذاب الله عنكَ إنْ لم تُؤمِنْ.
وكان من دعاءِ إبراهيمَ وأصحابهِ : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا } ؛ أي وَثِقْنا ، { وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا } ؛ أي فوَّضنَا أُمورَنا وإليك رجَعنا بالتَّوبةِ والطاعةِ ، { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } ؛ في الآخرةِ ، { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي لا تُظهِرِ الكفَّارَ عَلينا فيظُنُّوا أنَّهم على الحقِّ وأنَّا على الباطلِ فيُفتَنوا بها ، هكذا قال قتادةُ. وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قالَ : (مَعْنَاهُ : لاَ تُسَلِّطْهُمْ فَيَفْتِنُونَا). وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : لاَ تُعَذِّبْنَا بأَيْدِيهِمْ وَلاَ بعَذابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُوا : لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أصَابَهُمْ هَذا).
(0/0)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } ؛ معناهُ : لقد كان لكم في إبراهيمَ والَّذين معَهُ قدوةٌ صالحة فيما يرجعُ إلى رجاءِ ثواب الله وحُسنِ الْمُنْقَلَب في اليومِ الآخرِ.
وهذا يقتضي وجوبَ الاقتداء بهم في أفعالِهم ، وأما الأُولى فنُهوا الاقتداءَ بهم في باب العداوة للهِ في أمر الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ } بدلٌ من قولهِ { لَكُمْ فِيهِمْ } وهذا كقولهِ تعالى{ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }[آل عمران : 97]. ومعنى { يَرْجُو اللَّهَ } أي يخافُ اللهَ ويخافُ الآخرةَ ، { وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } ؛ أي مَن يُعرِضُ عن الإيمانِ ويُوالِي الكفارَ فإنَّ اللهَ هو الغنيُّ عن خلقهِ ، الحميدُ إلى أوليائهِ وأهلِ طاعته.
قال مقاتلُ : (فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بعَدَاوَةِ الْكُفَّار أظْهَرُواْ لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ امْتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى) فأنزلَ اللهُ : { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم } ؛ أي كونوا على رجاءٍ وطمعٍ في أن يجعلَ اللهُ بينكم وبين الذين عادَيتم من المشركين ، { مَّوَدَّةً } ؛ يعني من كفار مكَّة.
ففعلَ اللهُ ذلكَ بأن أسلمَ كثيرٌ منه بعدَ الفتحِ ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ ؛ وأبو سُفيان بن الحارث ؛ والحارثُ بنُ هشام ؛ وسُهيل بن عمرٍو ؛ وحَكمُ بن حِزام ، وكانوا مِن رُؤساء الكفَّار والمعادِين لأهلِ الإسلامِ ، فصارُوا لهم أولياءً وإخوَاناً ، فخَالَطُوهم وناكَحُوهم ، وتزوَّجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفيان بن حرب ، فَلانَ لهم أبو سفيان ، فهذه المودَّةُ التي جعلَها اللهُ تعالى بينَهم ، { وَاللَّهُ قَدِيرٌ } ؛ على أن يجعلَ بينكم المودَّة ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ بهم بعد ما تَابُوا وأسلَمُوا.
(0/0)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
قوله : { لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } يعني أهلَ العهدِ الذين عاهَدُوا المؤمنين على تركِ القتالِ والْمُظَاهَرَةِ ، وهم خُزاعة ، { أَن تَبَرُّوهُمْ } ، والمعنى : لاَ ينهاكُم اللهُ عن برِّ الذين لم يُقاتِلُوكم ، وهذا يدلُّ على جواز البرِّ بأهلِ الذمَّة وإنْ كانت الموالاةُ منقطعةً.
ولذلك جوَّزَ أبو حَنيفة ومحمَّد صرفَ صدقةِ الفطرِ والكفَّارات والنُّذور الْمُطْلَقَةِ إليهم ، وأجْمَعُوا على جواز صرفِ صدقةِ التطوُّع إليهم ، وأجْمَعُوا على أنه لا يجوزُ صرفُ الزَّكَوَاتِ إليهم لقوله عليه السلام : " أُمِرْتُ أنْ آخُذ الصَّدَقَةَ مِنْ أغْنِيَائِكُمْ وَأرُدَّهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ ".
وقولهُ تعالى : { أَن تَبَرُّوهُمْ } في موضعِ خفضٍ بدلَ من { الَّذِينَ } كأنَّهُ قالَ عن أنْ تبَرُّوا الذين لم يُقاتِلُوكم ، وقوله تعالى : { وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ؛ القِسْطُ إليهم أن نُعطِيَهم قِسْطاً من أموالِنا على جهة البرِّ ، ويقالُ : أقسطتُ إلى الرجُلِ اذا عامَلتهُ بالعدلِ ، قال الزجَّاج : (مَعْنَاهُ : وَتَعْدِلُوا فِيْمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْوَفَاءِ بالْعَهْدِ).
(0/0)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قَوْلُهُ تعَالَى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ يعني الْمُحَاربينَ من الكفَّار ، نَهى اللهُ أن يُتَصَدَّقَ عليهم ، ونَهى عن مُوالاتِهم ومُكاتَباتِهم. والْمُظَاهَرَةُ : الْمُعَاوَنَةُ للظُّهور بها على العدوِّ بالغَلبةِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } وذلك أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم لَمَّا صَالَحَ قُرَيْشاً يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَمَّا هَاجَرَ إلَيْهِ النِّسَاءُ أبَى اللهُ أنْ يَرْجِعْنَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأمَرَ بامْتِحَانِهِنَّ ، وقوله تعالى : { فَامْتَحِنُوهُنَّ } وذلك أنْ تُستَحلَفَ المهاجِرةُ ما هاجَرتْ لِحَدَثٍ أحدثَتْهُ ، ولا خَرَجَتْ عِشْقاً لرجُلٍ من المسلمين ولا خرجَتْ إلاَّ رغبةً في الإسلامِ.
قال ابنُ عبَّاس : " صَالَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كُفَّارَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ عَلَى أنَّ مَنْ أتَاهُ مِنْ مَكَّةَ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَمَنْ أتَى مَكَّةَ مِنْ أصْحَابهِ فَهُوَ لَهُمْ ، وَلَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْهِ ، وَكَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بذلِكَ كِتَاباً لَهُمْ وَخَتَمَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا خَتَمَ عَلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جَاءَتْهُ سَبيعَةُ بنْتُ الْحَارثِ الأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً.
فَجَاءَ زَوْجُهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ كَافِرٌ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ رُدَّهَا عَلَيَّ ، فَإنَّكَ شَرَطْتَ لَنَا ذلِكَ عَلَيْكَ ، وَهَذِهِ طِينَةُ كِتَابنَا لَمْ تَجِفَّ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ } { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ؛ فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " باللهِ مَا أخْرَجَكِ إلَيْنَا إلاَّ الْحِرْصُ عَلَى الإيْمَانِ وَالرَّغْبَةُ فِيْهِ وَالْمَحَبَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلإسْلاَمِ " فَحَلَفَتْ باللهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ مَا خَرَجْتُ إلاَّ لِذلِكَ ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُعْطَى زَوْجُهَا مَهْرَهَا الَّذِي أُنْفِقَ عَلَيْهَا ، فَأَعْطَوْهُ مَهْرَهَا وذلك معنى قولهِ : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أي هذا الامتحانُ لكم ، واللهُ عالِمٌ بهنَّ ، وليس عليكم إلاَّ علمُ الظاهرِ ، واللهُ أعلَمُ بإيمانِهنَّ قبلَ الامتحانِ وبعدَهُ ، فإن علمتُموهنَّ في الظاهرِ بالامتحان أنَّهن مؤمناتٍ فلا تردُّوهن إلى أزواجهنَّ الكفَّار بمكة ، لا المؤمناتُ حِلٌّ للكفار ولا الكفارُ يحلُّون للمؤمناتِ. وقوله تعالى : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } أي أعطُوا أزواجَ المهاجراتِ من الكفَّار ما أنفَقُوا عليهنَّ من المهرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ أي لا جُناحَ عليكم أنْ تتزوَّجُوهن إذا أعطيتُموهنَّ مُهورَهن ولو كان لَهنَّ أزواجٌ كفَّار في دار الكفر ؛ لأن الإسلامَ قد فرَّقَ بينها وبين الكافرِ ، وهذا كلُّه دليلٌ أنَّ الْحُرَّةَ إذا هاجَرت إلينا مُسلمةً أو ذميَّة وقعتِ الفرقةُ بينهما بنفسِ الْمُهَاجَرَةِ ، كما هو مذهبُ أصحابنا.
ولهذا قال أبو حنيفةَ : (إنَّ الْمُهَاجِرَةَ لاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا لأنَّ اللهَ تَعَالَى أبَاحَ لِلْمُسْلِمِينَ التَّزَوُّجَ بالْمُهَاجِرَاتِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَشْرُطَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةً بَعْدَ الْمُهَاجَرَةِ لَمَا أمَرَ اللهُ برَدِّ مُهُورهِنَّ عَلَى أزْوَاجِهِنَّ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } ؛ " وذلك أنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ ، جَلَسَ عِنْدَ الصَّفَا وَإلى جَنْبهِ عُمَرُ رضي الله عنه وَالنِّسَاءُ يَأْتِينَ يُبَايعْنَهُ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِنَّ هِنْدٌ بنْتُ عُتْبَةَ مُتَنَكِّرَةٌ مَعَ النِّسَاءِ خَوْفاً أنْ يَعْرِفَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُنْزِلَ هَذِهِ الآيَةَ ، فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " أبَايعْكُنَّ عَلَى أنْ لاَ تُشْرِكْنَ باللهِ شَيْئاً " فَقَالَتْ هِنْدٌ : أشْرَكْنَا وَعَبَدْنَا الآلِهَةَ فَمَا أغْنَتْ عَنَّا شَيْئاً.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَلاَ تَسْرِقْنَ " فَقَالَتْ هِنْدٌ : إنَّ أبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ مُمْسِكٌ ، وَإنِّي أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ لِغِنَاهُ ، وَلاَ أدْري أيَحِلُّ لِي أمْ لاَ ؟ فَقَالَ أبُو سُفْيَان : مَا أصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى أوْ قَدْ بَقِيَ فَهُوَ لَكِ حَلاَلٌ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعَرَفَهَا وَقَالَ : " إنَّكِ لَهِنْدُ بنْتُ عُتْبَةَ ؟ " قَالَتْ : فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبيَّ اللهِ عَفَا اللهُ عَنْكَ.
فَقَالَ : " وَلاَ تَزْنِينَ " قَالَتْ : وَهَلْ تَزْنِي الْحُرَّةُ ؟ فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : لاَ لَعَمْرِي مَا تَزْنِي الْحُرَّةُ ، فَقَالَ : " وَلاَ تَقْتُلْنَ أوْلاَدَكُنَّ " فَقَالَتْ هِنْدُ : زَيَّنَّاهُمْ صِغَاراً وَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَاراً ، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أبي سُفْيَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَضَحِكَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ ، وَتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ".
ومعنى الآية : { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } أي لا يدفِنَّ بناتِهنَّ أحياءً كما كان العربُ يفعلونَهُ ، فقال تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } ؛ أي لا تُلحِقُ بزوجِها وَلداً ليس منه ، وذلك أنَّ المرأةَ كانت تلتقطُ لَقيطاً فتضعهُ بين يدَيها ورجلَيها وتقولُ لزوجِها : ولدتُ هذا الولدَ ، فذاكَ البهتانُ والافتراءُ. ويقالُ : أرادَ بين الأيدِي أن يوضَعَ بين يدَيها ولدُ غيرها وبين أيدِيهنَّ أن يأتِين بولدٍ حرام ، وهذا كنايةٌ عن الفرجِ ، فلما قالَ عليه السلام ، قَالَتْ هِنْدٌ : وَاللهِ إنَّ الْبُهْتَانَ لَقَبيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إلاَّ بالرُّشْدِ وَمَكَارمِ الأَخْلاَقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } ؛ أي وجميعُ ما تأمرُهنَّ وتنهاهُنَّ من النَّوحِ وشقِّ الجيوب وخَمْشِ الوُجوهِ ورنَّةِ الشيطانِ وغيرِ ذلك من أصواتِ المعصية ومن صوتِ اللَّعب واللهوِ والمزاميرِ وغير ذلك. والمعروفُ : كلُّ ما كان طاعةً ، والمنكَرُ : كلُّ ما كان معصيةً ، فلما قالَ صلى الله عليه وسلم : " وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ " قَالَتْ هِنْدُ : وَمَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذا وَفِي أنْفُسِنَا أنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ ، فَأَقَرَّتِ النِّسْوَةُ بمَا أخَذ عَلَيْهِنَّ.
وقولهُ تعالى : { فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ معناهُ : إذا بايعنَكَ على هذهِ الشُّروط فبايعهُن ، فقال صلى الله عليه وسلم : " قَدْ بَايَعْتُكُنَّ " كلاماً كلَّمَهن به من غيرِ أن مسَّتْ يدهُ يدَ امرأةٍ ، وكان على يدِ عُمر رضي الله عنه ثوبٌ يصافحُ به النساءَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ؛ ختمَ اللهُ هذه السُّورةَ بمثلِ كما افتتحَها به ، حيث نَهَى المؤمنين عن تولِّي أعداءِ الله ، وأرادَ بالقومِ الذين غَضِبَ اللهُ عليهم اليهودَ ، والمعنى : يا أيُّها الذين آمَنَُوا لا تتوَلُّوا اليهودَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخِرَةِ } ؛ لأنَّهم كانوا يعرِفُون النبيَّ صلى الله عليه وسلم كما يعرِفون أبنائَهم ، وكانوا لا يؤمنون به ، فآيَسُوا من أن يكون لَهم في الآخرةِ خيرٌ. وَقِيْلَ : إنَّهم كانوا يزعُمون أنه لا يكون في الآخرةِ أكلٌ ولا شربٌ ولا نعمة ، والمرادُ بذلك اليهودُ.
وقولهُ تعالى : { كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } ؛ معناهُ كما يَئِسَ المشركون الذين لا يُؤمنون بالبعثِ من رُجوعِ أصحاب القبور ومِن أن يُبعَثوا. وَقِيْلَ : معناهُ : كما يَئِسَ الكفارُ إذا ماتوا وصارُوا في القبور من أنْ يكون لَهم في الآخرةِ حظٌّ ، ويَئِسُوا من أنْ يكون لهم في الآخرةِ نصيبٌ.
(0/0)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } قال مقاتلُ : (وَذلِكَ أنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُواْ قَبْلَ أنْ يُؤْمَرُواْ بالْقِتَالِ : لَوْ نَعْلَمُ أحَبَّ الأَعْمَالِ إلَى اللهِ تََعَالَى لَعَمِلْنَا وَبَذلْنَا فِيْهِ أمْوَالَنَا وَأنْفُسَنَا ، فَدَلَّهُمُ اللهُ عَلَى أحَب الأَعْمَالَ إلَيْهِ) فقَالَ : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } فَابْتُلُوا يَوْمَ أُحُدٍ بمَا أصَابَهُمْ ، فَتَوَلَّوا عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى شُجَّ وَجْهُهُ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتهُ ، فَذمَّهُمُ اللهُ عَلَى ذلِكَ فَقَالَ : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ؛ أي عَظُمَ ذلك في الْمَقْتِ والبُغضِ عندَ الله ؛ أي أنَّ الله يبغضهُ بُغضاً شَديداً أن تَعِدُونِي من أنفُسِكم شيئاً ثم لم تُوَفُّوا به.
وموضع { أَن تَقُولُواْ } رُفِعَ ، وانتصبَ قوله { مَقْتاً } على التمييزِ.
وذكرَ الكلبيُّ : (أنُّ الْمُسْلِمِينَ كَانُواْ يَقُولُونَ قَبْلَ فَرْضِ الْجِهَادِ : لَوْ عَلِمْنَا أيَّ الأَعْمَالِ أحَبُّ إلَى اللهِ لَفَعَلْنَاهُ ، فَدَلَّهُمُ اللهُ عَلَى ذلِكَ بقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف : 10] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا هِيَ ، فَمَكَثُوا عَلَى ذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ قَالُواْ : يَا لَيْتَنَا نَعْلَمُ مَا هِيَ فَنُسَارعُ إلَيْهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى{ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[الصف : 11] إلَى آخِرِ الآيَاتِ).
وقال قتادةُ : (كَانَ الرَّجُلُ إذا خَرَجَ إلَى الْجِهَادِ ثُمَّ رَجَعَ قالَ : قُلْتُ وَفَعَلْتُ ، وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }.).
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } ؛ يُحِبُّ الذين يصُفُّون أنفسهم عند القتالِ صَفّاً { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } ؛ أي مُلتَزِقٌ بعضهُ إلى بعضٍ ، أعلمَ اللهُ أنه يحبُّ مَن تثَبَّتَ في القتالِ ويلزمَ مكانَهُ كثُبوتِ البناءِ المرصوصِ الذي قد أُحكِمَ وأُتقِنَ ، ليس فيه فرجةٌ ولا خلل.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } ؛ في هذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما لَقِيَ من أذى الكفار والمنافقين ، وقد مرَّ تفسيرُ أذاهُم موسَى في سورةِ الأحزاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } ؛ أي بإيذائِهم أمَالَها عن الحقِّ وخذلَها ومنعَها الهدى مجازاةً لهم بايذائهم ، { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } إلى ثوابهِ وجنَّتهِ.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ معناهُ : واذكُرْ يا مُحَمَّدُ لقومِكَ قصَّةَ عيسى وعاقبةَ مَن آمنَ معه ، وعاقبةَ من كفرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّصَدِّقاً } نُصب على الحالِ ؛ أي في حالِ تصديقي بالتَّوراةِ التي أوتِيها موسَى عليه السلام مِن قبلي ، وفي حالِ تبشيري برسولٍ من بعدي يأتِي اسمهُ أحْمَدُ.
وذلك أنَّ الْحَوَاريِّينَ قَالُوا لِعِيسَى عليه السلام : يَا رُوحَ اللهِ هَلْ مِنْ بَعْدِنَا مِنْ أُمَّةٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ أُمَّةُ أحْمَدَ. قَالُواْ : يَا رُوحَ اللهِ وَمَا أُمَّةُ أحْمَدَ ؟ قَالَ : حُكَمَاءٌ عُلَمَاءٌ أبْرَارٌ أتْقِيَاءٌ ؛ كَأَنَّهُمْ مِنَ الْفِقْهِ أنْبيَاءُ ، يَرْضَوْنَ مِنَ اللهِ بالْيَسِيرِ مِنَ الرِّزْقِ ، وَيَرْضَى اللهُ مِنْهُمْ بالْيَسِِيرِ مِنَ الْعَمَلِ ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بـ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.
وفي تسميةِ نبيِِّنا عليه السلام أحمدَ قولان : أحدُهما : أنَّ الأنبياء كانوا حَمَّادِينَ للهِ تعالى ، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم أحمدُ ؛ أي أكثرُ حَمْداً للهِ منهم ، فيكون معنى أحمدَ المبالغةَ في الفاعلِ.
والثاني : الأنبياءُ كلهم مَحمُودُونَ ، ونبيُّنا عليه السلام أكثرُ مناقباً للفضائلِ ، فيكون معناهُ مبالغةٌ من المفعولِ ، يعني إنه يُحْمَدُ بما فيه من الأخلاقِ والمحاسنِ أكثرَ مما يُحمَدُ غيرهُ.
قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ لِي أسْمَاءً : أنَا أحْمَدُ ؛ وَأنَا مُحَمَّدُ ؛ وَأنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بيَ الْكُفْرَ ، وَأنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ ، وَأنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبيٌّ ".
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ؛ معناهُ : وأيُّ ظُلمٍ مِن الكفَرة ممن افترَى على اللهِ الكذبَ بأنْ جعلَ لله شَريكاً أو وَلداً وهو يُدعَى إلى دينِ الإسلام ، واللهُ يرشده إلى دينهِ ، ومَن كان في سابقِ علمه أنه يموتُ على الكفرِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
وقولهُ تعالى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } ؛ أي هو الَّذي أرسلَ مُحَمَّداً بالقرآنِ والدُّعاء إلى دينِ الحقِّ ليُظهِرَهُ على جميعِ الأديانِ ، وإنْ كَرِهَ المشركون ذلكَ ، فلا تقومُ السَّاعة حتى لا يبقَى أهلُ دينٍ إلاّ دخَلُوا في الإسلامِ وأدَّوا الجزيةَ إلى المسلمين.
وقولهُ تعالى قبلَ هذه الآية { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } يريدون ليَغلِبُوا دينَ اللهِ مع ظهورهِ وقوَّته بتكذيبهم بألسنتهم ، كمَن أرادَ إطفاءَ نُور الشمسِ بأخفِّ الأشياءِ وهو الريحُ التي يُخرِجُها من فيهِ { وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ } أي هداهُ ومظهرُ دينهِ ، وغالبُ أعدائهِ وناصرُ أوليائهِ على عدوهم من الكفار.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أي هل أدلُّكم على طاعةٍ تخلِّصُكم من عذابٍ مُؤلِم. وإنما سُمِّيت الطاعةُ تجارةً لأنه يربحُ عليها الجنةَ والثوابَ كما يربحُ على تجارةِ الدُّنيا زيادةَ المالِ.
(0/0)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
وقوله تعالى : { تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ تفسيرٌ للتجارةِ المذكورة ، وإنَّما قدَّمَ ذكرَ الإيمان في هذه الآيةِ لأنه رأسُ الطاعاتِ ، وقولهُ تعالى : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } ؛ أي وتُجاهدون العدوَّ في طاعةِ الله بنَفقَتِكُمْ وخُروجِكم من أنفسكم ، وقد تكون الطاعاتُ بالمالِ دونَ النفسِ بأن يجهِّزَ غَازياً بمالهِ ، وقد تكون بالنفسِ دون المالِ بأن يجاهدَ بنفسهِ بمال غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ أي التجارةُ التي دلَلتُكم عليها خيرٌ من التجارةِ في الأموال ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ ثوابَ الله ، لأن تلك التجارةِ تؤدِّي إلى ربحٍ لا يزولُ ولا يَبيدُ بخلافِ التجارة في الأموالِ في أمُور الدُّنيا.
(0/0)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ إنما جزَمَ { يَغْفِرْ } على المعنى ، تقديرهُ : إنْ فعلتُم ذلك يغفِرْ لكم ، وقال الزجَّاجُ : (هُوَ جَوَابُ تُؤْمِنُونَ وَتُجَاهِدُونَ ؛ لأَنَّ مَعْنَاهُ الأَمْرُ ، كَأَنَّهُ قَالَ : آمِنُوا باللهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا يَغْفِرْ لَكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } ؛ المساكن الطيِّبةُ هي المنازلُ التي طيَّبَها اللهُ بالْمِسْكِ والرياحينِ ، { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } ؛ أي في بساتينِ إقامةٍ ، يقالُ : عَدَنَ بالمكانِ إذا أقامَ به. وقولهُ تعالى : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ أي ذلك الذي ذكرتُ لكم هو التجارةُ العظيمة ، والنعيمُ المقيم.
(0/0)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } ؛ أي ذلكم خِصلَةٌ أُخرى في العاجلةِ تحبُّونَها مع ثواب الآخرِ ، وهي الغنيمةُ والفتحُ ، { نَصْرٌ مِّن اللَّهِ } ؛ على أعدائِكم ، { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } ؛ أي عاجلٌ يعني فتحَ مكَّة ، وَقِيْلَ : فتحُ عامَّة البلادِ. وقَوْلُهُ تَعَـالَى : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بشِّرهم بهاتَين النِّعمَتين : نعمةَ العاجلِ ونعمةَ الآجلِ ، ومعناهُ : بشِّرِ المؤمنين يا مُحَمَّدُ بالنصرِ في الدُّنيا والجنَّة في الآخرةِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ } ؛ أي كُونوا أنصارَ دينِ الله على أعدائهِ بالسَّيف ودومُوا على ذلكَ ، كما نصرَ الحواريُّون عيسى عليه السلام.
وقرئَ (أنْصَارَ اللهِ) من غير تنوينٍ. والأنصارُ : جمعُ نَاصِرٍ ، كصاحبٍ وأصحابٍ ، والحواريُّون : خُلَصَاءُ الأنبياءِ الذين نُقُّوا من كلِّ عيبٍ ، ومنه الدَّقيقُ الحواريُّ وهو الْمُنَقَّى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى اللَّهِ } أي معَ اللهِ كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }[النساء : 2].
وقولهُ تعالى : { قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي صدَّقت جماعةٌ منهم بعيسى ، { وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } ؛ وذلك أنه لَمَّا رُفِعَ عيسى عليه السلام تفرَّقَ قومهُ ثلاثَ فرقٍ :
فرقةٌ قالوا كان اللهَ فارتفعَ ، وفرقةٌ قالوا كان ابنَ اللهِ فرفعَهُ اللهُ ، وفرقةٌ قالوا : كان عبدَ اللهِ ورسولَهُ فرفعَهُ الله إليه وهم المؤمنون. فاتَّبعَ كلَّ فريق منهم طائفةٌ من الناسِ ، فاقتَتَلوا فظهرَ الفرقتان الكافرتان على المؤمنين حتى بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فظهرت الفرقةُ المؤمنة على الكافرةِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } ؛ أي غالِبين ، والمعنى : فاصبحت حُجَّةُ مَن آمنَ بعيسى ظاهرةً بتصديقِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّ عيسى عبدُ اللهِ ، وكلمتهُ وروحَهُ والتأييد.
وعن الحسنِ قال : (سَأَلْتُ عِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَأبَا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } ، فَقَالَ أبُو هُرَيْرَة : " سَأَلْتُ عَنْ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " قَصْرٌ مِنْ لُؤلُؤَةٍ فِي الْجَنَّةِ ، فِي ذلِكَ الْقَصْرِ سَبْعُونَ دَاراً مِنْ يَاقُوتٍ أحْمَرَ ، فِي كُلِّ دَارٍ سَبْعُونَ بَيْتاً مِنْ زُمُرُّدٍ أخْضَر ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيراً وَسَبْعُون فِرَاشاً ، عَلَى كُلِّ فِرَاشٍ امْرَأةٌ مِنَ الْحُور الْعِين ، فِي كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مَائِدَةً ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْناً مِنْ طَعَامٍ ، يُعْطِي اللهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْقُوَّةِ مَا يَأْتِي عَلَى ذلِكَ كُلِّهِ " ".
(0/0)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ ظاهرُ المعنى ، { الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ؛ الْقُدُّوسُ : المستحقُّ للتعظيمِ لتنْزِيهِ صفاتهِ عن كلِّ نقصٍ ، ويقالُ : معناهُ : كثيرُ البركةِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ؛ الأُمِّيُّونَ هم العربُ كلُّهم ، مَن كتبَ منهم ومن لَمْ يَكتُبْ ؛ لأنَّهم لم يكونوا من أهلِ الكتاب. وأوَّلُ ما ظهرتِ الكتابةُ في العرب ظهرت في أهلِ الطائف ، تعلَّمُوا من الحيرةِ ، وتعلَّمَ أهلُ الحيرةِ من أهل الأنبار.
وقولهُ تعالى { رَسُولاً مِّنْهُمْ } يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم نَسَبهُ مثلُ نَسَبهم وجنسهُ مثل جنسهم ، { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } ؛ يعني القرآنَ ، { وَيُزَكِّيهِمْ } ؛ أي يُطهِّرُهم من الدَّنسِ والكفرِ ، فيجعلهم أزْكِيَاءَ بما يأْمُرهم به من التوحيدِ ويدعوهم إليه من طاعةِ ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ؛ أي القرآنَ والعلمَ ، { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي وقد كانوا قبلَ مجيئهِ إليهم بالقرآنِ لفِي ظلالٍ مبين ، يعبُدون الأصنامَ ويَسْتَقْسِمُونَ بالأَزْلاَمِ.
(0/0)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ معناهُ : وبعثَهُ في آخَرِين منهم يعني الأعاجمَ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مبعوثٌ إلى كلِّ مَن شاهدَهُ من العرب والعجم وإلى كلِّ مَن يأتي منهم بعدَ ذلك.
وقوله تعالى { مِنْهُمْ } لأنَّهم إذا أسلَمُوا صاروا منهم ، والمسلمون كلُّهم يدٌ واحدة وأُمَّةٌ واحدةٌ وإن اختلفَ أجناسُهم. وقوله تعالى : { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } في الفَضْلِ والسَّابقةِ ؛ لأن التَّابعين لا يُدركون شأنَ الصحابةِ.
(0/0)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ؛ يعني الإسلامَ والهدايةَ إلى دينهِ ، وَقِيْلَ : النبوَّةَ والكتابَ والإسلامَ يُعطيهِ اللهُ قُريشاً ممن يراهُ أهلاً له به ، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ؛ على مَن اختصَّهُ بالنبوَّةِ والإسلامِ ، وَقِيْلَ : ذو الْمَنِّ العظيمِ على خلقهِ ببعثِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } ؛ معناهُ : مَثَلُ اليهودِ الذين أُمِرُوا بما في التَّوراةِ ، ويُظهِروا صفةَ مُحَمَّدٍ ونَعْتَهُ فيها ، ثم لَمْ يفعلُوا ما أُمروا به ولم يُؤمِنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً } ؛ أي يَحمِلُ كُتُباً من العلمِ عِظَاماً لا يدري ما عليه وما حَمَلَ.
والأَسْفَارُ : جمعُ سِفْرٍ ، وهو الكتابُ الكبير ، شَبَّةَ اليهودَ إذ لم ينتفِعُوا بما في التَّوراةِ وهي دالَّةٌ على الإيمانِ بالحمار يحملُ كُتُبَ العلمِ ، ولا يدري ما فيه ، وليس حَمْلُ التوراةِ من الحملِ على الظَّهرِ ، وإنما هو من الْحَمَالَةِ وهو الضَّمانُ والكفالةُ والقبول كما في قوله تعالى{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا }[الأحزاب : 72] أي يَقْبَلْنَهَا. فاليهودُ ضَمِنُوا العملَ بها ثم لم يفعَلُوا بما ضَمِنُوا وجَحَدُوا بعضَ ما حَمَلوا ، فلذلك قِيْلَ : { ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ } ؛ يعني اليهودَ كذبُوا بالقرآنِ وبالتَّوراة حين لم يُؤمِنوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ الذين ظَلَموا أنفُسَهم بتكذيبهم الأنبياءَ.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ هذا جوابٌ لليهودِ في قولهم{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }[المائدة : 18] وَقَالَ اللهُ تَعَالَى لنَبيِّهِ : قل لَهم : إنِ ادَّعيتُم أنَّكم أحبَّاءُ اللهِ وأهلُ ولايتهِ وأنَّ الجنةَ في الآخرةِ لكم من دونِ الناسِ ، فاسأَلُوا اللهَ الموتَ إنْ كُنتم صَادِقين في مقَالَتِكم ، قولوا : اللَّهُمَّ أمِتْنَا كي تصلوا إلى نعيمِ الآخر وتستَرِيحوا من تعقب الدُّنيا ، وسُيمِيتُكم اللهُ إنْ قُلتم ذلكَ.
كما رُوي في الحديثِ : " أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " قُولُوا : اللَّهُمَّ أمِتْنَا ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ، لَيْسَ أحَدٌ مِنْكُمْ يَقُولُ ذلِكَ إلاَّ غَصَّ بريقِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ " فَكَرِهُوا ذلِكَ وَأبَوا أنْ يَقُولُوا " ، وَعَرَفُوا أنَّهُ سَيَكُونُ ذلِكَ إنْ قَالُوا. فأنزلَ اللهُ تعالى : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } ؛ أي لا يتَمنَّون ذلك بما قدَّمُوا من التكذيب بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، والتحريفِ لصِفَتِه في التَّوراةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } ؛ إخبارٌ عن معلومِ الله فيهم ، حذرَهم اللهُ بقولهِ : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } ؛ أي قل يا مُحَمَّدُ لليهودِ : إنَّ الموتَ الذي تفِرُّون منه لأَنْ تَلْقَوْهُ فإنه نازلٌ بكم لا محالةَ عند انقضاءِ آجالكم ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من خيرٍ أو شرٍّ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ } ؛ يعني النداءَ إذا جلسَ الإمامُ على المنبرِ يومَ الجمُعة ؛ لأنه لم يكُن على عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم نداءٌ سواهُ ، كان إذا جلسَ على المنبرِ أذنَ بلالٌ على باب المسجدِ ، وكذا كان على عهدِ أبي بكرٍ وعمرَ.
والنداءُ المشروع لهذهِ الصَّلاة الأذانُ الثانِي يقولهُ المؤذِّنُ عند صعودِ الإمام المنبرَ ، كما رُوي عن السَّائب بن يزيدٍ أنه قال (مَا كَانَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ يُؤَذِّنُ إذا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ يُقِيمُ إذا نَزَلَ ، ثُمَّ أبُو بَكْرٍ كَذِلكَ ، ثُمَّ عُمَرَ كَذلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي أيَّامِ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ نِدَاءً غَيْرَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } يعني الذهابَ والمشيَ إلى الصَّلاةِ ، والسَّعيُ : هو إجابةُ النِّداءِ في هذه الآيةِ ، والمبادرةُ إلى الجمعةِ ، وفي قراءةِ ابن مسعودٍ رضي لله عنه (فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللهِ) وكان يقولُ : (لَوْ أُمِرْتُ بالسَّعْيِ لَسَعَيْتُ حَتَّى سَقَطَ ردَائِي). وَقِيْلَ : السَّعيُ هنا هو العملُ إذا نُودِيَ للصَّلاة فاعمَلُوا على المعنَى إلى ذكرِ الله من التفرُّغِ له والاشتغالِ بالطَّهارة والغُسلِ والتوجُّه إليه بالقصدِ والنيَّة.
واختلفَ مشائخُنا : هل يجبُ على الإنسانِ الإسراعُ والعَدْوُ إذا خافَ فوتَ الجمُعة أم لاَ ؟ قال بعضُهم : يلزمهُ ذلك بظاهرِ النصِّ ، بخلاف السَّعيِ إلى سائرِ الجماعات لا يؤمرُ به وإنْ خافَ الفوتَ. وقال بعضُهم : لا يلزمهُ ذلك ، وليس السَّعيُ إلاّ العملُ كما قال تعالى{ وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى }[النجم : 39]. وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " إذا أتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَلاَ تَأْتُوهَا وَأنْتُمْ تَسْعَوْنَ ، وَأتُوهَا وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ ، فَمَا أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا ، وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " ، وهذا عامٌّ في جميعِ الصَّلوات.
قال بعضُهم : فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ ، يعني الصَّلاةَ مع الإمامِ ، وذلك هو المرادُ بذكرِ الله. وقال بعضُهم : هي الخطبةُ لأنَّها تلِي النداءَ ، عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خَرَجَتْ ذُنُوبُهُ وَخَطَايَاهُ ، فَإذا رَاحَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ قَدَمٍ عَمَلَ عِشْرِينَ سَنَةً ، فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ أُجِيزَ بعَمَلِ مِائَتَي سَنَةٍ ".
وعن أبي ذرٍّ قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَأَحْسَنَ غُسْلَهُ ، وَلَبسَ مِنْ صَالِحِ ثِيَابهِ ، وَمَسَّ مِنْ طِيب بَيْتِهِ أوْ دُهْنِهُ ، ثُمَّ لَمْ يُفَرِّقْ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزيَادَةَ ثَلاَثَةِ أيَّامٍ بَعْدَهَا ".
وعن أنسٍ رضي الله عنه : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي جُمُعَةٍ مِنَ الْجُمَعِ : " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، إنَّ هَذا يَوْماً جَعَلَهُ اللهُ عِيْداً لِلْمُسْلِمِينَ فَاغْتَسِلُوا فِيْهِ ، وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلاَ يَضُرُّهُ أنْ يَمَسَّ مِنْهُ ، وَعَلَيْكُمْ بالسِّوَاكِ " ".
(0/0)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي إذا فَرغتُم من الصَّلاة فانتَشِرُوا في الأرضِ ، هذا أمرُ إباحةٍ ، قال ابنُ عبَّاس : (إنْ شِئْتَ فَاخْرُجْ ، وَإنْ شِئْْتَ فَصَلِّ إلَى الْعَصْرِ ، وَإنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ). وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ إباحةٌ لطلب الرِّزقِ والتجارة والبيعِ بعدَ المنعِ.
وعن ابنِ عبَّاس قال : (لَمْ تُؤْمَرُوا فِي هَذِهِ الآيَةِ بِطَلَب شَيْءٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَلَكِنْ عِيَادَةُ مَرِيضٍ وَحُضُورُ جَنَازَةٍ وَزيَارَةُ أخٍ فِي اللهِ تَعَالَى). وقال الحسنُ : ( { وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ } يَعْنِي طَلَبَ الْعِلْمِ). والقولُ الأوَّلُ أظهرُ.
واختلفَ العلماءُ في موضعِ وجُوب الْجُمعةِ ، وعلى مَن تجبُ ، وكم يشتَرطُ له الجماعةُ ؟ فقال أبو حنيفةَ : (لاَ تَجِبُ الْجُمُعَةُ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ لِقَوْلِهِ عليه السلام : " لاَ جُمُعَةَ وَلاَ تَشْرِيقَ إلاَّ فِي مِصْرٍ جَامِعٍ " وَلاَ تَصِحُّ فِي الْقُرَى ، وَلاَ تُجِبُ عَلَى السَّوَادِ وَلَوْ قَرُبَتْ مِنَ الْمِصْرِ ، إلاَّ إذا كَانَتْ مُتَّصِلَةً بهِ).
وقال الشافعيُّ : (تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى أهْلِ السَّوَادِ إذا سَمِعُوا النِّدَاءَ مِنَ الْمِصْرِ ، وَوَقْتُ اعْتِبَار سَمَاعِ الأَذانِ أنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صَيِّتاً ، وَالأَصْوَاتُ هَادِئَةً وَالريِّحُ سَاكِنَةً).
وقال ابنُ عمرٍو وأبو هريرة وأنس : (تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ عَلَى عَشْرَةِ أمْيَالٍ مِنَ الْمِصْرِ). وقال سعيدُ بن المسيَّب : (تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ دُونَ الْمَبيتِ). وقال الزهريُّ : (عَلَى سِتَّةِ أمْيَالٍ) ، وقال ربيعةُ : (أرْبَعَةُ أمْيَالٍ) ، وقال مالكُ : (ثَلاَثَةُ أمْيَالٍ).
وعندَ الشافعيِّ : (تَجِبُ الْجُمُعَةُ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا أرْبَعُونَ رَجُلاً أحْرَاراً بَالِغِينَ ، لاَ يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً إلاَّ ظَعْنَ حَاجَةٍ ، فَإذا كَانَ كَذلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ. وَإنْ كَانَ أقَلَّ مِنْ ذلِكَ ، وَكَانَ بقُرْبهَا مَوْضِعٌ تُقَامُ فِيْهِ الْجُمُعَةُ ، فَعَلَيْهِمُ الْحُضُورُ فِيْهِ لِلْجُمُعَةِ إذا كَانُوا بحَيْثُ يَسْمَعُونَ النِّدَاءَ). وقال مالكُ : (إذا كَانَتِ الْقَرْيَةُ فِيهَا سُوقٌ وَمَسْجِدٌ وَجَبَ عَلَيهِمْ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ).
وأما أهلُ الوجوب ، فتجبُ الجمُعة على كلِّ مسلمٍ إلاَّ على أربعة : عبدٌ ؛ أو مريض ؛ أو مسافرٌ ؛ أو امرأةٌ ، فمَنِ استغنَى عنها بلهوٍ أو تجارةٍ استغنَى اللهُ عنه ، واللهُ غنيٌّ حميد.
وأما العددُ الذين تنعقد بهم الجمعةُ ، فقال الحسنُ : (تَنْعَقِدُ باثْنَيْنِ) ، وقال أبو يوسف والليثُ بن سعد : (بثَلاَثَةٍ) ، وقال أبو حنيفةََ ومحمَّد وسفيان : (بأَرْبَعَةٍ) ، وقال ربيعةُ : (باثْنَي عَشَرَ) ، وقال الشافعيُّ : (لاَ تَنْعَقِدُ إلاَّ بأَرْبَعِينَ).
(0/0)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } ؛ قال الحسنُ : " أصَابَ أهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ َوَغَلاَءُ سِعْرٍ ، فَقَدِمَ دَحِيَّةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبيُّ مِنَ الشَّامِ بتِجَارَةٍ ، وَكَانَ يَقْدُمُ الْمَدِينَةَ بكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَبُرٍّ وَغَيْرِهِ ، فَيَنْزِلُ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ وَيَضْرِبُ الطَّبْلَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ بقُدُومِهِ ، فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ لِيَبْتَاعُوا مِنْهُ.
فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمِ جُمُعَةٍ - وَكَانَ قَبْلَ إسْلاَمِهِ - وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَضَرَبَ الطَّبْلَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ ثَبَتُوا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم - وَقِيْلَ : بَقِيَ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً وَامْرَأةٌ - فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ لَحِقَ آخِرُهُمْ أوَّلَهُمْ لاَلْتَهَبَ الْوَادِي عَلَيْهِمْ نَاراً " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
وقولهُ تعالى { انفَضُّواْ إِلَيْهَا } أي تفَرَّقوا بالخروجِ إليها { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } على المنبرِ تخطبُ. وفي هذا دليلٌ على وجوب استماعِ الْخُطبَةِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عاتبَهم على تركِ الاستماعِ ، ولو لم يكن فَرضاً لم يُعاتَبوا على ذلك.
ويستدلُّ من هذه الآيةِ على أنَّ من السُّنة أن يَخطُبَ الإمامُ قَائماً. والكنايةُ في قولهِ تعالى : { إِلَيْهَا } راجعةٌ إلى التِّجارةِ دونَ اللَّهوِ ، وإنما خُصَّت التجارةُ برَدِّ الضميرِ إليها ؛ لأنَّها كانت أهمَّ إليهم لأنَّ السَّنة كانت سَنَةَ مجاعةٍ وغلاء سعرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } ؛ معناهُ : ما عندَ اللهِ من ثواب الصَّلاة والثباتِ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم خيرٌ من اللَّهوِ ومن التجارةِ ، { وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ؛ أي ليس يَفوتُهم من أرزاقِهم لتخلُّفهم عن الْمِيرَةِ شيءٌ ، ولا بتَركِهم البيعَ في وقتِ الصَّلاة.
(0/0)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ } ؛ معناهُ : إذا جاءَك يا مُحَمَّدُ منافِقُوا أهلِ المدينةِ عبدُالله بنُ أُبَي وأصحابهُ ، { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } ، قالُوا : نُقسِمُ إنَّكَ لرسولُ اللهِ ، وعلى ذلكَ ضَمِيرُنا واعتقادُنا ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ، من غيرِ شهادة المنافقين وحلفِهم { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } ؛ أي واللهُ يخبر أنَّ المنافقين لكَاذبون فيما يعتقدونَهُ بقُلوبهم وما يقُولون بأَلسِنَتِهم ، فهُم كاذِبون في إخبارهم عمَّا في ضَمائرِهم ، فأمَّا شَهادتُهم بألسِنتهم أنه رسولُ الله فقد كانت صِدْقاً.
(0/0)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } ؛ أي سُتْرَةً يدفعون بها عن أنفُسِهم السَّبي والقتلِ والجزية كمَن أعدَّ على نفسهِ جُنَّةً لدفعِ الجراح. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي مَنَعُوا الناسَ عن طاعةِ الله وامَتنعوا عنها ، { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في نفاقِهم من الكذب والخيانة.
وفي هذه الآيةِ دليلٌ أنَّ قولَ الرجُلِ : أشْهَدُ ، يمينٌ ؛ لأنَّ القومَ قالوا (نَشْهَدُ) فجعلَهُ اللهُ يَميناً في هذهِ الآية ، وعلى هذا أُقسِمُ وأعزِمُ وأحلِفُ ، كلُّها إيمانٌ عند أبي حنيفةَ وصَاحِبَيْهِ ، والثوريِّ والأوزاعي.
وقال مالكُ : (إنْ أرَادَ بهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ) ، وقال الشافعيُّ : (أُقْسِمُ لَيْسَ بيَمِينٍ وَأُقْسِمُ باللهِ يَمِينٌ). وفي قراءةِ الحسن (اِتَّخَذُوا إيْمَانَهُمْ) بكسر الألف ، أي إنَّا مُؤمِنون ، اتَّخذوهُ تُقْيَةً عن القتلِ.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ؛ أي ذلك الحكمُ بنفَاقِهم ، ويقالُ : ذلك الصدُّ بأنَّهم كانوا مُؤمنين في العَلانِيَةِ بحضرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا عادُوا إلى قَومِهم ثبَتُوا على الكفرِ في السرِّ ، فأورثَ ذلك طَبْعاً على قُلوبهم فهُم لا يفقَهُون الإيمانَ والقرآنَ ، ولا يَعُونَ ما يُوعَظُونَ به.
(0/0)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } ؛ أي في صحَّة أجسامِهم وحُسنِ مَنظَرِهم ؛ لأنَّهم يكونون على صُورةٍ حَسنة ، وكان عبدُالله بن أُبَي رجُلاً فَصِيحاً لَسِناً ، وكانوا إذا قالُوا شَيئاً أصغَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحُسنِ كلامِهم ، ولهذا أُدخلت اللامُ في { تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } ، ويجوزُ أن يكون معناه : إلى قولِهم.
قَوْلُهُ تَعَاَلَى : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ } ؛ فيه بيانٌ في تركِ التفهُّم والاستبصار بمنْزِلة الْخُشُب الْمُسَنَّدَةِ إلى الجدار ، لا ينتفعُ إلاَّ بالنظرِ إليها ، والْخُشُبُ لا أرواحَ فيها ولا تعقلُ ولا تفهمُ ، وكذلك المنافقون لا يَسمعون الإيمانَ ولا يعقلونَهُ. و(الْمُسَنَّدَةُ) الْمُمَالَةُ إلى الجدار ، ويُقرأ (خُشُبٌ ، وَخُشْبٌ) بجزم الشِّين ، ومنها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } ؛ أي يظُنُّون مِن الْجُبنِ والخوفِ أنَّ كلَّ مَن خاطبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنما يُخاطِبهُ في أمرِهم وكشفِ نفقاهم. ويقالُ : لا يسمعون صَوتاً إلاَّ ظنُّوا أنْ قد أتوا (فإذا نادَى مُنادٍ في العسكرِ ، وانفلَتَتْ دابَّة ، أو أنشِدَتْ ضالَّةٌ ، ظنُّوا أنُّهم يُرَادُون مما في قلوبهم من الرُّعب) أنْ يكشفَ اللهُ أسرارَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمُ الْعَدُوُّ } ؛ ابتداءُ كلامٍ ، والمعنى : هُمْ على الحقيقةِ العدوِّ الأدنَى إليكَ ، { فَاحْذَرْهُمْ } ؛ يا مُحَمَّدُ ولا تَأْمَنْهُمْ وإنْ أظهَرُوا أنَّهم معكَ ، نلا تُطلِعْهُمْ على سرِّكَ كأَنَّهم عيونٌ لأعدائِكَ من الكفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؛ أي لعَنَهم اللهُ وأخزَاهم وأحَلَّهم محلَّ مَن يقاتلهُ عدُوّاً قاهراً له ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي يُصرَفُون من الحقِّ إلى الباطلِ.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } ؛ أي إذا قيلَ لهؤلاء المنافقين بعدَ ما افتُضِحُوا : هَلُمُّوا إلى رسولِ اللهِ يستغفِرْ لكم ذُنوبَكم ، عطَفُوا رُؤوسَهم استهزاءً به ورغبةً عن الاستغفار ، ورأيتَهم يصدُّون عن الاستغفار وعن طلب المغفرةِ.
ومعنى { يَصُدُّونَ } أي يَمتَنِعُونَ ، ويَمنَعُونَ غيرَهم عن طلب المغفرةِ ، وهم مُستكبرون عن استغفار رسولِ الله لَهم وعن قبولِ الحقِّ. وذلك : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا رَجَعَ مِنْ أُحُدٍ بكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مَقَتَهُ الْمُسْلِمُونَ وَعَنَّفُوهُ ، فَقالَ لَهُ بَنُوا أبيهِ ؛ إئْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَكَ ، قَالَ : لاَ أذْهَبُ إلَيْهِ وَلاَ أُريدُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لِي. ومن قرأ (لَوَوْا) بالتخفيفِ فهو من لَوَى يَلْوِي إذا صَرَفَ الشيءَ وقلبه.
(0/0)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
وقولهُ تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } ؛ أي سواءٌ عليهم الاستغفارُ وتركهُ ، { لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَـاسِقِينَ } ؛ لإبطانِهم الكفرَ. وهذا في قومٍ مَخصُوصِينَ عَلِمَ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون فلم يستغفِرْ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ }.
" وذلك : أنَّ أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا نُزُولاً عَلَى الْمَاءِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، إذْ وَقَعَ بَيْنَ غُلاَمٍ لِعُمَرَ رضي الله عنه مِنْ بَنِي غِفَارٍ يَقُالُ لَهُ : جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ يَقُودُ لِعُمَرَ فَرَسَهُ وَبَيْنَ غُلاَمٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أبي سَلُولٍ يُقَالُ لَهُ : سِنَانُ الْجُهَنِيُّ ، فَأَقْبَلَ جَهْجَاهُ يَقُودُ فَرَسَ عُمَرَ فَازْدَحَمَ هُوَ وَسِنَان عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلاَ ، فَصَرَخَ سِنَانُ : يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار ، وَصَرَخَ الْغِفَاريُّ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. فَاشْتَبَكَ النَّاسُ وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ.
فَقَالَ عبْدُاللهِ بْنُ أبَيٍّ : مَا أدْخَلْنَا هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فِي دِيَارنَا إلاَّ لِيَرْكَبُوا أعْنَاقَنَا ، وَاللهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إلاَّ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! أمَا وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ ، يَعْنِي الأَعَزَّ نَفْسَهُ وَالأَذلَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم! ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ : هَذا مَا فَعَلْتُمُوهُ لِنَفْسِكُمْ أحْلَلْتُمُوهُمْ بلاَدَكُمْ ، قَاسَمْتُمُوهُمْ أمْوَالَكُمْ ، أمَا وَاللهِ لَوْ أمْسَكْتُمْ طَعَامَكُمْ وَمَنَعْتُمْ أصْحَابَ هَذا الرَّجُلِ الطَّعَامَ لَتَفَرَّقُوا عَنْهُ وَرَجَعُوا إلَى عَشَائِرِهِمْ ، وَتَحَوَّلُوا عَنْ بلاَدِهِمْ ، فَلاَ تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا ؛ أيْ يَتَفَرَّقُوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ.
فَسَمِعَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ كَلاَمَهُ ، فَقَالَ : وَاللهِ أنْتَ الذلِيلُ الْبَغِيضُ ، الْقَلِيلُ الْمَبْغُوضُ فِي قَوْمِكَ ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فِي عَزِّ الرَّحْمَنِ وَعِزَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : ثُمَّ ذهَبَ زَيْدٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بذلِكَ وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه فَقَالَ : دَعْنِي أضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللهِ إذْ تَرْعَدُ لَهُ أنْفٌ كَثِيرٍ بيَثْرِبَ. فَقَالَ عُمَرُ : فَإنْ كَرِهْتَ يَا رَسُولَ اللهِ أنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ، فَمُرْ سَعِدَ بْنَ مُعَاذٍ أوْ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أوْ عَبَّادَ بْنَ بشْرٍ فَلْيَقْتُلُوهُ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذا تَحَدَّثَ النَّاسُ أنَّ مُحَّمَداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ ؟ لاَ وَلَكِنِ أذِّنْ بالرَّحِيلِ " وَذلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُرْتَحَلُ فِيْهَا ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : " أنْتَ صَاحِبُ هَذا الْكَلاَمِ الَّذِي بَلَغَنِي ؟ " فَقَالَ : وَالَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ ، وَإنَّ زَيْداً لَكَاذِبٌ.
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي قَوْمِهِ شَرِيفاً عَظِيماً ، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الأَنْصَار : يَا رَسُولَ اللهِ شَيْخُنَا وَكَبِيرُنَا عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ ، لاَ تُصَدِّقْ عَلَيْهِ كَلاَمَ صَبيٍّ مِنْ غِلْمَانِ الأَنْصَار ، عَسَى أنْ يَكُونَ هَذا الصَّبيُّ وَهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَ ، فَعَذرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وَفَشَتِ الْمَلامَةُ مِنَ الأَنْصَار لِزَيْدٍ وَكَذبُوهُ ، فَقَالَ لَهُ عَمُّهُ : مَا أرَدْتَ يَا وَلَد إلاَّ أنْ كَذبَكَ رَسُولُ اللهِ وَالنَّاسُ وَمَقَتُوكَ. وََكَانَ زَيْدٌ يُسَايرُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَحَى بَعْدَ ذلِكَ أنْ يَدْنُو مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَبَلَغَ وَلَدَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أمْرِ أبيهِ ، فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ بَلَغَنِي أنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ ، فَإنْ كُنْتَ فَاعِلاً فَمُرْنِي فَأَنَا أحْمِلْ إلَيْكَ دُأبَتَهُ ، وَإنِّي أخْشَى أنْ تَأْمُرَ بهِ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ ، فَلاَ تَدَعُنِي نَفْسِي أنْ أنْظُرَ إلَى قَاتِلِهِ يَمْشِي بَيْنَ النَّاسِ ، فَأَخَافُ أنْ أقْتُلَهُ فَأَقْتُلَ مُؤْمِناً بكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " بَلْ تَرْفُقُ بهِ وَتُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا ".
وَكَذلِكَ جَاءَ أُسَيدُ بْنُ حُضَيرٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ كُنْتَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يُمْشَى فِيهَا ، فَقَالَ لَهُ : " أوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ؟ زَعَمَ أنَّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذلَّ " فَقَالَ أُسَيْدُ : بَلْ أنْتَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْتَ ، هُوَ وَاللهِ الذلِيلُ وَأنْتََ الْعَزِيزُ ، فَوَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ بكَ ، وَإنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظُمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتوِّجُوهُ ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكَهُ.
ثم سارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى وافَى المدينةَ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ } الآية إلى قولهِ : { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَـاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ } ؛ فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأُذُنٍ زَيْدٍ فَقَالَ : " يَا زَيْدُ إنَّ اللهَ صَدَّقَكَ ".
وَكَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ بقُرْب الْمَدِينَةِ ، فَلَمَّا أرَادَ أنْ يَدْخُلَهَا جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ حَتَّى أنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَمَنَعَ أبَاهُ أنْ يَدْخُلَهَا ، فَقَالَ لَهُ : مَا لكَ ؟ قَالَ : وَيْلَكَ! وَاللهِ لاَ تَدْخُلُهَا أبَداً إلاَّ أنْ يَأْذنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَلِتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الأَعَزُّ وَمَنِ الأَذلُّ.
فَشَكَا عَبْدُاللهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا مَنَعَ ابْنَهُ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أنْ دَعْهُ يَدْخُلُ " فَقَالَ : أمَّا إذا جَاءَ أمْرُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَعَمْ. فَلَبثَ بَعْدَ أنْ دَخَلَ أيَّاماً قَلاَئِلَ ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } ؛ أي لا تَشغَلكُم أموالُكم ولا أولادكم عن ذكرَ اللهِ ، يعني الصَّلاةَ المفروضةَ ، والمعنى : لا تشغَلكُم أموالكم وحفظُها وتنميتها ، ولا تربيةُ الأولادِ وإصلاحُ حالهم عن طاعةِ الله وعن الصَّلاة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ أي ومَن ينشغِلْ بالمالِ والأولاد عن طاعةِ الله فأُولئك هم الْمَغْبُونُونَ لذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم ، وهلاكِ أنفُسهم التي هي رأسُ مالهم.
(0/0)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } ؛ معناهُ : وأنفِقُوا الأموالَ في الزَّكاة والجهادِ وغيرهما من الحقوقِ الواجبة من قبلِ أن يأتِيَ أحدَكم الموتُ فيعلم أنه ميِّت ، { فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } ؛ في الدُّنيا ؛ أي يتمَنَّى القليلَ من التأخيرِ ليتصَدَّق به ويكون من الصَّالِحين بالتلاقِي والتوبةِ واستئناف العملِ الصالح ، ولاَ ينفعهُ تَمَنِّيهِ عند ذلك ، والمعنى : إنه يستزيدُ في أجَلهِ حتى يتصدَّقَ ويُزَكِّي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } ؛ قِِيْلَ : إنَّ معناه وأحجُّ ، عن ابنِ عبَّاس. وقوله : { وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ } على قراءةِ مَن جزمَ عطفَهُ على موضعِ { فَأَصَّدَّقَ } لأنه على معنى إنْ أخرَجتَني أصَّدَّقُ وأكُنْ ، ولولا الفاءُ لكان فأَصَّدَّقْ مجزومٌ ، ومن قرأ (وَأكُونُ) فهو عطفٌ على لفظ { فَأَصَّدَّقَ }. وانتصبَ قوله تعالى { فَأَصَّدَّقَ } لأنه جوابُ التَّمنِّي ، فالفاءُ وأصله : فَأَتَصَدَّقَ.
(0/0)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } ؛ أي لا يُؤخِّرها عن الموتِ إذا جاء وقتُ إهلاكها ، { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ ، وبمن أخَّرَ في أجله أنه يتوبُ أو لا يتوبُ.
(0/0)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، وقوله : { لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } ؛ أي له الْمُلْكُ الدائمُ الذي لا يزولُ ، وله الحمدُ في السَّمواتِ والأرض ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ من أمُور الدُّنيا والآخرةِ ، { قَدِيرٌ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
وقولهُ تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } ؛ أي صوَّرَكم في أرحامِ الأُمَّهات ، فجعلَ صُورَكم أحسنَ من صُور سائرِ الحيوانات ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ؛ في الآخرةِ ، وباقي الآيتين ، { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي ألَمْ يأتِكُم خبَرُ الذين كفَرُوا من قبلِكم من الأُمم الخاليةِ كيف أذاقَهم اللهُ عقوبةَ تكذيبهم في الدُّنيا ولَهم في الآخرةِ عذابٌ جميعُ ، { ذَلِكَ } ؛ العذاب ، { بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالمعجزات ، { فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ؛ فقالوا آدَمِيٌّ مِثلُنا يَدعُونا إلى خلافِ دينِ آبائنا ، { فَكَفَرُواْ } ؛ بالكتُب والرُّسل وأعرَضُوا عن القبولِ منهم ، { وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ } ؛ عن إيمانِهم وطاعتهم ، { وَاللَّهُ غَنِيٌّ } ؛ عن أفعالِ العباد ، { حَمِيدٌ } ؛ في إنعامهِ عليهم.
ومعنى قولهِ { وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أصلُ الْوَبَالِ مِنَ الثُّقْلِ ، يقالُ : أمرٌ وَبيلٌ ؛ أي ثقيلٌ ، يسمى جزاءُ المعصية وَبَالاً لِثِقَلِهِ.
(0/0)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ } ؛ أي قال كفارُ مكَّة قولاً بالظنِّ غير يقينٍ أنَّهم لا يُبعَثون بعد الموتِ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحمَّدُ : { بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } ؛ بعدَ الموتِ ، { ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } ؛ في الدُّنيا { وَذَلِكَ } ؛ الجزاءُ والبعثُ ، { عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ؛ أي سهلٌ هيِّن ، { فَآمِنُواْ } ؛ يا أهلَ مكَّة ، { بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { وَالنّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا } ؛ يعني القرآنَ ، { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.
(0/0)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ } ؛ يعني يومَ القيامةِ يُجمَعُ فيه الأوَّلون والآخِرون ، { ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ } ؛ يَغْبنُ فيه أهلُ الحقِّ أهلَ الباطلِ ، وأهلُ الإيمانِ أهلَ الكفرِ ، فلا غُبْنَ أبْيَنُ منه ، هؤلاءِ يدخُلون الجنةَ وهؤلاء يدخُلون النارَ. والغُبْنُ : فَوْتُ الحظِّ والمرادِ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ وَقَدْ رَأى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار لَوْ أسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْراً. وَمَا مِنْ عَبْدٍ كَافِرٍ يَدْخُلُ النَّارَ إلاّ وَقَدْ رَأى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أحْسَنَ لِيَزْدَادَ حَسْرَةً ".
فالْمَغْبُونُ من غُبنَ أهلَهُ ومنازلَهُ من الجنَّةِ ، ويظهرُ يومئذ غُبْنُ كلِّ كافرٍ بتركِ الإيمان ، وغُبْنُ كلِّ كافرٍ بتقصيرهِ في الأحسن وتضييعهِ الأيامَ. { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
(0/0)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ أي ما أصابَ أحداً في البدنِ والأهل والمالِ إلاّ بعلمِ الله وقضائه ، { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ } ؛ أي مَن يصدِّقْ بأنَّ المصيبةَ من اللهِ ، { يَهْدِ قَلْبَهُ } ، للرِّضا والصبرِ ، ويقالُ : يُوَفِّقْهُ للاسترجاعِ.
وقرأ السُّلميُّ : (يُهْدَ قَلْبَهُ) عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِِلُهُ ، وقرأ طلحةُ بن مصرِّف بالهمزِ والرفعِ في قوله (يُهْدِئْ قَلْبَهُ) على معنى يُسْكِنُ قلبَهُ. { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } ؛ وذلك أنَّ الرجُلَ كان لا يستطيعُ أن يهاجرَ مع أزواجهِ وأولاده ، وكان إذا أرادَ أن يُهاجر بنفسهِ تعلَّقت به امرأتهُ وأولاده وقالوا له : إلى مَن تدَعُنا ؟ نُنشِدُكَ اللهَ أن تجلِسَ وتدعَ الهجرةَ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ بالمدينةِ ، ينهَاهُم عن ذلك ويحذِّرُهم طاعةَ الأزواجِ والأولادِ في معصية الله ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ }.
ودخول (مِنْ) هنا يدلُّ على أنه ليس جميعُ الأزواجِ والأولاد عدُوّاً ، وإنما منهم من يحبُّ هلاكَكُم ليرثَ مالَكم ، وأيُّ عدُوٍّ أعدَى ممن يحبُّ موتَكَ لمنفعةِ نفسه ، ومنهم من يحملُوكم على أنْ تَعصُوا اللهَ بأخذِ غيرِ الواجب ، ويمنعُ الواجبَ لمنفعةٍ ترجعُ إليهم ، ومعنى قولهِ تعالى { فَاحْذَرُوهُمْ } أي فاحذرُوا أن تُطِيعُوهم وتدَعُوا الهجرةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وذلك أنَّ الرجُلَ كان إذا أرادَ الجهادَ والهجرة عرضَ على امرأتهِ وقَرائِبه إذا أبَوا عليه أقسَمَ أنْ لا يُنفِقَ عليهم ، فإذا عادَ كفَّ عن النفقةِ ليَمِينهِ ، فقيل لَهم : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ } أي وإنْ تَعفُوا عنهم وتُجاوزُوا عن صَدِّهم إياكم ، وتَغفِرُوا ذُنوبَهم بعدَ ما رجَعتُم وبعدَ ما اجتَمَعتُم في دار الهجرة ، ولم تُكافِؤُوهم عن سوءِ ما فَعلوهُ ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } يغفرُ لَكم كذلكَ كثيراً من ذُنوبكم.
وَقِيْلَ : معنى الآية : إنَّ الرجل من هؤلاءِ إذا رأى الناسَ قد سبَقوهُ إلى الهجرةِ وتفَقَّهوا في الدِّين همَّ أن يُعاقِبَ زوجتَهُ وأولادَهُ الذين يُبطِئونَهُ عن الهجرةِ ، وإنْ لَحِقُوا به في الهجرةِ لم يُنفِقْ عليهم ، فأنزلَ اللهُ تعالى { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
(0/0)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ؛ أي بلاءٌ وشُغْلٌ عن الآخرةِ ، والإنسانُ بسبب المال والولدِ يقعُ في العظائمِ ويتناولُ الحرامَ إلاَّ مَن عصمَهُ اللهُ ، { وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ؛ إنْ لم يشغَلهُ مالهُ وولدهُ عن طاعةِ الله.
وعن بُرَيدَةَ قال : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثِرَانِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمِنْبَرِ ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضَعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " صَدَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } نَظَرْتُ إلَى هَذيْنِ الصَّبيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثرَانِ ، فَلَمْ أصْبرْ عَنْهُمَا حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا " ثُمَّ أخَذ رََسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خُطْبَتِهِ ".
(0/0)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ؛ أي اتَّقُوا اللهَ جُهدَكم وقَدِّروا سَعيَكم باجتناب محارمهِ وأداء فرائضهِ وجميع طاعاتهِ ، { وَاسْمَعُواْ } ؛ ما تُؤمَرون به ، { وَأَطِيعُواْ } ؛ أمرَ رسولهِ ، { وَأَنْفِقُواْ } ؛ مِن أموالِكم في طاعةِ الله يكن ذلك ، { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } ؛ لأنَّ نفعَ الآخرةِ أعظمُ ، ويقالُ : الخيرُ ها هنا المالُ ، كأنَّهُ قال : أنفِقُوا مَالاً من أموالِكم ، وهذه الآية نسَخَتْ قولَهُ تعالى : { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }[آل عمران : 102].
وقولهُ تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي من يدفَعْ عنه بُخْلَ نفسهِ فأُولئك هم الْمُزَكُّونَ لطلبتهم. والشُّحُّ الذي في اللغة : منعُ الواجب ، ومن الشُّحِّ أن يعمدَ الرجلُ إلى مالِ غيره فيأكلهُ.
(0/0)
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ؛ معناهُ : إنْ تُعطوا في الصَّدقة مالاً عن حُسبَةٍ صادقةٍ من قُلوبكم ، يَقْبَلْهُ منكم ويُضاعِفْهُ لكم ويغفِرْ لكم ذُنوبَكم ، { وَاللَّهُ شَكُورٌ } ؛ يقبَلُ اليسيرَ ويُعطِي الجزيلَ من الثواب ، { حَلِيمٌ } ؛ لا يعجِّلُ بالعقوبةِ على من بَخِلَ بالصَّدقة ، واستحقَّ العقوبةَ على ذنوبهِ ، { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ؛ أي يعلمُ ما تُكِنُّهُ صدورُكم مما لا تعلمهُ الْحَفَظَةُ ، ويعلمُ كلَّ ما ظهرَ مما سقطَ من ورقةٍ ، وما قَطَرَ من قطرِ المطرِ ، وهو ، { الْعَزِيزُ } ؛ في مُلكه وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } ؛ في أمرهِ وقضائه.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
{ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون داخِلُون فيهِ ؛ لأن خطابَ الرئيسِ خطابٌ للأَتباعِ ، خُصوصاً إذا كانوا مأْمُورين بالاقتداءِ به ، والمعنى : يا أيُّها النبيُّ إذا أردتَ أنتَ وأُمَّتُكَ الطلاقَ ، فطَلِّقوا النساءَ لعِدَّتِهِنَّ ، وهذا كقوله تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ }[المائدة : 6] أي أرَدتُم القيامَ.
والطلاقُ للعدَّةِ هو أن يطلِّقَها في طُهرٍ لم يَمسَّها فيه ، لما رُوي " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ سُئِلَ عَنِ الطَّلاَقِ : " طَلِّقْهَا طَاهِراً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ ، أوْ حَامِلاً قَدِ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا " ويقالُ في معنى الطَّلاقِ للعدَّة : أن يُفرِّقَ الطلاقَ الثلاثَ على أطْهَار العدَّةِ ، فيطلِّقُها في كلِّ طُهرٍ لم يمسَّها فيه تطليقةً.
والطلاق السُّني : أن يُطلِّقَها في طُهرٍ لم يُجامِعها فيه ، فقد رُوي : " أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى ، ثُمَّ تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا ، فَإذا أرَادَ أنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ قَبْلَ أنْ يُجَامِعْهَا " فتلكَ العدَّةُ التي أمرَ اللهُ أن تطلَّقَ لها النساءُ.
والطلاقُ البْدِعْيُّ : أن يقعَ في حال الحيضِ ، أو في طُهرٍ قد جامَعها فيه ، وهو واقعٌ وصاحبهُ آثِمٌ ، ورُوي : " أنَّ ابْنَ عُمَرَ طَلَّقَ امْرأتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ ، فَذكَرَ عُمَرُ ذلِكَ لِلنِّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ، فَإذا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ " قُلْتُ : وَيَحْتَسِبُ لَهَا ؟ قَالَ : " فَمَهْ ؟ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ } ؛ إنما أمرَ بإحصاءِ العدَّة لتوزيعِ الطَّلاق على الأطهار ، والمعنى بذلكَ : أحصُوا عدَّةَ المطلَّقات لِمَا تُريدون من رجعةٍ أو تسريح ، فإذا حاضَتِ المعتدَّةُ حيضةً وطَهُرت ، فأرادَ الزوجُ أن يطلِّقَها ثانيةً قبلَ أن تحيضَ ، فإذا حاضَتْ وطَهُرت طلَّقَها أُخرى إنْ شاءَ ، فتَبينُ الثلاثُ وقد بقي من عدَّتِها حيضةٌ.
قَوْلُه تَعَالَى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ } ؛ أي أتَّقوهُ في النِّساء إذا طلَّقتمُوهن واحدةً أو اثنتينِ أو ثلاثاً ، { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } ؛ التي طلَّقتُموهن فيها ، وهي بيوتُ أزواجِهن ، والمعنى : اتَّقوا اللهَ فلا تَعْصُوهُ فيما أمَرَكم به ، فلا يجوزُ للزوجِ أن يُخرجَ المطلَّقة المتعدَّة من مَسْكَنِهِ الذي كان يُساكنها فيه قبلَ الطَّلاق.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } ؛ أي ولا يَخرُجْنَ من قِبَلِ أنفُسِهن حتى تنقضي عدَّتُهن ، ولهذا لا يباحُ لها السفرُ في العدَّة ، ولا يباحُ لها التزوُّج وإنْ أذِنَ لها الزوجُ. وأما المنكُوحة فيجوزُ لها الخروج من المنْزِل بإذنِ الزوج.
قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي لا يَخرُجن إلاَّ أن يكون خروجُهن معصيةً ، وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : إلاَّ أنْ يَزْنِينَ فَيَظْهَرُ ذلِكَ الزِّنَا عَلَيْهَا بشَهَادَةِ أرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهُودِ ، فَيَخْرُجْنَ لإقَامَةِ الْحُدُودِ).
(0/0)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } معناهُ : إذا قَارَبْنَ انقضاءَ عدَّتِهن فراجِعُوهن بحُسْنِ الصُّحبة قبلَ أن يَغتسِلْنَ من الحيضةِ الثالثة ، أو يترُكوا معراجعتَهن بإيفاءِ المهرِ ونفقة العدَّة حتى تنقضِي عدَّتُهن ، ولا يجوزُ أن يكون المرادُ بهذه الآية حقيقةُ بلوغِ الأجلِ لأنه لا رجعةَ بعد بلُوغِ الأجلِ الذي هو انقضاءُ العدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } ؛ أي أشهِدُوا على الطَّلقة والرجعةِ ذوَى عدلٍ منكم من المسلمين ، وهذا أمرُ استحبابٍ احتياطاً من التجاحُدِ ، كي لا يجحدَ الزوجُ الطلاقَ ، ولا تجحدُ المرأةُ بعد مُضِيِّ العدَّة الرجعةَ. ثم قال للشُّهود : { وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ أي ذلك الذي ذُكِرَ لكم من الأمرِ والنهي والطَّلاق والرجعةِ وإقامةِ الشَّهادة ، يوعَظُ به مَن كان يؤمنُ باللهِ ، ويصدِّقُ بالبعثِ بعدَ الموتِ ؛ لأنَّهم همُ الذين ينتفعون بالوعظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } ؛ أي ومن يتَّقِ اللهَ بامتثالِ أوامره واجتناب نواهيه يجعَلْ له مَخْرجاً من المعصيةِ إلى الطاعةِ ، ويقالُ : من الحرامِ والشُّبهات إلى الحلالِ. وَقِيْلَ : يجعَلْ له مَخرجاً من شُبهات الدنيا ومن غمرات الموت ، ومن شدائدِ يوم القيامة ، { وَيَرْزُقْهُ } ؛ في الآخرةِ من نعيم الجنَّة ، { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } ؛ ويقالُ : يرزقه في الدنيا من حيث لا يأمَلُ ، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أكْثَرَ مِنَ الاسْتِغْفَار جَعَلَ اللهُ لَهُ مِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجاً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ؛ أي من يُفَوِّضْ أُمورَهُ إلى اللهِ عالِماً واثقاً بحُسنِ تقديرهِ وتدبيره فهو كَافِيه ، لا يحتاجُ إلى غيرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } ؛ أي مُنَفِّذُ أمرهِ ممضي إرادتهِ ، لا يُمنَعُ عمَّا يريدُ ، { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } ؛ من أحكامه مِقداراً وأجَلاً معلوماً فلا عذر للعبد في تقصيرٍ يقعُ منه.
(0/0)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } ؛ " وذلك أنَّهُ لَمَّا أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، قَالَ : أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ نَاساً يَقُولُونَ : قَدْ بَقِيَ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيْهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ : " وَمَنْ هُمْ ؟ " قَالَ : الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَذوَاتُ الْحَمْلِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ " { وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ } لكبرهِنَّ { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي إن شكَكتُم في عدَّتِهن ، { فَعِدَّتُهُنَّ } إذا طُلِّقن بعدَ الدُّخول { ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ }.
وقولهُ تعالى : { وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ } معناهُ : واللاَّتي في حالِ الصِّغَرِ هنَّ بمنْزِلة الكبيرةِ التي قد يَئِست ، عدَّتُهن ثلاثةُ أشهر. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ؛ معناهُ : وذواتُ الأحمالِ عدَّتُهن تنقضِي بوضعِ ما في بُطونِهن من الحملِ ، مطلقةً كانت الحاملُ أو مُتَوفَّى عنها زوجُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } ؛ أي من يَخْشَ اللهَ ويَمتَثِلْ أوامرَهُ ويجتنِبْ نواهيَهُ يُيَسِّرْ عليه أمرَهُ ويُوفِّقه للعبادةِ ، ويسهِّلُ عليه أمرَ الدنيا والآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } ؛ أي ذلك الحكمُ الذي قد سبقَ حكمُ اللهِ في الطَّلاق والعدَّة والرجعةِ أنزَلَهُ إليكم ، { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } بطاعتهِ وترك معصيتهِ ، { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } ؛ أي يَسْتُرْ ذُنوبَهُ عنه ويدفعُ عنه عقابَها ويُعطيه على ذلك ثَواباً حَسناً في الجنَّة.
(0/0)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ } أي أسكِنُوا المطلَّقات حيث سَكنتُم من البيوتِ التي تَجِدُونَ أن تُسكِنُوهنَّ فيها على قدر سِعَتِكُمْ وطاقتِكُم ، فإنْ كان مُوسِراً أوسعَ عليها في المسكنِ والنفقة ، وإنْ كان فقيراً فعلى قدر ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ } ؛ أي لا تُضَارُّوهُنَّ في المسكنِ ولا في أمرِ النفقة ، { لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } ؛ يعني أعطوهُنَّ في المسكنِ ما يكفيهِنَّ لجلوسهن وطهارتِهن ، ومن النفقةِ ما يكون كَفَافاً لهن بالمعروفِ ، وهذا عامٌّ في الْمَبْتُوتَةِ والرجعيَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ؛ يعني تجبُ نفقة الحاملِ إلى أن تضعَ ، سواءٌ طالت مدَّة الحملِ أم قصُرت ، لأن عدَّتها تنقضِي بوضعهِ ، فلها النفقةُ إلى أن تضعَ حَملها. ولا نفقةَ للمتوفَّى عنها زوجُها لأنَّ قولَهُ تعالى { أَسْكِنُوهُنَّ } وقولَهُ تعالى { فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ } خطابٌ للأزواجِ وقد زالَ عنهم الخطابُ بالموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ يعني بعدَ وضعِ الحملِ إذا أرضعنَ لكم أولادَكم فأعطُوهنَّ أُجرةَ الرَّضاعِ ، وهذا دليلٌ بأن الأُمَّ أولى بإرضاعِ الولدِ بأُجرة المثلِ ، وأولى بالحضانةِ من كلِّ أحدٍ ، وفيه دليلٌ أنَّ الأُجرة لا تُستحَقُّ بالعقدِ ، وإنما تستحَقُّ بالفراغِ من العملِ ؛ لأنَّ الله تعالى أوجبَها بعدَ الرضاعِ.
وقولهُ تعالى : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } ؛ أمرَ الرجلَ والمرأة أن يأْتَمروا في الولدِ بالمعروفِ ، وهو أن يُنفق الرجلُ بنفقةِ الرَّضاع من غيرِ تَقتيرٍ ولا إسرَافٍ ، أو تقومَ المرأةُ على ولدها في إرضاعهِ وتتعهَّدهُ من غير تقصيرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } ؛ معناهُ : وإن تضايَقتم وتَمانعتم فأبَتِ الأُم أنْ تُرضِعَ الولدَ ، أو طَلبت على ذلك أكثرَ من أُجرة المثلِ ، وأبَى الأبُ أن يعطِيَها ما طَلبت ، فَلْيَطْلُب الأبُ للولدِ مرضعةً غير الأُم ، إلاَّ أنه يجب أن يكون في بيتِ الأُم لأَنَّ الأُمَّ أحقُّ بإمساكِ الولد.
(0/0)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } ؛ أي لِيُنفق غَنِيٌّ على نسائهِ وأولادهِ على قدر غناهُ ، { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ } ؛ معناهُ : ومن ضُيِّقَ عليه رزقهُ فليُنفِقْ مما أعطاهُ الله من المالِ ، { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } ؛ من الرِّزقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } ؛ فيه تسليةٌ للصحابةِ ، فإن أكثرَهم كانوا فُقراء ، فوعَدَهم اللهُ اليُسْرَ بعدَ العُسْرِ ، ففتحَ اللهُ عليهم بعدَ ذلك وجعلَ يُسراً بعد عُسرٍ. ويستدلُّ من هذه الآيةِ على أنَّ الواصِي يأمرُ المرأةَ أن تَستَدِينَ على زوجِها المعسرِ مقدارَ ما تستحقُّ عليه من النفقةِ ، لأن الْمُعسِرَ يُرجَى له اليُسْرُ.
(0/0)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } ؛ أي وكم مِن أهلِ بَلدَةٍ عَتَوا من أمرِ ربهم ورُسلهِ ؛ أي جاوَزُوا الحدَّ في المعصيةِ ، { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً } ؛ فجازَيناهم في الآخرةِ جَزاءً شديداً على كلِّ صغيرةٍ وكبيرة ، { وَعَذَّبْنَاهَا } ؛ وعذبنَاهُم في الدنيا ، { عَذَاباً نُّكْراً } ؛ أي عَذاباً خَارجاً عن العادةِ لم يَعهَدُوا مثلَهُ.
(0/0)
فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } ؛ أي فذاقُوا جزاءَ كُفرِهم ، { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } ؛ أي هلاكَ النُّفوس وهي رأسُ أموالهم ، { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ } ؛ في الآخرةِ ، { عَذَاباً شَدِيداً } ؛ يعني الذي نزَلَ بهم في الدُّنيا ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ } ؛ أي يا أُولي العقُولِ لا تَسِيرُوا بسَيرِهم فينْزِلُ بكم ما نزلَ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً } { الَّذِينَ آمَنُواْ } نعتُ أُولِي الألباب ، وقولهُ تعالى { قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً } أي أنزلَ إليكم كِتَاباً آتاهُ رسُولاً ليؤدِّيَهُ إليكم. وَقِيْلَ : معناهُ : قد أنزلَ الله إليكم قُرآناً وأرسلَ رَسُولاً ، { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ } ؛ يعني الرسولَ ، { لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }. وقولهُ تعالى : { قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً } يعني الجنَّةَ التي لا ينقطعُ نَعِيمُها.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } ؛ أي سبعَ أرضِين أيضاً ، وليس في القرآنِ آية تدلُّ على أن الأَرضِين سبعٌ غيرُ هذهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } ، أي تنْزِلُ الملائكةُ بالتدبيرِ من اللهِ تعالى ، ومن سماءٍ إلى سماءٍ ، ومن السَّماء الى الأرضِ بحياةِ بعضٍ وموت بعض ، وغِنَى بعضٍِ وفَقْرِ بعضٍ ، وسلامةِ هذا وهلاكِ هذا ، { لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } ؛ فلا يخفَى عليه شيءٌ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَسَّمَ الأَيَامَ بَيْنَ نِسَائِهِ وَكَانَ لَهُ تِسْعُ نِسْوَةٍ ، وَكَانَ لِكُلِّ امْرَأةٍ مِنْهُنَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ ، ثُمَّ إنَّ حَفْصَةَ زَارَاتْ أبَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ ذلِكَ الْيَوْمُ لِعَائِشَةَ ، فَدَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلِكَ الْيَوْمَ بَيْتَ حَفْصَةَ فَوَجَدَ فِيْهِ جَاريَتَهُ مَاريَّةُ فَأَخْلاَ بهَا ، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ إلَى مَنْزلِهَا ، وَقَفَتْ حَفْصَةُ عَلَى ذلِكَ الْبَاب فَلَمْ تَدْخُلْ حَتَّى خَرَجَتْ مَاريَّةُ ، ثُمَّ دَخَلَتْ فَقَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنِّي قَدْ رَأيْتُ مَنْ كَانَ مَعَكَ فِي الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْغَيْرَةَ وَالْكَآبَةَ فِي وَجْهِهَا قَالَ : " اكْتُمِي عَلَيَّ ، وَلاَ تُخْبرِي عَائِشَةَ بذلِكَ " ثُمَّ قَالَ : " هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ " يَعْنِي مَاريَّةَ ، فَأَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَ النَّبيَّ بذلِكَ ، فَدَعَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ وَقَالَ لَهَا : " مَا الَّذِي حَمَلَكَ عَلَى ذلِكَ ؟ " قَالَتْ : وَمَنِ الَّذِي أخْبَرَكَ ؟ قَالَ : " أخْبَرَنِي الْعَلِيمُ الْخَبيرُ ".
فَغَضِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَفْصَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَاعْتَزَلَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ ، فَمَكَثَ سَبْعاً وَعِشْرِينَ لَيْلَةً يَنْتَظِرُ مَا يَنْزِلُ فِيْهنَّ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذهِ الآياتِ. ومعناها : يا أيُّها النبيُّ لِمَ تحرِّمُ ما أحَلَّ اللهُ لكَ ، { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } ؛ طالباً رضَى أزواجِكَ ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ } ؛ لِمَا كان منكَ من التحريمِ ، { رَّحِيمٌ } ؛ بكَ حيث رخَّصَ لك الخروجَ منه بالكفَّارة ، فأعتقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رقبةً وعادَ إلى ماريَّة ".
ورُوي : " أنَّ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا اسْتَأْذنَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي زيَارَةِ أبيهَا فِي يَوْمِهَا ، فَأَذِنَ لَهَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهَا ، فَمَضَتْ ، فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جَارِيَتِهِ مَاريَّةَ الْقِبْطِيَّةَ فَأَدْخَلَهَا فِي حِضْنِهِ ، وَكَانَ ذلِكَ فِي يَوْمِ حَفْصَةَ ، فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتْ بَابَ بَيْتِهَا مُغْلَقاً ، فَجَلَسَتْ عَلَى الْبَاب حَتَّى خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقاً وحَفْصَةُ تَبْكِي ، فَقَالَ لَهَا : " مَا يُبْكِيكِ ؟ " قَالَتْ : إنَّمَا أذِنْتَ لِي بالزِّيَارَةِ مِنْ أجْلِ هَذا ؛ أدْخَلْتَ أمَتَكَ بَيْتِي وَوََقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي ؟ مَا رَأيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقّاً ، مَا قَطُّ صَنَعْتَ هَذا بامْرَأةٍ مِنْ نِسَائِكَ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " هِيَ جَارِيَتِي فَلاَ أحَلَّهَا اللهُ ، اسْكُتِي هِيَ عَلَيَّ حَرَامٌ ، ألْتَمِسُ بذلِكَ رضَاكِ ، وَلاَ تُخْبرِي بذلِكَ امْرَأةً مِنْهُنَّ ، وَهَذِهِ أمَانَةٌ عِنْدَكِ ".
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَتْ حَفْصَةُ عَلَى الْجِدَار الَّذِي كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ لَهَا : ألاَ أبَشِّرُكِ يَا عَائِشَةُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ حَرَّمَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ ، وَقَدْ أرَاحَنَا اللهُ مِنْهَا. وَكَانَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَِتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ ، فَغَضِبَ عَلَى حَفْصَةَ وَقَالَ : " مَا حَمَلَكِ عَلَى ذلِكَ " ، ثُمَّ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ".
(0/0)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } أي وجبَت لكم كفَّارةُ أيمانِكم ، { وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ } ؛ أي مُتولٍّ أُمورَكم وهو أولى أن يُؤثِرُوا مَرضَاتَهُ ، { وَهُوَ الْعَلِيمُ } ؛ بما فيه صلاحُ خَلقهِ ، { الْحَكِيمُ } ؛ في تدبيرِ أمرهِ. وإنَّما سُميت الكفَّارَةُ تَحِلَّةً ؛ لأنَّها تجبُ عند انحلالِ اليمين ، قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : قَدْ بَيَّنَ اللهُ لَكُمْ كَفَّارَةَ أيْمَانِكُمْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، وَأمَرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَيُرَاجِعَ جَاريَتَهُ مَاريَّةَ).
(0/0)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً } ؛ يعني إسرارَهُ إلى حفصةَ ، فلمَّا أخبرت عائشةَ به أطلَعَ اللهُ نَبيَّهُ عليه السلام على ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ } ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَمَا رَأى الْكَآبَةَ فِي وَجْهِِهَا وَالْغَيْرَةَ أسَرَّ إلَيْهَا شَيْئَيْنِ : تََحْرِيمُ الْجَاريَةِ ، وَقَالَ : " أُخْبرُكِ يَا حَفْصَةُ أنَّ أبَاكِ وَأبَا بَكْرٍ سَيَمْلِكَانِ أُمَّتِي بَعْدِي " فلمَّا أظهرَهُ اللهُ عليه أخبرَ حفصةَ بما قالت لعائشةَ من تحريمِ الجاريةِ ، وأعرضَ عن ذكرِ خلافة أبي بكرٍ وعمرَ ".
وقرأ الحسنُ البصري والكسائي وقتادة (عَرَفَ بَعْضَهُ) بالتخفيفِ أي غَضِبَ على حفصةَ مِن ذلك وجَارَاها فطلَّقَها ، من قولِ القائل لِمَن أساءَ إليه : لأَعْرِفَنَّ لكَ ما فعلتَ ؛ أي لأُجازينَّكَ عليه ، فجَازَاها رسولُ اللهَ صلى الله عليه وسلم بأنْ طلَّقَها ، فلما عَلِمَ عمرَُ رضي الله عنه بذلك قالَ : لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّاب خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
وَنَزَلَ جِبْرِيلُ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَهُ : رَاجِعْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ ، وَهِيَ إحْدَى نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ ، فَرَاجَعَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قال مقاتلُ : (لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ ، وَإنَّمَا هَمَّ بهِ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ لَهُ : لاَ تُطَلِّقْهَا فَإنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَهِيَ مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَةِ ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا) ، وكان سفيانُ الثوريُّ يقول : (مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطٌّ ، وَمَا زَالَ التَّغَافُلُ مَنْ فِعْلِ الْكِرَامِ ، عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَفْصَةَ بَعْضَ مَا فَعَلَتْ ، وَأعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ؛ أي لَمَّا أخبرَ حفصةَ بما أظهرَهُ اللهُ عليه ، { قَالَتْ } ؛ لَهُ : { مَنْ أَنبَأَكَ هَـاذَا } ؛ أي من أخبَركَ أنِّي أفشيتُ سِرَّكَ ؟ { قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ }.
(0/0)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ } ؛ معناهُ : إنْ تَتُوبَا إلى اللهِ من إظهار الغَيرَةِ وإيذاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتعاوُنِ عليه ، { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؛ أي مَالَتْ إلى الإثمِ وعَدَلَتْ عن الحقِّ ، وهو أنَّهما أحبَّتا ما كَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ } أي تعَاوَنا عليه بالإيذاءِ وإظهار الغَيْرَةِ عليه من الجاريةِ ، { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ } ؛ يتولَّى حِفْظَهُ ونَصرَهُ ودفعَ الأذيَّةِ عنهُ ، { وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أبُو بكرٍ وعُمرُ يتولَّيانهِ وينصُرانهِ على مَن عاداهُ ، { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } ؛ أعوانهُ وأنصارهُ.
وعن ابنِ عبِّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : (حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخطَّاب رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نِسَاءَهُ ، دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَأنَا أرَى فِي وَجْهِهِ الْغَضَبَ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا شَقَّ عَلَيْكَ مِنْ أمْرِ النِّسَاءِ ؟ فَإنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإنَّ اللهَ مَعَكَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، وَأنَا وَأبُو بَكْرٍ وَالْمَؤْمِنُونَ مَعَكَ ، وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ وَأحْمَدُ اللهَ بكَلاَمٍ ، إلاَّ رَجَوْتُ أن يَكُونَ اللهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أقُولُ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } ).
وعن ابنِ عبَّاس قالَ : (سَأَلْتُ عُمَرَ رضي الله عنه فَقُلْتُ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأتَانِ اللَّتَانِ تَظَاهَرَا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ).
ثُمَّ أخَذ عُمَرُ رضي الله عنه يَسُوقُ الْحَدِيثَ قَالَ : (كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُوْماً نَغْلِبُ نِسَاءََنَا ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْماً تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ ، قَالَ : فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأتِي فَإذا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فأَنْكَرْتُ أنْ تُرَاجِعَنِي ، فَقَالَتْ : وَمَا يُنْكَرُ أنْ أُرَاجِعَكَ ؟ فَوَاللهِ إنَّ أزْوَاجَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ. قَالَ : فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ : أتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قُلْتُ : وَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللِّيْلِ ؟ قَالَتْ نَعَمْ ، قُلْتُ : أفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أنْ يَغْضَبَ اللهُ لِغَضَب رَسُولِهِ فإذَا هِيَ هَلَكَتْ؟! لاَ تُرَاجِعِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَسَلِينِي مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّكِ إنْ كَانَتْ جَارَتَكِ هِيَ أوْسَمُ وَأحَبُّ إلَى رَسُولِ اللهِ مِنْكِ) يَعْنِي عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا.
قرأ أهلُ الكوفة (تَظَاهَرَا عَلَيْهِ) بالتخفيفِ ، وقرأ الباقون بالتشديدِ.
(0/0)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
وقولهُ تعالى : { عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } ؛ هذا إيعادٌ وتخويفٌ لِحَفصةَ وعائشةَ وسائرِ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بخيرٍ منهُنَّ إنْ أحوجنَهُ إلى مفارقتِهن ، و { عَسَى } من اللهِ واجبَةٌ ، { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ } ؛ نعتٌ للأزواجِ اللاتِي كان يَبدِّلهُ لو طلَّقَ نساءَهُ ، ومعنى { مُسْلِمَاتٍ } أي خاضعاتٍ للهِ بالطاعة ، مسلماتٍ لأمرِ الله وقضائه ، أي مصدِّقاتٍ مؤمناتٍ بتوحيدِ الله الأَلسُنِ والقلوب ، { قَانِتَاتٍ } ؛ أي طائعاتٍ لله والنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { تَائِبَاتٍ } ؛ أي راجعاتٍ إلى ما يحبُّه اللهُ ، { عَابِدَاتٍ } ؛ للهِ متَذلِّلاتٍ لله ولرسولهِ ، { سَائِحَاتٍ } ؛ أي صائماتٍ ، { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } ؛ ظاهرُ المرادِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } ؛ أي يا أيُّها الذين آمَنُوا ادفَعُوا عن أنفُسِكم وأهلِيكُم ناراً ، { وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } ، حطَبُها الناسُ والحجارةُ ، يعني حجارةَ الكبريتِ ، والمعنى : اعمَلُوا بطاعةِ الله وانتَهُوا عن معصيتهِ ، وعلِّموا أولادَكم وأهليكم الاجتنابَ عما تجبُ لهم به النارُ. وعن عمرَ رضي الله عنه : " أنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ نَقِي أنْفُسَنَا ، فَكَيْفَ لَنَا بأَهْلِنَا ؟ قَالَ : " تَنْهَوْهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللهُ عَنْهُ ، وَتَأْمُرُوهُمْ بمَا أمَرَكُمُ اللهُ بهِ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } ؛ أي على النار ملائكةٌ غِلاَظُ الأخلاقِ شِدَادٌ أقوياءُ الأخذِ والعقوبةِ ، يدفعُ الواحدُ منهم في الدفعةِ الواحدة سبعين ألْفاً في جهنَّمَ ، لم يخلُقِ الله فيهم شيئاً مِن الرحمةِ ، { لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ } ؛ من تعذيبٍ أهلِها ، { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ؛ من ذلك ، جعلَ اللهُ سُرورَهم في تعذيب المعذبين كما جعلَ سُرورَ المؤمنين في الجنَّة. وجاء في الخبرِ : " أنَّ الْمَلَكَ مِنْهُمْ يَكْسِرُ عِظَامَ الْمُعَذب ، فيَقُولُ لَهُ : ألاَ تَرْحَمُنِي ؟ فَيَقُولُ لَهُ : كَيْفَ أرْحَمُكَ وَأرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لَمْ يَرْحَمْكَ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ } ؛ أي لا تَعَتذِرُوا اليومَ فيما قدَّمتُم لأنفُسِكم ، إنه لا تُقبَلُ منكم الأعذارُ ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا ، ولا تُظلَمون بزيادةٍ على ما تستحقُّون من العذاب.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : هِيَ النَّدَمُ بالْقَلْب ، وَالاسْتِغْفَارُ باللِّسَانِ ، وَالإقْلاَعُ بالْبَدَنِ ، وَالإضْمَارُ عَلَى أنْ لا يَعُودَ). " وعن معاذِ بن جبلٍ قالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ ؟ قَالَ : " أنْ يَتُوبَ التَّائِبُ ثُمَّ لاَ يَرْجِعُ فِي ذلِكَ ، كَمَا لاَ يَعُودُ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ " ".
قَالَ ابنُ مسعودٍ : (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أنْ تُكَفِّرَ كُلَّ سَيِّئَةٍ) ، وقال أبو ذرٍّ : (النَّصُوحُ : الصَّادِقَةُ) أي يتُوبوا توبةً صادقةً ، يقالُ : نَصحتُه أي صدَّقتُه. وَقِيْلَ : النَّصُوحُ المستقيمةُ الُمُتْقَنَةُ التي لا يلحقُها النقصُ والإبطالُ. وقال الفُضيل : (التَّوْبَةُ النَّصُوحُ : أنْ يَكُونَ الذنْبُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ ، وَلاَ يَزَالُ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ) ، وقال أبُو بكرٍ الورَّاقُ : (هُوَ أنْ تَضِيقَ الأَرْضُ عَلَيْكَ بَما رَحُبَتْ ، وَتَضِيقَ عَلَيْكَ نَفْسُكَ كَتَوْبَةِ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا). وقال الدقَّاقُ : (هِيَ رَدُّ الْمَظَالِمِ ، وَاسْتِحْلاَلُ الْخُصُومِ ، وَإدْمَانُ الطَّاعَاتِ).
وقال ذو النُّون : (عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةُ أشْيَاءٍ : قِلَّةُ الْكَلاَمِ ، وَقِلَّةُ الطَّعَامِ ، وَقِلَّةُ الْمَنَامِ). وقال بعضُهم : هي أن يكون لصاحبها دمعٌ مسفوح وقلبٌ من المعاصِي جموحٌ ، فإذا كان كذلك فيه توبةٌ نصوحٌ.
وقال فتحُ الْمَوْصِليُّ : (عَلاَمَتُهَا ثَلاَثَةٌ : مُخَالَفَةُ الْهَوَى ، وَكَثْرَةُ الْبُكَاءِ ، وَمُكَابَدَةُ الْجُوعِ وَالظَّمَأ). وقال شقيقُ الْبَلْخِيُّ : (هِيَ أنْ يُكْثِرَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ الْمَلاَمَةَ ، وَلاَ يُقْلِعُ مِنَ النَّدَامَةِ). وقال الجنيدُ : (هِيَ أنْ يَنْسَى مَا سِوَى اللهِ ، وَلاَ يَذْكُرُ إلاَّ اللهَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ؛ هذا وعدٌ من اللهِ لأنَّ { عَسَى } من الله واجبَةٌ ، والصَّلواتُ الخمسُ كفَّاراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَتِ الكبائرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِيَّ } ؛ أي يُكرِمُ اللهُ تعالى المؤمنين بهذه الكرامةِ في يومٍ لا يسوءُ اللهُ النبيَّ ولا يُخجِلُهُ وَلا يسوء { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } ؛ والمعنى : لا يُدخِلُهم اللهُ النارَ.
وقوله : { نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ؛ ليدلهم في الجنَّة ، { وَبِأَيْمَانِهِمْ } ؛ يعني نورَ كتابهم الذي يُعطونَهُ بها ، { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } ؛ أي يقولون ذلك بعدَ ما ذهبَ نورُ المنافقِين ، والمعنى : أتْمِمْ لنا نُورَنا على الصِّراطِ إلى أن ندخلَ الجنة ، { وَاغْفِرْ لَنَآ } ؛ ما سَلَفَ من ذُنوبنا ، { إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من إتْمَامِ النور والمغفرة ، فيجيبُ الله دعاءَهم ويفعلُ ذلك لَهم ، فيكون الصِّراطُ على المؤمنين كما بين صنعاءَ والمدينة ، يمشِي عليه بعضُهم مثلَ البرقِ ، وبعضُهم مثلَ الريحِ ، وبعضهم كعَدْو الفرسِ ، وبعضهم يمشِي وبعضهم يزحفُ ، ويكون على الكافرين كحدِّ السيف مذهبه.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ } ؛ أي جاهِدِ الكفارَ بالسَّيف ، والمنافقين باللِّسان بالزَّجرِ والوعظِ حتى يُسلِمُوا ، وسَمَّاهما جِهَاداً لاشتراكِها في بذلِ الجهد ، { وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؛ أي على الفَرِيقين بالفعلِ والقول ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ وبيِّنْ أنَّ مصيرَهم في الآخرةِ إلى النار.
وقال الحسنُ : (كَانُوا أكْثَرَ مَنْ كَانَ يُصِيبُ الْحُدُودَ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ الْمُنَافِقُونَ ، فَأَمَرَ اللهُ أنْ يُغْلِظَ عَلَيْهِمْ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ). وعن ابنِ مسعود قال : (إذا لَمْ تَقْدِرُوا أنْ تُنْكِرُوا عَلَى الْفَاجِرِ - فـ - بوُجُوهٍ مَكْفَهِرَّةٍ).
(0/0)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا } ؛ أي فخَالفَتاهما في الدِّين ، قال ابنُ عباس : (مَا بَغَتِ امْرَأةُ نَبيٍّ قًطُّ ، فَأَمَّا خِيَانَةُ امْرَأةِ نُوحٍ ، فَإنَّهَا قَالَتْ لِقَوْمِهِ : إنَّهُ مَجْنُونٌ فَلاَ تُصَدِّقُوهُ ، وَأمَّا خِيَانَةُ امْرَأةِ لُوطٍ فَإنَّهَا كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أضْيَافِهِ ، كَانَ إذا نَزَلَ بلُوطٍ ضَيْفٌ باللَّيْلِ أوْقَدَتِ النَّارَ ، وَإذا نَزَلَ بالنَّهَار أدْخَنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أنَّهُ قَدْ نَزَلَ بهِ ضَيْفٌ). وقال الكلبيُّ : (أسَرَّتَا النِّفَاقَ ، وَأظْهَرَتَا الإيْمَانَ) ولأنَّ الخيانةَ في الفراشِ لا يجوزُ أن تكون مُرادَةً في هذه الآيةِ ؛ لأنَّها عيبٌ يرجعُ إلى الزوجِ فينَفِرُ الناسُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } ؛ أي لم يَدفَعَا عنهما عذابَ اللهِ ، أعلَمَ اللهُ تعالى أنَّ أحداً لا يُجزِي عن أحدٍ شيئاً ، وأنَّ الإنسان لا ينجُو إلاّ بعملهِ ، وقطعَ الله بهذه الآيةِ طمعَ مَن رَكِبَ المعصيةَ ، ورجَا أن ينفعَهُ صلاحُ غيرهِ ، وأخبرَ الله تعالى أن معصيةَ غيرهِ لا تضرُّه إذا كان مُطيعاً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ }.
(0/0)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } ؛ وهي آسيَةُ بنتُ مزاحم ، كانت قد آمَنت بموسَى عليه السلام ، فلمَّا عَلِمَ فرعون بإسلامِها وتَّدَ لها أربعةَ أوتادٍ في يدَيها ورجلَيها ، ومدَّها للعذاب وشدَّها على الأرضِ بالأوتادِ ، وألقَى على صدرها صخرةً عظيمةً وألقاها في الشمسِ.
فكانت الملائكةُ تُظِلُّها بأجنحتِها وأبصَرتِ الجنَّة وهي كذلكَ فقالَتْ : { رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ } ، فاستجابَ اللهُ دعاءَها وألحقَها بالشُّهداء ، ولم تجدْ ألَماً من عذاب فرعون لأنَّها قالت : { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي الكافرين أهلِ دين فرعون. وليس في هذه الآيةِ أنَّ فرعون قتلَها ، وقد اختُلِفَ في ذلك ، والأقربُ أنه أجابَ اللهُ دعاءَها فنجَّاها من فرعون وقومهِ.
وفي قولهِ تعَالَى في الآيةِ الأُولى { وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } تخويفٌ لحفصةَ وعائشة ، كأنه قالَ لعائشةَ وحفصة لا تَكُونا بمنْزِلة امرأةِ نوحٍ ولوط في المعصيةِ ، وكُونا بمنْزِلة امرأةِ فرعون ومريمَ.
(0/0)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } ؛ عطفَ مريمَ على امرأةِ فرعون ، وإحصانُ الفَرْجِ إعفافُهُ وحِفظُهُ عن الحرامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } ؛ أي في جيب دِرعِها ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام مدَّ جيبَ درعِها بإصبعهِ ، ثم نفخَ في جيبها فحمَلت ، وبالكنايةِ عن غير مذكور.
وقولهُ تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا } ؛ والشرائعِ التي شرَعَها اللهُ في كُتبه المنَزَّلة ، وقرأ عيسى الجحدري والحسن (بكَلِمَةِ رَبهَا) على التوحيدِ يعنُونَ عيسَى عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُتُبِهِ } ؛ أي وصدَّقت بكُتب الله تعالى وهو التوراةُ والإنجيل والفرقانُ وصُحف ابراهيم وموسى وداودَ ، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب (وَكُتُبهِ) بالجمعِ ، وتفسيرهُ ما ذكرناه ، وقرأ الباقون (وَكِتَابهِ) على الواحدِ ، والمرادُ به الإنجيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ } ؛ أي من الْمُطِيعِينَ للهِ ، وقال عطاءُ : (مِنَ الْمُصَلِّينَ ، كَانَتْ تُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ) تقديرهُ : وكانت من القَوْمِ القَانتِين ، ولم يقُل منَ القانتاتِ ؛ لأنَّ متعبَّدَها كان في المسجدِ مع العُبَّادِ.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمَلْ مِنْ النِّسَاءِ إلاَّ مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَآسْيَةُ أمْرَأةُ فِرْعَوْنَ ، وَإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ " وقال صلى الله عليه وسلم : " سَيِّدَاتُ نِسَاءِ أهْلِ الْجَنَّةِ أرْبَعٌ : مَرْيَمُ وَآسْيَةُ وَخَدِيجَةُ وَفَاطِمَةُ ".
وعن معاذِ بن جبلٍ قال : " دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ تَجُودُ بنَفْسِهَا فَقَالَ : " أتَكْرَهِينَ مَا نَزَلَ بكِ يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الْكَرْهِ خَيْراً كَثِيراً ، فَإذا قَدِمْتِ عَلَى ضَرَّاتِكِ فَأَقْرِئيهِنَّ مِنِّي السَّلاَمَ " قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَنْ هُنَّ ؟ قَالَ : " مَرْيَمُ بْنتُ عِمْرَانَ ، وَآسْيَةُ بنْتُ مُزَاحِمٍ ، وَكَلِيمَةُ بنْتُ عِمْرَانَ أُخْتِ مُوسَى " ، فقَالَتْ : بالرَّفَاهِ وَالْبَنِينِ ".
(0/0)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } ؛ أي تعالَى باستحقاقِ التعظيمِ الذي بيده إعطاءُ الْمُلْكِ وأخذهُ ، يؤتِي الْمُلْكَ مَن يشاءُ فيُعِزُّهُ ويَنْزَعُهُ ممن يشاءُ فَيُذِلُّهُ ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من الإعزاز والإذلالِ.
(0/0)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } ؛ معناهُ : الذي قدَّرَ الإماتةَ والإحياءَ ، { لِيَبْلُوَكُمْ } ؛ فيما بين الإحياءِ والإماتةِ ، { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ؛ اللاَّمُ في ليَبلُوَكم متعلَّقٌ بخلقِ الحياة دون خلقِ الموت ، لأنَّ الابتلاءَ في الحياةِ ، ومعنى { لِيَبْلُوَكُمْ } أي ليُعامِلَكم معاملةَ المختبر ، فيُجازيَكم على ما ظهرَ منكم لا على ما يعلمُ منكم ، ومعنى { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي أحسنُ عَقْلاً وأورَعُ عن محارمِ الله ، قال صلى الله عليه وسلم : " أتَمُّكُمْ عَقْلاً أشَدُّكُمْ خَوْفاً للهِ ، وَأحْسَنُكُمْ نَظَراً فِيْمَا أمَرَ اللهُ بهِ وَنَهَى عَنْهُ ".
وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأتْرَكُ لَهَا) وارتفعَ { أَيُّكُمْ } على الابتداءِ لأنه بتأْويلِ ألف الاستفهامِ ولا يعملُ فيها ما قبلَها ، تقديرهُ : ليَبلُوَكم أنتم أحسنُ عملاً أم غيركم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ؛ أي العزيزُ بالنقمةِ لِمَن لا يؤمنُ ، الغفورُ لِمَن تابَ وآمَنَ.
(0/0)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } ؛ أي مُطْبَقَةً بعضُها على بعضٍ مثل القُبَّةِ ، { مَّا تَرَى } ؛ أيُّها الرَّائي ، { فِي خَلْقِ الرَّحْمَـانِ مِن تَفَاوُتٍ } ، في مخلوقاتِ الرَّحمنِ من تَفَاوُتٍ ؛ أي لا ترَى بعضَها حِكمَةً وبعضَها عَبثاً ، ولا ترَى في السَّماء اضطِرَاباً وتبايُناً في الخِلقَةِ ، وقال مقاتلُ : (مَا تَرَى ابْنَ آدَمَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ مِنْ عَيْبٍ).
وقال قتادةُ : (مَا تَرَى فِيهَا خَلَلاً وَلاَ اخْتِلاَفاً) ، { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } ؛ أي كرِّر النظرَ هل ترَى في السمَّاء من شُقوقٍ أو صُدوعٍ أو خُروقٍ ، { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } ؛ أي إنْ لم تستَدركْ بالمرَّة الأُولى ، فرُدَّ البصرَ مرَّة أُخرى مُستقصياً ، وردِّدِ البصر مرَّة أُخرى بعدَ مرَّة ، { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً } ؛ صَاغِراً بمنْزِلة الخاسِئ وهو الذليلُ ، { وَهُوَ حَسِيرٌ } ؛ أي كَلِيلٌ منقطعٌ قد أعَيى بمنْزِلة الحسيرِ الذي طلبَ شيئاً فلم يجدْهُ كما يحسِرُ البعيرُ.
(0/0)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ؛ السَّماءُ الدُّنيا هي الأدنَى إلينا ، وهي التي يرَاها الناسُ ، والمصابيحُ : النجومُ ، واحدها مِصْبَاحٌ ، سُمِّيت بذلك ؛ لأنَّها تضيءُ كما يضيء الْمِصْبَاحُ ، ومِن ذلك الصُّبْحُ والصَّبَاحُ وهو السِّراجُ ، والنجومُ لثلاث خصالِ : زينة ، وعلامات يُهتدَى بها ، { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } أي ورُجُومٌ لِمَن يسترقُ السمعَ من الشياطين ، { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ } ؛ في الآخرةِ ، { عَذَابَ السَّعِيرِ } ؛ مع ما جعَلنا لهم في الدُّنيا من الرَّمي بالشُّهب.
(0/0)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } ؛ أي صَوْتاً قطيعاً كصوتِ الحِمَار ، وهو آخرُ ما يَنهَقُ بنَفَسٍ شديدٍ ، وهو أقبحُ الأصواتِ ، وإذا اشتدَّ لَهَبُ النار سُمِعَ لها صوتٌ شديدٌ كأنَّها تطلبُ الوقودَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهِيَ تَفُورُ } ؛ أي تَغلِي بهم كغَلِيِ الْمِرْجَلِ. وقال مجاهدُ : (تَفُورُ بهِمْ ، كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بالْحَب الْقَلِيلِ) ، والفَوْرُ ارتفاعُ الشيءِ بالغَلَيانِ.
(0/0)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } ؛ أي تكادُ تَنْشَقُّ وتَتَقَطَّعُ من تغيُّظِها على أهلها لتأخُذهم ، والمعنى : تكادُ النار يَنْفَرِقُ بعضُها من بعضٍ غَضَباً على الكفار ، وانتقاماً لله عَزَّ وَجَلَّ منهم ، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ } ؛ من الكفار ؛ أي جماعةٌ ، { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ } ؛ أي النارُ ، { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } ؛ أي رسولٌ مُنذِرٌ ، وهذا التوبيخُ زيادةٌ لَهم في العذاب ، { قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا } ، له ، { مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } ؛ مِمَّا تقولُ ، وقلنا للرَّسُولِ : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } ؛ أي خطأ عظيمٍ. وَقِيْلَ : إن قَولَهُ { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } من قولِ الزَّبانِيَةِ للكُفَّار ؛ أي ما كُنتم في الدُّنيا إلاَّ في ضلالٍ كبير.
وقالَ أهلُ النار مُعتَرِفين بجهلِهم : { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ } ؛ أي لو كُنَّا نسمعُ الهدى من الرُّسُلِ سَمَاعَ مَن يتفكرُ ويعقلُ منهم عقلَ مَن يُمَيِّزُ ، { مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ } ؛ أي أقَرُّوا بذلك ، { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } ؛ أي أسْحَقَهُمُ اللهُ سُحْقاً ؛ أي باعدَهم من رحمتهِ ، والسُّحْقُ : البُعْدُ ، والمعنى : فبُعداً لأصحاب النار من رحمة الله.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين يعمَلون لربهم ويتَّقون معصيتَهُ في سرِّهم ، ويخافونَهُ ولم يَرَوهُ ، لهم مغفرةٌ لذُنوبهم وثوابٌ عظيم في الجنَّة ، والْخِشْيَةُ في الغيب أدلُّ على الإخلاصِ وأبعَدُ من النِّفاقِ.
(0/0)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } وهذا تحذيرٌ للكفَّار عن الإقدامِ على المعاصي ، يقول : إنْ أخفَيتُم كلامَكم في أمرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أو جهَرتُم به ، فإنه عليمٌ بما في القلوب من الخير والشرِّ.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَيُخْبرُهُ جِبْرِيلُ فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْلاَ يَسْمَعَ بهِ إلَهُ مُحَمَّدٍ) قال اللهُ هذه الآية : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } ؛ هذه الأشياءَ ما في الضَّمير. وَقِيْلَ : معناهُ : ألا يعلمُ الله مخلوقاتهِ ، وَقِيْلَ : ألا يعلمُ سرَّ العبدِ من خلقه ، { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ؛ أي لَطُفَ عِلْمُهُ بالأشياءِ حتى لا تخفَى عليه غوامضُ الأمور ، الخبيرُ بمصالِح عبادهِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً } ؛ أي سَهْلَةً تنصَرفون فيها فلا تضطربُ بكم ولا تمتَنعُ عليكم ، يقال : دابة ذلُولٌ إذا كانت سهلةَ الرُّكوب ، والذلُولُ لا تمتنعُ على صاحبها فيما يريدُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا } ؛ أي في أطرافِها ، وَقِيْلَ : في جِبَالها وآكامِها وجوانبها ، { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } ؛ أي وكُلوا من نباتِها الذي جعلَهُ اللهُ رزقاً في الأرض ، { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } ؛ أي وإلى اللهِ المرجِعُ في الآخرةِ للحساب والجزاءِ ، والنُّشُورُ هو البعثُ من القبور.
(0/0)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَءَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ } ؛ معناهُ : أأمِنتُم يا أهلَ مكَّة مَن في السَّماء سُلطانه وقدرتهُ ومُلكه أن يُغَيِّبَكم في الأرضِ جَزاءً على فُبْحِ أفعالِكم. وَقِيْلَ : معناهُ : أأمنت عقوبةَ مَن في السَّماء وعذابَ مَن في السَّماء. وَقِيْلَ : معناهُ : مَن جَرَتْ عادتهُ أن يُنْزِلَ نِقمَتَهُ مِن السَّماء على مَن يكفرُ به ويعصيَهُ.
وَقِيْلَ : أأمنتم مَن في السَّماء ، وهو الْمَلَكُ الموكَّل بالعذاب ، يعني جبريلَ أنْ يخسِفَ بكمُ الأرضَ بأمرِ الله تعالى ، { فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } ؛ أي تضطربُ وتتحرَّكُ ، والمعنى : أنَّ اللهَ تعالى يحرِّكُ الأرضَ عند الخسفِ بهم حتى تضطربَ ، وتتحركَ فتَعلُو بهم وهم يُخسَفُون فيها ، والأرضُ تَمُورُ فوقَهم فتقلِبُهم إلى أسفل. والْمَوْرُ : التردُّدُ في الذهاب والمجيءِ ؛ لأنه إذا خُسِفَ بقومٍ دارت الأرضُ فتدورُ بهم كما يدورُ الماء بمَن يُغرِقهُ.
(0/0)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } ؛ كما أرسلَ على قومِ لُوطٍ ، والحاصِبُ : الرِّيحُ التي تَرمِي بالحصباءِ لا دافعَ لها { فَسَتَعْلَمُونَ } ؛ في الآخرةِ ، { كَيْفَ نَذِيرِ } ؛ أي إنذاري إذا عايَنتم العذابَ ، { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } ؛ معناهُ : ولقد كذب الذين مِن قَبْلِ أهل مكة من كفَّار الأُمم الماضيةِ ، فكيف كان الإنكارُ عليهم بالعذاب.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـافَّـاتٍ } ؛ معناهُ : أوَلَمْ يَرَوا إلى الطيرِ صافَّاتٍ فوقَ رُؤوسِهم بانبساطِ أجنحتها تارةً وقابضاتِها أُخرى ، معناهُ : صافَّات أجنحتَها ، { وَيَقْبِضْنَ } ؛ أجنحتَها بعد البسطِ ، وهذا معنى الطَّير ؛ وهو بَسْطُ الجناحِ وقبضهُ بعدَ البسطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـانُ } ؛ أي ما يُمسِكهُنَّ ويحفظُهُنَّ في الهوَاء في الحالَين ؛ في حالِ البسطِ والقبضِ إلاّ الرحمنُ. وهذا أكبرُ آيةٍ دالَّة على قدرةِ الله تعالى إذ أمسكَها في الهواءِ على ثُقلِها وضخم أبدانِها ، فمَن قَدِرَ على إمساكِ الطيرِ في الهواء قَدِرَ على إرسالِ الحاصب من السَّماء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } ؛ أي عالِمٌ ، كما يقالُ : فلان بصيرٌ بالنَّحوِ وبالقرآنِ ؛ أي عالِمٌ به.
(0/0)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَـانِ } ؛ فيه تنبيهٌ على أنه إنْ أرادَ اللهُ تعذيبَهم ليس لَهم مَنعهُ ، ولا أحدٌ يصرِفُ عنهم العذابَ ، ولفظُ الْجُنْدِ مُوحَّدٌ ، وهذا استفهامُ إنكارٍ ؛ أي لا جُندَ لكم ينصرُكم ويمنعكم من عذاب الله. قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى يَنْصُرُكُمْ : يَمْنَعُكُمْ مِنِّي إنْ أرَدْتُ عذابَكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ } ؛ أي في غرورٍ من الشَّيطان ، يغُرُّهم بأنَّ العذابَ لا ينْزِلُ بهم.
(0/0)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّنْ هَـاذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؛ معناه : هل يَقدِرُ أحدٌ مِن مَعبُودِكم أنْ يُوصِلَ إليكم أرزاقَكم إن حَبَسَ اللهُ عنكم المطرَ والنباتَ ، { بَل لَّجُّواْ } ؛ بل لَجَّ الكافرون { فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ } ؛ أي في مُجاوَزَةِ الحدِّ في الطُّغيان والتباعُدِ عن سماعِ الحقِّ وقَبولِهِ ، وليسوا يعتَبرون ولا يتفكَّرون ، لَجُّوا في طُغيانِهم وتَمادِيهم وتباعُدهم عن الإيمانِ.
(0/0)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ معناهُ : أفمَنْ يَمشِي نَاكِساً رأسَهُ على وجههِ لا يرَى ما يَصدِمهُ أو يَهجِمُ عليه من حُفرةٍ ، أو بئرٍ في طريقهِ ، فلا ينظرُ يَميناً ولا شِمالاً ، يمشي مشيَ العُميان ؛ وهو مَثَلُ الكافرِ يقولُ : أهُدِيَ صَوْبَ طريقاً أمِ المؤمنُ الذي يَمشي مُستَوياً على طريقٍ مستقيم ، يعني الإسلامَ.
وإنما شبَّهَ الكافرَ بالمُكِب على وجههِ ؛ لأنه ضالٌّ أعمَى القلب عن الهدى ، وقال قتادةُ : (هَذا فِي الآخِرَةِ) معناه : أفمَن يَمشي مُكِبّاً على النار يومَ القيامة أهْدَى أم مَن يمشي على طريقِ الجنة ؟ كما قالَ تعالى في الكفَّار{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً }[الاسراء : 97].
(0/0)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : هو الذي خلَقَكم وخلقَ لكم السمعَ فاستمعوا إلى الحقِّ ، والأبصارَ فأبصِرُوا بها الحقَّ ، والأفئدةَ فاعلَمُوا بها الحقَّ ، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ؛ نِعَمَ اللهِ عليكم.
(0/0)
قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي هو الذي خلَقَكم صِغَاراً وربَّاكم إلى أن صيَّرَكم كِباراً ، { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؛ أي تُجمَعون في الآخرةِ فيجزِيَكم بأعمالِكم.
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } ؛ أي هذا الحشرُ الذي تَعِدُنا به ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أنْ يكون ذلك ، { قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ } بوقت الحشرِ ، { عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي مُخَوِّفٌ لكم بلُغةٍ تعرِفونَها.
(0/0)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ معناهُ : فلمَّا رأوا العذابَ قريباً تبيَّن السُّوءُ في وُجوهِهم وسَاءَهم ذلك. وَقِيْلَ : أُحرِقَتْ وجوهُ الذين كفَرُوا ، فاسودَّتْ وَعَلَتها الكآبةُ والقَتْرَةُ. وَقِيْلَ : معنى { سِيئَتْ } قََبُحَتْ وجوهُهم بالسَّوادِ ، { وَقِيلَ } ؛ لَهم : { هَـاذَا } ؛ العذابُ ، { الَّذِي كُنتُم بِهِ } ؛ من أجلهِ ، { تَدَّعُونَ } ؛ الأباطيلَ والأكاذيبَ أنَّكم إذا مِتُّمْ. وكنتم تُراباً وعظاماً أنَّكم لا تُبعثون. وقرأ الضحَّاك وقتادةُ ويعقوب (تَدْعُونَ) مخفَّفاً ؛ أي تَدْعُونَ اللهَ أنْ يأتِيَكم به ، من الدُّعاء وهو قولهم{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ }[الأنفال : 32] الآية.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ وذلك أنَّ الكفارَ متمَنَّون موتَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وموتَ أصحابهِ ، فقيلَ لَهم : أرأيتُم إنْ أصَبتُم مُنَاكُمْ فينا بالهلاكِ ، فمَن يُجِيرُكم من العذاب الذي لا بدَّ نازلٌ بكم ، أتَظنُّون أنَّ الأصنامَ أو غيرها تُجِيرُكم ؟ فإذا عَلمتُم أنْ لا مجيرَ لكم فهلاَّ تمسَّكتُم بما يُخلِّصُكم من العذاب وهو الإيمانُ باللهِ.
(0/0)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَـانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } ؛ أي هو الرَّحمنُ الذي نعبدهُ ، ونفوِّضُ أمُورَنا إليه ، { فَسَتَعْلَمُونَ } ؛ في الآخرةِ ، { مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ نحن أم أنتم.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } ؛ أي غَائِراً في الأرضِ لا تَنالهُ الأيدِي والدِّلاءُ ، { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ؛ } ظاهرٍ يظهرُ من العيونِ إلاَّ اللهُ الذي به تُشرِكون ، فإذا لم تَقدِرُوا أنتم ولا آلِهتُكم على أن تَجعَلُوا الماءَ الغائرَ في الأرضِ ظَاهراً ، فكيف تَقدِرُون على أن تَدفَعُوا عذابَ الله عن أنفسكم إذا نزلَ بكم ؟ وكيفَ يقدِرُ على ذلك مَن اتَّخذتُموهُ إلهاً من دونِ الله.
ويُحكى أنَّ متَّهماً في دينهِ سَمِعَ رجُلاً يقرأ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } فقالَ : الماءُ مع الفأسِ والْمِعْوَلِ ، فنامَ من ليلتهِ تلك فأصبحَ وقد ذهبَ ماءُ عَينَيهِ وبقي أعمَى إلى أن ماتَ ، والعياذُ بالله من الْخُذلاَنِ.
(0/0)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (يَعني بقوله { ن } الحوتُ الذي على الأرضِ واسمه لوثيا ، وذلك أنَّهُ لَمّا خلقَ اللهُ الأرضَ وفتَقها ، بعثَ اللهُ مَلكاً من تحتِ العرش فهبط إلى الأرضِ حتى دخلَ تحت الأرضِين السَّبع ، فوضعَها على عاتقهِ وإحدَى يديهِ بالمشرقِ والأُخرى بالمغرب ، فلم يكن لقَدَميهِ قرارٌ ، فأهبطَ اللهُ من الفردوسِ ثَوْراً له أربعون ألفَ قَرنٍ وأربعون قائمةً ، وجعلَ قرارَ قدمِ الْمَلَكِ على سنامهِ ، فلم تستقرَّ قَدمَاهُ ، فخلقَ الله قوَّة خضراءَ غِلظُها مسيرةُ خمسمائة سنةٍ ، فوضعَها بين سنامِ الثور وآذانه فاستقرَّتْ عليها قدماهُ ، وقُرون ذلك الثور خارجةٌ من أقطار الأرض ومنخاراهُ في البحرِ ، فهو يتنفَّسُ كلَّ يومٍ نَفَساً ، فاذا تنفَّسَ مدَّ البحرَ ، وإذا ردَّ نفسَهُ جَزَرَ ، فلم يكن لقوائمِ الثور موضعُ قرارٍ ، فخلقَ الله صخرةً خضراءَ كغِلَظِ سَبعِ سموات وسبعِ أرضين ، فاستقرَّت قوائمُ الثور عليها ، وهي الصخرةُ التي قالَ لقمانُ لابنهِ{ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ }[لقمان : 16] ، فم يكن للصَّخرةِ مستَقرٌّ ، فخلقَ الله نُوناً ، وهو الحوتُ العظيم فجعلَ الصخرةَ على ظهرهِ وسائرَ جسدهِ خالٍ ، والحوتُ على البحرِ ، والبحرُ على متنِ الرِّيح ، والريحُ على القدرة).
وقال بعضُهم : هو اسمُ السُّورة. وَقِيْلَ : هو آخرُ حروفِ الرَّحمن وهي روايةٌ عكرمةَ عن ابنِ عبَّاس قالَ : (الر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ). وقال قتادةُ والضحَّاكُ : (النُّونُ هِيَ الدَّوَاةُ) ، وقال بعضُهم : هو لوحٌ من نورٍ. وقال عطاءُ : (هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِ اللهِ تَعَالَى : نُورٌ ، وَنَاصِرٌ). واختلفوا القراءةَ فيه ، فقرأ بعضُهم بإظهار النون ، وقرأ بعضُهم بإخفائها ، وقرأ ابنُ عبَّاس بالكسرِ على إضمار حروف القَسَمِ ، وقرأ عيسَى بن عمر بالفتحِ على إضمار فعل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } قال المفسِّرون : هو القلمُ الذي كتبَ به اللوحَ المحفوظ ، قال ابنُ عبَّاس : (أوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ ، فَقِيلَ لَهُ : اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ). وَقِيْلَ : لَمَّا خلقَ اللهُ القلمَ ، نظرَ إليه فانشقَّ نِصفَين ثم قالَ لَهُ : إجْرِ ، قالَ يا رب بمَا أجرِي ؟ قال : بما هو كائنٌ إلى يومِ القيامة ، فجرَى على اللوحِ المحفوظ بذلك.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " أوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ ، ثُمَّ قَالَ : أكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ وَرزْقٍ وَأجَلٍ ، فَكَتَبَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِنْ ذلِكَ " ".
قوله { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني وما تكتبُ الملائكةُ الْحَفَظَةُ من أعمال بني آدمَ ، وجوابُ القسَمِ { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } وهو جوابٌ لقولهِم{ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }[الحجر : 6] ، فأقسمَ اللهُ تعالى بالنُّون والقلمِ وبأعمال بني آدمَ فقال : { مَآ أَنتَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ؛ { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } ؛ أي ما أنت بإنعامهِ عليكَ بالنبوَّةِ والإيمانِ بمجنونٍ.
(0/0)
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً } ؛ معناهُ : وإنَّ لكَ أجراً بصَبرِكَ على افترائِهم عليكَ ونِسبَتِهم إياكَ إلى الجنُونِ ، { غَيْرَ مَمْنُونٍ } ؛ أي غيرَ مَنقُوصٍ ولا مقطوعٍ.
(0/0)
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ؛ أي على دِينٍ عظيمٍ لم أخلِقْ ديناً أحبَّ إلَيَّ ، ولا أرضَى عندي منهُ ، يعني الإسلامَ ، ورُوي عن عكرمةَ عن ابنِ عبَّاس : (يَعْنِي الْقُرْآنَ) والمرادُ آدابُ القرآنِ كما أمرَ اللهُ به نبيَّهُ عليه السلام.
وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِهِ ، فَقَالَتْ لِلسَّائِلِ : (إقْرَأ الْعَشْرَ الَّتِي فِي أوَّلِِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَرَأهَا ، فَقَالَتْ : تِلْكَ خُلُقُهُ). وَقِيْلَ : لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِهِ ، قَالَتْ : (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنُ ، يَسْخَطُ لِسُخْطِهِ ، وَيَرْضَى لِرِضَاهُ).
ويقال : " إنَّ جبريلَ عليه السلام لَمَّا جاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بقوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال : " أتَيْتُكَ يَا مُحَمَّدُ بمَكَارمِ الأَخْلاَقِ : أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ " وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارمَ الأَخْلاَقِ ، أدَّبَنِي رَبي فَأَحْسَنَ تَأْدِيبي ".
ويقال : " إنَّهُ صلى الله عليه وسلم احتملَ للهِ في البلاءِ إلى أنْ قالَ حين شُجَّ في وجههِ : " اللُّهُمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ " فأنزلَ اللهُ تعالى { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } " قال الجنيد : (سَمَّى خُلُقَهُ عَظيماً لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَمٌّ سِوَى اللهِ تَعَالَى). وَقِيْلَ : إنه صلى الله عليه وسلم عاشَرَهم بخُلقهِ وزايَلهم بقلبهِ ، كان ظاهرهُ مع الْخَلقِ وباطنهُ مع الحقِّ! وَقِيْلَ : سَمَّى خلقَهُ عظيماً لاحتمالِ مكارمِ الأخلاق فيه.
وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : (إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْركُ بخُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَار) ، وقالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ شَيْءٍ أثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ خُلُقٍِ حَسَنٍ " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أحَبَّكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى أحَاسِنُكُمْ أخْلاَقاً ، الْمُوَطِّئُونَ أكْنَافاً ، الَّذِينَ يُؤْلَفُونَ وَيَأْلَفُونَ. وَأبْغَضُكُمْ إلَى اللهِ تَعَالَى الْمَشَّاءونَ بالنَّمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإخْوَانِ ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْعَثَرَاتِ ".
(0/0)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } ، أي ستَعلَمُ ويَعلَمُونَ ، يعني أهلُ مكَّة ، وهذا وعيدٌ لأهلِ مكَّة بالعذاب ببَدْر ، يعني : سترَى ويرَى أهلُ مكَّة إذا نزلَ بهم العذابُ ببَدّر ، { بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ } ؛ الباءُ زائدةٌ ، والمعنى : أيُّكم المجنونُ الذي فَتَرَ بالجنون أأنتَ أم هم ؟ يعني أنَّهم يعلَمُون عندَ العذاب أنَّ الجنونَ كان لَهم حين عبَدُوا الأصنامَ ، وترَكُوا دِينَكَ.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } ؛ معناهُ : إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ أعلَمُ بمَن سبقَ له الشَّقاءُ في علمهِ ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ؛ أي أعلمُ بمَن سبَقت له السَّعادةُ.
(0/0)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } ؛ بالكتُب والرُّسُلِ ، وهم رُؤوسُ الكفَّارِ الذين كانوا يَدعونَهُ إلى دين آبائهِ. وقولهُ تعالى : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } ؛ معناهُ : تَمنَّى الكفارُ يا مُحَمَّدُ أن تُضايعَهم فيُضَايعُونَكَ ، وتُلاَينَهُم فيُلاينُونَكَ ، مأخوذٌ من الدُّهن.
وقال مجاهد : (مَعْنَاهُ : إظْهَارُ الْقَوْلِ باللِّسَانِ بخِلاَفِ مَا فِي الْقَلْب ، كَأنَّهُ شَبَّهَ التَّلْيينَ فِي الْقَوْلِ بتَلْيينِ الدُّهْنِ). وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : وَدُّوا لَوْ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ وَتَتْرُكُ مَا أنْتَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَيُمَالِؤُكَ). وقال الضحَّاكُ : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ). وقال زيدُ بن أسلمَ : (وَدُّوا لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ). قال ابنُ قتيبةَ : (كَانُوا أرَادُوهُ أنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُونَ اللهَ مُدَّةً).
(0/0)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } ؛ هذا تحذيرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم عن الرُّكون. والْحَلاَّفُ : كثيرُ الحلف بالباطلِ ، والْمَهِينُ : قيل : من الْمَهَانَةِ ؛ وهي الحقارةُ والضَعفُ في الرَّأي والتمييزِ ، قِيْلَ : إنَّ المرادَ به الوليدُ بن المغيرةِ المخزومي ، وكان قد عرضَ على النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليَرجِعَ عن دينهِ ، وسُمِّي مَهيناً لاستخارتهِ الحلفَ والكذبَ على الصِّدق ، ثم كانت الآيةُ عامَّةً في كلِّ مَن كان في طريقتهِ. وَقِيْلَ : المرادُ به الأسودُ بن عبدِ يَغُوث ، وَقِيْلَ : الأخنسُ بن شريقٍ.
(0/0)
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
وقوله تعالى : { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } ؛ الهمَّازُ : الْمُغتَابُ الطعَّانُ للناسِ ، مَشَّاءٍ بنَمِيمٍ : أي يَمشِي بالنَّميمةِ بين الناس ؛ ليُفسِدَ بينهم. وَقِيْلَ : الهمَّازُ : الوقَّاعُ في الناسِ ، العائِبُ لهم بما ليس فيهم ، ويُسمَّى النَّمَّامُ : القَتَّاتُ ، قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ".
(0/0)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } ؛ أي كثير المنعِ للخير ، وكان الوليدُ بن المغيرة بهذه الصِّفة يمنعُ الناسَ من أتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكان يمنعُ أهلَهُ وولدَهُ والحميَّة عن الإسلام ، يقالُ : المنَّاعُ للخيرِ البخيلُ الذي هو كثيرُ المنعِ للحقوق الواجبةِ في المال.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } ؛ المعتدِي : هو الغَشُومُ الظلومُ على عبادِ الله ، والأثيمُ : الكذابُ الذي هو كثيرُ الإثمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } ؛ العُتُلُّ : شديدُ الخصومةِ بالباطلِ. وَقِيْلَ : الشديدُ الحلفِ ، أكُولٌ شَرُوبٌ رحيبُ البطنِ سَرِيحٌ صحيحٌ الْجَسمِ على بطنهِ ، ويُجِيعُ عبدَهُ ويمنعُ رَفْدَهُ ، ومأخوذٌ من العَتْلِ وهو الشدَّةُ في السَّحب. وقِيْلَ : شديدُ الْخُلْقِ وأحسَنُ الْخَلقِ. وَقِيْلَ : هو الجافِي القاسِي اللئيمُ العَسِرُ الضَّجِرُ. وقال الكلبيُّ : (هُوَ الشَّدِيدُ فِي كُفْرِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أي مع ما وصفناهُ به زَنِيمٌ ، وَقِيْلَ : معناه عُتُلٍّ مع ذلك زَنِيمٍ ، والزَّنِيمُ : الْمُلصَقُ في القومِ وليس منهم ، والزَّنِيمُ هو الدَّعِيُّ ، قال الشاعرُ : زَنِيمٌ لَيْسَ يَعْرِفُ مَنْ أبُوهُ بَغِيُّ الأُمِّ ذُو حَسَبٍ لَئِيمِوعن ابنِ عبَّاس في قوله تعالى { زَنِيمٍ } قالَ : (يُعْرَفُ بالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بزَنْمَتِهَا). وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ { زَنِيمٍ } أيْ هُوَ مَعَ كُفْرِهِ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ لَيْسَ مِنْهُمْ). قِيْلَ : إنما ادعاهُ أبوه إلاَّ بعدَ ثمانِي عشرةَ سنةً.
وقال عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه : " الزَّنِيمُ الَّذِي لاَ أصْلَ لَهُ). قال ابنُ قتيبةَ : (لاَ نَعْلَمُ أنَّ اللهَ وَصَفَ أحَداً كَمَا ذكَرَهُ ، وَلاَ بَلَغَ مِنْ ذِكْرِ عُيُوبهِ كَمَا بَلَغَ عُيُوبَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، لأنَّهُ وَصَفَهُ بالْحَلْفِ وَالْمَهَانَةِ وَالْعَيْب لِلنَّاسِ وَالْمَشْيِ بالنَّمَائِمِ وَالْبُخْلِ وَالظُّلْمِ وَالإثْمِ وَالْجَفَا وَالدَّعْوَةِ ، فَأَلْحَقَ بهِ عَاراً لاَ يُفَارقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " " لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَوَّاظٌ وَلاَ جَعْظَرِيُّ وَلاَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " وَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْجَوَّاظُ ؟ قَالَ : " الَّذِي جَمَعَ وَمِنْعَ تَدْعُوهُ لَظَّى نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى " قِيلَ : وَمَا الْجَعْظَرِيُّ ؟ قَالَ : " الْفَظُّ الغَلِيظُ " قِيلَ : وَمَا الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ ؟ قَالَ : " الشَّدِيدُ الْخَلْقِ الرَّحِيبُ الْبَطْنِ ، ظَلُومٌ لِلنَّاسِ " ".
قال صلى الله عليه وسلم : " " تَبْكِي السَّمَاءُ مِنْ رَجُلٍ أصَحَّ اللهُ جِسْمَهُ وَأرْحَبَ جَوْفَهُ وَأعْطَاهُ الدُّنْيَا ، فَكَانَ لِلنَّاسِ ظَلُوماً ، فَذلِكَ الْعُتُلُّ الزَّنِيمُ " قَالَ : " وَتَبْكِي السَّمَاءُ مِنَ الشَّيْخِ الزَّانِي مَا تَكَادُ الأَرْضُ تُقِلُّهُ " وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ الزِّنَا وَلاَ وَلَدُهُُ وَلاَ وَلَدُ وَلَدِهِ ، وَأنَّ أوْلاَدَ الزُّنَاةِ يُحْشَرُونَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَزَالُ أُمَّتِي بخَيْرٍ مَا لَمْ يَفْشُ فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَى ، فَإنْ فَشَا فِيْهِمْ وَلَدُ الزِّنَا فَيُوشَكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابٍ " ، وقال عكرمةُ : (إذا كَثُرَ أوْلاَدُ الزِّنَا قَلَّ الْمَطَرُ).
(0/0)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } ؛ معناهُ : لا تُطِعْهُ لأنه كان ذا مالٍ وبنين ؛ أي لا تُطِعْهُ لِمَالهِ وبَنِيهِ ، وكان مالهُ نحواً من سبعةِ آلاف مثقالٍ من فضَّة ، وكان له بنون عَشرَةٌ ، وكان يقولُ لَهم : مَن أسلَمَ منكم فلا يدخلَنَّ داري ، ولا أنفعهُ بشيءٍ أبداً. وقرأ ابنُ عامر ويعقوب (أنْ كَانَ ذا مَالٍ) بالمدِّ ، وقرأ حمزةُ وعاصم (أأنْ) كان بهمزَتين. وقرأ غيرُهم على الخبرِ حين قرأ بالاستفهام ، فمعناهُ : ألأَنِ كان ذا مال وبنينٍ تطيعهُ ، ويجوزُ أن يكون رَاجعاً الى ما بعدَهُ ، والمعنى : لأجلِ أنْ كان ذا مالٍ وبنين.
(0/0)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
وقوله تعالى : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } ؛ وهي القرآنُ أبَى أن يقبَلها و ؛ { قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي ما كَتَبَهُ الأوَّلون من أحاديثهم قد درسه مُحَمَّدٌ وأصحابهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } ؛ أي سَنَسِمُهُ بالسَّوادِ على الأنفِ ، وذلك أنه يَسْوَدُّ وجههُ قبلَ دخولِ النار ، والمعنى : سنُعْلِمهُ بعلامةٍ يَعرِفُهُ بها جميعُ أهلِ القيامة ، ويقال : سَنَسِمُهُ بسِيمَاءَ لا تفارقهُ آخرَ الدهرِ ؛ أي نُلْحِقُ به عَاراً يبقى ذلك عليه أبداً ، كما تُعرَفُ الشاةُ بسِيمَتِها ، والخرطومُ : الأنفُ ، وقال الضحَّاك : (سَنَكْوِيهِ عَلَى وَجْهِهِ).
(0/0)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } ؛ معناهُ : إنَّا امتَحنَّا أهلَ مكة بالجوعِ والقحط والقتلِ والسَّبي والهزيمةِ يومَ بدرٍ ، كما امتحنَّا أهلَ البُستان ، وأراد به بُستاناً كان باليمنِ يعرَفُ بالقيروان دونَ صَنعاء بفرسخَين ، كان يطئُوه أهلُ الطريقِ ، قد غرسَهُ قومٌ بعدَ عيسى عليه السلام وهم قوم بخلاء ، وَقِيْلَ : من بني إسرائيلَ ، وكانوا مُسلمين باليمنِ ، ورثُوا هذا الستانَ من أبيهم وفيه زرعٌ ونخيل ، وكان أبوهم يجعلُ مما فيه حظّاً للمسلمين عند الحصادِ والصِّرامِ.
فلمَّا ماتَ أبوهم ورثوهُ وكانوا ثلاثةً ، قالوا : إنَّ المالَ قليلٌ والعيالَ كثيرٌ ، فلا يسَعُنا أن نفعلَ ما كان يفعلُ أبونا ، وإنما كان أبونا يفعلُ ذلك لأن المالَ كان كثيراً والعيالَ قليلاً ، فعزَمُوا على حِرمان المساكين ، فتحالَفُوا بينهم يوماً ليَغْدُوا غدوةً قبل خروجِ الناس ليَقطَعُوا نَخلَهم إذا أصبَحُوا بسَرِقَةٍ من الليلِ من غير أن يشعُرَ بهم المساكينُ ، { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } ؛ أي ولا يقُولون إنْ شاءَ اللهُ ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا } أي ليقطعُنَّ ثَمرَها { مُصْبِحِينَ } أي عندَ طُلوعِ الفجرِ قبلَ أن يخرُجَ المساكينُ إليه { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } أي ولم يقولوا إنْ شاءَ اللهُ.
ورُوي أنَّ أبَاهم كان يأخذُ من هذا البستان قُوتَ سَنَةٍ لنفسهِ ، وكان يتصدَّقُ بما بَقِيَ على المساكين. وَقِيْلَ : إنه كان يتركُ لَهم ما خرجَ من السِّباط الذي كان يسقطُ تحتَ النَّخلة إذا صُرمت ، فقالَ بنوهُ بعدَ موتهِ : نحن جماعةٌ وإنْ فعَلنا ما كان يفعلهُ أبونا ضاقَ عَيشُنا ، فحَلَفوا ليَصْرِمُنَّها مُصبحين لئلاَّ يصِلَ إلى المساكين منها شيءٌ ، وَلاَ يَسْتَثْنُونَ.
وإنما شبَّهَ اختبارَ أهلَ مكَّة باختبار أهلِ البستان ؛ لأن أبَا جهلٍ كان قال يومَ بدرٍ قبل التقاءِ الفئتين ، وَاللهِ لَنَأْخُذهُمْ أخْذاً ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِينِ يُوسُفَ " ، وكان هذا الدعاءُ قبلَ وقوعِ الهزيمة على الكفَّار ، فابتلاهُم اللهُ بالجوعِ والقحط سبعَ سنين حتى أكَلُوا العظامَ المحرَّقة.
(0/0)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } ؛ وذلك أنَّهم لَمَّا تخافَتوا تلك الليلةَ على أن يَصرِمُوها ، سلَّطَ اللهُ على جنَّتِهم بالليلِ نَاراً فأحرقتْهُ وهم نائمون. ولا يكون الطَّائِفُ إلاّ بالليلِ ، { فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } ؛ أي كاللِّيل المظلمِ سوداءَ محترقةً. والصَّرِيْمَانِ : الليلُ والنهارُ ، ولا يَصرِمُ أحدُهما من الآخرِ ، وَقِيْلَ : سُمي الليلُ صَرِيماً ؛ لأنه يقطعُ بظُلمَتهِ عن التصرُّف في الأمور.
(0/0)
فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } ؛ أي أصبَحُوا عند طُلوعِ الفجرِ يُنادِي بعضُهم بعضاً : أن اغدُوا إلى بستانِكم وزُروعِكم إنْ كُنتم قَاطِعين للثِّمار والأعناب والزُّروعِ قبلَ أن يعلم المساكينُ بنا.
(0/0)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } ؛ أي فتنَادَوا مُصبحين ، وخَرَجُوا مُسرعين يتخَافَتُون ؛ أي يُسِرُّون الكلامَ فيما بينهم ويتشَاوَرُون فيما بينهم { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } ؛ يزاحمهم على الثمرةِ أن لا يقطَعنَّها أحدٌ من المحتاجين ، والمعنى : أنَّهم كانوا يتشَاوَرون يقولُ بعضهم لبعضٍ : { لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } ، والتَّخَافُتُ : هو إخفاءُ الحركةِ ، والْخُفُوتُ : السُّكوت.
(0/0)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ } ؛ أي غدَوا على قصدِ منع الفقراء قادِرين في زَعمِهم على إحراز ما في جنَّتهم من الثمار دون الفقراءِ ، وهم لا يعلَمُون أنَّها قدِ احتَرقَتْ ليلاً وهم نائمون. وَقِيْلَ : إن الْحَرْدَ هو المنعُ والغضبُ والحنقُ على المساكين ، وَقِيْلَ : الحردُ هو الْجِدُّ ، وَقِيْلَ : الغِلْظُ.
(0/0)
فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } ؛ فلمَّا رأوا جنَّتَهم عند الصباحِ سوداءَ محترقةً قالوا : إنا قد ضلَلنا الطريقَ وليست هذه جنَّتُنا ، فلما أمعَنُوا النظرَ عرَفُوها ، فعلموا أنَّها عقوبةٌ ، فقالوا : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي حُرِمنا ثَمرَ جنَّتنا لِمَنعِنَا المساكين ، وما أخطَأْنا الطريقَ إليها.
(0/0)
قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } ؛ أي قالَ أعدَلُهم وأفضَلُهم ، وَقِيْلَ : أوسطُ الثلاثةِ سِنّاً ، قال لَهم : ألَمْ أقُلْ لكم هلاَّ تَستَثْنُونَ في حَلفِكم وقد كان قالَ لَهم ذلك عندَ قسَمِهم.
وإنما أُقيم لفظُ التِّسبيحِ مقامَ الاستثناءِ ؛ لأنَّ في الاستثناءِ تعظيمَ اللهِ ، والإقرارَ بأنَّ أحداً لا يقدِرُ أن يفعلَ فِعلَهُ إلاَّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ : كان استثناءُ القومِ في ذلك الزمان التسبيحُ. ويجوزُ أن يكون معنى التسبيحِ ها هُنا : هلاَّ تُنَزِّهُونَ اللهَ وتستغفرونَهُ من سُوءِ نيَّاتِكم ؟ { قَالُواْ } ؛ عندما رأوا مِن قدرةِ الله تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } ؛ أي تَنْزيهاً لرَبنا وتعظيماً واستغفاراً له ، { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ لأنفُسنا بما عَزَمنا عليه من الذهاب بحقوق الفُقراءِ ومَنعِنا لهم.
(0/0)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } ؛ أي أقبَلُوا يلومُ بعضهم بعضاً بما كان منهم من منعِ المساكين ، يقولُ كلُّ واحدٍ منهم لصاحبهِ : هذا مِن عمَلِكَ ، وأنتَ الذي بَدأتَ بذلكَ ، ثم { قَالُواْ } ؛ بأَجْمَعِهم : { ياوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } ؛ حين لم نَصْنَعْ ما صنعَ أبونا من قبلُ. والطَّاغِي : المتجاوزُ عن الحدِّ.
ثم رجَعُوا إلى اللهِ تعالى ورَجَوا منه العُقبَى ، وسألوهُ أن يُبدِلَهم خَيراً منها فقالوا : { عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } ؛ أي نرغبُ إليه ونرجُو منه الْخَلَفَ في الدُّنيا ، والثوابَ في الآخرة. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } ؛ أي هذا العذابُ في الدنيا لِمَن منعَ حقَّ اللهِ ولِمَن كفرَ بنعمةِ الله ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } ؛ وأشدُّ على كفَّار مكة ، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؛ أن الذي يخوِّفُهم اللهُ به حقٌّ.
(0/0)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؛ وذلك أنَّ عتبةَ بن ربيعةَ كان يقولُ : إنْ كان ما يقولهُ مُحَمَّدٌ حقّاً في النعيمِ في الآخرة لنكوننَّ أفضلَ منهم في الآخرةِ ، فضَّلنا عليهم في الدُّنيا. فأنزلَ اللهُ هذه الآيات لبيانِ أنَّ جناتِ النعيمِ في الآخرة خاصَّةٌ للَّذين يتَّقون الشِّركَ والفواحشَ.
وقوله تعالى : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } هذا استفهامٌ معناهُ الإنكار والتوبيخُ. وقوله تعالى : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } إنكارٌ عليهم أيضاً لَمَّا حكَمُوا بالسويةِ وبين أهلِ الثواب وأهل العقاب.
(0/0)
أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } أي ألَكُم يا أهلَ مكَّة كتابٌ من اللهِ ، فيه تقرَأون بأنَّ لكم في الدُّنيا والآخرة ما تختارُون لأنفسكم. والمعنى : ألَكُم فيه كتابٌ تقرأون أنَّ لكم في ذلك الكتاب ما تختَارون.
(0/0)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } ؛ معناهُ : ألَكُم علينا عهودٌ وثيقة إلى يومِ القيامة ، بأن لكم ما تقضون لأنفسكم أن لكم من الخير والكرامة ، وإنما كُسرت (إنَّ) في هَاتين الآيتَين لدخولِ اللام في خَبرِها.
ثُم قال تعالى لنبيِّهِ عليه السلام : { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } ؛ أي سَلهُم يا مُحَمَّدُ أيُّهم كفيلٌ لهم بأنَّ لهم في الآخرةِ ما للمسلمين ، والزَّعِيمُ هو الكفيلُ الضَّامِنُ.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } ؛ معناهُ : ألَهُم فيما يقولون شُهداء وأعوان عليهِ ؟ فليَأْتُوا بشُركائهم يشهدون لَهم بذلك إنْ كانوا صَادِقين في مَقالتِهم ، وأرادَ بالشُّركاء الأصنامَ التي أشرَكوها باللهِ تعالى.
(0/0)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } معناهُ : يومَ يُكشَفُ عن الأمُور الشدائدِ وهو يومُ القيامةِ ، وهذا مما كَثُرَ استعمالهُ في كلامِ العرب على معنى يومٍ يشتدُّ الأمرُ كما يشتدُّ ما يتحاجُ إلى أن يكشفَ فيه عن ساقٍ ، ومِن ذلك قولُهم : قَامَتِ الحربُ على ساقٍ ، وكَشَفَتْ عن ساقٍ ، وإن لم يكن للحرب ساقٌ.
وانتصبَ قوله { يَوْمَ يُكْشَفُ } على الظَّرفِ لقوله { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ } في ذلك اليومِ لتَنفَعهم أو تشفعَ لهم ، وعن عكرمةَ قالَ : (سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } فَقَالَ : إذا خَفِيَ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَابْتَغُوهُ فِي الشِّعْرِ ، فَإنَّهُ دِيوَانُ الْعَرَب ، أمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ الشَّاعِرِ : وَالْخَيْلُ تَعْدُو عِنْدَ وَقْتِ الإشْرَاقِ وَقَامَتِ الْحَرْبُ بنَا عَلَى سَاقِ)أي يومُ القيامة يومُ كَرْبٍ وشدَّة ، وقال ابنُ قتيبة : (أصْلُ هَذا أنَّ الرَّجُلَ إذا وَقَعَ فِي أمْرٍ عَظيِمٍ يَحْتَاجُ إلَى الْجِدِّ فِيْهِ يُشَمِّرُ عَنْ سَاقَيْهِ) فاستُعيرَ الكشفُ عن الساقِ في موضع الشدَّة ، وقال دريدُ بن الصمَّة يرثِي أخاهُ : كَشَمْسِ الإزَار خَارجٌ نِصْفُ سَاقِهِ صَبُورٌ عَلَى الْجَلاَ طَلاَّعُ أنْجُدِيقالُ للأمرِ إذا اشتدَّ وتفاقمَ وتراكبَ غمُّهُ وكشفَ عن ساقهِ يومَ يشتدُّ الأمرُ ، كما يشتدُّ ما يحتاجُ إليه إلى أنْ يكشفَ عن ساقٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } قال المفسِّرون : يسجدُ الخلق كلُّهم سجدةً واحدةً ، ويبقى الكفَّارُ والمنافقون يرِيدُون أن يسجُدوا فلا يستطيعون ، كما رُوي : أن أصلاَبَهم يومئذٍ تصيرُ عَظْماً واحداً مثلَ صَيَاصِيِّ البقرِ ، يعني قُرونَها. ويقالُ : يأمرُ الله أهلَ القيامةِ بالسُّجود ، فمَن كان يسجدُ له في الدُّنيا قَدَرَ على السُّجود في الآخرةِ ، ومَن لا فلاَ ، فيكون ذلك أمارَةَ تَمييزِ المؤمن من الكافرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } ؛ أي ذليلةً ، وذلك إذا عايَنوا النارَ ، وأيقَنُوا بالعذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ؛ أي تَغشَاهُم ذِلَّةُ الندامةِ والحسرةِ ، وتعلُوهم كآبةٌ وحزنٌ وسوادُ الوجهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ } ؛ يعني وقد كَانُوا يُدعَون بالأذانِ في الدُّنيا ، ويُؤمَرون بالصلاةِ المكتوبَة ، { وَهُمْ سَالِمُونَ } ؛ أي مُعَافُون ليس في أصلابهم مثل سَفَافِيدِ الحديدِ.
(0/0)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)
وقولهُ تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ } ؛ أي خَلِّ بيني وبينَ مَن يكذِّبُ بهذا القرآنِ ، لا تشغَلْ قلبَكَ بهِ ، كِلْهُ فأنا أكفيكَ أمرَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أي كلما جدَّدُوا معصيتَهُ جدَّدنَا لهم نعمةً وأنسينَاهُم شُكرَها ثم أخَذناهم بغتةً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
وقوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ؛ أي أتسأَلُهم أجراً يا مُحَمَّدُ على ما تَدعُوهم إليه من الإيمان جُعْلاً فهُم مِن الغَرمِ الذي يَلزَمُهم بإجابتِكَ مُثقَلُونَ فيمتنعون عن الإجابةِ بسَبَبهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ؛ أي أعِندَهم الوحيُ بأنَّكَ على الباطلِ وهم على الحقِّ ، فيكتُبون ذلك الوحيَ ويخاصمونَكَ به.
(0/0)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } ؛ أي اصبرْ يا مُحَمَّدُ على تبليغِ الوحيِ والرسالة ، ولا تكُنْ في الضَّجَرِ والعجَلةِ كصاحب الحوتِ يونُسَ عليه السلام ، والمعنى : لا تَضْجَرْ فيما يلحقُكَ من الأذيَّة من جهلهم كما ضَجِرَ صاحبُ الحوتِ ، فخرجَ من بين ظَهرَانِيهم قبلَ أن يأذنَ اللهُ له حتى الْتَقَمَهُ الحوتُ ، { إِذْ نَادَى } ؛ فنادَى وهو في بطنِ الحوتِ : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[الأنبياء : 87].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } ؛ أي مَمْلُوءٌ غمّاً ، { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ؛ بقبُولِ توبتهِ ، { لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ } ؛ أي لأُلقِيَ من بطنِ الحوت على وجهِ الأرض ، وَقِيْلَ : معناه : لنُبذ بالضَّجَرِ وهو مَلُومٌ مذمومٌ ، ولكنْ قَبلَ اللهُ توبتَهُ ، فنُبذ وهو غيرُ مَذْمُومٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ أي اختارَ يونُسَ لنُبوَّتهِ وللإِسلامِ ، فجعلَهُ من الصَّالحين بقَبُولِ تَوبَتهِ ، فردَّ إليه الوعيَ وشَفَّعَهُ في قومهِ.
(0/0)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } ؛ اختلَفُوا في ذلكَ ، قال بعضُهم : كان عادةِ العرب أنَّهم إذا حَسَدُوا إنساناً تجوَّعُوا ثلاثةَ أيَّام ، ثم خرَجُوا عليه فقالوا لَهُ : ما أحْسَنَكَ ؛ ما أجْمَلَكَ ؛ ما كذا وكذا ليُصِيبوهُ بأَعيُنهم ، فتوَاطَؤا على أنْ يفعلوا ذلك بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فدفعَ اللهُ عنه كيدَهم وشرَّهم. وَقِيْلَ : إن العينَ كان في بني إسرائيل أشدَّ ، حتى أنَّ الناقةَ السمينة والبقرةَ السَّمينة كانت تَمُرُّ بأحدِهم ، فيُعَاينُوها ثم يقولُ : يا جاريةُ خُذِي الزَّنبيلَ والدرهمَ واذهَبي أئْتِنَا بلحمٍ مِن هذه ، فما يبرحُ أن تُنحَرَ من سَاعَتِها.
قال الكلبيُّ : (كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب يَمْكُثُ لاَ يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أوْ ثَلاَثَة ، ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بهِ الإبلُ ، فَيَقُولُ فِيْهَا مَا يُعْجِبُهُ ، فَمَا تَذْهَبُ إلاَّ قَرِيباً حَتَّى تَسْقُطَ لِوَقْتِهَا ، فَسَأَلَ الْكُفَّارُ هَذا الرَّجُلَ أنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بعَيْنِهِ وَيَفْعَلَ بهِ مِثْلَ ذلِكَ ، فَأجَابَهُمْ إلَى ذلِكَ ، فَعَصَمَ اللهُ تَعَالَى نَبيَّهُ وَحَفِظَهُ عَنْهُمْ ، وَأنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
ورُوي أنَّ الكفارَ كانوا يَقصِدُون رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُصِيبوهُ بالعينِ ، وكانوا ينظُرون إليه نظرَ أشدّ يَداً بالعينِ ، وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَى الآيَةِ : أنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا مِنْ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِرَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُونَ إلَيْهِ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ) ، والمعنى : تكادُ الكفَّارُ بنظرِهم إليكَ أنْ يصرَعُوكَ.
وقرأ نافعُ (لِيَزْلِقُونَكَ) بفتحِ الياء ، يقالُ : زَلَقَ هو وَزَلَقْتُهُ ، مثلُ حَزَنْتَهُ وحَزَنَ هُوَ ، وقرأ الباقون (لِيُزْلِقُونَكَ) من أزْلَقَهُ من موضعهِ إذا نَحَّاهُ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " الْعَيْنُ حَقٌّ ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ " وقال : " إنَّ الْعَيْنَ لَتُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ ، وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ " وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : وإن يكادُ الذين كفَرُوا من شدَّة إبغاضِهم وعداوتِهم لكَ يُسقِطُونَكَ وَيصرِفُونَكَ عمَّا أنتَ عليه من تبليغِ الرِّسالةِ ويُزِيلونَكَ عن المقامِ الذي أقامكَ اللهُ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } ؛ أي لما أعيَتهُم الحيلةُ عن صرفِ الناس عنكَ نسبُوكَ إلى الجنونِ مع علمِهم بخلاف ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ } يعني القرآنَ ، وذلك أنَّهم يكرَهُون القرآنَ أشدَّ الكراهةِ ، فيُحِدُّونَ النظرَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين يتلوهُ بالبغضاءِ ، وكانوا يَنسِبُونَهُ إلى الجنونِ إذا سَمعوهُ يقرأ القرآنَ ، فقال اللهُ تعالى : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي ما القرآنُ الذي يقرؤهُ عليهم إلاَّ عِظَةٌ للخلائقِ كلِّهم.
(0/0)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3)
{ الْحَاقَّةُ * مَا الْحَآقَّةُ } ؛ اسمٌ من أسماءِ القيامة ، سُمِّيت به حَاقَّةٌ لأنَّها حَقَّتْ فلا كاذبةَ لها ، ولأنَّ فيها حَوَّاق الأمُور وحقَائِقَها ، وفيها يَحِقُّ الجزاءُ على الأعمالِ ؛ أي يجبُ ، يقالُ : حقَّ عليهِ الشيءُ إذا وجبَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }[الزمر : 71] ، ولا يكون في القيامةِ إلاَّ حقائقُ الأمور.
وقولهُ تعالى : { مَا الْحَآقَّةُ } استفهامٌ بمعنى التفخيمِ لشأْنِها ، كما يقالُ : زيدٌ ما هو ؟ على التعظيمِ لشأنهِ ، ثم زادَ في التَّهويلِ فقال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ } ؛ أي كأنَّكَ لستَ تعلمُها إذا لم تُعاينْها ، ولم تَرَ ما فيها من الأهوالِ.
(0/0)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ } ؛ أي بطُغيانِهم وكُفرِهم ، هذا قولُ ابنِ عبَّاس ومجاهد ، كذبُوا بالقيامةِ فأهلَكَهم اللهُ ، والقارعةُ من أسماءِ القيامة ، سُمِّيت بذلك لأنَّها تقرعُ القلوبَ بالأهوالِ والمخافة.
(0/0)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ } ؛ أي بطُغيانِهم وكُفرِهم ، هذا قول ابنِ عبَّاس ومجاهد ، وقال آخَرُون : يعنِي أُهلِكُوا بالصَّيحة الطاغيةِ ، وهي التي جاوزتِ الحدَّ والمقدارَ.
(0/0)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } ؛ أي بريحٍ باردة شَدِيدَةِ البردِ جِدّاً بالغة مُنتَهاها في الشدَّة. والصَّرْصَرُ : شدَّةُ البردِ ، والصَّرْصَرُ : ما يتكرر فيه البردُ الشديد ، كما يقال : صَلَّ اللجامُ إذا صوَّتَ ، فإذا تكرَّرَ صوتهُ قِيْلَ : صَلْصَلَ ، والعَاتِيَةُ من قولِهم : عتَا النبتُ إذا بلغَ مُنتهاه في الجفافِ ، ومن ذلك قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً }[مريم : 8] ، وَقِيْلَ : معنى عَاتِيَةٍ عَتَتْ عن خزائِنها فلم يكن لهم عليها سبيلٌ ، ولم يعرِفُوا كم خرجَ منها.
(0/0)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } ؛ أي أرسَلها عليهم سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيَّام حُسوماً ؛ أي مُتَتَابعَةً لا ينقطعُ أوَّلهُ عن آخرهِ ، كما يتابعُ الإنسانُ الكيَّ على المقطوعِ الجسم دمهُ ؛ أي يقطعهُ. وفي الحديثِ : " إنَّ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِي أصَابَتْهُمْ كَانَتْ قِطْعَةً مِنْ زَمْهَرِيرَ عَلَى قَدْر مَا يَخْرُجُ مِنْ حَلَقَةِ الْخَاتَمِ " قال وهبُ : (هَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي أرْسِلَتِ الرِّيحُ عَلَى عَادٍ هِيَ أيَّامُ الْعَجُوز ذاتُ بَرْدٍ وَريَاحٍ شَدِيدَةٍ ، وَانْقَطَعَ الْعَذابُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ). وَقِيْلَ : سُميت أيامُ العَجْزِ ؛ لأنَّها في عَجزِ الشِّتاء ، ولها أسَامِي مشهورة تُعرف في كتب اللغة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى } ؛ معناهُ : فتَرى أيُّها الرَّائِي القومَ في تلك الأيامِ والليالي صَرْعَى ؛ أي ساقطِين بعضُهم على بعضٍ مَوتَى ، { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } ؛ أي كأنَّهم أصُول نخلٍ ساقطةٍ باليةٍ قد نُحِرَتْ وتَآكَلَتْ وفسَدت. والصَّرْعَى جمعُ صَرِيعٍ ، نحوُ قتيلٍ وقَتْلَى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } ؛ أي هل ترَى لهم من نَفْسٍ باقيةٍ قائمة ، والمعنى : لم يبق منهم أحدٌ إلاَّ هلَكَتْهُ الريحُ.
(0/0)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10)
وقولهُ تعالى : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } ؛ قرأ أبو عمرٍو والحسنُ والكسائيُّ ويعقوب بكسرِ (قِبَلَهُ) بكسرِ القاف وفتحِ الباء ، ومعناهُ : وجَاءوا فرعونَ ومَن يليهِ من جنوده وأتباعهِ وجموعه ، وقرأ الباقون بفتحِ القاف وإسكانِ الباء ، ومعناهُ : ومَن تقدَّمَهُ من القرونِ الخالية.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ } ؛ يعني قومَ لوطٍ انقلَبت قرياتُهم بأهلِها حين خُسِفَ بهم جاءُوا بالخطئ العظيمِ وهو الشركُ باللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } ؛ يعني لُوطاً عليه السلام وموسى عليه السلام ، والمعنى : فعَصَوا رسُلَ ربهم ، إلاَّ أنه وحَّدَ الرسولَ ؛ لأنه قد يكون مصدرٌ وأُقيم مقامَ لفظِ الجماعة ، وقولهُ تعالى : { فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } ؛ أي زائدةَ ناميةً تزيدُ على الأخذاتِ التي كانت فيمَن قبلَهم ، ومنه الرَّبْوَةُ للمكانِ المرتفع ، ومنه الرِّبَا لِمَا فيه من الزيادةِ.
(0/0)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ } ؛ معناهُ : لَمَّا جاوزَ الماءُ القدرَ وارتفع حدَّ أيامِ الطُّوفان في زمنِ نوح عليه السلام حتى عَلاَ الماءُ على كلِّ شيء وارتفعَ ، حَمَلنا آباءَكم وأنتم في أصلابهم في السَّفينة الجاريةِ التي تَجرِي على الماءِ. وسَمَّى ارتفاعَ الماءِ في ذلك اليومِ طُغياناً لخروجهِ في ذلك اليوم عن طاعةِ خُزَّانهِ. ويقالُ : لا ينْزِلُ قطرٌ من السَّماء إلاَّ وعِلْمُ الملائكةِ محيطٌ بها إلاََّ في ذلك اليوم.
(0/0)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } ؛ أي لنجعلَ تلك الأخذةَ وتلك السفينةَ بما كان من إغراقِ قوم نوحٍ وإنجائهِ والمؤمنين معه عِظَةً يتَّعِظُ بها الخلقُ ، فلا تفعَلُوا ما كان القومُ يفعلونَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } ؛ أي تسمَعُها وتحفَظُها أذنٌ حافظةٌ لِمَا جاءَ من عندِ الله.
قال قتادةُ : (أُذُنٌ سَمِعَتْ وَعَقَلَتْ مَا سَمِعَتْ ، وقال الفرَّاءُ : (لِتَحْفَظَهَا كُلُّ أُذُنٍ) فيكون عِظَةً لِمَن يأتي بعدُ ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " " سَأَلْتُ اللهَ تَعَالَى أنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَكَ يَا عَلَيُّ " قال عليٌّ : فَمَا سَمِعتُ شَيئاً فَنَسِيتُهُ بَعْدَ ذلِكَ " وفي تفسير النقَّاش : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَزَلَتْ { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أخَذ بأُذُنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَقَالَ : هِيَ هَذِهِ ".
(0/0)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } ؛ قال عطاءُ : (يُرِيدُ النَّفْخَةَ الأُولَى) ، وقال الكلبيُّ ومقاتل : " النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ). والنافِخُ إسرافيلُ ، وأكثر المفسِّرين على أنَّها النفخةُ الأُولى التي تكون للموتِ.
(0/0)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
وقولهُ تعالى : { وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي تَحمِلُها الملائكةُ الموكَّلون بها فيَضرِبُونَ الأرضَ بالجبالِ والجبالَ بالأرضِ دفعةً واحدة ، فتصيرُ الجبال هَباءً مُنْبَثّاً ، قال الحسنُ : (تَصِيرُ غَبَرَةً نَفَسَ وُجُوهِ الْكُفَّار). والدَّكُّ : هُوَ الْكَسْرُ وَالدَّقُ ، والمعنى : فَدُقَّتا وكُسِرَتا كسرةً واحدة لا يثني ، وَقِيْلَ : الدَّكُّ البَسْطُ بأن يوصَلَ بعضُها إلى بعضٍ حتى تَنْدَكَّ ، ومنه الدُّكَّانُ ، وانْدَكَّ سَنَامُ البعيرِ إذا انغرسَ في ظهرهِ.
(0/0)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } ؛ أي قامَتِ القيامةُ ، { وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ } ؛ من هَيبَةِ الرَّحمنِ ، { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } ؛ أي ضعيفةٌ جداً لا تستقلُّ يومئذ لانتقاضِ بُنيتها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ } ؛ أي على أطرَافِها ونواحيها ، واحِدُها أرْجَا مقصورةٌ وتثنيتهُ رَجَوَانِ.
قال الضحَّاك : (إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، أمَرَ اللهُ السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَتَشَقَّقَتْ ، وَتَكُونُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى جَوَانِبهَا حَتَّى يَأْمُرَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، فَيَنْزِلُونَ إلَى الأَرْضِ فَيُحِيطُونَ بالأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى{ وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }[الفجر : 22]. والْمَلَكُ لفظهُ لفظ الواحدِ وأن المرادَ به اسمُ الجنسِ.
(0/0)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
وقولهُ تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (ثََمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلاَّ اللهُ تَعَالَى). قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الْيَوْمَ تَحْمِلُهُ أرْبَعَةٌ ، فَإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أيَّدَهُمُ اللهُ بأَرْبَعَةٍ أُخْرَى فَكَانُوا ثَمَانِيَةً " ومعنى الآيةِ : ويحملُ عرشَ ربكَ يومَ القيامةِ فوق الأربعةِ الذين هُم على الأرجاءِ ثَمانية. وقال بعضُهم : ثمانيةٌ من الملائكةِ على صُورةِ الأوعَالِ مِنْ أظلافهم إلى رُكَبهم كما بين السَّماء والأرضِ.
(0/0)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } ؛ أي تُعرَضون للحساب ، { لاَ تَخْفَى } ؛ على اللهِ ؛ { مِنكُمْ } ، نفسٌ ؛ { خَافِيَةٌ } ؛ ولا يخفَى عليه من أعمالِكم شيءٌ. قرأ الكوفيُّون غيرَ عاصمٍ (لاَ يَخْفَى) بالياءِ ، وقرأ الباقون بالتاءِ. وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى : { لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي لا تخفَى سريرةٌ خافيةٌ.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَـابيَهْ } ؛ وهم أهلُ الثَّواب ، يُعطَون كتابَهم بأَيمانِهم فيقولُ كلُّ واحدٍ منهم للناسِ سُروراً بكتابهِ : تعَالَوا اقرَأوا ما في كتَابيَهْ مِن الثواب والكرامةِ ، وهذا كلامُ مَن بلغَ غايةَ السرور.
ومعنى { هَآؤُمُ اقْرَءُواْ } أي هاتُوا أصحابي اقرَأوا كتابيه ، قال ابن السِّكيت : (يُقَالُ : هَاءَ يَا رَجُلُ ، وَهَاؤُمَا يَا رَجُلاَنِ ، وَهَاؤُم يَا رجَالٌ) والأصلُ هَاكُم فحُذِفَتِ الكافُ ، وأُبدلت منها همزةُ ، وألقيت حركةُ الكافِ عليها.
وعن زيدِ بن ثابت قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " " أوَّلُ مَنْ يُعْطَى كِتَابَهُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب ، وَلَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ " فَقِيلَ لَهُ : فَأَيْنَ أبُو بَكْرٍ ؟ فَقَالَ : " هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! زَفَّتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إلَى الْجَنَّةِ " وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى لله عليه وسلم : " يَا عَائِشَةُ كُلُّ النَّاسِ يُحَاسَبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ أبَا بَكْرٍ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ مَرْضِيَّةٍ ".
(0/0)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } ؛ معناهُ : إنِّي علمتُ وأيقنتُ في الدنيا أنِّي أحاسَبُ في الآخرةِ ، وكنتُ أستعدُّ لذلك ، وسُمي اليقينُ ظَنّاً ؛ لأنه علمُ الغيب لا علمُ شهادة ، ففيه طرفٌ من الظنِّ ولذلك قال عليه السلام : " لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ".
(0/0)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ؛ أي في حالةٍ من العيشِ مَرْضِيَّةٍ برِضَاها بأن لَقِيَ الثوابَ وأمِنَ من العقاب ، ومعنى { رَّاضِيَةٍ } أي مرضيَّة ، كقولهِ : ماء دافقٌ.
(0/0)
فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
وقولهُ تعالى : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } ؛ المنازل الرفعيةُ البناءِ. وقولهُ تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } ؛ أي ثِمارُها دانيةٌ مِمَّن يتناولُها ، وهو جمع قِطْفٍ وهو ما يُقْطَفُ من الثمار ، والمعنى : ثِمارُها قريبةٌ ينالُها القائمُ والقاعد والمضطجعُ ، لا يَمنَعهم من تناوُلها شوكٌ ولا بُعْدٌ.
ويقالُ لهم : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً } ؛ أي كُلوا واشربوا في الجنَّة ، { بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } ؛ بما قدَّمتم في الأيامِ الماضية من الأعمالِ الصالحة ، ويعني بالأيامِ الماضيةِ أيامَ الدُّنيا. والهناءُ : ما لا يكونُ فيه أذَى من بولٍ ولا غائط ، ولا يعقبهُ دارٌ ولا موتٌ.
وكان ابنُ عبَّاس يقولُ : (بمَا أسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ : الصَّوْمُ فِي الأَيَّامِ الْحَارَّةِ). كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ مِنْ أبْوَاب الْجَنَّةِ بَاباً يُدْعَى الرَّيَّانُ ، مَنْ دَخَلَهُ لاَ يَظْمَأُ أبَداً ، يَدْخُلُهُ الصَّائِمُونَ ، ثُمَّ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ فَلاَ يَدْخُلُ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ ".
ويقالُ : إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يقولُ يومَ القيامةِ : يا أوليائِي ما نظرتُ إليكم في الدُّنيا ، قد قَلُصَتْ شفاهُكم من العطشِ ، وغارَتْ أعيُنكم وخَمَصت بطونُكم ، فكونوا اليومَ في نعيمِكم ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بمَا أسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ.
(0/0)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ } ؛ قال ابنُ السائب : (تُلْوَى يَدُهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ). وَقِيْلَ : يُنْزع من صدرهِ إلى خلفِ ظهرهِ ، { فَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } ؛ قال الكلبيُّ رَحِمَهُ اللهُ : (نَزَلَتِ الآيَةُ الأُوْلَى قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ }[الحاقة : 19] فِي أبي سَلَمَةَ ابْنِ عَبْدِ الأَسَدِ زَوْجِ أمِّ سَلَمَةَ ، وَكَانَ مُسْلِماً يُعْطِيهِ الْمَلَكُ كِتَابَهُ بيَمِينِهِ صَحِيفَةً مَنْشُورَةً يَقْرَأ سَيِّئَاتِهِ فِي بَاطِنِهِ ، وَيَقْرَأ النَّاسُ حَسَنَاتِهِ فِي ظَاهِرِهِ ، فَإذَا بَلَغَ آخِرَ الْكِتَاب وَجَدَ أنْ قَدْ غُفِرَ لَهُ ، فَيَقُولُ : { هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَـابيَهْ }[الحاقة : 19] ثُمَّ صَارَتْ عَامَّةً لِلْمُسْلِمِينَ).
قال الكلبيُّ : وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي أخِي أبي سَلَمَةَ ، وَهُوَ الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ وَكَانَ كَافِراً يُعْطِيهِ الْمَلَكُ الَّذي يَكْتُبُ أعْمَالَهُ كِتَاباً مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ ، فَيَجِدُ حَسَنَاتِهِ غَيْرَ مَقْبُولَةٍ ، وَسَيِّئَاتِهِ غَيْرَ مَغْفُورَةٍ ، فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَيَقُولُ : { يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ } وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ ، يَتَمَنَّى الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ أنَّهُ لَمْ يُعْطَ كِتَابَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا حِسَابُهُ تَحَسُّراً عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْقَبَائِحِ.
والهاءُ في (كِتَابيَهْ) و(حِسَابيَهْ) هاءُ الوقفِ والاستراحة ، ولهذا يوقَفُ عليها كما في قولهِ تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ }[القارعة : 10].
(0/0)
يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ } ؛ معناهُ : يا ليتَ الْمَوْتَةَ الأُولى كانت ماضيةً على الدوامِ ، قال الحسنُ : (يَتَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ حِينَئِذٍ وَيُحِبُّونَهُ ، وَكَانَ مِنْ أكْرَهِ الأَشْيَاءِ إلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا). ويقال : إن الهاءَ في قولهِ { يالَيْتَهَا } كنايةٌ عن الصَّيحةِ التي أخرَجتْهُ من القبرِ ، يقولُ : يا لَيْتَهَا قَضَتْ عليَّ فاستريحَ.
(0/0)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ } ؛ يعني لَمْ ينفَعْنِي كثرةُ مالِي الذي جمعتهُ في الدنيا لأوقاتِ الشدائدِ والكُرَبِ لا يُمكنني أن أفتدِي بشيءٍ منه ، ولم أعمَلْ منه شيئاً لِهذا اليومِ ، بل فرَّقتهُ فيما لا يحلُّ وخلَّفتهُ للوارثِ ولم يدفَعْ عنِّي من عذاب الله شيئاً.
(0/0)
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } ؛ أي ضَلَّتْ عني حجَّتي حين شَهِدَتْ عليَّ جوارحي بالشِّرك وبجميعِ ما عملتُ في الدنيا. وَقِيْلَ : معنى السُّلطان العزُّ والأمر والنهيُ بَطَلَ منه كلُّ ذلك ، وضالاً أسيراً لا يقدرُ على دفعِ العذاب عن نفسهِ.
يقولُ الله : { خُذُوهُ } ؛ أي يقولُ الله تعالى للزَّبانيةِ الموكَّلين بتعذيبهِ : خُذُوهُ ؛ { فَغُلُّوهُ } ؛ فيَثِبُونَ عليه فيأخُذونه ويجعلون الغُلَّ في عُنقه.
يُروى : " أنَّهُ يَثِبُ عَلَيْهِ مِنْ جَهَنَّمَ ألْفُ مَلَكٍ مِنَ الزَّبَانِيَةِ ، فَيَأْخُذُونَهُ فَيَنْقَطِعُ فِي أيْدِيهِمْ ، فَلاَ يُرَى مِنْهُ فِي أيْدِيهِمْ إلاَّ الوَدَكَ ثُمَّ يُعَادُ خَلْقاً جَدِيداً ، فَيَجْعَلُونَ الْغُلَّ فِي عُنُقِهِ ، وَيَجْمَعُونَ أطْرَافَهُ إلَى الْغُلِّ الَّذِي يَجْعَلُونَهُ فِي عُنُقِهِ ، ثُمَّ يَقْذِفُونَهُ فِي الْجَحِيمِ حَتَّى يَتَوَقَّدَ فِي النَّار " فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } ؛ أي أدخِلوهُ وألزِموهُ الجحيمَ.
(0/0)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } ؛ السِّلسلةُ : حلَقةٌ منتَظَمةٌ ذرعُها سبعون ذراعاً ، الذِّراعُ سَبعون بَاعاً ، كلُّ باعٍ أبعدُ ما بين الكوفةِ ومكَّة ، قال الحسنُ : (اللهُ أعْلَمُ بأَيِّ ذِرَاعٍ هُوَ). قال ابنُ أبي نُجيح : (بَلَغَنِي أنَّ جَمِيعَ أهْلِ النَّار فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ).
وقولهُ تعالى { فَاسْلُكُوهُ } أي أدخِلُوها في دبُرهِ ، وأخرِجُوها من فيهِ ، وألقُوا ما فضَلَ منها في عُنقهِ. يقالُ : سلكتُ الخيطَ في الإبرةِ إذا أدخلتهُ فيها ، وتقولُ العربُ : أدخلتُ الخاتمَ في إصبَعي ، والقُلنسوةَ في رأسِي ، ومعلومٌ أنَّ الإصبعَ هي التي تدخلُ في الخاتمِ ، ولكنَّهم أجَازُوا ذلك ؛ لأنَّ معناهُ لا يُشكِلُ.
وفائدةُ السِّلسلة : أنَّ النارَ إذا رمَت بأهلِها إلى أعلاَها جذبَتهُم الزبانيةُ بالسَّلاسلِ إلى أسفلها ، قال ابنُ عبَّاس : (لَوْ وُضِعَتْ حَلَقَةٌ مِنْ تِلْكَ السِّلْسِلَةِ عَلَى ذرْوَةِ جَبَلٍ لَذابَ كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ ، وَلَوْ جُمِعَ صَدِيدُ الدُّنْيَا كُلُّهُ لَمَا وَزَنَ حَلَقَةً وَاحِدَةً مِنْ حَلْقِ تِلْكَ السِّلْسِلَةِ). قال الكلبيُّ : (مَعَنْى قَوْلِهِ { فَاسْلُكُوهُ } أيِ اسْلُكُوا السِّلْسِلَةَ فِيْهِ كَمَا يُسْلَكُ الْخَيْطُ فِي اللُّؤْلُؤِ).
(0/0)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ } ؛ أي لا يصدِّقُ بتوحيدِ الله وعظَمتهِ ، وفيه بيانُ أنَّ هذا النوعَ من العذاب لا يكون إلاَّ للكفَّار ، وقولهُ تعالى : { وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } ؛ وهذا راجعٌ إلى منع الحقوقِ الواجبة في الشَّرع ، مثلُ الزكاةِ ونحوِها ، وفيه دليلٌ أنَّ الكافرَ يؤاخَذُ بالشَّرعيات في الآخرةِ.
(0/0)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } ؛ أي ليس لَهُ في الآخرةِ قريبٌ ينفعهُ ويحميه ، { وَلاَ طَعَامٌ } ؛ يشبعهُ ، { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ؛ وهو ماءٌ يَسِيلُ من أجسامِ أهلِ النَّار من الصديدِ والقيح والدَّمِ ، وكلُّ جُرْحٍ غَسلتَهُ فخرجَ منه شيءٌ فهو غِسْلِينٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (لَوْ أنَّ قَطْرَةً مِنَ الْغِسْلِينِ وَقَعَتْ فِي الأَرْضِ أفْسَدَتْ عَلَى النَّاسِ مَعَايشَهُمْ).
(0/0)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قوله تعالى : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ } ؛ أي لا يأكلهُ إلاَّ من يخُطئُ وخَطَؤُهم الشركُ ، وعن عكرمةَ قال : (قَرَأنَا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ (لاَ يَأْكُلُهُ إلاَّ الْخَاطِئُونَ) فَقَالَ : مَهْ كُلُّنَا نُخْطِئُ). والخطأُ في الآيةِ ضدُّ الصَّواب لا ضدُّ العمدِ. والذي ذكرَهُ اللهُ في قوله : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ }[الغاشية : 6] لا يخالفُ ما في هذه الآياتِ ، ولأن النارَ درَكَاتٌ ، فمنهم مَن طعامهُ الغِسْلِين ، ومنه من طعامهُ الضَّرِيعُ ، ومنهم من طعامهُ الزَّقُّومُ.
(0/0)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } ؛ معناهُ : أُقسِِمُ بما تُشاهِدون مِمَّا في السَّماء والأرضِ ، وبما لا تُشاهِدُون مما وراءَ السَّماء والأرضِ ، { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ؛ إنَّ القرآنَ لقولُ جبريلَ عليه السلام يرويهِ إلى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
والقرآنُ قولٌ أقسَمَ اللهُ بجميعِ ما خلَقَ إعظاماً للقَسَمِ ، وذكرَ في أوَّل الآيةِ (لاَ) وذلك لأنه قد يُزَادُ في القسَمِ كما يقالُ : لاَ واللهِ لا أفعَلُ كذا ، ويجوزُ أن تكون (لاَ) هاهنا صلةٌ في الكلامِ مولَّدَةٌ ، وهو قولُ البصرِيِّين. ويجوزُ أن تكون لرَدِّ مقالةِ الكفَّار عليهم ، وهو قولُ الفرَّاء ، والمعنى : ليس كما يقولُ المشركون أُقسِمُ بما تُبصِرون.
(0/0)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ؛ أي القرآنُ من عندِ الله ، وأرادَ بالقليلِ نفيَ إيمانِهم أصلاً ، { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } والكاهنُ : هو الْمُنَجِّمُ ، وَقِيْلَ : هو الذي يُوهِمُ معرفةَ الأمور بما يزعمُ أنَّ له خَدَماً من الجنِّ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ معناهُ : ولكنَّهُ تنْزِيلٌ من خالقِ الخلْقِ أجمعين على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } ؛ معناهُ : لو اخترعَ علينا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بعضَ هذا القرآنِ ، وتكلَّفَ القولَ من تَلقاءِ نفسهِ ما لم نَقُلْهُ ، لأَخذنا منه بقُوَّتنا وقُدرتنا عليه ثم أهلَكناهُ ، واليمينُ تُذكَرُ ويرادُ بها القوةَ ، قال الشاعرُ : إذا مَا رَأيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بالْيَمِينِ
(0/0)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } ؛ وهو عِرْقٌ يجرِي في الظَّهر حتى يتَّصِلَ بالقلب ، إذا انقطعَ ماتَ صاحبهُ.
(0/0)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ؛ أي ليس منكم أحدٌ يَحْجِزُنَا عنه بأنْ يكون حَائِلاً بينه وبين عذابنا. والمعنى : لو تكلَّفَ ذلك لعَاقَبناهُ ، ثم لم تَقدِرُوا أنتم على دفعِ عُقوبتنا.
(0/0)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } ؛ يعني القرآنَ عِظَةٌ لِمَن اتَّقى عقابَ اللهِ ، { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } ؛ بالقرآنِ ، { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ } ؛ في الآخرةِ يندَمُون على تركِ الإيمان به ، { وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ } ؛ أي أصدَقُ يقينٍ أنه من اللهِ تعالى لِمَن تدبَّرَ وانصفَ ، { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } ؛ أي سبحِ اللهَ العظيمَ ونزِّههُ عمَّا لا يليقُ بهِ.
(0/0)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ؛ نزَلت في النَّضِرِ بن الحارثِ حين قالَ{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال : 32] والمعنى دعَا دعاءً على نفسهِ بعذابٍ ، وذلك العذابُ واقعٌ لا محالةَ لا بدُّ منهُ ، ذلكَ العذاب عندَ وُقوعهِ ، { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } ؛ يدفعهُ عنهم ، فقُتِلَ النَّضِرُ يومَ بدرٍ صبراً وهو من الكافرِين ، ولم يُقتَلْ يومئذٍ من الأُسارى غيرهُ وغيرُ عُقبَةَ بن أبي مُعيطٍ.
(0/0)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ } ؛ أي وُقوعُ ذلك العذاب من اللهِ ذي الفواضِلِ والنِّعَمِ ، وسُمِّيت معارجُ ؛ لأنَّها على مراتبَ. وَقِيْلَ : معناهُ : ذِي معالِي الدَّرجاتِ التي يُعطيها أولياءَهُ في الجنَّة. وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : ذِي السَّمَوَاتِ) سَمَّاها معارجَ ؛ لأنَّ الملائكةَ تعرجُ فيها. وقال ابن زيدٍ : (مَعْنَى الآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأ (سَالَ) بغَيْرِ هَمْزَةٍ ؛ أيْ سَالَ وَادٍ مِنْ أوْدِيَةِ جَهَنَّمَ بعَذابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ).
(0/0)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ } ؛ أي تصعدُ الملائكة والرُّوحُ يعني جبريلَ عليه السلام { إِلَيْهِ } ؛ أي إلى الموضعِ الذي لا يجرِي لأحدٍ سواهُ فيه حكمٌ. وقولهُ تعالى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ؛ قال عكرمةُ وقتادة : (يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وعن أبي سعيدٍ قالَ : " قِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أطْوَلَ هَذا الْيَوْمَ - يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ -! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا " ".
وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : تعرجُ الملائكةُ والروح إليه في يومٍ يكون مقدارهُ خَمسين ألفَ سَنة لعُروجِ غيرِهم ، وذلك أنَّ مِن أسفلِ الأرضين السَّبع إلى فوقِ السموات السَّبع خمسين ألفَ سنةٍ ، هكذا رُوي عن مجاهدٍ. وأما قولهُ{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ }[السجدة : 5] هو ما بين سَماء الدُّنيا إلى الأرضِ في الصُّعود خمسمائةِ سَنة ، وفي النُّزول خمسمائةِ سَنة كذلكَ ، فذلكَ قولهُ { أَلْفَ سَنَةٍ } لغيرِ الملائكةِ.
وقال يَمانُ : (يَعْنِي : الْقِيَامَةَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ مَوْطِناً ، كُلُّ مَوْطِنٍ ألْفُ سَنَةٍ). وفيه تقديمٌ وتأخير ؛ كأنَّه قالَ : ليس له دافعٌ في يومٍ كان مقدارهُ خمسين ألفَ سنةٍ ، تعرجُ الملائكة والروحُ إليه. وَقِيْلَ : معنى الآية : لو جعلَ اللهُ محاسبةَ الخلائقِ إلى أحدٍ غيرهِ لم يفرَغْ منهُ في خمسين ألف سَنة ، وهو يفرغُ منه في ساعةٍ واحدة ؛ لأنه سريعُ الحساب.
(0/0)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } ؛ أي اصبرْ يا مُحَمَّدُ على تبليغِ الوحي والرسالةِ وعلى ما يلحقُكَ من الأذيَّة من الكفار ، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جَزَعَ فيهِ ولا شكوَى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } ؛ أي يرَونَ العذابَ بعيداً غيرَ كائنٍ ، كما يخبرُ الرجلُ عن شيءٍ فيقولُ : هذا بعيدٌ ؛ أي هذا مما لا يكونُ ، وَنحنُ ، { وَنَرَاهُ قَرِيباً } ؛ أي صَحيحاً كائناً ؛ لأنَّ كلَّ ما هو كائنٌ قريبٌ.
ثم أخبرَ متى يقعُ العذابُ فقالَ تعالى : { يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ } أي كالصُّفرِ الْمُذاب ، وَقِيْلَ : كَدُرْدِيِّ الزيتِ ، وقال الحسنُ : (مِثْلِ الْفِضَّةِ إذا أُذِيبَتْ) ، { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ } ؛ أي كالصُّوفِ الأحمرِ ، وهو أضعفُ الصُّوفِ ، { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } ؛ أي لا يسألُ قريباً عن قرائبهِ لاشتغالِ كلٍّ بنفسهِ من شدَّة الأهوالِ.
وقرأ البزيُّ عن ابنِ كثير (وَلاَ يُسْأَلُ حَمِيمٌ) بضمِّ الياء أي لا يقالُ لحميمٍ : أينَ حَمِيمُكَ ؟ قال الفرَّاءُ : (وَلَسْتُ أشْتَهِي ذلِكَ ؛ ضَمَّ اليَّاءِ ؛ لأنَّهُ مُخَالِفُ لِجَمَاعَةِ الْقُرَّاءِ).
(0/0)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُبَصَّرُونَهُمْ } ؛ أي يعرفُ الأقاربُ أقاربَهم ساعةً من النهار في ذلك اليومِ ، ثم لا تعارُفَ بعد تلكَ الساعةِ ، فيُبَصَّرُ الرجلُ حَمِيمَهُ بعدَ ذلك فلا يُكلِّمهُ. والمعنى : يعرِفُ الحميمُ حميمَهُ حتى يعرفَهُ ، ومع ذلك لا يسألهُ عن شأنهِ لشُغلهِ بنفسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ } ؛ أي يتمنَّى الكافرُ أن يَفدِي نفسَهُ من عذاب الله بأولادِه وزوجتهِ وأخيه. وقولهُ تعالى : { وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ } ؛ أي وعشيرتهِ الأقرَبين التي تضُمه ويأوي إليها ، وتنصرهُ في المكارهِ والشدائد ، ويوَدُّ أيضاً أن يفتَدِي ، { وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ } ذلك الفداءُ من العذاب.
(0/0)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ } ؛ لا يُنجيه ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا } ؛ وهي من أسماءِ النَّار ، سُميت بهذا الاسمِ في قولهِ : { لَظَى } ؛ أي توقَدُ ، واللَّظَى هو اللَّهَبُ الخالصُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى } ؛ ؛ صفةُ النار ؛ أي كثرةُ النَّزعِ للأعضاءِ والأطرافِ.
والشَّوَى : جمعُ الشَّوَاةِ ؛ وهو الطَّرْفُ ، وسُمِّيت جِلدَةُ الرأسِ أيضاً بهذا الاسمِ. وفي الحديثِ : " إنَّ النَّارَ تَنْزِعُ قَحْفَ رَأسِهِ فَتَأْكُلُ الدِّمَاغَ كُلَّهُ ، ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ ، فَتَعُودُ لأَكْلِهِ ، فَذلِكَ دَأبُهَا أبَداً " وَقِيْلَ : ارتفعَ قوله (نَزَّاعَةٌ) على إضمار : هي نزاعةٌ للشَّوى ؛ تنْزِعُ اليدَين والرِّجلَين وسائرِ الأطراف ، فلا تتركُ لَحماً ولا جِلداً إلاَّ أحرقتْهُ.
(0/0)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } أي تدعُو النارُ من أعرضَ عن الإيمانِ وتولَّى عن التوحيدِ وأدبرَ عن الحقِّ ، فتقولُ : إلَيَّ يا مشركُ ؛ إلَيَّ يا منافقُ ؛ إلَيَّ.. إلَيَّ ، فإنَّ مستقرَّكَ فِيَّ ، وَتدعُوا أيضاً من { وَجَمَعَ } ، المالَ في الدنيا ، { فَأَوْعَى } ؛ أي فجعله في الأوعيةِ ، لم يصِلْ بهِ رَحِماً ولا أدَّى فريضةً ولا أنفقَهُ في طاعةِ الله تعالى.
(0/0)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } ؛ أي ضَجُوراً شَحِيحاً شديدَ الحرصِ مع قلَّة الصبرِ ، وتفسيرُ الْهُلُوعِ مع ما ذكرَهُ اللهُ تعالى : { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } ؛ يعنِي إذا أصَابَهُ الفقرُ والشدَّةُ جَزِعَ فلم يصبرْ ولم يحتسِبْ ، وإذا أصابَهُ ما يُسَرُّ به من المالِ والسِّعة منعَ خلقَ اللهِ منه ولم يشكُرْ.
وعن ابنِ عبَّاس أنَّهُ قال : (الْهَلُوعُ الَّذِي يَرْضَى عِنْدَ الْمَوْجُودِ ، وَيَسْخَطُ عِنْدَ الْمَفْقُودِ). وَقِيْلَ : هو الذي يكون نَسَّاءً عندَ النِّعَمِ ، دعَّاءً عندَ الْمِحَنِ ، وهذا كلُّه إخبارٌ عما خُلِقَ الإنسانُ عليه من جهةِ الطَّبعِ ، ثم نَهاهُ عن الجزعِ والمنعِ ، يستحقُّ بذلك جزيلَ الثواب.
(0/0)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } ؛ يعني : فإنَّهم يَغلِبُونَ فرطَ الهلعِ لِثقَتِهِمْ بربهم ، وثقتِهم بمقدوراتهِ ، والمعنى : إلاَّ المصَلِّين الصلواتِ الخمسِ ، ويدُومُونَ عليها ولا يدَعُونَها ليلاً ولا نَهاراً. وعن عِمران بن الْحُصَينِ : أنَّ معناهُ : (هُمُ الَّذِينَ لاَ يَلْتَفِتُونَ فِي صَلاَتِهِمْ يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً).
(0/0)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } ؛ يعني الزكاةَ المفروضةَ ؛ لأن ما لا يكون مَفرُوضاً لا يكون مَعْلُوماً ، وقولهُ تعالى : { لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ } ؛ السائلُ : الطَّوَّافُ الذي يسالُ الناسَ ، والْمَحْرُومُ : الذي يُحرَمُ وجوهَ الاكتساب ، لا يَسأَلُ ولا يُعطَى. وعن ابنِ عبَّاس قال : (هُوَ الَّذِي لاَ تَسْتَقِيمُ لَهُ تِجَارَةٌ). وَقِيْلَ : هو الذي يُسهَمُ له في الغنيمةِ.
" وسُئل رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن المحرومِ فقالَ : " هُوَ الَّذِي تُحُمِّلَ نَخْلُ النَّاسِ ، ولا يُحْمَلُ نَخْلُهُ ، وَيَزْكُو زَرْعُ النَّاسِ ، وَلاَ يَزْكُو زَرْعَهُ ، وَتَلْبَنُ شَاءُ النَّاسِ وَلاَ تَلْبَنُ شَاهُهُ " ووجهُ استثناءِ المصلِّين والمنفقِين : أنَّ المصلِّن لا يفعَلُون ما يفعلهُ الْهَلُوعُ ؛ لأنَّهم يؤدُّون حقَّ اللهِ ؛ فإنَّ مُداومتَهم على طاعةِ الله تَمنَعُهم عن أفعالِ الكفَّار.
(0/0)
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } ؛ أي خَائِفُون حَذِرون ، { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي لا يُؤمَنُ وقوعهُ بمَن يستحقُّه.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؛ أي لا يُرسِلُونَها إلاَّ على أزواجِهم الأربعِ أو جَوَاريهِمْ ، { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ، أي فإنَّهم لا يُلاَمُونَ على تركِ حفظِ فُروجِهم عن هؤلاءِ ، { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ } ؛ أي فمَنِ اعتدَى وضَلَّ في استباحةِ الوطئِ طريقاً غيرَ هذين الطَّريقين ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ } ؛ يتعدَّون الحلالَ إلى الحرامَ.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)
قوله : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } ؛ معناهُ : والذين هُم لأَمانَاتِهم التي ائتُمِنوا عليها في أمرِ الدين ، والذين للعَهْدِ الذي بُعِثَ به الأنبياءُ إلى الخلقِ رَاعُونَ ، وكلُّ محافظٍ على شيء فهو راعٍ له ، والإمامُ رَاعٍ لرعيَّتهِ. ويَدْخُلُ في هذه الآيةِ أماناتُ الناسِ فيما بينهم وعهودُهم وعقودهم بينهم.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } ؛ أي الذين يقُومون بأدَائِها على وَجهها ، ولا يكتُمونَها وإنْ كانت على أنفسهم ، { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ؛ أي يُراعون مواقيتَها وشروطَها وحدودَها.
والفائدةُ في إعادةِ ذكرِ الصَّلاة ؛ لتعظيمِ أمرِها وتفخيم شأنِها. وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } ؛ معناهُ : الذين استَجمَعُوا هذه الخصَالَ في جنَّاتٍ في الآخرةِ مُكرَمِين بالتُّحَفِ والهدايَا.
(0/0)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } ؛ هذه الآيةُ في المستَهزِئين ؛ وهم خمسةٌ سَمَّيناهم من قبلُ ، كانوا قد جلَسُوا حول النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستَهزِئُونَ بالقرآنِ ويكذِّبون به ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى : ما لَهم ينظُرون إليك ، ويجلِسُون عندكَ وهم لا ينتَفعون بما يسمَعون ، والْمُهْطِعُ : الْمُقْبلُ على الشَّيء ببصرهِ لا يُزيله ، وكانوا ينظرون إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم نظرةَ العداوَةِ غَيظاً وحِنْقاً. وَقِيْلَ : معنى مُهْطِعِينَ : مُدِيْمِينَ النظرَ متطلِّعين نحوكَ ، وهو نُصِبَ على الحالِ.
(0/0)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } ؛ أي عن يَمين النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشِمالِهِ حِلَقاً حِلَقاً ، وجماعةً جماعةً ، وعصبةً عصبةً ، والعِزِينُ : جماعةٌ في تَفْرِقَةٍ ، واحدتُها عِزَةٌ ، ونظيرُها ثُبَةٌ وَثِبينَ.
وكان هؤلاءِ الكفَّار يقولون : إنْ كان أصحابُ مُحَمَّدٍ يدخُلون الجنةَ ، فإنَّا ندخُلها قبلَهم ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ } ؛ لا يكون ذلك ، { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } ؛ أي مِن المقاذيرِ والأنجاسِ والنُّطَفِ والعَلَقِ ، فأيُّ شيءٍ لَهم يدخُلون به الجنَّة ، ومِن حُكمِنا في بني آدمَ أن لاَ يدخُلَ أحدٌ منهم الجنَّة إلاّ بالإيمانِ والعمل الصالحِ ، فماذا يُطمِعُهم في ذلك وهم كفَّار ؟ وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ الناسَ كلَّهم من أصلٍ واحد ، وإنما يتفَاضَلُون بالإيمانِ والطاعة.
قرأ الحسنُ وطلحة (يَدْخُلَ) بفتح الياء وضمِّ الخاء ، ومعنى : إنَّا خلَقناهم مما يعلَمُون ، يعني لا يستوجبُ أحدُ الجنَّةَ بكونه شَريفاً ، فإنَّ مادةَ الخلقِ واحدةٌ ، بل يَستَوجِبُونَها بالطاعةِ. قال قتادةُ في هذه الآيةِ : (إنَّمَا خُلِقْتَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ قَذرٍ فَاتَقِ اللهَ). قال بعضُهم : أنَّى لابنِ آدمَ الكِبَرُ ؛ وقد خرجَ من مخرجِ البول مرَّتين ، ثم مِن بطنِ أُمِّه متَلَوِّثاً بالدَّمِ متلطِّخاً ببولهِ وخَرائهِ.
(0/0)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ } ؛ معناهُ : فَأُقْسِمُ برب مشارقِ الشَّمسِ ومغاربها في الشِّتاء والصيفِ ، يعني مَشْرِقَ كل يومٍ في السَّنة ومَغرِبَهُ ، { إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } ؛ أي على أن نُهلِكَهم ، ونأتِي بخلقٍ أطْوَعَ للهِ منهم ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ؛ أي بمغلُوبين بالفَوْتِ { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } ؛ أي اترُكْهُمْ يا مُحَمَّدُ يَخوضُوا في بَاطِلهم ويلعَبُوا في كُفرهم ، { حَتَّى يُلَاقُواْ } ؛ يُعاينُوا ، { يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } ؛ فيه وهو يومُ القيامةِ ، فأنتقِمُ منهم بأعمالِهم ، وهذا لفظهُ لفظُ الأمرِ ، ومعناهُ : الوعدُ. وَقِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ.
(0/0)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً } ؛ بيانُ اليومِ الذي يُوعَدون ، وهو يومُ خروجِهم من القبور سِرَاعاً نحوَ الدَّاعي ، وذلك حين يسمَعُون الصيحةَ الآخِرةَ ، { كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } ؛ أي إلى عَلَمٍ منصوبٍ لَهم يُسرِعون ويستبقون إلى موضعِ الحساب.
والأَجْدَاثُ : جمعُ الْجَدَثِ وهو القبرُ ، وكذلك الْحَرْفُ ، والسِّرَاعُ : جمعُ سَرِيعٍ ، والسَّرَائِعُ بمعنى الْمُسْرِعِ ، كالأليم بمعنى الْمُؤلِم ، والإيفاضُ : الإسراعُ ، يقال : وَفَضَ يُوفِضُ ؛ وَأوْفَضَ يُوفِضُ ؛ إذا أسرعَ في عَدْوهِ.
(0/0)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ؛ أي يخرُجون من القُبور ذليلةً أبصَارُهم تَعْلُوهم مذلَّة وسوادُ الوجوهِ ، { ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ؛ فيه العذابَ على ألْسِنَةِ الرُّسلِ ، فلم يُصدِّقُوهم.
وقرأ زيدُ بن ثابت وأبو الرجاءِ وأبو العاليةِ والحسن وابن عامرٍ (إلَى نُصُبٍ) بضمَّتين ومعناهُ : الأصنامُ التي كانوا ينصِبونَها ويعبُدونَها ويَذبَحُونَ تَقرُّباً إليها.
(0/0)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2)
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ } ؛ أي خوِّفهُم من السُّخطِ والعذاب إنْ لم يُؤمِنوا باللهِ ، { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وهو الغرقُ بالطُّوفانِ ، فأتَاهُم ؛ { قَالَ ياقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي رسولٌ مُخَوِّفٌ بلُغةٍ تعرفونَها.
(0/0)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنِ اعبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } ؛ أي أُرسِلتُ إليكم لتعبدُوا اللهَ وتوَحِّدوهُ وتأْتَمِروا بجميعِ ما آمرُكم به ، وتتَّقُوا سُخطَهُ وعذابَهُ ، { وَأَطِيعُونِ } فيما أُبيِّنهُ لكم عن اللهِ تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ } ؛ جوابُ الأمرِ ؛ أي افعَلُوا ما أمَرتُكم به يغفِرْ لكُم ، { مِّن ذُنُوبِكُمْ } ؛ ويزيلُ عقابَهُ عنكم.
ودخول (مِنْ) في الآيةِ لتخصيصِ الذُّنوب من سائرِ الأشياءِ ، لا لتبعيضِ الذُّنوب كما في قولهِ تعالى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ }[الحج : 30]. ويقالُ : معناهُ : نَغفِرْ لكم من الذُّنوب ما لا تَبعَةَ لأحدٍ فيه ولا مظلمةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي يؤخِّرْكُم بلا عذابٍ إلى منتهَى آجالِكم ، فلا يصيبُكم غرقٌ ولا شيءٌ من عذاب الاستئصالِ إنْ آمَنتُم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } ؛ معناهُ : آمِنُوا قبلَ الموتِ تسلَمُوا من العقوباتِ والشَّدائدِ ، فإنَّ أجلَ الموتِ إذا جاءَ لا يمكِنُكم الإيمانُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ أي لو كُنتم تصدِّقُون ما أقولُ لكم.
(0/0)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } ؛ يعني لَمَّا آيَسَ نوحُ من إيمانِ قومه قال : رب إنِّي دعوتُ قَومِي إلى التوحيدِ والطاعةِ لَيلاً سِرّاً ونَهاراً علانيةً ، { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً } ؛ فلم يزدَادُوا عندَ دُعائِي إيَّاهم إلاَّ تَباعُداً عن الإيمانِ بالجهلِ الغالب عليهم ، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ } ؛ إلى طاعتِكَ والإيمانِ بكَ ، { لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ } ؛ لئَلاَّ يسمَعُوا صَوتِي ، { وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ } ؛ أي غَطَّوا بها وُجوهَهم ؛ لئَلاَّ يرَونِي ، { وَأَصَرُّواْ } ؛ على كُفرِهم ، { وَاسْتَكْبَرُواْ } ؛ عن قبولِ الحقِّ والإيمان بكَ ، { اسْتِكْبَاراً }.
(0/0)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } ؛ أي مُعلِناً لهم بالدُّعاء وعلاَ صَوتِي ، { ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ } ؛ أي كرَّرتُ الدُّعاءَ مُعلِناً و ، { إِسْرَاراً } ، وسلَكتُ معهم في الدَّعوةِ كُلَّ مَسلَكٍ ومذهبٍ ، وتلطَّفتُ لهم كُلُّ تلَطُّفٍ ، { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ؛ للذُّنوب يَجمَعُ لكم من الحظِّ الوافرِ في الآخرةِ ، الخصيب في الدُّنيا والغِنَى ، { يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ } ؛ بالمطرِ ، { مِّدْرَاراً } ؛ كثيرَ الدُّرُور ، كلَّما احتَجتُم إليه ، { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } ؛ في الدُّنيا بساتين ، { وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } ؛ تجرِي على وجهِ الأرض لمنَافِعكم.
وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى كان قد حبسَ المطرَ حتى لم يُبقِ لهم دابَّةً ولا نَباتاً أخضرَ ، وأعقمَ أرحامَ النِّساء وأصلابَ الرِّجال حتى لم يكن لَهم ولدٌ في مدة سَبع سنين ، فوعدَهم نوحُ عليه السلام بردِّ ذلك كلِّه عليهم إنْ آمَنُوا.
والسُّنة في الاستسقاءِ تقديمُ القُرَب والطاعاتِ ، والاستكثارُ من الاستغفار كما رُوي عن عمرَ رضي الله عنه : (أنَّهُ خَرَجَ لِلاسْتِسْقَاءِ ، فَجَعَلَ يَسْتَكْثِرُ مِنَ الاسْتِغْفَار ، فَقِيلَ لَهُ : مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ وَمَا رَدَّدْتَ عَنِ الاسْتِغْفَار ؟ فَقَالَ : لَقَدِ اسْتَسْقَيْتُ بمَجَادِيحِ السَّمَاءِ الَّتِي يَسْتَنْزِلُ بهَا الْقَطْرُ ، ثُمَّ قَرَأ : { اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } ).
وكان بكرُ بن عبدِالله يقولُ : (إنَّ أكْثَرَ النَّاسِ ذُنُوباً أقَلَّهُمُ اسْتِغْفَاراً ، وَأكْثَرُهُمْ اسْتِغْفَاراً أقَلُّهُمْ ذُنُوباً). وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّهَا قَالَتْ : (طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَاراً كَثِيراً).
(0/0)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ؛ أي مَا لكم لا تخَافُونَ للهِ عظَمةً ، وتفعَلُون ما أمَركم به تعظيماً له ، وترجُون منه بذلك الثوابَ ، والمعنى : ما لَكم لا تعلَمُون حقَّ عظَمتهِ فتوَحِّدوهُ وتطيعوهُ ، وقد جعلَ لكم في أنفُسكم آيةً تدلُّ على توحيدهِ من خَلقهِ إيَّاكم ، فقال تعالى : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } ؛ يعني نطفةً ثم علقةً ثم مُضغَةً ثم صَبيّاً ثم شَابّاً ثم شَيخاً ، وقلَّبَكم في ذلك حالاً بعدَ حالٍ ، قال ابنُ الأنباريِّ : (الطَّوْرُ : الْحَالُ).
(0/0)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً } ؛ أي مُطبَقَةً بعضُها فوقَ بعضٍ ، { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَجْهُهُ فِي السَّمَاءِ وَقَفَاهُ فِي الأَرْضِ) ، فالقمرُ وإنْ كان في السَّماء الدُّنيا ، فإنَّما يلِي السَّمواتِ منه يُضِيءُ لهم ، وما يلِي الأرضَ منه يضيءُ لأهلِ الأرض.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً } ؛ أي سِرَاجاً للعالَم يُبصِرُون بها منافعَ دُنياهم ، كما أنَّ المصباحَ سراجٌ الإنسانِ في البيت الْمُظلِمِ ، قال عبدُالله بن عمرَ : (وَجْهُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إلَى السَّمَوَاتِ ، وَقَفَاهُمَا إلَى الأَرْضِ ، يُضِيئَانِ فِي السَّمَاءِ ، كَمَا يُضِيئَانِ فِي الأَرْضِ).
وقيل لعبدِالله بن عمرَ : مَا بَالُ الشَّمْسِ تَعْلُونَا أيَّاماً وَتَبْرُدُ أيَّاماً ؟ قَالَ : (إنَّهَا فِي الصَّيْفِ فِي السَّمَاء الرَّابعَةِ ، وَفِي الشِّتَاءِ فِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ ، وَلَوْ كَانَتُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا لَمَا قَامَ لَهَا شَيْءٌ).
(0/0)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً } ؛ يعني مبتدأ خلقِ آدمَ ، فهو خُلِقَ من الأرضِ والناسُ أولادهُ ، ونباتهُ في هذا الموضعِ أبلغُ من إنباتهِ ، كأنه قالَ : أنبَتُّكم فنبتُّم نَباتاً ، والنباتُ ما يخرجُ حالاً بعد حالٍ. وقولهُ تعالى : { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } ؛ أي في الأرضِ بعدَ الموتِ ، يعني يُقبَرون فيها ، { وَيُخْرِجُكُمْ } ؛ منها ، { إِخْرَاجاً } ؛ عند النفخةِ الأخيرةِ للبعث.
(0/0)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً } ؛ أي فَرَشَها وبسَطَها لكم كَهَيئَةِ البساطِ ، تستقرُّون عليها وتنصَرِفون فيها ، جعلَها الله لكم كذلك ؛ { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } ؛ طُرقاً بيِّنةً واسعةً ، قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بالْفِجَاجِ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَةَ) والفَجُّ : الطريقُ بين الجبَلين.
(0/0)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } ؛ أي لم يُجيبوا دعوَتِي ، { وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } ؛ أي واتَّبعُوا السفهاءَ والفقراء والرؤساءَ والكُبراءَ الذين لم تَزِدهُم كثرةُ الأموالِ والأولاد إلاّ ضَلالاً في الدينِ وعقوبةً في الآخرةِ. والمعنى : أنَّ نوحاً عليه السلام قالَ : يا رب إنَّهم عصَونِي فيما أمرتُهم به ودعوتُهم إليه ، واتَّبعوا رُؤسَاءَهم وكُبراءَهم ، بسبب الكثرة والثروةِ ، وكانوا يصرِفون سفَلَتَهم عن دينِ الإسلامِ. وَالْوُلْدُ وَالْوَلَدُ مِثْلُ الْقُرْبُ وَالْقَرَبُ وَالْعُجْمُ وَالْعَجَمُ.
(0/0)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } ؛ أي مَكْراً عَظيماً ، والكَبيرُ والكُبَّارُ بمعنىً واحدٍ ، ومَكرُهم الكبيرُ إعظامُ القُربَةِ على الله تعالى ، وتوصيةُ بعضِهم بقولهم : { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ } ؛ أي لا تدَعُوا عبادةَ أصنامِكم. وَقِيْلَ : مكرُهم الكبيرُ : أنَّهم جَرُّوا سفلتَهم على قتلِ نوح عليه السلام ، قرأ ابنُ مُحَيْصِن وعيسى (كُبَاراً) بالتخفيف.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } ، أي لا تدَعُنَّ عبادةَ أصنامكم ، ولا تدَعُنَّ عبادةَ وُدّاً ولا سُوَاعاً ويغوثَ ويعوقَ ونَسْراً ، هذه خمسةُ أصنامٍ لَهم كانوا يَعبُدونَها ويقدِّمونَها على غيرِها.
فلما جاءَ الغرقُ اندفنَتْ تلك الأصنامُ ، وكانت مدفونةً إلى أن أخرجَها الشيطانُ لِمُشرِكي العرب ، فوقعَ كلُّ صنمٍ منها في أيدِي قومٍ ، فاتَّخذت قُضَاعَةُ وُدّاً يعبدونَها بدَومَةِ الْجَنْدَلِ ، ثم توارَثُوها إلى أن جاءَ الإسلامُ ، وهي عندَهم. وكان سُوَاعُ لِهُذيلٍ ، وكان يغوثُ لِبَنِي غُطَيفٍ من مراد ، وكان يعوقُ لكَهْلاَنَ ، ونَسْرٌ لخثعم ، وأما اللاَّتُ لثَقِيفَ ، والعُزَّى لسُلَيم وغطَفَانَ وجَشم وسَعدٍ ونَضِرِ بن بكرٍ. ومناةُ لقديد ، وأسافُ ونائلةٌُ وهُبَلُ لأهلِ مكَّة ، فكان أسَافُ حيالَ الحجرِ الأسود ، ونائلةُ حيالَ الرُّكن اليمانِيِّ ، وهُبَلُ في جوفِ الكعبة ، ثمانيةَ عشرَ ذِراعاً. قال الواقديُّ : (كَانَ وُدٌّ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ ، وَنَسْرُ عَلَى صُورَةِ نَسْرٍ مِنَ الطَّيْرِ). قرأ نافعُ (وُدّاً) بضمِّ الواو ، وقرأ الباقون بفتحِها وهما لُغتان.
(0/0)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
قوله تعالى : { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } ؛ أي أضَلَّ الأصنامُ كثيراً يعني ضَلُّوا بسببها لقوله تعالى{ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ }[إبراهيم : 36] ، والمعنى : قد ضَلَّ كثيرٌ من الناسِ بهذه الأصنامِ ، وإنما أضافَ إلى الأصنامِ ؛ لأنَّها كانت سببَ ضَلالَتِهم.
وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً } ؛ هذا دعاءٌ عليهم بعذابٍ ، أعلمَهُ اللهُ أنَّهم لا يُؤمنون وهو قوله تعالى : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ }[هود : 36] ، والمعنى : لا تُزِدهُم إلاَّ خُسراناً وهلاكاً ، وإنما لم يُصْرَفْ (وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ) لأنَّهما ضارَعَا الأفعالَ.
(0/0)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } ؛ أي من أجلِ خطَاياهم أُغرِقُوا في الدُّنيا فأُدخلوا بذلك الغرقِ ناراً ، وفي هذا دليلٌ على عذاب القبرِ ، لأنَّ حرفَ الفاءِ للتعقيب ، فاقتضَى أنَّهم نُقِلُوا عقيبَ الغرقِ إلى النار ، والكافرُ إنَّما يدخلُ نارَ جهنَّمَ يومَ القيامةِ ، وخطايَاهم في هذهِ الآية الكفرُ. و(ما) ها هنا صِلَةٌ ، والمعنى : مِن خطايَاهم ؛ أي من أجلِها وسببها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً } ؛ أي فلم يجدُوا لأَنفُسهم من دونِ الله أحَداً فَيَنْصُرَهُمْ ولا يَمنعَهم من عذاب اللهِ.
(0/0)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } ؛ روَى قتادةُ أنه قالَ : (مَا دَعَا نُوحُ بهَذِهِ الآيَةِ إلاَّ بَعْدَ أنْ نَزَلَ عَلَيْهِ أنَّهُ{ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ }[هود : 36]. والدَّيَّارُ : متَّخِذُ الدار وسَاكنُها ، فعَمَّ اللهُ جميعَ أهلِ الأرضِ بالهلاك بدُعائهِ ، غيرَ عِلْجٍ فإنه غير عِلْجٍ إلى زمانِ موسَى عليه السلام ؛ لأنه لم يتَّخِذْ دَيراً ولا سكنَ الدارَ ، ويقالُ : ما بالدار دَيَّارٌ ؛ أي أحدٌ.
(0/0)
إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } ؛ أي إنَّكَ إن تَترُكَهم على وجهِ الأرض ولا تُهلِكَهم يُضِلُّوا عبادَكَ عن دينِكَ ، { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً } ؛ أي خَارجاً عن طاعتِكَ ، { كَفَّاراً } ؛ لنِعَمِكَ ، أخبرَ اللهُ تعالى نُوحاً عليه السلام أنَّهم لا يلِدُونَ مُؤمِناً أبَداً.
(0/0)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } ؛ يعني أباهُ لاَمِكُ بْنُ متوشلخ ، وأمَّهُ شَخْمَاءُ بنت أنُوشَ ، وكانَا مُؤمِنَين ، ولذلك استغفرَ لهما ، وقولهُ تعالى : { وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } ؛ أرادَ ببيتهِ هنا السَّفينةَ ، وَقِيْلَ : مسجدَهُ ، وَقِِيْلَ : دارَهُ.
وقوله تعالى : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ؛ عامٌّ في كلِّ مَن آمَنَ وصدَّقَ الرُّسل. وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً } ؛ والتَّبَارُ : الهلاكُ والدَّمَارُ ، ولذلك سُمي المكسورُ مُتَبَّراً ، وقد جَمَعَ نوحٌ بين دعوَتين ، دعوةٌ على الكفار ، ودعوةٌ للمؤمنين ، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ على الكفَّار فأهلكَهم ، ونَرجُو أن يستجيبَ دعاءَهُ في المؤمنين.
(0/0)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } ؛ وذلك أنَّ السماءَ لم تكن تُحرَسُ فيما بين عيسَى ومُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا ، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً نبيَّنا حُرست السماءُ ورُميتِ الشياطين بالشُّهب ، فلم يبقَ صنمٌ إلاّ خرَّ لوجههِ.
فقال إبليسُ للجنِّ : لقد حدثَ في الأرضِ حَدَثٌ لم يحدُثْ مثلَهُ ، ولا يكون هذا إلاَّ عند خروجِ نبيٍّ ، ففرَّقَ جُندَهُ في الطلب وأمرَهم أن يضربوا مشارقَ الأرضِ ومغاربَها ، وبعثَ تسعةَ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبين إلى أرضِ تُهامة ، وكان رئيسُهم يسمَّى عمرواً ، فلما انتَهوا إلى بطنِ نخلةَ وجَدُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَائماً يُصلِّي بأصحابهِ صلاةَ الفجرِ.
فلمَّا سمِعُوا القرآنَ رقَّت له قلوبُهم ، ودنَا بعضُهم من بعضٍ حُبّاً للقرآنِ حتى كَادُوا يتساقَطون على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم ، وقالُوا : هذا الذي حالَ بينَنا وبين خبرِ السَّماء ، فذلك قَوْلُهُ تَعالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ }[الأحقاف : 29] فآمَنُوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ورجَعُوا إلى قومِهم مُنذرين ، ولم يأْتُوا إبليسَ.
وقالوا لقَومِهم : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } أي بَليغاً ذا عَجَبٍ يُعجَبُ من بلاغتهِ وحُسنِ نَظْمِهِ ، { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } ؛ أي يَدعُو إلى الصَّواب من التوحيدِ والإيمان ، { فَآمَنَّا بِهِ } ؛ وصدَّقنَا به أنَّهُ مِن عندِ الله ، { وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } ؛ من بعدِ هذا اليومَ ، وكما أشركَ إبليسُ.
" فاستجابَ لهم جماعةٌ من الجنِّ فجَاءوا بهم إلى النبيِّ صلى الله عليهم وسلم ، فأقرَأهُم القرآنَ فآمَنُوا به ، وقالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَرْضَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ حِجْلٌ لَيْسَ لَنَا فِيْهِ شَيْءٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَكُمُ الرَّوْثُ وَكُلُّ أرْضٍ سَبْخَةٍ تَنْزِلُونَ بهَا تَكُونُ مُكَلَّبَةً لَكُمْ ، وَلَكُمُ الْعَظْمُ ، وَكُلُّ عَظْمٍ مَرَرْتُمْ عَلَيْهِ تَجِدُونَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ حَيْثُ يَكُونُ " ".
ثُم يُكرَهُ أن يُستَنجَى بالعظمِ والرَّوثِ. ثم انصرَفتِ الجنُّ عنه ، فأوحَى اللهُ إليه بهذه الآياتِ لبيان أنَّ الجنَّ لَمَّا ظهرَ لهم الحقُّ اتبعوهُ ، فالإنسُ أولى بذلك لأنَّهم ولدُ آدمَ ، فكان المخالفُ منهم ألْوَمَ.
ومعنى الآيةِ : قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : أُوحِيَ إلَيَّ أنه استمعَ إلى القرآنِ طائفةٌ من الجنِّ ، فلمَّا رجَعُوا إلى قومِهم قالُوا : يا قومَنا { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } بعدَ هذا اليومِ ؛ أي لا نتَّبعُ إبليسَ في الشِّركِ ، { وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } ؛ هذا من قولِ الجنِّ لقَومِهم ، معطوفٌ على قولهِ { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً } وإنَّهُ تعالَى جَدُّ ربنا وعظَمتهُ عن أنْ يتَّخِذ صاحبةً أو ولداً ، وهذا كما يقالُ : فلانٌ أعظمُ وأجَلُّ مِن أن يفعلَ كذا وكذا ، فالْجَدُّ : الْعَظَمَةُ ، وقال الحسنُ : (مَعْنَى الْجَدِّ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْغِنَى) ومنهُ قولهم في الدُّعاء : " وَلاَ يَنْفَعُ ذا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ " أي لا يَنْفَعُ ذا الغِنَى منكَ غناهُ.
(0/0)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً } ؛ والمرادُ بالسَّفيه في هذه الآيةِ إبليسَ ، وَقِيْلَ : مَن كان لا يؤمنُ من الجنِّ ، وسَفَهُهُ أنْ جعلَ للهِ صاحبةً وولداً. والشَّطَطُ : السَّرَفُ في الخروجِ عن الحقِّ ، وسُمي القولُ البعيدُ مِن قولهم : شَطَطَتِ الدَّارُ إذا بَعُدَتْ. وَقِيْلَ : الشَّطَطُ : الكذبُ والجورُ ، وهو وصفهُ بالشريكِ والولدِ.
(0/0)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي قالتِ الجنُّ : إنا ظنَنَّا أنَّ الإنسَ والجنَّ كانوا لا يكذِبُون على اللهِ بأنَّ له شَريكاً وصاحبةً وولداً حتى سَمعنا القرآنَ وتبَيَّنا الحقَّ منه.
(0/0)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ؛ معناهُ : إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا إذا نزَلُوا بوادٍ ، أو بأَرْضٍ فأَمْسَوا هنالكَ ، قالوا : نعوذُ بسيِّد هذا الوادِي من سُفهاء قومهِ ، أرَادُوا بذلك سيِّدَ الجنِّ ، فيَبيتُون في جوارٍ منهم يحفظونَهم حتى يُصبحوا ، وقالتِ الجنُّ : قد سُدْنا الجنَّ والإنسَ حتى بلغ سؤدَدُنا الإنسَ فزادَهم تعوُّذِ الإنسِ لَهم رهَقاً ؛ أي كِبْراً وعظَمةً في نُفوسِهم وسَفَهاً وطُغياناً وظُلماً.
وعن كَرْدَمِ بن أبي السَّائب الأنصاريِّ قال : (خَرَجْتُ مَعَ أبي إلَى الْمَدِينَةِ وَآوَانَا الْمَبيت إلَى رَاعِي غَنَمٍ ، فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جَاءَنَا ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلاً مِنَ الْغَنَمِ ، فَوَثَبَ الرَّاعِي فَنَادَى : يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارُكَ! فَنَادَى مُنَادِياً لاَ نَرَاهُ : يَا سَرْحَانَ أرْسِلْهُ. فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ بَيْنَ الْغَنَمِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ بمَكَّةَ { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ). قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي زَادُوهُمْ بهَذا التَّعَوُّذِ طُغْيَاناً حَتَّى قَالُوا : سُدْنَا الإنْسَ وَالْجِنَّ). والرَّهَقُ في كلامِ العرب : الإثْمُ وغَشيَانُ الْمَحارمِ.
(0/0)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً } ؛ معناهُ : أنَّ كفارَ الجنِّ ظَنُّوا كما ظَنَنتم يا أهلَ مكَّة ، أنْ لَن يبعثِ اللهُ رسولاً ، ويقال : أنْ لَنْ يبعثَ اللهُ أحداً من قبرهِ بعدَ الموتِ. والمعنى : أنَّهم كانوا لا يؤمنون بالبعثِ ، كما أنَّكم أيُّها المشرِكون لا تُؤمنون.
(0/0)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
قالتِ الجنُّ : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً } ؛ هذا إخبارٌ " عن " قولِ الجنِّ الذين سَمعوا القرآنَ وآمَنُوا بهِ ورجَعُوا إلى قومِهم مُنذرين. والمعنى : إنَّا صعَدْنا السَّماءَ وأتَيناها للطَّلب كما كُنَّا نسمعُ إلى الملائكةِ من قبلُ : فوجَدْنَاها مُلِئَتْ حَفَظَةً أقوياءَ من الملائكةِ ، ونِيرَاناً مُضيئةً يَرمُون بها إلينا ويَزجُرونا عن الاستماعِ. والْحَرَسُ : جمعُ الْحَارسِ وهو الحافظُ. والشُّهُبُ : جمعُ الشِّهاب ، وهو الشعاعُ الذي يحدُث من النجمِ ويستنيرُ في الهواءِ ، تُسميه العامَّة : الكوكبُ المنقضُّ.
(0/0)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ } ؛ رُوي عن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (لَمْ تَكُنْ قَبيلَةٌ مِنَ الْجِنِّ إلاَّ وَلَهَا مِنَ السَّمَاءِ مَقَاعِدُ لِلسَّمْعِ ، فَكَانَ إذا نَزَلَ الْوَحْيُ سَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ صَوْتاً كَصَوْتِ الْحَدِيدَةِ أُلْقِيَتْ عَلَى الصَّفَا ، فَإذا سَمِعَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ خَرُّوا لَهَا سُجَّداً ، ثُمَّ تَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ فَإنْ كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي السَّمَاءِ قَالُواْ : الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ ، وَإذا كَانَ مِمَّا يَكُونُ فِي الأَرْضِ مِنْ عَيْبٍ أوْ مَوْتٍ تَكَلَّمُوا بهِ ، فَتَسْمَعُهُ الشَّيَاطِينُ فَيَنْزِلُونَ بهِ عَلَى أوْلِيَائِهِمْ مِنَ الإنْسِ. فَلَمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زُجِرُواْ بالنُّجُومِ) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } ؛ أي مَن يحاولُ الاستماعَ الآنَ يجِدْ له كَوكباً قد أرصِدَ له يَرميهِ بنارهِ.
(0/0)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } ؛ معناهُ : أنَّهم قالوا : لا ندري أنَّا رُمينا بالشُّهب أنَّ اللهَ تعالى أرادَ إنزالَ العذاب بالناس لمعاصِيهم ، أو أرادَ بعثَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ السماءَ لم تُحرَسْ قطُّ إلاَّ لنُبوَّةٍ ، أو لعُقوبَةٍ عاجلةٍ عامَّة.
(0/0)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
قَوْلُهُ تَعاَلَى : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } ؛ أي منَّا الْمُطِيعونَ له في أمرهِ ونَهيهِ ، ومنَّا أهلُ المعاصي ، { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } ؛ أي كنا أهلَ مُلكٍ شتَّى مؤمنين وكافرين. وَقِيْلَ : كنَّا جماعاتٍ متفرِّقين وأصنافاً مختلفةً. والقِدَّةُ : القطعةُ من الشَّيْءِ ، يقالُ : صارَ القومُ قِدَداً إذا تفرَّقت حالاَتُهم ، قال الحسنُ : (الْجِنُّ أمْثَالُكُمْ ، مِنْهُمْ مُرْجِئَةٌ وَقَدِرَّيةٌ وَرَافِضِيَّةٌ وَشِيعَةٌ).
وقال الأخفشُ : (مَعْنَى قَوْلِهِمْ { كُنَّا طَرَآئِقَ } أيْ ضُرُوباً). وقال أبو عُبيد : (أصْنَافاً) ، وقال المؤرج : (أجْنَاساً).وقال ابنُ كَيسان : (شِيَعاً) وَفِرَقاً لِكُلِّ فِرْقَةٍ هَوًى). وقال ابنُ المسيَّب : (كُنَّا مُسْلِمِينَ وَيَهُوداً وَنَصَارَى). ويقال : فلانٌ طريقةُ قومهِ ، أي سيِّدٌ مُطَاعٌ فيهم.
(0/0)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي إنَّا عَلِمنَا أنْ لن نُعجِزَ اللهَ في الأرضِ إذا أرادَ بنا أمْراً ، { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } ؛ أي إنَّهُ يُدركُنا حيث كُنَّا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ } ؛ أي لما سَمِعنا القرآنَ آمَنَّا به ؛ وصدَّقنا أنه من عندِ الله ، { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } ؛ أي لا يخافُ نُقصَاناً من ثواب عمَلهِ ، { وَلاَ رَهَقاً } ؛ أي ولا ظُلماً ولا مَكرُوهاً يخشاهُ.
(0/0)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ } ؛ أي ومنَّا الجائِرُونَ الظَّالمون ، قال ابنُ عبَّاس : (الْقَاسِطُونَ هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا للهِ نَدّاً) ، فالقاسِطُ : هو العادِلُ عنِ الحقِّ ، والْمُقْسِطُ : هو الْمُعْدِلُ إلَى الحقِّ ، ونظيرهُ : تَرِبَ الرجلُ إذا افتقرَ ، وأتْرَبَ إذا استغنَى ، فالأولُ هو الذي ذهبَ مالهُ حتى قعدَ على التُّراب ، والثانِي كثُرَ مالهُ حتى صارَ كالتُّراب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَسْلَمَ } ؛ معناهُ : فمَن أخلصَ بالتوحيدِ ، { فَأُوْلَـائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } ؛ أي العادِلُون عن طريقةِ الإسلام ، فأُولئك بمنْزِلةِ الْحَطَب في النار تشتعلُ النارُ في أبدانِهم ، إلى هُنا كلامُ الجنِّ وانقطعَ.
(0/0)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } ؛ أوحَى إلى أنه لو استقامَ أهلُ مكَّة على طريقةِ الهدى ، لوسَّعنا عليهم أرزاقَهم بالمطرِ والنباتِ والماء. والغَدَقُ : الكثيرُ ، قال مقاتلُ : (معناهُ : لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً كَثِيراً مِنَ السَّمَاءِ بَعْدَ مَا رُفِعَ عَنْهُمْ الْمَطَرُ سَبْعَ سِنِينَ) ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ }[الأعراف : 96] ، وقولهُ تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }[المائدة : 66] ، ويقالُ : مكانٌ غَدِقٌ بكسر الدالِ إذا كان كثيرَ النَّدَا ، وعيشٌ غَدِقٌ أي واسعٌ ، والغَدَقُ بفتحِ الدال مصدرٌ.
(0/0)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ؛ أي لنتعبَّدَهم بالشُّّكر ، وذهبَ الكلبيُّ إلى أنَّ معنى الآية لَوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الكُفرِ والضَّلال فكانُوا كُفَّاراً كُلَّهم لأعطَيناهم ماءً كَثيراً ووسَّعنا عليهم وأرغَدنَا عَيشهم لنَفْتِنَهُمْ فيهِ عقوبةً لهم واستدراجاً حتى يُفتَنوا بهذا فنعذِّبَهم ، قال عمرُ رضي الله عنه : (أيْنَ مَا كَانَ الْمَالُ كَانَتِ الْفِتْنَةُ) ودليلُ هذا التأويلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ }[الأنعام : 44]. والقولُ الأوَّلُ أولى ؛ لأنَّ الطريقةَ معرَّفَةٌ بالألفِ واللاَّم ، ولا تُذكَرَ الاستقامةُ إلاَّ على الحقِّ.
وقولهُ تعالى : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } ؛ يعني مَن يُعرِضْ عن القرآنِ نُدخِلهُ عَذاباً شاقّاً ذا صَعَدٍ ؛ أي ذا مشقَّةٍ ، والصَّعَدُ : الشَّاقُّ الشديدُ ، ومنه قولُهم : تنفَّسَ الصَّعَداءَ ، وفي الحديثِ : " صَخْرَةٌ مَلْسَاءُ فِي جَهَنَّمَ يُكَلَّفُ الْكَافِرُ صُعُودَهَا ، يُجْذبُ مِنْ لِقَامِهِ بالسَّلاَسِلَ ، وَيُضْرَبُ مِنْ خَلْفِهِ بالْمَقَامِعَ ، فَإذا انْتَهَى إلَى أعْلاَهَا وَلاَ يَبْلُغُهُ فِي أرْبَعِينَ سَنَةٍ ، فَإذا بَلَغَ أعْلاَهَا أُحْدِرَ إلَى أسْفَلِهَا ، فَكَانَ دَأبُهُ هَذا أبَداً " ويقالُ : سلكتُ الشَّيءَ أو أسلَكْتُهُ بمعنى واحدٍ وهو الإدخالُ. قرأ كوفِي ويعقوب (يَسْلُكْهُ) بالياءِ ، وقرأ مسلمُ بن جُندب (نُسْلِكْهُ) بنون مضمومةٍ وكسرِ اللام.
(0/0)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } ؛ يعني هذهِ المساجدَ الْمَغْلُوقَةَ لم تُبْنَ إلاَّ لذكرِ اللهِ ، فلا تدْعُو مع اللهِ فيها أحَداً غيرَ اللهِ كما تدعُو النَّصارى في بيَعِهم ، وكما دَعَا المشرِكون في كَعبَةِ ربهم ، وعن الحسنِ قالَ : (مِنَ السُّنَّةِ أنَّهُ إذا دَخَلَ الْمَسْجِدَ أنْ يَقُولَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ لاَ أدْعُو مَعَ اللهِ أحَداً). وَقِِيْلَ : إنَّ المساجدَ ما يسجدُ الإنسانُ عليهِ من جَبهَتهِ ويدَيه وصُدور قدمَيهِ ، فلا تضَعُوا هذه الآراب في التراب لغير خالِقها.
(0/0)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ } ؛ معناهُ : وأنَّهُ لَمَّا قامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعُو اللهَ ويقرأُ القرآنَ في الصَّلاة ببَطنِ نخلةٍ بين مكَّة والطائف إذ أتَى تسعةٌ من الجنِّ ، { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } ؛ أي كادُوا يَسقُطون عليه رغبةً في القرآنِ وتعجُّباً منه وحُبًّاً لاستماعهِ.
ومعنى (لِِبَداً) كاد يركبُ بعضُهم بَعضاً في الازدحامِ ، وقرأ (لُبَداً) وهي قراءةُ مجاهد ، فهي بمعنى الكثيرِ من قوله{ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً }[البلد : 6] ، وقال الحسنُ وقتادة : (لَمَّا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَلَبَّدَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ ، فَأَبَى اللهُ إلاَّ أنْ يَنْصُرَهُ وَيُظْهِرَهُ عَلَى مَنْ نَاوَأهُ).
ويقالُ : لَمَّا قامَ صلى الله عليه وسلم في عبادتهِ بمكَّة ، كادَ مُشركو مكَّة بشدَّة كَيدِهم له أن يكُونوا عليه مُتَكاتِفِينَ بعضهم فوقَ بعضٍ ليُزِيلوهُ بذلك عن دعوتهِ إلى اللهِ.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } ؛ أي قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأهلِ مكَّة حيث قالوا له : إنَّكَ جئتَ بأمرٍ عظيم فارجِعْ عنهُ ، فقال : { إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي } أي أعبُدهُ وأدعُوا الخلقَ إ ليه { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً }.
(0/0)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } ؛ أي قُل لأهلِ مكَّة : لا أملكُ تغييرَ نِعَمِ اللهِ عليكم ، ولا أجبرُكم على العبادةِ ، ولا يَمِلكُ ضُرَّكم ورُشدَكم إلاَّ اللهُ ، { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ } ؛ وإنما أنَا عبدٌ خاضع ، إنْ غَضِبَ فلا مُجِيرَ لي ولا ناصرَ ، { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ؛ أي مُدْخَلاً في الأرضِ ، ولا مَلجَأٌ ألْجَأُ إليه ، ولا حَوْزاً أقبلُ إليهِ. واشتقاقُ الْمُلْتَحَدِ من اللَّحْدِ.
(0/0)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } ؛ أي لا يُنجِيني من عذاب الله إلاَّ أن أُبلِّغَ عن اللهِ ما أُرسلتُ به ، وبذلك أرجُو النجاةَ ، ونيلَ الكرامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ؛ معناهُ : ومَن يعصِ اللهَ ورسولَهُ من الأُمم بعدَ البلاغِ فلم يُؤمِنْ ، فإنَّ له نارَ جهنَّم. جوابُ الشرط بالفاءِ ولذلك لا يجوزُ بالكسرِ { خَالِدِينَ فِيهَآ } نُصِبَ على الحالِ.
(0/0)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } ؛ ابتداءُ كلامٍ ، والعربُ تَبتَدِئُ بـ (حتى) والمعنى : إذا رأى الكفارُ الذين يستَطِيلُونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم العذابَ إمَّا في الدُّنيا أو في الآخرةِ ، { فَسَيَعْلَمُونَ } ؛ عندَ ذلك ، { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أي مَن أضعفُ مَانِعاً وأقلُّ جُنداً ، أهُمْ أمِ المؤمنون؟
فلمَّا سَمعوا هذا قال النَّضِرُ بنُ الحارثِ : متَى هذا الوعدُ الذي تَعِدُنا بهِ ؟ فأنزلَ اللهُ : { قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } ؛ من العذاب ؛ أي ما أدري أقريبٌ هذ العذابُ ، { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً } ؛ أي غايةً وبُعداً ، قال عطاءُ : (يَعْنِي أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلاَّ اللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ) وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً } ؛ أي لا يُطلِعُ على غَيبهِ أحَداً من خلقهِ ، { إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } ؛ فإنه إذا أرادَ إطْلاعَهُ بالوحِي على ما يشاءُ على الغيب ، { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ؛ أي جعلَ مِن بين يَدي الرسولِ ومِن خلفه حَفَظَةً من الملائكةِ ليُحِيطُوا به ، ويَحَفظُونَهُ ، ويحفظُوا الوحيَ مِن أن تَسْتَرِقَهُ الشياطينُ ، فُتلقِيَهُ إلى الكهنَةِ.
وذلك أنَّ الله تعالى كان إذا أُنْزِلَ جبريلُ بالوحيِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أرسلَ ملائكةً يُحيطون به وبالنبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى يفرغَ من وجههِ ، كَيْلاَ يَقرُبَ منه شيطانٌ ولا جانٌّ يَذهبون به إلى كهَنتهِم حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ مَن تكلَّمَ به ؛ ليكون ذلك دَليلاً على نُبوَّتهِ.
(0/0)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } ؛ أي ليَعلَمَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أنَّ الملائكةَ قد أبلَغُوا رسالاتِ ربهم ، وأنَّ الرسالةَ لَمْ تَصِلْ إلى غيرهِ. وَقِيْلَ : ليعلمَ الجنُّ والإنس أنَّهم قد أُبلِغُوا. وفي قراءةِ ابنِ عبَّاس (لِيُعْلَمَ) بضم الياء. وهذه الآيةُ تدلُّ على أنهُ يَعلَمُ بالنجومِ ما يكون من حياةٍ أو مَوتٍ أو غيرِ ذلك ، فهو كافرٌ بالقرآنِ وبما فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } ؛ أي أحاطَ عِلمهُ بما عندَهم ، يعني أحاطَ علمُ اللهِ بما عندَ الرُّسل فلم يَخْفَ عليه شيءٌ ، { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي عَلِمَ عددَ الأشياءِ وأوقاتَها كلَّها مع كثرتِها على تفَاصِيلها ، لم يَفُتْهُ علمُ شيءٍ حتى مثاقيلَ الذرِّ والخردلِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
{ ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم نُودِيَ في حالِ كَونه مُلتَفِفاً بثيابهِ في بعضِ اللِّيل ، وأُمِرَ بالقيامِ بالصَّلاة وهُجرَانِ النومِ ، والمعنَى : يا أيُّها الْمُتَلَفِّفُ بثيابهِ ، يقالُ : تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بثوبهِ إذا تغطَّى بهِ ، وزَمَّلَ غيرَهُ إذا غطَّاهُ.
قال أبو عبيدِالله الجدَلِي : (سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنَْهَا عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى { ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } مَا كَانَ تَزَمُّلُهُ ؟ قَالَتْ : فِي مُرْطٍ كَانَ طُولُهُ أرْبَعَةَ عَشَرَ ذِرَاعاً ، نِصْفُهُ عَلَيَّ وَأنَا نَائِمَةٌ ، وَنِصْفُهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي. فَسَأَلْتُهَا مِمَّ كَانَ ؟ قَالَتْ : وَاللهِ مَا كَانَ خَزّاً وَلاَ قَزّاً ولاَ صُوفاً ، كَانَ سَدَاهُ شَعْراً وَلُحْمَتُهُ وَبَراً). قال السديُّ : (مَعْنَاهُ : يَا أيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ). قالتِ الحكماءُ : إنَّما خُوطِبَ بالمزَّملِ والمدَّثرِ في أوَّلِ الأمرِ لم يكُن بلغَ شيئاً من الرسالةِ ، ثم خُوطِبَ بعدَ ذلك : يا أيها النبيُّ ، يا أيُّها الرسولُ.
(0/0)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُمِ الَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } ؛ أي قُمْ للصَّلاةِ ؛ أي صَلِّ أكثرَ الليلِ أو قُمْ نصفَ الليلِ أو انقُصْ من النِّصفِ قليلاً ، أو انقُصْ من النصفِ ، { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } ؛ خيَّرَهُ اللهُ تعالى في قيام الليل في هذه السَّاعات.
قال المفسِّرون : معنى قولهِ { نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } أي انقُصْ مِن النصفِ إلى الثُّلث أو زدْ على النِّصف إلى الثُّلُثَينِ ، جعل له سِعَةً في قيامِ الليل وخيَّرَهُ في هذه السَّاعات ، قال الحسنُ : ((فَرَضَ اللهُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى أصْحَابهِ وَهُمْ بمَكَّةَ أنْ يَقُومُوا بثُلُثِ اللَّيْلِ وَمَا زَادَ)).
سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَت : ((أمَا تَقْرَأُونَ هَذِهِ السُورَةَ { ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } ؟ قَالُواْ : بَلَى ، قَالَتْ : فَإنَّ اللهَ فَرَضَ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي أوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ ، وَأمْسَكَ اللهُ خَاتِمَةَ السُّورَةِ اثْنَى عَشَرَ شَهْراً ، ثُمَّ تَرَكَ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ السُّورَةِ بَعْدَ أنْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ حَوْلاً ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعاً بَعْدَ ذلِكَ)).
وَكَانَ قِيَامُهُ فَرْضاً قَبْلَ أن فَرَضَ " اللهُ " الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، ولا خلافَ بين المسلمين في أنَّ قيامَ الليلِ مندوبٌ إليه مرغَّبٌ فيه ، قال صلى الله عليه وسلم : " أحَبُّ الصَّلاَةِ إلَى اللهِ تَعَالَى صَلاَةُ دَاوُدَ عليه السلام ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَأحَبُّ الصِّيَامِ إلَى اللهِ تَعَالَى صِيَامُ دَاوُدَ ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ".
ورُوي : (أنَّ هَذِهِ الآيَاتِ لَمَّا نَزَلَتْ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الصَّحَابَةِ لاَ يَدْري مَتَى ثُلُثُ اللَّيْلِ وَمَتَى النِّصْفُ وَمَتَى الثُّلُثَانِ ، فَكَانَ يَقُومُ حَتَّى يُصْبحَ مَخَافَةَ أنْ لاَ يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ ، حَتَّى شُقَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ وَانْتَفَخَتْ أقْدَامُهُمْ وَتَغَيَّرَتْ ألْوَانُهُمْ ، فَرَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى وَخَفَّفَ عَنْهُمْ ، وَنُسِخَ بقَوْلِهِ{ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى }[المزمل : 20] ، وَكَانَ بَيْنَ أوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ).
وقوله تعالى : { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } ؛ أي بَيِّنْهُ بَياناً واقرَأهُ قراءةً بَيِّنَةً. والتَّرتِيلُ : ترتيبُ الحروفِ على حقِّها في تلاوَتِها بتَبيُّنٍ وتثَبُّتٍ من غيرِ عجَلَةٍ ، وكذلك التَّرَسُّلُ. والمعنى : تفَهَّم معانيَهُ ، وطالِبْ نفسكَ بالقيامِ بأحكامهِ. وأما الْحَدْرُ فهو الإسراعُ في القراءةِ ، وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالِ : (كَانَتْ قِرَاءَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَرْتِيلاً) أي تَرَسُّلاً. وقال أبو حمزةَ : ((قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ : إنِّي رَجُلٌ فِي قِرَاءَتِي وَكَلاَمِي عَجَلَةٌ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَئِنْ أقْرَأ الْبَقَرَةَ وَأُرَتِّلْهَا أحَبَّ إلَيَّ مِنْ أنْ أقْرَأ الْقُرْآنَ كُلَّهُ هَدْرَمَةً)).
(0/0)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ؛ ليس على ثِقَلِ الحفظِ ، ولكن قال الحسنُ : ((إنَّهُمْ لَيَهُذُّونَ هَذَاؤُهُ ، وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بهِ ثَقِيلٌ)). وقال قتادةُ : ((ثَقِيلٌ وَاللهِ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ)) ، وقال مقاتلُ : ((ثَقِيلٌ لِمَا فِيْهِ مِنَ الأَمْرِ وَالْحُدُودِ)). وقال أبو العاليةَ : ((ثَقِيلٌ بالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، فَلاَ يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يُؤَدِّي جَمِيعَ أوَامِرِهِ إلاَّ بتَكَلُّفٍ يَثْقِلُ)).
ويقالُ : معناهُ : كَلاماً مُحْكَماً ليس بسَفْسَافٍ كما يقالُ : هذا كلامٌ له وَزْنٌ. وَقِيْلَ : إنما سُمي ثقيلاً لثِقَلِهِ في الميزانِ مع خفَّته على اللسانِ ، وعن الحسنِ في قولهِ تعالى { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال : ((الْعَمَلُ)) ، وَقِيْلَ : ثقيلٌ لا يحملهُ إلاّ القلبُ المؤيَّدُ بالتوفيقِ ونفسٌ مؤمِنة بتوحيدهِ.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالَت : [لَقَدْ رَأيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَنْفَصِمُ عَنْهُ ، وَإنَّ جَبينَهُ لَيَنْفصُ عَرَقاً]. وقالت عائشةُ أيضاً : [إنْ كَانَ لَيُوحَى إلَيْهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَتَضْرِبُ بجِرَانِهَا].
(0/0)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } ؛ معناه : إنَّ القيامَ في ساعاتِ الليل أثقلُ وأشدُّ على القائمِ من القيامِ بالنَّهار ؛ لأن الليلَ إنما خُلِقَ للرَّاحة والسُّكون ، ففِعْلُ الطاعةِ فيه أشدُّ من فعلِها بالنهار ، وقال ابنُ مسعودٍ : ((إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ)). وقالت عائشةُ : ((النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ)) ، وعن ابنِ الأعرابيِّ : ((إذا نِمْتَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ قُمْتَ فَتِلْكَ النَّاشِئَةُ)) ومنه ناشئةُ اللَّيل.
وَقِيْلَ : نائشةُ الليل ساعاتُها كلُّها ، وكلُّ ساعةٍ منه فهي ناشئةٌ ، سُميت بذلك ؛ لأنَّها تُنشِئ ، ومنه نشأَتِ السَّحابةُ إذا بَدَتْ ، وجمعُها نَاشِئَاتٌ ، وعن حاتمِ بن أبي صغيرة قال : ((سَأَلْتُ ابْنَ أبي مُلَيْكَةَ عَنْ نَاشِئَةِ اللَّيْلِ فَقَالَ : عَلَى اللَّبيب سَقَطْتَ ، سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَزَعَمَ أنَّ اللَّيْلَ كُلَّهُ نَاشِئَةٌ ، وَسََأَلْتُ الزُّبَيْرَ عَنْهَا فَأَخْبَرَنِي مِثْلَ ذلِكَ)).
وقال ابنُ جبير : ((أيُّ سَاعَةٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلَ فَقَدْ نَشَأَ)) ، وقال قتادةُ : ((مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)). وقال عبيدُ بن عمير لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : ((رَجُلٌ قَامَ مِنْ أوَّلِ اللَّيْلِ أيُقَالُ لَهُ نَاشِئَةٌ ؟ قَالَتْ : لاَ ؛ إنَّمَا النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ)). وقال ابنُ كَيسان : ((هِيَ الْقِيَامُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ)). وعن ابنِ عبَّاس قال : ((إذا نَشَأَْتَ قَائِماً فَهُوَ نَاشِئَةٌ)) ، وعن مجاهدٍ أنه قالَ : ((إذا قَامَ الإنْسَانُ اللَّيْلَ كُلَّهُ فَصَلَّى فَهُوَ نَاشِئَةٌ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الأَخِيرَةِ فَهُوَ نَاشِئَةٌ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي أثقلُ على المصلِّي من ساعاتِ النَّهار ، من قولِ العرب اشتدَّت على القومِ وَطْأَةُ السُّلطان ؛ إذا ثَقُلَ عليهم ما يلزَمُهم ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمْ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ".
وقرأ أبو عمرٍو وابنُ عامر (وِطْئاً) بكسر الواو والمدِّ على معنى الْمُوَاطَأَةِ والموافقةِ ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ }[التوبة : 37] ، قال ابنُ عبَّاس : ((يُوَاطِئُ السَّمْعُ الْقَلْبَ)) ، والمعنى : أنَّ صلاةَ ناشئة الليلِ يُواطِئُ السمعُ والقلبُ فيها أكثرَ مما يُواطِئ في ساعاتِ النَّهار ؛ لأن الليلَ أفرغُ للانقطاعِ عن كُثْرِ ما يشغلُ بالنهار. ويقال : وَاطَأَتَ فُلاناً على كذا مُواطَأَةً ووَطْأَةً ؛ إذا وافقتَهُ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } ؛ أي أبْيَنُ قَوْلاً بالقرآنِ ، وَقِيْلَ : أستَرُ استقامةً وأطرَبُ قراءةً ، وعبادةُ الليلِ أشدُّ نَشاطاً وألَدُّ إخلاصاً وأكثرُ بركةً.
(0/0)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } ؛ أي إنَّ لكَ في النهار تصرُّفاً وإقبَالاً وإدبَاراً في حوائجِكَ وأشغَالِكَ ، وسِعَةً لتصرُّفكَ وقضاءِ حوائجِكَ ، والمعنى : إنَّ لكَ في النَّهار فَراغاً للنَّومِ والتصرُّفِ في الحوائجِ ، فصَلِّ من الليلِ.
والسَّبْحُ : التقلُّبُ ، ومنه السَّابحُ في الماءِ لتقَلُّبهِ بيديهِ ورجلَيهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ لكَ في النهار تصرُّفاً واشتغالاً في حوائجِكَ حيث لا تتفرَّعُ لصَلاةِ النَّفلِ ، فخُذْ حظَّكَ من قيامِ الليل ، وكان شُغْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالنَّهار ما كان عليهِ من تبليغِ الوحي والرِّسالةِ وتعليمِ الناس الفرائضَ والسُّننَ ، وقيامهِ بأدائِها وأمور معاشهِ ومعاش عيالهِ.
(0/0)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ؛ معناهُ : واذكرِ اسمَ ربكَ بالتوحيدِ والتعظيمِ. ويجوزُ أنْ يكون المرادُ به الذِّكرَ المشروعَ لافتتاحِ الصَّلاة ، ويجوز أنْ يكون المرادُ به كثرةَ ذكرِ الله في الصَّلاة وخارجَ الصلاةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي انقَطِعْ إلى اللهِ في العبادة ، وتأميلِ الخير منه دون غيرهِ. ومِن هذا سُمِّيت فاطمةُ الْبَتُولَ ؛ لأنَّها انقطَعت إلى اللهِ تعالى في العبادةِ ، والبَتْلُ في اللغة : القطعُ وتَميُّزُ الشيءِ من الشيءِ ، ومنه صَدَقَةٌ بَتْلَةٌ ؛ أي مُنقَطِعَةٌ من مالِ صاحبها ، وطَلْقَةٌ بَتْلَةٌ : قاطعةٌ للزَّوجةِ.
وإنما قال { تَبْتِيلاً } ولم يقل تَبَتُّلاً على معنى تَبَتَّلْ لنَفسِكَ إليه تَبْتِيلاً. وقال ابنُ عبَّاس : ((مَعْنَى { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أيْ أخْلِصْ إلَيْهِ إخْلاَصاً)). وقال الحسنُ : ((اجْتَهِدِ اجْتِهَاداً)). وقال شقيقُ : ((تَوَكَّلْ عَلَيْهِ تَوَكُّلاً). وقال زيدُ بن أسلمَ : ((التَّبَتُّلُ : رَفْضُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللهِ)).
(0/0)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ قرأ أهلُ الحجاز وأبو عمرٍو ونافع وحفص (رَبُّ الْمَشْرِقِ) بالرفعِ على معنى : هُوَ ربُّ المشرقِ ، وقرأ الباقون بالخفضِ على معنى نعتُ الرب في قوله { اسْمَ رَبِّكَ }. وَقِيْلَ : على البدلِ منهُ ، ويجوزُ أن تكون قراءةُ الرفعِ على الابتداءِ ، وخبرهُ { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }. وقوله تعالى : { فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً } ؛ أي اتَّخِذهُ حَافِظاً لكَ ، وكَفيلاً فيما وَعدَكَ من النصرِ والثواب لكَ ولأُمَّتِكَ.
(0/0)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
قوله : { وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } ؛ يعني : وَاصبرْ يا مُحَمَّدُ على ما يقولهُ الكفَّار والمنافِقون من التكذيب ، { وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } ؛ أي لا جَزَعَ فيهِ ؛ أي اصْطَبرْ اقتَصِرْ على إظهار الوحي من غيرِ خُصومةٍ ، وهذا قبلَ الأمرِ بالقتالِ.
(0/0)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ } ؛ أي كِلْ أمرَهم إلَيَّ ولا تَهتَمَّ بهم ، فإنِّي أكفِيكَهُمْ. يقالُ : ذرْنِي وزَيْداً ؛ أي دَعْنِي وَزيداً ؛ أي لا تَهْتَمَّ بهِ فإنِّي أكَافِيهِ. وقولهُ تعالى : { أُوْلِي النَّعْمَةِ } أي ذوُوا النعمةِ ذوُو الغِنَى وكثرةِ المال.
قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ إلَى قَوْلِهِ { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } ؛ لَمْ يَكُنْ إلاَّ يَسِيراً حَتَّى وَقَعَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ)). والنَّعمَةُ بفتحِ النون التَّنَعُّمُ ، والنِّعمَةُ بالكسرِ المالُ والغِنَى ، والنُّعْمَاءُ : قُرَّةُ العينِ بضمِّ النون.
(0/0)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } ؛ أي إنَّ عندَنا في الآخرةِ لَهم قُيوداً وأغلاَلاً ، واحِدُها نَكْلٌ ؛ وهو القَيْدُ من الحديدِ لا يُحَلُّ. وقوله تعالى : { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } أي لا يَسُوغُ في الحلقِ ، يعني الزَّقُّومَ. وقال عكرمةُ : ((شَوْكٌ يَأْخُذُ بالْحَلْقِ ، لاَ يَدْخُلُ وَلاَ يَخْرُجُ)) ، وقال الزجاجُ : ((يَعْنِي الضَّرِيعَ)). وَقِيْلَ : طعامٌ يأخذُ بحُلُوقِهم لِخُشُونَتِهِ وحرارتهِ ، لا ينْزِلُ فيها بل تضيقُ أنفَاسُهم عنها فيختَنِقُونَ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ } ؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ هذا العذابَ المذكورَ يكون في يومٍ ترجفُ الأرضُ والجبال ؛ أي تُزَلْزَلُ وتُحَرَّكُ ، وهو يومُ القيامةِ. والرَّاجِفَةُ : من أسماءِ القيامة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } ؛ أي رَمْلاً سَائلاً ، يقالُ : ترابٌ مَهِيلٌ ومَهْيُولٌ ؛ أي مَصْبُوبٌ ومُرسَلٌ. والكَثِيبُ : القطعةُ العظيمةُ من الرَّملِ إذا حُرِّكَ أسفَلُها انْهَالَ أعلاهَا.
(0/0)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ } ؛ أي بعَثنا إليكم مُحَمَّداً يا أهلَ مكَّة رَسُولاً شَاهِداً علَيكُم بالتبليغِ ، وشَهِيدٌ عليكم بأعمَالِكم يومَ القيامةِ ، { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً } ؛ يعني مُوسَى عليه السلام ، { فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } ؛ أي مُوسَى ولَمْ يُجِبْهُ إلى ما دعاهُ { فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } أي عاقَبنا فرعونَ عقوبةً عظيمةً ، يعني الغرقَ الوَبيلَ الثَّقِيلَ جِدّاً ، ومنه الوَبَالُ لِثِقَلِهِ ، ويقالُ للمطرِ العظيمِ : الوَابلُ ، وطعامٌ وَبيلٌ ؛ أي ثقيلٌ وَاخِمٌ.
(0/0)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً } ؛ أي بأيِّ شيءٍ تتحصَّنون من عذاب يومِ القيامة إنْ كفَرتُم في الدُّنيا ولم تُؤمِنُوا برَسُولِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً } ؛ معناهُ : فكيف تتَّقُونَ إنْ كفَرتُم عذابَ يومٍ يجعلُ الولدانَ شِيْباً ؛ أي تشيبُ الصِّغَارُ في ذلكَ اليومِ ، وذلك حين يسمَعُون النداءَ : " " يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَكَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ إلَى النَّار ، مِنْ كُلِّ ألْفٍ وَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ وَالْبَاقِي إلَى النَّار ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَشِيبُ الصَّغِيرُ " فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ أيُّنَا ذلِكَ الْوَاحِدُ ؟ فَقَالَ : " إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمَّدُواْ ، فَقَالَ : " إنِّي أرْجُو أنْ تَكُونُوا نِصْفَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرُوا وَحَمَّدُواْ ، فَقَالَ : " مَا أنْتُمْ فِي النَّاسِ إلاَّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْر الأَسْوَدِ " ".
(0/0)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } ؛ أي السَّماءُ مُنْشَقَّةٌ بذلك اليوم ، وذكرَ السَّماء ؛ لأن معناها السَّقفُ كما في قولهِ{ سَقْفاً مَّحْفُوظاً }[الأنبياء : 32]. وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } ؛ أي كان وعدُ اللهِ مِن البعثِ وأهوالِ يوم القيامة كَائناً لا شكَّ فيه.
(0/0)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
وقولهُ تعالى : { إِنَّ هَـاذِهِ تَذْكِرَةٌ } ؛ أي إنَّ هذه السُّورة عِظَةٌ للناسِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : إن آياتِ القُرآنِ مَوعِظَةٌ ، { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } ؛ أي طَريقاً.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } ؛ معناهُ : إنَّ ربَّكَ يا مُحَمَّدُ يعلمُ إنَّكَ تقومُ أقَلَّ من ثُلُثَي الليلِ في بعضِ اللَّيالي ، وأقلَّ من نصفِ اللَّيلِ في بعضِ اللَّيالي ، وأقلَّ من الثُّلث في بعضِها. قَوْلُهُ تَعَالى : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ } ؛ يعني : الْمُؤمِنون كانوا يقُومون معَهُ.
قرأ الكوفيُّون وابنُ كثير (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالنصب فيهما على معنى : ويقومُ نصفَهُ وثُلثَهُ. وقال الحسنَ : ((لَمْ يَقُمِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ أقَلَّ مِنْ ثُلُثَي اللَّيْلِ ، وَإنَّمَا قَالَ : (أدْنَى) فِي الطَّائِفَةِ الَّذِينَ مَعَهُ)) ولفظهُ (أدْنَى) تُعقَلُ منها القلَّة ، لا يقالُ : عندِي دونَ العشرةِ إلاَّ والنُّقصان منها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ؛ أي يعلَمُ مقاديرَهما وساعاتِهما على الحقيقةِ ، { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ؛ أي عَلِمَ أنَّكم لم تعلَمُوا حقيقةَ قدرهما ، يعني أنَّكم ما تعرِفُون مقاديرَ اللَّيل والنهار ، ولذا لم تعلَمُوا حقيقةَ المقدار الذي أمَرَكم بالقيامِ فيه لم تُطِيقوهُ إلاَّ بمشقَّة ، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ؛ أي فتجاوزَ عنكم قيامَ الليلِ بالتخفيفِ عنكم ، { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } ؛ أي صلاةِ اللَّيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى } ؛ لا يقدِرون على قيامِ اللَّيل بقراءةِ السُّوَر الطِّوالِ ، { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ } ؛ أي وآخَرُون يُسافِرُونَ لطلب رزقِ الله فلا يُطيقون ذلكَ ، { وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي وعَلِمَ أنَّ فيكم مَن يجاهدُ في سبيلِ اللهِ ، يعني يقاتلُ أعداءَ اللهِ لا يُطيقون قيامَ الليلِ ، { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } ؛ أي مِن القُرآن في الصَّلاة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ } ؛ أي وأقِيمُوا الصَّلوات الخمسِ بشَرائطِها وما يجبُ من حقِّ الله فيها ، فنُسِخَ قيامُ الليلِ بالصَّلوات الخمسِ على المؤمنين ، وثَبَتَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتُواْ الزَّكَاةَ } ؛ يعني المفروضةَ ، { وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } ؛ من الصَّدقة سِوَى الزكاةِ من صِلَةِ الرَّحم ، وقِرَى الضيفِ ، وصدقةِ التطوُّع.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ } ؛ أي ما تفعَلُوا من صدقةٍ فريضة أو تطوُّع أو عملٍ صالح تجدُوا ثوابَهُ عند اللهِ ، { هُوَ خَيْراً } ؛ لكم ، { وَأَعْظَمَ أَجْراً } ؛ مِن الذي تُؤخِّرونَهُ إلى الوصيَّة عند الموتِ.
وإنما انتصبَ (خَيْراً) لأنه المفعولُ الثاني ، وأدخل (هو) فصل ، ويسَمِّيه الكوفيُّون العمادَ ، { وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ } ؛ لِمَا مضَى من الذُّنوب والتقصيرِ في الطاعة ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لِمَن استغفرَ ، { رَّحِيمٌ } ؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ.
وقد تضمَّنت هذه الآيةُ معانٍ : أحدُها : أنه نَسَخَ بها فريضةَ قيامِ الليل. الثانِي : أنَّها تدلُّ على لُزوم فرضِ القراءةِ في الصَّلاة ؛ لأن القراءةَ لا تلزَمُ في عينِ الصَّلاة. والثالث : دلالةُ جواز الصَّلاة بقليلِ القراءةِ. والرابعُ : أنَّ تركَ قراءةِ الفاتحةِ في الصَّلاة لا تمنعُ جوازَها إذا قرأ فيها غيرَها.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
{ ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } ؛ قال مقاتلُ : " ذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ إلَى جَبَلِ حِرَاءَ ، إذْ سَمِعَ مُنَادِياً يُنَادِي مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، فَنَظَرَ مِنْ خَلْفِهِ يَمِيناً وَشِمَالاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ نُودِيَ الثَّانِيَةَ ، فَنَظَرَ كَذلِكَ فَلَمْ يَرَ شَيْئاً فَفَزِعَ ، فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ، فَنُودِيَ الثَّالِثَةَ فَنَظَرَ إلَى خَلْفِهِ يَمِيناً وَشِمَالاً ، ثُمَّ نَظَرَ إلَى السَّمَاءِ فَنَظَرَ مِثْلَ السَّرِيرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَلَيْهِ جِبْرِيل مِثْل النُّور المتوقِّد يتلأْلأُ ، فَفَزِعَ فَوَقَعَ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ ، ثُمَّ أفَاقَ فَقَامَ يَمْشِي وَرجْلاَهُ تصْطَكَّانِ.
فَرَجَعَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِ مَاءً بَارداً ، فَقَالَ : " دَثِّرُونِي دَثِّرُونِي " فَدَثَّرُوهُ بقَطِيفَةٍ حَتَّى اسْتَدْفَأَ ؛ فَلَمَّا أفَاقَ ، قَالَ : " لَقَدْ أشْفَقْتُ عَلَى نَفْسِي " فَقَالَتْ خَدِيجَةُ : أبْشِرْ فَلاَ يُخْزِيكَ اللهُ أبَداً ، إنَّكَ لَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ ، وَتُقَوِّي الضَّعِيفَ ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِب الْحَقِّ.
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام وَهُوَ مُدَّثِّرٌ بثِيَابهِ عَلَى فِرَاشِهِ لَيْلاً ، فَقَالَ : يَا أيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بثِيَابهِ مُضْطَجِعاً عَلَى فِرَاشِهِ قُمْ فَأَنْذِرْ كُفَّارَ مَكَّةَ الْعَذابَ أنْ يُوَحِّدُوا رَبَّكَ ، وَادْعُهُمْ إلى الصَّلاَةِ وَالتَّوْحِيدِ " والدِّثَارُ : ما تَدَثَّرْتَ به من الثَّوب الخارجِ. والشِّعَارُ : الثَّوبُ الذي يَلِي الجسدَ.
(0/0)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } ؛ أي صِفْهُ بالتَّعظيمِ ، وعَظِّمْهُ مما يقولهُ عبَدَةُ الأوثانِ ، ويقالُ : أرادَ به التكبيرَ لافتتاحِ الصَّلاة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي طهِّرْ ثيابَكَ من النَّجاسة لإقامةِ الصَّلاة. وَقِيْلَ : معناهُ : طهِّرْ نفسَكَ وخُلُقَكَ عمَّا لا يجمل بكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : وقلبَكَ فطَهِّرْ ، وقد يعبَّرُ بالثوب عن القلب. وَقِيْلَ : معناهُ : وعمَلَك فأَصلِحْهُ ، قال السديُّ : (يُقَالُ لِلرَّجُلِ إذا كَانَ صَالِحاً أنَّهُ طَاهِرُ الثِّيَاب ، وإذا كَانَ فَاجراً أنه خبيثُ الثياب).
(0/0)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } ؛ أي والإثمَ فاتركْهُ ولا تقرَبه. وَقِيْلَ : معناهُ : والأصنامَ فتباعَدْ عنها ، والرُّجْزُ في اللغة : العذابُ ، والمعنى في هذا : فاهجُرْ ما يُؤذيكَ إلى عذاب الله. قرأ الحسنُ وعكرمة ومجاهد وشيبة ويعقوب (وَالرُّجْزَ) بمضمِّ الراء ومثلهُ رُوي عن عاصمٍ ، وقرأ الباقون بكسرِها ، وهما لُغتان.
(0/0)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ؛ معناه : لا تُعْطِ شيئاً من مالِكَ لتأخُذ أكثرَ منه ، والمعنى : لا تُعْطِ مالَكَ مُصانعةً لتُعطى أكثرَ منه في الدُّنيا ، أعطِ لربكَ. أدَّبَ اللهُ نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم بأشرفِ الآداب. وَقِيْلَ : معناه : لا تَمْنُنْ بالنبوَّةِ على الناسِ تستكثِرُ عملَكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُعْطِ شيئاً وتعطِي أكثر من ذلك ، وهذا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة لأنه كان في أعلَى مكارمِ الأخلاق ، كما حَرُمَتْ عليه الصدقةُ ، وأمَّا غيرهُ فليس عليه إثْمٌ في أنْ يُهدِي هديَّةً يتوقَّعُ بها الكثيرَ منها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ } ؛ على طاعتهِ وفرائضه ، والمعنى : لأجل ثواب ربكَ. وقِيْلَ : معناهُ : فاصبرْ على الأذى والتكذيب. وَقِيْلَ : فاصبرْ على البلوَى والامتحانِ ، فإنَّ اللهَ يمتحنُ أحبَّاءَهُ وأصفياءَهُ.
(0/0)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
وقولهُ تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ } ؛ أي فإذا نُفِخَ في الصُّور النفخةَ الثانية ، { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } ؛ يعني يومَ النفخِ في الصُّور يومٌ عسير ، { عَلَى الْكَافِرِينَ } ، منه الأمرُ على الكفَّار ، وقوله : { غَيْرُ يَسِيرٍ } ؛ بدلٌ من يومٍ عسير ؛ أي لا يكون هَيِّناً عليهم.
(0/0)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } ؛ يعني الوليدَ بن المغيرةِ المخزومي خلَقتهُ في بطنِ أُمِّه وَحيداً فَريداً لا مالَ له ولا ولدَ ؛ أي كِلْ إلَيَّ أمرَ مَن خلقتهُ فَريداً بلا مالٍ ولا ولدٍ ، { وَجَعَلْتُ لَهُ } ؛ ثم أعطيتهُ بعد ذلك ، { مَالاً مَّمْدُوداً } ؛ أي كثيراً يُمَدُّ بالنَّماء كالزرعِ والضَّرع والتجارةِ ، قال عطاءُ : (مَا بَيْنَ مَكَّةَ إلَى الطَّائِفِ مِنَ الإبلِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَعَبيدٍ وَجَوَارٍ). وَقِيٍل : معنى قولهِ { مَالاً مَّمْدُوداً } يأتِي شَيئاً بعدَ شيءٍ غيرُ منقطعٍ.
وقد اختلَفُوا في مبلغِ ماله ، قال مجاهدُ وسعيد بن جبير : ((مِائَةُ ألْفِ مِثْقَالٍ)) ، وقال سفيانُ الثوري : ((ألْفُ ألْفُ مِثْقَالٍ)) ، وقال مقاتلُ : ((كَانَ لَهُ بُسْتَانٌ فِي الطَّائِفِ لا َتَنْقَطِعُ ثِمَارُهَا شِتَاءً وَلاَ صَيْفاً)).
(0/0)
وَبَنِينَ شُهُودًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَنِينَ شُهُوداً } ؛ أي حُضوراً معه بمكَّة لا يغِيبون عنه ، قال سعيدُ بن جبير : ((كَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَلَداً)) ، وقال مجاهدُ : ((كَانُوا عَشْرَةً كُلُّهُمْ ذُكُورٌ ، مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَخَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ ؛ وَعُمَارَةُ وَهَاشِمُ بْنُ الْوَلِيدِ ؛ وَالْعَاصِي وَقَيْسُ بْنُ الْوَلِيدِ ؛ وَعَبْدُ شَمْسِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَأَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ خَالِدُ وَهَاشِمُ وَعُمَارَةُ). وقالوا : فما زالَ الوليدُ بعد نزولِ هذه الآية في نُقصان من مالهِ وولده حتى هلكَ.
وانتصبَ قوله { وَحِيداً } على الحالِ. ويجوزُ أن يكون صفةَ المخلوق على معنى خلقتهُ وحده ، ويجوز أنْ يكون من صفةِ الخالقِ على معنى خلقتهُ وَحدِي لم يُشرِكني في خلقهِ أحدٌ.
(0/0)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } ؛ أي بسَطتُ له في العيشِ وطولِ العمر بَسطاً ، { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ } ؛ معناهُ : ثم يطمعُ أن أزيدَ له في المالِ والولد ، وقد كفَرَ بي وبرسولِي ، { كَلاَّ } ، لا أزيدهُ ، لم يزَلِ الوليدُ بعد هذا في نُقصانٍ من المالِ والحال حتى صارَ يسألُ الناسَ وماتَ فقيراً. وقوله تعالى : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } ؛ معناهُ : إنه كان لكِتابنا ورَسُولنا مُعانِداً ، والعنيدُ : الذاهبُ عن الشيءِ على طريقِ العدَاوة ، والْجَمَلُ العنودُ : هو الذي يَمُرُّ على جانبٍ من القطار.
(0/0)
سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } ؛ أي سأُكَلِّفهُ في النار ارتقاءَ الصَّعود ، وهو جبلٌ من صخرةٍ ملساءَ في النَّار ، يُكلَّفُ الكافرُ أن يَرتَقِيَهُ حتى إذا بلغَ أعلاهُ في أربعين عَاماً ، كُلَّما وضعَ يده عيه ذابَتْ ، وإذا رفَعها عادَتْ. وعن أبي سعيدٍ الخدري قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الصَّعُودُ جَبَلٌ مِنْ نَارٍ ، يُصْعَدُ فِيْهِ سَبْعِينَ خَرِيفاً ثمَّ يَهْوِي كَذلِكَ مِنْهُ أبَداً ، كُلَّمَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ذابَتْ وَإذا رَفَعَهَا عَادَتْ ، وَإذا وَضَعَ رجْلَهُ ذابَتْ وَإذا رَفَعَهَا عَادَتْ ، وَكُلَّمَا بَلَغَ أعْلَى ذلِكَ الْجَبَلِ انْحَدَرَ إلَى أسْفَلِهِ ، ثُمَّ يُكَلَّفُ أيْضاً أنْ يَصْعَدَ ، فَذلِكَ دَأبُهُ أبَداً يُجْذبُ مِنْ أمَامِهِ بسَلاَسِلِ الْحَدِيدِ ، وَيُضْرَبُ مِنْ خَلْفِهِ بمَقَامِعِ الْحَدِيدِ مَسَافَةَ كُلِّ صُعُودٍ أرْبَعُونَ سَنَةً ".
(0/0)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } ؛ معناهُ : إنه فكَّرَ في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في احتيالهِ للباطلِ ، وقدَّرَ القولَ فيه ، وَقِيْلَ : معناهُ : تفكر ماذا تقولُ في القرآنِ ؟ وقدَّرَ القولَ في نفسهِ ، وذلك أنه لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }[غافر : 1-3] قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيباً مِنْهُ يَسْتَمِعُ قِرَاءَتَهُ ، فَلَمَّا نَظَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اسْتِمَاعَهُ إلَى قِرَاءَتِهِ عَادَ إلَى قِرَاءَةِ الآيَةِ ، فَانْطَلَقَ الْوَلِيدُ حَتَّى أتَى مَجْلِسَ قَوْمِهِ بَنِي مَخْزُومَ وَقَالَ : وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ مُحَمَّدٍ الآنَ كَلاَماً مَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ الإنْسِ وَلاَ مِنْ كَلاَمِ الْجِنِّ ، إنَّ لَهُ لََحَلاَوَةً وَلَطَلاَوَةً ، وَإنَّ أعْلاَهُ لَمُثْمِرٌ وَإنَّ أسْفَلَهُ لِمُغْدِقٌ ، وَإنَّهُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى.
ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ ، فَقَالَتْ قُرَيْشُ : صَبَأَ وَاللهِ الْوَلِيدُ ، وَاللهِ لَتَصْبَأَنَّ قُرَيْشٌ كُلُّهَا ، وَكَانَ يُقَالُ لِلْوَلِيدِ رَيْحَانَةُ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : أنَا أكْفِيكُمُوهُ ، ثُمَّ انْطَلَقَ فَقَعَدَ إلَى جَنْبهِ حَزِيناً ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ : مَا لِي أرَاكَ حَزِيناً يَا ابْنَ أخِي ؟ قَالَ : وَمَا لِي لاَ أحْزَنُ وَهَذِهِ قُرَيْشُ يَجْمَعُونَ لَكَ نَفَقَةً يُعِينُونَكَ عَلَى كِبَرِ سِنِّكَ ، يَزْعُمُونَ أنَّكَ زَيَّنْتَ كَلاَمَ مُحَمَّدٍ وَتَدْخُلُ إلَيْهِ وَإلَى أبْنِ أبي قُحَافَةَ لِتَنَالَ مِنْ فَضْلِ طَعَامِهِمْ. فَغَضِبَ الْوَلِيدُ وَقَالَ : ألَمْ تَعْلَمْ قُرَيْشٌ أنِّي مِنْ أكْثَرِهِمْ مَالاً وَوَلَداً ؟ وَهَلْ يَشْبَعُ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَكُونَ لَهُمْ فَضْلٌ؟
ثُمَّ قَامَ مَعَ أبي جَهْلٍ حَتَّى أتَى مَجْلِسَ قَوْمِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ الْمَوْسِمَ قَدْ دَنَا ، وَقَدْ فَشَا أمْرُ هَذا الرَّجُلِ فِي النَّاسِ ، فَمَا أنْتُمْ قَائِلُونَ لِمَنْ سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ قَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ مَجْنُونٌ ؛ قَالَ : إذاً يُخَاطِبُونَهُ فَيَعْلَمُونَ أنَّهُ غَيْرُ مَجْنُونٍ. فَقَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ شَاعِرٌ ؛ قَالَ : الْعَرَبُ يَعْلَمُونَ الشِّعْرَ وَيَعْلَمُونَ أنَّ الَّذِي جَاءَ بهِ غَيْرُ الشِّعْرِ. فَقَالُواْ : نَقُولُ إنَّهُ كَاهِنٌ ؛ فَقَالَ : إنَّ الْكَاهِنَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ وَلاَ يَقُولُ فِي كِهَانَتِهِ : إنْ شَاءَ اللهُ ، وَهَذا يَقُولُ فِي كَلاَمِهِ : إنْ شَاءَ اللهُ ، وَقَوْلُهُ لاَ يُشْبهُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ صَبَأَ الْوَلِيدُ ، فَإنْ صَبَأَ فَلَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلاَّ صَبَأَ.
فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ تَقُولُ أنْتَ يَا أبَا الْمُغِيرَةَ فِي مُحَمَّدٍ ، فَتَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ ثُمّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَقَالَ : مَا هُوَ إلاَّ سَاحِرٌ مَا رَأيْتُمُوهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَمَوَالِيهِ بسِحْرِهِ ، ألاَ تَرَوْنَ أنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، فَإنَّ الْمَرْأةَ تَكُونُ مَعَنَا وَيَكُونُ زَوْجُهَا مَعَهُ! فَتَفَرَّقُوا عَلَى هَذا الْقَوْلِ.
ومعنى الآية : إنه فكَّرَ لِمُحَمَّدٍ بتُهْمَةٍ يتعلَّقُ بها في تكذيبهِ ، وقدَّرَ لينظُرَ فيما قدَّرهُ أستُقِيمَ له أنْ يقولَهُ أم لا ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } ؛ أي لُعِنَ وعُذِّبَ على أيِّ حالٍ قدَّرَ من الكلامِ ، كما يقالُ : لأَعرِفَنَّهُ كيفَ صَنَعَ إلَيَّ على أيِّ حالةٍ كانت منهُ.
(0/0)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } ؛ أي ثُمَّ لُعِنَ وعُوقِبَ بعقابٍ آخر ، كيف ذهبَ إلى هذا التقديرِ ، { ثُمَّ نَظَرَ } ؛ معناهُ : نظرَ إلى أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم نظرَ العداوةِ بكراهةٍ شديدة ليتَّخذ طَعناً فيهم. وَقِيْلَ : ثم نظرَ في طلب ما يدفعُ به القرآن ويرده.
(0/0)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } ؛ أي ثُمَّ كَلَحَ في وجوهِ أصحابهِ وقبضَ جَبهتَهُ ، والبُسُورُ أشدُّ من العُبُوسِ ، والمعنى : ثم كَلَحَ بوجههِ ونظرَ بكراهةٍ شديدة.
(0/0)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ } ؛ أي ثُمَّ أعرضَ عن قَبولِ القرآنِ واتِّباع الرسولِ وتَعَظَّمَ من الإيمانِ ، { فَقَالَ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } ؛ أي قالَ ما هذا القرآنُ إلاَّ سحر يُروَى عن السَّحَرةِ ؛ أي يَأْثُرُهُ مُحَمَّدٌ عن غيرهِ ، وذلك أنه كَرِهَ أن يقولَ إنَّ مُحَمَّداً ساحرٌ ، فيَغْضَبُ بنو هاشمٍ ، فقالَ : إنما السِّحْرُ في الأعاجمِ ، وهذا إنما يَأْثُرُ السحرَ عن غيرهِ ، وكان يقولُ في القرآنِ : ما هو سحرٌ ولا كهانة ولكنَّهُ سِحرٌ يُؤثَرُ عن قولِ البشرِ ؛ أي يُحكَى بينهم. ومعنى قولهِ تعالى : { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ } ؛ يعني أنه كلامُ الإنسِ وليس من عند اللهِ.
(0/0)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } ؛ أي سأُدخِلهُ وألزِمهُ في الآخرةِ سَقَرَ بما فعلَ ، واستكبرَ عن قبولِ الحقِّ ، وسَقَرَ اسمٌ من أسماءِ النار ، وهي مَعرِفَةٌ مُؤنَّثة ، فلذلك لَمْ تَنصَرِفْ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } ؛ تعظيمٌ لأمرِها ، وإنما سُميت بهذا الاسمِ لشدَّة إيلامِها من قولِهم : سَقَرَتْهُ الشمسُ إذا آلَمَتْ دِمَاغَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } ؛ أي لا تُبقِي لَحماً ولا تذرُ عَظماً ، وعن مجاهدٍ : ((لاَ تُبْقِي مَنْ فِيهَا حَيّاً وَلاَ تَذرُهُ مَيْتاً)).
(0/0)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
وقولهُ تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ؛ أي مُغيِّرَةٌ للجلدِ حتى تجعله أسْوَدَ ، يقالُ : لوَّحَتْهُ الشمسُ ، وَلاَحَهُ السَّقَمُ والْحُزْنُ إذا غيَّرهُ. قِيْلَ : إنَّها تغيِّرُ الجلدَ حتى تدعَهُ أسودَ سوَاداً من الليلِ.
(0/0)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ؛ أي تسعةَ عشرَ من الزَّبانيةِ الموكَّلين بتعذيب أهلها ، جاءَ في الحديثِ : " إنَّ أعْيُنَهُمْ كَالْبَرْقِ الْخَاطِفِ ، وَأنْيَابَهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ ، يَخْرُجُ لَهَبُ النَّار مِنْ أفْوَاهِهِمْ ، مَا بَيْنَ مَنْكِبَي أحَدِهِمْ مَسِيرَةُ سَنَةٍ ، يَسَعُ كَفُّ أحَدِهِمْ مِثْلَ رَبيعَةَ وَمُضَرَ ، نُزِعَتِ الرَّحْمَةُ مِنْ قُلُوبهِمْ ، يُسَرُّونَ بتَعْذِيب أهْلِ النَّار ، يَدْفَعُ أحَدُهُمْ سَبْعِينَ ألْفاً فَيَرْمِيَهُمْ حَيْثُ أرَادَ مِنْ جَهَنَّمَ " وقال صلى الله عليه وسلم : " لأَحَدِهِمْ مِثْلُ قُوَّةِ الثَّقَلَيْنِ " وقال عمرُو بن دينارٍ : ((يَدْفَعُ أحَدُهُمْ بالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ فِي جَهَنَّمَ مِثْلَ رَبيعَةَ وَمُضَرَ)).
قال ابنُ عبَّاس والضحاك : ((لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ أبُو جَهْلٍ : أمَا لِمُحَمَّدٍ مِنَ الأَعْوَانِ إلاَّ تِسْعَةَ عَشَرَ يُخَوِّفُكُمْ بهِمْ وَأنْتُمُ الدَّهْمُ - يَعْنِي الْعَدَدَ الْكَثِيرَ - فَتَعْجَزُ كُلُّ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْكُمْ أنْ تَبْطِشَ بَواحِدٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ تَخْرُجُونَ مِنَ النَّار؟!)).
ورُوي : أنَّ أبَا جَهْلٍ قَالَ لِقُرَيْشٍ : ثَكِلَتْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ! أنْتُمُ الدَّهْمُ الشُّجْعَانُ فَتَعْجَزُ كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْكُمْ أنْ يَبْطُشُوا بخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُمْحٍ يُقَالُ لَهُ كَلَدَةُ بْنُ أسَدٍ : أنَا أكْفِيكُمْ يَا أهْلَ مَكَّةَ سَبْعَةَ عَشَرَ ؛ أحْمِلُ عَشْرَةً مِنْهُمْ عَلَى ظَهْرِي ، وَسَبْعَةً عَلَى صَدْري ، فَاكْفُونِي أنْتُمُ اثْنَيْن!
ورُوي : أنَّهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَأَنَا أمْشِي بَيْنَ أيْدِيكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ فَأَدْفَعُ عَشْرَةً بمَنْكِبي الأَيْمِنِ ، وَتِسْعَةً بمَنْكِبي الأَيْسَرِ فِي النَّار ، فَنَمْضِي نَدْخُلُ الْجَنَّةَ! فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى قولَهُ : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً } ؛ أي ما جعَلنا خُزَّانَها إلاَّ ملائكةً ، ومن المعلومِ أنَّ الْمَلَكَ الواحدَ إذا كان كافِياً لقبضِ أرواحِهم ، كان تسعةَ عشرَ مَلكاً أكفَى ، ألاَ ترى أنَّ مَلكاً واحداً وهو ملَكُ الموتِ يقبضُ أرواحَ الخلق كلِّهم ؟ فكيف يعجزُ تسعةَ عشرَ مَلكاً عن تعذيب الناس؟!.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي ما جعَلنا عدَدَهم في القلَّة إلاّ محنةً لكفَّار مكة لِجَهلِهم بالملائكةِ وتوَهُّمهم أنَّهم كالبشرِ ، والمعنى : وما جعَلنا عدَّة هؤلاءِ الملائكة مع قِلَّتهم في العددِ إلاَّ ضلالةً للَّذين كفَرُوا حتى قالوا ما قالوهُ من التكذيب ، وقالَ كَلَدَةُ بن أسدٍ : أنا أكفيكُم سبعةَ عشر فَاكفُونِي أنتمُ اثنين.
وقولهُ تعالى : { لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ؛ أي ليعلمَ اليهودُ والنصارَى بذلك صحَّة نبوَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين يَجِدُونَ ما أتَى به مُوافقاً لِمَا في التَّوراةِ والإنجيل ، فإنَّ عددَ هؤلاءِ الْخََزَنَةِ في كُتبهم تسعةَ عشرَ ، فيعلمون أنَّ ما أتَى به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم موافقٌ لِمَا عندَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً } ؛ أي ولكي يزدادَ المؤمنون تَصدِيقاً على تَصدِيقهم لتصديقِ أهلِ الكتاب لذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ } ؛ أي ؛ ولئَلاَّ يَشُكَّ الذين أُوتوا الكتابَ في أمرِ القرآن ، ولا يشكَّ المؤمنون بالتدبُّر والتفكُّر فيه.
(0/0)
كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
وقوله تعالى : { كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } ؛ هذا قسَمٌ على عِظَمِ نار سقرَ ، معناه : حَقّاً والقمرِ ؛ والليلِ إذا جاءَ بعدَ النهار ؛ والصبُّحِ إذا أضاءَ ، إنَّ سَقَرَ لإحدَى العظائمِ التي هي درَكاتُ النار. والعربُ تؤكِّدُ القسَمَ بلفظِ كَلاَّ كما تؤكِّدهُ بـ (حَقّاً). ويقالُ : معناهُ : ورب القمرِ. قرأ نافعُ وحمزة وخلف ويعقوب وحفص : (إذ أدْبَرَ) على لفظ الإدبار ؛ أي إذا انقضَى وذهبَ ، ويقالُ : كلاهما لُغتان : دَبَرَ النهارُ وأدبَرَ.
(0/0)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ } ؛ أي سَقَرَ لإحدَى الكُبَرِ ، قال مقاتلُ والكلبي : ((أرَادَ بالْكُبَرِ دَرَكَاتُ جَهَنَّمَ ؛ وَهِيَ سَبْعَةٌ : جَهَنَّمُ ؛ وَلَظَّى ؛ وَالْحُطَمَةُ ؛ وَالسَّعِيرُ ؛ وَسَقَرَ ؛ وَالْجَحِيمُ ؛ وَالْهَاويَةُ)).
(0/0)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } ؛ قال الزجَّاجُ : ((هُوَ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ (قُمْ) فِي أوَّلِ السُّورَةِ ؛ أي قُمْ نَذيراً للبشرِ)) وهكذا رُوي عن عطاءٍ عن ابنِ عبَّاس ، وَقِيْلَ : { نَذِيراً } نُصِبَ على الحالِ ؛ يعني أنَّها لكبيرةٌ في حالِ الإنذار ، وذكرَ النذيرَ بلفظِ التذكيرِ فإن معنى النار العذابُ ، يعني أن النارَ نذيراً للبشرِ ، قال الحسنُ : ((وَاللهِ مَا أنْذرَ اللهُ بشَيْءٍ أدْهَى مِنْهَا)).
(0/0)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } ؛ بدلٌ من قولهِ { لِّلْبَشَرِ } ، والمعنى أنَّها نذيرٌ لِمَن شاءَ أن يتقدَّمَ في العبادةِ والإيمانِ والخيرِ فينجُوا منهما ، أو يتأخَّرَ عن الإيمانِ والطاعة فيقعُ فيهما ، والمعنى : أنَّ الإنذارَ قد حصلَ لكلِّ أحدٍ ممن آمَن أو كفرَ ، قال الحَسنُ : ((هَذا وَعِيدٌ لَهُمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف : 29])).
(0/0)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } ؛ أي كلُّ نفسٍ مأخوذةٌ يعملِها مرهونةٌ به ، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ((مُرْتَهَنَةٌ فِي جَهَنَّمَ)) { إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ } ؛ وهم المؤمنون الَّذين يُعطَون كُتبَهم بأَيمانِهم ، فإنَّ اللهَ تعالى أعتقَ رقابَهم من الرَّهنِ وأدخلَهم الجنَّةَ.
ويقالُ : هم الأطفالُ الذين لا ذُنوبَ لهم فإنَّهم غيرُ مُرتَهنين. وعن عائشةََ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ أيْنَ هُمْ ؟ قَالَ : " فِي الْجَنَّةِ " وَسَأَلْتُهُ عَنْ أطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : " إنْ شِئْتِ أسْمَعْتُكَ تَضَاغِيهِمْ فِي النَّار " ".
(0/0)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ } ؛ معناهُ : في بساتين يتساءَلون عن أهلِ النار ، يقولون لَهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؛ أيُّ شيءٍ أدخلَكم النارَ وحبسَكم فيها؟
فيقولون لَهم : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ } ؛ في دار الدُّنيا ؛ { وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } ؛ في اللهِ ؛ { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ } ؛ وكنا نخوضُ مع أهلِ الباطلِ والتكذيب ، { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } أي بيومِ الحساب ؛ { حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } ؛ فشاهدناهُ ، ويجوز أن يكون اليقينُ ها هنا الموتَ الذي يعرِفُ المرءُ عنده أمرَ الآخرةِ.
(0/0)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
يقولُ اللهُ تعالَى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } ؛ أي ما تنفَعُهم شفاعةُ الملائكةِ والنبيِّين كما ينفعُ الموحِّدين ، قال الحسنُ : ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ مَلَكٍ وَلاَ شَهِيدٍ وَلاَ مُؤْمِنٍ ، يَشْفَعُ يَوْمِئِذٍ النَّبيُّونَ ؛ ثُمَّ الصِّدِّيقُونَ ؛ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ، وَيَبْقَى قَوْمٌ فِي جَهَنَّمَ فَيَقُولُ لَهُمْ : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ.. }[المدثر : 42-44] إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } )) ، قال ابنُ مسعودٍ : ((فَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَبْقُونَ فِي جَهَنَّمَ)).
(0/0)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } ؛ معناهُ : ما لأهلِ مكَّة عن القرآنِ الذي يقرَأُ عليهم مُعرِضِينَ ؛ أيْ أيُّ شيءٍ لكفَّار مكَّة في الآخرةِ إذا أعرَضُوا عن القرآنِ ، ولم يُؤمِنوا به مع هذه الدَّلالة.
ثم شبَّههم بالْحُمُرِ الوحشيَّة في إعراضِهم عمَّا يُقرَأُ عليهم فقال تعالى : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } ؛ قرأ نافعُ وابن عامر بفتح الفاءِ ؛ أي مُنَفَّرَةٌ مذعورةٌ ، وقرأ الآخرون بكسرِ الفاء ؛ أي نافرةٌ.
(0/0)
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
وقولهُ تعالى : { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } ؛ يعني فرَّت من الأسدِ ، قال ابنُ عباس : ((الْحُمُرُ الْوَحْشِيَّةُ إذا عَايَنَتِ الأَسَدَ هَرَبَتْ مِنْهُ)) كذلك هؤلاءِ المشركون إذا سَمعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقرأُ القرآنَ هرَبُوا منه ، وقال الضحَّاك ومقاتلُ : ((الْقَسْوَرَةُ : الرُّمَاةُ الَّذِينَ يَرْصُدُونَهَا ، لاَ وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ)).
(0/0)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } ؛ قال المفسِّرون : إن كفَّار مكة قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : لتصيحَ قريشٌ عند رأسِ كلِّ رجُلٍ هذا كتابٌ منشور من اللهِ يأتيكَ رسولهُ يؤمر فيه باتِّباعِكَ.
والصُّحف جمعُ صحيفةٍ : و(مُنَشَّرَةً) معناهُ : مَنشُورةً ، وَقِيْلَ : معناهُ : بل يريدون بإفراطِ جهلهم أنْ يُعطَى كلُّ واحد منهم كِتَاباً من السَّماء مفتوحاً : هذا كتابٌ من فلانٍ إلى فلان بأنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ.
(0/0)
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخِرَةَ } ؛ معناهُ : كلاَّ لا يُؤتَون الصُّحف ولا يكون لَهم ذلك ، بل هم لا يَخافون الآخرةَ حين لم يُؤمنوا بها ، ولو خَافوا ذلك لما اقترَحُوا الآياتِ بعد قيام الدَّلالة.
(0/0)
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } ؛ أي حَقّاً إنَّ القرآن عِظَةٌ من اللهِ تعالى ، { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } ؛ أي اتَّعظَ به ، { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } ؛ وما يتَّعظون إلاّ أن يشاءَ اللهُ ذلك لهم ، وَقِيْلَ : لهم المشيئة. وَقِيْلَ : إلاَّ أنْ يشَاءَ اللهُ لهم الْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى } ؛ أي هو أهلٌ أن يُتَّقَى فلا يُعصَى ، ولا يُجعَلَ معه إلهٌ آخر ، { وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } ؛ يَغفِرُ لِمَن اتَّقَى ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : أنا أهلٌ أنْ أتَّقى فلا يُجعلَ معي إلهٌ ، فمَن اتَّقى أن يجعلَ معي إلهاً فإنِّي أهلٌ أن أغفرَ له ، وقال قتادة : ((هُوَ أهْلٌ أنْ تَتَّقِي مَحَارمَهُ ، وَأهْلٌ أنْ يَغْفِرَ الذُّنُوبَ)).
(0/0)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ معناهُ : أُقسِمُ بيومِ القيامةِ ، و(لاَ) صلةٌ. وقال الفرَّاء : ( { لاَ } رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ أنْكَرُوا الْبَعْثَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ)) ويدلُّ على معنى إثباتِ القَسمِ ، قراءةُ الحسنِ والأعرج بغيرِ ألفٍ ، وتقديرهُ على هذه القراءة : لأُقْسِمَنَّ فحُذفت النون.
(0/0)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } ؛ يعني بجميعِ أنفُسِ الخلائقِ ؛ لأنه ليس من نَفْسٍِ بارَّةٍ ولا فاجرةٍ إلاَّ وهي تلومُ نفسَها ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أحَدٌ إلاَّ وَيَلُومُ نَفْسَهُ ، إنْ كَانَ مُحْسِناً قَالَ : يَا لَيْتَنِي أزْدَدْتُ ، وَإنْ كَانَ مُسِيئاً قَالَ : يَا لَيْتَنِي لَمْ أفْعَلْ " ومعنى : { بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ } : الملومة ، وَقِيْلَ : إنَّما سُميت النفسُ لَوَّامَّةً ؛ لأنَّها كثيرةُ اللَّومِ لا صبرَ لها على مِحَنِ الدُّنيا وشدائدِها.
(0/0)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ؛ يعني الكافرَ بالبعثِ ؛ يقولُ : أيَظُنُّ الكافرُ أنْ لن نجمعَ عظامَهُ بعد التفرُّق ، ولن نبعثَهُ في الآخرةِ ، { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ؛ بلى بجمعِها قادرين على تسويةِ بَنَانِهِ ، قال ابنُ عبَّاس : ((الْمُرَادُ بهِ أبُو جَهْلٍ ، يَقُولُ اللهُ لَهُ : أتَحْسَبُ أنْ لَنْ نَبْعَثَكَ)) { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ؛ على ما كانَتْ وإنْ قلَّ عِظَامُها وصَغُرَت فَنردُّها ، ونؤَلِّفُ بينها حتى نُسَوِّيَ البَنَانَ ، ومَن قدرَ على جمعِ صغار العظام كان على جمعِ كِبارها أقدرَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : قادرين على أنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ وأناملَهُ ، ونجعلَ أصابعَ يديه ورجليهِ شيئاً واحداً كخُفِّ البعيرِ أو ككَفِّ الخنْزِير وكحافرِ الحميرِ ، فلا يمكنهُ أن يفعلَ بها شيئاً ، ولكن مَنَنَّا عليه ففرَّقنا أصابعَهُ حتى يأخُذ بها ما شاءُ ، ويقبضَ إذا شاءَ ويبسطَ إذا شاءَ.
(0/0)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ؛ أي بل يريدُ الكافر أن يكذِّبَ بما قُدَّامَهُ من البعثِ ، ويقدِّمَ الذنبَ ويؤخِّرَ التوبةَ ويكفُرَ أبداً ما عاشَ ، قال ابنُ الأنباريِّ : ((مَعْنَاهُ : مُدَّةَ عُمُرِهِ وَلَيْسَ فِي نِيَّتِهِ أنْ يَتُوبَ)). والمعنى : ما يجهلُ ابن آدم أنَّ ربَّهُ قادرٌ على جمعِ عِظَامهِ بعدَ الموتِ ، ولكنَّهُ يريدُ أن يَفجُرَ أمَامَهُ ؛ أي بمعنى قُدَّاماً قُدَّاماً في معاصِي الله ، رَاكباً رأسَهُ لا يُقلِعُ ولا يتوبُ حتى يأتيَهُ الموتُ على أشرِّ أحوالهِ وأسْوَءِ أعمالهِ.
(0/0)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } ؛ أي يسألُ متَى يومُ القيامةِ تَكذيباً به ، ويقالُ في معنى { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } أن يعزمَ على الفُجور في مستقبلِ عُمره في أوقاتٍ لعلَّهُ لا يعيشُ فيها ، ولا يبلغُ إليها ، وأصلُ الفُجُور : الميلُ عن القصدِ ، يقال للكافرِ : فاجرٌ ، وللمكذِّب بالحقِّ : فاجرٌ.
(0/0)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } ؛ معناهُ : إذا حارَ البصرُ وفَزِعَ ، وذلك عند رُؤية جهنَّم ، وهذا جوابٌ لقولهِ تعالى{ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ }[القيامة : 6] فيقول الله تعالى : { فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ } قرأ نافع بفتحِ الراء من البَرِيقِ ، أي يشخَصُ البصرُ إلى ما يتوقَّع من أهوال يوم القيامة ، كنظرِ الْمُحتَضِرِ عند نظرهِ إلى الملائكةِ. قوله : { وَخَسَفَ الْقَمَرُ } ؛ أي وذهبَ ضوءُ القمرِ ، والْخُسُوفُ ذهابُ الضَّوءِ ، { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } ؛ أي جُمعا في ذهاب نُورهما كالنُّورَين القريبَين ، يعني كُوِّرَا يومَ القيامةِ. وَقِيلَ : إنَّهما يُرمى بهما في النار ، خُلِقا من النار ثم يَعودان فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ } ؛ معناهُ : يقولُ الكافر المكذِّبُ بيومِ القيامة : أين المفَرُّ وأين المهرَبُ من الأهوالِ.
(0/0)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
قَالَ اللهُ تَعَالَى : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } ؛ أي حَقّاً لا موضعَ يَلِجُ إليه ولا حِصْنَ ولا حِرْزَ. والوَزَرُ في اللغة : كلُّ ما تحصَّنْتَ بهِ ، والتجأتَ إليهِ ، ومنه الوَزيرُ ؛ لأنَّ الناسَ يلتجِئون إليه.
(0/0)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } ؛ أي الْمُنتَهَى والمرجِعُ والمصيرُ : وَقِيْلَ : المستقَرُّ موضعُ الحساب. وَقِيْلَ : يعني أنَّ مُستقرَّ المؤمنين الجنَّة ، ومستقرَّ الكافرين النارُ.
(0/0)
يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } ؛ أي بما قدَّمَ من طاعةِ الله ، وما أخَّر من طاعةِ الله فلم يعمَلْ به ، وَقِيْلَ : معناهُ : يُنَبَّؤُ الإنسانُ بأوَّل عمَلهِ وآخرهِ. وَقِيْلَ : بما قدَّم من أموالهِ ، وما خلََّفَ للورَثةِ. وَقِيْلَ : بما عَمِلَ في أوَّل عُمره, وما عَمِلَ في آخرِ عُمره.
(0/0)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ؛ يعني أنَّ جَوارحَهُ تشهدُ عليه بما عَمِلَ ، فهو شاهدٌ على نفسهِ بشَهادة جوارحهِ ، والمعنى : على الإنسانِ رُقَبَاءُ يَشهَدُونَ عليه بعملهِ وإنْ أرخَى سُتُورَهُ وأغلقَ أبوابَهُ ، يعني بالرُّقباء سَمْعَهُ وبصرَهُ وذكرَهُ ويديهِ ورجليهِ وجميع جوارحه. ودخولُ الهاء في بصيرةِ لأن المرادَ بالإنسانِ ها هنا الجوارحُ.
(0/0)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } ؛ أي ولو اعتذرَ وجادلَ عن نفسهِ لم ينفعْهُ ذلك ، وإنِ اعتذرَ فعليه مَن يُكذِّبُ عُذرَهُ. وَقِيْلَ : المعاذيرُ جمع الْمِعْذار وهو السَّترُ ، معناه : وإن أسْبَلَ السَّترَ ؛ ليَختفي بما عَمِلَ ، فإنَّ نفسَهُ شاهدةٌ عليه.
(0/0)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
وقولهُ تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ؛ خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقول : لا تحرِّكْ بالقرآنِ لسَانَكَ ، { لِتَعْجَلَ بِهِ } ؛ بقراءتهِ قبلَ أن يفرُغَ جبريلُ من قراءتهِ عليك ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْوَحِيِ لَمْ يَفْرُغْ جِبْرِيلُ مِنْ آخِرِهِ حَتَّى تَلاَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ ، فَأَعْلَمَهُ اللهُ بقَوْلِهِ : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } ؛ أي إنَّ علينا حفظَهُ في قلبكَ ، وتأْلِيفَهُ على ما يأمرهُ الله به ، وأعلَمهُ بأنه لا يُنسِيه إيَّاهُ ، كما قال تعالى{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى }[الأعلى : 6] فلم ينسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم شَيئاً حتى ماتَ.
وعن ابنِ عبِّاس في معنى هذه الآيةِ قال : ((كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شَدَّةً ، كَانَ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ قَبْلَ فَرَاغِ جِبْرِيلَ مِنْ قِرَاءَةِ الْوَحْيِ مَخَافَةَ أنْ لاَ يَحْفَظَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ الآيَةَ : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ). ومثلُهُ قوله{ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ }[طه : 114]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في صَدركَ { وَقُرْآنَهُ } أي إنَّ جبريل يَقرؤُه عليكَ حتى تَحفظََهُ.
(0/0)
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
وقولهُ تعالى : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } ؛ أي فإذا قرأهُ جبريلُ بأَمرِنا وفرغَ منه ، فاقرَأهُ أنتَ إذا فرغَ جبريلُ من قراءتهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : فإذا جَمعناهُ ، وألقيناهُ فاتَّبع ما فيه من الحلالِ والحرامِ والأمر والنهي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ؛ أي بيانُ ما أشكَلَ عليك من معانيهِ ، وبيانُ مُجمَلاتهِ مثلَ أركانِ الصَّلاة وشُروطِها ونِصَاب الزكاة ومقاديرِها.
(0/0)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } ؛ معناهُ : كلاَّ لا يُؤمِنُ أبو جهلٍ وأصحابهُ بالقرآنِ وببيانه بل يحبُّون العاجلةَ ، يعني كفَّارَ مكَّة يحبُّون الدنيا ويعمَلون لها ، { وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ } ؛ ويذرُون العملَ للآخرةِ ، فيُؤثِرُون الدُّنيا عليها ، وقرأ نافعُ والكوفيون (تُحِبُّونَ) و(تَذرُونَ) بالتاء ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : { بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ }.
(0/0)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } ؛ معناهُ : وجوهٌ يومَ القيامةِ نَاعِمَةٌ غضَّة حسَنة مضيئةٌ مُسفِرَةٌ مشرقةٌ بنعيمِ الجنَّة ، وهي وجوهُ المؤمنين كما قال تعالى{ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ }[المطففين : 24] وقولهُ تعالى : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ؛ قال الكلبيُّ : ((تَنْظُرُ إلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ لاَ تُحْجَبُ عَنْهُ)) ، قال مقاتلُ : ((تَنْظُرُ إلَى رَبهَا مُعَايَنَةً)).
قال صلى الله عليه وسلم : " إذا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ يَقُولُ تَعَالَى : أتُرِيدُونَ شَيْئاً أزيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : ألَمْ تُنَضِّرْ وُجُوهَنَا ؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ؟ ألَمْ تُنْجِنَا مِنَ النَّار ؟ قالَ : فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِم ، يَنْظُرُونَ إلَى اللهِ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ بلاَ كَيْفٍ وَلاَ تَحْدِيدٍ ، كَمَا عَرَفَتْهُ الْقُلُوبُ بلاَ كَيْفٍ وَلاَ تَشْبيهٍ ".
وعن عبدِالله بن عمرَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً أنْ يَنْظُرَ فِي مُلْكِهِ ألْفَ سَنَةٍ يَرَى أقْصَاهُ كَمَا يَرَى أدْنَاهُ ، وَيَنْظُرَ فِي سُرُرهِ وَأزْوَاجِهِ وَخَدَمِهِ ، وَإنَّ أفْضَلَهُمْ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ إلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كُلَّ يَوْمٍ نَظْرَتَيْنِ ".
(0/0)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } ؛ أي كَالِحَةٌ عابسَةٌ كاشرة مُسودَّةٌ ، وهي وجوهُ الكفَّار ، { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } ؛ أي تَستَيقِنُ أن يُفعلَ بها داهيةٌ من العذاب ، والفَاقِرَةُ : الداهيةُ العظيمة والأمرُ الشديد الذي يَكسِرُ فِقَارَ الظَّهرِ ، قال ابنُ زيدٍ ((هِيَ دُخُولُ النَّار)).
(0/0)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } ؛ هذا ذكرُ حالِ من يَحضرهُ الموتُ ليَرتَدِعَ الناسُ عمَّا يؤدِّيهم إلى العذاب ، والمعنى : إذا بلَغَتِ الرُّوحُ التُّرْقُوَةَ ، ويقولُ مَن يحضرُ الميِّتَ من أهلهِ : هل مِن رَاقٍ يُرَقِّيهِ وطبيبٍ يُداويهِ ، يطلُبون الأطباءَ ؛ ليَكشِفُوا عنه إما بالرُّقَى ، أو بالعلاجِ. وقال بعضُهم : هذا من قولِ الملائكةِ ؛ لأنَّ النَّفْسَ عندما تُقبض يحضرُها سبعةٌ أملاكٍ من ملائكةِ الرَّحمة ، وسبعةُ أملاكٍ من ملائكةِ العذاب أعوانٌ لِمَلَكِ الموتِ ، ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ أيُّهم يَرْقَى بروحهِ.
والتَّرَاقِي : جمعُ تُرْقُوَةٍ ؛ وهي عظمُ وصلٍ بين ثَغرَةِ النَّحرِ والعَاتِقِ ، وهما تُرقوتَان عن يمينِ ثَغرَةِ النَّحرِ وعن شِمالها كالْحَوْضَين.
(0/0)
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ } ؛ أي تَيَقَّنَ عند ذلك المريضُ الذي بلَغت روحهُ تَرَاقِيَهُ أنه الفراقُ من الدُّنيا ، ومفارقةُ المالِ والأهل والولدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } ؛ أي اجتمعَتْ عليه الشدائدُ والتقَى عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ ، وهو في شدَّة كرب الموت وهَوْلِ المطلعِ وآخر شدائدِ الدُّنيا مع أوَّل شدةِ الآخرة.
وقال الضحَّاك : ((النَّاسُ يُجَهِّزُونَ بَدَنَهُ ، وَالْمَلاَئِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ)). وقال الحسنُ : ((مَعْنَاهُ : وَالْتَفَّتْ سَاقَاهُ فِي الْكَفَنِ يُلَفُّ أحَدُهُمَا إلَى الآخَرِ)). وقال قتادةُ : ((مَاتَتْ سَاقَاهُ فََلَمْ تَحْمِلاَهُ ، وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمَا جَوَّالاً)). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } ؛ أي إليه المرجعُ والمنتهَى في الآخرةِ إلى حيث يأمرُ اللهُ ، إما إلى عِلِّيِّينَ وإمَّا إلى سِجِّين.
(0/0)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى } ؛ يعني أبَا جهلٍ يقولُ اللهُ فيه : لَمْ يصدِّقْ بالقرآنِ ، ولم يُصَلِّ للهِ ، { وَلَـاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } ؛ أي كذبَ بالقرآنِ وتوَلَّى عن الإيمانِ به ، ويدخلُ في هذا كلُّ كافرٍ مثله ، { ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى } ؛ أي رجعَ إلى أهلهِ بتبَختَرُ في المشي ويختالُ فيه ، وأصلهُ : يَتَمَطَّطُ أي يتمَدَّدُ ، والْمَطُّ هو الْمَدُّ ، وتَمَطَّى الإنسانُ إذا قامَ من منامهِ يَمْتَدُّ ، والْمَطِيُّ هو الظهرُ ، وتَمَطَّى إذا مَدَّ مَطَاهُ.
(0/0)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } ؛ هذا وعيدٌ عَلى وعيدٍ من الله لأبي جهلٍ ، وهذه كلمةٌ موضوعة للتهديدِ والوعيد ، والمعنى كأنَّهُ يقولُ لأبي جهلٍ : الويلُ لكَ يومَ تَموتُ ، والويلُ لكَ يومَ تُبعَثُ ، والويلُ لكَ يومَ تدخلُ النارَ ، وَقِيْلَ : المعنى أوْلاَكَ المكروهُ يا أبَا جهلٍ وقَرُبَ منك ما تكرهُ.
(0/0)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } ؛ معناهُ : أيَظُنُّ الكافرُ أن يُترَكَ مُهمَلاً لا يؤمَرُ ولا يُنهَى ولا يُوعَظُ ولا يُتلَى ولا يحاسَبُ بعملهِ في الآخرة ، والسُّدَى : الْمُهْمَلُ.
(0/0)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى } ؛ معناهُ : ألَمْ يَكُ هذا الإنسانُ في ابتداءِ خَلقهِ نُطفَةً من مَنِيٍّ تَصَبُّ في الرَّحمِ ، ـ قُرئ (تُمْنَى) يعني النطفةَ ، ورُوي (يُمْنَى) بمعنى المنِيِّ. قوله : { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } ؛ ثم صارَ دَماً مُنعقداً بعدَ النُّطفة ، { فَخَلَقَ فَسَوَّى } ؛ فخلَقَهُ وسوَّاهُ باليدينِ والرِّجلين والعينينِ والأُذنين إلى أن بلَّغَهُ هذا الحدَّ الذي شاهد ، وخَلَقَ منه الروح.
(0/0)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
قولهُ : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } ؛ أي خَلَقَ من هذه النطفة أولاداً ذُكوراً وإناثاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى } ؛ معناهُ : أليس الَّذي خلقَ الإنسانَ مِن المنِيِّ ، ونَقَلَهُ من تلك الأحوالِ إلى هذه الحالةِ قادرٌ على أن يُحييَ الموتَى. والمعنى : مَن قَدَرَ على الابتداءِ ، كان على البعثِ أقدرَ بعدَ الموتِ ، دلَّهم اللهُ تعالى على البعثِ بابتداء الخلقِ.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم " أنَّهُ كَانَ إذا خَتَمَ هَذِهِ السُّورَة قَالَ : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبَلَى " وعن ابنِ عبَّاس رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ : ((إذا قَرَأ أحَدُكُمْ { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى } فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ بَلَى)).
(0/0)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
{ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ } ؛ أي قد أتَى على آدمَ أربعون سَنة التي مرَّت به وهو بصورةِ الإنسانِ قبلَ أن يُنفخ فيه الروح ، { لَمْ يَكُن } ؛ يُذكَرُ اسمهُ ، ولا يَدري ما يُراد به ، كان { شَيْئاً } ؛ ولم يكن ، { مَّذْكُوراً } ؛ لأنه كان تُراباً وطِيناً إلى أنْ نُفخ فيه الروحُ. ومعنى الآيةِ : قد أتَى على آدمَ أربعُون سَنة مُلقًى بين مكَّة والطائفِ قبلَ أن يُنفخ فيه الروحُ لم يكن شَيئاً مذكوراً ، لا يَذكُرُ ولا يعرفُ ولا يدري ما اسمهُ ولا ما يُراد به.
يُروي : ((أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فَقَالَ عُمَرُ : لَيْتَهَا تَمَّتْ)) أي لَيْتَهُ بَقِيَ على ما كانَ لا يلدُ. وقرأ رجلٌ عند ابنِ مسعود { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فقال : ((لَيْتَ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ)). ولفظُ (هَلْ) بمعنى (قد) ؛ لأنه لم يجوزُ على اللهِ أن يستفهِمَ ؛ لأنه لَمْ يزَلْ عالِماً بالأشياءِ كلِّها ، ولا يزالُ عالِماً.
(0/0)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } ؛ يعني نسل آدم خلقه الله من نطفة أمشاج ؛ أي أخلاطٍ واحدُها مَشِيجٌ ، وهو شَيئان مَخلُوطَانِ ، يعني اختلاطَ نُطفة الرَّجلِ بنطفةِ المرأة ، أحدُهما أبيضُ والآخر أصفرُ ، فما كان من عصبٍ وعظمٍ وقوَّة فمِن نُطفة الرجل ، وما كان من لحمٍ ودم وشَعرٍ فمن نُطفة المرأة. وتَمَّ الكلامُ ، ثُم قالَ : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } ؛ معناهُ : جَعلناهُ سميعاً بصيراً لنَبتَلِيهِ.
والأمشاجُ الاختلاطُ ، يقالُ : مَشَجْتُ هذا بهذا ؛ أي خَلَطتُه به فهو مَمْشُوجٌ ؛ أي مخلوطٌ ، وقال ابنُ عبَّاس والحسن وعكرمةُ ومجاهد : ((يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأةِ يَخْتَلِطَانِ فِي الرَّحِمِ ، فَيَكُونُ مِنْهُمَا جَمِيعاً الْوَلَدُ ، فَمَاءُ الرَّجُلِ أبْيَضٌ غَلِيظٌ يَجْرِي مِنَ الصُّلْب ، وَمَاءُ الْمَرْأةِ أصْفَرُ رَقِيقٌ يَجْرِي مِنَ التَّرَائِب ، ثُمَّ يَخْتَلِطَانِ فَأَيُّهُمَا عَلاَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ)). ويقالُ : جعلَ اللهُ في النُّطفة أخْلاَطاً من الطبائعِ التي تكونُ في الإنسانِ من الحرارةِ والبُرودة واليُبوسَةِ والرطوبة ، وقال الحسنُ : ((نَعَمْ وَاللهِ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ نُطْفَةٍ مُشِجَتْ بدَمِ الْحَيْضِ ، فَإذا حَلَّتِ النُّطْفَةُ ارْتَفَعَ الْحَيْضُ)).
(0/0)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ } ؛ أي بيَّنَّا له طريقَ الهدى وطريقَ الضَّلالة ، فمَكنَّاهُ من الكُفرِ والشُّكر ، ثُمَّ إنه يكون بعدَ الابتلاءِ : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } ؛ أي إما موحِّداً طَائعاً ، وإما مُشرِكاً كافراً ، والمعنى : إمَّا أنْ يختارَ طريقَ الإسلامِ ، وإمَّا أنْ يختارَ طريقَ الكُفرِ. ومعنى (نَبْتَلِيهِ) أي نتَّعَبَّدهُ فيَظهَرُ ما عَلِمْنَا منه ، ولا يقعُ الابتلاءُ إلاَّ بعد تَمام الخِلْقَةِ.
(0/0)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } ، بيَّن اللهُ بهذا ما أعدَّ في الآخرةِ للكافرين وما أعدَّ للمؤمنين ، والمعنَى : إنَّا هَيَّأْنا في جهنَّم لكلِّ كافرٍ سِلْسِلَةً في النار طولُها سَبعون ذراعاً ، يُسْلَكُ فيها وقُرَنَاؤُهُ من الشَّياطين ، وقولهُ تعالى { وَأَغْلاَلاً } أي أغْلاَلاً من حديدٍ تُغَلُّ بها أيدِيهم إلى أعناقِهم من ورائِهم. وقوله { وَسَعِيراً } أي ونَاراً مُوقَدَةً يُعذبون بها.
قرأ نافعُ وعاصم والأعمش والكسائي وأيوب (سَلاَسِلاً) بالتنوينِ ، وكذلك { قَوَارِيرَاْ } ، وفيه وجهان : أحدُهما : أنَّ من العرب من يَصرِفُ جمعَ ما لا ينصرفُ. والثاني : أنَّ هذا الجمعَ أشبَهَ الآحادَ ؛ لأنَّهم قالوا صَوَاحِبَاتُ يوسُفَ في جمعِ صَوَاحِبَ ، وكذلك مَوَالِيَاتُ في جمعِ مَوَالِي ، فإذا كان صواحبُ في معنى الواحدِ ، فكذلك سَلاَسِلاً.
(0/0)
إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } يعني بالأبرار الْمُطِيعِينَ للهِ الصَّادقين في إيمانِهم في الدُّنيا. وَقِيْلَ : هم الذين يَبُرُّونَ الآباءَ والأُمَّهات من المؤمنين. وَقِيْلَ : هم الذين لا يُؤذُونَ الذرَّ ولا يرضَون بالشرِّ. وقولهُ تعالى { مِن كَأْسٍ } أي من خَمْرٍ ، وقولهُ تعالى { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } أي كان مِزَاجُ الخمرِ التي كانت في الكأْسِ كَافُوراً.
قال بعضُهم : أرادَ بذلك ما يُشَمُّ من ريحِها من جهةِ طَعمِها ، كما رُوي عن مجاهدٍ أنه قالَ : ((يُمْزَجُ شَرَابُهُمْ بالْكَافُور وَريحِ الْمِسْكِ وَطََعْمِ الزَّنْجَبيلِ ، لَيْسَ كَكَافُور الدُّنْيَا وَلاَ كَمِسْكِهَا وَزَنْجَبيلِهَا ، وَلَكِنْ وَصَفَ اللهُ مَا عِنْدَهُ بمَا عِنْدَنَا لِتَهْتَدِيَ لَهُ الْقُلُوبُ)). ويقالُ : يغيِّرُ اللهُ طعمَ الكافور إلى نِهاية ما يُشتهى ، فيجتمعُ طِيبُ الرائحةِ مع لذةِ الطَّعمِ.
(0/0)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
وقولهُ تعالى : { عَيْناً } ؛ منصوبٌ على البدلِ من (كَافُوراً) ، ويقالُ في معنى (يَشْرَبُونَ... عَيْناً) أي مِن عينِ فوَّارَةٍ في أرضِ الجنة ، وقولهُ تعالى : { يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } ؛ يجوزُ أن يكون معناهُ : يشرَبُها ، يقالُ : شَرِبْتُ بماءِ كذا ؛ أي شَرِبْتُهُ ، ويجوز أنْ يكون معناهُ : يشربُ بالجنَّة أو بالأرضِ التي بها العينُ ، كما يقالُ : شَرِبنا كَذا شَراباً صَافياً.
قوله { عِبَادُ اللَّهِ } أي أولِياؤُه ، يفجِّرون تلكَ العينَ ، ويسُوقونَها إلى حيث شَاءُوا لِمَن دونهِم من أهلِ الجنَّة ، بخلافِ عُيون الدُّنيا وأنْهارها. والتفجيرُ : تَشْقِيقُ الأرضِ بجَرْيِ الماءِ. وَقِيْلَ : معنى { يُفَجِّرُونَهَا } أي يقُودون تلك العينَ حيث شاءوا من منازلهم ودُورهم وحيث شاءوا.
(0/0)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ } ؛ يعني الأبرارَ هذه صفاتُهم في الدُّنيا ، كانوا يُوفُونَ بطاعةِ الله من الصلاةِ والحجِّ ، ومعنى (النَّذْر) في اللغة : الإيجابُ ، ومعنى الوفاءُ بالنذر إتمامُ العهدِ والوفاءُ به وإقامة فُروضِ الله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } ؛ معناهُ : ويخافون من نقضِ العهدِ عذابَ يومٍ كان شرُّه مُمْتَدّاً فَاشِياً. يقالُ : استطارَ الخيرُ إذا فشَا وظهرَ. وعن قتادةَ قال : ((اسْتَطَارُوا للهِ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مُلِئَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ مِنْهُ)) نَحْوَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ ، وَانْتِثَار الْكَوَاكِب ، وَنَسْفِ الْجِبَالِ ، وَخُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَفَزَعِ الْمَلاَئِكَةِ.
(0/0)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ } ؛ أي على حُب الطعامِ وقلَّتهِ على أشدِّ ما يكونون محتاجين إليه ، ويُؤثِرُونَ على أنفُسِهم ولو كان بهم خَصَاصَةٌ. ويقالُ : على حب الله لطلب مَرضَاتِه ، وقوله تعالى : { مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } فالمسكينُ هو الذي يسأَلُ ، وَقِيْلَ : هو المتعفِّفُ الذي لا يسأَلُ. واليتيمُ : الذي لا أبَ له من يَتَامَى المسلمين. والأسِيرُ : الكافرُ المأسورُ في أيدِي المؤمنين.
قال قتادةُ : ((كَانَ أسِيرُهُمْ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَوَاللهِ لأَخُوكَ الْمُسْلِمُ أعْظَمُ حُرْمَةً وَحَقّاً عَلَيْكَ)). ويقالُ : الأسيرُ العَبْدُ ، ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ على أنَّ في إطعامِ أهلِ الجوع ثَواباً جَزيلاً من اللهِ تعالى ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قَال : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ أطْعَمَ مُسْلِماً عَلَى جُوعٍ إلاَّ أطْعَمَهُ اللهُ مِنْ ثِمَار الْجَنَّةِ ، وَمَنْ سَقَى مُسْلِماً عَلَى ظَمَأ سَقَاهُ اللهُ مِنَ الرَّحِيقِ ".
(0/0)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } ؛ قال مجاهدُ : ((أمَا وَاللهِ نَعَمْ ؛ لَمْ يَتَكَلَّمُواْ بذلِكَ وَلَكِنْ عَلِمَ اللهُ مَا فِي قُلُوبهِمْ فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ خَيْراً)). والمعنى : أنَّهم يقولون في أنفُسِهم وفيما بينهم وبين ربهم : إنما نُطعِمُكم لطلب ثوابه. وقولهُ { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي لا نريدُ منكم مكافأةً ولا مَحْمَدَةً.
وقوله { شُكُوراً } مصدرٌ مثل القُعُودِ والخروجِ. وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ مَن أطعمَ غيرَهُ للمكافأةِ أو لكي يمدحَهُ ويَشكُرَهُ لا يستحقُّ بذلك الثواب ، وإنما يستحقُّهُ إذا فعلَهُ خَالِصاً للهِ لا يُرِيدُ شَيئاً مِنَ الدُّنيا.
(0/0)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } ؛ معناهُ : إنا نَصنَعُ ما نصنَعُ خَوفاً من عذاب ربنا وطَمَعاً في رحمتهِ ، اليَوْمُ العَبُوسُ : هو الذي تعبُس فيه الوجوهُ مِن هَولِهِ فلا تنبسطُ ، والقَمْطَرِيرُ : الشديدُ الغليظُ العَصِبُ ، يقالُ : يوم قَمْطَرِيرٌ وَطِرٌ إذا كان عظيمَ الشَّرِّ طويلَ البلاءِ.
وعن ابن عبَّاس قال : ((الْعَبُوسُ : الضَّيِّقُ ، وَالْقَمْطَرِيرُ : الطَّوِيلُ)). وقال مجاهدُ : ((الْقَمْطَرِيرُ : الَّذِي يُقَلِّصُ الْوَجْهَ وَيَقْبضُ الْجَبْهَةَ ، وَمَا بَيْنَ الأَعْيُنِ مِنْ شِدَّتِهِ)). قال ابنُ عبَّاس : ((يَعْبسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقِطْرَانِ سَحّاً)) ، قال الحسنُ : ((سُبْحَانَ اللهِ! مَا أشَدَّ اسْمَهُ وَهُوَ أشَدُّ مِنَ اسْمِهِ)).
(0/0)
فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ } ؛ أي دفعَ اللهُ عنهم شرَّ ذلك اليومِ ، { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } ؛ أي حُسناً في الوجوهِ وسُروراً في القلوب لا انقطاعَ له. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً } ؛ أي جَزاهم بما صبَروا في الدُّنيا على طاعةِ الله ، وعلى ما أصابَهم من الشَّدائدِ في ذاتِ الله جنَّةً يَسكنُونَها وحَريراً يلبسونَهُ في الجنَّة.
(0/0)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ } ؛ نُصِبَ على الحالِ فيها ؛ أي في الجنَّة " متكئين " على الأرائكِ ؛ أي على السُّرُر في الْحِجَالِ ، ولا تكون أريكَةَ إذا اجتَمعا ، قال مقاتلُ : ((الأَرَائِكُ : السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ مِنَ الدُّرَر وَالْيَاقُوتِ ، مَوْضُونَةٌ بقُضْبَانِ الدُّرِّ وَالذهَب وَالْفِضَّةِ وَألْوَانِ الْجَوَاهِرِ. وَالْحِجَالُ : شِبْهُ الْقِبَاب فَوْقَ السُّرُر)) ، { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } ؛ لا يصيبُهم في الجنَّة شمسٌ ولا زمهريرٌ ؛ أي لا يُصيبهم حرُّ الشمسِ ولا بردُ الزمَّهريرِ ، البردُ الشديدُ الذي يحرِقُ ببُرودَتهِ إحراقَ النار.
ورُوي أنَّ هذه الآيات نزَلت في عليٍّ وفاطمةَ وجاريةٍ لهما يقالُ لها فضَّة ، قال ابنُ عبَّاس : " مَرِضَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ، فَعَادَهُمَا جَدُّهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ عُمَرُ ، فَقَالُوا لِعَلِيٍّ : " لَوْ نَذرْتَ عَلَى وَلَدَيْكَ نَذْراً ؟ " فقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : إنْ بَرِئَ وَلَدَايَ مِمَّا بهِمَا صُمْتُ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ كَذلِكَ ، وَقَالَتْ جَاريَتُهُمَا كَذلِكَ ، فَوَهَبَ اللهُ لَهُمَا الْعَافِيَةَ.
فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ رضي الله عنه إلَى سَمْعُونَ الْيَهُودِيِّ فَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَلاَثَة أصُعٍ مِنْ شَعِيرٍ ، فَطََحَنَتِ الْجَاريَةُ صَاعاً ، وَخَبَزَتْ مِنْهُ خَمْسَةَ أقْرَاصٍ ، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قُرْصٌ ، وَصَلَّى عَلِِيٌّ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَتَى الْمَنْزِلَ ، فَوُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، إذْ أتَاهُمْ مِسْكِينٌ فَوَقَفَ بالْبَاب وَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ ، مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسلِمِينَ ، أطْعِمُونِي أطْعَمَكُمُ اللهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ ، فَسَمِعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَأَنْشَأَ يَقُولُ : " فَاطِمَ ذاتَ الْمَجْدِ وَالْيَقِينْ يَا بنْتَ خَيْرِ النَّاسِ أجْمَعِينْأمَا تَرَيْنَ الْبَائِسَ الْمِسْكِينْ قَدْ قَامَ بالْبَاب لَهُ حَنِينْيَشْكُو إلَى اللهِ وَيَسْتَكِينْ يَشْكُو إلَيْنَا جَائِعٌ حَزِينْكُلُّ أمْرِئٍ بكَسْبهِ رَهِينْ وَفَاعِلُ الْخِيْرِاتِ يَسْتَبينْمَوْعِدُهُ فِي جَنَّةٍ عِلِّينْ حَرَّمَهَا اللهُ عَلَى الضَّنِينْوَلِلْبَخِيلِ مَوْقِفٌ مُهِينْ تَهْوِي بهِ النَّارُ إلَى سِجِّينْشَرَابُهُ الْحَمِيمُ وَالْغِسْلِينْ " فَأَنْشَأَتْ تَقُولُ : " أمْرُكَ يَا ابْنَ عَمِّ سَمْعٌ وطَاعَهْ مَا بي مِنْ لُوْمٍ وَلاَ وَضَاعَهْغَدَيْتُ فِي الْخُبْزِ لَهُ صِنَاعَهْ أُطْعِمُهُ وَلاَ أُبَالِي السَّاعَهْأرْجُو إذا أطْعَمْتُ ذا الْمَجَاعَهْ أنْ ألْحَقَ الأَخْيَارَ وَالْجَمَاعَهْوَأدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلِي شَفَاعَهْ " فَأَعْطَوْهُ طَعَامَهُمْ وَلَمْ يَذُوقُوا لَيْلَتَهُمْ إلاَّ الْمَاءَ. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أصْبَحُوا صِيَاماً ، فَطَحَنَتِ الْجَارِيَةُ الصَّاعَ الثَّانِي ، وَخَبَزَتْ مِنْهُ خَمْسَةَ أقْرَاصٍ ، فَصَلَّى عَلِيٌّ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ أتَى الْمَنْزِلَ فَوُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَإذا بيَتِيمٍ قَدْ وَقَفَ عَلَى الْبَاب ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ بَيْتِ مُحَمَّدٍ ، أنَا يَتِيمٌ مِنْ أوْلاَدِ الْمُهَاجِرِينَ ، اسْتُشْهِدَ وَالِدِي يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، أطْعِمُونِي أطْعَمَكُمُ اللهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ ، فَسَمِعَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه فَأَنْشَأَ يَقُولُ : " فَاطِمَ بنْتَ السَّيِّدِ الْكَرِيمِ بنْتُ نَبيٍّ لَيْسَ باللَّئِيمِقَدْ جَاءَنَا اللهُ بذِي الْيَتِيمِ مَنْ يَرْحَمِ الْيَوْمَ يَكُنْ رَحِيمِمَوْعِدُهُ فِي جَنَّةِ النَّعِيمِ قَدْ حُرِّمَ الْخُلْدُ عَلَى اللَّئِيمِيُسَاقُ فِي الْعُقْبَى إلَى الْجَحِيمِ
(0/0)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } ؛ نعتٌ للجنَّة ؛ أي وجزَاهم بما صبَروا جنَّةً دانيةً ظِلالُها ؛ أي قريبٌ ظلالُ أشجارها عليهم ، دَانَتْ دَانِيَةً ؛ لأن الظِّلالَ جمعٌ. وفي قراءةِ عبدِالله (وَدَانِياً عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } ؛ أي وسُخِّرت وقُرِّبت ثمارُها تسخيراً ، لا يمنعُهم عنها شَوكٌ ولا بُعْدٌ ، ينالُها القائم والقاعدُ والمضطجع يتناوَلونَها كما شاءُوا ، فإذا كان الرجلُ قَائماً تطاوَلت له الشجرةُ على قدر قيامه ، وإنْ كان قَاعداً ومتَّكئاً أو مُضطجعاً انخضَعت له على قدر ذلك. ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ }[الحاقة : 23].
قال مجاهدُ : ((أرْضُ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ ، وَتُرَابُهَا مِنْ مِسْكٍ ، وَأُصُولُ شَجَرِهَا مِنْ ذهَبٍ ، وَوَرَقُهَا لَؤلُؤٌ وَزُبُرْجَدُ ، وَالتَّمْرُ تَحْتَ ذلِكَ ، فَمَنْ أكَلَ قَائِماً لَمْ يُؤَذِّهِ ، وَمَنْ أكَلَ قَاعِداً لَمْ يُؤَذِّهِ ، وَمَنْ أكَلَ مُضْطَجِعاً لَمْ يُؤذِهِ)).
(0/0)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ } ؛ أي بأقداح من فضَّة ، { وَأَكْوابٍ } ، أي كِيزَانٌ لا عُرّى لها ولا خراطيم ، { كَانَتْ قَوَارِيرَاْ } ؛ أي كانت تلك الأكوابُ من فضَّة ، وهي في صَفاءِ القواريرِ ، يُرَى من خارجها ما في داخلها من الأشرِبة ، قال ابنُ عبَّاس : ((لَوْ أخَذْتَ مِنْ فِضَّةِ أهْلِ الدُّنْيَا فَضَرَبْتَهَا حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ جَنَاحِ الذُّبَاب لَمْ يُبْصِرْ مَا فِيهَا مَنْ رَآهَا ، وَلَكِنَّ قَوَاريرَ الْجَنَّةِ فِي بَيَاضِ الْفِضَّةِ وَفِي صَفَاءِ الْقَوَاريرِ)).
قال الكلبيُّ : ((إنَّ اللهَ جَعَلَ قَوَاريرَ كُلَّ قَوْمٍ مِنْ تُرَاب أرْضِهِمْ ، وَإنَّ أرْضَ الْجَنَّةِ مِنْ فِضَّةٍ ، فَجَعَلَ مِنْ تِلْكَ الْفِضَّةِ قَوَاريرَ يَشْرَبُونَ فِيْهَا)). وفي قولهِ تعالى { قَوَارِيرَاْ } قراءَتان ، من لم ينَوِّنْهُما فهو لا يصرفُ ، ومن صرفَهما فعلى اتِّباع رُؤوس الآيِ.
(0/0)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } ؛ أي قدّرها الملائكة قبلَ مجيئِهم لها تَقديراً ، فجاءَت على ما قدَّروا ، كما رُوي : ((أنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بشَيْءٍ مِنْ شَرَاب الْجَنَّةِ إلاَّ أتَاهُ الْمَلَكُ بالشَّرَاب الَّذِي اشْتَهَى فِي قَدَحٍ مِنْ فِضَّةٍ - عَلَى صِفَةِ الْفِضَّةِ الَّتِي ذكَرْنَا - عَلَى مِقْدَار رَيِّ الشَّارب وَشَهْوَتِهِ مِنْ غَيْرِ زيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ حَتَّى يَسْتَوْفِي الْكَمَالَ مِنْ غَيْرِ أنْ يَتَكَلَّمَ بهِ))
وألذُّ الشَّراب ما لا يكون فيه فضْلٌ ولا عجزٌ عن الرَّي ، ويقالُ في معناه : إنَّها تكون على قدر كفِّ الخدمِ ، ورَيِّ المخدومِ ولم يثقُل حملها على أحدٍ منهم.
(0/0)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } ؛ أي يُسقون في الجنَّة بآنيةٍ مملوءة من الخمرِ كان مزاجُها زَنجبيلاً لا يشبهُ زنجبيلَ الدُّنيا ، لكن سَمَّاهُ اللهُ باسمهِ ليُعرَفَ ؛ لأن العربَ تستطيبُ رائحةَ الزنجبيلِ في الدُّنيا ، وأمَّا هذا الزنجبيلُ المذكور في الآيةِ فهو زنجبيلُ الجنَّة يشَوِّقُ ويُطرِبُ من غيرِ حرقٍ ولدغٍ ، وإنما قالَ ذلك ؛ لأنَّ العربَ كانت تضربُ المثلَ بالخمرِ الممزوجة بالزنجبيلِ ، قال الشاعرُ : كَأَنَّ الْقُرَنْفُلَ وَالزَّنْجَبيـ ـلَ بَاتَا بفِيهَا وَأرْياً مَشُورَا
(0/0)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً } ؛ معناهُ تُمزَجُ الخمرُ بالزَّنجبيلِ ، والزنجبيلُ من عينٍ في الجنَّة تُسمَّى تلك العينُ سَلسَبيلاَ ، والمعنى : مِن عينٍ فيها تسمَّى سَلْسَبيلاَ ، قال مقاتلُ : ((السَّلْسَبيلُ عَيْنٌ مِنَ الْخَمْرِ تَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إلَى أهلِ الْجِنَانِ)).
(0/0)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } ؛ أي يطوفُ عليهم بالخدمةِ وُصَفاءُ خُلقوا للخلودِ ، ولا يتغيَّرون عن سنِّهم وشبابهم. وَقِيْلَ : معنى { مُّخَلَّدُونَ } مُسوَّرُونَ مُقرَّطُونَ ، يقال الجماعةِ الْحُلِيِّ الْخُلْدُ ، { إِذَا رَأَيْتَهُمْ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { حَسِبْتَهُمْ } ؛ لصفائِهم وحُسن ألوانِهم ، { لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } ؛ أي كاللُّؤلؤِ المنثور ، فإن على البساطِ كان أحسنَ منه مَنظُوماً.
(0/0)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ } ؛ إذا نظرتَ إلى الجنَّة ، { رَأَيْتَ نَعِيماً } ؛ لا يوصفُ ، { وَمُلْكاً كَبِيراً } ؛ أي ومُلكاً عَظيماً لا يلحقهُ الزوالُ والعزل ، فقال مقاتلُ : ((الْمُلْكُ الْكَبيرُ اسْتِئْذانُ الْمَلاَئِكَةِ ، لاَ يَدْخُلُ رَسُولُ رَب الْعِزَّةِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ عَلَيْهِمْ إلاَّ بإذْنِهِمْ ، وَلاَ يُدْخَلُ إلاَّ بالْهَدَايَا مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَالسَّلاَمِ مِنَ اللهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ تَعََالَى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ }[يس : 58].
فَإذا انْتَهَى الْمَلَكُ إلَى الْبَاب قَالَ لِلْحَاجِب الَّذِي عَلَى الْبَاب : ائْذنْ لِي بالدُّخُولِ ، فَيَقُولُ الْحَاجِبُ : لاَ أسْتَطِيعُ أنْ آذنَ لَكَ عَلَى وَلِيِّ اللهِ ، وَلَكِنْ أُخْبرُ الَّذِي يَلِينِي ، فَيُخْبرُ الَّذِي يَلِيهِ فَيَقُولُ الثَّانِي كَذلِكَ ، فَلاَ يَزَالُ هَكَذا حَتَّى يَأْتِيَهُ الْخَبَرُ فِي سَبْعِينَ بَاباً ، فَذلِكَ هُوَ الْمُلْكُ الْكَبيرُ ، فَإذا دَخَلَ عَلَيْهِ الْمَلَكُ قَالَ لَهُ : إنَّ اللهَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ ، فَيَضَعُ الْهَدِيَّةَ بَيْنَ يَدَيْهِ " فيها " مَا لاَ عَيْنٌ رَأتْ ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ : إنَّ اللهَ عَنْكَ رَاضٍ ، فَهَذا الْقَوْلُ عِنْدَهُ أكْبَرُ مِنَ السَّلاَمِ وَالْهَدِيَّةِ وَالنَّعِيمِ الَّذِي هُوَ فِيْهِ)) فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ }[التوبة : 72].
(0/0)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } ؛ قرأ قتادةُ ومحمَّد وابنُ سيرين ونافع وحمزة والأعمشُ وأيوب (عَالِيْهُمْ) بإسكانِ الياء ، وهي في موضعِ رفعٍ بالابتداء ، والمعنى : الذي يَعلُوهم من الثياب ، ويقالُ : الذي يعلُوهم على حِجَالِهم ، وقرأ الباقون (عَالِيَهُمْ) بنصب الياء على الظَّرف ؛ أي فوقَهم ، ويجوزُ أنْ يكون نَصباً على الحالِ ؛ أي يطوفُ على الأبرار ولدَانٌ مخلَّدون في هذه الحالةِ ؛ أي في حالِ علُوِّ ثياب السُّندسِ عليهم.
وقولهُ تعالى { خُضْرٌ } قرأ ابنُ كثير (خُضْرٍ) بالخفضِ على نعتِ السُّندس و(إسْتَبْرَقٌ) بالرَّفع على نعتِ الثياب ، وقرأ أبو عمرٍو وابنُ عامرٍ (خُضْرٌ) بالرفعِ على نعت الثياب ، و(إستَبْرَقٍ) بالخفض على معنى ثيابٍ من سندسٍ ومن استبرقٍ. وقرأ نافعُ وأيوب (خُضْرٌ وَإسْتَبْرَقٌ) كلاهما بالرَّفع عَطفاً للإستبرقِ على قوله (خُضْرٌ) ، وقرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلَف كلاهما بالخفضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } ؛ أي حُلِيُّ أهلِ الجنَّة أساورُ من فضَّة ، وفي آيةٍ أخرى{ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً }[فاطر : 33] فاقتضت " دلالة " الآيتَين أنَّ كُلاٍّ منهم يُحلَّى ثلاثة أسوِرَةٍ : سِوارٌ من ذهبٍ وسوارٌ من فضَّة وسوار من لؤلؤٍ. قال بعضُهم : الضميرُ في قولهِ تعالى { وَحُلُّواْ } راجعٌ إلى الـ (ولْدَانٌ).
وقولهُ تعالى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } ؛ أي شراباً من خمرٍ ليس بنَجسٍ ، كما كانت خمرُ الدنيا نجسةً ، وَقِِِيْلَ : شرابٌ من خمرٍ لا يخالطهُ شيء من الفسادِ والقبائحِ ولا ينقلبُ إلى التغيُّر ، بل هو من عينٍ على باب الجنَّة ، مَن شَرِبَ منها نزَعَ اللهُ من قلبهِ الغِلَّ والحسدَ والغشَّ ، قال أبو العاليةِ : ((مَعْنَاهُ : أنَّهُ لاَ يَصِيرُ بَوْلاً نَجِساً ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشَحاً فِي أبْدَانِهِمْ كَرِيحِ الْمِسْكِ)).
(0/0)
إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } ؛ أي يقالُ لهم هذا الثوابُ والكرامة كان لكم جزاءً لأعمالِكم في الدُّنيا ، { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } ؛ أي وكان عملُكم في الدنيا مَقبولاً ، هذا معنى الشُّكر ؛ لأنه لا يكون لأحدٍ على الله مِنَّةٌ يستحقُّ بها عليه الشُّكرَ ، ولكِنَّ شكرَهُ لعبادهِ قَبولُ طاعاتِهم ومغفرةُ ذُنوبهم.
(0/0)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً } ؛ أي إنا نحنُ نزَّلنا عليكَ القرآن يا مُحَمَّد متفرِّقاً آيةً وآيتين وثلاثَ آياتٍ وسورة ، وفصَّلناهُ في الإنزالِ ولم يُنْزِلْهُ جملةً واحدة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } ؛ أي اصبرْ على قضائهِ ، على تبليغِ الرسالة ، { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } ؛ أي لا تُطِعْ من مُشرِكي مكَّة آثِماً ؛ أي كذاباً فَاجِراً ولا كَفُوراً ؛ أي كَافِراً بنِعَمِ اللهِ.
ويعني بقولهِ { ءَاثِماً } : عُتبةَ بن ربيعةَ ، ويعني بالكفور : الوليدَ بن المغيرةَ. وَقِيْلَ : الآثِمُ الوليدُ ، والكفورُ عتبةُ بن ربيعةَ ، كانَا قالاَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ وَنَحْنُ نُرْضِيكَ بالْمَالِ وَالتَّزْويجِ ، وكان عتبةُ قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنْ كُنْتَ صَنَعْتَ هَذا مِنْ أجْلِ النِّسَاءِ! فَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أنَّ بَنَاتِي مِنْ أجْمَلِهَا بَنَاتٍ ، فَأَنَا أُزَوِّجُكَ بِنْتِي وَأسُوقُهَا إلَيْكَ بغَيْرِ مَهْرٍ ، فَارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ. وكان الوليدُ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنْ كُنْتَ صَنَعْتَ هَذا يَا مُحَمَّدُ مِنْ أجْلِ الْمَالِ! فَلَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشُ بأَنِّي مِنْ أكْثَرِهِمْ مِنَ الْمَالِ ، فَأَنَا أُعْطِيكَ مِنَ الْمَالِ حَتَّى تَرْضَى ، فَارْجِعْ عَنْ هَذا الأَمْرِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً }.
(0/0)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ؛ أي صَلِّ للهِ تعالى صَلاَةَ الفجرِ وصلاةَ الظُّهر والعصرِ ، { وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ } ؛ أي فصَلِّ له المغربَ والعشاءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } ؛ أي صَلِّ له في الليلِ الطويل ، يعني : التطوُّعَ بعدَ المكتوبةِ ، وكان على النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقُومَ كلَّ الليلِ ، ثم نُسخ بقولهِ{ قُمِ الَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً }[المزمل : 2].
(0/0)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ } ؛ يعني كفارَ مكَّة يُحبُّونَ الدارَ العاجلةَ وهي الدُّنيا ، { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } ؛ أي يترُكون العملَ للآخرةِ ، وسُمِّي يومُ القيامةِ يَوماً ثَقيلاً ؛ لشدَّة أهوالهِ ، وقد يُذكر الوَرَاءُ بمعنى قُدَّام ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ }[الكهف : 79].
(0/0)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } ؛ أي نحن خلَقنا أهلَ مكَّة وجميعَ الناسِ ، وقوَّينا خلقَهم بعد أن خُلقوا من ضَعْفٍ. وَقِيْلَ : شدَدْنا مفاصِلَهم ؛ لئلا يسترخِي منها شيءٌ ؛ أي شدَدْنا بعضَها إلى بعضٍ بالعُروق والعصَب. وَقِيْلَ : يعني موضعَ البولِ والغائط ، شدَدْناهما بحيث إذا خرجَ الأذى منهما يَنقَبضَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } ؛ أي وإذا شِئنا أهلَكناهم ، وأتَينا بأشباهِهم فجعلناهم بَدلاً منهم.
(0/0)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذِهِ تَذْكِرَةٌ } ؛ أي إنَّ هذه السورةَ موعظةٌ من اللهِ ، { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } ؛ أي طَريقاً بالعملِ الصالح. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ؛ أي ما يَشاءُون اتخاذ السَّبيل إلاّ بمشيئةِ الله ذلك لكم ، وقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي عَليماً قبلَ خَلقِكم بمن يتَّخذ سَبيلاً ومَن لا يتَّخذُ ، حَكيماً فيما أمَرَكم به.
واختلَفُوا في تفسيرِ هذه الآية ، والصحيحُ : أنَّ معناها : وما تشَاءُون إلاَّ أنْ يشاءَ اللهُ لكم أن تشاءوا ، ودليلُ ذلك أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ }[التكوير : 28] قَالُوا : قَدْ جُعِلَتِ الْمَشِيئَةُ لَنَا وَلاَ نَشَاءُ ، فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }.
ومن نفَى المشيئةَ قال : إنَّ هؤلاء مخصُوصون لا يشاءُون إلاّ أنْ يشاءَ اللهُ أن يُكرِهَهم عليه ، قال الحسنُ : ((مَا شَاءَتِ الْعَرَبُ أنْ يَبْعَثَ اللهُ مُحَمَّداً رَسُولاً ، فَشَاءَ اللهُ ذلِكَ وَبَعَثَهُ عَلَى كُرْهٍ مِنْهُمْ). وعن النَّضرِ بن شُميل أنه قال : ((لاَ تَمْضِي مَشِيئَةٌ إلاَّ بمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى ، وَلاَ تَمْضِي مَشِيئَةٌ مِنَ الْعَبْدِ إلاَّ بعِلْمِ اللهِ ، فَمَنْ عَلِمَ اللهُ مِنْهُ خَيْراً شَاءَ الإيْمَانَ ، وَمَنْ شَاءَ الإيْمَانَ شَاءَ اللهُ لَهُ أنْ يُوَفِّقَهُ ، وَمَنْ شَاءَ الكُفْرَ شَاءَ اللهُ أنْ يَخْذُلَهُ)).
(0/0)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } ؛ أي يُكرمُ مَن يشاءُ بدينِ الإسلام بتوفيقهِ مَن كان أهلاً لذلك ، وقولهُ تعالى : { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ نَصَبَ (الظالِمين) على المجاورة ؛ ولأَنَّ ما قبله منصوب ، والمعنى : ويعذبُ الظالمين ، أعدَّ لهم عَذاباً أليماً ، ويعني بالظَّالمين مشرِكي مكَّة.
(0/0)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)
{ وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } ؛ يعني الرياحَ أُرسِلَت متتابعةً كعُرفِ الفرَسِ ؛ أي ورب المرسَلاتِ عُرفاً ، وقال مقاتلُ : ((مَعْنَاهُ : والْمَلاَئِكَةُ الَّتِي أُرْسِلَتْ بالْمَعْرُوفِ مِنْ أمْرِ اللهِ وَنَهْيهِ)). وقولهُ تعالى : { فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } ؛ يعني الريحَ الشديدةَ الهبُوب ، فإذا وقعت الريحُ الشديدة في البحرِ صارت قاصفةً.
(0/0)
وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { والنَّاشِرَاتِ نَشْراً } ؛ يعني الرياحَ التي تنشرُ السَّحابَ للمطرِ نَشْراً ، وهي الليِّنَةُ التي يُرسِلُها اللهُ نَشْراً بين يدَي رحمتهِ ، وَقِيْلَ : العاصفاتُ الملائكة تعصِفُ بأرواحِ الناس ؛ أي تذهبُ بها ، وَقِيْلَ : الناشراتُ الملائكة أيضاً ؛ لأنَّها تنشرُ الصحائفَ بأمرِ الله.
(0/0)
فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً } ؛ يعني الملائكةَ تنْزلُ بالوحيِ للفَرقِ بين الحلالِ والحرامِ ، والحقِّ والباطلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً } ؛ يعني الملائكةَ تُلْقِي كُتُبَ اللهِ إلى أنبيائهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } ؛ معناهُ عُذْراً من اللهِ ، وإنذاراً لِخَلقهِ ، والإعذارُ قَطْعُ المعذِرةِ ، والإنذارُ الإعلامُ بموضعِ المخَافَةِ لتبقَى ، ولهذا بعثَ الرُّسُلَ وأنزلَ الكُتبَ.
والمعنى بهذه الآياتِ : أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أنكَرُوا البعثَ أقسمَ اللهُ تعالى بما بيَّن من قدرتهِ وتدبيرهِ الملائكةِ والسَّحابِ والرياحِ أنَّ قيامَ الساعةِ كائنٌ فقال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } ؛ أي إنَّ أمرَ الساعةِ والبعثِ لكائنٌ لا محالةَ.
ثم ذكرَ متى يقعُ فقال : قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ } ؛ أي مُحِيَ نورُها وسُلِبَ ضَوْءُها وتساقطَت ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ }[الانفطار : 2]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ } ؛ أي شُقَّت من هيبةِ الرَّحمن ، وانفطَرت بعد أن كانت سَقفاً محفوظاً ، فأوَّل حالِها الوهيُ ثم الانشقاق ، قال الله تعالى : { وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ }[الحاقة : 16] ثم الانفتاحُ ، قال اللهُ{ وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ }[النبأ : 19] ثم الانفراجَ حتى يتلاشَى فتصير كأنَّها لم تكن.
(0/0)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ } ؛ أي قُلِعَتْ من أماكنِها بسرعةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ } ؛ أي بيَّن مواقيتها للفصلِ والقضاء بينهم وبين الأُمم. وَقِيْلَ : جُمعت لوقتِها ، وإنما قُلبت الواوُ همزةً على قراءةِ غير الواو ؛ لأن كلَّ واوٍ انضمَّت وكانت ضمَّتُها لازمةً جازَ إبدالها همزةً ؛ ولأنَّ العربَ تعاقِبُ بين الواو والهمزة كقولهم : أكَّدتُ ووَكَّدت ، وأرَّختُ الكتابَ وورَّختُ ، ووسادة وإسادةً.
قرأ أبو عمرٍو (وَقَّتَتْ) بالواو والتشديد على الأصلِ ، وقرأ أبو جعفر (وَقَتَتْ) بالواو والتخفيف ، وقرأ عيسى وخالد بن الياس (أقِتَتْ) بالألفِ ، وقرأ الباقون بالألفِ والتشديد.
(0/0)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } ؛ معناهُ : لأيِّ يومٍ أُخِّرت هذه الأشياءُ من الطَّمس والنَّسفِ وغيرهما. ثم بيَّن متى ذلك فقالَ : { لِيَوْمِ الْفَصْلِ } ؛ أي أُخِّرت ليومِ الفصل بين الخلائقِ ، وهو يوم القيامةِ ، سُمِّي بهذا الاسم لأنه يُفْصَلُ فيه بين الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ ، وبين الظالِم والمظلومِ.
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وقولهُ تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ } ؛ فيه تعظيمٌ لأمرِ ذلك اليوم ؛ أي لم تكن تعلمُ يا مُحَمَّد ما يوم الفَصْلِ ، وما أعدَّ اللهُ فيه لأوليائهِ من الثواب ، ولأعدائهِ من العقاب حتى أتاكَ خبرُ ذلك ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ الويلُ : وادٍ في جهنَّم للمكذِّبين بالوعيد.
(0/0)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ } ؛ معناهُ : ألَمْ نُهلِكْ قومَ نوحٍ بالعذاب في الدُّنيا حين كذبوا نوحاً ؛ { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ } ؛ أي ثم ألحقنا بهم قومَ هودٍ ومَن بعدَهم ، { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } ؛ من أُمَّتكَ يا مُحَمَّدُ ، يعني كفارَ مكَّة ممن سَلَكَ طريقَهم.
قرأ الأعرج ثم (نُتْبعْهُمُ الآخِرِينَ) بالإسكان عطفاً على (نُهْلِكِ) ، وقرأ الكافَّة (نُتْبعُهُمْ) بالرفعِ على معنى ثُم نحنُ نُتبعُهم ، وفي قراءةِ ابن مسعود (سَنُتْبعُهُمْ الآخَرِينَ) ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
(0/0)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } ؛ تنبيهٌ على القدرةِ على الإعادةِ ، والتحذيرُ من التكبُّرِ ؛ لأنَّ الذي يقدِرُ على أن يخلُقَ من الماءِ الحقيرِ بَشَراً على هذه الصِّفةِ ، قادرٌ على إعادةِ الخلق بعد الموتِ ، والمرادُ بالماء الْمَهِينِ النطفةَ ، وقولهُ تعالى : { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ؛ أي في الرَّحم ، { إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ؛ يعني مدَّة الحملِ على اختلاف مُدَدِ حملِ الحيوانات ، لا يعلمُ مقدارَ ذلك ولا الحملَ إلاَّ اللهُ تعالى.
(0/0)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
وقولهُ تعالَى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } ؛ قرأ السلمي وقتادة ونافع وأيوب بالتشديدِ من التقديرِ يعني نُطَفاً وعَلَقاً ومُضَغاً وعظاماً وذكراً وأنثى وقصيراً وطويلاً ، وقرأ الباقون مخفَّفاً ، ومعناهما " في التخفيفِ والتشديد واحد " ويجوز أنْ يكون من القدرةِ ، وقولهُ تعالى { فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } ، معناه : على هذا فنعم القادرون على الخلقِ ، وعلى الأوَّل فنِعْمَ القادرون لهذه المخلوقاتِ ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
(0/0)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } ؛ معناهُ : يُكفِتُهم أحياءً على ظَهرِها في دورهم ومنازلهم ، ويُكفِتُهم أمواتاً في بُطونِها ؛ أي يجوزُ " أن يكون عُني أنها تكفت أذاهم " في ظهرِها للأحياءِ وبطنِها للأموات. وعن مجاهدٍ : ((مَعْنَاهُ : تُكَفِّتُ الْمَيْتَ فَلاَ يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ ، وَتُكَفِّتُ الْحَيَّ فِي بَيْتِهِ فَلاَ يُرَى مِنْ عَمَلِهِ شَيْءٌ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذينِ مِنَ النِّعْمَةِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ)).
والْكَفْتُ في اللُّغة الضمُّ ، وسُمِّي الوعاءُ كِفَاتاً بكسرِ الكاف لأنه يضمُّ الشيءَ ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على وجوب مُوَارَاةِ الميِّت ودفنهِ ودفنِ شعره وسائرِ ما يُزَايلهُ.
(0/0)
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } ؛ أي جبالاً ثوابتَ ، والشامخاتُ الطِّوالُ العالِيَاتُ المرتفعات جُعلت أوْتَاداً للأرضِ فسَكَنَتْ بها ، وكانت تَمُورُ كالسَّفينة لا تستقرُّ على الماءِ إلاَّ بمِرْسَاةٍ تثقلها ، { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } ؛ أي عَذْباً حُلواً غيرَ ملحٍ ولا أجٍّ ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ بنِعَمِ اللهِ التاركين لشُكرِها.
(0/0)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ؛ معناهُ : ويقال لهم يومَ القيامة ، تقولُ لهم الْخَزَنَةُ : انطلقوا إلى العذاب الذي كُنتم به تكَذِّبون في الدُّنيا أنه لا يكون ، { انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } ؛ أي انطلِقُوا إلى دُخان من جهنَّم قد سطعَ ، ثم افترقَ ثلاثَ فِرَقٍ ، وهو قولهُ { ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } شُعْبَةٌ فوقَهم ، وشعبةٌ عن يمينِهم ، وشعبةٌ عن شمالهم. وذلك أنه يخرجُ لسانٌ من نارٍ فيحيطُ بهم فيُحبَسون إلى أنْ يُسَاقوا النار أفوَاجاً أفواجاً ، قال إبراهيمُ النخعيُّ : ((هَذا الظِّلُّ مَقِيلُ الْكُفَّار قَبْلَ الْحِسَاب)) ، والمعنى : انطلِقُوا إلى ظلٍّ ذي ثلاثِ شُعب فكونوا فيه إلى أن يفرغَ من الحساب.
ثم وصفَ اللهُ ذلك الظلَّ فقال : { لاَّ ظَلِيلٍ } ؛ أي لا يُظِلُّ من الحرِّ ، { وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ } ؛ أي ولا يردُّ عنكم لَهب جهنَّم ؛ أي إنَّهم إذا استظَلُّوا بذلك الظلِّ لم يدفَعْ عنهم من حرِّ النار شيئاً ، فأما المؤمنون فيُقبلُونَ في الجنةِ كما قال تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }[الفرقان : 24].
(0/0)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } ؛ معناهُ : أنَّ النَّارَ تقذفُ بشَررٍ متفرِّق متطايرٍ كالقَصْرِ وهو البناءُ العظيم كالحِصْنِ. وَقِيْلَ : مثلَ قُصور الأعراب على المياهِ ، يعني الخيام ، قَال مقاتلُ : ((شَرَرُ النَّار فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ عَدَدَ النُّجُومِ وَوَرَقِ الأَشْجَار ، لاَ يَقَعُ شَيْءٌ مِنْهَا إلاَّ عَلَى أكْتَافِ الرِّجَالِ)). والشَّرَرُ ما يتطايرُ من النار وينتشرُ في الجهاتِ متفرِّقاً.
قرأ عليٌّ وابنُ عباس (كَالْقَصَرِ) بفتحِ الصاد ، أرادَ كأعناق النَّخلِ ، وَقِيْلَ : كأعناقِ الدواب ، والقَصَرُ العنقُ وجمعه قُصُرٌ وقُصُرَات. وقرأ سعيدُ بن جبير (كَالْقِصَرِ) بكسر القاف وفتحِ الصاد وهي لغةٌ فيه.
(0/0)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ } ؛ يعني أنَّ لونَ الشَّرَر يشبهُ لون الْجِمَالاَتِ الصُّفر ، وجِمَالاتٌ جمعُ جِمَالٍ ، قراءةُ حمزة والكسائي وحفص وخلف : (جِمَالَةٌ) بكسرِ الجيم من غيرِ ألف على جمع جَمَلٍ مثل حَجَرٍ وحجارةٍ. وقرأ يعقوبُ (جُمَالَةٌ) بضم الجيمِ من غير ألف ، أرادَ الأشياءَ العظيمةَ المجموعة. وقرأ ابنُ عباس (جُمَالاَتٌ) بضمِّ الجيم جمع جُمَالاَتٍ وهي الشيءُ الْمُجْمَلُ ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
وقولهُ { صُفْرٌ } معناه سُودٌ ، قال الفرَّاء : ((الصُّفْرُ سَوْدَاءُ الإبلِ ، لاَ يُرَى أسْوَدٌ مِنَ الإبلِ إلاَّ وَهُوَ مُشَرَّبٌ صُفْرَةً)) لذلك سَمَّت العربُ سودَ الإبل صُفراً ، والأصفرُ الأسودُ ، قال الأعشَى : تِلْكَ خَيْلِي وَتِلْكَ مِنْهُ رَكَائِبُ هُنَّ صُفْرٌ أوْلاَدُهَا كَالزَّبيبأي هُنَّ سُودٌ.
(0/0)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } ؛ قال المفسِّرون : إنَّ في يومِ القيامةِ مواقفَ ، ففِي بعضها يختَصِمُون ويتكلَّمون ، وفي بعضِها يُختَمُ على أفواهِهم فلا يتكلَّمون.
وعن قتادةَ قال : ((جَاءَ رَجُلٌ إلَى عِكْرِمَةَ فَقَالَ : أرَأيْتَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى { هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ }[الزمر : 31] ؟ فَقَالَ : إنَّهَا مَوَاقِفُ ، فَأَمَّا مَوْقِفٌ مِنْهَا فَيَتَكَلَّمُوا وَيَخْتَصِمُوا ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى أفْوَاهِهِمْ فَتَكَلَّمَتْ أيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ ، فَحِينَئِذٍ لاَ يَنْطِقُونَ)) وهذا الوقتُ المذكور في الآيةِ من المواطنِ التي لا يتكلَّمون فيها.
(0/0)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
وقولهُ : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } ؛ قال مقاتلُ : ((لاَ يَنْطِقُونَ أرْبَعِينَ سَنَةً وَلاَ يُؤْذنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ)) وإنما رَفعَ (فَيَعْتَذِرُونَ) لأنه عُطف على (يُؤْذنُ) ، ولو قالَ فيَعتَذِرُوا على النصب ولكن حَسناً كقولهِ تعالى : { لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ }[فاطر : 36] ولو كان لَهم عذرٌ لم يُمنَعوا من الاعتذار ، قال الجنيدُ : ((أوَ أيُّ عُذْرٍ لِمَنْ كَفَرَ بآيَاتِ رَبهِ ، وَأعْرَضَ عَنْ مُنْعِمِهِ)) ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
(0/0)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ } ؛ أي هذا يومُ الفصلِ بين أهلِ الجنَّة والنار ، جَمَعنَاكم مكَذِّبي هذه الأُمة والأوَّلين الذين كذبوا أنبياءَهم.
(0/0)
فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } ؛ أي يقالُ لَهم ذلك على وجهِ التقريعِ : إنْ كان لكم حيلةٌ في دفعِ العذاب ، فاحتالُوا لأنفسكم. وَقِيْلَ : معناهُ : إنْ كان لكم كيدٌ تَكِيدُون به أوليائِي ، كما كنتم تكيدونَهم في الدُّنيا فكيدُوهم ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47)
قُوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } ؛ أي في ظِلالِ الأشجار وقصور الدُّرِّ وعيون جاريةٍ تجري بالماءِ والخمر واللَّبن والعسلِ ، { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } ؛ يقال لَهم : { كُلُواْ } ؛ من ثِمار الجنَّة ، { وَاشْرَبُواْ } ؛ من شرابها ، { هَنِيـئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ أي سَليماً من الآفاتِ بما كنتم تعمَلون الطاعاتِ في الدُّنيا ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي هكذا نجزِي الْمُحسِنين على إحسانِهم.
ثم يقالُ لكفار مكَّة : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً } ؛ في الدُّنيا إلى منتهَى آجالكم ، { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } ؛ أي مُشرِكون باللهِ ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ }.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ } ؛ أي إذا أُمِروا بالصَّلوات الخمسِ لا يُصلُّون ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ أي لِمَن كذب بالركوعِ ، { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي إنْ لم يؤمنوا بهذا القرآنِ مع ظُهوره ووضوحه ، فبأَيِّ كتابٍ يصدِّقون ، ولا كتابَ بعدَهُ.
(0/0)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
{ عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } ؛ قال المفسِّرون : لما بُعِثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأخبرَهم بتوحيدِ الله والبعثِ بعد الموت ، وتلاَ عليهم القرآنَ ، جعلوا يتساءَلون بينهم ويقولون : ما نرَى الذي جاءَ به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وما الذي أتَى به ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ.
ومعناها : عن أيِّ شيء يتحدَّثون فيما بينهم ، وهذا لفظه لفظُُ اللاستفهامِ ، والمعنى تفخيمُ القصة. وأصله عَنْ مَا فأُدغمت النون في الميمِ وحُذفت الألف ؛ لأن العربَ إذا وضَعت (عن ما) في موضعِ الاستفهام حذفت نونَها فرقاً بينهما وبين أنْ تكون اسماً مثلَ قولهِ{ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا }[النازعات : 43] و (عَلاَمَ تفعلُ) ، بخلافِ قولِهم : سألتُ فلاناً عمَّا فعلَ ، لا يجوزُ فيه حذفُ الألفِ ؛ لأن معناها الَّذي ، وكذلك إذا كانت (مَا) للصلةِ كقوله تعالى : { عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ }[المؤمنون : 40].
قولهُ تعالى : { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ } أي الخبرِ الشَّريف ، وهو القرآنُ ، فإنه خبرٌ عظيم الشَّأنِ ، لأنه يُنبئُ عن التوحيدِ وتصديق الرسول ، والخبرُ عمَّا يجوز وما لا يجوزُ ، وعن البعثِ والنشور. قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } ؛ يعني أنَّهم اختلَفُوا في القرآنِ ، فجعلَهُ بعضُهم سِحراً وبعضهم كهانةً وبعضهم شِعراً ، وبعضهم أساطيرَ الأوَّلين.
ثم أوعدَ اللهُ مَن كذب بالقرآنِ فقال تعالى : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ؛ أي ليس الأمر على ما قالوا ، سيعلمون عاقبة تكذيبهم حتى تنكشف الأمور ، { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وعيدٌ على إثرِ وعيدٍ. وَقِيْلَ : معنى (كَلاَّ) ارتَدِعوا وانزَجِرُوا ، فليس الأمرُ على ما تظنُّون ، وسيعلَمُ الكفارُ عاقبةَ أمرِهم ، { ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } ؛ أمرَ القيامةِ وأهوالها ، وما لَهم من أنواعِ العذاب في النار.
(0/0)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً * وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً } ؛ نَبَّهَ سبحانهُ على عظيمِ قُدرته ، ولطيفِ حِكمَتهِ ؛ ليعرفوا توحيدَهُ. والْمِهَادُ : الوِطاءُ ؛ للتصرفُّ عليه من غير كُلفَةٍ ، فالأرضُ مِهَادٌ يسيرون في مناكبها ويسكُنون في مساكنها ، والْمِهَادُ والْمَهْدُ بمعنًى واحدٍ ، والْمِهَادُ : الفراشُ ، والجبالُ أوتادٌ للأرضِ ؛ لأنَّ الأرضَ كانت تنكفئُ بأهلِها على وجهِ الماء ، فأرسَاها اللهُ بالجبالِ الثوابتِ حتى لا تَميدَ بأهلها ، وكان أبو قَبيس أوَّلَ جبلٍ وُضِعَ على الأرضِ.
(0/0)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } ؛ أي ذُكراناً وإناثاً ، ويقالُ : ألوَاناً وأصنافاً ، وكلُّكم ترجِعون إلى أبٍ واحد ، { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } ؛ أي راحةً لأبدانِكم ، فكلُّ مَن تَعِبَ من الخلقِ إذا نامَ استراحَ ، والسُّباتُ مأخوذٌ من السَّبت وهو القطعُ ، والسُّبات قطعُ العملِ ، والسُّبات ها هنا أن ينقطعَ عن الحركةِ ، والروحُ في بدنهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً } ؛ سَابغاً بظُلمتهِ وسوادهِ لكلِّ شيءٍ ، { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً } ؛ أي ذا ضياءٍ لطَلب المعاشِ بالحراثةِ والتجارة ونحوِهما.
(0/0)
وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } ؛ أي رَفعنا فوقَ رُؤوسِكم سبعَ سمواتٍ غِلاظاً شديدَةَ الإتقانِ ، قائمةً بإذن اللهِ لا تنهارُ ولا تتغيَّرُ من طولِ الزَّمان ، غِلَظُ كلِّ سماءٍ خمسمائةِ عام ، { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } ؛ أي وقَّاداً مُتَلأْلئاً مُشتَعلاً بالنور العظيم ، تنضجُ الأشياءَ بحرِّها ، وتضيءُ للناسِ بنُورها ، والوَهَجُ مجمعُ النور والحرارة.
(0/0)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً } ؛ قال مجاهدُ ومقاتل وقتادة والكلبي : ((الْمُعْصِرَاتُ الرِّيَاحُ ؛ لأَنَّهَا تَعْصِرُ السَّحَابَ حَتَّى تُخرِجَ مِنْهُ الْمَطَرَ)). قال الأزهريُّ : ((هِيَ الرِّيَاحُ ذوَاتُ الأَعَاصِيرِ)) ، و(مِنَ) معناها الباء كأنه قالَ : بالمعصراتِ ؛ ولأن الرياحَ تستدِرُّ المطرَ ، وقال أبو العاليةِ والربيعُ والضحاك : ((الْمُعْصِرَاتُ السَّحَابُ الَّتِي يَنْجَلِبُ مِنْهَا الْمَطَرُ ، كَالْمَرْأةِ الْمَعْصُورَةِ وَهِيَ الَّتِي دَنَا حَيْضُهَا)) ، قال الشاعرُ : جَاريَةٌ بإبرقين دَارُهَا قَدْ أعْصَرَتْ أوْ قَدْ دَنَا إعْصَارُهَايَسْقُطُ مِنْ غُلْمَتِهَا إزَارُهَا تَمْشِي الْهُوَيْنَا سَاقِطاً خِمَارُهَاوقال يزيدُ بن أسلمَ : ((الْمُعْصِرَاتُ : السَّمَوَاتُ)) ، وقال ابنُ كَيسان : ((الْمُغَيَّبَاتُ)).
والماءُ الثَّجَّاجُ : هو السَّيَّالُ الصَّبَّابُ ، والثَّجُّ : الصَّبُّ ، كما رُوي في الحديثِ : " أفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُ " أرادَ بالعَجِّ : رفعُ الصوتِ بالتَّلبيةِ ، وَالثَّجِّ : إراقةُ الدَّم. وقال مجاهدُ : ((ثَجَّاجاً أيْ مِدْرَاراً)) وقال قتادةُ : ((مُتَتَابعاً يَتْلُو بَعْضَهُ)).
(0/0)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } ؛ أي لنُخرِجَ بالمطرِ حبّاً يأكلونَهُ ونَباتاً ترعاهُ أنعامُكم. { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } ؛ أي بسَاتين ملتفَّة الأشجار ، واحدها لِفٌّ بالكسرِ ، وجمعهُ لُفٌّ بالضمِّ ، وجمعُ الجمعِ ألْفَافٌ.
(0/0)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً } ؛ معناهُ : إنَّ يومَ الفصلِ بين الخلائقِ وهو يومُ القيامةِ كان مِيقَاتاً للأوَّلين والآخِرين أن يجتَمعوا فيه ، ومِيقَاتاً لِمَا وعدَ اللهُ من الثواب والعقاب.
ثم بَيَّنَ متى يكونُ ذلك فقالَ تعالى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } يعني نفخةَ البعثِ فيأتي كلُّ أناسٍ بإمامِهم فَوجاً بعد فوجٍ ، وزُمَراً بعد زُمَرٍ من كلِّ مكانٍ للحِسَاب. والصُّورُ : قَرْنٌ يَنفُخُ فيه إسرافيلُ.
وعن معاذِ بن جبلٍ قالَ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أرَأيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } ؟ قَالَ : " يَا مُعَاذُ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ مِنَ الأَمْرِ " ثُمَّ بَكَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : " يَا مُعَاذُ يُحْشَرُ النَّاسُ عَشْرَةَ أصْنَافٍ مِنْ أُمَّتِي أشْتَاتاً قَدْ بَدَّلَ اللهُ صُوَرَهُمْ وَغَيَّرَهُمْ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازيرِ ، وَبَعْضُهُمْ مُنَكَّسُونَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ وَأرْجُلُهُمْ فَوْقَ وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ ، وَبَعْضُهُمْ عُمْيٌ يَتَرَدَّدُونَ ، وَبَعْضُهُمْ صُمٌّ بُكْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ ، وَبَعْضُهُمْ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ وَهِيَ مُدَلاَّةٌ عَلَى صُدُورهِمْ ، يَسِيلُ الْقَيْحُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ لُعَاباً يَتَقَذرُهُمْ أهْلُ الْجَمْعِ ، وَبَعْضُهُمْ مُقَطَّعَةٌ أيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ ، وَبَعْضُهُمْ مُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَارٍ ، وَبَعْضُهُمْ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الْجِيَفِ ، وَبَعْضُهُمْ يَلْبَسُونَ جِبَاباً مِنْ قَطِرَانٍ لاَزقَةٍ بجُلُودِهِمْ.
فَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صُورَةِ الْقِرَدَةِ النَّمَّامُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صُورَةِ الْخَنَازيرِ الأَكَّالُونَ السُّحْتَ ، وَالَّذِينَ هُمْ مُنَكَّسُونَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ أكَلَةُ الرِّبَا ، وَالْعُمْيَانُ الْجَائِرُونَ فِي الْحُكْمِ ، وَالصُّمُّ الْبُكْمُ هُمُ الَّذِينَ يُعْجَبُونَ بأَعْمَالِهِمْ ، وَالَّذِينَ يَمْضُغُونَ ألْسِنَتَهُمْ الْعُلَمَاءُ الوُعَّاظُ الَّذِينَ خَالَفَ قَوْلُهُمْ أعْمَالَهُمْ ، وَالْمُقَطَّعَةُ أيْدِيهِمْ وَأرْجُلُهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْجِيرَانَ ، وَالْمُصَلَّبُونَ عَلَى جُذُوعِ النَّار السُّعَاةُ إلَى السُّلْطَانِ ، وَالَّذِينَ هُمْ أشَدُّ نَتْناً مِنَ الْجِيَفِ هُمُ الَّذِينَ يَتَنَعَّمُونَ باللَّذاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَمَنَعُوا حَقَّ اللهِ مِنْ أمْوَالِهِمْ ، وَالَّذِينَ يَلْبَسُونَ الْجِبَابَ هُمْ أهْلُ الْكِبْرِ وَالْفُجُور وَالْخُيَلاَءِ " ".
(0/0)
وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً } ؛ أي فُتحت لنُزولِ الملائكة ، فكانت ذاتَ أبوابٍ ، قرأ أهلُ الكوفة (وَفُتِحَتِ) بالتخفيف.
(0/0)
وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً } ؛ أي سُيِّرت على وجهِ الأرضِ فصارَت كالتُّراب المنبَثِّ ، إذا رآهُ الناظر يحسَبهُ سَراباً بعد شدَّتِها وصَلابَتِها. والسرابُ : الغبارُ المنبَثُّ في الهواءِ يحسَبهُ العطشانُ عندَ وقوعِ الشمسِ أنهم ماءٌ وليس بماءٍ.
(0/0)
إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } ؛ أي طَريقاً ومَمَرّاً للعبادِ ، ولا سبيلَ إلى الجنَّة حتى تقطعَ النارَ ، وقال مقاتلُ : ((إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مَحْبساً)) معدَّةً { لِّلطَّاغِينَ } ؛ أي للكافرِين ، { مَآباً } ؛ أي مَرجِعاً يرجعون إليه ، وفي الحديثِ : " أنَّهَا أعْرَفُ بأَصْحَابهَا مِنَ الْوَالِدَةِ بوَلَدِهَا ".
(0/0)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } ؛ قرأ حمزةُ (لَبثِينَ فِيهَا أحْقَاباً) ، وقرأ الباقون (لاَبثِينَ) وهما بمعنىً واحد ؛ أي مَاكِثينَ فيها مُقيمين بها.
واختلفَ العلماءُ في معنى الْحُقُبُ ، فرُوي عن عبدِالله بن عِمرَ : ((أنَّ الْحُقُبَ الْوَاحِدَ أرْبَعُونَ سَنَةً ، كُلُّ يَوْمٍ مِنْهَا ألْفُ سَنَةٍ)) ، فهذا هو الْحُقُبُ الواحدُ ، وهي أحقابٌ لا يعلمُ عددَها إلاَّ اللهُ. وعن عليٍّ رضي الله عنه : ((أنَّ الْحُقُبَ الْوَاحِدَ ثَمَانُونَ سَنَةً ، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً ، كُلُّ شَهْرٍ ثَلاَثُونَ يَوْماً ، كُلُّ يَوْمٍ ألْفُ سَنَةٍ)).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " وَاللهِ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّار مَنْ دَخَلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يَكُونُوا فِيهَا أحْقَاباً ، وَالْحُقُبُ بضْعٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً ، وَالسَّنَةُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ يَوْماً ، كُلُّ يَوْمٍ ألْفُ سَنَةٍ ".
وعن الحسنِ : ((إنَّ اللهَ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئاً إلاَّ وَجَعَلَ لَهَا مُدَّةً يَنْتَهِي إلَيْهَا ، وَلَمْ يَجْعَلْ لأَهْلِ النَّار مُدَّةً ، بَلْ قَالَ : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } ، فَوَاللهِ مَا هِيَ إلاَّ إذا مَضَى حُقُبٌ دَخَلَ آخَرُ ، ثُمَّ آخَرُ إلَى أبَدِ الآبدِينَ)). فليس للأحقاب عدَّةٌ إلاَّ الخلودُ في النار ، ولكنْ قد ذُكرَ أنَّ الْحُقُبَ الواحدَ سبعون ألفَ سَنةٍ ، كلُّ يومٍ منها ألفُ سَنة مما تعُدُّون.
وقال مقاتلُ : ((الْحُقُبُ الْوَاحِدُ سَبْعَةَ عَشَرَ ألْفَ سَنَةٍ)) ، وَقَالَ : ((هَذِهِ الآيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } يَعْنِي أنَّ الْعَدَدَ قَدِ انْقَطَعَ ، وَأنَّ الْخُلُودَ قَدْ حَصَلَ)) ، وعن عبدِالله بن مسعود قالَ : ((لَوْ عَلِمَ أهْلُ النَّار أنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي النَّار عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَفَرِحُواْ ، وَلَوْ عَلِمَ أهْلُ الْجَنَّةِ أنَّهُمْ يَلْبَثُونَ فِي الْجَنَّةِ عَدَدَ حَصَى الدُّنْيَا لَحَزِنُوا)).
(0/0)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } ؛ أي لا يذُوقون في تلكَ الأحقاب نَوماً ولا شَراباً من الماءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يذوقون في جهنَّم من شدَّةِ حرِّها بَرداً ينفعُهم من حرِّها ، ولا شَراباً ينفعُهم من عطشِها.
وَقِيْلَ : معناهُ : لا يذُوقون في جهنَّم بردَ ريحٍ ولا ظلاًّ ولا شَراباً بارداً ، { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } ؛ أي إلاَّ ماءً حارّاً في غايةِ الحرارة ، و(غَسَّاقاً) وهو ما يغسِقُ أي يسيلُ من صَديدِ أهلِ النَّار ، وكلُّ ذلك يزيدُ في العطشِ.
وقال شهرُ بنُ حَوشَبَ : ((الْغَسَّاقُ وَادٍ فِي النَّار ، فِيْهِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثُونَ شِعْباً ، فِي كُلِّ شِعْبٍ ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثُونَ بَيْتاً ، فِي كُلِّ بَيْتٍ أرْبَعُ زَوَايَا ، فِي كُلِّ زَاويَةٍ ثُعْبَانٌ كَأَعْظَمِ مَا خَلَقَ اللهُ ، فِي رَأسِ كُلِّ ثُعْبَانٍ سُمٌّ قَاتِلٌ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَهُ إلاَّ اللهُ تَعَالَى)).
وعن أبي معاذٍ النَّحَوِيِّ قال فِي قولهِ تعالى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } : ((أنَّ الْبَرْدَ النَّوْمُ)) ، ومثلهُ قال الكسائيُّ وأبو عبيدة ، والعربُ تقول : مَنَعَ الْبَرْدُ الْبَرْدَ ؛ أي أذهبَ البردُ النومَ ، ولأنَّ العطشَان لينامُ فيبَرَدُ غليلُه ، فلذلك سُمي النومُ بَرداً ، قال الشاعرُ : وإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ وَإنْ شِئْتُ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاحاً وَلاَ بَرْداًأي نَوماً.
(0/0)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَزَآءً وِفَاقاً } ؛ انتصبَ على المصدر ؛ أي جُوزُوا على وفقِ أعمالهم جَزاءً. وَقِيْلَ : تقديره : جزَينَاهم جَزاءً ، وقولهُ تعالى { وِفَاقاً } أي وُفِّقوا أعمالهم وفاقاً كما يقولُ : قاتِل قِتالاً ، والمعنى : جُوزُوا بحسب أعمالهم ، قال مقاتلُ : ((وَافَقَ الْعَذابُ الذنْبَ ، فَلاَ ذنْبَ أعْظَمُ مِنَ الشِّرْكِ ، وَلاَ عَذابَ أعْظَمُ مِنَ النَّار)).
(0/0)
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
وقولهُ تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } ؛ أي إنَّهم كانوا لا يَخَافون أنْ يُحاسَبوا ، والمعنى : أنَّهم كانوا لا يُؤمنون بالبعثِ ولا بأنَّهم يُحاسَبون ، { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } ؛ أي وكذبوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ تَكذيباً ، و(فِعَّالٌ) من مصادر التَّفعيلِ ، قال الفرَّاءُ : (هِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ يَمَانِيَّةٌ) ، يقال حَرَّقْتُ القميصَ حِرَّاقاً.
(0/0)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } ؛ أي وكلَّ شيء مِن الأعمال بيَّنَّاهُ في اللوحِ المحفوظ ، كقولهِ تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ }[يس : 12]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } ؛ أي يقالُ لَهم : ذُوقوا العذابَ في النار ، فلن نزيدَكم إلاَّ ألوانَ العذاب لَوْناً بعدَ لونٍ ، وكلُّ عذابٍ يأتِي بعدَ الوقتِ ، فهو زائدٌ على الأوَّلِ.
(0/0)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } ؛ الْمُتَّقِي هو المؤمنُ المطيعُ لله ، الكافُّ عن جميعِ معاصيه. والْمَفَازُ : موضعُ الفَوْز وهو الجنَّة ، والمعنى : أنَّ للمتَّقين فَوْزاً ونجاةً من النار. وقوله تعالى { حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } ؛ تفسيرٌ لذلكَ الفوز. والحدائقُ : جمعُ الحديقةِ ، وكلُّ ما أُحِيطَ به الحائطُ من الأشجار فهو حديقةٌ وهو البستان الجامعُ. والأعنابُ : أنواعُ العنَب في البستان ، والمعنى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً } يعني أشجارَ الجنَّةِ وثِمارَها.
(0/0)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } ؛ الكَوَاعِبُ : جمعُ الكَاعِب ، وهي الجاريةُ النَّاهِدُ الْمُفَلَّكَةُ الثديِ ، وهي التي خرجَ ثديُها بأحسنِ الخروج ، ولم يُفطَم بعدُ. والأترابُ : اللَّدَاتُ المستوياتُ في السنِّ ، ويجوزُ أن يكون المعنى : مثلَ أزواجهنَّ في السنِّ والصورة والقدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَأْساً دِهَاقاً } ؛ الكأسُ : الإناءُ الذي فيه الشَّراب ، والدِّهَاقُ : الْمَلآنُ المتابع ، والمعنى : وكَأْساً ممتلئةً.
(0/0)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
وقولهُ تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } ؛ أي لا يسمَعون في مجالسِهم في الجنَّة كَلاماً لا فائدةَ فيه ، ولا يكذِّبُ بعضهم بعضاً ، والمعنى : لا يسمَعون في الجنَّة إذا شَربوا الخمرَ بَاطلاً من الكلامِ ، ولا يكذِّبُ بعضهم بعضاً ، قال ابنُ عبَّاس : ((ذلِكَ أنَّ أهْلَ الدُّنْيَا إذا شَرِبُوا تَكَلَّمُوا بَالْبَاطِلِ ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ إذا شَرِبُوا لَمْ يَتَكَلَّمُوا عَلَيْهَا شَيْئاً يَكْرَهُهُ اللهُ)). وقرأ الكسائيُّ : (وَلاَ كِذاباً) بالتخفيف ؛ أي لا يكذِبُ بعضُهم بعضاً ، والكِذابُ مصدرُ الْمُكَاذبَةِ ، وهو حسنُ المعنى.
(0/0)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } ؛ أي جزَاهم اللهُ بهذه الأشياءِ من ربكَ وأعطاهُم عطاءً حِسَاباً ، وقال ابنُ قتيبةَ : ((عَطَاءً كَافِياً)) ، يقال : أحسَبْتُ فُلاناً ؛ أي أكثرتُ له وأعطيتهُ ما يَكفيهِ ، قال الزجَّاج : ((فِي ذلِكَ الْجَزَاءِ كُلُّ مَا يَشْتَهُونَ ، وَمِنْ ذلِكَ : حَسْبي كَذا ؛ أيْ كَفَانِي)). والمعنى : جَزاءً من ربكَ عطاءً كَثيراً كافياً وَافياً.
(0/0)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَـانِ } ؛ قرأ نافعُ وأبو عمرٍو وابنُ كثير : (رَبُّ السَّمَوَاتِ) برفع الباءِ ، و(الرَّحْمَنُ) بالرفعِ أيضاً على معنى : هو ربُّ السَّموات والأرض وما بينَهما وهو الرحمنُ ، وإن شئتَ قُلتَ : (رَبُّ) مبتدأ و(الرَّحْمَنُ) خبرهُ.
وقرأ ابنُ عامر ويعقوب كلاهُما بالخفضِ على البدلِ من (رَبكَ). وقرأ حمزة والكسائي وخلف (رَبِّ) بالخفض ، و(الرَّحْمَنُ) رفعاً ، قال أبو عُبيدة : ((وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ أعْدَلُهَا عِنْدِي ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : { رَّبِّ } قَرِيبٌ مِنَ (رَبِّكَ) فَيَكُونُ نَعْتاً لَهُ. وَارْتَفَعَ (الرَّحْمَنُ) لِبُعْدِهِ عَنْهُ ، فَيَكُونُ مُبْتَدَأ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } ؛ قال مقاتلُ : ((لاَ تَقْدِرُ الْخَلْقُ أنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إلاَّ بإذْنِهِ)). وقال الكلبيُّ : ((مَعْنَاهُ : لاَ يَشْفَعُونَ إلاَّ بإذْنِهِ)). وَقِيْلَ : لا يتجرَّأُ أحدٌ أنْ يتكلَّمَ في عَرصَاتِ القيامةِ إلاَّ بإذنهِ ، ثُم وصفَ ذلك اليومَ فقال تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً } ؛ قِيْلَ : معناهُ : في يومٍ يقومُ الرُّوح.
واختلَفُوا في الرُّوح ، قال الشعبيُّ والضحاك : ((هُوَ جِبْرِيلُ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ الرُّوحَ الأَمِينَ)). وقال ابنُ عبَّاس : ((هُوَ مَلَكٌ مِنْ أعْظَمِ الْمَلاَئِكَةِ خَلْقاً)). وقال ابنُ مسعودٍ : ((هُوَ مَلَكٌ عَظِيمٌ أعْظَمُ مِنَ السَّمَوَاتِ وَمِنَ الْجِبَالِ ، وَأعْظَمُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، وَهُوَ يُسَبحُ فِي السَّمَاءِ الرَّابعَةِ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَي عَشَرَ ألْفَ تَسْبيحَةٍ ، يَخْلُقُ اللهُ مِنْ كُلِّ تَسْبيحَةٍ مَلَكاً)).
وقال مجاهدُ وقتادة : ((الرُّوحُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدَمَ وَلَيْسُوا مِنْهُمْ ، يَقُومُونَ صَفّاً ، وَالْمَلاَئِكَةُ صَفّاً ، هَؤُلاَءِ جُنْدٌ ، وَهُمْ جُنْدٌ)). وعن ابنِ عبَّاس : ((أنَّهُ مَلَكٌ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ فِي الْمَلاَئِكَةِ أعْظَمَ مِنْهُ)) ، فَإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ وَحْدَهُ صَفّاً ، وَقَامَتِ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ صَفّاً ، فَيَكُونُ عِظَمُ خَلْقِهِ مِثْلَ صُفُوفِهِمْ. وَقِيْلَ : هم خلقٌ غيرُ الإنسِ والجنِّ يرَون الملائكةَ ، والملائكةُ لا يرونَهم ، كما أنَّ الملائكةَ يرَونَنا ونحنُ لا نرَاهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ } ؛ معناهُ : الخلقُ كلُّهم المؤمنون لا يتكلَّمون إلاَّ مَن أذِنَ اللهُ له الكلامَ ، ولا يأذنُ إلاَّ لِمَن إذا قالَ : { وَقَالَ صَوَاباً }. وَقِيْلَ : معناهُ : إلاَّ من أذِنَ له الرحمنُ وَقَالَ فِي الدُّنيا قَولاً صَوَاباً عَدلاً ، وهو كلمةُ التوحيدِ ؛ يعني : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.
(0/0)
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ } ؛ أي ذلك اليومُ وُصِفَ هو الحقُّ ، { فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً } ؛ أي رَجْعاً حَسناً ؛ أي مَن شاءَ رجَعَ إلى اللهِ بطاعته.
ثم خوَّف الكفارَ فقال تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } ؛ أي خوَّفناكم من عذابٍ قريب كائن ، يعني عذابَ الآخرةِ ، وكلُّ ما هو آتٍ قريبٌ ، والخطابُ لأهلِ مكَّة. ثم بيَّن متى يكون ذلكَ العذابُ ، فقالَ تعالى : { يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي يومَ يرَى الرجلُ فيه جزاءَ عملهِ في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ ، وخَصَّ اليدَين ؛ لأنَّ أكثرَ العملِ يكون بهما.
وأمَّا الكافرُ فيقول : { وَيَقُولُ الْكَافِرُ يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً } ؛ أي لَيتَني لم أُبعَثْ ، ولَيتَنِي بقيتُ تُراباً بعدَ الموتِ ، وقال مقاتلُ : ((إنَّ اللهَ يَجْمَعُ الدَّوَابَّ وَالطُّيُورَ وَالْوُحُوشَ يَوْماً ، وَيَقْضِي بَيْنَ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ، ثُمَّ يَقْضِي لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ، فَإذا فَرَغَ مِنْ ذلِكَ ، قَالَ : مَنْ رَبُّكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أنَا خَلَقْتُكُمْ وَسَخَّرْتُكُمْ لِبَنِي آدَمَ ، وَكُنْتُمْ لِي مُطِيعِينَ أيَّامَ حَيَاتِكُمْ ، فَارْجِعُواْ لِلَّذِي خَلَقْتُكُمْ مِنْهُ. فَيَصِيرُونَ تُرَاباً ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُ الْكَافِرُ : { يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً }.)). قال أبو هُريرة : ((فَيَقُولُ التُّرَابُ لِلْكَافِرِ : لاَ حُبّاً وَلاَ كَرَامَةَ لَكَ أنْ تَكُونَ مِثْلِي)).
(0/0)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
{ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً } ؛ أقسَمَ اللهُ بالملائكةِ إعْظَاماً لَهم ، وللهِ أنْ يُقسِِمَ بغيرهِ ، وليس للعبادِ أنْ يُقسِمُوا إلاَّ به. ويجوزُ أن يكونَ القسَمُ ها هُنا برب الملائكةِ ، كأنَّهُ قالَ : ورَب النازعاتِ. والنَّازعَاتُ : الملائكةُ الذين ينْزِعون أرواحَ الكفَّار بالشَّدة من أجسادِهم ، من تحتِ كلِّ شعرةٍ ، ومن تحت الأظفَار وأُصولِ القدَمين ، ثم يردونَها في جسدِها حتى إذا كادت تخرجُ ردُّوها في بدنهِ.
قال مقاتلُ : ((يَعْنِي مَلَكَ الْمَوْتِ وَأعْوَانَهُ)). قال سعيدُ بن جبير : ((يَنْزِعُونَ أرْوَاحَهُمْ فَيُفَرِّقُونَهَا ثُمَّ يُقذِفُونَ بهَا فِي النَّار)). وقال السديُّ : ((هِيَ النَّفْسُ الَّتِي تَغْرَقُ فِي الصُّدُور)). وَقِيْلَ : يرَى الكافرُ نفسه وقتَ النَّزع كأنَّها تغرقُ. وَقِيْلَ : معناهُ : تنْزِعُ الملائكةُ أرواحَ الكفار عن أجسادِهم كما يَغرَقُ النَّازعُ في القوسِ فيبلغُ بها غايةَ الْمَدِّ ، والْمَغْرِقُ اسمُ مصدرٍ أُقيم مقامَ الإغراقِ.
(0/0)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } ؛ هم الملائكةُ يَنشِطُونَ روحَ الكافرِ من قدَميه إلى حَلقهِ نَشْطاً كما ينشط الصوفُ من سُفُودِ الحديدِ. قِيْلَ إنَّهم ينشِطُون أرواحَ الكفَّار نَشْطاً عَظيماً ويجذِبونَها جَذباً شَديداً بكَرَبٍ ومشقَّةٍ وغَمٍّ ، كنشط السُّفود الكثيرِ الشَّعر من الصوف المتلبد ، فيشتدُّ عليهم خروجُ أرواحِهم ، يقالُ : نَشَطَْتُ يدَ البعيرِ إذا نَطَقْتُهُ بالحبلِ ، وأنشَطتهُ إذا حلَلتُهُ.
(0/0)
وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً } ؛ هم الملائكةُ الموكَّلون بقبضِ أرواح المؤمنين ، يُسلونَها سَلاًّ رَفيقاً ، ثم يدَعونَها تستريحُ رُويداً كالسَّائحِ بالشيءِ في الماءِ يرفِقُ به ، وقال مجاهدُ : ((هُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَنْزِلُونَ مِنَ السَّمَاءِ مُسْرِعِينَ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ السَّابحِ لِسُرعَتِهِ)). وقال الكلبيُّ : ((يَقْبضُونَ أرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ كَالَّذِي يَسِبَحُ فِي الْمَاءِ ، فَأَحْيَاناً يَنْغَمِسُ وَأحْيَاناً يَرْتَفِعُ ، يَسِلُّونَهَا سَلاًّ رَفِيقاً)). وقال قتادةُ : ((هِيَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء : 33]). وقال عطاءُ : ((هِيَ السُّفُنُ)).
(0/0)
فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً } ؛ هم الملائكةُ سَبقتْ بنِي آدمَ بالخيرِ والعمل الصالحِ والإيمانِ والتَّصديقِ. وَقِيْلَ : يستَبقُون بأرواحِ المؤمنين إلى الجنَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } ؛ يعني جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملَكَ الموتِ ، يدبرون أمرَ اللهِ في أهلِ الأرض ، فجبريلُ للوَحيِ والتَّنْزيلِ ، وميكائيلُ للقَطْرِ والنبات ، وإسرافيلُ للصُّور ، وملَكُ الموتِ لقبضِ الأرواح ، وجوابُ هذه الأقسامِ محذوفٌ ، تقديرهُ : لَتُبْعَثُّنَّ للجزاءِ والحساب ولَتُحَاسَبُنَّ.
(0/0)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ } ؛ يعني النفخةَ الأُولى التي يَمُوتُ فيها جميعُ الخلقِ ، والرَّجفَةُ صيحةٌ عظيمةٌ فيه تردُّد واضطرابٌ ، { تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ } ؛ يعني النفخةَ الثانيةَ ردَفَتِ النفخةَ الأُولى ، وبينَهما أربعون سَنة ، وسُميت الثانيةُ رَادِفَةً تَشبهاً بالرَّادِفِ من الرَّاكب.
(0/0)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } ؛ أي مُضطربة قَلِقَةٌ لِمَا عايَنت من أهوالِ يوم القيامة. قِيْلَ : أرادَ بها قلوبَ الكفَّار. والوَجِيفُ : اضطرابُ القلب ، وقال مجاهَدُ : ((مَعْنَى وَاجِفَةٌ : وَجِلَةٌ)) ، وقال السديُّ : ((زَائِلَةٌ عَنْ أمَاكِنِهَا)). وَقِِيْلَ : غيرُ هادئةٍ ولا ساكنة ، وقال أبو عمرو : ((مُرْتَكِضَةٌ)).
(0/0)
أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } ؛ أي أبصارُ أصحابها ذليلةٌ خاضِعة ، وذلك أنَّ المضطربَ الخائفَ لا بدَّ أن يكون نظرهُ نظرَ الذليلِ الخاضعِ ؛ لترقُّب ما ينْزِلُ من الأمرِ. ويقالُ : ذليلةٌ عند معايَنة النار ، كقوله{ خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ }[الشورى : 45].
قال عطاءُ : ((يُرِيدُ أبْصَارَ مَنْ مَاتَ كَافِراً)) يدلُّ عليه أنه ذكرَ مُنكرِي البعثِ ، فقالَ : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ } ؛ معناهُ : تقولُ الكفَّار وهم في الدُّنيا : أنُرَدُّ إلى أوَّلِ حالِنا وابتداءِ أمرنا فنصيرُ أحياءً ؟ كما كنَّا ، يقال : رجعَ فلانٌ في حافرتهِ ، أي رجع من حيث جاءَ. والحافرة عند العرب اسمٌ لأول الشيءِ ، وابتداءُ الأمر. والمعنى أنهم كانوا يستبعِدُون البعثَ ، ويقولون : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } ؛ أنُرَدُّ إلى الحياةِ الأُولى ، وتُعَادُ فينا الروحُ بعد أن نصيرَ عِظَاماً نَخِرَةً ؛ أي بَالِيَةً, ومنه قولُهم : رجعَ فلانٌ في حَافِرَتِهِ ؛ إذا رجعَ في الطريقِ الذي جاءَ فيه.
وقال بعضُهم : الْحَافِرَةُ الأرضُ التي تُحفَرُ فيها قبورُهم ، والحافرةُ بمعنى المحفورةِ كما في{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ }[الحاقة : 21 ، القارعة : 7] وما وافقَ معناهُ : ومعناه : أئِنَّا لمَردُودُونَ إلى الأرضِ فنُبعَثُ خَلقاً جديداً ، ونَمشي على أقدامِنا ، وقال ابنُ زيد : ((الْحَافِرَةُ : النَّارُ)) ، وَقِيْلَ : معناهُ : أنُرَدُّ أحياءً في قُبورنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } قرأ أهلُ الكوفة (نَاخِرَةً) بالألفِ ، وهي قراءةُ عمرَ رضي الله عنه وابنِ عبَّاس وابنِ مسعود وابنِ الزُّبير. وقرأ الباقون (نَخِرَةً) بغيرِ ألفٍ ، والنَّخِرَةُ : البَالِيَةُ ، والنَّاخِرَةُ : الْمُجَوَّفَةُ ، يقالُ : نَخَرَ العظمُ يَنْخِرُ فهو نَاخِرٌ وَنَخِراً إذا بَلِيَ وتفَتَّتَ ، وقال الأخفشُ : ((هُمَا لُغَتَانِ ؛ أيُّهُمَا قَرَأتَ فَحَسَنٌ)). والمعنى : أنَّهم أنكَرُوا البعثَ ، فقالوا : أنُرَدُّ أحياءً إذا مِتنا وبَلِيَتْ عِظامُنا.
(0/0)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } ؛ كانوا يقُولون على جهةِ التَّكذيب : إنْ كان الأمرُ على ما يقولُ مُحَمَّد ، فتلكَ الرجعةُ خاسرةٌ. والْخَاسِرَةُ : ذاتُ الْخُسْرَانِ ؛ أي إنْ رُدِدْنَا بعدَ الموتِ لنَخْسَرَنَّ بما يُصيبنا بعدَ الموتِ.
ثُم أعلمَ اللهُ سهولةَ البعثِ عليه فقالَ تعالى رَدّاً عليهم : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ؛ يعني النفخةَ الأخيرةَ صيحةٌ واحدة يسمعونَها وهم في بُطون الأرضِ أمواتٌ ، { فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } ؛ أي فإذا هم أحياءٌ على وجهِ الأرض. والسَّاهِرَةُ : وجهُ الأرضِ وظَهرُها ، فإنَّما هي نفخةٌ واحدة وصيحةٌ واحدة هائلة { فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ } أي فإذا هُم على ظهرِ الأرضِ بعد أنْ كانوا في جَوفِها. والعربُ تسمِّي وجهَ الأرضِ ساهرةً ؛ لأن فيها نومَ الْجُفُونِ وسَهَرَهم. ويقال : إنَّ المرادَ بالسَّاهرة أرضُ بيتِ المقدس. ويقال : أرادَ به أرضَ الآخرةِ. وَقِيْلَ : الساهرةُ : جهنَّم.
(0/0)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؛ أي هلَ جاءَك - يا مُحَمَّدُ - حديثُ موسى ، { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } ؛ أي هل بلغَكَ قصَّةُ موسى وخبرهُ ، وهذا استفهامٌ بمعنى التقريرِ ، كما يقولُ الرَّجلُ لغيرهِ : هل بلغَكَ حديثُ فُلان ، وهو يعلمُ أنَّهُ بلَغَهُ ذلك ، ولكنْ يريدُ بهذا الكلامِ التحقيقَ.
ويجوزُ أن يُراد بهذا الابتداءِ الإخبارُ ، كأنه قالَ : لَمْ يكن عندَكَ - يَا مُحَمَّدُ - ولا عندَ قومِكَ ما أعلمَكَ اللهُ به من حديثِ موسى إذ أسمعَهُ اللهُ نداءَهُ ، { بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } ؛ أي بالوادي الْمُطَهَّرِ الذي كلَّمَهُ اللهُ عليه ، واسمُ ذلك الوادي (طُوًى). وهذا يقرأ بالتنوينِ وغيرهِ ، فمَن نَوَّنَهُ وصرَفه ؛ فلأنَّهُ مذكَّرٌ سُمِّي به مذكرٌ ، ومَن لم يُصرفْهُ جعلَ له اسمَ البُقعَةِ التي هي مشتملةٌ على ذلك الواديِ.
(0/0)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } ؛ أي ناداهُ ربُّه فقالَ له : يا مُوسَى اذهَبْ إلى فرعونَ إنه عَلاَ وتكَبَّر وكفرَ وتجاوزَ عن الحدِّ في المعصيةِ ، { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى } ؛ أي تتطَهَّر عن الشِّركِ وتشهدَ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ ، وتعملَ عَمَلَ الأزكياءِ ، وَ ؛ هل لكَ رغبةٌ في أنْ ، { وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ } ؛ أي إلى معرفةِ ربكَ وعبادتهِ وتوحيده ومعرفةِ صفاته ، { فَتَخْشَى } ؛ عقابَهُ إنْ لم تُطِعْهُ.
ثُمَّ بيَّن اللهُ لموسى أن يمضي ، { فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى } ؛ حتى أراه الآية الكبرى ، يعني العصَا إذ كانت أكبرَ آيةٍ ، وقال بعضُهم : اليدُ البيضاءُ التي أخرجَها ، لَهَا شُعاعٌ كالشَّمسِ ، { فَكَذَّبَ وَعَصَى } ؛ أي فكذبَ فرعونُ بأنَّها من اللهِ ، وعصَى موسى فلم يُطِعْهُ ، { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى } ؛ أي أدبرَ عن الإيمانِ ، وأعرضَ عنه بعملِ الفساد في الأرضِ ، ويقال : أدبرَ : أسرعَ هارباً من الجنَّة.
(0/0)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَحَشَرَ } ؛ أي فجمعَ قومَهُ وجُنودَهُ ، { فَنَادَى } ؛ لَمَّا اجتمَعُوا ، { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } ؛ أي لا ربَّ فَوقِي ، وَقِيْلَ : إنه جمعَ قومَهُ بالشَّوطِ يستنصرُ بهم على إبطالِ أمر مُوسَى ودفعِ ضرَر الحيَّة ، فنادَى فيهم : أعِيدُوا أصنامَكم التي كُنتم تعبدونَها ، وأنا ربُّ أصنامِكم الأعلَى.
(0/0)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُوْلَى } ؛ معناهُ : لَمَّا بلغَ في استكثارهِ وكُفرهِ إلى حدٍّ لا ينفعُ فيه الوعظُ ، حينئذٍ أخذهُ اللهُ بعقوبةٍ صارَ بها نَكالاً في الدُّنيا والآخرة ، و{ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً }[غافر : 46] ولو تفكَّرَ هؤلاءِ الجهَّالُ لعَلموا أنه لو كان إلَهاً لم يحتَجْ إليهم لدفعِ ضرَر الحيَّة التي يخافُها.
وَقِيْلَ : معنى { فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ } يعني كلمَتي فرعون حين قالَ{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص : 38] وقَوله { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى } وكان بينَهما أربَعون سَنةً. قال مجاهدُ : ((هَذا مَعْنَى الآخِرَةِ وَالأُوْلَى ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الأَخِيرَةُ ، وَقَوْلُهُ تعالى{ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي }[القصص : 38] هِيَ الْكَلِمَةُ الأُوْلَى)) وهذا قولُ أكثرِ المفسِّرين.
وقال الحسنُ : ((مَعْنَى : نَكَالَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، الأُوْلَى : غَرَقُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَعَذَابَهُ فِي الآخِرَةِ بالنَّار)). وعن ابنِ عبَّاس قالَ : ((قَالَ مُوسَى : يَا رَب أمْهَلْتَ فِرْعَوْنَ أرْبَعَمِائَةَ سَنَةٍ وَهُوَ يَقُولُ : أنَا رَبَّكُمُ الأَعْلَى ، وَيُكَذِّبُ بآيَاتِكَ وَرُسُلِكَ ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ أنَّهُ كَانَ حَسَنَ الْخُلُقِ سَهْلَ الْحِجَاب ، فَأَحْبَبْتُ أنْ أكَافِئَهُ)). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى } ؛ أي إن في الذي فعلَ فرعونُ من العقوبةِ حين كذبَ عِظَةً لِمَن يخشَى عذابَ الله. والعبرةُ : هي الدَّلالةُ المؤدِّية إلى الحقِّ.
ثم خاطبَ مُنكرِي البعثِ فقالَ تعالى : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ } ؛ الخطابُ لأهلِ مكَّة ، يقولُ أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقاً ، معناهُ : أخَلقُكم بعدَ الموتِ أشدُّ عندَكم أمِ السَّماءُ في تقديرِكم ؟ وهُما في قُدرةِ الله واحدٌ ، وهذا كقولهِ{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }[غافر : 57]. وقولهُ تعالى : { بَنَاهَا } ؛ أي بنَاها مع عظَمِها ، فكيف لا يقدرُ على إعادتِكُم مع صِغَرِ أجسامِكم؟!
(0/0)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
وقولهُ تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } ؛ أي رفعَ سَقْفَ السَّماء فوقَ كلِّ شيء بلا عَمَدٍ تحتَها ، ولا عُلاَّقةٍ فوقَها ، فسوَّاها من الفُطور والعُيوب. وَقِيْلَ : فسَوَّاها بلا سُقوفٍ ولا فُطورٍ.
(0/0)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } ؛ أي أظْلَمَ ليلَها وأظهَرَ نَهارها : والغَطْشُ : الظُّلْمَةُ وأصنافُ اللَّيل والنهار إلى السماءِ ؛ لأن الليلَ إنما يكون بغُروب الشمسِ ، والشمسُ منسوبةٌ إلى السَّماء ، فإذا غرَبت الشمسُ كان مبدأ الظَّلام من جانب السَّماء ، وذلك الضياءُ يظهر قبلَ طُلوعِ الشمسِ من جانب السَّماء.
(0/0)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ؛ أي سطَّحَها بعد خَلقِ السَّماء ، مأخوذٌ من الدَّحْوِ وهو البَسْطُ ، وذلك أنَّ الله خلقَ الأرضَ قبلَ السَّماء مجموعةً ، ثم خلقَ السَّماء وشَمسَها وقمرَها وليلَها ونَهارها ، ثم دَحَا الأرضَ بعد ذلك " فهو " أدَلُّ على القدرةِ.
(0/0)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } ؛ أرادَ بالماءِ ماءَ الآبار والعيون التي تخرجُ من الأرضِ ، وبالْمَرْعَى النباتَ مما يأكلُ الناس والأنعام وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } ؛ أي أثبتَها وثقَّلَ بها الأرضَ ، فَعَلَ ذلك ، { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } ؛ أي منفعةً لكم ولدوابكم لا لمنفعةِ نفسه ، فإنه منَزَّهٌ عن المضَارِّ والمنافعِ.
(0/0)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } ؛ يعني النفخةَ الثانية التي فيها البعثُ ، والطامَّةُ : الحادثةُ التي تَطُمُّ على ما سِوَاها ؛ أي تَعلُو فوقَهُ ، والقيامةُ تَطُمُّ على كلِّ شيءٍ فسُميت الطامَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى } ؛ أي ما عَمِلَ في الدُّنيا من خيرٍٍ أو شرٍّ ، ويقرأُ كتابَهُ ، { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى } ؛ أي أُظْهِرَتْ لجميعِ الخلائقِ حتى يرَاها أهلُ الموقفِ كلُّهم ، والطامَّة عندَ العرب الدَّاهيَةُ التي لا تُستطَاعُ. وَقِيْلَ : إن الطامَّة الكُبرى حين يُسَاقُ أهلُ النار إلى النار ، وأهلُ الجنةِ إلى الجنَّة.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)
قَوْلُُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى } ؛ معناه : فأمَّا من جاوزَ الحدَّ في معصيةِ الله ، واختارَ ما في الدُّنيا من زهرتِها وزينتِها على الإيمانِ بالله وطاعتهِ ، فإن الجحيمَ هي المأوَى ؛ أي مأواهُ ، { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } ؛ للحساب واجتنبَ المعاصي ، { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ؛ أي المحارمِ التي يشتَهيها ، قال مقاتلُ : ((هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بالْمَعْصِيَةِ ، فَيَذْكُرُ مَقَامَهُ لِلْحِسَاب فَيَتْرُكُهَا)) { فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }.
(0/0)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ؛ أي متى قيامُها ووقوعها ، يعني يومَ القيامةِ يسألونَهُ عن تلك لتكذيبهم بها ، وقولهُ تعالى : { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } ؛ أي في أيِّ شيءٍ أنتَ من ذكرِ القيامة ووقتِها ، ولم يُعرِّفْكَ اللهُ ذلك ، والمعنى : لستَ في شيءٍ من علمِها ؛ أي لا تعلمُها ، وقولهُ تعالى : { إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } ؛ معناه : إنما أنتَ مُخَوِّفُ مَن يخافُ قيامَها ؛ أي إنما ينتفعُ بإنذاركَ مَن يخافُها.
(0/0)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا } ؛ أي كأنَّهم يومَ يرَون القيامةَ ، { لَمْ يَلْبَثُواْ } ؛ في الدُّنيا ، { إِلاَّ } ؛ قدرَ ، { عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } ؛ من العَشِيَّاتِ وقدرَ ضُحى العشيَّة ، وذلك أنَّهم إذا استقبَلهم أمرُ الآخرةِ ذهبَ عنهم الكفرُ في مقدار مُكثِهم في الدُّنيا ، ومقدار مُكثِهم في قبورهم لِعِظمِ ما استقبَلهم من الشدائدِ ، والمعنى : إن الذي أنكروهُ سيَرَونَهُ حتى كأَنَّهم لم يلبَثُوا في الدُّنيا إلاَّ ساعةً مضَتْ كأَنَّها لم تكن. والضُّحى وقتُ ارتفاعِ النهار ، والعَشِيُّ : ما بعدَ الزوالِ.
(0/0)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
{ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَآءَهُ الأَعْمَى } ؛ وذلكَ : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ عِنْدَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ ، وَأبُو جَهْلٍ ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أشْرَافِ قُرَيْشٍ ، وَقَدْ أقْبَلَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِيْمَانِ ، وَيَقْرَأ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ رَجَاءَ أنْ يُؤْمِنُوا فَيُؤْمِنُ بإيْمَانِهِمْ بَشَرٌ كَثِيرٌ.
فَجَاءَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ الأَعْمَى الْمَذْكُورُ ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ ، وَيَقُولُ : أقْرِئْنِي يَا رَسُولَ اللهِ ، وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ ، وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ شُغْلَ قَلْب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يَدْري أنَّهُ مَشْغُولٌ بالإِقْبَالِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَطَبَ وَجْهَهُ وَعَبَسَ ، وَأقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ. فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآياتِ ".
والمعنى : عبسَ مُحَمَّدٌ ، وأعرضَ بوجههِ لأنْ جاءَهُ الأعمَى ، و(أنْ) في موضعِ نصبٍ ؛ لأنه مفعولٌ له. والتَّولِّي عن الشيءِ : هو الإعراضُ عنه ، فإنه صرفَ وجهَهُ عن أنْ يَليهِ.
(0/0)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى } ؛ معناهُ : ما يُعلِمُكَ يا مُحَمَّدُ لعلَّ ابنَ أُم مكتومٍ يزَّكَّى بالعملِ الصالحِ بجوابكَ عن سُؤالِه ، { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى } ؛ ويتَّعِظُ فتنفعَهُ ذِكرَاكَ. وَقِيْلَ : معنى (يَزَّكَّى) : يتطهَّرُ من الذنوب بالعملِ الصالح ، أو يذكَّرُ فيتَّعِظَ بما يعلمهُ من مواعظِ القرآن. قرأ عاصم (فَتَنْفَعَهُ) بالنصب على جواب (لَعَلَّ) بالفاءِ ، وقرأ الباقون بالرفعِ عَطفاً على (يَزَّكَّى أوْ يَذكَّرُ).
(0/0)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى } ؛ يعني أشرافَ قُريش ، قال بعضُهم : معناهُ : أما مَنِ استغنَى بمالهِ ، وقيل : استغنَى عنْ وعظِكَ ، أي جعل نفسه غنياً عنك ، وقال ابن عباس : (مَعْنَاهُ : اسْتَغْنَى عنِ اللهِ وعنِ الإيمانِ ، { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى } لِوَعْظِهِ ؛ أي تُعرِضُ له وتُقبلُ عليه بوجهِكَ وتَميلُ اليهِ وتُصغِي إلى كلامهِ. يقالُ : فلانٌ تصَدَّى لفُلانٍ ؛ أي يتعرَّضُ له ليَراهُ. قرأ نافعُ وابن كثير وأبو جعفرٍ (تَصَّدَّى) بالتشديدِ على معنى تتصَدَّى ، وقرأ الباقون بالتخفيفِ على الحذفِ.
(0/0)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى } ؛ أي وما عليكَ ألاَّ يُؤمِنَ ولا يهتدِيَ ، فإنه ليس عليكَ إلاَّ البلاغُ ، { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى } ؛ لعملِ الخيرِ وهو ابنُ أُمِّ مكتومٍ جاءَكَ يُسرِعُ في المشيِ إليكَ يلتمِسُ منك الدِّينَ ، { وَهُوَ يَخْشَى } ؛ عذابَ اللهِ ، وَقِيْلَ : يخشَى العثورَ في مِشيَته ، { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى } ؛ أي تتشاغَلُ فتُعرِضُ بوجهِكَ عنه ، يقال : ألْهَيْتَ على الشَّيء إلْهَاءً إذا تشاغلتَ عنه ، وليس من لَهَا يَلهُو ، ومِن هذا قولُهم : اذا استأثرَ اللهُ بشيء فَالْهَ عنهُ ؛ أي اتركْهُ وأعرِضْ عنه.
(0/0)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ } ؛ أي حاشَا أن تَعودَ إلى مثلِ ذلك ، لا تعُدْ إليه ولا تفعَلْ مثَلهُ ، والمعنى : أنَّ (كَلاَّ) ها هنا كلمةُ رَدْعٍ وزَجرٍ ، أو كلاَّ لا تفعَلْ بعدَها مِثْلَها. وقوله تعالى : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } ؛ أي إنَّ هذه الآياتِ التي أنزلها اللهُ عليكَ موعظةٌ يتَّعِظُّ بها عبادُ الله تعالى ، { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } ؛ أي مَن شاءَ ألْهَمَهُ وفهَّمَهُ القرآنَ حتى يذكُرَهُ ويتَّعِظَ به.
" وهذا كلُّه تأْديبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتبين أنَّ المحافظةَ على الإقبالِ على المؤمنين أولى من الحرصِ على منَ هو كافرٌ رجاءَ أن يترُكَ. فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ أكْرَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَألْطَفَهُ وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ مَرَّتَيْنِ فِي غَزْوَتَيْنِ غَزَاهُمَا لِيُصَلِّيَ بالنَّاسِ ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذا رَآهُ يَقُولُ : " مَرْحَباً بمَنْ عَاتَبَنِي فِيْهِ رَبي ، هَلْ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ ؟ " ".
ولا يمتنعُ أن يكون إعراضُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن ابنِ أُم مكتوم لأنه كان يريدُ أن يعلِّمَ الناسَ طريقةَ حفظِ الأدب في تعلُّمِ العلمِ. وقولهُ تعالى { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي فمَن شاءَ ذكرَ ما أُنزل من الآياتِ ، ويقالُ : من شاءَ اللهُ له أنْ يتَّعِظَ اتَّعَظَ.
ثم أخبرَ اللهُ تعالى بجَلالَةِ القرآنِ في اللَّوحِ المحفوظِ عندَهُ فقالَ تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } ؛ أي في كُتُبٍ مُعَظَّمَةٍ بما تضمَّنت من الحكمةِ ، { مَّرْفُوعَةٍ } ؛ القَدْر في السَّموات ، { مُّطَهَّرَةٍ } ؛ أي منَزَّهة من الدَّنَسِ ومن التناقُضِ والاختلافِ كما قال تعالى في آيةٍ أُخرى{ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ }[فصلت : 42]. والصُّحُفُ : جمعُ الصَّحيفةِ : وَقِيْلَ : يعني بقولهِ { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } اللوحَ المحفوظَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّرْفُوعَةٍ } يعني في السَّماء السابعةِ وقولهُ تعالى : { مُّطَهَّرَةٍ } أي يَمَسُّها إلاّ المطهرون ، وهم الملائكة.
(0/0)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } ؛ يعني الكَتَبَةَ من الملائكةِ ، واحِدُهم سَافِرٌ مثلُ كاتبٍ وكَتَبَهٍ ، وقال الفرَّاءُ : ((السَّفَرَةُ هَا هُنَا الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ هُمْ رُسُلُ اللهِ بالْوَحْيِ إلَى أنْبيَائِهِ ، وَمِنْهُ السَّفَارَةُ وَهُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الْقَوْمِ)). ثم أثنَى اللهُ عليهم فقالَ تعالى : { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } ؛ أي كرامٍ على ربهم مُطيعين له ، والكريمُ الذي مِن شأنه أنْ يأتِيَ بالخيرِ ، والبَرَرَةُ : جمعُ بَارٍّ ، وهم الفاعِلين للبرِّ والمطيعين للهِ.
(0/0)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } ؛ أي لُعِنَ الكافرُ ما أكفَرَهُ باللهِ وبنعمتهِ مع كَثرةِ إحسانهِ إليه ، قال مقاتلُ : ((نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ أبي لَهَبٍ ، والمرادُ به كلَّ كافرٍ)). قولهُ { مَآ أَكْفَرَهُ } تعجيبٌ بمعنى التوبيخِ ، يقالُ : أيُّ شيءٍ حَملَهُ على الكفرِ مع وضُوحِ الدلائلِ على وحدانيَّة اللهِ ، فتعجَّبُوا من كُفرهِ. وأما اللهُ تعالى فلا يجوزُ أن يتعجَّبَ من شيءٍ لكونه عالِماً لم يزَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } ؛ معنى الآيةِ : ما أشدَّ كُفرَهُ باللهِ ، اعجَبُوا أنتم من كُفرهِ.
ثم بيَّن مِن أمرهِ ما كان ينبغي مع أن يُعلمَ أنَّ اللهَ خالقُهُ ، فقال تعالى : { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } ، لفظُ استفهامٍ ، ومعناهُ : التقريرُ : ثم فسَّرَ ذلك فقال تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } أي من مَاءٍ مَهين حقيرٍ خلَقهُ فصوَّرَهُ في رحمِ أُمِّه على الاستواءِ باليدَين والرِّجلَين وسائرِ الأعضاءِ ، { فَقَدَّرَهُ } ؛ على ما يشاءُ من خلقهِ طَويلاً أو قصيراً ؛ ذميماً أو حسَناً ؛ ذكراً أو أُنثى ؛ شقيّاً أو سعيداً ، وغيرِ ذلك من الأوصافِ.
(0/0)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } ؛ قال السديُّ ومقاتل : ((أخْرَجَهُ مِنَ الرَّحِمِ وَهَدَاهُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ)). قال مجاهدُ : ((ثُمَّ يَسَّرَ لَهُ سَبيلَ الدِّينِ ، وَمَكَّنَهُ مِنْ سُلُوكِهِ)).
(0/0)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } ؛ أي أماتَهُ عند انقضاءِ أجَلهِ ، وجعلَ له قَبراً يُوارَى فيه ، أمرَ عبادَهُ أن يُوارُوه ، ولم يجعلْهُ مِمَّن يُلقَى على الأرضِ كما تُلقَى البهائمُ ، ثم أكرَمَهُ اللهُ بذلك ، يقالُ : أقبَرْتُ فُلاناً إذا جعلتَ له قَبراً يُدفَنُ فيه ، وقَبَرتَهُ إذا دفنتَهُ ، والقابرُ الدافنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } ؛ أي إذا شاءَ بعثَهُ ، وأحياهُ بعدَ الموتِ.
(0/0)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } ؛ أي حَقّاً لم يقضِ ما أمرَهُ اللهُ به ، ولَمْ يُؤَدِّ حقَّهُ مع كمالِ نعمةِ الله عليه. ثم ذكرَ رزقَهُ ليعتَبر ، فقال تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } ؛ أي ليتأمَّلِ الكافرُ في طعامهِ كيف خلقَهُ الله ، وقدرَّه سَبباً لحياتهِ ، { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً } ؛ قرأ أهلُ الكوفة ويعقوب (أنَّا) بالفتحِ على نيَّة تكريرِ الخافض ، تقديرهُ : ولينظرْ إلى أنَّا صَببنا المطرَ من السَّماء صَبّاً ، وقرأ الباقون بالكسرِ على الابتداء ، والمطَرُ ينْزِلُ من السَّماء إلى السَّحاب صَبّاً ، ثم ينْزلُ من السَّحاب إلى الأرضِ قطرةً قطرةً ، ليكونَ أقربَ إلى النفعِ وأبعدَ من الضَّرر.
(0/0)
ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً } ؛ أي صدَّعنا الأرضَ بالنَّباتِ ، { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } ؛ يعني الحبوبَ كلَّها يُتغذى بها ، { وَعِنَباً } ؛ أي كَرْماً ، { وَقَضْباً } ؛ للدواب ، { وَزَيْتُوناً } ؛ هو الذي يُعصَرُ منه الزيتُ ، وقال الحسنُ : ((الْقَضْبُ : الْعَلَفُ)) ، { وَنَخْلاً } ؛ جمعُ نَخلَةٍ ، { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } ؛ الحدائقُ : جمعُ الحديقةِ ، وهو البستانُ الذي أُحْدِقَ بالحيطانِ ، والغُلْبُ : الشَّجَرُ العظامُ الغِلاَظُ ، وَقِيْلَ : الغُلْبُ الملتفَّةُ بالأشجار بعضُها في بعضٍ ، يقالُ : شجرةٌ غَلْبَاءُ إذا كانت عظيمةً غليظة ، ورجلٌ غَلْبٌ إذا كان غليظَ العُنقِ.
(0/0)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } ؛ يعني ألوانَ الفواكهِ ، والأَبُّ : هو الْمَرْعَى والكلأُ الذي لم يزرَعْهُ الناسُ مما يأكله الأنعامُ. وسُئل ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عن الأب فقال : ((أيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأيُّ أرْضٍ تُقِلُّنِي إذا قُلْتُ فِي كِتَاب اللهِ مَا لاَ أعْلَمُ)).
وعن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ عمرَ قرأ هذه الآيةَ فقال : ((عَرَفْنَا الْفَاكِهَةَ فَمَا الأَبُّ؟)) ثُمَّ قَالَ : ((هَذا لَعَمْرُو اللهِ التَّكَلُّفُ ، وَمَا عَلَيْكَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ أنْ تَدْري مَا الأَبُّ)) ثُمَّ قَالُوا : اتَّبعوا ما بُيِّنَ لكم من هذا الكتاب وما لم يُبَيَّنْ فدَعوهُ.
وقال الحسنُ : ((الأَبُّ هَوَ الْحَشِيشُ وَمَا تَأْكُلُهُ الدَّوَابُّ)). وقال قتادةُ : ((أمَّا الْفَاكِهَةُ فَلَكُمْ ، وَأمَّا الأَبُّ فَلأَنْعَامِكُمْ)). وعن ابنِ عبَّاس قال : ((هُوَ مَا أنْبَتَتِ الأَرْضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ)).
(0/0)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } ؛ أي خلقنا هذه الأشياءَ مَتاعاً لكم ولدوابكم لسدِّ خِلَّتِكُمْ وتَتمِيمِ حاجَتكم ، وعن مجاهدٍ رضي الله عنه في قولهِ تعالى{ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ }[عبس : 24] : ((يَعْنِي إلَى مَدْخَلِهِ وَمَخْرَجِهِ)).
" وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ لرجُل : " مَا طَعَامُكُمْ ؟ " قَالَ : الْحَبُّ وَاللَّبَنُ يَا رَسُولَ اللهِ ، قالَ : " ثُمَّ يَصِيرُ إلَى مَاذا ؟ " قَالَ : إلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ ، قَالَ : " فَإنَّ اللهَ ضَرَبَ مَا يَخْرُجُ مِنَ ابْنِ آدَمَ تَمْثِيلاً لِلدُّنْيَا " ".
وقال أبو قُلابة : ((مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ : يَا ابْنَ آدَمَ انْظُرْ إلَى مَا بَخِلْتَ بهِ إلَى مَا صَارَ)). وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ((أنَّ مَعْنَاهُ : فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إلَى أوَّلِ طَعَامِهِ ثُمَّ عَاقِبَتَهُ فَلْيَعْتَبرْ)).
(0/0)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ } ؛ يعني صَيْحَةَ القيامةِ تصُخُّ الأسماعَ التي تصمُّها لشَّدة الصَّيحةِ ، والصاخَّةُ من أسماءِ القيامة ، ثم بيَّن في أيِّ وقت تجيءُ فقال : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } لا يلتفتُ أحدٌ إلى أحدٍ منهم لعِظَمِ ما هم فيه ، ومخافَةَ إن سألَهُ أحدٌ منهم يحملُ عنه شيئاً من عقابهِ ويُوَاشيهِ بشيءٍ من ثوابه. وَقِيْلَ : يفرُّ منهم حَذراً من مطالبتِهم إياهُ بما بينهم من التَّبعاتِ والمظالِم. وَقِيْلَ : لعلمهِ بأنَّهم لا ينفعونَهُ.
وعن الحسنِ قال : ((أوَّلُ مَنْ يَفِرُّ مِنْ أبيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إبْرَاهِيمُ ، وَيَفِرُّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمِّهِ ، وَيَفِرُّ لُوطٌ عليه السلام مِنْ زَوْجَتِهِ ، وَنُوحٌ مِنْ إبْنِهِ كَنْعَانَ ، وَهَابيلُ مِنْ أخِيهِ قَابيلَ) وَهَذا فِي أوْلِي الثَّوَاب مِنْ أهْلِ الْعِقَاب ، وَفِي أهْلِ الْعِقَاب فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَأمَّا أهْلُ الثَّوَاب فِيمَا بَيْنَهُمْ فلَيْسُوا كَذِلكَ ، وَلَكِنْ يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ إلْحَاقَ ذُرِّيَّتِهِمْ.
(0/0)
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ؛ أي شأنٌ يَشغَلهُ عن الأقرباءِ ويصرفُه عنهم ، عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بالْعَوْرَاتِ؟! فَقَالَ : " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " ".
عن سودةَ أُمِّ المؤمنين قالت : " قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً " قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ، وَاسَوْأتَاهُ يَنْظُرُ بَعْضُنَا إلَى بَعْضٍ؟! قَالَ : " شُغِلَ النَّاسُ عَنْ ذلِكَ ، لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ " ".
(0/0)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } ؛ أي مضيئةٌ مُشرِقة حسنَة فَرِحة مُعجَبة ، مسرورةٌ بما أكرمَها اللهُ تعالى به ، وهي وجوهُ أهلِ الثواب ، { ضَاحِكَةٌ } ؛ بالسُّرور ، { مُّسْتَبْشِرَةٌ } ؛ أي فَرِحَةٌ بما تنالُ من اللهِ من الكرامةِ ، { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } ؛ أي غُبار من البلاءِ وسوادٌ وكآبَةٌ ، { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } ؛ أي يعلُوها ويغشاها كسُوفٌ وسوادٌ عند معايَنة النار ، والقَتَرَةُ : سوادٌ كالدُّخان الأسودِ. ثم بيَّن مَن أهلُ هذه الوُجوهِ ، قال تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } ؛ أي الكفَرةُ بالله الكذبة على اللهِ ، جمعُ كَاذِبٍ فَاجِرٍ.
(0/0)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
{ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ } ؛ أي لُفَّتْ كما تُلَفُّ العمامةُ ، يقال : كوَّرتُ العمامةَ على رأسِي أكُورُهَا وكَوَّرْتُهَا تَكْوِيراً إذا لفَفتُها ، وقال الكلبيُّ ومقاتل : ((كُوِّرَتْ أيْ ذهَبَ ضَوءُهَا)). وقال مجاهدُ : ((اضْمَحَلَّتْ)). وقال المفسِّرون : تُجمَعُ الشمسُ بعضُها إلى بعضٍ ، ثم تُلَفُّ فيُرمَى بها في النار ، ويقالُ : نعوذُ باللهِ من الْحَوْر بعدَ الكَوْر ؛ أي من التشتُّتِ بعدَ الأُلفَةِ ، ومِن النُّقصان بعد الزِّيادةِ.
(0/0)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ } ؛ أي تساقَطت وتناثرَت ، يقالُ : انكدرَ الطائرُ في الهواءِ إذا انقَضَّ ، قال الكلبيُّ وعطاء : ((تُمْطِرُ السَّمَاءُ يُوْمَئِذٍ نُجُوماً ، فَلاَ يَبْقَى نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ إلاَّ وَقَعَ عَلَى الأَرْضِ)) وذلك أنَّ النجومَ كالقناديلِ معلَّقةٌ بسَلاسل من نورٍ بأيدي ملائكةٍ من نور ، فإذا ماتَ الملائكةُ تساقَطت تلك السَّلاسل من أيدِيهم فتنكَدِرُ النجومُ.
(0/0)
وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ } ؛ أي تسيرُ على وجهِ الأرض كما يسيرُ السَّحاب ، فتصيرُ هَباءً مُنبَثّاً.
(0/0)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وقوله تعالى : { وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ } ؛ العِشَارُ : هي النُّوقُ الحواملُ إذا أتَتْ عليها عشرةُ أشهُرٍ وبقيَ شَهران ، فهي أحسَنُ ما يكون في الإبلِ وأعزُّها على أهلِها ، وليس يعطِلُها أهلُها إلاَّ في حالةِ الشدَّة العظيمةِ ، واحدُها عِشْراً وليس في القيمةِ عِشَارٌ ، ولكنْ هذا على وجهِ التَّمثيل حتى لو كان الرجلُ يومئذ عَشَّاراً لعطَّلها واشتغلَ بنفسهِ ، ونظيرهُ{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ }[الحج : 2] ، ومعنى (عُطِّلَتْ) أي تُرِكَتْ هَملاً بلا راعٍ لِمَا جاءَهم من أهوالِ يوم القيامةِ.
(0/0)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } ؛ الوحوشُ : جمعُ الوَحْشِ ، وهو ما يأوي إلى الفَلَوَاتِ ، وينفِرُ عن الناسِ ، وقولهُ تعالى { حُشِرَتْ } أي جُمعت حتى يَقْتَصَّ بعضُها من بعضٍ ، وقال ابنُ عبَّاس : ((حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا)).
(0/0)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } ؛ قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير مخفَّفاً ، وقرأ الباقون بالتشديد ، ومعناه واحدٌ ؛ أي وإذا البحارُ مُلِئَتْ وفُجِّرَ بعضُها في بعضٍ ، ثم صُيِّرت بَحراً واحداً. وقال بعضُهم : أُحمِيَتْ من قولهم : سَجَرْتُ التَّنورَ إذا أحميتَهُ.
والمراد بالبحار على هذا القولِ بحَارٌ في جهنَّم تُملأ من الحميمِ لتعذيب أهلِ النار. وفي الحديثِ : " أنَّ اللهَ تَعَالَى يُفْنِي مَاءَ هَذِهِ الْبحَار " كما رُوي أن البحارَ كلها تسيلُ حتى تبلغَ إلى الثور الذي على قَرنه الأرضون ، فإذا بلغَته فتحَ فاهُ فابتلعَها كلَّها ، فإذا وقعت المياهُ كلها في جوفهِ يَبست ، فلا يُرى منها قطرةٌ بعدَ ذاكَ!
(0/0)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } ؛ أي رُدَّت الأرواحُ إلى أجسادِها ، فقُرنت كلُّ روحٍ إلى جسدِها ، وسُئل عمر رضي الله عنه عن ذلكَ فقالَ : ((مَعْنَاهُ : يُقْرَنُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ ، وَيُقْرَنُ الرَّجُلُ السُّوءُ مَعَ الرَّجُلِ السُّوءِ فِي النَّار ، فَذلِكَ تَزْويجُ النَّفْسِ)) ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ }[الصافات : 22] وقُرَنَاءَهُمْ.
وقال عطاءُ : زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بالْحُور الْعِين ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكُفَّار بالشَّيَاطِينِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً }[النساء : 38].
(0/0)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ } ؛ قال الفرَّاءُ : ((سُئِلَتِ الْمَوْءُدَةُ فَقِيلَ لَهَا : { بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } )) ومعنى سُؤالها توبيخُ قاتِلها ، لا يقولُ : قَتلتُ بغيرِ ذنبٍ. والموءودَةُ : المقتولَةُ بثِقَلِ التُّراب الذي يطرحُ عليها ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا }[البقرة : 255] أي لا يثقلُ حفظُ عليه السَّموات والأرضِ ، وكانت العربُ تَئِدُ البناتِ من أولادها حيَّةً ؛ كَيلا يُخطَبْنَ إليهم ، ومخافةَ الإملاقِ كما قالَ تعالى{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ }[الإسراء : 31].
قال المفسِّرون : هي الْمَوْءُدَةُ المقتولَةُ المدفونَةُ حيَّةً ، سُميت بذلك لما يطرحُ عليها من التُّراب فيَؤُودهَا ؛ أي يُثقِلُها حتى تموتَ ، قالوا : وكان الرجلُ من العرب إذا وُلِدت له بنتٌ ، فإذا أرادَ أن يستبقيها ألبسَها جُبَّة من صُوفٍ ترعَى له الإبلَ والغنمَ ، وإذا أرادَ أن يقتُلَها تركَها حتى إذا صارت سُداسيَّةً ثم يقولُ لأُمِّها : طيِّبيهَا وزَيِّنيها حتى أذهبَ بها إلى بيتِ أقَاربها ، وقد حفرَ لها بئراً في الصَّحراء ، فإذا بلغَ البئرَ قال لها : انظُرِي إلى هذا البئرِ فيدفَعُها من خلفِها في البئرِ ، ثم يُهِيلُ عليها الترابَ حتى يُسوِّيَها بالأرضِ.
قال قتادةُ : ((كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتُلُ أحَدُهُمُ ابْنَتَهُ وَيَغْذُو كَلْبَهُ)). ويجوز أنْ يكون معنى سُئِلَتْ : طَلَبَتْ من قاتِلها لِمَ قتلَها كما تقولُ : سألتُ حقِّي من فلانٍ إذا أخذتَهُ وطلبتَ حقَّكَ منه.
(0/0)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ } ؛ أرادَ به ديوَانَ الحسناتِ والسيِّئات ، وذلك أنَّهُ إذا ماتَ ابنُ آدمَ طُويت صَحيفتهُ على مقدار عمله ، فإذا كان يومُ القيامةِ نُشِرَتْ وأُعطِيَ كلُّ واحدٍ منهم صحيفتَهُ على مراتبهم ، فينبغِي لكلِّ عاقلٍ أن يذكُرَ حالةَ الطَّيِّ في آخرِ عُمره ، وحالةَ النشرِ يومَ القيامةِ ، ويجتهدُ أن يَملِي صحيفتَهُ في حياتهِ من الطَّاعاتِ.
(0/0)
وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ } ؛ أي نُزعت عن أماكنِها فطُوِيَتْ كما يُكشَطُ الغطاءُ عن الشَّيءِ ، وقال الزجَّاجُ : ((قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ السَّقْفُ)) ، ومعنى الكَشْطِ رفعُ الشيءِ عن شيءِ قد غطَّاهُ ، كما يُكشَطُ الجلدُ عن الشَّاةِ. وفي قراءةِ ابن مسعودٍ (قُشِطَتْ) بالقافِ ، والمعنى واحدٌ. ويقالُ : معنى الكشطِ أن ينْزَعَ عنها ما فيها من الشَّمسِ والقمر والنجومِ ، يقال كَشَطْتُ الحرفَ عن البياضِ إذا قَلَعْتُهُ ومَحوتُه.
(0/0)
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ } ؛ أي أُوقِدَتْ للكافرِين والمنافقين ، قرأ نافعُ بالتشديدِ ؛ أي أُوقِدَتْ مرَّةً بعد مرَّةٍ ، وزيدَ في وقُودِها وشدَّة لَهبها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ } ؛ أي أُدْنِيَتْ من المتَّقين وقُرِّبت لهم ، ودنَا دخولُهم إياها ، كما قالَ في آيةٍ أُخرى{ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ }[ق : 31] ومن ذلك الْمُزْدَلِفَةُ لِقُربها من عرفات.
(0/0)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
وقولهُ تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } ؛ جوابهُ هذه الأشياء ، يقولُ : إذا كانت هذه الأشياءُ التي تكون في القيامةِ عَلمت ذلك الوقت كلُّ نفسٍ ما أحضَرتْهُ من خيرٍ أو شرٍّ تُجزَى بهِ.
(0/0)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ } ؛ معناه أقسِمُ برب الْخُنَّسِ ، و(لاَ) في هذا الموضعِ مؤكِّدَةٌ زائدةٌ ، وقوله تعالى : { الْجَوَارِ الْكُنَّسِ } ؛ أي الجاريةُ في الأفلاكِ ، وتَخْنُسُ في مَجراها ؛ أي ترجعُ إلى مَطالعِها في سَيرها ، ثم تستَتِرُ عند غُروبها ، فتغيبُ في الموضعِ التي تغيبُ فيها كما تُكنِسُ الظِّبَاءُ بأن تستترُ في كنَاسِها.
والْخَنْسُ : هو التأخُّر ، ومنه الْخَنْسُ في الأنفِ تَأَخُّرهُ في الوجهِ ، يقال : رجلٌ أخْنَسُ والمرأة خَنْسَاءٌ ، وسُمي الأَخْنَسُ بن شَريف بهذا الاسم لتأخُّره عن يومِ بدرٍ عن أصحابهِ. ومنه الْخَنَّاسُ وهو الشيطانُ ؛ لأنه يغيبُ عن أعيُن الناسِ. والْخُنَّسُ : جمعُ خَانِسٍ ، وهي النجومُ الخمسة : زُحَلُ والمشترِي والمرِّيخُ والزُّهرة وعطاردُ ، تجرِي في الأفلاكِ وتَخْنُسُ في مجرَاها ؛ أي ترجعُ إلى مجرَاها في سيرها.
ورُوي : أنَّ رَجُلاً مِنْ خَثْعَمَ جَاءَ إلَى عَلِيٍّ رضي الله عنه فَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الْخُنَّسُ ؟ قَالَ : ((ألَسْتَ رَجُلاً عَرَبيّاً؟!)) قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنْ أكْرَهُ أنْ أُفَسِّرَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ مَا أُنْزِلَ ؟ ، فَقَالَ : ((الْخُنَّسُ هِيَ النُّجُومُ الْخَمْسَةُ : الزُّهْرَةُ وَالْمُشْتَرِي وَبَهْرَامُ وَعَطَاردُ وزُّحَلُ)).
فَقَالَ : مَا الْكُنَّسُ ؟ قَالَ : ((مُسْتَقَرُّهُنَّ إذا انْقَبَضْنَ ، وَهُنَّ الْجَوَاري تَخْنُسُ خُنُوسَ الْقَمَرِ ، يَرْجِعْنَ وَرَاءَهُنَّ وَلاَ يَقْدُمْنَ كَمَا يَقْدُمُ النُّجُومُ ، وَلَيْسَ مِنْ نَجْمٍ غَيْرُهُنَّ إلاَّ يَطْلُعُ ، ثُمَّ يَجْزِي حَتَّى يَقْطَعَ الْمَجَرَّةَ)). وَقِيْلَ : معنى خُنُوسِها أنَّها تستترُ بالنَّهار فتخفَى ، وتنكسُ في وقت غُروبها.
(0/0)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } ؛ أي إذا أقبلَ بظَلامهِ ، وَقِيْلَ : إذا أدبرَ بظَلامهِ. والعَسُّ : طلبُ الشَّيء بالليلِ ، ومنه العَسَسُ ، ويقالُ : عَسْعَسَ الليلُ إذا أقبلَ ، وعَسْعَسَ إذا أدبرَ ، وهو مِن الأضدادِ ، إلاّ أنَّ ما بعدَ هذه الآيةِ دليلٌ على أنَّ المرادَ به أدبرَ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } ؛ أي إذا امتدَّ ضَوؤهُ حتى يصيرَ نَهاراً بيِّناً ، ومنه تنَفَّسَ الصُّّعَدَاءَ ، ومنه امتدادُ نَفَسِ الخوفِ بالخروج من الأنفِ والفمِ.
ثم ذكرَ جوابَ القسَمِ فقال :
قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ؛ يعني القرآنَ أتَى به جبريلُ عليه السلام من عندِ الله وهو رسولٌ كريمٌ ، فقرأهُ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } ؛ يعني جبريلَ عليه السلام ذي قوَّة فيما كُلِّفَ وأُمِرَ به ، ومن قوَّته أنه قَلَبَ قُرى قومِ لوطٍ وهي أربعُ مدائنَ ، في كلِّ مدينةٍ أربعمائة ألف مُقاتل سِوَى الذراري ، فحمَلَهم من الأرضِ السُّفلى بقوادِمِ جناحهِ ، ورفعَها إلى السَّماء حتى سَمِعَ أهلُ السَّماء أصواتَ الدَّجاجِ ونباحَ الكلاب ، ثم قلبَها بأمرِ الله فَهَوَتْ بهم ، كلُّ هذا من غيرِ كُلفَةٍ لَحِقَتْهُ.
قًوْلُهُ تَعَالَى : { عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } عند خالقِ العرش ومالكِهِ ، وَحْيُهُ رفيعُ القدر ، يقالُ : فلانٌ مَكِينٌ عند الأمينِ ؛ أي ذُو قدرٍ ومَنْزلةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } ؛ أي مُطاعٍ في السَّموات ، يطِيعهُ أهلُ السَّموات بأمرِ الله تعالى ، يقالُ : فرضَ طاعتَهُ على أهلِ السَّماء كما فرضَ طاعةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الأرضِ على أهلِ الأرض. وقوله { أَمِينٍ } أي فيما يؤدِّي عن اللهِ إلى أنبيائهِ عليهم السَّلامُ ، حَقِيقٌ بالأمانةِ فيه ، لم يَخُنْ ولم يَخُون.
(0/0)
وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } ؛ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والخطابُ لأهلِ مكَّة ، وذلك أنَّهم قالوا : إنَّ مُحَمَّداً مَجنونٌ ، فأقسمَ اللهُ تعالى أنَّ القرآنَ نزلَ به جبريلُ ، وأنَّ مُحَمَّداً ليس بمجنونٍ كما قالوهُ ، وفي هذا بيانُ غايةِ جهلِ قريش حيث نسَبُوا أعقلَ خلقِ الله إلى الجنونِ. والمجنونُ في اللغة : هو المغطَّى على عقلهِ لآفةٍ نزَلت بهِ.
(0/0)
وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ } ؛ أي ولقد رأى مُحَمَّدٌ جبريلَ بالأُفق الأعلَى وهو مَطلعُ الشَّمسِ الذي يجيءُ منه النهار ، وقد تقدَّم في سورةِ النَّجم : أنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبيِّ ، وَأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَرَ جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا إلاَّ مَرَّتَيْنِ.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِجِبْرِيلَ : " " إنِّي أُحِبُّ أنْ أرَاكَ فِي صُورَتِكَ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا فِي السَّمَاءِ " قَالَ : لَنْ تَقْوَى عَلَى ذلِكَ ، قَالَ : " بَلَى " قَالَ : أيْنَ تَشَاءُ أتَخَيَّلُ لَكَ ، قَالَ : " بالأَبْطَحِ " قَالَ : لَنْ يَسَعَنِي ، قَالَ : " بمِنَى " قالَ " : لاَ يَسَعُنِي ، قَالَ : " بعَرَفَاتٍ " قَالَ : فَهَبَطَ جِبْرِيلُ بعَرَفَات بخَشْخَشَةٍ وَكَلْكَلَةٍ قَدْ مَلأَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغِرِب ، وَرَأسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرجْلاَهُ فِي الأَرْضِ ، فَخَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَغْشِيّاً عَلَيْهِ ، فَتَحَوَّلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ وَضَمَّهُ إلَى صَدْرهِ ، وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ لاَ تَخَفْ ، فَكَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ وَرَأسُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ وَرجْلاَهُ فِي التُّخُومِ السَّابعَةِ وَالْعَرْشُ عَلَى كَاهِلِهِ ".
(0/0)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } ؛ قال بعضهم : أرادَ به جبريلَ ليس بمُتَّهَمٍ على تبليغِ الوحي والرسالة ولا تخيَّل ، بل هو صادقٌ موثوق به. وقال بعضُهم : أرادَ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ بقوله { عَلَى الْغَيْبِ } أي على الوحيِ ، وقرأ الحسنُ والأعمش وعاصم وحمزة ونافعُ وابن عامر (بضَنِينٍ) بالضادِ ، وكذلك هو في مُصحَفِ أُبَيِّ بن كعبٍ ، ومعناهُ : وما هو على الغيب ببَخِيلٍ ، لا يبخَلُ عليكم ، بل يُعلِّمُكم وتُخبرُكم به ، تقول العربُ : ضَنِنْتُ بالشَّي بكسرِ النونِ فأنا به ضَنِينٌ ؛ أي بخيلٌ ، قال الشاعرُ : أجُودُ بمَضْنُونِ التَّلاَدِ وَإنَّنِي بسِرِّكَ عَمَّنْ سَألَنِي لَضَنِينُوقرأ الباقون بالظَّاء ، وهي قراءةُ ابنِ مسعود وعروة بن الزُّبير وعمرَ بن عبدالعزيز ، ومعناهُ : (بمُتَّهَمٍ) ، والْمَظَنَّةُ التُّهمَةُ.
(0/0)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } ؛ هذا ردٌّ على الكفَّار ، فإنَّهم كانوا يزعُمون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يأتيه شيطانٌ اسمه الرَّيُ يتزَيَّا له فيُلقيه على لسانهِ ، والرَّجِيمُ : اللعينُ الْمَرْجُومُ بالشُّهب. أو المعنى : وما القرآنُ بقولِ شيطان رجيمٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } ؛ خطابٌ لكفَّار مكة يقولُ : أيَّ طريقٍ تسلُكون أبْيَن من هذا الطريقِ بُيِّنَ لكم ، ويقولُ : أين تذهَبُون بقُلوبكم عن معرفةِ ما بيَّن اللهُ لكم من صحَّة نبوَّة النبي صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي ما القرآنُ إلاّ عِظَةٌ بليغةٌ لجميعِ الخلق. وقوله تعالى : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } ؛ أي يتمسَّكَ بطريقةِ الإيمان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؛ أعلمَ اللهُ أنَّ المشيئةَ والتوفيقَ والخذلان إليه تعالى ، ولأنَّهم لا يعلَمُون شيئاً من الخيرِ والشرِّ إلاَّ بمشيئةِ الله.
وقد اختلَفُوا في تفسيرِ هذه الآية على قولَين ، قال بعضُهم : هذا القرآنُ ذِكْرٌ لِمَن شاء اللهُ له أن يستقيمَ ، وما تشاءون أن تستَقيموا إلاَّ أن يشاءَ اللهُ ذلك لكم. وقال بعضُهم : هذا ذِكرٌ عامٌّ للعالَمين ، فمَن شاءَ أن يستقيمَ استقامَ.
(0/0)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
{ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ } ؛ أي انشَقَّت وانقَضَتْ. والانفطارُ والانصداعُ والانشقاق بمعنىً واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ } ؛ أي تساقَطت على وجهِ الأرض ، { وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ } ؛ أي فُتِحَ بعضُها في بعضٍ ، ورُفِعَ الحاجزُ بين العَذْبِ والملحِ.
(0/0)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } ؛ أي مُحِيَتْ فانتَثَرت وكشَفت عن الأمواتِ واستُخرجَ ما فيها من الموتَى ، { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ } ؛ من عملٍ ، { وَأَخَّرَتْ } ؛ أي عندَ ذلك تعلمُ النَّفس ما قدَّمت وأخَّرت ، هذا جوابُ الشَّرطِ ، ويقالُ : ما قدَّمت من الطاعةِ والمعصية ، وما أخَّرت من الحسَنة والسِّيئة. ويقالُ : ما قدَّمت وأسلَفت من الخطايَا ، وسوَّفَت من التوبةِ. وَقِيْلَ : ما قدَّمت " مِن " الصدقات وأخَّرت مِن التَّرِكات.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؛ الخطابُ في هذه الآيةِ للكفَّار ، والمرادُ بالإنسانِ كلدَةَ بنَ أُسَيدٍ ، ويقالُ : الخطابُ للكفَّار والعاصين ، يقال له يومئذٍ : بمَ اغتَرَرْتَ وتشاغَلت عن طاعةِ الله وطلب مَرضاتهِ وهو الكريْمُ الصَّفُوحُ عن العبادِ ، { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } ؛ خلقَكَ في بطنِ أُمِّك باليدينِ والرِّجلَين وسائرِ الأعضاء لم يخلُقها متفاوتةً ، ولو كان خلقُ إحدى رجلَيك أطولَ من الأُخرى لم تكمُلْ منفعتُكَ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ فَقَالَ : { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ فَقَالَ : " جَهْلُهُ يَا رَبّ " وقال قتادةُ : ((غَرَّ الإنْسَانَ عَدُّوُّهُ الْمُسَلَّطُ عَلَيْهِ)). قيل للفُضَيلِ بن عِيَاضٍ : لَوْ أقَامَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } مَا كُنْتَ تَقُولُ ؟ فَقَالَ : ((أقُولُ : غُرَّنِي سُتُورُكَ الْمُرْخَاةُ)). وقال مقاتلُ : ((غَرَّهُ عَفْوُ اللهِ حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْهِ بالْعُقُوبَةِ)). وقال السديُّ : ((غَرَّهُ رفْقُ اللهِ بهِ)) ، وقال يحيَى بنُ معاذٍ : ((لَوْ أقَامَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : مَا غَرَّكَ بي ؟ لَقُلْتُ : غَرَّنِي بكَ رفْقُكَ بي سَالِفًا وَآنفاً)).
قال أهلُ الإشارة : إنَّما قالَ { بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } دون سائرِ صِفاته ، كأنَّهُ لَقَّنَهُ الإجابةَ حتَّى يقولَ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ. وعن ابنِ مسعودٍ قال : ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ سَيُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا عَمِلْتَ ؟ فِيمَا عَلِمْتَ ؟ مَاذا أجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ؟)). وقال أبو بكرٍ الورَّاق : ((لَوْ قَالَ لِي : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ } ؟ لَقُلْتُ : غَرَّنِي كَرَمُ الْكَرِيمِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَدَلَكَ } ؛ قرأ أهلُ الكوفة بتخفيفِ الدال ؛ أي صرَفَك إلى أيِّ صُورَةٍ شاءَ من الْحُسنِ والقُبحِ والطولِ والقِصَرِ ، وقرأ الباقون بالتشديدِ ؛ أي قوَّمَ خَلْقَكَ ، معتدلُ الخلق معتدلُ القامةِ في أحسنِ صُورةٍ ، كما في قولهِ تعالى{ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }[التين : 4]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } أي في شَبَهِ أبٍ أو أُمٍّ أو خالٍ أو عمٍّ.
(0/0)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ } ؛ (كَلاَّ) كلمةُ رَدْعٍ ، ومعناها لاَ تَغْتَرَّ بغيرِ الله تعالى فتترُكَ عبادةَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : حَقّاً إنَّكم لا تَستَقِيمُونَ على ما توجبهُ نِعمَتي عليكم ، بل تكذِّبون بالإسلامِ مع هذه النِّعم. ويقالُ : أراد بالدِّين ههنا يومَ الحساب والجزاء.
(0/0)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } ؛ ابتداءُ إخبارٍ من اللهِ ، معناهُ : وإنَّ عليكم رُقباءَ يحفَظون أعمالَكم وأفعالكم وهم الملائكةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } ؛ أي كِرَاماً على اللهِ كاتِبين يكتُبون أقوالَكم وأفعالَكم ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ أحَدٍ يَأْوي إلَى مَضْجَعِهِ إلاَّ شَكَتْ أعْضَاؤُهُ إلَى اللهِ تَعَالَى مِمَّا يَجْنِي عَلَيْهَا الإنْسَانُ " ، وإنما قالَ كِرَاماً على اللهِ ليكون أدعَى إلى احترامِهم وإلى الامتناعِ عن فعلِ ما يُؤذيهم.
(0/0)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } ؛ في الظاهرِ دون الباطنِ ، يعني يعلَمون ما تفعلون دون ما تعتقِدون ، قال ابنُ مسعود : ((يَكْتُبُونَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الأَنِينَ)) ونظيرهُ قولهُ{ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ }[القمر : 53].
(0/0)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } ؛ أرادَ بالأبرار الصَّادقين في إيمانِهم ، وأراد بالفُجَّار الكفارَ. وَقِيْلَ : أرادَ بالأبرار عُمَّال الإحسانِ من المؤمنينِ ، وبالفُجَّار عُمال الإساءةِ من الفُسَّاق.
(0/0)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ } ؛ أي يدخلونَها يومَ الحساب والجزاءِ ، { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } ؛ إلى أن يقضيَ اللهُ بإخراجِ مَن كان فيها من أهلِ التوحيد ، وأمَّا الكفارُ فلا يغِيبُون عنها أبَداً.
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } ؛ أي ما أعلَمَك يا مُحَمَّدُ ما فِي ذلك اليومِ من الشَّدائد على الكفار ، { ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } ؛ ثم أعلَمَك ما فيهِ من النَّعيم للأبرار.
(0/0)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } ؛ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو برفعِ الميم نَعتاً لقولهِ تعالى { يَوْمُ الدِّينِ } أو بدلاً منه ، وقرأ الباقون بالنصب على الظرفِ ؛ أي في يومِ ، ومعناهُ : لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ ؛ أي لا يملكُ آخرُ لآخرٍ نَفعاً ولا ضَرّاً ؛ لأنَّ الأمرَ يومئذ للهِ ، { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } ؛ دون غيرهِ.
(0/0)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
{ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } ؛ يعني الذين يُنقِصُونَ الناسَ ، ويَبخَسُونَ حقوقَهم في الكَيْلِ والوزنِ. والويلُ : الشدَّةُ في العذاب ، وهي كلمةٌ تُسْتَعْمَلُ لكلِّ مَن وقعَ في الْهَلَكَةِ. وههنا رُفع بالابتداءِ وخبرهُ { لِّلْمُطَفِّفِينَ }. والتَّطْفِيفُ : التَّنقيصُ في الكيلِ والوزن ، والطَّفيفُ : الشيء القليلُ ، وإناءٌ طَفْآنٌ إذا لم يكن مَلآن.
(0/0)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } ، يعني إذا اكتَالوا من الناسِ و(على) و(من) يتعاقَبان. والمعنى : إذا أخَذُوا من الناسِ حُقوقَهم أخذوهُ على الوفاءِ ، { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } ؛ وإذا كَالُوا للناسَ أو وزَنوا لهم يُنقِصُون في الكيلِ والوزنِ.
والإخْسَارُ والْخَسَارُ بمعنىً واحد. واطلاقُ لفظ المطلَقِ لا يتناولُ إلاَّ مَن يتفاحشُ منه التطفيفُ ، بحيث لو وقعَ ذلك المقدارُ في التفاوُتِ بين الكيلَين العَدلَين لزادَ عليه ، وأما الإيفاءُ بين الناس فإنَّهم يجتَهدون في استيفاء حقوقِهم أن يكون ذلك أميلَ إلى الرُّجْحان ، كما رُوي : " أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَضَى دَيْنَهُ فَأَرْجَحَ " فَقِيلَ لَهُ فِي ذلِكَ فَقَالَ : " إنَّا كَذلِكَ نَزِنُ ".
(0/0)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } ؛ معناهُ ألاَ يستيقنُ أولئكَ أنَّهم مبعُوثون ، وفيه بيانُ أنَّ التطفيفَ ليس يفعلهُ مَن يعلمُ أنه مبعوثٌ للحساب ليومٍ عظيم وهو يومُ القيامةِ ، كأنه قالَ : لو علِمُوا أنَّهم مبعُوثون ما نقَصُوا في الكيلِ والوزن ، وكان الحسنُ يقول : ((نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْمُوَحِّدِينَ ، وَمَا آمَنَ بيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ طَفَّفَ فِي الْمِيزَانِ)).
(0/0)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ فيه بيانُ صفةِ ذلك اليوم ، قال الكلبيُّ : ((يَقُومُونَ مِقْدَارَ ثَلاََثَمِائَةِ سَنَةٍ لاَ يُؤْذنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُواْ)). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " يَقُومُ النَّاسُ لِرَب الْعَالَمِينَ حَتَّى أنَّ أحَدَهُمْ لَيَغِيبُ فِي رَشْحِهِ إلَى أنْصَافِ أُذُنَيْهِ ، وَحَتَّى يَقُولَ الْكَافِرُ : رَب أرحْنِي وَلَوْ إلَى النَّار ".
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " خَمْسٌ بخَمْسٍ " قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا خَمْسٌ بخَمْسٍ ؟ قَالَ : " مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ ، وَمَا حَكَمُوا بغَيْرِ مَا أنْزَلَ اللهُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ ، وَمَا ظَهَرَتِ فِيهِم الْفَاحِشَةُ إلاَّ فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ ، وَلاَ طَفَّفَوا الْكَيلَ إلاَّ مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُواْ بالسِّنِينِ ، وَلاَ مَنَعُواْ الزَّكَاةَ إلاَّ حَبَسَ اللهُ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ".
وعن مالكِ بن دينار قالَ : ((دَخَلْتُ عَلَى جَارٍ لِي ، وَقَدْ نَزَلَ بهِ الْمَوْتُ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ ، قُلْتُ : مَا تَقُولُ؟! قَالَ : يَا أبَا يَحْيَى كَانَ لِي مِكْيَالاَنِ أكِيلُ بأَحَدِهِمَا وَأكْتَالُ بالآخَرِ ، قَالَ : فَقُمْتُ فَجَعَلْتُ أضْرِبُ أحَدَهُمَا بالآخَرِ ، فَقَالَ : يَا أبَا يَحْيَى كُلَّمَا ضَرَبْتَ أحَدَهُمَا بالآخَرِ ازْدَادَ عَلَيَّ عِظَماً ، قَالَ : فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذلِكَ)).
وقال عكرمةُ : ((اشْهَدُواْ عَلَى كُلِّ كَيَّالٍ وَوَزَّانٍ أنَّهُ فِي النَّار)) ، قِيلَ : إنَّ ابْنَكَ كَيَّالٌ أوْ وَزَّانٌ ، قَالَ : ((اشْهَدُوا أنَّهُ فِي النَّار)). وكان ابنُ عمرَ يَمُرُّ بالْبَائِعِ فَيَقُولُ لَهُ : ((اتَّقِ اللهَ وَأوْفِ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بالْقِسْطِ ؛ فَإنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أنَّ الْعَرَقَ لَيَلْجُمُهُمْ إلَى أنْصَافِ آذانِهِمْ)). ومرَّ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَلَى رَجُلٍ يَزِنُ الزَّعْفَرَانَ فَقَالَ : ((أقِمِ الْوَزْنَ بالْقِسْطِ ، ثُمَّ أرْجِحْ بَعْدَ ذلِكَ مَا شِئْتَ)).
(0/0)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } ؛ أي ليس الأمرُ على ما يظُنون أنَّهم لا يُبعثون ليومٍ عظيم ، وَقِيْلَ : إن (كَلاَّ) هاهنا كلمةُ ردعٍ وزَجرٍ ؛ أي ارتَدِعوا عن التطفيفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } يعني الكتابَ الذي يُكتَبُ فيه أعمالُهم ، قال ابنُ عبَّاس : ((السِّجِّينُ صَخْرَةٌ سَوْدَاءُ تَحْتَ الأَرْضِ السَّابعَةِ ، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا الأَرْضُونَ ، مَكْتُوبٌ فِيهَا عَمَلُ الْفُجَّار)). عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " سِجِّينُ جُبٌّ فِي جَهَنَّمَ مَفْتُوحٌ ، وَالْفَلَقُ جُبٌّ فِي النَّار مُغَطَّى ".
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؛ تعجُّبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : ليسَ ذلك مما تعلَمهُ أنتَ ولا قومُكَ ؛ لأنَّكم لم تعاينوهُ ، ثم فسَّرهُ فقال : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } ؛ أي مُثْبَتٌ عليهم في تلك الصَّخرة كالرَّقمِ في الثوب لا يُنسَى ولا يُمحَا حتى يُجَازُونَ به ، ومعنى الرَّقمِ على هذا القولِ هو الطَّبعُ الحجَرِ.
(0/0)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } ؛ يعني الوليدَ بن المغيرةِ ، { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا } ، كان إذا قُرئَ عليهِ القرآنُ ، { قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أحاديثُهم وأباطيلهم التي سطَّرُوها في الكُتب ، وهذه الآيةُ عامَّةٌ في كلِّ كافرٍ يقول مثلَ مقالتهِ ، والمعتدِي هو المتجاوزُ عن الحدِّ في المعصيةِ ، والأثيمُ كثيرُ الإثْمِ.
(0/0)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ أي حَاشَا أن يكون القرآنُ أساطيرَ الأوَّلين ، بل غلبَ على قُلوبهم ما كانوا يكسِبُون من الكُفرِ والمعصيةِ ، يقالُ : رَانَتِ الخمرُ على عقلهِ إذا سَكِرَ فغلبَتْ على عقلهِ ، ويقالُ في معنى الرَّيْنِ : إنَّه كثرةُ الذُّنوب كالصَّدى يغشَى على القلب ، وقال الحسنُ : ((هُوَ الذنْبُ عَلَى الذنْب حَتَّى يَمُوتَ الْقَلْبُ)). وقال مجاهدُ : ((هُوَ الطَّبْعُ)).
وفي الحديثِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " الْمُؤْمِنُ إذا أخْطَأَ خَطِيئَةً كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبهِ ، فَإنَّ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا ، وَإنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فِي الرَّيْنِ الَّذِي قَالَ اللهُ فِي كِتَابهِ { بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ".
(0/0)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } ؛ أي حَقّاً إنَّهم عن رحمةِ ربهم وكرامتهِ لمَمنُوعون ؛ { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ } ؛ أي أنَّهم مع كونِهم مَمنوعون عن الجنَّةِ ونعيمها ، يدخُلون الجحيمَ غيرَ خارجين منها أبداً ، { ثُمَّ يُقَالُ } ؛ لهم على وجهِ التَّقريع على طريقِ الذمِّ ، { هَـاذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ؛ في الدُّنيا. وَقِيْلَ : معناه محجُوبون عن رؤيةِ اللهِ تعالى.
(0/0)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } ؛ أي حَقّاً إنَّ عملَ الأبرار وهم الصَّادقون في إيمانِهم لمكتوبٌ في أعلىَ الأمكِنة فوقَ السَّماء السابعة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } ؛ تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ ذلك غيرُ معلومٍ وسيعرفهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } ؛ تفسيرٌ للكتاب الذي في عليِّين إعظاماً لذلكَ الكتاب وتشريفاً ، وفي إعظامِ كتاب المرءِ إعظاماً له.
وقال قتادةُ : ((عِلِّيُّونَ قَائِمَةٌ بالْعَرْشِ الْيُمْنَى)) ، وقال مقاتلُ : ((سَاقُ الْعَرْشِ إلَيْهِ تُرْفَعُ أرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ)). وَقِيْلَ : إنَّ العليِّين جمعُ العِلِّيَّةِ ، وهي المرتبةُ العالية مَحْفُوفَةٌ بالجلالةِ. وقال بعضُهم : معناهُ : عُلُوٌّ في عُلُوٍّ مضاعفٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } ؛ أي يحضرهُ السَّبعة أملاكٍ الذين ذكرنَاهم.
(0/0)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } ؛ أي في نعيمٍ دائمٍ وهو نعيمُ الجنَّة ، { عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } ؛ أي على السُّرُر من الدُّرِّ والياقوتِ في القِبَاب المضروبةِ ينظُرون إلى نعيمِ الجنَّة. وَقِيْلَ : إلى أعدائِهم كيف يُعذبون. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ } ؛ أي بريقُ النعيمِ ونورهُ ونظارتهُ وبَهجته وحُسنه ، { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ } ؛ أي خمرٌ صافية خالصة من الغشِّ بيضاءُ مختومة بالمسكِ ، قال قتادةُ : ((تُمْزَجُ لَهُمْ بالْكَافُور ، وَتُخْتَمُ لَهُمْ بالْمِسْكِ)). وَقِيْلَ : معناهُ : آخِرُ طعمهِ مِسكٌ.
وقرأ علقمةُ (خَاتَمَهُ مِسْكٌ) أي آخرهُ ، ويقال : معناهُ : أنَّهم إذا شَربوا من ذلك الشَّراب انختمَ ذلك بطعمِ المسكِ ورائحته. ويقال : معنى المختومِ ههنا أنَّ ذلك الشرابَ في الآخرةِ هو مختومٌ بالمسكِ بدلَ الطِّين الذي يُختم بمثلهِ الشَّراب في الدُّنيا ، فهو مختومٌ بالمسكِ يومَ خَلقهِ الله تعالى لا ينفَكُّ حتى يَدْخُلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ ، فينفكُّ ذلك لَهم تعظيماً لشرابهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } ؛ أي في مثلِ هذا النعيمِ فليَرغب الرَّاغِبون وليجتهد المجتهدون ، لا في النعيمِ الذي هو مكدَّرٌ لسُرعَةِ الفناءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } ؛ معناهُ : ومِزَاجُ الرَّحيقِ من عَينٍ تنْزلُ عليهم من ساقٍ العرشِ ، سُميت بذلك ؛ لأنَّها تُسنَمُ عليهم ، فتَنصَبُّ انصِباباً من فوقِهم في منازلهم ، ومنهُ سَنَامُ البعيرِ لعُلوِّه من بدنهِ ، وذلك الشَّراب إذا كان أعلاَ كان أطيبَ وأهنأَ.
(0/0)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
قَوْلُهُ تعَالىَ : { عَيْناً } ؛ منصوبٌ على الحالِ ؛ أي في الحالِ التي تكون عَيناً لا ماءً رَاكداً. وَقِيْلَ : انتصبَ على تقديرِ يُسقَون عَيْناً أو مِن عينٍ. وَقِيْلَ : على إضمار أعنِي عَيناً.
وقوله تعالى : { يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ } ؛ يشربُ بها أفاضلُ أهلِ الجنَّة صَرفاً بغيرِ مزاجٍ ، ويشربُها سائرُ أهلِ الجنَّة بالمزاجِ ، وَقِيْلَ : إنَّ الباءَ في قولهِ { بِهَا } زائدةٌ كما في قوله{ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ }[المؤمنون : 20]. وَقِيْلَ : إنَّ التسنيمَ عينٌ تجري في الهواءِ في أوانِي أهلِ الجنة على مقدار مائها ، فإذا امتلأَتْ أُمسِكَ الماءُ حتى لا يقعَ منه قطرةٌ على الأرضِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ } ؛ معناهُ : إنَّ الذينَ أشرَكوا وهم أبو جهلٍ ، والوليدُ بن المغيرةِ ، والعاصي بن وائلِ وأصحابهُ من مُشرِكي مكَّة كانوا يضحَكون من ضَعَفَةِ أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهم بلالُ وصُهيب وعمَّار وسَلمان ، كانوا يستَهزِئون بهم ويعيِّرونَهم على الإسلام ، { وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ } ؛ أي مرَّ بهم أحدٌ من أصحاب رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم وهم جلوسٌ ، { يَتَغَامَزُونَ } ؛ بالطَّرْفِ طَعناً عليهم.
وكانوا يُقولون : انظُروا إلى هؤلاءِ الذين ترَكُوا شهوتِهم في الدُّنيا يطلُبون بذلك نعيمَ الآخرةِ بزَعمِهم ، { وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ } ؛ وكانوا إذا رجَعُوا إلى أهلِهم يرجِعُوا فَاكِهين ؛ أي ناعِمين فرِحين مُعجَبين بما هم فيه لا يُبالون بما فعَلوا بالمؤمنين ، { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } ، ويقولون إنَّهم ضالُّون باتِّباعِهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
يقولُ الله تعالى : { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } ؛ أي ما أُرسِلَ الكفارُ ليحفَظُوا على المؤمنين أفعالَهم ، فما لَهم وإيَّاهم ؟ بل أرسَل المؤمنين ليحفَظُوا على الكفار أفعالَهم ، فيشهَدُوا عليهم يومَ القيامةِ.
(0/0)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } ؛ معناهُ : يومَ القيامةِ الذين صدَّقوا بتوحيدِ الله ، ونُبوَّة رسولهِ يضحَكون من الكفَّار قَصاصاً وشَماتةً بهم كما ضَحِكَ الكفارُ منهم في الدُّنيا ، { عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } ؛ أي على السُّرر في الحِجَالِ جَالسون ينظُرون إلى أهلِ النار كيف يُعذبون.
وذلك أنَّهُ يُفْتَحُ بَيْنَهم وبين الكفَّار بابٌ إلى الجنَّة ، فإذا نظرَ الكفَّارُ إلى ذلك الباب أقبَلوا نحوَهُ يُسحَبون في النار ، فإذا انتَهوا إلى الباب سُدَّ عنهم ، فعند ذلك يضحكُ المؤمنون وهُم على الأرائِك في الدَّرجات ، يقول يُطلعهم اللهُ على أهلِ النار الذين كانوا يسخَرون منهم في الدُّنيا ، فيرونَهم في النار يَدُورون فيها وإنَّ جَماجِمَهم لتَغلي من حرِّ النار ، فيقول المؤمنون : { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ؛ أي هل جُوزُوا على صنِيعهم واستهزائهم بنا ، ويجوزُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ } من قولِ اللهِ ؛ ومعناهُ : التحقيقُ ، ومعنى ثُوِّبَ جُوزيَ.
(0/0)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
{ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ } ؛ وذلكَ أنَّ أبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الأَسَدِ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ مُسْلِماً ، جَادَلَ أخَاهُ الأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ الأَسَدِ فِي الإسْلاَمِ ، وَكَانَ الأَسْوَدُ كَافِراً ، فَأَخْبَرَهُ أبُو سَلَمَةَ بالْبَعْثِ ، فَقَالَ لَهُ الأَسْوَدُ : وَيْحَكَ! أتَرَى أنِّي مُصَدِّقٌ أئِذا كُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أنُبْعَثُ ؟ فَأَيْنَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ يَوْمَئِذٍ ؟ وَمَا حَالُ النَّاسِ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ.
ومعنَاها : واذكُرْ إذا السَّماءُ انشقَّت لنُزولِ الملائكة وهَيبَةِ الرَّحمنِ ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } ؛ أي سَمِعَتْ وأطَاعت لأمرِ ربها بالانشقاقِ ، وحُقَّ لها أن تُطيعَ ربَّها. يقالُ : أذِنْتُ للشَّيء إذا سمعتُ ، وَأذِنْتُهُ إذا سَمِعتهُ.
(0/0)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ } ؛ أي بُسِطَتْ بسْطَ الأديم العُكَاضِيِّ ، فجُعِلَتْ كالصَّحيفة الملساءَ ، لا يبقَى جبلٌ ولا بناءٌ ولا شَجرٌ إلاّ دخلت فيها ، { وَأَلْقَتْ } ؛ الأرضُ ، { مَا فِيهَا } ؛ من الأمواتِ ، { وَتَخَلَّتْ } ؛ عن ذلك كما كانت من قبلُ ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } ؛ أي سَمعت وانقادَتْ لأمرِ ربها ، وحُقَّ لها أن تَسْمَعَ وتُطيعَ.
وجوابُ (إذا) في هذه السُّورة محذوفٌ ؛ تقديرهُ : رأى الإنسانُ عندَ ذلك ما قدَّمَ من خيرٍ أو شرٍّ ، وَقِيْلَ : جوابهُ : فَمُلاَقِيهِ ، والمعنى : إذا كان يومُ القيامةِ لَقِيَ الإنسان كَدْحَهُ وهو عملهُ. وَقِيْلَ : جوابهُ : { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً }[الانشقاق : 6] ؛ تقديرهُ : إذا السَّماء انشقَّت لَقِيَ كلُّ كادحٍ ما عَمِلَهُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } ، اختلَفُوا في الخطاب لِمَن هو ، فروَى عبدُالله بن عِمرانَ : " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ثُمَّ قَالَ : " أنَا ذلِكَ الإنْسَانُ ، أنَا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقٌُّ عَنْهُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَأَجْلِسُ جَالِساً فِي قَبْرِي ، ثُمَّ يُفْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بحِيَالِ رَأسِي حَتَّى أنْظُرَ إلَى عَرْشِ رَبي ، ثُمَّ يُفْتَحُ لِي بَابٌ إلَى الأَرْضِ السُّفْلَى حَتَّى أنْظُرَ إلَى الثَّوْر وَالثَّرَى ، ثُمَّ يُفْتَحُ لِي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أنْظُرَ إلَى الْجَنَّةِ وَإلَى مَنَازلِ أصْحَابي ، وَأنَّ الأَرْضَ تَتَحَرَّكُ تَحْتِي فَأَقُولُ لَهَا : مَا لَكِ أيَّتُهَا الأَرْضُ ؟ فَتَقُولُ : إنَّ رَبي أمَرَنِي أنْ أُلْقِيَ مَا فِي جَوْفِي وَأنْ أتَخَلَّى ، فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ " ".
والمعنَى على هذا القولِ : إنَّكَ عاملٌ لربكَ عَملاً فمُلاقي ربَّكَ ترجعُ إليه فيُجازيَك. وقال بعضُهم : الخطابُ للمكذِّب بالعبثِ ، وهو أُبَيُّ بن خَلَف الجمحيُّ ، والمعنى : إنَّكَ عاملٌ عَملاً في كُفرِك ، فتُرَدُّ إلى ربكَ في الآخرةِ ، فتلقَى جزاءَ عمَلِكَ.
والظاهرُ : أنَّ الخطابَ لجميعِ الناس. والكَدْحُ في اللُّغة هو السَّعيُ الدَّؤُوب في العملِ في الدنيا والآخرة ، قال الشاعرُ : فَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارَتَان فَمِنْهُمَا أمُوتُ وَأُخْرَى أبْتَغِي الْعَيْشَ أكْدَحُوالمعنى : أيُّها الإنسانُ ستَرى جزاءَ ما عمِلتَ من خيرٍ أو شرٍّ ، فانظُرِ اليومَ ماذا تعملُ وفيمَ تُتعِبُ نفسكَ ، فلا تعمَلْ إلاَّ لله حتى تستريحَ من الكَدْحِ.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } أي مَنْ أُعطِيَ ديوانَ عمَلهِ بيمينهِ ، فسوفَ يُحاسَب حِسَاباً هيِّناً. والحسابُ الهيِّنُ : هو أنْ يَعرِفَ جزاءَ عمَلهِ ، وما لَهُ من الثواب ، وما يُحَطُّ عنه من الوِزْر ، وخرج ما عليه من المظالِم ، { وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ } ؛ أي فينقلبُ إلى أهله من الحور العينِ وأقربائه من المؤمنين ، { مَسْرُوراً } ؛ بهم ، وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أيُحَاسَبُ الْمُؤْمِنُ ؟ قَالَ : " يَا عَائِشَةُ مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَت : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، قالَ : " يَا عَائِشَةُ لَيْسَ ذلِكَ الْحِسَابُ ، إنَّمَا ذلِكَ الْعَرْضُ ، مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ " ".
(0/0)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } ؛ يعني الكافرَ تكون يَمِينهُ مَغلُولةً إلى عُنْقهِ ، وتُلوَى يدهُ اليُسرَى من ورائهِ ، فيُدفَعُ إليه كتابهُ من ورائهِ ، فإذا رأى إلى ما فيهِ من سيِّئاته ، { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } ؛ دعَا بالويلِ والثُّبور على نفسهِ : وَاوَيْلاَهُ ؛ وَاثُبُورَاهُ. والثُّبُورُ : الْهَلاَكُ. وقولهُ تعالى : { وَيَصْلَى سَعِيراً } ؛ أي يدخُل نَاراً موقدةً ، قرأ ابنُ كثيرٍ ونافعُ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ (وَيُصَلَّى) بضمِّ الياء وتشديدِ اللام على وجهِ الْمُبالَغة ؛ أي يَكثرُ عذابُه في الآخرةِ.
(0/0)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً } ؛ أي كان مَسرُوراً في أهلهِ في الدنيا بمعاصي اللهِ ، وكان لا يحزنهُ خوفُ القيامةِ ، وكان يمنعهُ السُّرور في أهلهِ عن إقامةِ فرائضِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } ؛ معناه : إنه ظنَّ في الدُّنيا أنْ لا يرجعَ إلى اللهِ في الآخرةِ ، فذلك كان يركبُ المآثِمَ ، والمعنى : أنه ظنَّ أنْ لن يرجِعَ إلى اللهِ تعالى.
(0/0)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلَى } ؛ أي ليس كما ظنَّ ، بل يحور إلينا ويُبعَثُ ؛ أي بَلَى ليَرجِعَنَّ إلى ربه بعد البعثِ ، { إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } ؛ أي عالِماً به قبلَ أن يخلقَهُ بأنَّ مرجِعَهُ ومَصيرَهُ إليه. والْحَوْرُ في اللغة : هو الرجوعُ.
(0/0)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ } ؛ أي أقسِمُ برب الشَّفَقِ ، و(لا) هاهنا زائدةٌ. والشَّفَقُ عند أكثرِ أهل العلمِ : الْحُمْرَةُ التي تُرى بعدَ سُقوط الشَّمسِ ، وعند أبي حنيفةَ هو البياضُ. والشَّفَقُ في الأصلِ هو الرِّقَّةُ ، ومنه شَفِيقٌ إذا كان رَقِيقاً ، ومنه الشَّفَقَةُ لرقَّةِ القلب ، فإذا كان هكذا فالبياضُ منه أولى الْحُمرَةِ ؛ لأنَّ البياضَ أرَقُّ من الْحُمرةِ ، والحمرةُ أكثَفُ من البياضِ.
(0/0)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } ؛ معناهُ : والليلِ وما جَمَعَ ورَدَّ إلى مأْمَنهِ ومَبيتهِ مَن كان مُنتشراً في النهار ، يقال : طعامٌ مَوْسُوقٌ ؛ أي مجموعٌ في الغَرائرِ ، والوَسْقُ مِنَ الطعامِ : ستُّون صَاعاً ، قال عكرمةُ : ((مَعْنَاهُ : وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ فِيْهِ مِنْ دَوَابَهِ وَعَقَاربهِ وَحَيَّاتِهِ وَظُلْمَتِهِ)). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ } ؛ أي إذا اجتمعَ ضَوءهُ ، وتكاملَ واستدارَ في الليالِي البيْضِ ، يقالُ : اتَّسَقَتِ الأمُورُ إذا تكامَلت واستَوت.
(0/0)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } ؛ جوابُ القَسَمِ ، وهو خطابٌ لكلِّ الناسِ اذا قُرِئت بضمِّ الباءِ على الجمعِ ، والمعنى : أيُّها الناسُ لتَركَبُنَّ يومَ القيامة حالاً بعد حالٍ ، وشدَّةًَ بعد شدةٍ ، تقولُ العربُ : وقعَ في بناتِ طَبَقٍ ، تريدُ الدَّواهِي العظامِ.
ويقالُ : أرادَ بالآيةِ تغيُّرَ الأحوالِ مِن حالِ النُّطفَةِ إلى حالِ العَلَقَةِ ، ومِن العلقةِ الى الْمُضغَةِ ، ومِن الْمُضْغَةِ إلى الصِّغَرِ ، ومِن الصِّغَرِ إلى الشَّباب ، ومِن الشَّباب إلى الكُهُولَةِ ، ومِن الكُهولَةِ إلى الكِبَر ، ومِن الكِبَر إلى الموتِ ، ومن الموتِ إلى البعثِ ، ومن البعثِ إلى الحساب ، ومن الحساب إلى الصِّراط ، ومن الصِّراط إلى موضعِ الجزاء ، إمَّا إلى الجنَّة أو إلى النار.
وقرأ ابنُ كثيرٍ وحمزة والكسائي (لَتَرْكَبَنَّ) بفتح الباءِ ، وهي قراءةُ عمرَ بن الخطَّاب وابن مسعود وابنِ عبَّاس قال : ((يَعْنِي : يَا مُحَمَّدُ لَتَرْكَبَنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ؛ أيْ سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ ، وَدَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ ، وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةً)).
(0/0)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي ما لِهؤلاء المشركين لا يُؤمنون بهذا القرآنِ ، وبما جاءَ به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من عندِ الله بعد ظُهور الْحُجَجِ والأدلَّة ، { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } ؛ أي يُصَلُّون للهِ ، ولا يخضَعون { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } ، وهذا بيانُ وجوب سَجدَةِ التِّلاوة ؛ لأنه ذمَّهم على تَركِها عند السَّماع. وظاهرُ الآيةِ يقتضي وجوبَ السَّجدةِ عند سماعِ سائر القُرآن ، خصَّصنا ما عدَا مواضعِ السُّجود بالإجماعِ ، فاستعملنَا في مواضعِ السُّجود ، إذ لو لم يفعل ذلك لأَلغَينا حُكمَ الآية رَأساً.
(0/0)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } ؛ أي بما يُضمِرُون في قُلوبهم ، والإيْعَاءُ : جعلُ الشَّيءِ في الوِعاء ، والقلوبُ أوْعِيَةٌ لِمَا يحصلُ فيها من معرفةٍ أو جهالة أو عزيمةٍ أو خيرٍ أو شرٍّ.
(0/0)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أي أخْبرهُم بعذابٍ وَجِيع ، مكان البشَارَةِ للمؤمنين بالنَّعيم المقيمِ ، { لاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ؛ أي لكن المؤمنين المطيعِين لَهم ثوابٌ لا يُكَدَّرُ عليهم بالْمَنِّ ، ويقالُ : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي لا يُنقَصُ على مرَّ الدُّهور ، ويقالُ : غيرُ مقطوعٍ ولا منقوصٍ.
(0/0)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
{ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ } ؛ أي ذاتَ النُّجوم. وَقِيْلَ : ذاتِ القُصور على ما رُوي " إنَّ فِي السَّمَاءِ قُصُوراً يَسْكُنُهَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ " والأَظهرُ : أن البروجَ ها هنا منازلُ الكواكب السَّبعة ، سُميت بُروجاً لارتفاعِها وسِعَتِها ، وهي اثنَا عشرَ من الْحَمَلِ إلى الحوتِ ، تسيرُ الشَّمسُ في كلِّ برجٍ ثلاثِينَ يَوماً وبعضَ يومٍ ، ويسيرُ القمرُ في كلِّ برجٍ يومَين وثُلثَ يومٍ ، فذلك ثمانيةٌ وعشرون يَوماً ثم يستترُ في لَيلتين.
(0/0)
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ } ؛ هو يومُ القيامةِ ، وُعِدَ أهلُ السَّموات والأرضِ أن يصِيروا إلى ذلك اليومِ لفصلِ القضاء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } ؛ قِيْلَ : إن الشاهدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـاؤُلاءِ شَهِيداً }[النساء : 41] ، والمشهودَ يومُ القيامةِ كما قال تعالى : { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ }[هود : 103].
وقِيْلَ : الشاهدُ جميع الأنبياءِ كما قال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً }[النحل : 84] والمشهودُ جميعُ الأُمَم. ويقال : الشاهدُ يوم الجمُعة ، والمشهودُ يومُ عرفَةَ كما قال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الأَيَّامُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَهُوَ الشَّاهِدُ ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَالْمَوْعُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ " ويقالُ : الشاهدُ يوم النَّحرِ ، والمشهودُ يوم الجمُعةِ.
(0/0)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } ؛ هذا جوابُ القسَمِ ، تقديرهُ : لقد قُتِلَ أصحابُ الأخدودِ ، والمعنى : قتلَتهُم النارُ. والأُخْدُودُ : شَقُّ يُشَقُّ في الأرضِ ، جمعُها أخَادِيدُ. ويجوز أنْ يكون معنى (قُتِلَ) : لُعِنَ على الدُّعاء عليهم.
وقصَّة ذلك ما رُوي : أنَّ رَجُلاً مِنَ النَّصَارَى كَانَ أجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلاً ، فَرَأتِ ابْنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ النُّورَ فِي الْبَيْتِ لِقِرَاءَةِ الأَجِيرِ الإنْجِيلَ ، فَذكَرَتْ ذلِكَ لأَبيهَا فَرَمَقَهُ حَتَّى رَآهُ ، فَسَأَلَهُ عَنْ ذلِكَ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَلَمْ يَزَلْ بهِ حَتَّى أخْبَرَهُ أنَّهُ عَلَى دِينِ عِيسَى ، وَكَانَ ذلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ نَبيِّنَا صلى الله عليه وسلم ، فَتَابَعَهُ هُوَ وَسَبْعَةٌ وَثَمَانُونَ إنْسَاناً مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأةٍ.
فَأَخْبَرَ مَلِكَ الْيَهُودِ وَاسْمُهُ يُوسُفُ بْنُ ذِي نُؤَاسٍ الْحِمْيَرِيِّ ، فَخَدَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَأوْقَدَ فِيْهِ النَّارَ ، وَطَرَحَ فِيهِ النِّفْطَ وَالْقَصَبَ والْقَطِرَانَ ، وَعَرَضَهُمْ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ ، فَمَنْ أبَى مِنْهُمْ أنْ يَتَهَوَّدَ دَفَعَهُ فِي النَّار ، وَمَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِ عِيسَى تَرَكَهُ. وَكَانَ فِي آخِرِهُمْ امْرَأةٌ مَعَهَا صَبيٌّ رَضِيعٌ ، فَلَمَّا رَأتِ النَّارَ صَدَّتْ ، فَقَالَ لَهَا الصَّبيُّ : يَا أُمَّاهُ قِفِي فَمَا هِيَ إلاَّ غُمَيْضَةٌ ، فَصَبَرَتْ فَأُلْقِيَتْ فِي النَّار ، وَارْتَفَعَتِ النَّارُ أرْبَعِينَ ذِرَاعاً ، فَأَحْرَقَتِ الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانوُا حَوْلَ الأُخْدُودِ.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا يَطْرَحُونَهُمْ فِي النَّار ، فَمَنْ أبَى مِنْهُمْ ضَرَبُوهُ بالسِّيَاطِ حَتَّى ألْقَوْهُمْ جَمِيعاً فِي النَّار ، فَأَدْخَلَ اللهُ أرْوَاحَهُمُ الْجَنَّةَ قَبْلَ أنْ تَصِلَ أجْسَامُهُمْ إلَى النَّار).
وعن وهب بن منبه ، (أن رجُلاً كان على دينِ عيسى ، فوقعَ في نجرانَ فدعاهُم فأجابوهُ ، فسارَ إليه ذو نُؤَاسٍ اليهوديِّ بجنُودهِ من حِميَرَ ، وخيَّرهم بين النار واليهوديَّة ، فخدَّ لهم الأخَادِيدَ وحرَّقَ اثنى عشرَ ألفاً). وقال الكلبيُّ : (كَانَ أصْحَابُ الأُخْدُودِ سَبْعِينَ ألْفاً).
ورُوي : أن اليهودَ لَمَّا ألقوا مَن كان على دينِ عيسى ، كان معهم امرأةٌ معَها ثلاثةُ أولادٍ أحدُهم رضيعٌ ، فقالَ لها الملِكُ : ارجعِي عن دينكِ وإلاَّ ألقيتُكِ وأولادَكِ في النار. فأَبَتْ. فأخذ ابنَها الأكبرَ فألقاهُ في النار ، ثم قالَ لها : ارجعِي عن دينكِ ، فَأَبتْ.
فأخذ ابنَها الثانِي فألقاهُ في النار ، ثم قالَ لها : ارجعِي عن دينكِ ، وأخذ الطفلَ منها ليُلقيَهُ في النار ، فهمَّتْ بالرُّجوع عن دينِها ، فقال لها الطفلُ : يا أماهُ لا ترجعِي عن الإسلامِ واصبرِي فإنَّكِ على الحقِّ ، فأُلقِيَ الطفلُ وأُمُّه في النار ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ } الأخدودُ : هي الْحُفَرُ المشقوقةُ في الأرضِ مستطيلةٌ وجمعها أخَادِيدُ ، يقال : خَدَدْتُ في الأرضِ ؛ أي شققتُ فيها حفرةً طويلة ، وعن عطيَّة قال : (خَرَجَتْ عُنُقٌ مِنَ النَّار فَأَحْرَقَتِ الْكُفَّارَ عَنْ آخِرِهِمْ).
(0/0)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } ؛ أي ذاتِ الحطَب والنفطِ. قِيْلَ : أرادَ بالوقُودِ أبدانَ الناسِ ، وقولهُ تعالى : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } ؛ جمعُ قاعدٍ مثل شَاهِدٍ وشُهودٍ ، وكان الكفارُ قُعوداً على شَفِيرِ الأُخدودِ على الكراسِي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } ؛ أي وهم على ما يفعلهُ الْجَلاَوزَةُ الذين كانوا يُلقون المؤمنين في النار شهودٌ ؛ أي حضورٌ يرَون ذلك منهم.
(0/0)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ؛ فيه بيانُ ما لأجلهِ قصَدُوا إحراقَ المؤمنين ، ومعناهُ : وما طَعَنُوا وما أنكَرُوا عليهم شيئاً إلاَّ إيمانَهم باللهِ المنيعِ بالنِّقمة مِمَّن عصاهُ ، المستحقُّ للحمدِ على كلِّ حالٍ ، والمعنى : ما عَلِمُوا منهم عَيباً وما وجَدُوا لهم جُرماً ولا رأوا منهم سُوءاً إلاَّ من أجلِ أن يُؤمِنوا باللهِ العزيزِ الحميدِ ، { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ الذي له القدرةُ على أهلِ السَّموات والأرضِ ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؛ أي عالِمُ بجزاءِ كلِّ عاملٍ بمَا عَمِلَ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ؛ أي إنَّ الذين أحرَقُوا وعذبوا المؤمنين ، { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } ؛ من ذلكَ ، { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } ؛ في الآخرةِ ، { وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } ؛ الذي أصابَهم في الدُّنيا ، يقال : فَتَنْتُ الشيءَ إذا أحرقتُهُ ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ }[الذاريات : 13]. وَقِيْلَ : أرادَ بالفتنةِ الامتحانَ ، وهو قولُهم للمؤمنين : إنْ رجَعتُم عن الإيمانِ وإلاَّ قذفناكم في النار ، وهذا هو الإكراهُ ، وهو من أعظمِ الفتن في باب الدِّين.
وفي الآية تنبيهٌ على أنَّ هؤلاءِ الكفَّارَ لو تابُوا بعدَ الكفرِ والقتلِ لقُبلَتْ توبتُهم ، وفيه دليلٌ أيضاً على أنَّ الأَولى بالْمُكْرَهِ على الكفرِ أنْ يصبرَ على ما خُوِّفَ به ، وإنْ أظهرَ كلمةَ الكُفرِ كالرُّخصة له في ذلك ، ولو صبرَ حتى قَُتل كان أعظمَ لأجرهِ ، لأنه تعالى أثْنَى على الذين قُتلوا في الأخدودِ ، وبيَّن أن لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنْهارُ ، قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ }؟
(0/0)
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } ؛ ابتداءُ كلامٍ من الله ، ويقال إنَّهُ جوابُ القسَمِ المذكور في أوَّل السُّورة ، ويقال : جوابُ القسَمِ محذوفٌ ؛ تقديرهُ : والسَّماءِ ذات البُروجِ لتُبعَثُنَّ يومَ القيامةِ ولتُجزَونَ على أعمالِكم. والبطشُ في اللغة : هو الأخذُ بالعنُفِ على سبيلِ القدرة والقوَّة ، وفيه تخويفٌ لكلِّ مَن أقامَ على الكفرِ.
(0/0)
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } ؛ أي يخلقُ الخلقَ أوَّلاً من النُّطفة ويعيدُهم بعد الموتِ خَلقاً جديداً ، { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } ؛ أي هو كثيرُ التَّجاوُز والسَّتر على عبادهِ ، كثيرُ الْمَحبَّةِ للمؤمنين بإحسانهِ عليهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } ؛ أي ذُو التَّشريفِ. والمجيدُ في اللغة : هو العظيمُ الكريم لِمَا يكونُ فيه مِنَ الخيرِ ، قرأ حمزةُ والكسائي وخلَف (الْمَجِيدِ) بالخفضِ نَعتاً للعرشِ ، وقرأ غيرُهم بالرفعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ؛ أي يفعلُ ما يشاء لا يدفعهُ دافعٌ ، ولا يمنعهُ مانعٌ.
(0/0)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ } ؛ أي هل بلغَكَ - يا مُحَمَّدُ - حديثُ الجمُوعِ من الكفَّار كيف فعَلُوا ؟ وكيف فعلَ اللهُ بهم ؟ وهذا استفهامٌ بمعنى التقريرِ. ثم بيَّن أولئِكَ الجنودَ فقالَ تعالى : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } ؛ وإنما خصَّ فرعون وثَمود بالذِّكر وهم بعضُ الجنودِ ؛ لاختصاصهم بكثرةِ العدَدِ والعُدَد.
(0/0)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } ؛ معناهُ : بل هؤلاءِ المشركون في تكذيبٍ بك وبما أُنزِلَ إليك عن ما أوجبَ الاعتبارَ بفرعون وثَمود ، كأنه تعالى يقولُ : قد ذكَرنا أمثالَ مَن قبلكم مِنَ المكذِّبين وما حلَّ بهم من النِّقمة ؛ ليعتبرُوا ويرتدعوا ، فلم يفعَلُوا بل هم في تكذيبٍ.
(0/0)
وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } ؛ أي وعِلمُ الله محيطٌ بهم ، وقدرتهُ مشتملةٌ عليهم ، { بَلْ } ؛ هذا الذي أتَى به مُحَمَّدٌ ، { هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } ؛ أي شريفٌ كريم ليس كما يزعُمون أنه سحرٌ وشعرٌ وكهانةٌ أو أساطيرُ الأوَّلين ، ولكنَّه ؛ { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } ؛ عندَ الله وهو أُمُّ الكتاب.
قرأ نافعُ (مَحْفُوظٌ) بضمِّ الظاء ، نعتُ القرآنِ ، وقرأ الباقون بالخفضِ على نعت اللُّوح ، فمَن جعلَ قولَهُ تعالى { مَّحْفُوظٍ } للقرآنِ فمعناهُ محفوظٌ من الزِّيادة والنُّقصان والتبديلِ والتغيُّر ؛ لأنه معجِزٌ لا يقدرُ أحدٌ أن يزيدَ فيهن وعن ابنِ عبَّاس أنه قال : ((إنَّ فِي صَدْر اللَّوْحِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَدِينُهُ الإسْلاَمُ ، وَمُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، فَمَنْ آمَنَ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصَدَّقَ وَعَبَدَهُ وَاتَّبَعَ رَسُولَهُ ، أدْخَلَهُ الْجَنَّةَ)).
قال : ((وَاللَّوْحُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ ، طُولُهَا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَعَرْضُهَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِب ، حَافَّتَاهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ ، وَدَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكَلاَمُهُ نُورٌ مَعْقُودٌ بالْعَرْشِ ، وَأصْلُهُ فِي حِجْرِ مَلَكٍ مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ)) ، وبالله التوفيقُ.
(0/0)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
{ وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ } ؛ أوَّلُ السُّورة قَسَمٌ ، وجوابُهُ { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }. والطارقُ كلُّ ما يأتِي لَيلاً ، يعني بذلك النَّجمَ يظهرُ لَيلاً ويخفى نهاراً ، وكلُّما جاءَ ليلاً فهو طارقٌ ، ومنه حديثُ جابرٍ : " نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَطْرُقَ الْمُسَافِرُ أهْلَهُ لَيْلاً ، وَقَالَ : حَتَّى تَسْتَحِدَّ الْمَعِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعْثَةُ " وقالت هندُ : نَْحْنُ بَنَاتُ طَارقْ نَمْشِي عَلَى النَّمَارقْتريدُ : إنَّ النَّجمَ أتَانا يومَ أحُد في شَرفهِ وعلُوِّه. وقال ابنُ الرُّومي : يَا رَاقِدَ اللَّيل مَسْرُوراً بَأَوْلِهِ إنَّ الْحُوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أسْحَارَالاَ تَفْرَحَنَّ بلَيْل طَابَ أوَّلُهُ فَرُبَّ آخِر لَيْل أجَّجَ النَّارَا
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ } ؛ تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من شأنهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّجْمُ الثَّاقِبُ } ؛ تفسيرٌ للطارقِ ، والثاقبُ : وهو النَّيِّرُ المضيءُ من النجومِ كلِّها ، وعن ابنِ عبَّاس : (ثُقُوبُهُ تُوقِدُهُ بنَارهِ كَأَنَّهُ ثَقَبَ مَكَاناً فَظَهَرَ). ويقالُ : ثقَبَ النارَ فتثقَّبَتْ اذا أضَأْتَها فأضَاءَتْ ، أثْقِبْ نَارَكَ ، أي أضِئْهَا ، ويقالُ معناه : الثاقِبُ العالِي الشديد العلُوِّ ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ في هذه الآية : (زُحَلُ يَطْرُقُ مِنَ السَّمَاءِ السَّابعَةِ باللَّيْلِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَيَخْتَفِي عِنْدَ الصُّبْحِ). وقال مجاهدُ : ((الثَّاقِبُ : الْمُتَوَهِّجُ)). وقال عطاءُ : ((الثَّاقِبُ هُوَ الَّذِي تُرْمَى بهِ الشَّيَاطِينُ فَتُحْرِقُهُمْ)).
(0/0)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } ؛ (مَا) هنا صلةٌ كما قال تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ }[آل عمران : 159] أي فبرَحمَةٍ من اللهِ ، والمعنى : إنْ كلُّ نفسٍ لعَلَيها حافظٌ من الملائكةِ يحفَظُها ويحفظُ عليها عملَها وأجَلَها ، حتى إذا انتهَى إلى المقاديرِ كُفَّ عن الحفظِ.
وقرأ الحسنُ وابنِ عامرٍ وعاصم وحمزةُ بالتَّشديد ، يعنُون ما كلُّ نفسٍ إلاَّ عليها حافظٌ ، وهي لغةُ هُذيل ، يقولون نَشدتُكَ اللهَ لَمَّا قُلتَ ، يعنون إلاَّ قُلتَ ، قال ابنُ عبَّاس : ((هُمُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ)). قال الكلبيُّ : ((مَعْنَاهُ حَافِظٌ مِنَ اللهِ يَحْفَظُ قَولَهَا وَفِعْلَهَا)).
وعن أبي أُمامة قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وُكِّلَ بالْمُؤْمِنِ مِائَةٌ وَسُتُّونَ مَلَكاً يَذُبُّونَ عَنْهُ مَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، مِنْ ذلِكَ الْبَصَرُ سَبْعَةُ أمْلاَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ كَمَا يَذُبُّ الرَّجُلُ الذُّبَابَ عَنْ قَصْعَةِ الْعَسَلِ ، وَلَوْ وُكِّلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ ".
(0/0)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ } ؛ أي مِن أيِّ شيءٍ خلقَهُ اللهُ في رحِم أُمِّه ، ثم بيَّن ذلك فقالَ : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } ؛ أي مدفُوقٍ مَصْبُوبٍ مُهرَاقٍ في رحمِ المرأة ، يقال : سِرٌّ كاتمٌ ؛ أي مكتومٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ } ؛ يعني ماءَ الرجُلِ وماءَ المرأةِ ؛ لأن الولدَ مخلوقٌ منهما ، فماءُ الرجُلِ من صُلبهِ ، وماءُ المرأة من تَرائبها.
والترائبُ : جمعُ التَّرِيبَةِ وهو موضعُ القلادةِ من الصَّدر ، وهي أربعةُ أضلاعٍ من يُمنَةِ الصدر ، وأربعةُ أضلاعٍ من يُسرَةِ الصَّدر ، وسُئل عكرمةُ عن الترائب فقالَ : ((هَذِهِ ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرهِ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ)).
(0/0)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } ؛ أي إنَّه على إحياءِ الإنسان بعدَ الموتِ والبلَى لقادرٌ ، وعن مجاهدٍ معناه ((إنَّهُ عَلَى رَدِّ ذلِكَ الْمَاءِ إلَى الإحْلِيلِ كَمَا كَانَ لقَادِرٌ)) كأنهُ يقولُ : إنَّهُ على ردِّ الإنسان من الكِبَرِ إلى الشَّباب ، ومن الشَّباب إلى الصِّبا ، ومن الصِّبا إلى النُّطفة ، ومن النُّطفة إلى الإحليلِ ، ومن الإحليلِ إلى الصُّلب قادرٌ ، فكيف لا يقدرُ على إحيائهِ بعدَ الموتِ.
ثم أخبرَ متى يكون البعثُ ، فقالَ تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ } ؛ أي استعدُّوا ليومٍ تظهرُ فيه سرائرُ الضمائرِ التي لم يطَّلع عليها أحدٌ من البشرِ ، وَقِيْلَ : أراد بالسَّرائر الأعمالَ التي أسَرَّها العبادُ فلم يُظهِرُوها ، يُظهِرُها اللهُ تعالى يومَ القيامةِ.
(0/0)
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } ؛ أي فما للإنسان يومئذٍ من قوَّةٍ يَدفعُ بها عذابَ اللهِ عن نفسهِ ، ولا ناصرٍ ينصرهُ ويُعِينهُ.
(0/0)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ * وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ } ؛ أقسَمَ اللهُ بالسَّماء الراجعةِ في كلِّ عامٍ بالمطرِ بعدَ المطرِ على قدر الحاجة ، حاجةِ العباد إليه ، وبالأرضِ الصَّادعة عن النباتِ الذي هو قوتُ الخلائقِ ، إنَّ القرآنَ حقٌّ يفصلُ به بين الحقِّ والباطلِ ، وليس هو باللَّعب.
والمعنى : { وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ } بالغيب وأرزاقِ العباد كلَّ عامٍ ، لولا ذلك لَهَلكُوا أو هلَكت مواشيهم ، { وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ } ؛ أي تتصدَّعُ عن النباتِ والأشجار والأنْهَار ، نظيرهُ{ ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً }[عبس : 26-27] إلى آخرهِ. قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } ؛ أي إنَّ القرآنَ حقٌّ وجِدٌّ يفصلُ بين الحقِّ والباطلِ ، { وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ } ؛ أي وما هو باللَّعِب والباطلِ.
(0/0)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً } ؛ يعني كفارَ مكَّة يريدون الإيقاعَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرُ ، وذلك أنُّهم تواطَئُوا على قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأعلمَ الله نبيَّهُ أنه يجازيهم جزاءَ كيدِهم ، فذلك معنى قولهِ تعالى { وَأَكِيدُ كَيْداً }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } ؛ أي أجِّلهُم وأنظِرهُم ، ولا تَعجَلْ في طلب هلاكهم ، فإنَّ الذي وعدتُكَّ فيهم غيرُ بعيدٍ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } أي أجِّلْهُم أجَلاً قليلاً ، فقَتَلهم اللهُ تعالى يومَ بدرٍ ، و { رُوَيْداً } كلامٌ مبنيٌّ على التصغيرِ ، ويقال : أرُوَدْيَةَ ، وقد يوضعُ (رُوَيْدَ) موضعَ الأمرِ ، يقالُ : رُوَيْدَ زَيداً ؛ أي أرودْ زَيداً أو أصلهُ من رَادَتِ الرِّيحُ تَرُودُ رَوَدَاناً ؛ إذا تحرَّكت حركةً خفيفة ، ويجوزُ أن يكون (رُوَيْداً) منصوبٌ على المصدر ، كأنه قالَ : أرْودْهُمْ رُوَيداً. وبالله التوفيقُ.
(0/0)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ والأُمَّةُ داخلون معَهُ في هذا الخطاب ، والمعنى : صَلِّ لربكَ ونَزِّهْهُ عن كلِّ ما لا يليقُ به من الصِّفاتِ ، وقُل : سُبحانَ ربيَ الأعلَى. وقد يُذكر الاسمُ ويراد به تعظيمُ المسمَّى ، كما قال الشاعرُ : إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقَدِ اعْتَذرْوقال قومٌ : معناهُ : نَزِّهْ ربَّكَ الأعلَى عمَّا يقولُ فيه الملحِدُون ويصفهُ به المشرِكون ، وجعَلُوا الاسمَ صفةً. ويجوز أنْ يكون معناهُ : نَزِّهِ اللهَ عن إجرائهِ على غيرهِ ، وكان عليٌّ وابنُ عبَّاس وابنُ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ إذا قَرَأ أحَدُهُمْ بهَذِهِ السُّورَةِ قَالَ : ((سُبْحَانَ رَبيَ الأَعْلَى)) ، والأعلَى من صفاتِ الله بمعنى العَليِّ مثل الأكبرِ بمعنى الكبير ، وليس هذا من علُوِّ المكانِ وإنما معناهُ القاهرُ القادرُ ، فلا شيءَ أقدرُ منه.
(0/0)
الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
قوله تعالى : { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى } ؛ أي خلقَ الإنسانَ وكلُّ ذي روحٍ ، فسوَّى خلقَهُ باليدَين والرِّجلين والعينَين والأُذنين وسائرِ الأعضاء ، وعدَّلَ الخلقَ. وقولهُ تعالى : { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } ؛ أي قدَّرَ الذي خلقَهُ حَسَناً وذميماً ، وقدَّرَ عليه السعادةَ والشقاوةَ ، فهدَى كلَّ مكلَّف من الضَّلالِ إلى الهدى ، ومن الباطلِ إلى الصواب ، ومن الغَيِّ إلى الرَّشاد. وَقِيْلَ : هدَى الإنسان لسبيلِ الخير والشرِّ ، وبصَّرَهُ السبيلَ إمَّا شَاكراً ، وإما كفوراً.
وَقِيْلَ : ألْهَمَ كلَّ حيوانٍ ما يحتاجُ إليه في أمرِ معيشته ، وعرَّفَهُ كيف يأتِي الذكرُ الأنثَى ، وجعلَ الهدايةَ في قلب الطفل حتى طلبَ ثديَ أُمِّه ، وميَّزه من غيرهِ ، وهدَى الفرخَ لطلب الرزق ، وهدى الأنعامَ لمراتعِها. وَقِيْلَ : معنى قولهِ { وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } أي قدَّرَ مدَّة الجنين في الرحمِ تسعةَ أشهر ، أو أقلَّ أو أكثرَ ، فهدى للخروجِ من الرَّحِم. وَقِيْلَ : قدَّرَ الأرزاقَ وهداهم لطلبها. وَقِيْلَ : الذنوبَ على عبادهِ وهَدَاهُم للتوبة. وَقِيْلَ : قدَّرَ الخلقَ على صُوَرهم ، وعلى ما جرَى لهم من الأرزاقِ ، فهَدَاهُم إلى مَعرفةِ توحيدهِ. قرأ الكسائيُّ والسلمي (قَدَرَ فَهَدَى) مخفَّفاً.
(0/0)
وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى } ؛ أي أنبتَ الكلأَ الأخضر بالمطرِ للبهائم ، ثم ، { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى } ؛ معناهُ : فجعل النبتَ بعد الْخُضرَةِ هَشيماً يابساً بَالياً كالغُثاء الذي يقذفهُ السَّيل على جنَبات الوادِي ، وقولهُ تعالى : { أَحْوَى } أي أسودَ ، وقد يدخلُ النبت الأحوَى لحاجةِ البهائم إليه ، وقد يكون حَطباً للناسِ ، وهذا كلُّه إخبارٌ عن قدرةِ الله تعالى وإنعامِه على العبادِ.
(0/0)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى } ؛ أي سيُقرِؤكَ جبريلُ القرآنَ بأمرِنا فلا تنساهُ ، فلم ينسَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حَرفاً من القرآنِ بعد نُزول هذه الآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } ؛ أي إلاَّ ما شاءَ الله أن تنساهُ ، وهو ما نُسِخَتْ تلاوتهُ ، فنأمُرك ألاَّ تقرأهُ حتى تنساهُ على وجهِ الأيام ، وهذا نيسانُ النَّسخ دون التضييعِ.
وَقِيْلَ : إلاَّ ما شاء اللهُ أن تنساهُ ثم تذكره بعد ذلكَ. وَقِيْلَ : إنما ذكرَ الاستثناءَ لتحسين النَّظمِ على عادةِ العرب ، تذكرُ الاستثناءَ عُقيب الكلامِ وهو كقوله تعالى{ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ }[الأنعام : 128] ربُّك ، معلومٌ أنَّ اللهَ تعالى لم يشَأْ إخراجَ أهلِ الجنة من الجنَّة ولا إخراجَ أهلِ النار من النار ، ولكن الماردَ به ما ذكرناهُ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } أي يعلمُ ما يقرؤهُ العباد من القرآنِ ، وما يذكرونَهُ من الذِّكر في سرٍّ أو جهرٍ. وَقِيْلَ : يعلمُ العلانيةَ من القولِ والعمل ، ويعلمُ السرَّ وما يحدِّثُ الإنسان نفسَهُ بعده ، ويعلمُ إعلانَ الصَّدقة وإخفاءَها.
(0/0)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى } ؛ أي نيَسِّرُكَ لعملِ الجنَّة ، ونوفِّقُكَ للشَّريعة السهلةِ وهي الحنيفيَّة السَّمحَةُ ، { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى } ؛ أي عِظْ بالله إنْ نفعَتِ المواعظُ ، وليس على وجه الشَّرط ، فإنَّ الموعظةَ تنفعُ لا محالةَ.
(0/0)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
وقولهُ تعالى : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } ؛ أي سيتَّعظُ بالقرآن مَن يخشَى عذاب اللهِ ، { وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى } ؛ أي يتجنبُ التذكُّر والعظَةَ ويتباعَدُ عنها الأشقى في علمِ الله فلا يتذكرُ ثواباً.
وروي أن المرادَ بقوله { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى } : عبدُالله بن أُمِّ مكتومٍ ، ويدخلُ فيه كلٌّ مؤمنٍ ، والمرادَ بالأشقَى الذي يتجنَّبُ الموعظةَ الوليدُ بن المغيرةِ ، ويدخلُ فيه كلٌّ كافرٍ.
(0/0)
الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى } ؛ وهي السُّفلى من أطباقِ النار ، وَقِيْلَ : سُمِّيَتْ نارُ جهنَّم النارَ الكبرى ؛ لأنَّها أعظمُ من هذه النار ، كما رُوي في التفسيرِ : أنَّ نارَ الدُّنيا جزءٌ من سَبعين جزءٍ من نار جهنَّم ، ولقد غُمِست في البحرِ مرَّتين حتى لانَتْ ، ولولا ذلك ما انتفعَ بها أحدٌ. وروي : أن نارَ الدُّنيا تستجيرُ أن يَردَّها اللهُ إلى نار جهنَّم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } ؛ أي لا يموتُ مَوتاً فيستريحُ من عذابها ، ولا يحيَا حياةً يجدُ فيها روحَ الحياةِ.
(0/0)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى } ؛ أي صارَ إلى البقاءِ الدَّائم والنعيمِ المقيم مَن تزَكَّى بالإسلامِ والتَّوبة من الذنوب ، والمعنى : قد أفلحَ من تطهَّرَ من الشِّرك وقالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وكان عمَلهُ زَاكياً صالحاً ، وأدَّى زكاةَ مالهِ ، { وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى } ؛ أي وافتتحَ الصَّلاة بذكرِ اسم الله ، وصلَّى الصلواتِ المفروضات ، وكان ابنُ مسعودٍ يقولُ : ((رَحِمَ اللهُ امْرِءاً تَصَدَّقَ ثُمَّ صَلَّى ، ثُمَّ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ)).
وَقِيْلَ : معناهُ : قد أفلحَ من أدَّى زكاةَ الفطرِ ثم صلَّى صلاةَ العيدِ ، ويستدلُّ بهذه الآية على جواز افتتاحِ الصَّلاة بغيرِ التَّكبيرِ ؛ لأنه تعالَى ذكرَ الصَّلاة عُقيب اسمهِ ، إذِ الفاءُ للتَّعقيب من غير تراخٍ ، فلا فصلَ في الآيةِ بين التكبيرِ وبين سائرِ الأركان.
(0/0)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ؛ قرأ العامَّة بالتاء ، كذلك قراءةُ ابنِ كعبٍ : (بَلْ أنْتُمْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) ، والخطابُ للكفار ؛ كأنه قال : بل أنتم أيُّها الكفارُ تختَارون الدُّنيا على الآخرةِ ، وقرأ أبو عمرٍو (يُؤْثِرُونَ) بالياء يعني الأشقياء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ؛ أي ثوابُ الآخرةِ خيرٌ من الدنيا وما فيها وأدومُ. وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ " إلاَّ " كَرَجُلٍ أدْخَلَ إصْبعَهُ فِي الْيَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ".
(0/0)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى } ؛ أرادَ به قولَهُ تعالى{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى }[الأعلى : 14-15] كما هو في القرآنِ ، ويقال : مذكورٌ في الصُّحف الأُولى : أنَّ الناسَ يُؤثِرون الحياةَ الدُّنيا ، وأن الآخرةَ خيرٌ وأبقَى ، أرادَ به السُّورة كلَّها.
(0/0)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } ؛ قال قتادةُ : ((تَتَابَعَتْ كُتُبُ اللهِ تَعَالَى أنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأبْقَى)). ويقال : إن في صُحف إبراهيمَ : ((ينبغِي للعاقل أنْ يكون حَافظاً للسانهِ عارفاً بزمانه مُقبلاً على شأنهِ)).
وقال أبُو ذرٍّ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَمِ الأَنْبيَاءُ ؟ فَقَالَ : " مِائَةُ ألْفِ نَبيٍّ ، وَأرْبَعَةٌ وَعُشْرُونَ ألْفَ نَبيٍّ " قُلْتُ : كَمِ الْمُرْسَلُونَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ ".
قُلْتُ : أكَانَ آدَمُ نَبيّاً ؟ قَالَ : " نَعَمْ كَلِمَةُ اللهِ ، وَخَلَقَهُ اللهُ بيَدِهِ. يَا أبَا ذرٍّ أرْبَعَةٌ مِنَ الأَنْبيَاءِ مِنَ الْعَرَب : هُودُ وَصَالِحُ وَشُعَيْبُ وَنَبيِّكُ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَمْ أنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ ؟ قَالَ : " مِائَةٌ وَأرْبَعَةُ كُتُبٍ ، مِنْهَا عَلَى آدَمَ عَشْرُ صَحَائِفَ ، وَعَلَى شِيتٍ خَمْسُونَ صَحِيفَةً ، وَعَلَى آخْنُوخَ وَهُوَ إدْريسُ ثَلاَثُونَ صَحِيفَةً ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ خَطَّ بالْقَلَمِ ، وعَلَى إبْرَاهِيمَ عَشْرُ صَحَائِفَ ، وَالتَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ وَالزَّّبُورُ وَالْفُرْقَانُ " ".
(0/0)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } ؛ أي قد أتاكَ حديثُ الغاشيةِ ، يعني القيامةَ تغشَى كلَّ شيءٍ بالأهوال ؛ لأنَّها داهيةٌ تغشَى جميعَ الناسِ ، وقال سعيدُ بن جبير : ((أرَادَ بالْغَاشِيَةِ نَارَ جَهَنَّمَ تَعُمُّ أهْلَهَا مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِب ، وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ)).
(0/0)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } ؛ أي وجوهٌ يومَ القيامة خاشعةٌ ذليلة ، وهي وجوهُ الكفَرَةِ والمنافقين في الآخرةِ ، { عَامِلَةٌ } ؛ أي تُجَرُّ في النار على وجُوهها ، { نَّاصِبَةٌ } ؛ أي في تعَبٍ وعناء ومشقَّة وبلاءٍ من مُقاساتِ العذاب ، قال الحسنُ : ((لَمْ تَخْشَعْ للهِ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ تَعْمَلْ لَهُ ، فَأَخْشَعَهَا فِي الآخِرَةِ وَأعْمَلَهَا وَأنْصَبَهَا بمُعَالَجَةِ الأَغْلاَلِ وَالسَّلاَسِلِ)). وقال قتادةُ : ((تَكَبَّرَتْ فِي الدُّنْيَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ ، فَأَعْمَلَهَا وَأنْصَبَهَا فِي النَّار)). وقال الضحَّاك : ((يُكَلَّفُونَ ارْتِقَاءَ جَبَلٍ مِنْ حَديدٍ فِي النَّار)).
والنَّصَبُ : الدَّأبُ فِي العملِ ، وقال عكرمةُ والسديُّ : ((عَامِلَةٌ فِي الدُّنْيَا بمَعَاصِي اللهِ ، نَاصِبَةٌ فِي النَّار يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وقال سعيدُ بن جبير : ((هُمُ الرُّهْبَانٌ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ الَّذِينَ يَتْعَبُونَ وَيَنْصَبُونَ فِي الْعِبَادَةِ ، ثُمَّ لاَ يَخْلصُونَ فِي الآخِرَةِ مِنْ ذلِكَ عَلَى شَيْءٍ لِوُقُوعِ ذلِكَ عَلَى غَيْرِ مُوَافَقَةِ الْعِلْمِ)). ويقالُ : همُ الخوارجُ. ويقال : المرادُ به كلُّ مَن عمِلَ عَملاً ، وخلَطَ بعملهِ ما يُبطِلهُ من ربَا أو شركٍ أو عُجب.
(0/0)
تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً } ؛ أي تلزَمُ ناراً قد انتهَى حرُّها ، قال ابنُ مسعود : ((يَخُوضُ فِي النَّار كَمَا تَخُوضُ الإبلُ فِي الْوَحْلِ)).
قرأ العامَّة (تَصْلَى) بفتحِ التاء ، وقرأ أبو عمرٍو ويعقوب وأبو بكر بضمِّها اعتباراً بقوله : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } ؛ أي من عَين متناهيةٍ في الحرِّ ، قال الحسنُ : ((قَدِ انْتَهَى طَبْخُهَا مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ إلَى تِلْكَ السَّاعَةِ)).
(0/0)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } ؛ قال مجاهدُ وعكرمة وقتادة : ((وَهُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لاَطِئٍ بالأَرْضِ ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشِّبْرِقُ حين يكون رطباً ، فَإذا يَبسَ فَهُوَ الضَّرِيعُ)) يَصِيرُ عِنْدَ الْيُبْسِ كَأَظْفَار الْهِرَّةِ سُمّاً ، لاَ تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ وَإنَّمَا تَأْكُلُهُ الإبلُ فِي الرَّبيعِ مِنْ فَوْقِهِ. وقال ابنُ زيدٍ : ((أمَّا فِي الدُّنْيَا فَإنَّ الضَّرِيعَ الشَّوْكُ الْيَابسُ ، وَأمَّا فِي الآخِرَةِ فَهُوَ شَوْكٌ فِي النَّار)).
وقال الكلبيُّ : ((الضَّرِيعُ لاَ تَقْرَبُهُ دَابَّةٌ ، إذا يَبسَ لاَ يَرْعَاهُ شَيْءٌ)). وقال عطاءُ : ((هُوَ شَيْءٌ يَطْرَحُهُ الْبَحْرُ الْمَالِحُ تُسَمِّيهِ أهْلُ الْيَمَنِ الضَّرِيعُ)). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " الضَّرِيعُ شَيْءٌ يَكُونُ فِي النَّار يُشْبهُ الشَّوْكَ أمَرُّ مِنَ الصَّبرِ ، وَأنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ ، وَأشَدُّ حَرّاً مِنَ النَّار ، سَمَّاهُ اللهُ ضَرِيعاً ".
وقِيْلَ : إنَّ اللهَ يرسلُ على أهلِ النار الجوعَ حتى يعدلُ ما بهم من العذاب ، فيستَغيثون من الجوعِ فيُغاثون بالضَّريع ، ثم يستَغيثون فيُغاثون بطعامٍ ذِي غُصَّةٍ ، فيذكُرون أنَّهم كانوا يسلِكُون الغصصَ في الدُّنيا بالماءِ ، فيُسقَون فَيَعطشون ألفَ سنةٍ ، ثم يُسقَون من عينٍ آنية لا شربة هنيَّة ولا مريَّة ، فكلَّما أدنَوهُ من وجُوهِهم سلخَ جلودَ وجُوههم وسوَّدَها ، فإذا وصلَ إلى بطونِهم قطَّعَها ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }[محمد : 15].
فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المشرِكون : إنَّ إبلَنا لتسمَنُ على الضَّريع ، فأنزلَ اللهُ قولَهُ تعالى : { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } ؛ وكَذبوا ، فإن الإبلَ لا ترعاهُ إلاّ ما دامَ رَطْباً ، وأما إذا يبسَ فلا تقربهُ دابَّةٌ ، ورَطِبُه يُسمَّى شَبْرَقاً لا ضَريعاً ، والمعنى : لا يُسمَنُ مَن أكلَهُ ولا يسدُّ جوعةً.
(0/0)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } ؛ هذه صفةُ وجوهِ أهل الجنَّة يقول : وجوهُهم يومئذٍ نَضِرَةٌ حسنَةٌ جميلةٌ ، آثارُ النِّعمة عليها ظاهرةٌ ، وهي لعمَلها راضيةٌ بما أدَّاها إليه من الثواب والكرامة ، { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } ؛ أي مُرتفعة في القدْر والشَّرف.
(0/0)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } ؛ أي لا يسمَعُ أصحابُ تلك الوجوهِ كلمةً ذات لَفَقٍ ولا حِلفاً كَاذباً ولا كَلاماً باطلاً ، وذلك لأنَّ سماعَ ما لا فائدةَ فيه يثقلُ على العُقَلاء ، ولا يتكلَّمُ أهلُ الجنَّة إلاّ بالحكمةِ وحمدِ الله تعالى على ما رَزَقهم من النَّعيم المقيمِ.
(0/0)
فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } ؛ أي فيها لكلِّ إنسان في قصرهِ عينٌ جارية من كلِّ شرابٍ يشتهيهِ ، يجري إلى حيث يشاءُ على حسب إرادته ومحبَّتهِ.
(0/0)
فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } ؛ في الهواءِ رفيعةُ القدر بعضُها فوقَ بعضٍ ، من الذهب والفضَّة وغيرِ ذلك من الجواهر العظيمة ، عليها مِن الفُرُشِ والحجالِ. قال صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أُلْقِيَ مِنْ أعْلاَهَا فِرَاشٌ لَهَوَى إلى قَرَارهَا مِائَةَ خَرِيفٍ " والحكمةُ في ذلك الارتفاعِ أنْ يرى المؤمنُ بجلوسهِ عليها جميعَ ما خَوَّلهُ اللهُ من الْمُلكِ والنعمةِ.
(0/0)
وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } ؛ الأكوابُ : جمع كُوبٍ ، وهو الكوزُ الذي لا عُرَى له ولا خراطيمَ ، موضوعةٌ على حافَّة العينِ الجارية مُعدَّةٌ لأشربَتِهم وهو من اللُّؤلؤ الرطب على ما وردَ في الحديثِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } ؛ هي جمعُ نَمْرَقَةٍ ، وهي الوِسَادَةُ المنسوجةُ من قُضْبَانِ الذهَبِ المكلَّلة بالدُّرِّ والياقوتِ ، قد صُفَّ بعضُها إلى بعضٍ للراحة ورفع المنْزلِ ، قال الشاعرُ : كُهُولٌ وَشُبَّانٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَنَمَارقِ
(0/0)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } ؛ الزَّرَابيُّ هي الطَّنافسُ العجيبةُ ، واحدتُها زَريبَةٌ ، وهي البسُطُ العريضةُ ، والمبثوثةُ الكثيرة المبسوطة المفرَّقة في المجالسِ.
(0/0)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } ؛ فيه تنبيهٌ على قُدرة اللهِ تعالى ، يقول : أفَلاَ يَرَونَ إلَى الإبلِ مع عِظَمها وشدَّتِها كيف تبرُك إذا أُريدَ ركوبُها فتُحمَلُ عليها وتُركَبُ ، ثم تقومُ فيقودها الصغيرُ وينَخِّيها ويَحمِلُ عليها الحِمْلَ الثقيلَ وهي باركةٌ ، فتنهَضُ بثقلهِ دابةٌ بحملِها ((وليس ذلك في شيء من الحيوان) )إلا البعير.
وَقِيْلَ : في وجه اتصالِ هذه الآية بما قبلَها : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وصفَ للمشركين سُرُرَ أهلِ الجنة مع علُوِّها وارتفاعِها ، وأنَّها تنحطُّ لصاحبها إذا أرادَ صُعودَها ثم ترتفعُ ، استبعَدُوا ذلك ، فذكرَ الله ما يزيلُ استبعادَهم وكانوا أربابَ إبلٍ ، فأرَاهم دلائلَ توحيدهِ فيما في أيديهم.
وتكلَّمَت الحكماءُ في وجه تخصيصِ الإبل من بين سائرِ الحيوانات ، فقال مقاتلُ : ((لأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوا بَهِيمَةً قَطُّ أعْظَمَ مِنْهَا ، وَلَمْ يُشَاهِدُوا الْفِيلَ " إلاَّ " الشَّاذ مِنْهُمْ)). وقال الحسنُ : ((لأَنَّهَا تَأْكُلُ النَّوَى ، وَتُخْرِجُ اللَّبَنَ)). وَقِيْلَ : لأنَّها مع عِظَمها تلينُ للحملِ الثقيل وتنقادُ للقائدِ الضعيف يذهبُ بها كيفَ شاءَ.
وحكى الأُستاذ أبو القاسمِ بن حبيبٍ : أنه رأى في بعض التفاسيرِ : أنَّ فأرةً أخذت بزِمام ناقةٍ ، فجعلتِ الفارةُ تجرُّ الناقةَ وهي تتبَعُها حتى دخلت الجحرَ ، فجَرَّت الزمامَ فبَركت ، فجَرَّته فقرَّبت فمَها من جحرِ الفارةِ ، فسبحان الذي قدَّرها وسخَّرها وذلَّلَها.
وقال أبو عمرٍ : ((الإبلُ هِيَ السَّحَابُ ، وَهِيَ ألْيَقُ بما بَعْدُ مِنْ ذِكْرِ السَّمَاءِ وَالْجِبَالِ)) إلاَّ أنَّ هَذا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي اللُّغَةِ ، وإنما يقولون للسَّحاب : الإبلَّ بتشديدِ اللام.
(0/0)
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ } ؛ في الهواءِ فوق كلِّ شيء لا تنالُها الأيدِي ، بلا عمادٍ تحتها ولا علاَّقة فوقَها ، { وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ } ؛ فجعلها مرساةً مثبَّتة لا تزلزَلُ ، وفجَّر في أعلاها العُيونَ لمنافعِ الناس ، { وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ؛ أي بُسطت على وجهِ الماء. فالذي فعلَ هذه الأشياءَ قادرٌ على أن يخلُقَ نعيمَ الجنة بالصفاتِ التي ذكرَها.
قال أنسُ بن مالك : ((صَلَّيْتُ خَلْفَ عَلِيِّ بْنِ أبي طَالبٍ ، فَقَرَأ : (أفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبلِ كَيْفَ خَلَقَتُ ، وَإلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رَفَعْتُ * وَ... نُصَبْتُ * و... سَطَحْتُ) برَفْعِ التَاءِ)) ، وقرأ الحسنُ بالتشديدِ.
(0/0)
فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } ؛ أي عِظْهُم يا مُحَمَّدُ بالقرآنِ ، إنما أنتَ واعظٌ مبلِّغٌ { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } ؛ أي بمسلَّطٍ تُجبرهم على الإيمانِ ، وتَمنَعُهم عن الكفرِ ، وهذا كان من قبلِ آية القتلِ فنُسخ بها ، وتَسَيطَرَ الرجلُ إذا تسلَّطَ.
(0/0)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ } ؛ أي لكن مَن أعرضَ عن الإيمانِ وثبَتَ على كُفرهِ فَكِلْهُ إلى الله تعالى لستَ له بمذكِّر ؛ لأنه لا يقبلُ منكَ ، وسيعذِّبهُ الله في الآخرةِ بأعظمِ النيران ، وإنما قالَ ذلك لأنَّ من المعذبين مَن هو أشدُّ عذاباً من غيرهِ.
(0/0)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } ؛ أي طِبْ نَفساً يا مُحَمَّدُ وإنْ عانَدُوا وجحَدُوا ، فإنَّ إلينا مرجعَهم ؛ أي إلينا مرجعُهم وجزاؤُهم ، والإيَابُ : الرُّجُوعُ والمعادُ ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ؛ وإخراجَ ما لهم وعليهم حتى يظهرَ مقدارُ ما يستحقُّون من العذاب.
(0/0)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ } ؛ أقسَمَ اللهُ برَب الفجرِ ، والفجرُ : هو الصُّبْحُ الذي يطلعُ في آخرِ الليلِ ، وهو دلالةٌ على نِعَمِ اللهِ تعالى وعلى توحيدهِ ، وفي ذكرهِ حثٌّ على الشُّكر ، وترغيبٌ في إقامةِ صلاةِ الفجرِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَيالٍ عَشْرٍ } هنَّ عشرُ ذي الحجَّة ، شرَّفها اللهُ تعالى ، لتَسارُعِ الناس فيها إلى الخيراتِ والطاعات. وعن ابنِ عبَّاس : ((يَعْنِي الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ)). وَقِيْلَ : العشرُ الأوَّل من الْمُحَرَّمِ.
(0/0)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } ؛ الشَّفْعُ : هو يومُ النَّحرِ ، يُشْفَعُ بما قبلَهُ من الأيامِ من الشَّهْرِ. والوَتْرُ : يومُ عرفةَ أوترَ بما قبلَهُ من أيَّام الشهرِ. وعن الحسنِ وقتادة : ((أنَّ هَذا قَسَمٌ بالْخَلْقِ كُلِّهِمْ ، فَإنَّهُمْ شَفْعٌ وَوَتْرٌ)). وقال مقاتلُ : ((الشَّفْعُ آدَمُ وَحَوَّاءُ ، وَالْوَتْرُ هُوَ اللهُ تَعَالَى)). وقال مجاهدُ ومسروق : ((هُوَ الْخَلْقُ كُلُّهُ)) ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ }[الذاريات : 49] الكفرُ والإيمانُ ، والشَّقاوة والسعادةُ ؛ والسعادةُ ؛ والهدَى والضَّلالُ ؛ والليلُ والنهار ؛ والسماءُ والأرض ؛ والبَرُّ والبحرُ ؛ والشَّمسُ والقمرُ ؛ والجنُّ والإنس. والوَتْرُ هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الواحدُ الأحد الفردُ.
وَقِيْلَ : الشفعُ : صلاةُ الفجرِ ، والوَترُ : صلاةُ المغرب. وَقِيْلَ : الشفعُ : درجاتُ الجنَّات ؛ لأنَّها ثَمانِ ، والوَترُ : دركاتُ النار ؛ لأنَّها سبعٌ ، كأنه أقسمَ بالجنَّة والنار. وَقِيْلَ : الشفعُ : صفاتُ المخلُوقِين من العزِّ والذُّل ؛ والقدرةِ والعجزِ ؛ والقوَّة والضعفِ ؛ والعلمِ والجهل ؛ والبصر والعمَى ، والوَتْرُ : انفرادُ صفات الله تعالى ؛ عِزٌّ بلا ذلٍّ ؛ وقدرةٌ بلا عجزٍ ؛ وقوَّة بلا ضعفٍ ؛ وعلمٌ بلا جهل ؛ وحياة بلا موتٍ.
قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلف (وَالْوِتْرُ) بكسرِ الواو ، واختارَهُ أبو غُبيد ؛ لأنه أكثرُ في الكلامِ وأنشأ ، ومنه وترُ الصلاةِ ، ولم يسمع شيء من الكلام ، الوَترُ بالفتح ، وقرأ الباقون بالفتحِ وهي لغةُ أهلِ الحجاز.
(0/0)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّيلِ إِذَا يَسْرِ } ؛ قسَمٌ برب الليلِ إذا يسرِ بمُضِيِّه وانقضائهِ إلى طُلوع الفجرِ. ويقالُ : إنه أقسمَ بليلةِ المردلفة اذ أُسرِيَ فيها ، وعلى هذا قالَ بعضُهم : إن المرادَ بالفجرِ يومُ عرفةَ.
ووجهُ حذف الياءِ من (يَسْرِ) أنَّها رأسُ آيةٍ ، ورؤوسُ الآي كالفواصلِ من العشر. قرأ نافعُ وأبو عمرو بالياءِ في الوصل ، وقرأ ابنُ عامر وعاصم بحذفِها وَصلاً ووقفاً ، وقرأ ابنُ كثير ويعقوب بالياء في الحالتين.
(0/0)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } ؛ لفظهُ لفظُ استفهامٍ بمعنى التَّقرير ، يقولُ : بعدَ هذا الذي عُقِلَ قَسَمٌ ، والحِجْرُ : هو العقلُ ، وجوابُ القَسَمِ{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر : 14].
(0/0)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } ؛ ألم تعلم كيفَ صنعَ ربُّكَ بعادٍ وكيف أهلكَهم ، { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } ، وأما إرَمَ فهو صفةٌ لعادٍ ، هي عَادَان : عادٌ الأُولى وهي إرَمَ ، وعادٌ الآخرة. ولم يُصْرَفْ إرَمَ ؛ لأنَّها اسمٌ للقبيلةِ ، وكان إرمَ أبا عادين فنُسبوا إلى أبيهم. وَقِيْلَ : إن إرمَ كانت قبيلةً من عادٍ وكان فيهم الملكُ ، { الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَاتِ الْعِمَادِ } أي القامَات الطِّوالِ والقوَى الشدائد ، يقال رجلٌ مَعْمَدٌ ورجل عَمدَانٌ إذا كان طَويلاً قويّاً ، قال ابنُ عباس : ((كَانَتْ قَامَةُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ أرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، لَمْ يُخْلَقْ مِثلُهُمْ فِي زَمَانِهِمْ قُوَّةً وَخَلْقاً)). ويقال : إنه اسمُ مدينةِ ذات العماد والذهب والفضَّة ، بناها شدَّادُ بن عاد. والقولُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية ؛ لأنَّ الغرضَ بهذه الآية زجرُ الكفَّار ، وكان اللهُ بيَّن بإهلاكِهم مع قوَّتِهم أنه على أهلاك هؤلاء الكفار أقدرُ.
وقصَّة مدينة إرم ذات العماد ما روَى وهبُ بن منبه عن عبدِالله بن قُلابة : أنه خرجَ في طلب إبلٍ له شرَدت. فبينما هو في صحَارى عدَن ، إذ وقع على مدينةٍ في تلك الفَلَوات ، عليها حصنٌ وحولَ الحصنِ قصورٌ كثيرة وأعلامٌ طِوَال.
فلما دنَا منها ظنَّ أن فيها أحداً يسألهُ عن إبله ، فلم يرَ خارجاً ولا داخلاً ، فنَزل عن دابَّته وعقلَها ، وسلَّ سيفَهُ ودخلَ من باب الحصنِ ، فلما خلفَ الحصنَ وراءه إذ هو ببابَين عظيمين وخشبُهما من أطيب عود ، والبابان مرصَّعان بالياقوتِ الأبيض والأحمر ، ففتحَ أحدهما فإذا هو بمدنيةٍ فيها قصورٌ ، كلُّ قصر تحته أعمدَةٌ من زبرجد وياقوتٍ ، وفوق كلِّ قصر منها غُرَف ، وفوقَ الغرف غرفٌ مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤِ والياقوت ، ومصاريعُ تلك الغرف من أطيب عود مرصَّعة بالياقوتِ الأبيض والأحمر ، والغرفُ مفروشةٌ كلُّها باللؤلؤ والمسكِ والزعفران.
ثم نظرَ في الأزقَّة فإذا في كلِّ زُقاق شجرٌ مثمر ، وتحتَ الأشجار أنْهار مطَّردة ماؤُها في مجاري من فضَّة. فقال الرجلُ : هذه هي الجنَّة التي وصفَها اللهُ تعالى في كتابهِ ، فحملَ معه من لُؤلؤِها ومِسكِها وزعفرانِها ؛ ورجعَ إلى اليمنِ وأعلمَ الناس بأمرهِ.
فبلغَ معاويةَ فأحضرَهُ وسألَ كعبَ الأحبار : هل في الدُّنيا مدينةٌ من ذهب وفضَّة ؟ قال : نعم ، قال أخبرني مَن بنَاها ؟ قال : بناها شدَّادُ بن عاد ، واسمُ المدينةِ إرَمُ ذاتُ العمادِ ، وهي التي لم يُخلَقْ مثلُها في البلادِ. قال معاويةُ : فحدِّثني بحديثِها.
قال : يا معاويةُ إنَّ رجُلاً من عادٍ الأُولى كان له إبنان : شدَّاد وشديدُ ، كان قد قهرَ البلاد وأخذها عُنوةً ، وليس هو من قومِ هود ، وإنما عادٌ هو من ذريَّته ، فأقامَ شدَّادُ وشديد ما شاءَ الله أن يُقيما ، ثم ماتَ شديد وبقي شدَّاد ، فملَكَ وحده وتدانَتْ له ملوكُ الأرضِ ، وكان وَلِعاً بقراءة الكُتب.
(0/0)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ } ؛ معناهُ : ألَم ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بأصحاب ذاتِ العِمَادِ ، { وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ } وهم قومُ صالح ، كانوا يقطَعون الصخرَ ، وينحِتُون من الجبالِ بُيوتاً آمِنين بقُرب المدينةِ التي كانوا نازلين فيها ، ومعنى قوله { بِالْوَادِ } القُرى. قال أهلُ التفسير : أوَّلُ مَن جابَ الصَّخرَ ؛ أي قَطَعَ الصُّخورَ ، ونحتَ الجبال والرُّخام ثمودُ.
(0/0)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ } ؛ عَطفاً على ثمود. واختلَفُوا في معنى { ذِى الأَوْتَادِ } قال بعضُهم : معناهُ : ذو الجنودِ والْجُموعِ. وقال بعضُم : ذو الْمُلكِ الثابتِ ، وجنودهُ الذين كانوا يشدُّون أمرَهُ ، سُموا أوتَاداً ؛ لأنَّ قِوامَهُ بهم. ويقالُ : معناه : أنه كان إذا غَضِبَ على أحدٍ مدَّهُ على الأرضِ ، ووتَّدَ على رجليهِ ويديه ورأسهِ على الأرضِ بأربعة أوتادٍ حتى يموتَ مُمَدّاً كما فعلَ بأمرِ امرأته آسِّيَّةَ.
(0/0)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ } ؛ الذين أفرَطُوا في الظُّلم والفسادِ والكفر والقتلِ بغير حقٍّ ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } ؛ أي صبَّ عليهم لَوناً من العذاب. وَقِيْلَ : وجعَ عذابٍ. وَقِيْلَ : هذا على الاستعارةِ ؛ لأن السَّوطَ عند العرب غايةُ العذاب ، يقال سَاطََهُ يَسُوطُهُ سَوْطاً ؛ إذا خلطَهُ ، والسَّوطُ مما يخلطُ الدمَ واللحمَ.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ } ؛ أي بحيث يرَى ويسمع ، وقال مقاتلُ : ((يَجْعَلُ رُصَداً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَرْصُدُ النَّاسَ عَلَى الصِّرَاطِ مَعَهُمُ الْكَلاَلِيبُ)). وقال الضحاكُ : ((بمَرْصَدٍ لأَهْلِ الظُّلْمِ وَالْمَعْصِيَةِ)). وقال عطاءُ : ((مَعْنَاهُ : إنَّ رَبَّكَ لاَ يَفُوتُهُ أحَدٌ ، وَإنَّهُ لا مَحِيصَ عَنْهُ ، وَهُوَ عَالِمٌ بِهمْ وَإلَيْهِ الْمَصِيرُ)).
(0/0)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } ؛ معناهُ : فأمَّا الإنسانُ الذي لا يعرف نعمةً عليه عند سَعَةِ الرزقِ وتضييقه ، { فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ } ؛ فيقولُ عند السَّعة : ربي أكرمَنِي بالمالِ والسَّعة ، { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ } ؛ ويقولُ عند ضيق الرِّزق عليه إذا كان رزقهُ على مقدار البُلغَةِ ربي أهانَنِي بالفقرِ ، وضيق المعيشةِ ، وأذلَّني بذلك ، ولم يَشْكُرِ الكله على ما أعطاهُ من سَلامة الجوارحِ.
(0/0)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } ؛ أي حاشَا أن يكون إكرامُ الله لعبادهِ مَقصوراً على توسعةِ النِّعَمِ عليه ، وأن تكون إهانةُ اللهِ لعباده مقصورةٌ على تضييقِ الرزق عليهم ، بل يوسِّعُ الله تعالى النِّعَمَ على من يشاءُ على ما تقتضيه الحكمةُ. قالَ الحسنُ : ((أكْذبَهُمْ جَمِيعاً ؛ يَقُولُ : مَا بالْغِنَى أكْرَمْتُ ، وَلاَ بالْفَقْرِ أهَنْتُ)).
وقوله { كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ } معناهُ : لا يعرِفون حقَّ اليتيمِ بالعطيَّة والصدقة ، ولا يحفَظُون مالَهُ عليه ، وفي هذا بيانٌ أنَّ إهانةَ الله إنما تكون بالمعصيةِ لا بما توهَّمَ الكافرُ. وروي أنَّ هذه الآيات نزَلت في أُميَّة بن خلَف ، كان في حجرهِ يتيمٌ كان لا يحسنُ إليه ولا يعرفُ حقَّهُ.
ومعنى (كَلاَّ) ردٌّ عليه ؛ أي لم أبتليهِ بالغنى لكرامتهِ علَيَّ ، ولم أبتليهِ بالفقرِ لهوانهِ علَيَّ ، والفقرُ والغنَى من تقديرِي وقضائي ، فلا أكْرِمُ من أكرمتهُ بالغنَى ، ولا أهينُ من أهَنتهُ بالفقرِ ، ولكني أكرِمُ مَن أكرمتهُ بطاعتِي ، وأهين منَ أهنتهُ بمعصيتِي. قِيْلَ : معناهُ : أهَنتُ مَن أهنتُ من أجلِ أنه لم يكرِمِ اليتيمَ ، قال صلى الله عليه وسلم : " أنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَينِ فِي الْجَنَّةِ " وقال : " كَافِلُ الْيَتِيمِ كَالصَّائِمِ لاَ يُفْطِرُ ، وَكَالْقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ " وَ " مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأسِ يَتِيمٍ تَعَطُّفاً عَلَيْهِ ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا يَدُهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ " وقال عيسَى عليه السلام : ((الْفَقْرُ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا مَسَرَّةٌ فِي الآخِرَةِ ، وَالْغِنَى مَسَرَّةٌ فِي الدُّنْيَا مَشقَّةٌ فِي الآخِرَةِ)).
قرأ ابنُ عامرٍ (فَقَدَّرَ عَلَيْهِ رزْقَهُ) بتشديدِ الدال ، وهما لُغتان ، وكان أبو عمرو يقول : ((قَدِرَ بمَعْنَى قَتَّرَ ، وَقَدَّرَ هُوَ أنْ يُعْطِيَهُ مَا يَكْفِيهِ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } ؛ أي لا يحثُّون الناسَ على الصَّدقةِ على المساكينِ ، قال عمرانُ بن الْحُصَين : " مَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيباً إلاَّ وَحَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَنَهَى عَنِ الْمَسْأَلَةِ ".
(0/0)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
واختلفَ القرَّاءُ في هذه الآيةِ ، فقرأ أبو عمرٍو (يُكرِمُونَ) وما بعده بالياءِ كلها ، وقرأ الباقون بالتاءِ ، وقرأ أهلُ الكوفة (تَحَاضُّونَ) بالألفِ وفتح التاء ؛ أي يَحُضُّ بعضُهم على ذلكَ والتَّحَاضُّ : الحثُّ ، وروي عن الكسائي (تُحَاضُّونَ) بضم التاءِ.
(0/0)
وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } ؛ أي تأكُلون الميراثَ أكلاً شَديداً ؛ أي تلمُّون بجميعهِ من قولهم : لَمَمْتَ ما على الْخِوَانِ ؛ إذا أكلتَهُ أجمعَ ، قال الحسنُ : (هُوَ أنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ نَصِيبَ نَفْسِهِ وَنَصِيبَ صَاحِبهِ مِنَ الْمِيرَاثِ)). ويقال : أرادَ أكلَ ميراثِ اليتيمِ بغير حقٍّ ؛ لأنه هو الذي سبقَ ذِكرهُ ، ويقال : المرادُ أن يصرفَ ما ورثَهُ من نصيب نفسه إلى الباطلِ.
وفائدةُ تخصيصِ الميراث التَّنبيهُ به على حُكمِ غيرهِ ؛ لأنه إذا منعَ عن الأكلِ أحلَّ أموالَهُ بالباطلِ ، ففي أكلِ غير ذلك أولى ، ويقال معنى { أَكْلاً لَّمّاً } أي يأكلُ نصيبَهُ ونصيبَ غيرهِ ، قال بكرُ بن عبدالله : ((اللَّمُّ : الاعْتِدَاءُ فِي الْمِيرَاثِ ، يَأْكُلُ مِيرَاثَهُ وَمِيرَاثَ غَيْرِهِ)).
وقال ابنُ زيد : ((اللَّمُّ : الَّذِي يَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ يَجِدْهُ وَلاَ يَسْأَلُ عَنْهُ أحَلاَلٌ هُوَ أمْ حَرَامٌ ؟ وَيَأْكُلُ الَّذِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ ، وَذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا لاَ يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلاَ الصِّبْيَانَ)). وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ قَطَعَ مِيرَاثاً فَرَضَهُ اللهُ ، قَطَعَ اللهُ مِيرَاثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ".
(0/0)
وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً } ؛ أي حُبّاً كثيراً شَديداً ، لا تنفقونَهُ في سبيلِ الله ، تحرصون عليه في الدُّنيا ، وتعدِلون عن أمرِ الآخرة.
(0/0)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } ؛ معناهُ : كَلاَّ مَا هكذا ينبغي أنْ يكون الأمرُ ، فلا تفعَلُوا ذلك ، وانزَجِروا عنه وارتَدِعوا ، و(كَلاَّ) كلمةُ رَدْعٍ وزجرٍ ، ثم أوعدَهم فقال تعالى { إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ } أي ستَذكُرون وتندمون إذا زُلزلتِ الأرض ، قصرت بعضها ببعضٍ حتى استَوت الأرضُ ، وصارت كالصَّخرة الملساءِ ، وتكسَّرَ كلُّ شيءٍ على ظهرِها.
(0/0)
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } ؛ أي وجاء أمرُ ربكَ بالمجازاةِ والمحاسَبة ، والملائكةُ صُفوف صَفّاً بعدَ صفٍّ عند حساب الناس ، يشاهدون ما يجرِي عليهم ، ويقالُ : إن الملائكةَ يصُفون صَفّاً واحداً حولَ الجنِّ والإنس يُحيطون بهم.
(0/0)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } ؛ جاء في التفسيرِ : أنَّها تُقاد يومَ القيامة بسبعين ألفَ زمامٍ ، على كلِّ زمامٍ سبعين ألفَ ملَك ، لها تغيُّظٌ وزفيرٌ ، ويُكشَفُ عنها غطاؤُها حتى يراها العبادُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى }[النازعات : 36].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ } ؛ أي يتحسَّرُ ويندمُ على ما فاتَهُ لَمَّا رأى النارَ والعذاب ، { وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } ؛ أي ومِن أين له في ذلك الوقتِ توبةٌ تنفعهُ ، أو عِظَةٌ تُنجيه.
(0/0)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَقُولُ يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } ؛ أي يا لَيتَني عملتُ في حياتي الفانية لحياتي الباقيةِ ، { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } ؛ قراءة العامَّة بكسرِ الذال ، و(يُوثِقُ) بكسر الثاءِ ، معناهُ : لا يعذِّبُ كعذاب الله أحدٌ ، ولا يوثِقٌ كوثاقه أحدٌ.
وقرأ الكسائي ويعقوب بفتح الذال والثاء ، ومعناه : لا يعذبُ عذابُ الكفار الذي لم يقدِّموا لحياتِهم أحدٌ ، ولا يوثَقُ مثل وثاقهِ أحدٌ. قِيْلَ : إن هذا الإنسانَ المعذَّبَ أُميةُ بنُ خلَفٍ الْجُمَحِيُّ.
(0/0)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
قَوْلُهُ تَعـَالَى : { ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } ؛ المرادُ بها نفسُ المؤمنِ ، يقولُ لها الملائكةَُ عند قَبضِها ، وإذا أُعطيت كتابَها بيمينِها التي أيقنَت بأنَّ اللهَ ربُّها ، وعَرفت توحيدَها خالقها فاطمأنَّت بالإيمانِ وعمِلت للآخرةِ ، وصدَّقت بثواب الله ، { ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } ؛ ارجعِي إلى ما أعدَّ اللهُ لكِ من نعيمِ الجنة ، راضيةً عن اللهِ بالثواب ، مرضيَّةً عنده بالإيمانِ والعمل الصالحِ ، فادخُلي في جُملَةِ عبادي الصالِحين ، وادخُلي جنَّتي التي أُعِدَّت لكِ.
وقال مجاهدُ : ((مَعْنَاهُ : يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُنِيبَةُ الَّتِي أيْقَنَتْ أنَّ اللهَ خَالِقُهَا ، الْمُطْمَئِنَّةُ إلَى مَا وَعَدَ اللهُ ، الْمُصَدِّقَةُ بمَا قَالَ ، الرَّاضِيَةُ بقَضَاءِ اللهِ الَّذِي قَدْ عَلِمَتْ بأَنَّ مَا أصَابَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهَا ، وَمَا أخْطَأَهَا لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهَا). وَقِيْلَ : معناهُ : المطمئنَّةُ بذكرِ الله المتوكِّلة على اللهِ ، الواثقةُ بما ضَمِنَ لها من الرِّزقِ.
وعن عبدِالله بنِ عمرٍو بنِ العاصِ قال : " إذا تُوُفِّيَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ أرْسَلَ اللهُ مَلَكَيْنِ مَعَهُمَا تُحْفَةٌ مِنَ الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لِنَفْسِهِ : أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، أُخْرُجِي إلَى رَوْحٍ وَرَيْحَانٍ ، وَرَبٍّ عَنْكِ رَاضٍ. فَتَخْرُجُ كَأَطْيَب ريحِ الْمِسْكِ. فَتُشَيِّعُهَا الْمَلاَئِكَةِ فِي السَّمَاءِ ، َفَيَقُولُونَ : قَدْ جَاءَ مِنَ الأَرْضِ روحٌ طَيِّبَةٌ ، فَلاَ تَمُرُّ ببَابٍ إلاَّ فُتِحَ لَهَا ، وَلاَ بَمَلَكٍ إلاَّ صَلَّى عَلَيْهَا ، وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ : رَبَّنَا هَذا عَبْدُكَ فُلاَنٌ ، كَانَ يَعْبُدُكَ وَلاَ يُشْرِكُ بكَ شَيْئاً. فَيَقُولُ اللهُ : يَا مِيكَائِيلَ اذْهَبْ بهَذِهِ النَّفْسِ ، فَاجْعَلْهَا مَعَ أنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى أسْأَلَكَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ يَأْمُرُ بأَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ سَبْعِينَ ذِرَاعاً عَرْضُهُ ، وَسَبْعِينَ ذِرَاعاً طُولُهُ ، وَيُجْعَلُ لَهُ فِيْهِ نُوراً كَالشَّمْسِ ، وَكَانَ كَالْعَرُوسِ يَنَامُ فَلاَ يُوقِظُهُ إلاَّ أحَبُّ أهْلِهِ إلَيْهِ ، فَيَقُومُ مِنْ نَوْمِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْبَعْ مِنْهُ ".
وعن جعفرَ عن سعيدٍ قال : " قَرَأ رَجُلٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ { ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : مَا أحْسَنَ هَذا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ فَقَالَ : " يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ الْمَلَكَ سَيَقُولُهُ لَكَ " ".
(0/0)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
{ لاَ أُقْسِمُ بِهَـاذَا الْبَلَدِ } ؛ يعني مكَّة ، أقسَمَ اللهُ بها إعْظَاماً لها ، وحرف (لاَ) زائدةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـاذَا الْبَلَدِ } ؛ أي وأنتَ - يا مُحَمَّدُ - حِلٌّ بمكَّة ، يعني : وأنتَ مقيمٌ فيها ، وقيل : أنتَ حَلالٌ فيها ، تصنعُ ما تريدُ من القتلِ والأسرِ ، يعني : وأنتَ حلالٌ لكَ أن تتصرَّفَ فيها ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أحلَّ لنبيِّه عليه السلام مكَّة يومَ الفتحِ حتى قاتلَ ، وقتَلَ ابن خَطَل وهو متعلِّقٌ بأستار الكعبَة ، ومِقْيَسُ بن صُبَابَة وغيرَهُما.
(0/0)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ؛ فهذا قسَمٌ بآدمَ وذريَّته ، وجوابُ القسَمِ : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } ؛ أي في شدَّةٍ من حين يَنفُخ فيه الروحَ إلى أن يصلَ إلى الآخرةِ ، ليعلم أنَّ الدُّنيا دارُ كَدٍّ ومشقَّة ، والجنةُ دار الراحةِ والنعمة. والمكابدَةُ في اللغة : هو أن يُكَابدَ الإنسان أمرَ المعاشِ والمعاد ، قال الحسنُ : ((تَكَادُ مَصَائِبُ الدُّنْيَا ، وَشَدَائِدُ الآخِرَةِ ، لاَ تَلْقَى ابْنَ آدَمَ إلاَّ يُكَابدُ أمْرَ الدُّنْيَا فِي مَشَقَّةٍ)).
(0/0)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } ؛ كنايةٌ عن الإنسان ، وقد جاءَ في التفسيرِ : أنه نزلَ في أبي الأشَدِّ بن كَلَدَةَ الْجُمَحِيِّ ، كان قويّاً شَديداً يضعُ الأديمَ العُكاظيَّ فيقفُ عليه ويقولُ : من أزَالَني عنه فلَهُ كذا وكذا ، فيجتمعُ عليه عشرةُ أقوياءٍ ويجرُّون الأديمَ ، فكان ينقطعُ الأديمُ ولا تزولُ قدمَاهُ عن مكانِهما.
والمعنى : يظنُّ هذا الكافرُ بشدَّتهِ وقوَّته أنْ لن يقدرَ عليه أحدٌ ؛ أي على أخذهِ وعقوبته أحدٌ ، وأنْ لَنْ يُبعَثَ ، واللهُ قادرٌ عليه ، فيقالُ : إنه لَمَّا نزلَ ذلك حُصِرَ بطنهُ وانحصرَ بولهُ فكان يتمرَّغُ في التراب ويقولُ : قتَلَنِي ربُّ مُحَمَّدٍ.
(0/0)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } ؛ يعني هذا الكافرَ المذكورَ يقولُ : أهلكتُ مَالاً كثيراً في عداوةِ مُحَمَّدٍ وأصحابهِ فلم ينفَعني ذلك. واللُّبَدُ : كلُّ ما لُبدَ بعضهُ على بعضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ؛ معناه : أيظنُّ أنه لم يُحْصِ عليه ما أنفقَ ، وأنه لا يُسأل عنه مِن أين اكتسبَهُ ، وفيمَ أنفقَهُ؟
(0/0)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } ؛ ذكرَ الله مِنَّتَهُ عليه فقال : ألَمْ نجعل له عينَين يبصرُ بهما ، ولِسَاناً يتكلَّمُ به ، وشفتَين يستعينُ بهما على الكلامِ.
(0/0)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } ؛ أي وبيَّنا له وعرَّفناهُ الخير والشرَّ ، ليسلكَ طريقَ الخيرِ ، ويجتنبَ طريق الشرِّ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ قَرَأ { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } وَقَالَ : " أيُّهَا النَّاسُ إنَّهُمَا نَجْدَانِ : نَجْدُ الْخَيْرِ ، وَنَجْدُ الشَّرِّ " ".
وَقِيْلَ : معنى { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } : ألْهَمنَاهُ مصَّ الثَّديَين ، والثديَان هما النَّجدان ، وهذا قولُ سعيدِ بن المسيَّب والضحاك ، وروايةٌ عن ابنِ عبَّاس.
(0/0)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ } ؛ معناهُ : فلا جادَ بمالهِ بإنفاقه في طاعةِ الله ، وهلاَّ دخلَ في عملِ البرِّ ، وانفقَ مالَهُ في فكِّ الرِّقاب وإطعامِ الجياعِ ليجاوزَ العقبةَ ، فيكون خَيراً له من إنفاقهِ في عداوة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقال مجاهدُ والضحَّاك والكلبيُّ : ((يَعْنِي بالْعَقَبَةِ الصِّرَاطَ ، يُضْرَبُ عَلَى جَهَنَّمَ كَحَدِّ السَّيْفِ مَسِيرَةَ ثَلاَثَةِ آلاَفٍ سَنَةٍ سَهْلاً وَصُعُوداً وَهُبُوطاً ، بجَنْبَيْهِ كَلاَلِيبُ وَخَطَاطِيفُ كَأَنَّهَا شُوْكُ السَّعْدَانِ ، فَنَاجٍ سَالِمٌ ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّار مَنْكُوسٌ.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالْبَرْقِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ كَالرِّيحِ ، وَمِنْهُمْ كَالْفَارسِ ، وَمِنْهُمْ كَالرَّجُلِ يَعْدُو ، وَمِنْهُمْ كَالرَّجُلِ يَمْشِي ، وَمِنْهُمُ مَنْ يَزْحَفُ وَمِنْهُمُ الزَّالِقُ. وَاقْتِحَامُهُ عَلَى الْمُؤْمِنِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إلَى الْعِشَاءِ)).
وقال قتادةُ : ((هَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى ، يُقَالُ : إنَّ الْمُعْتِقَ وَالْمُطْعِمَ يُقَاحِمُ نَفْسَهُ وَشَيْطَانَهُ مِثْلَ مَنْ يَتَكَلَّفُ صُعُودَهُ)) ، قال ابنُ زيدٍ : ((مَعْنَى الآيَةِ : فَهَلاَّ سَلَكْتَ الطَّرِيقَ الَّذِي فِيهَا النَّجَاةُ)).
ثُمَّ بيَّن ما هي ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ } ؛ تعظيمُ لشأنِ العقبةِ ، تقولُ : ما أعلمَكَ يا مُحَمَّدُ بأيِّ شيء تجاوزُ عقبةَ الصِّراط ، قال سُفيان بن عُيَينة : ((كُلُّ شَيْءٍ قَالَ اللهُ فِيْهِ : { وَمَآ أَدْرَاكَ } فَإنَّهُ أخْبَرَ بهِ ، وَمَا قَالَ فِيْهِ : (وَمَا يُدْريكَ) فَإنَّهُ لَمْ يُخْبرْهُ)).
(0/0)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُّ رَقَبَةٍ } ؛ من قرأ بضمِّ الكافِ فمعناهُ : اقتِحامُها فكُّ رقبَة من رقٍّ أو شر أو ظُلمِ ظالِم أو من سُلطان جائرٍ. والاقتحامُ : الدُّخول في الشَّيء على الشدَّة.
(0/0)
أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } ؛ منكَ ، { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } ؛ لاصِقاً بالتُّراب من الجهدِ والفاقة ، ويقالُ : إن الْمَتْرَبَةَ شدَّةُ الحاجةِ إذا افتقرَ. وَمن قرأ (فَكَّ) بالنصب (أوْ أطْعِمْ) فمعناهُ : أفلاَ فكَّ الرقبةَ وهلاَّ أطعَمَ في يومٍ ذي مَسغَبة.
وعن البراءِ بن عازبٍ قال : " جَاءَ أعْرَابيٌّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ ، فَقَالَ : " لَئِِنْ كُنْتَ أقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ لَقَدْ أعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ : فُكَّ الرَّقَبَةَ وَأعْتِقِ النَّسْمَةَ " قَالَ : أوَلَيْسَا سَوَاءً يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ : " عِتْقُ النِّسْمَةِ أنْ تَنْفَرِدَ بعِتْقِهَا ، وَفَكُّهَا أنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا ، فَإنْ لَمْ تُطِقْ ذلِكَ فَكُفَّ لِسَانَكَ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ " ".
(0/0)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ } ؛ معناهُ : إنَّ أفعالَ القُرْب إنما تنفعهُ إذا كان معَ ذلك من الذين آمَنُوا. وحرفُ (ثُمَّ) ههنا للتَّرادُف في الإخبار ، لا للترادُفِ في المحالِّ ، كأنه قالَ : وكان مُؤمناً قبلَ ذلك مِن الذين يتواصَون بالصبرِ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : فعَلَ ذلك ثُمَّ ثبتَ على الإيمانِ إلى أنْ يلقَى اللهَ تعالى.
وقولهُ تعالى : { وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ } أي وصَّى بعضُهم بعضاً بالصبرِ على طاعةِ الله ، والصبرِ عن معاصيه ، { وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ } أي وأوصَى بعضُهم بعضاً بالتَّراحُم على الناسِ واليتَامَى والمساكين والضعيفِ والمظلوم ، وفي الحديثِ : " مَنْ لَمْ يَرْحَمِ النَّاسَ لَمْ يَرْحَمْهُ اللهُ ".
(0/0)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } معناهُ : أولئكَ الذين اجتمَعت فيهم هذه الخصالُ هم أصحابُ اليُمْنِ والبركةِ ، وهم الذين يُعطَون كُتبَهم بأيمانِهم ، ويؤخذُ بهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّة.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } ؛ أي هم أصحابُ الشُّؤم على أنفُسِهم ، وهم الذين يُعطَون كُتبَهم بشمائلِهم ، ويؤخذُ بهم ذاتَ الشِّمال " إلى " النار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } ؛ أي مُطبَقة أبوابُها عليهم مسدودةٌ ، من قولِكَ : أوصدتُ البابَ وأوصدْتهُ إذا أطبقتَهُ ، ومَنه سُمِّيَ البابُ الوصيدَ.
قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْبَلَدِ أعْطَاهُ اللهُ الأَمَانَ مِنْ غَضَبهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
(0/0)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ؛ أقسمَ اللهُ سبحانه بالشمسِ ونحوِها مما ذكرَهُ من أوَّلِ السُّورة لما فيها من دلائلِ وحدانيَّة اللهِ تعالى فقالَ { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } أرادَ بالضُّحَى ارتفاعَها ، قال مجاهدُ : ((مَعْنَاهُ : وَالشَّمْسِ وَضَوْئِهَا)) { وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } ؛ أي إذا تَبعَ الشَّمسَ وطلعَ بعد غُروبها ، وذلك في أوَّلِ ليلةِ الهلال إذا سقَطت الشمسُ ريءَ الهلالُ ، وكذلك في نصفِ الشَّهر إذا غرَبت الشمسُ يتبعُها القمرُ في الطلوعِ من المشرقِ ، وأخذ موضعَها وصار خلفَها.
(0/0)
وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } ؛ أي إذا بيَّن الشمسَ ، وذلك أن الشمسَ إنما تضيءُ وتتبيَّن إذا انبسطَ النهارُ ، وأما في حالِ طلُوعِها فهي تطلعُ لا نورَ لها ، ثم يضحِّيها اللهُ تعالى. ويجوز أن يكون معناهُ : إذا جلاَّ ظُلمةَ الليلِ أو جلاَّ الدُّنيا ، فيكون هذا كنايةً عن غيرِ مذكور ، وقولُه : { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } ؛ أي إذا يغشَى الشمسَ فيذهبُ بنورها ، وتُظلِمُ الدنيا عند غروبها.
(0/0)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } ؛ أي والسَّماء وما بناهَا ؛ وهو تأليفُها الذي نشاهدهُ في سعَتِها ، وارتفاعِ سَمكِها ، وقرارها بغير عمَدٍ. و(مَا) مع الفعلِ بتأويل المصدر ، ويجوز أن يكون معناهُ : والسماءِ والذي بنَاها كما يقال : سبحانَ من سبَّحتُ له وسبحانَ من سبَّحَ الرعدُ بحمدهِ.
والمعنى { وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } أي ومَن خلقَها ، وهو اللهُ تعالى كما قال تعالى{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ }[النساء : 3]{ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ }[النساء : 22] وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } ؛ معناه على القولِ الأول : والأرضِ وطَحوِها وهو بسطُها على وجهِ الماء ، وعلى القولِ الثاني والأرضِ ومَن طحَاها.
(0/0)
وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ؛ معناه على القولِ الأوَّل : والأنفُسِ كلِّها وتسويتُها باليدينِ والرجلين والعينينِ والأُذنين وغيرِ ذلك من الحواسِّ ، وما ألْهَمَها اللهُ من طريقِ فجُورها لتترُكَهُ ، وطريقِ تقواها لتلزمَهُ ، فعَرفَتْ ذلك بأدلَّة اللهِ ، وعلى القولِ الثاني : ونفسٍ ومَن سوَّاها ، فبيَّن لها ما تأتِي ، وما تبقي ، وخذلَها للفجور.
(0/0)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } ؛ جوابُ القسَمِ ، يقولُ : قد فازَ ونَجَا من طهَّرَ نفسَهُ بالإيمانِ والطاعةِ فصار زاكياً طَاهراً بنعيمِ الجنة ، { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } ؛ أي وقد خَسِرَ من دسَّ نفسَهُ ؛ أي أهملَها في الكفرِ والمعاصي.
ويقال : معناهُ : قد أفلحَ من زكَّى اللهُ نفسَهُ ؛ أي أصلحَها اللهُ وطهَّرَها من الذنوب ووفَّقَها للتقوَى ، وقد خابَ وخسِرَ مَن دسَّاها ، دسَّا اللهُ نفسَهُ أي شَهَرَها وأخذلَها وأحملها وأخفَى محملها حتى عمِلت بالفجور ورَكبتِ المعاصي. وَقِيْلَ : معنى (دَسَّاهَا) أغوَاها وأضلَّها وأثَّمَها وأفجرَها. وقال ابنُ عبَّاس : ((أهْلَكَهَا)).
والأصلُ في جواب القسَمِ أن يقالَ : (لَقَد أفلحَ) باللامِ ، وإنما حُذفت ؛ لأن الكلامَ إذا طالَ صار طولهُ عِوَضاً من اللامِ.
(0/0)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } أي كذبت قومُ صالح الرسُل بطغيانِهم ، والطَّغْوَى مصدرٌ كالفتوَى والدَّعوَى ، والمعنى : كذبت ثمودُ بطغيانِها وعُدوانِها.
(0/0)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
قَوْلُهُ تََعَالَى : { إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا } ؛ أي حين قامَ أشقَاها لعقرِ الناقةِ ، وصار هو السببَ لهلاكِ الكلِّ. قِيْلَ : إنه كان أشقَاهُم رجلٌ يقال له مُصدِّع ، وهو الذي ابتدأ عقرَها ، وقال الكلبيُّ : ((كَانَا اثْنَيْنِ مُصدِّع وقُدَار)). والمعنى إذِ انبعثَ أشقَاها ، وإنما ذكرَها بلفظ التأنيثِ ؛ لأنَّ الهاء راجعةٌ إلى القبيلةِ ، وَقِيْلَ : المرادُ بقولهِ { أَشْقَاهَا } قِدَارُ بنُ سالف ، وكان رجُلاً أشقرَ أرزقَ قصيراً ملتزقَ الخلقِ ، واسم أُمه قديدةُ.
(0/0)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } ؛ أي قالَ لهم صالحُ عليه السلام : احذرُوا ناقةَ اللهِ التي هي الآيةُ الدالَّة على توحيدهِ أن تُصِيبُوها بمكروهٍ فتُؤخَذُوا بذلك ، واحذرُوا سُقيَاها ؛ أي شُربَها ونوبَتها ؛ أي لا تُزاحموها في يومِها. هذا نَصْبٌ كما يقال : الأسَدَ الأسَدَ.
(0/0)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } ؛ أي فكذبوا صَالحاً فيما قالَ لهم : إنَّكم إنْ أصَبتُموها بسوءٍ أخذكم عذابُ يومٍ عظيم ، فعَقَروها وقتَلوها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } ؛ أي فأطبقَ عليهم بالصَّيحة ، وأرجفَ بهم الأرضَ ، ودمَّر عليهم ، يقالُ : دَمْدَمْتَ على الميْت إذا اطبقتَ عليه القبرَ.
قال ابنُ الأنباريِّ : ((أصْلُ الدَّمْدَمَةِ : الْغَضَبُ)) والمعنى : غَضِبَ عليهم ربُّهم فسوَّى عليهم العقوبةَ ، فلم ينفَلِتْ منهم صغيرٌ ولا كبير. ويجوزُ أن يكون معناهُ : فسوَّاها ؛ أي سوَّى الأرضَ عليهم حتى لم يُرَ لهم أثرٌ.
(0/0)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } ؛ أي ولا يخافُ الله عاقبةَ إهلاكِهم. وَقِيْلَ : إنَّ قولَهُ تعالى { وَلاَ يَخَافُ } راجعٌ إلى رسولِهم صالِحُ عليه السلام ، كان لا يخافُ عند التدميرِ من عاقبةِ أمرهم. وَقِيْلَ : هو راجعٌ إلى قولهِ تعالى { إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا } كأنه قالَ : قامَ لعقرِها وهو كالآمِن من نُزولِ الهلاك به وبقومهِ جَهلاً منه.
(0/0)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } ؛ أقسَمَ اللهُ بالليلِ إذا يغشَى الأفُقَ ، ويعمُّ الأشياءَ كلَّها بالظلامِ ، { وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } ؛ أي أضاءَ ، وأنارَ ، وذهبَ بظُلمةِ الليلِ ، { وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى } ؛ وأقسَمَ بخلقهِ الذكر والأُنثى لإبقاءِ النَّسلِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : ومَن خلقَ الذكر والأُنثى.
(0/0)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى } ؛ أقسَمَ اللهُ بهذه الأشياءِ لِمَا فيها من دلائلِ وحدانيَّة الله على أنَّ أعمالَ العبادِ في الدُّنيا مختلفةٌ ، منهم مَن يريدُ الدنيا فيجعلُ سَعيَهُ لها ، ويعملُ في هلاكِ رَقبته ، ومنهم مَن يريدُ الآخرة ويجعلُ سعيَهُ لها ، ويعملُ في فِكَاكِ رقبتهِ ، وشتَّان ما بين العمَلين.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } ؛ بيَّن اللهُ اختلافَ سَعيهم بقولهِ : فأمَّا مَن أعطَى الحقوقَ من مالهِ ، واتَّقى المعاصيَ واجتنبَ المحارمَ ، { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } ؛ أي أيقنَ بالخلفِ في الدُّنيا ، والثواب في الآخرة ، وَقِيْلَ : معناهُ : وصدَّقَ بالجنةِ ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } ؛ فسنوفِّقهُ للعودِ إلى الطاعةِ مرَّة بعد أُخرى لتسهل عليه طريقَ الجنة. وعن أبي الدَّرداءِ قال : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ يَوْمٍ غَرَبَتْ شَمْسُهُ إلاَّ وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ، وَأعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً " وقال الضحَّاك : ((مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } بـ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ)). وَقِِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ نزَلت في أبي بكرٍ رضي الله عنه.
(0/0)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى } ؛ أي بَخِلَ بمالهِ ، ومنعَ ما يلزمهُ من حقوق الله ، واستغنَى عن ربه ، ولم يرغَبْ في ثوابهِ ، فعمِلَ عملَ مَن يستغني عن اللهِ ، { وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى } ؛ وكذب بثواب المصدِّقين في الجنةِ ، وكذبَ بالتوحيدِ والنبوَّة ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } ؛ أي يخذلُه بمعاصيهِ ومصيرهُ النار ، والمرادُ به أبو جهلٍ ، ويدخلُ فيه كلُّ مَن عمِلَ مثلَ عملهِ.
(0/0)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى } ؛ أي ما ينفعُ هذا الكافرَ الذي بَخِلَ بماله كثرةُ مالهِ بعد موتهِ إذا هوَى وسقطَ في هوى النار ، لم يؤدِّ منهُ فريضةً ، ولا وَصَلَ منه رَحِماً. وقال مجاهدُ : ((مَعْنَى { إِذَا تَرَدَّى } : إذا مَاتَ)) ، وقال قتادةُ : ((إذا هَوَى فِي جَهَنَّمَ)).
(0/0)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى } ؛ أي أنْ نبيِّنَ طريقَ الهدى من طريقِ الضَّلالة ، وأن نبيِّن الحقَّ من الباطلِ ، وقال الفرَّاء : ((مَعْنَاهُ : مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللهِ سَبيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى{ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ }[النحل : 9]) { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى } ؛ معناهُ : وإنَّ لنا للآخرةَ ، فنُعطي منها ما شِئنا على ما توجبهُ الحكمة لِمَن كان أهلاً لذلك ، وإن لنا للأُولى وهي الدُّنيا ، فنُعطي منها مَن نشاءُ.
(0/0)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى } ؛ أي خوَّفتُكم يا أهلَ مكة إنْ لم تؤمنوا بالقرآنِ ناراً تتوقَّدُ وتتوهَّجُ. ولا يجوز أن يكون هذا بمعنى الماضِي ؟ لأنه لو كان مَاضياً لقيلَ : تلظَّتْ.
(0/0)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأَشْقَى } ؛ أي لا يدخُلها ولا يلزمُها إلاَّ الأشقَى في علمِ الله تعالى ، { الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } ؛ وهو الكافرُ الذي كذبَ بتوحيدِ الله تعالى والقرآنِ ، وأعرضَ عنِ الإيمانِ.
(0/0)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى } ؛ أي سيُباعَدُ عنها التقيُّ ، { الَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى } ؛ أي لم يفعَلْ مجازاةً لبرٍّ أسدِيَ إليه ولا لمثابةِ الدُّنيا ، ولكن أعطى ما أعطَى لطلب ثواب الله ورضاهُ ، ولسوفَ يُعطيهِ اللهُ في الآخرة من الثواب حتى يرضَى.
قِيْلَ : إنَّ قولَهُ { وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى } إلى آخرِ السُّورة نزَلت في أبي بكرٍ رضي الله عنه ، حدَّثَنا هشامُ بنُ عروة عن أبيهِ : ((أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه أعْتَقَ سَبْعَةً ، كُلُّهُمْ كَانُوا يُعَذبُونَ فِي اللهِ تَعَالَى ، وَهُمْ : بلاَلُ ؛ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ شَهِدَ بَدْراً وَأُحُداً وَقُتِلَ يَوْمَ بئْرِ مَعُونَةَ شَهِيداً. وأمُّ عُمَيس وَزَنِيرَةَ ، فَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشُ : مَا أذْهَبَ بَصَرَهَا إلاَّ اللاَّتُ وَالْعُزَّى! فَقَالَتْ : كَذبُوا وَثَبَّتَها اللهُ ، فَرَدَّ اللهُ بَصَرَهَا. وَأعْتَقَ النَّهْدِيَّةَ وَابْنَتَهَا ، وَكَانَتَا لاِمْرَأةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار ، وَمَرَّ بجَاريَةِ بَنِي مُؤَمَّلٍ حَيّ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب يُعَذِّبُهَا لِتَرْكِ الإسْلاَمِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ ، فَاشْتَرَاهَا أبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا.
فَأَمَّا بلاَلٌ فَكَانَ لِبَعْضِ بَنِي جَمْحٍ مُوَلَّداً مِنْ مُوَلَّدِيهِمْ وَهُوَ بلاَلُ بْنُ رَبَاح ، وَكَانَ اسْمُ أُمِّهِ حَمَامَةٌ ، وَكَانَ صَادِقَ الإسْلاَمِ طَاهِرَ الْقَلْب ، وَكَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجَمْحِيُّ يُخْرِجُهُ إذا حَمِيَتِ الظَّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكَّةَ ، ثُمَّ يَأْمُرُ بالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ ، فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرهِ ، وَيُقَالُ لَهُ : لاَ تَزَالُ هَكَذا حَتَّى تَمُوتَ أوْ تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ وَتَعْبُدَ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ، فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذلِكَ الْبَلاَءِ : أحَدٌ أحَدٌ.
فَمَرَّ بهِ أبُو بَكْرٍ يَوْماً وَهُمْ يَصْنَعُونَ بهِ ذلِكَ ، فَقَالَ لأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ : (ألاَ تَتَّقِي اللهَ فِي هَذا الْمِسْكِينِ ؟ حَتَّى مَتَى؟) فَقَالَ : أنْتَ أفْسَدْتَهُ فَأَنْقِذْهُ مِمَّا تَرَى. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : (عِنْدِي غُلاَمٌ أسْوَدُ أجْلَدَ مِنْهُ ، وَأقْوَى عَلَى دِينِكَ أُعْطِيكَهُ بهِ). قَالَ : قَدْ قَبلْتُ ، قَالَ : (هُوَ لَكَ). فَأَعْطَاهُ أبُو بَكْرٍ غُلاَمَهُ ذلِكَ وَأخَذَ بلاَلاً فَأَعْتَقَهُ. فَقَالُواْ : لَوْ أبَيْتَ أنْ تَشْتَرِيَهُ إلاَّ بأُوْقِيَّةِ لَمَا مَنَعْنَاكَ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : (وَلَوْ أبَيْتُمْ إلاَّ بمِائَةِ أُوْقِيَّةٍ لأَخَذْتُهُ).
وَأمَّا النَّهْدِيَّةُ وَابْنَتُهَا فَكَانَتَا لامْرَأةٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار ، مَرَّ بهِمَا أبُو بَكْرٍ وَهُمَا يَطْحَنَانِ ، وَسَيِّدَتُهُمَا تَقُولُ : وَاللهِ لاَ أُعْتِقُكُمَا أبَداً ، فَقَالَ لَهَا أبُو بَكْرٍ : (يَا أُمَّ فُلاَنٍ خَلِّ عَنْهُمَا) ، فَقَالَتْ : بَلْ أنْتَ خَلِّ عَنْهُمَا ، أنْتَ أفْسَدْتَهُمَا ، فَقَالَ : (بكَمْ هُمَا؟) قَالَتْ : بكَذا وَكَذا ، قَالَ : (أخَذْتُهُمَا بذلِكَ وَهُمَا حُرَّتَانِ للهِ تَعَالَى) ثُمَّ قَالَ لَهُمَا : (قُومَا وَارْبَعَا لَهَا طَحِينَهَا) ، قَالَتَا : ألاَ نَفْرَغُ مِنْ طَحِينهَا وَنَرُدُّهُ إليَهَا ؟ قَالَ : (ذلِكَ إلَيْكُمَا إنْ شَئْتُمَا).
فَقَالَ أبُو قُحَافَةَ لأَبي بَكْرٍ : (يَا بُنَيَّ إنِّي أرَاكَ تُعْتِقُ رقَاباً ضِعَافاً ، فَلَوْ أنَّكَ أعْتَقْتَ رجَالاً جِلاَداً يَمْنَعُونَكَ وَيُقَوِّمُونَ دُونَكَ؟) فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : (يَا أبَهْ إنِّي إنَّمَا أُريدُ اللهَ) ، فَنَزَلَ فِيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىا.
(0/0)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ : " لَمَّا سَأَلَتِ الْيَهُودُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرُّوحِ ، وَعَنْ ذِي الْقَرْنَينِ ، وَأصْحَاب الْكَهْفِ ، قَالَ لَهُمْ : " سَأُخْبرُكُمْ غَداً " وَلَمْ يَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ ، فَاحْتَبَسَ الْوَحْيُ عَنْهُ وَأبْطَأَ عَنْهُ جِبْرِيلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لِتَرْكِهِ الاسْتِثْنَاءَ ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُنَافِقُونَ : إنَّ مُحَمَّداً وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَقَلاَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ تَكْذِيباً لَهُمْ ، وَأقْسَمَ ببَيَاضِ النَّهَار وَسَوَادِ اللَّيْلِ أنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُوَدِّعْهُ وَلَمْ يُقِلْهُ ".
وفيه إضمارٌ تقديرهُ : ورب الضُّحى وهو النهار كلُّه ، وقال بعضُهم : ساعةُ ارتفاعِ الشَّمس على ما هو المعهودُ من الكلامِ. وقولهُ تعالى { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } أي إذا أظلمَ ، واشتدَّ ظلامهُ حتى يسترَ الأشياءَ كلَّها بالظلامِ ، ومنه قولُهم : فلانٌ يُسْجَى بثوبهِ ؛ أي مُغطَّى ، ومنه قولُهم : سَجَى قبرَ المرأةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا سكَنت الأشياءُ فيه ، ومن ذلك : بحرٌ سَاجٍ ؛ أي ساكنٌ ، ويقالُ : بلدٌ ساجِية إذا كان أهلُها في سكونٍ ، وكذلك طريقٌ ساجٍ ؛ أي آمنٌ ، قال الشاعرُ : أنَا ابْنُ عَمِّ اللَّيْلِ وَابْنُ خالِِهِ إذا سَجَى دَخَلْتُ فِي سِرْبَالِهِقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } أي ما تركَكَ منذُ اختارَكَ ، ولا بغَضَكَ منذ أحبَّكَ ، وهذا جوابُ القسَمِ.
(0/0)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } ؛ أي لثوابُ الآخرةِ مما أعدَّهُ اللهُ لكَ فيها من الكرامةِ والمقامِ المحمود خيرٌ من الدُّنيا التي هي مشوبةٌ بالأحزانِ والزَّوالِ.
(0/0)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } ؛ معناهُ : سيُعطيكَ خالقُكَ في الآخرةِ من الشَّفاعة ، وثواب الطاعةِ حتى ترضَى. ويجوزُ أن يكون هذا وعْداً له مِن الله بالنُّصرة والتمكينِ وكثرةِ المؤمنين.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ : ((رضَى مُحَمَّدٌ أنْ لاَ يَدْخُلَ أحَدٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِهِ النَّارَ)). وَقِيْلَ : الشفاعةُ في جميعِ المؤمنين ، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أشْفَعُ لأُمَّتِي حَتَّى يُنَادِي رَبي عَزَّ وَجَلَّ : أرَضِيتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَأَقُولُ : رَضِيتُ ".
وعن جعفرَ بن مُحَمَّدٍ قال : " دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَاطِمَةَ وَهِيَ تَطْحَنُ بيَدِهَا وَتُرْضِعُ وَلَدَهَا ، فَلَمَّا أبْصَرَهَا كَذلِكَ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ ، فَقَالَ : " يَا بنْتَاهُ تَعَجَّلِي فَتَجَرَّعِي مَرَارَةَ الدُّنْيَا بحَلاَوَةِ الآخِرَةِ ، فَقَدْ أنْزَلَ اللهُ عَلَيَّ { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } " وعن ابنِ عبَّاس : قالَ : ((يُعْطِيهِ اللهُ فِي الْجَنَّةِ ألْفَ قَصْرٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ تُرَابُهُ الْمِسْكُ ، فِي كُلِّ قَصْرٍ مِنْ كُلِّ مَا يُشْتَهَى عَلَى أحْسَنِ الصِّفَاتِ)).
(0/0)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى } ؛ عدَّدَ عليه نِعَمَهُ الموصولةُ إليه من صِغَرهِ إلى كِبَره ، والمعنى : ألَمْ يَجِدْكَ يَتيماً عن أبيكَ فضمَّكَ إلى أبي طالبٍ ، وربَّاكَ في حِجرهِ ، وفضَّلَكَ على أولادهِ ، وقد كان أبوهُ ماتَ وهو في بطنِ أُمِّه ، وماتت أمُّه وهو ابنُ سَنتين ، وماتَ جدُّه وهو ابنُ ثَماني سنين.
(0/0)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وقولهُ تعالى : { وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى } ؛ أي ضَالاً عن علمِ النبوَّة ، وأحكامِ الشَّريعة غافلاً عنها ، فهداكَ إليها ، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ }[يوسف : 3] ، وقولهُ تعالى : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ }[الشورى : 52]. ولا يجوزُ أن يقالَ في معناهُ : إنه عليه السلام كانَ على دينِ قَومهِ ، فهداهُ الله ؛ لأنه تعالى لا يختارُ للرِّسالةِ مَن كفرَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان ضَلَّ في صِغَره عن قومهِ في شِعاب مكَّة ، فوجدَهُ أبو لَهب فردَّهُ على جدِّهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وجدَكَ ضَائعاً بين قومٍ ضوَالٍّ لا يعرِفون حُرمَتك ، فهدَاهُم اللهُ تعالى إلى معرفةِ قَدركَ.
(0/0)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى } أي ووجدَكَ فَقيراً فأغناكَ بمالِ خديجةَ والغنائمِ ، وذلك أنَّها كانت تبذلُ مالَها للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. والعَيْلَةُ في اللغة : الفقرُ ، يقالُ : عالَ الرجلُ إذا كثُرَ عيالهُ وافتقرَ ، قال الشاعرُ : وَمَا يَدْري الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاهُ وَمَا يَدْري الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُوحذفَ الكاف من قولهِ تعالى (فآوَى ، فَأَغْنَى ، فَهَدَى) لمشاكَلة رؤوسِ الآيِ ؛ ولأن المعنى معروفٌ ، قال مقاتلُ : " وَكُلُّ فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْفُصُولِ قِرَاءَةُ جِبرِيلَ عليه السلام عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ : " بَلَى يَا رَب " ثُمَّ قَالَ : " يَمُنُّ عَلَيَّ رَبي وَهُوَ أهْلُ الْمَنِّ ، يَمُنُّ عَلَيَّ رَبي وَهُوَ أهْلُ الْمَنِّ " ".
وعنه صلى الله عليه وسلم قَالَ : " سَأَلْتُ رَبي مَسْأَلَةً وَدَدْتُ أنِّي لَمْ أسْأَلْهَا قَطُّ ، قُلْتُ : يَا رَب اتَّخَذْتَ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ، وَكَلَّمْتَ مُوسَى تَكْلِيماً ، وَسَخَّرْتَ لِدَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبحْنَ ، وَأعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ كَذا وَكَذا.
فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : ألَمْ أجِدْكَ يَتِيماً فآوَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ أجِدْكَ ضَالاً فَهَدَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ أجِدْكَ عَائِلاً فَأَغْنَيْتُكَ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ أشْرَحَ لَكَ صَدْرَكَ ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ أرْفَعَ لَكَ ذِكْرَكَ فلاَ أُذْكَرُ إلاَّ وَتُذْكَرُ مَعِي ؟ قُلْتُ بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ أُؤْتِكَ مَا لَمْ أُوْتِ نَبيّاً قَبْلَكَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ، قَالَ : ألَمْ اتَّخِذْكَ حَبيباً كَمَا اتَّخَذْتُ إبْرَاهِيمَ خَليلاً ؟ قُلْتُ : بَلَى يَا رَب ".
(0/0)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } ؛ وهذا حثٌّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على محاسنِ الأخلاقِ ليقتَدي به الناسُ ، ويجِدُّوا في سُلوكِ طريقتهِ. ومعنى قهرِ اليتيم : أنْ يقهرَهُ على مالهِ ، وأن يظلمَهُ بقولٍ أو فعلٍ. وفي قراءةِ ابن مسعودٍ (فَلاَ تَكْهَرْ) بالكافِ ، ومعناه : الزجرُ والاتعاظُ. وتخصيصُ اليتيمِ لأنه لا ناصرَ له غيرُ اللهِ. وفي الحديث : " اتَّقُوا ظُلْمَ مَنْ لاَ نَاصِرَ لَهُ غَيْرُ اللهِ ".
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ ضَمَّ يَتِيماً فَكَانَ فِي مُؤْنَتِهِ وَنَفَقَتِهِ كَانَ لَهُ حِجَاباً مِنَ النَّار يَوْمَ الْقِيَِامَةِ ، وَمَنْ مَسَحَ برَأسِ يَتِيمٍ كَانَ لَهُ بكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ " وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اليَتِيمَ إذا بَكَى اهْتَزَّ لِبُكَائِهِ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، فَيَقُولُ اللهُ : يَا مَلاَئِكَتِي مَنْ أبْكَى هَذا الْيَتِيمَ الَّذِي غَيَّبْتُ أبَاهُ فِي التُّرَاب ؟ فَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ : رَبُّنَا أعْلَمُ ، فَيَقُولُ : يَا مَلاَئِكَتِي أُشْهِدُكُمْ أنَّ كُلَّ مَنْ أسْكَتَهُ وَأرْضَاهُ أنْ أُرْضِيَهُ يَوْم الْقِيَامَةِ " قَالَ : ((فَكَانَ عُمَرُ إذا رَأى يَتِيماً مَسَحَ عَلَى رَأسِهِ وَأعْطَاهُ شَيئاً)).
(0/0)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ } ؛ وهو الزجرُ بالصيِّاح في الوجهِ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " إذا سَأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرَغَ مِنَْهَا ، ثُمَّ رُدُّوا عَلَيْهِ بوَقَارٍ وَلِينٍ أوْ ببَذْلٍ يَسِيرٍ أوْ برَدٍّ جَمِيلٍ ، فَإنَّهُ قَدْ يَأْتِيكُمْ مَنْ لَيْسَ بإنْسٍ وَلاَ جَانٍّ ، يَنْظُرُونَ كَيْفَ صُنْعُكُمْ فِيمَا خَوَّلَكُمُ اللهُ " و " سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم متى يُباح أن يُردَّ الفقيرُ ؟ فقالَ : " إذا رَدَدْتَهُ ثَلاَثاً تَلَطُّفاً فَلاَ يَذْهَبْ ، فَلاَ بَأْسَ أنْ تَزْبُرَهُ " ".
وكان الحسنُ يقول : ((أرَادَ بالسَّائِلِ فِي هَذِهِ الآيَةِ سَائِلَ الْعِلْمِ لاَ تَرُدُّهُ خَائِباً). وقال يحيىَ بنُ آدم في هذه الآيةِ قال : ((إذا جَاءَكَ طَالِبُ الْعِلْمِ فَلاَ تَنْهَرْهُ)). وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَمْنَعَنَّ أحَدُكُمُ السَّائِلَ أنْ يُعْطِيَهُ إذا سَأَلَ ، وَإنْ رَأى فِي يَدَيْهِ قُلْبَيْنِ مِنْ ذهَبٍ " وعن إبراهيمَ بن أدهمٍ قالَ : ((نِعْمَ الْقَوْمُ السُّؤَّالُ ، يَحْمِلُونَ زَادَنَا إلَى الآخِرَةِ ، يَجِيءُ السَّائِلُ إلَى بَاب أحَدِكُمْ فَيَقُولُ : هَلْ تُوَجِّهُونَ إلَى أهْلِيكُمْ شَيْئاً)).
(0/0)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ؛ أي حدِّثِ الناسَ بما أنعمَ اللهُ عليك من النبوَّة والإسلامِ ، وذلك أنَّ مِن شُكرِ النِّعَمِ التحدُّث تَعظيماً للمنعمِ. ويقال : إن الشُّكرَ على مراتب ، فالمرتبةُ الأُولى : أن تعلمَ أنَّ النعمةَ من اللهِ ، والثانية : أن تؤدِّي عليها حقوقَ اللهِ ، والثالثةُ : أن تعترفَ بذلك وتُخبرَ الناسَ بها ، والرابعة : الاستظهارُ بها على معصيةِ الله.
وفي الحديثِ : " إذا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ أحَبَّ أنْ يَرَى أثَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أُعْطِيَ خَيْراً فَلَمْ يُرَ عَلَيْهِ ، سُمِّيَ بَغِيضَ اللهِ مُعَادِياً لِنِعْمَةِ اللهِ " قالَ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يُشْكِرِ الْكَثِيرَ ، ومَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللهَ ، وَالتَّحَدُّثُ بالنِّعْمَةِ شُكْرٌ ".
(0/0)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شُقَّ بطنهُ من عند صدرهِ إلى أسفلِ بَطنهِ فاستُخرِجَ منه قَلبُهُ فغُسِلَ في طشتٍ من ذهب بماءِ زَمزَمَ ، ثم مُلئَ إيماناً وحكمةً وأُعيدَ مكانَهُ ، قال : وهذا معنى شرحِ الصَّدر. ويقالُ : إنَّ شرحَ الصَّدر ، وترحيبهُ وتليينهُ ؛ لاحتمالِ الأذى والصبرِ على المكارهِ ، والطمأنينةُ بالإيمان وشرائعهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ألَمْ نُلَيِّنْ لكَ قلبكَ ونوسِّعْهُ بالإيمانِ والنبوَّة والعلم والحكمةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } ؛ أي حطَطْنا عنك ذنبَكَ ، كما قال تعالى في آيةٍ أُخرى{ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }[الفتح : 2] وقولهُ تعالى : { الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } ؛ أي أثقلَ ظهرك ، { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } ؛ أي شرَّفناكَ وعظَّمنا قدرَكَ بما أوجبناهُ على خلقِنا من التصديقِ بنبوَّتكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : قَرَنَّا ذِكرَكَ بذِكرِنَا ، فلا يُذكر اللهُ إلاّ وتُذكَرُ معه في كلمةِ الشَّهادة والأذانِ والخطبة وغيرِ ذلك.
(0/0)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } ؛ معناهُ إنَّ مع الشدَّة التي أنتَ فيها من جهادِ " هؤلاء " المشركين رجاءَ أن يُظفِرَكَ اللهُ عليهم حتى ينقادُوا للحقِّ طَوعاً وكَرهاً ، { إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } لتأكيد الوعدِ وتعظيم الرَّخاء. وَقِيْلَ : معناهُ : فإن مع العُسرِ يُسراً في الدُّنيا ، إنَّ مَع العُسرِ يُسراً في الآخرةِ.
وَقِيْلَ : إنَّ هذه الآية تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ فيما كانوا فيه من الشدَّة والفقرِ ، يقولُ : إنَّ مع الشدَّة رخاءً وسَعةً. ورُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ قالَ لأصحابهِ : " أبْشِرُوا فَقَدْ آتَاكُمُ اللهُ الْيُسْرَ ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ ".
وإنما قالَ ذلك ؛ لأنَّ العسرَ مَعرفةٌ ، و(يُسراً) نَكرةٌ ، والمعرفةُ إذا أُعيدت كان الثانِي هو الأولُ ، والنَّكرة إذا أُعيدت كان الثانِي غيرُ الأوَّل ، واليُسر الأوَّل هو اليُسر في الدنيا يعقبُ العسرَ ، واليسرُ الثانِي هو اليسرُ في الآخرةِ بالثواب ، يقولُ الرجل لصاحبهِ : إذا اكتسبتَ دِرهماً فَأنفِقْ دِرهماً ، يريدُ بالثاني غيرَ الأولِ ، فإذا فقالَ : إذا اكتسبتَ دِرهماً فأنفِقِ الدرهمَ ، فالثانِي هو الأولُ.
وعن ابنِ مسعود قال : ((وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ، لَوْ كَانَ الْعُسْرُ فِي جُحْرٍ لَطَلَبَهُ الْيُسْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْهِ ، إنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ)).
(0/0)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ } ؛ أي إذا فرغتَ من أمُور الدُّنيا فانصَبْ لِمَا أُمرت به من الإبلاغِ والعبادة. وعن الحسنِ أنه قال : ((فَإذَا فَرَغْتَ مِنَ الْجِهَادِ فَانْصَبْ لِلْعِبَادَةِ)) أي اتْعَبْ لَها. وعن عِمرانَ بنِ الحصين أنه قال : ((إذا فَرَغَْتَ مِنَ الصَّلاَةِ فَاتْعَبْ لِلدُّعَاءِ ، وَسَلْهُ حَاجَتَكَ ، وَارْغَبْ إلَيْهِ)). وقوله { فَانصَبْ } من النَّصَب والدُّؤْب في العملِ. وقولهُ تعالى : { وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ } ؛ أي ارفَعْ حوائجكَ إلى ربكَ ، ولا ترفَعها إلى أحدٍ من خَلقِه.
(0/0)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } ؛ هذا قسَمٌ برب التينِ والزيتون ، وجوابهُ { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ }. وسُئل ابن عباسٍ عن التينِ والزيتون فقالَ : ((هُوَ تِينُكُمْ هَذا)).
وفي تخصيصِ التِّين من بين سائرِ الفواكه أنه ثَمَرُ شجرةٍ مثل الخبيص على مقدار اللُّقمة ، ظاهرهُ مثلُ باطنهِ ، وباطنهُ مثل ظاهرهِ ، لا يخالطهُ قِشْرٌ ، ولا نوَى على صفةِ ثمار الجنَّة. والزيتونُ ثمرُ شجرةٍ يُعصَرُ منها الزيتُ بما فيه من الطِّيب ، وإصلاحِ الغداء في أكثرِ الأطعمة مع الاصطباحِ به والادِّهان به. وعن قتادةَ قال : ((التِّينُ هُوَ دِمَشْقُ ، وَالزَّيْتُونُ هُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ)) ، وقال القتيبيُّ : ((هُمَا جَبَلاَنِ بالشَّامِ ، يُقَالُ لَهُمَا طُورُ تَيْنَا وَطُورُ زَيْنَا ؛ لأنَّهُمَا يُنْبتَانِهِمَا)).
(0/0)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطُورِ سِينِينَ } ؛ هو الجبلُ بمَديَنَ الذي كلَّم اللهُ تعالى بها موسى عليه السلام ، وسِينِينَ وسيناءَ من أسماءِ ذلك الجبل ، وعن السديِّ أنه قال : ((مَعْنَى سِينِينَ الشَّجَرُ)).
ويقال : معناهُ : المباركُ. وعن عكرمةَ : ((أنَّ مَعْنَاهُ الْجَبَلُ فِي الشِّتَاءِ ؛ لأَنَّهُ كَثِيرُ النَّبَاتِ وَالأَشْجَار)).
(0/0)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَـاذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ } ؛ يعني مكَّة ؛ لأنَّ أهلَها في أمنٍ من الغارةِ ، وكانوا إذا سافَرُوا لم يُتعرَّض لَهم لحرمَةِ الحرَمِ ، والصيدُ في الحرمِ آمنٌ ، ومَن قتلَ قتيلاً ، ثم لجأَ إلى الحرمِ لم يقتَصَّ منه في الحرمِ.
(0/0)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ؛ أي في أحسنِ صُورةٍ واعتدالٍ على أحسنِ صورة وهيئةٍ ، وعلى كمالٍ في العقلِ والفهم ، وذلك أنَّ الله خلقَ كلَّ شيء منكَبّاً على وجههِ إلاّ الإنسانَ. وَقِيْلَ : خلَقنا الإنسان مديدَ القامةِ يتناولُ ما يأكلهُ بيدهِ.
(0/0)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ؛ أي ردَدناهُ إلى أرذلِ العمُرِ ، وإلى حالِ الهرَمِ وفَقْدِ العقلِ بعد الشَّباب والقوَّة. وقال بعضُهم : معناهُ : ردَدناهُ إلى أسفلِ درَكاتِ النار في أقبحِ صُورةٍ.
ثم استثنَى المؤمنين المطيعينَ ، فإنَّهم لا يُرَدُّونَ إلى أسفلِ سَافِلين ، ويجوز أنْ يكون هذا استثناءً منقطعاً بمعنى لكن ، { إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ أي الطاعاتِ فيما بينهم وبين ربهم ، { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ؛ أي ثوابٌ غير مقطوعٍ ؛ أي لا ينقطعُ ثوابُهم بموتِهم.
وفي الحديث : " إنَّ الْمُؤْمِنَ إذا عَمِلَ فِي حَالِ شَبَابهِ وَقُوَّتِهِ ، ثُمَّ مَرِضَ أوْ هَرِمَ ، كَتَبَ اللهُ لَهُ حَسَنَاتِهِ ، كَمَا كَانَ يَعْمَلُ فِي حَالِ شَبَابهِ وَقُوَّتِهِ ، لاَ يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ ".
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ فَدُفِنَ فِي قَبْرِهِ قَالَ مَلَكَانِ : يَا رَب قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ فُلاَنٌ ، فَأْذنْ لَنَا أنْ نَصْعَدَ إلَى السَّمَاءِ فَنُسَبحَكَ ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلاَئِكَتِي يُسَبحُونَنِي ، فَيَقُولُونَ : يَا رَب فَأَيْنَ تَأْمُرُنَا ؟ فَيَقُولُ : قُومَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي فَسَبحَانِي وَكَبرَانِي وَاحْمَدَانِي وَهَلِّلاَنِي ، وَاكْتُبَا ثَوَابَ ذلِكَ لِعَبْدِي حَتَّى أبْعَثَهُ مِنْ قَبْرِهِ ".
(0/0)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } ؛ أي ما يحمِلُكَ على التكذيب أيُّها الكافرُ بعدَ هذا البيانِ من الله تعالى بمجازاةِ الله في الآخرة. وَقِيْلَ : معناهُ : ما يكذِّبُكَ أيُّها الإنسانُ بعدَ الصُّورة الحسَنة والشباب ، ثم الهرمِ والموت والحساب ، أفلا تعتبرُ بحالِكَ لتعلمَ أنَّ الذي خلقَكَ قادرٌ على أنْ يبعثَكَ.
(0/0)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ؛ أي أليسَ اللهُ بأفضلِ الفاضِلين وأعدلِ العادلين ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ السُّورةَ قَالَ : " بَلَى يَا رَب أنْتَ أحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، وَأنَا عَلَى ذلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ ".
(0/0)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } ؛ قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : " أوَّلُ مَا بُدِئَ به رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ ، كَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُببَ إلَيْهِ الْخَلاَءُ ، وَكَانَ يَخْلُو بغَار حِرَاءَ فَيَتَعَبَّدُ فِيْهِ حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَار حِرَاءَ.
فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ : اقْرَأ ، فَقَالَ : " مَا أنَا بَقَارئٍ " قَالَ : " فَأَخَذنِي فَغَطَّنِي حَتَّى أخَذ مِنِّي الْجُهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فَقَالَ لِي : اقْرَأ ، فَقُلْتُ : مَا أنَا بقَارئٍ ، فَأَخَذنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ كَذلِكَ ثُمَّ أرْسَلَنِي ، فَقَالَ لِي : اقْرَأ ، فَقُلْتُ : مَا أنَا بقَارئٍ ، فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي فَقَالَ لِي : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ }. فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يرْجِفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ : " زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي " ، فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ ، فَأَخْبَرَ خَدِيجَةَ بالْخَبَرِ وَقَالَ : " خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي ".
فَانْطَلَقَتْ بهِ خَدِيجَةُ إلى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّهَا ، وَكَانَ امْرِءاً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ مِنَ الإنْجِيلِ بالْعَبْرَانِيَّةِ ، وَكَانَ شَيْخاً كَبيراً قَدْ ضَعُفَ بَصَرُهُ ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ : يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أخِيكَ ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلَ : يَا ابْنَ أخِي مَاذا رَأيْتَ ؟ فَأَخْبَرَهُ بَمَا رَأى ، فَقَالَ وَرَقَةُ : هَذا هُوَ النَّامُوسُ الَّذِي نَزَلَ عَلَى مُوسَى ، فَيَا لَيْتَنِي أكُونُ حَيّاً حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! " قَالَ : لَمْ يَأْتِ أحَدٌ بمِثْلِ مَا جِئْتَ بهِ إلاَّ عُودِيَ وَأُوذِيَ ، وَإنْ يُدْركْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْراً مُؤزَّراً. ثُمَّ إنَّ وَرَقَةَ لَمْ يُدْركْ وَقْتَ الدَّعْوَةِ أنْ تُوُفِّي ".
واختلَفُوا في الباءِ في قوله { بِاسْمِ رَبِّكَ } قال بعضُهم : هي زائدةٌ ؛ وتقديرهُ : اقرَأ اسمَ ربكَ ، كما يقالُ : قرأتُ بسُورةِ كذا. وقال بعضُهم : افتحِ القراءةَ بسمِ الله. وَقِيْلَ : معناهُ : اقرأ القرآنَ بعَونِ اللهِ وتوفيقه. وقولهُ تعالى { الَّذِي خَلَقَ } أي خلقَكَ. وَقِيْلَ : خلَقَ الأشياء كلَّها.
(0/0)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
قوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } ؛ قال بعضُهم : أرادَ به آدمَ ، خلقَهُ من طينٍ يعلَقُ باليدِ. وقال بعضُهم : الإنسانُ هذا اسم جنسٍ ، والعلَقُ جمعُ العلقَةِ ، وهي الدمُ الخاثر المنعقدُ الذي يضرِبُ إلى السوادِ.
(0/0)
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } ؛ أي اقرأ القرآنَ في صَلاتِكَ وتبليغِكَ إلى الناسِ وربُّكَ الأعظمُ الذي يعطِي من النِّعَمِ ما لا يقدرُ على مثلهِ غيرهُ. ويجوزُ أنْ يكون الإكرامُ ههنا أنه تعالى يُعِينهُ على حفظِ القرآن وتبليغهِ ، ويُثِيبهُ على ذلك جزيلَ الثواب. وَقِيْلَ : الأكرمُ الحليمُ على جهلِ العباد ، فلا يعجِّلُ عليهم بالعقوبةِ.
(0/0)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } ؛ أي الذي علَّمَ الملائكةَ ما في اللوحِ المحفوظ ، وأُضيفَ إلى القلمِ ؛ لأنَّهُ هو الذي كَتَبَ ما في اللوحِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الذي علَّمَ الناسَ علمَ الكتابةَ بالقلمِ ، وهو نعمةٌ عظيمة ، ولولاَ القلمُ لضاعتِ الحقوقُ ودُرسَت العلومُ واختلَّتْ أمُورُ المعايشِ.
(0/0)
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } ؛ أي علَّمَ آدمَ الأسماء كلَّها. وَقِيْلَ : علَّمَ جميعَ الناسِ بالقلمِ من أمر دينهم ما لم يعلَمُوا من قبل. وَقِيْلَ : الإنسانُ ههنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، بَيانُهُ{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ }[النساء : 113].
(0/0)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى } ؛ أي حقّاً إن الإنسانَ الذي خلقَهُ اللهُ من علَقٍ وتَمَّمَ نعمتَهُ عليه ليَطغَى بأنعُم اللهِ ، ويتكبَّرُ على توحيدهِ ، ومعنى { لَيَطْغَى } لَيتجَاوَزَ حدَّهُ ، فيستكبر على ربهِ ، { أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى } ، أنْ رأى نفسَهُ مُستغنياً بكثرةِ ماله. رُوي : " أنَّ هذه الآيةَ نزَلت في أبي جهلٍ ، وكان صلى الله عليه وسلم يقولُ : " أعُوذ بكَ مِنْ فَقْرٍ يُنْسِي ، وَمِنْ غِنًى يُطْغِي " ".
(0/0)
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى } ؛ فيه تخويفٌ بالرَّجعة إلى الآخرةِ للحساب ؛ أي إنَّ إلى ربكَ المرجعَ في الآخرةِ.
(0/0)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)
وقولهُ تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى } ؛ نزَلت في أبي جهلٍ نَهى النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين فُرضت عليهِ ، وكان يؤذيهِ ، ويعبَثُ به حتى يشغله عن الصَّلاة ، وكان يهدِّدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وكان يقولُ : إذا رأيتُ مُحَمَّداً يصلِّي توطَّأْتُ عُنقَهُ ، وهذه الآيةُ متروكة الجواب ، معناهُ : أرأيتَ يا مُحَمَّدُ الذي ينَهى عن الصَّلاةِ لاَ تراهُ يُفْلِحُ.
(0/0)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى } ؛ معناهُ : أرأيتَ أيُّها الناهِي إنْ كان المنهيُّ عن الصلاةِ على الهدى ، { أَوْ أَمَرَ } ، الخلقَ ، { بِالتَّقْوَى } ، أكُنتَ تنهاهُ وتعاديه على ذلك. وَقِيْلَ : معناهُ : أرأيتَ - يا مُحَمَّدُ - إنْ كان الناهِي على الهدى ، أو أمرَ بالتقوى ، أليسَ كان خَيراً له.
(0/0)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } ؛ معناهُ : أخبرني يا مُحَمَّدُ إن كذبَ أبو جهلٍ بالقرآن ، وتولَّى عن الإيمانِ ؛ أي أعرضَ عنه ، { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } ؛ ألَمْ يعلم أبو جهلٍ أنَّ الله يرَى صُنعَهُ.
(0/0)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
وقولهُ تعالى : { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ } ؛ قسَمٌ من اللهِ تعالى : لئِنْ لم يمتنِعْ أبو جهلٍ عن مقالتهِ وصُنعهِ لنأخُذنَّ بمقدَمِ شعرِ رأسه ، ولنأمُرَنَّ بجذبهِ إلى النار ، والسَّفْعُ في اللغة : هو الجذبُ الشديد ، والعربُ لا تأنَفُ من شيءٍ أنفَها من ذكرِ النَّاصية. وَقِيْلَ : معنى السَّفْعِ الإحراقُ ، واللَّفْحُ نظيرهُ ، والمعنى : لنُحِرقَن موضعَ ناصيتهِ ، وقال الحسنُ : ((مَعْنَاهُ : لَنَجْمَعَنَّ نَاصِيَتَهُ وَقَدَمَيْهِ)) كما قال تعالى{ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }[الرحمن : 41].
(0/0)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } ؛ إبدالُ الاقدام النكرةِ من المعرفة ، والمراد بالناصيةِ هاهنا صاحبَ الناصيةِ كاذبٌ خاطئ ، يأكلُ رزقَ الله ، ويعبدُ غيرَهُ.
(0/0)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " لَمَّا قَالَ أبُو جَهْلٍ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : ألَمْ أنْهَكَ عَنِ الصَّلاَةِ ، انْتَهَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأغْلَظَ لَهُ وَتَهَدَّدَهُ ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : أتُهَدِّدُنِي وَأنَا أكْبَرُ أهْلِ الْوَادِي ، وَاللهِ لأَمْلأَنَّ عَلَيْكَ الْوَادِي خَيْلاً جُرْداً وَرجَالاً مُرْداً " ، فأنزلَ اللهُ تعالى { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ } أي فيلدعُ قومَهُ وعشائرَهُ ليعاونوهُ ، سندْعُ الزبانيةَ ليأخذوهُ.
والنَّادي في اللغة : المجلسُ ، والمراد بالمجلسِ هاهنا أهلُ المجلسِ. والزبانيةُ : هم الملائكةُ الموكَّلون بتعذيب أهل النار ، واحدُهم زَبْنٌ ، والزَّبْنُ الدفعُ ، يقالُ : زَبَنْتِ الناقةَ الحالبَة إذا ركضَتْهُ برجلِها ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَوْ نَادَى نَادِيَهُ لأَخَذتْهُ الزَّّبَانِيَةُ عَيَاناً ".
(0/0)
كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وقولهُ تعالى : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } ؛ هذا قسَمٌ من اللهِ ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : ليسَ كما يقولُ أبو جهلٍ ، لا تُطِعْهُ فيما يأمُركَ به من تركِ الصَّلاة ، وصلِّ لله واقترِبْ إلى رحمتهِ بالسُّجود على رغمِ مَن ينهاكَ عنه.
رُوي : " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُصلي بعدَ هذه السُّورة ، فأتاهُ أبو جهلٍ ليُؤذيَهُ على عادتهِ ، فوجدَهُ يقرأُ هذه السُّورة ، فخافَ وانصرفَ. فقيل له : أخِفْتَهُ؟! وما الذي منعَكَ أن تفعلَ به ما هَمَمتَ به ؟ قال : وجدتُ عنده حارساً يحرسهُ ، وسَمعتهُ يهدِّدُنِي بالزَّبانية ، أما الحارسُ فهو فحلٌ أهوَى إلَيَّ أرادَ أن يَأكُلَني ، واللهِ ما أدري ما زَبانِيَتهُ فهربتُ ".
(0/0)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } ؛ معناهُ : إنَّا أنزلنا القرآنَ في ليلة القدر ، والهاءُ في قوله { أَنزَلْنَاهُ } كنايةٌ عن المضمَرِ المذكور في السُّورة التي قبلَ هذه السُّورة ، وهو القرآنُ ، فإنه تقدَّمَ في أوَّلها { اقْرَأْ } ؛ أي اقرأ القرآنَ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : إنَّا أنزلنا جبريلَ بهذا القرآنِ في ليلةِ القدر في شهرِ رمَضان.
وذلك أنَّ القرآنَ أُنزِلَ جُملةً واحدةً إلى السَّماء الدُّنيا إلى الكَتَبَةِ ، ثم أُنزل بعدَ ذلك نُجوماً في عشرين سَنة - وَقِيْلَ : ثلاثٍ وعشرين -. وسُميت هذه الليلةُ ليلةَ القدر ؛ لأنَّها ليلة الحكمِ والقضاء ، يقدِّرُ الله فيها كلَّ شيءٍ يكون في السَّنة إلى السَّنة ، ومعنى تقديرهِ : أنْ يأمُرَ الملائكةَ أنْ يكتبوهُ ويقرأوه.
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)
وقولهُ تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } ؛ تعجُّبٌ وتعظيمٌ لحرمَتها ؛ أي ما أعلمكَ يا مُحَمَّدُ ما شرفُ هذه الليلةِ لولا أنَّ اللهَ أعلمَكَ بذلك ، { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ؛ أي العملُ فيها خيرٌ من العملِ في ألفِ شهر ، وعلى هذا قالُوا : إنَّ مَنْ صلَّى فيها رَكعتين كان له ثوابُ من صلَّى ليالي ألفَ شهرٍ ركعَتين ، بل ثوابُ هاتَين الركعتين أكثرُ من ثواب تلك الصلاةِ كلِّها.
وسببُ نزول هذه السورة : " أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ذكرَ يوماً لأصحابهِ : " أنَّ أرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُمْ : أيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وحِزْقِيلُ ويُوشُعُ بْنُ نُونٍ عَبَدُوا اللهَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ " ، فتعجَّبَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من ذلك ، فأتَى جبريلُ فقالَ له : عجِبَتْ أُمَّتُكَ من عبادةِ هؤلاء النَّفر ثمانين سَنة لم يعصُوا اللهَ فيها طرفةَ عينٍ ، فقد أنزلَ الله عليكَ خيراً منه ، ثم قرأ { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ... } إلى آخرِها ، وقالَ : هذا أفضلُ مما عجِبتَ منه أنتَ وأُمَّتك ، فسُرَّتِ الصحابةُ بذلك ".
ورُوي : " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاَحَ عَلَى عَاتقهِ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ ، فعجبَ المسلمون من ذلك عَجباً شَديداً ، وتَمنَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ يكون مثلُهُ في أُمَّته ، فأعطاهُ الله ليلةَ القدر.
واختلَفُوا في وقتِها ؛ فقال بعضُهم : كانتْ على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رُفعت ، والصحيحُ : أنَّها لم تُرفع وأنَّها إلى يومِ القيامة ، لِمَا رُوي عنِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قِيْلَ : لَهُ : هَلْ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْر ؟ فَقَالَ : " بَلْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " عن عبدِالله بن حسن قالَ : قلتُ لأبي هريرةَ رضي الله عنه : زعَمُوا أنَّ ليلةَ القدر قد رُفعت ، قال : ((كَذبَ مَنْ قَالَ)) قُلْتُ : أهيَ كلَّ شهرِ رمضان ؟ قال : ((نَعَمْ)).
وقال بعضُهم : هي في ليالِي السَّنة كلِّها ، وأنَّ مَن علَّقَ طلاقَ امرأتهِ أو عتقَ عبدهِ بليلة القدر لم يقع شيءٌ من ذلك إلى مُضي سَنة من يومِ حلفهِ. والجمهورُ من العلماءِ : أنَّها في شهرِ رمضان في كلِّ عامٍ. وسُئل الحسنُ عن ليلةِ القدر فقالَ : ((وَاللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ؛ إنَّهَا فِي كُلِّ رَمَََضَانَ)).
واختلَفُوا في أيِّ ليلةٍ هي ، فقال أبو رَزين العُقَيلي : ((هِيَ أوَّلُ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ)) ، وقالَ الحسنُ : ((هِيَ ليْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ صَبيحَةَ وَقْعَةِ بَدْرٍ)).
والصحيحُ : أنَّها في العشرِ الأواخر من رَمضان ، وقال أبو سعيدٍ الخدري : ((هِيَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ)) ، وعن أُبَيِّ بن كعبٍ قالَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ :
(0/0)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا } ؛ أي تنَزلُ ملائكةُ السَّموات السبعِ إلى السَّماء الدُّنيا وجبريلُ معهم ، { بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } ؛ أمَرَهم اللهُ به في تلك الليلةِ.
وقد يقامُ حرفٌ من مقامِ الباء ، كما في قولهِ تعالى : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }[الرعد : 11] معناهُ : أي بأمرِ الله ، فكذلكَ معنى { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } أي بكُلِّ أمرٍ قدَّرَهُ اللهُ تعالى في تلك الليلةِ إلى مثلِها من السَّنة القابلة. ويقالُ : إنَّ الملائكةَ ينْزِلون إلى الدُّنيا في تلك الليلة ، ويسَلِّمون على المؤمنينِ على كلِّ قائمٍ وراكع وساجد إلى طُلوع الفجرِ.
قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف (تُنْزَلُ الْمَلاَئِكةُ) مخفَّفاً. والمرادُ بالرُّوح جبريلُ في قولِ أكثر المفسِّرين ، وقال مقاتلُ : ((الرُّوحُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، لاَ تَرَاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إلاَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ، يَنْزِلُونَ مِنْ غُرُوب الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ)). وَقِيْلَ : هو ملَكٌ عظيمٌ.
(0/0)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَلاَمٌ هِيَ } ؛ تَمامُ الكلامِ عند قولهِ تعالى { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } ، ثم ابتدأ فقالَ : { سَلاَمٌ هِيَ } أي ليلةُ القدر ، سلامةٌ هيَ ؛ أي خيرٌ كلُّها ليس فيها شرٌّ ، قال الضحَّاك : ((لاَ يُقَدِّرُ اللهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلاَّ السَّلاَمَةَ ، فَأَمّا اللَّيَالِي غَيْرَهَا فَيَقْضِي فِيهِنَّ الْبَلاَءَ وَالسَّلاَمَةَ)). قال مجاهدُ : ((هِيَ سَالِمَةٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أنْ يَعْمَلَ فِيهَا شَرّاً ولاَ أذَى)). وقال الشعبيُّ : ((هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلاَئِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْر عَلَى أهْلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ إلَى أنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ)).
وفي قراءةِ ابنِ عبَّاس (مِنْ كُلِّ أمْرٍ سَلاَمٌ) معناهُ : مِن كلِّ ملَك سلامٌ على المؤمنِين في هذه الليلة ، وَقِيْلَ : على هذه القراءة أيضاً أن (مِنْ) بمعنى (على) ؛ تقديرهُ : على كلِّ امرئ من المسلمين سلامٌ من الملائكةِ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ }[الأنبياء : 77] أي على القومِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } ؛ أي إلى مطلعِ الفجر ، و(حتَّى) حرفُ غايةٍ ، قرأ الأعمشُ والكسائي وخلف (مَطْلِعِ) بكسرِ اللام ، وقرأ الباقون بفتحها وهو الاختيارُ ؛ لأن المطلَع بفتحِ اللام بمعنى الطُّلوع ، يقالُ : طلَعت الشمسُ طُلوعاً ومَطْلَعاً ، وأما المطلِعُ بكسر اللام ، فإنه موضعُ الطُّلوع ، ولاَ معنى للاسمِ ها هنا.
والحكمةُ في إخفاءِ ليلة القدر على العبادِ : أنَّهم لو عَرفوها لقصدُوها بالعبادةِ ، وأهملوا في سائرِ الليالِي ، وإذا لم يعرِفوها بعينها عبَدُوا اللهَ في جميع ليالِي شهرِ رمضانَ رجاءَ أن يُدركوها.
(0/0)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } ؛ وهم اليهودُ والنصارى ، { وَالْمُشْرِكِينَ } ؛ وهم عَبدةُ الأوثانِ ، { مُنفَكِّينَ } ؛ أي مُنتَهين عن كُفرِهم وشِركهم ، وَقِيْلَ : لم يكونوا زائلين ، { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } ؛ الواضحةُ ، وهي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أتَاهُمْ بالقرآنِ ، فبيَّن ضلالتَهم وجهالتَهم ثم دعاهُم.
ثم فسَّرَ البيِّنة فقالَ : { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } ؛ من الباطلِ والتناقُض ، { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } ؛ أي مستقيمةٌ عادلة ، ومعنى قولهِ تعالى { رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ } يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم { يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } أي يقرأُ عليهم ما تضمَّنَتْهُ الصُّحفُ المطهَّرَةُ من المكتوب ، سُمِّيت مطهَّرةً ؛ لأنَّها مطهَّرةٌ من الباطلِ والتناقض ، ولا يَمسُّها إلاّ المطهَّرون من الأنجاسِ وهم الملائكةُ ، وأرادَ بها الصُّحف التي في أيدِيهم كما قال{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ }[عبس : 15-16] ، في تلك الصُّحف { كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } أي مستقيمةٌ في جهة الصَّواب ، لا تؤدِّي إلى اعوجاجٍ ، ولا تدلُّ إلاَّ على الحقِّ؟
(0/0)
وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } ؛ فيه تقريعٌ لليهودِ والنصارَى ، فإنَّهم ما اختلَفُوا في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ من بعدِ ما جاءَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالقرآنِ والمعجزات ، { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ } ؛ أي ما أُمرِ هؤلاءِ الذين سبقَ ذِكرُهم من اليهودِ والمشركين في جميعِ كُتب اللهِ إلاّ أنْ يعبُدوا اللهَ ، { مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ؛ في دينِهم ؛ { حُنَفَآءَ } ؛ مائِلين عن كلِّ دينٍ سِوَى الإسلام ؛ وَأنْ ؛ { وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ؛ بحقوقِها في مواقيتها ، وَأنْ ؛ { وَيُؤْتُواْ } ؛ يُعطوا ؛ { الزَّكَاةَ } ؛ المفروضةَ ، { وَذَلِكَ دِينُ } ؛ اللهِ { القَيِّمَةِ } ؛ أي المستقيمةِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } ؛ أي شرُّ خليقةٍ ، ومنه بَرَئَ الله ، والبرْئَةُ بالهمزِ هم الخليقةُ ، ومنه بَرَأ اللهُ الخلقَ ، ومنه البارئ بمعنى الخالقُ ، ومن قرأ بغير الهمزِ كأَنه تركَ الهمزَ على وجهِ التخفيف.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } ؛ أي خيرُ الخليقةِ ، { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ } ؛ أي بساتِين إقامةٍ ، { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ الأربعةُ ، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ؛ بإيمانِهم ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } ؛ بالثَّواب الذي أكرمَهم اللهُ به ، { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } ؛ بامتثالِ أوامره ، واجتناب معاصيه.
(0/0)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
{ إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا } ؛ وذلكَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن قيامِ السَّاعة متى يكونُ ، فأُنزلت هذه السُّورة لبيانِ أشراطِها وصفاتِها. والزَّلْزَلَةُ هي الحركةُ الشديدةُ ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً }[الواقعة : 4] ، وذلك أنَّ الأرضَ تحركُ يومئذ حركةً شديدةً حتى يتقطَّعَ جميعُ ما فيها من بناءٍ وجبَل وشجَرٍ ، حتى يدخلَ فيها كلُّ ما على وجهِها.
(0/0)
وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا } ؛ أي لفَظَتِ الأرضُ عند ذلك ما فيها من الأمواتِ والأموالِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ }[الانشقاق : 4]. وفائدةُ إلقاءِ الكُنوز وإظهارها أنْ تتحسَّرَ عليها نفوسُ الذين كنَزوها ، وأنْ يُعذَّبُوا بها ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ }[التوبة : 35].
(0/0)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا } ؛ الإنسانُ هاهنا اسمُ جنسٍ أُريد به الذين يخرُجون من جوفِها ، يقولُ كلٌّ منهم ما للأرضِ وما حالُها ؟ ولأيِّ شيء زلْزَالُها ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } ؛ أي يومئذٍ تخبرُ الأرض بما عُمِلَ على ظهرِها من خيرٍ ، أو شرٍّ عبرةً للمتفكِّر فيها ، تقولُ في المؤمن : صلَّى عَلَيَّ وحجَّ وصامَ ، فيفرحُ المؤمنُ ، وتقولُ في الكافرِ : أشركَ علَيَّ وسرقَ وزنا وشرِبَ الخمرَ ، فيحزنُ ، وذلك الإخبارُ بأنَّ الله ألهمَها وأنطَقها ، كما أنطقَ اللهُ الجوارحَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } ؛ أي إذِنَ لها وأمَرَها.
(0/0)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً } ؛ أي يصدُرون من قبورهم متفرِّقين إلى أرضِ المحشر فِرَقاً فرقاً أهلُ كلِّ دينٍ على حِدَةٍ ، فيُسار بهم إلى موضعِ الحساب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } ؛ من كتُبهم التي تسجِّلُ أعمالَهم فيها. وَقِيْلَ : يرجِعون من موضعِ الحساب متفرِّقين ليُرَوا جزاءَ أعمالهم ، فريقٌ في الجنَّة وفريقٌ في السَّعير.
(0/0)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ؛ اختلَفُوا في مثقالِ الذرَّة ، قال بعضُهم : هو ما يقعُ في الكون من شعاع الشمس من الهباء ، وقال بعضُهم : هي النملةُ الحمراء الصغيرة ، وذلك أنَّ قوماً كانوا لا يرَون أنَّهم يُؤجَرون على قليلٍ من الخير ، ولا يُعاقَبون على قليلٍ من الشرِّ ، فأنزلَ اللهُ هذه ، وحثَّهم على كلِّ خير قلَّ أو كَثُرَ ، وحذرَهم من كلِّ شرٍّ قلَّ أو كَثُر ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بشِقِّ تَمْرَةٍ ، فَإنْ لَمْ تَجِدُوا فِبكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ".
(0/0)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
{ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } ؛ أقسمَ اللهُ تعالى بالخيولِ العادياتِ في سَبيلهِ إكراماً للغُزاة ، وللهِ أن يُقسِمَ بما شاءَ من خلقهِ ، وليس لنا أن نُقسِمَ إلاّ بهِ. والضَّبْحُ حَمْحَمَةُ الخيلِ ، وما يُسمع من أصواتِ أنفَاسِها إذا عَدَتْ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه : ((أنَّ الْمُرَادَ بالْعَادِيَاتِ الذاهِبَةَ إلَى الْعَدُوِّ ، يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ : وَلَمْ يَكُنْ مُعَدّاً يَوْمَئِذٍ إلاَّ فَرَسٌ وَاحِدٌ رَكِبَهَا الْمِقْدَادُ)). وانتصبَ قولهُ { ضَبْحاً } على المصدر تقديرهُ : والعادياتِ تَضْبَحُ ضَبحاً.
(0/0)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً } ؛ أي فالْمُظهِرَاتِ بسَنابكها النارَ بوطئِها بنعالها للحجارةِ ، وبضربها الحصَى بعضَها ببعضٍ كنار القادح ، والقَدْحُ والإبْرَاءُ بمعنى واحدٍ ، وتقديرهُ : فالقادحاتِ قَدحاً.
(0/0)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } ؛ يعني الخيلَ تُغِيرُ عند الصبَّح في سبيلِ الله ، أضافَ الإغارةَ إليها وأرادَ بذلك ركَّابَها ، وذلك أنَّهم كانوا يَسِيرُون إلى العدوِّ ليلاً ويأتوهم صُبحاً.
(0/0)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } ؛ أي هجَمت بالمكانِ الذي انتهت إليه غُباراً. وإن ما لم يذكرِ المكان ؛ لأن في الكلامِ دَليلاً عليه ، وذلك أن إثارةَ الغُبار لا يكون إلاّ بمكانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } ؛ أي دخَلن في ذلك المكانِ في وسطِ جمعِ المشركين للإغارةِ.
(0/0)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } ؛ هذا جوابُ القسَمِ هاهنا ، والإنسانُ عبارةٌ عن جنسِ الناسِ ، وَقِيْلَ : المرادُ به الكافرُ ، والكَنُودُ هو الكافرُ ، الذي " يَمْنَعُ رفْدَهُ ، وَيَأْكُلُ وَحْدَهُ ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ " وهكذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وقال الكلبيُّ : ((الْكَنُودُ بلِسَانِ مِعَدٍّ : العاصِ)) ، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة : الكفورُ ، وبلسان بني مالك : البخيلُ. وقال الحسن : ((يَعُدُّ الْمَصَائِبَ ، وَيَنْسَى النِّعَمَ)) وقال عطاءُ : ((الْكَنُودُ الَّذِي لاَ خَيْرَ فِيْهِ)). والأرضُ الكَنُود الذي لا تُنبتُ ثانياً ، وَقِيْلَ : هو الحقودُ الحسود.
(0/0)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } ؛ معناهُ : إنَّ اللهَ على صُنع هذا الكنودِ وكُفرانهِ لنِعَمِهِ لشهيدٌ يُحصِي عليه أعمالَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ الإنسانَ على نفسهِ لشيهدٌ ، يشهدُ بذلك حالهُ في بُخلهِ ، وإعراضهِ عما يجبُ عليه ، فالهاء على هذا القولِ راجعةٌ للإنسان.
(0/0)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } ؛ الضميرُ عائدٌ على الإنسان ، معناهُ : إنَّ الإنسانَ في حقِّه ، ويقالُ في معناه : وإنَّه لِحُبه المالَ لبخيلٌ ، ويقالُ : رجل شديدٌ إذا كان بَخيلاً.
قال ابنُ زيد : ((سُمِّيَ الْمَالُ خَيْراً وَعَسَى أنْ يَكُونَ خَبيثاً وَحَرَاماً ، وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَهُ خَيْراً ، وَسَمَّى الْمَالَ خَيْراً ، وَسَمَّى الْجِهَادَ سُوءً ، فقال{ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ }[آل عمران : 174])) أي فقالَ وليس هو عندَ الله سوءً ولكن يسمُّونه سوءً. ومعنى الآيةِ شأنهُ من أجلِ حب المال الشديد بخيلٌ ، ويقال للبخيلِ : شديدٌ ومتشدِّدٌ ، قال طُرفة : أرَى الْمَوْتَ يَعْتَامُ الرِّجَالَ وَيَصْطَفِي عَقِيلَةَ مَالِ الْفَاحِشِ الْمُتَشَدِّدِوالفاحشُ البخيل ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ }[البقرة : 268] أي بالبُخلِ.
(0/0)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
وقولهُ تعالى : { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ } ؛ معناهُ : أفلا يعلمُ هذا الإنسانُ إذا بُعث الموتَى من قبورهم ، { وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ } ؛ أي وأُظهِرَ ما في صُدورهم من الخيرِ والشرِّ والسَّخاء والبُخل ، { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } ؛ أي عالِمٌ يعلمُ ما أسَرُّوه وما أعلنوهُ ، ويجازيهم على أعمالهم.
ولولا دخولُ اللام في جواب (إنَّ) لجاءت مفتوحةً لوقوعِ العلم عليها ، ولكنْ لما دخَلت اللامُ كُسرت (إنَّ) على عادةِ العرب ، كما في قولهِ تعالى : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ }[المنافقون : 1].
ويحكى : أنَّ الحجاجَ غلطَ في قراءةِ هذه السُّورة فقالَ : (أنَّ رَبَّهُمْ) بالفتحِ ، واستدركَ الغلطَ من جهةِ العربية وحذفَ اللام فقالَ : (خَبيرٌ) فالتفتَ الحسن إلى أصحابهِ وقالَ : ((ألاَ تَنْظُرُونَ إلَى عَدُوِّ اللهِ يُغَيِّرُ كِتَابَ اللهِ لِيُقَوِّمَ لِسَانَهُ!)).
(0/0)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3)
{ الْقَارِعَةُ } ؛ القارعةُ من أسماءِ القيامة ، سُميت بذلك ، لأنَّها تقرعُ القلوبَ بالأهوالِ والأفزاعِ. والمعنى : ستأتيكَ القارعةُ ، ويقال : إنَّ القارعةَ هي الصيحةُ العظيمة ، وقولهُ تعالى : { مَا الْقَارِعَةُ } ؛ تفخيمٌ لأمرِ القيامة ، { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ } ، تقديرهُ : القارعةُ ما هي ؟ وأيُّ شيء هي ؟ وما أعلَمَك ما هي لو لَمْ أُعلِمْكَ ؟ وهذا كما يقالُ : وأيُّ فقيهٍ؟
(0/0)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ } ؛ معناهُ : يوم يَمُوجُ الناسُ بعضُهم في بعضٍ حين يُخرَجون من قبورهم ، كالجرادِ الكثير المتفرِّق الذي يدخلُ بعضهُ في بعضٍ ، ويركبُ بعضهُ بعضاً يعني الغوغاءَ ، وهي صغارُ الجرادِ ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ }[القمر : 7] وسُمي الجرادُ فَرَاشاً ؛ لأنه يتَفرِشُ حين يتفرَّقُ ، ويقالُ الفراشُ ما يطير حولَ السِّراجِ من البَقِّ ونحوهِ ، وإنما شبَّهَ الناسَ يومئذ بالفراشِ ؛ لأنَّهم يذهَبون في ذلك اليومِ على وُجوهِهم لا يدرون من أينَ يجيئون ، ولا أين يذهَبون.
(0/0)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ } ؛ معناهُ : تصيرُ في ذلك اليومِ بعدَ القوَّة والشدة كالصُّوف ، والمنفوشُ : المندوفُ ، وذلك أوهَى ما يكون من الصُّوف.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ؛ يعني بالطَّاعات والحسناتِ ، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ؛ أي ذاتِ رضىً يرضَاها اللهُ ، وَقِيْلَ : معنى { رَّاضِيَةٍ } أي مَرْضِيَّة.
(0/0)
وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } ؛ أي خفَّت من الأعمالِ الصالحة فمسكَنهُ ومأواهُ الهاويةُ ، يأوي إليها ، كما يأوي الولدُ إلى أُمه. وَقِيْلَ : يَهوِي على أُمِّ رأسهِ في النار دَركَةً من دركاتِ النار.
واختلَفُوا في كيفيَّة وزنِ الأعمال ، فقال بعضُهم : توزَنُ صحائفُ الحسَنات في كفَّة ، وصحائفُ السِّيئات في كفَّة. وقال بعضُهم : يخلقُ الله من الحسَناتِ نوراً يكون علامةً للحسناتِ ، فتوضعُ في كفَّة الحسناتٍ ، ويخلقُ من السِّيئات ظُلمةً تكون علامةً للسِّيئات ، فتوضعُ في كفَّة السيِّئات.
واختلَفُوا فيمَنْ يزنُ الميزانَ ، قال بعضُهم : يتولاَّهُ ملَكٌ من الملائكةِ موكَّلٌ بالموازين. وقال بعضُهم : يتولاَّهُ جبريلُ فيَقِفُ بين الكفَّتين ويزنُ الأعمالَ ، فمَن رجَحت حسناتهُ على سيِّئاته نادَى بصوتٍ يسمعهُ أهل الموقفِ : الآنَ فلانُ بنُ فلانٍ ، سَعِدَ سعادةً لا شقاءَ بعدَها أبداً ، ومَن رجَحتْ سيِّئاتهُ على حسناتهِ نادَى الملَكُ بصوتٍ يسمعهُ أهل الموقفِ : الآنَ فلانُ بنُ فلانٍ ، شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ بعدَها أبداً.
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ } ؛ أي ما أعلَمَك - يا مُحَمَّدُ - ما الهاويةُ لو لَمْ أُعلِمْكَ ؟ وهذه الهاءُ تسمى هاء السَّكْتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَارٌ حَامِيَةٌ } ؛ تفسيرٌ للهاويةِ ؛ ومعناهُ : نارٌ قد تناهَتْ حرارَتُها منتهاها.
ويُروى : ((أنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ كَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ هَذِهِ السُّورَةَ قَطَعَتْهُ الْعَبْرَةُ مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ ، فَفَارَقَ الدُّنْيَا وَمَا خَتَمَهَا)).
(0/0)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
{ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } ؛ أي شغلَتْكم المباهاةُ والمفاخرَةُ بكثرةِ المال والعدد عن طاعةِ ربكم حتى مِتُّمْ ودُفِنْتُم في المقابرِ قبلَ أنْ تَتوبُوا ، ويقالُ لِمَن ماتَ : زارَ حُفرتَهُ ، وتوَسَّدَ لَحْدَهُ. هذا خطابٌ لِمَن حرصَ على الدُّنيا وجَمَعَ أموالها وهو يريدُ التكاثرَ والتفاخرَ بها.
وَقِيْلَ : إنَّ هذه السُّورةَ نزَلت في حَيَّيْنِ من قُريش ؛ أحدُهما : بنو عبدِ مَناف ، والآخرُ : بنو سَهْمٍ ، فعَدُّوا أيُّهم أكثرَ ، فكثَّرهم بنو عبدِ مناف ، فقال بنو سهمٍ : إنما أهلَكَنا البغيُ في الجاهليَّة ، فعُدُّوا أمواتَنا وأمواتَكم وأحياءَنا وأحياءَكم ، فتعادُّوا فكثَّرهم بنو سهمٍ ، فأنزلَ اللهُ هذه السورة تَهديداً لهم. والمعنى : شغَلَكم التفاخرُ بالأنساب والمناقب عن توحيدِ الله حتى عدَدتُم الموتَى في المقابرِ.
ثم زادَ في وعيدهم فقالَ : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي حقّاً سوفَ تعلمون ماذا تَلقَون من العذاب عند الموت وفي القبرِ ، { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي ثُم حقّاً سوف تعلَمُون ماذا تَلقَون في الآخرةِ من عذابها ، ولا بدَّ أن يكون المرادُ بهذا الثاني غير المرادِ الأول ، وكيف يكون هذا تِكرَاراً ، وقد دخلَ بينهما حرفُ (ثُمَّ) التي هي للتراخِي.
(0/0)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ } ؛ قال بعضُهم : جوابُ هذا محذوفٌ ؛ أي حقّاً لو علِمتُم ماذا ينْزِلُ بكم في الآخرةِ علمَ اليقينِ لَمَا تفاخَرتُم في الدُّنيا ، وما ألْهاكُم التكاثرُ.
(0/0)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ } ؛ أي لتَرَوْنَّ الجحيمَ في الموقفِ إن متُّم على هذا ، { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } ؛ مُعاينةً ، إذا دخَلتُموها ، وتشاهدون في الآخرةِ كلَّ ما شكَكتُم فيه في الدُّنيا ، { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } ؛ ثم لتُسأَلُنَّ يومَ القيامةِ عن اشتغالِكم بنعيمِ الدُّنيا حتى ترَكتُم ما لَزِمَكم من الفرائضِ.
واختلَفُوا في هذا السُّؤال ، قال بعضُهم : هو سؤالُ توبيخٍ وتقريع للكفَّار في النار ، يقالُ للكافرِ وهو في النار : أين ذهبَ تفاخُركَ ومُلكُكَ ومملكتُكَ وعدَدُكَ ، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي : " أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أكْلَةٍ أكَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ أبي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الأَنْصَاريِّ مِنْ لَحْمٍ وَخُبْزِ شَعِيرٍ وَمَاءٍ عَذْبٍ وَبُسْرِ قَدْ ذنَّبَ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ أتَخَافُ عَلَيْنَا أنْ يَكُونَ عَلَيْنَا مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي نُسْأَلُ عَنْهُ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ ذلِكَ لِلْكُفَّار ، ثُمَّ ثَلاَثٌ لاَ يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : مَا يُوَاري بهِ عَوْرَتَهُ ، وَمَا يُقِيمُ بهِ صُلْبَهُ ، وَمَا يُكِنُّهُ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَهُوَ مَسْؤُولٌ بَعْدَ ذلِكَ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ " ".
وقالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ نِعْمَةٍ صَغِيرَةٍ أوْ كَبيرَةٍ فَقَالَ عَلَيْهَا : الْحَمْدُ للهِ ، إلاَّ أُعْطِيَ خَيْراً مِمَّا أخَذ ".
وعن أنسٍِ قالَ : " جَاءَ جِبْرِيلُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : مَنْ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤَدِّيَ شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : " مَنْ عَلِمَ أنَّ تِلْكَ النِّعْمَةَ مِنْ قِبَلِ اللهِ فَقَدْ أدَّى شُكْرَهَا " ".
وسُئل ابنُ مسعودٍ عن النعيم المذكور في هذه الآيةِ فقال : ((الأَمْنُ وَالصِّحَّةُ)) ، وسُئل عليٌّ رضي الله عنه عَنْ ذلكَ فقال : ((خُبْزُ الشَّعِيرِ ، وَالْمَاءُ الْقِرَاحُ)). ويقالُ : إنَّه باردُ الشَّراب ، وظلُّ المساكنِ ، وشبَعُ البطونِ. ويقالُ : يُسْألُ عن الماء الباردِ في شدَّة الحرِّ ، وعن الماءِ الحارِّ في شدَّة البردِ.
وهذا كلُّه محمولٌ على ما إذا تشاغلَ بشيءٍ من هذه المباحات ، فتركَ بها واجباً عليه ، وأمَّا إذا لم يكن ذلك ، فإنه لا يُسأل عنها ولا يُحاسَبُ عليها.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " النَّعِيمُ الْمَاءُ الْبَاردُ وَالرُّطَبُ " وقال عبدُالله ابنُ عمرَ : ((هُوَ الْمَاءُ الْبَاردُ فِي الصَّيْفِ)). وفي الخبرِ المأثور : " أنَّ أوَّلَ مَا يَسْأَلُ اللهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنْ يَقُولَ لَهُ : " ألَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ؟ ألَمْ أرْوكَ مِنَ الْمَاءِ الْبَاردِ ؟ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " " إذا شَرِبَ أحَدُكُمُ الْمَاءَ ، فَلْيَشْرَبْ أبْرَدَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ " قِيلَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : " لأَنَّهُ أطْفَأُ لِلْمَرْءِ ، وَأنْفَعُ لِلعِلَّةِ ، وَأبْعَثُ لِلشُّكْر "
(0/0)
وَالْعَصْرِ (1)
{ وَالْعَصْرِ } ؛ معناهُ : والدَّهرِ ، أقسَمَ اللهُ بالدهرِ في ترَدُّدهِ وتقلُّبهِ لِمَا فيه من الدَّلالة على وحدانيَّة اللهِ ، ويجوز أنْ يكون المرادُ به : ورب العصرِ ، وقال بعضُهم : المرادُ بالعصرِ العشِي ، وفائدةُ ذكرهِ : ما فيه من الدَّلالة على توحيدِ الله من إقبالِ اللَّيل ، وإدبار النهار ، وذهاب سُلطان الشمسِ.
(0/0)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ؛ هذا جوابُ القسَم ، والإنسانُ ها هنا جنسٌ أرادَ به جميعَ الناس ، ولذلك استثنَى منهم المؤمنِين المطيعين. وَقِيْلَ : المرادُ بالإنسان ها هنا الكافرُ بخُسرهِ نفسَهُ ومالَهُ وأهلَهُ ومنْزلَهُ وخدَمَهُ في الجنَّة ، ويرثهُ المؤمن.
ويقال : معنى الْخُسْرِ ها هنا نقصانُ العُمرِ ، كلُّ إنسانٍ رأسُ ماله " العمر " ، والمؤمنُ وإنْ كان ينقصُ من عُمره الذي هو رأسُ ماله ، فإنه يربحُ عليه بالطاعةِ فلا يعدُّ ذلك خُسراناً ؛ لأنه لا يتوصَّلُ إلى الربحِ إلاّ بإخراجِ رأسِ المال من يده ، فمعنى الخسران لا يتحقَّقُ إلاّ في الكافرِ.
وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ ، وَإنْ كَانَ يَوْمُهُ خَيْراً مِنْ أمْسِهِ فَهُوَ مَغْبُوطٌ ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرّاً مِنْ أمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الزِّيَادَةِ فَهُوَ فِي النُّقْصَانِ ، وَمَنْ كَانَ فِي النُّقْصَانِ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ مِن الْحَيَاةِ ".
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ } ؛ فهؤلاء همُ الذين يتمسَّكون بما يؤدِّيهم إلى الفوز بالثواب ، والنجاةِ من العقاب ، فإنَّهم لا يُقصِرون على طاعةِ أنفسهم بل يحثُّون غيرَهم على الطاعةِ لِيُقْتَدَى بهم وليَكُونوا سَبباً في طاعةِ غيرهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ } أي أوصَى بعَضُهم بعضاً باتِّباع القرآنِ ، وطاعة اللهِ ، { وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ } على الشَّدائد في ذاتِ اللهِ.
وعن أُبَيِّ بن كعبٍ قال : قَرَأتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم { وَالْعَصْرِ } فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَفْسِيرُهَا ؟ فَقَالَ : " أقْسَمَ رَبُّكَ بآخِرِ النَّهَار { إِنَّ الإِنسَانَ } وَهُوَ أبُو جَهْلٍ { لَفِى خُسْرٍ } ، { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب ، { وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ } يَعْنِي عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانٍ ، { وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ } يَعْنِي عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ " رضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
(0/0)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : ((نَزَلَتْ فِي الأَخْنَسِ ابْنِ شُرَيْقٍ ، كَانَ يَهْمِزُ النَّاسَ وَيَلْمِزُهُمْ مُقْبلِينَ وَمُدْبرِينَ)). وقال مقاتلُ : ((نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ)). وحرف (كُلِّ) يقتضي أنَّ هذا الوعيدَ لكلِّ كافرٍ يغتابُ الناسَ ويَعيبُهم. والويلُ كلمةٌ تقولها العربُ في كلِّ مَن وقعَ هَلكةٍ ، ويقالُ : إنه وادٍ في جهنَّم مملوءٌ من القيحِ والصَّديد مما يسيلُ من أهلِ النار.
والْهُمَزَةُ : الطاعنُ على غيرهِ بغير حقِّ بالسَّفَهِ والجهلِ ، واللُّمَزَةُ : الْمُغتَابُ الْمِعيَابُ ، وعن أبي العاليةِ قال : ((الْهُمَزَةُ : الَّذِي يَلْمِزُ مِنْ خَلْفٍ ، وَاللُّمَزُ : هُوَ الْعَيْبُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ }[الحجرات : 11] أي لا يعيبَنَّ بعضُكم على بعضٍ)). وقال ابنُ عبَّاس : ((الْهُمَزَةُ اللُّمَزَةُ : هُمُ الْمَشَّاءُونَ بالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ)).
وَقِيْلَ : الْهُمَزَةُ : الذي يأكلُ لحومَ الناسِ ويغتابُهم ، واللُّمَزة : الطعَّان عليهم. وَقِيْلَ : اللُّمَزة : الذي يُكرِمُ الناسَ بلسانهِ ويهمِزُهم بعينهِ ، وقال ابنُ كَيسان : ((الْهُمَزَةُ : الَّذِي يُؤْذِي جَلِيسَهُ بسُوءٍ اللَّفْظِ ، وَاللُّمَزَةُ : الَّذِي يَكْسِرُ عَيْنَهُ عَلَى جَلِيسِهِ ، وَيُشِيرُ برَأسِهِ ، وَيُومِئُ بعَيْنَيْهِ ، وَيَرْمِزُ بحَاجِبهِ)).
(0/0)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } ؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عامر ونافع وعاصم (جَمَعَ) بتخفيفِ الميم ، وقرأ غيرُهم بالتشديدِ ، ومعنى الآية : الذي جمعَ مالاً كثيراً من الحرامِ وعدَّدَهُ لنوائبِ دهرهِ. وَقِيْلَ : عدَّهُ وأحصاهُ وأحرَزهُ ، وقرأ الحسنُ (وَعَدَدَهُ) بالتخفيفِ ؛ أي جمَعهُ وعدده ؛ أي وخدَمهُ واتباعهُ ، تقول العربُ : جَمعتُ الشيءَ إذا كان متفرِّقاً ، وجَمَّعتُ الشيء بالتشديدِ إذا أكثرتُ الجمعَ منه.
(0/0)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } ؛ معناهُ : يحسبُ هذا الكافر الطاعنُ اللعَّانُ أنَّ كثرةَ مالهِ تُخْلِدُهُ وتُبقيه ؟ أي يعملُ عمَلَ من يظنُّ أن ماله يُبقيهِ؟
(0/0)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ } ؛ أي حاشَا أن يخلُدَ أحدٌ في الدينا. ويجوزُ أن يكون معناه : حقّاً ؛ { لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ } ؛ أي ليُطرَحنَّ فيها ، وقرأ الحسنُ (لَيُنْبَذَان) أي ليطرحَانَّ هو ومالهُ. والْحُطَمَةُ : اسمُ دركَةٍ من دركاتِ النار ، سُميت بذلك ؛ لأنَّها كثيرةُ الحطْمِ للكفار ، وأصلُ الْحَطْمِ الكسرُ ، يقالُ : رجلٌ حَطَمَةٌ إذا كان كثيرَ الأكلِ.
(0/0)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ } ؛ تفخيمٌ لشأنِها ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ } ؛ أي لا تَخْمَدُ أبداً ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ } ؛ أي تُشرِفُ على القلوبِ ، تأكلُ كلَّ شيءٍ من الجلودِ واللُّحوم والعظامِ والعُروقِ حتى يبلغَ إحراقُها إلى القلوبِ.
(0/0)
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } ؛ أي إنَّ الحطَمةَ عليهم ؛ أي على الكفار مُطبَقَةُ الأبوابِ مغلقَةٌ لا تدخلُ فيها رَوْحٌ ، ولا يخرج منها غمُّها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } ؛ قرأ أهلُ الكوفة (عُمُدٍ) بضمَّتين ، وقرأ غيرُهم بالنصبِ ، واختارَهُ أبو عبيد لقوله تعالى{ رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }[الرعد : 2] ، والعَمَدُ والعُمُدُ جمعُ عَمُودٍ ، قال الفرَّاء : ((هُوَ جَمْعُ عِمَادٍ ، وَهُوَ الاسْطِوَانةُ)) ، والمعنى : تُمَدُّ أيديهم وأرجلُهم إلى عَمَدٍ ممدودةٍ في النار ، وتُجعَلُ في أعناقهم السلاسلُ ؛ ليكونَ ذلك زيادةً في تعذيبهم.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } ؛ وذلك أنَّ فئةً من قريشٍ خرَجُوا تُجَّاراً إلى أرضِ النجاشيِّ ، فسَارُوا حتى دَنَوا من ساحلِ البحرِ ، ثم نزَلوا بحضرةِ بيتٍ ، وكان ذلك البيتُ مُصلَّى للنجاشيِّ وقومهِ من النَّصارى ، فأجَّجُوا ناراً استعمَلُوها لبعضِ ما احتاجوا إليه ، ثم رحَلُوا ولم يُطفِئوا تلك النار ، وكان ذلك في يومٍ عاصف ، فهاجَتِ الريحُ فاحترقَ البيتُ الذي كان مُصلَّى للنجاشيِّ ، وكانوا يعظِّمون ذلك البيتَ كتعظيمِ العرب الكعبةَ ، فقَصدُوا بذلك السبب مكَّة عازمين على تحريقِ بيتِ الله تعالى ، ويستبيحُوا أهلَ مكَّة.
فبعثَ النجاشيُّ أبرهةَ ، فخرج أبرهةُ في سائرِ الحبشة ، وخرجَ معه بالفيلِ ، فسَمعتْ بذلك العربُ ، فأعظَموهُ ورأوا جهادَهُ حقّاً عليهم حين سَمعوا أنه يريدُ هدمَ الكعبةِ ، فخرجَ إليه ملِك من مُلوك حِميَرَ يقالُ له ذو نَفَرْ ، فدعَا قومَهُ ومن أجابَهُ من العرب إلى حرب أبرهةَ وجهادهِ ، فأجابَهُ من أجابَهُ فقاتلَهُ ، فهُزِمَ ذو نفَرٍ وأصحابهُ ، وأُخِذ ذُو نفر أسيراً ، فلما أرادَ أبرهةُ أن يقتلَهُ قال له ذو نفر : لا تَقتُلني فإنِّي عسَى أن يكون بقائِي معكَ خيراً لكَ من قتلِي ، فتركَهُ من القتلِ وحبسَهُ معه في وثاقٍ ، وكان أبرهةُ رجُلاً حَليماً.
ثم مضَى أبرهةُ على وجههِ للذي يريدُ ، حتى إذا كان بأرضِ خَثْعَمَ عرضَ له نُفيل بن حبيبٍ الخثعميُّ فقاتلَهُ فهزمَهُ أبرهةُ ، وأُخِذ نُفيل أسيراً وأُتِيَ به إلى أبرهةَ ، فلما هَمَّ بقتلهِ قال له : لا تقتُلنِي فإنِّي دليلُكَ في أرضِ العرب ، فخَلَّى سبيلَهُ ، وخرجَ معه يدُلُّهُ. حتى إذا مرَّ بالطائفِ خرجَ إليه مسعودُ الثقفيُّ في رجالٍ من ثقيفٍ ، فقالوا له : أيُّها الملكُ ؛ إنما نحن عبيدُكَ سامِعون لك مطيعون ، ليس لنا عندَكَ خلافٌ ، وليس بينَنا هذا الذي تريدُ هدمَهُ - يعنون اللاَّتَ - إنما تريدُ البيتَ الذي بمكَّة ، ونحنُ نبعث معكَ مَنْ يدلُّكَ عليه ، فتجاوزَ عنهم ، واللاتُ بيتٌ لَهم بالطائفِ كانوا يعظِّمونه نحو تعظيمِهم الكعبةَ.
قال ابنُ اسحق : فبَعَثُوا معه أبَا رغالٍ يدلُّه على الطريقِ إلى مكَّة ، فخرجَ أبرهَةُ ومعه أبو رغَالَ ، فهنالِكَ رجَمتِ العربُ قَبْرَهُ ، فهو القبرُ الذي يُرجم بالْمَغْمَسِ ، فلما نزلَ أبرهةُ بالمغمسِ بعثَ رجلاً من الحبشةِ يقال له : الأسودُ بن مقصودٍ ، على خيلٍ له حتى انتهى إلى مكَّة ، فسَاقَ إليه أموالَ أهلِ يَمامة من قريشٍ وغيرِهم ، وأصابَ فيها مِائتي بعيرٍ لعبدِ المطَّلب بن هاشمِ ، وهو يومئذٍ كبيرُ قريش وسيِّدُها ، فهَمَّت قريشُ وكِنانَةُ وهُذيل ومَن كان بذلك الحرمِ أن يُقاتِلُوه ، ثم عرَفُوا أنه لا طاقةَ لهم به فترَكُوا ذلك.
وبعثَ أبرهةُ حناطةَ الْحِمْيَرِي إلى مكَّة وقال له : سَلْ عن سيِّد هذا البلدِ وشريفِهم ، وقل له : إنِّي لم آتِ لحربكم ، إنما جئتُ لهدمِ هذا البيتِ ، فإن لم تعرُضوا دونَهُ بحربٍ فلا حاجةَ لي بدمائِكم ، فإنْ هو لم يُرِدْ حَربي فأتِني به.
(0/0)
أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ } ؛ معناهُ : ألَم يجعل مكرَهم في بُطلان حيث لم ينتَفعوا به.
(0/0)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ } ؛ من البحرِ ؛ { طَيْراً أَبَابِيلَ } ؛ أي كثيرةٍ يتَبعُ بعضُهَا بعضاً ، وَقِيْلَ : أقاطيعٌ كالإبلِ الْمُؤَبَّلَةِ ، والأبابيلُ : جماعةٌ في تفرقةٍ ، زمرةٌ لا واحدَ لها عند أبي عُبيدة والفرَّاء ، ويقالُ : واحدُها أبُولٌ كما يقال عَجُولٌ وعجاجيلُ ، ويجوز أنْ يكون واحدُها إبيلٌ ، كما يقالُ : إكْلِيلٌ وأكَالِيلُ.
(0/0)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } ؛ أي بحجارةٍ من طين مَطبُوخٍ خالصةٍ ، كما يُطبَخُ الآجُر. وَقِيْلَ : السجِّيلُ الشديدُ ، كأنه قالَ : من شديدِ عذابه ، وعن أبي صالحٍ قال : ((رَأيْتُ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بنْتِ أبي طَالِبٍ نَحْواً مِنْ قَفِيزٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ سُودٍ مُخَطَّطَةٍ بخُطُوطٍ حُمْرٍ عَلَى قَدْر بَعْرِ الْغَنَمِ ، كَأَنَّهَا جزْعُ ظفاري)).
(0/0)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } ؛ أي جعلَهم كوَرَقِ الزَّرعِ الذي وقعَ فيه الدُّود فخرقَهُ ، وكان ابنُ عبَّاس يقولُ فِي صفةِ الطَّير الأبابيلِ : ((لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ ، وَأكُفُّ كَكَفِّ الْكِلاَب ، وَكَانَ إذا وَقَعَ الْحَجَرُ عَلَى رأسِ الإنْسَانِ مِنْهُمْ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ)).
واختلَفُوا في تاريخِ عامِ الفيل ، فقال الكلبيُّ : ((كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةَ)). ورُوي : أنَّهُ كان في العامِ الذي وُلد فيه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا أكثرُ العلماءِ ، وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : ((رَأيْتُ قَائِدَ الْفِيْلِ وَسَائِسَهُ بمَكَّةَ أعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ)).
(0/0)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } ؛ اختلَفُوا في هذه اللامِ المذكورة ، قال بعضُهم : هي لام كَي أي " متعلق بـ "{ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل : 5] أو لِيُؤلِفَ قُرَيشاً.
ثم فسَّرَ الإيلافَ فقال تعالى : { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ } ؛ أي ليؤلِفَهم رحلةَ الشِّتاء ورحلةَ الصيفِ. وإنما قال ذلكَ لأنَّهم لَمَّا خافوا من أبرهةَ ، فتفرَّقوا في البلادِ ، فمَنَّ الله عليهم فقهَرَ عدُوَّهم.
وكانت مكَّة بلداً لم يكن فيها زرعٌ ولا شجَر ؛ ولا رطبٌ ، وكان معاشُ أهلها ما يُنقَلُ إليها ، فأهلكَ اللهُ عدُوَّهم ليأْتَلِفُوا ؛ لأن تألِيفَ رحلةِ الشتاء والصيفِ في التجارة ، ولولا تجارتُهم في هاتَين الرِّحلتين لاضطَرُّوا إلى الخروجِ والتفرُّق في البوادِي ، فأرادَ اللهُ أن يكثُروا بمكَّة إلى أن يبعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم منهم نبيّاً إليهم وإلى غيرِهم.
وكان بعضُهم يعدُّ السُّورَتين سورةً واحدة ، وقال سُفيان بن عيينة : ((كَانَ لَنَا إمَامٌ لاَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا وَيَقْرَأهُمَا مَعاً)). وقال عمرُو بن مَيمون : ((صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه صَلاَة الْمَغْرِب ، فَقَرَأ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى{ وَالتِّينِ }[التين : 1] ، وَفِي الثَّانِيَّةِ{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ }[الفيل : 1] وَ { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }. والمعنى : أنَّ هلاكَ أصحاب الفيل كان سَبباً لبقاءِ إيلافِ قُريش ، ونظامِ حالهم.
وقريشٌ هم ولَدُ النَّضِرِ بن كِنَانَةَ ، فمن وَلَدَهُ النَّضِرُ فهو قُرَشيٌّ ، ومن لم يَلِدْهُ فليس بقرَشِيٍّ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ اللهَ اصْطََفَى بَنِي كِنَانَةَ ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشاً ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمَ " وسُمُّوا قُريشاً من التَّقْرِيشِ ؛ وهو التكسُّبُ والتقلب والجمعُ والطلب ، وكانوا قَوماً تُجَّاراً على المالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ } بدلٌ من الإيلافِ الأوَّل. واختلَفُوا في انتصاب (رحْلَةَ) ، فقيل : انتصبَ على المصدر ؛ أي ارتِحالُهم رحلةً ، وإنْ شئتَ نصَبتَهُ بوقوعِ (إيْلاَفِهِمْ) عليه ، وإنْ شئتَ على الظَّرفِ.
واختلَفُوا في تفسيرِ رحلة الشتاء والصيف ، فرُوي عن ابنِ عبَّاس قال : ((كَانُوا يَشْتُونَ بمَكَّةَ ، فأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أنْ يُقِيمُوا بالْحَرَمِ ، وَيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا الْبَيْتِ)). وَقِيْلَ : كانت لهم في السَّنة رحلَتان : إحدَاهُما في الشِّتاء إلى اليمنِ لأنَّها أدفأُ ، والأُخرى في الصَّيف إلى الشَّام ، وكان الحرَمُ جَدْباً لا زرعَ فيه ولا ضرعَ ولا شجرَ ، وإنما كان قريشٌ يعيشُونَ بتجارتِهم ورحلَتِهم ، وكان لا يتعرضُ له أحدٌ بسوءٍ ، وكانت الناسُ تقول : سُكَّان حرمِ الله ، فلولا الرِّحلتان لم يكن لأحدٍ بمكة مقامٌ ، ولولا الأمنُ بجوار البيت لم يقدِرُوا على التصرُّف.(0/0)
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } ؛ الَّذي سبَّبَ أرزاقَهُم وأمنَهُم مِن خوفِ العدوِّ ومِن خوفِ الطريقِ. ويقالُ : أرادَ بالإطعامِ : أنَّ أهلَ مكة كانوا أصابَتهم سُنون كسِنيِّ يوسُف بدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أكَلُوا الجيفَ والعظامَ المحرَّقة ، فأزالَ اللهُ عنهم الجوعَ وأمَّنَهم بعد ارتفاعِ ذلك من الْجُذامِ الذي يُبتلى به ذلك الوقت أهلُ البلدِ التي وراءَ مكَّة. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يتعرض لهم أحدٌ في الجاهليَّة.
(0/0)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)
{ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ } ؛ قال مقاتلُ والكلبي : ((نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ السَّهْمِيِّ)) ، معناهُ : أرأيتَ أعَلِمْتَ يا مُحَمَّدُ الذي كذبَ بالبعثِ والحساب والجزاء.
وكان العاصُ بن وائلٍ أوَّلَ من أنكرَ إظهارَ البعثِ ، وكان في حُجرهِ يتيمٌ ظلمَهُ ومنعَهُ حقَّهُ وأكلَ مِيراثَهُ ، وكان لا يُطْعِمُ المسكينَ بنفسهِ ، ولا يأمرُ غيرَهُ بالإطعامِ. وهذه السُّورة فيها تَهديدٌ له ولكلِّ مَن يعملُ عمَلُه. قَوْلُهُ تَعَالَى { يَدُعُّ الْيَتِيمَ } الدَّعُّ : هو الدفعُ على وجههِ العنيف.
(0/0)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } ؛ أرادَ بذلك المنافقين الذين يَسهُونَ في صلاتِهم عن ذكرِ الله من حيث لا يقصُدون عبادتَهُ والتقرُّبَ إليه ، ولذلكَ قالَ تعالى : { الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ } ؛ إذا رآهُم المخلِصون صَلَّوا معَهم رياءً ، وإذا لم يرَوهم لم يُصلُّوا. وفي هذا بيانُ أنه ليس المرادَ في الآيةِ سهوُ نسيانٍ.
وعن الحسنِ أنه قالَ : ((يَسْهُونَ عَنْ مِيقَاتِهَا حَتَّى تَفُوتَ)) ، وقال مجاهدُ : ((يَسْهُونَ عَنْهَا ، وَيَلْهُونَ وَلاَ يُفَكِّرُونَ فِيْهَا)) ، وعن أنسٍ قال : ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلِ السَّهْوَ هَا هُنَا فِي صَلاَتِهِمْ ، وَإنَّمَا جَعَلَ السَّهْوَ عَنْ صَلاَتِهِمْ)). وعن عطاءِ بن دينار أنه قالَ : ((الْحَمْدُ للهِ الَّذِي قَالَ : { عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } وَلَمْ يَقُلْ : فِي صَلاتِهم ساهون)). وَقِيْلَ : السَّاهي عنها هو الذي إذا صَلاَّها ؛ صَلاَّها رياءً ، وإذا فاتَتْهُ لم يندَمْ.
(0/0)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } ؛ رُوي عن ابنِ مسعود وابنِ عبَّاس ((مَا يَبْذُلُهُ الْجِيرَانُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مِثْلَ الْفَأْسِِ وَالْمِسْحَاةِ وَالْقِدْر وَالدَّلْوِ وَأشْبَاهِ ذلِكَ)). وَقِيْلَ : الماعونُ : ما لا يحلُّ منعهُ مثل الماءِ والملح والنار.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ ؟ قَالَ : " الْمَاءُ وَالنَّارُ وَالْمِلْحُ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ هَذا الْمَاءُ فَمَا بَالُ النَّار وَالْمِلْحِ ؟ قَالَ : " يَا حُمَيْرَاءُ مَنْ أعْطَى نَاراً فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بجَمِيعِ مَا طُبخَ بذلِكَ النَّار. وَمَنْ أعْطَى مِلْحاً فَكَأَنَّمَا تَصَدَّقَ بجَمِيعِ مَا طُيِّبَ بذلِكَ الْمِلْحِ ، وَمَنْ سَقَى شُرْبَةً مِنَ الْمَاءِ حَيْثُ يُوجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَ سِتِّينَ رَقَبَةً ، وَمَنْ سَقَى شَرْبَةً حَيْثُ لاَ يُوْجَدُ الْمَاءُ فَكَأَنَّمَا أحْيَا نَفْساً " ".
وعن عليٍّ رضي الله عنه : ((أنَّ الْمَاعُونَ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ)).
(0/0)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
{ إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والكوثَرُ في اللغة : الخيرُ الكثير ، وهو فَوْعَلُ من الكَثرَةِ كنَوْفَلٍ من النَّفلِ. واختلفوا في الكوثرِ في هذه السُّورة ، قال ابنُ مسعودٍ : ((أُريدَ بهِ الْقُرْآنَ)) ، وقال الحسنُ : ((النُّبُوَّةُ وَرفَعَةُ الذِّكْرِ وَالنَّصْرُ عَلَى الأَعْدَاءِ)).
وعن أنسٍ وأبي سعيدٍ الخدري أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قالَ : " رَأيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي نَهْراً فِي الْجَنَّةِ ، حَافَّتَاهُ اللُّؤْلُؤُ - وَقِيْلَ : مِنَ الزُّبُرْجَدِ ، وَقِيْلَ : مِنَ الذهَب - وَمَجْرَاهُ عَلَى الدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ ، وَطِينُهُ أطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ الأَذْفَرِ ، وَمَاؤُهُ أشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ ، وَأحْلَى مِنَ الْعَسَلِ ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لاَ يَظْمَأُ بَعْدَهَا أبَداً ".
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت : ((الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ ، مَنْ أدْخَلَ إصْبعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ سَمِعَ خَرِيرَ ذلِكَ النَّهْرِ)).
والكوثرُ يصبُّ في حوضِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وصفةُ الحوضِ : حصاؤُه الياقوتُ الأحمر ، والزبرجدُ الأخضرُ ، والدرُّ والمرجان ، وَحَمْأَتُهُ المسكُ الأذفر ، وترابه الكافورُ ، ماؤهُ أشدُّ بَياضاً من اللبنِ وأحلى من العسلِ ، وأبردُ من الثلجِ ، يخرجُ من أصلِ سِدرَةِ المنتهى ، عرضهُ وطوله ما بين المشرقِ والمغرب ، وحولهُ من الآنيةِ والأباريق عددَ نجومِ السَّماء ، لا يشربُ منه أحدٌ فيظمأُ بعدَهُ أبداً.
(0/0)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } ؛ أي فاشكُرِ اللهَ على هذه النعمةِ العظيمة بالصَّلاة والنحرِ ، قال ابنُ عبَّاس : ((إنَّهُ أرَادَ بذلِكَ صَلاَةَ الْعِيْدِ ، ثُمَّ نَحْرَ الْبُدْنِ يَوْمَ الأَضْحَى)). وَقِيْلَ : أرادَ بذلك صلاةَ الفجرِ في يوم النحرِ. وَقِيْلَ : أرادَ بذلك جميعَ الصَّلوات المكتوبةِ.
(0/0)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ } ؛ أي مُبغِضُكَ هو الأبترُ الذي لا عَقِبَ له ولا خيرَ له في الدُّنيا والآخرة ، ونزلَ ذلك في العاصِ بن وائل السَّهمي ، كان يكلِّمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على باب المسجد الحرام بعد موتِ عبدِالله بن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
فلما انطلقَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قيل للعاصِ : مَن هذا الذي كُنتَ معه قَائماً تُكلِّمهُ ؟ قال : هذا الأبترُ محمد. يريدُ أنه ليس له ابنٌ يخلفُه ويقوم مقامَهُ ، فأنزلَ اللهُ هذه السُّورة إكراماً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وجواباً للخبيثِ ، يقول : سَنُمِيتُهُ عن أهلهِ وماله فلا يُذكَرُ بخيرٍ أبداً ، وأما أنتَ يا مُحَمَّدُ فقد جَعَلْتُ ذِكرَك مع ذكرِي فلا ينقطعُ ذِكرُكَ أبداً ، والشَّانِئُ من الشَّنَئَانِ وهو البُغْضُ.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5)
{ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ؛ " نزَلت في رهطٍ من المشركين من قريشٍ ، منهم الحارثُ بن قيسٍ السهميِّ ؛ والعاصُ بن وائل ؛ والوليدُ بن المغيرةِ ؛ والأسوَدُ بن عبدِ يَغُوث ؛ والأسودُ بن عبدِ المطَّلب ؛ وأُمية بن خلَف ، قالوا : يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فاتَّبعْ دِينَنا ، ونتَّبعْ دِينَك ونُشرِكك في أمرِنا كلِّه ، تعبدُ آلهتنا سَنة ، ونعبدُ إلَهكَ سَنة ، فقال : " مَعَاذ اللهِ أنْ أُشْرِكَ بهِ غَيْرَهُ " قَالُوا : فاسْتَلِمْ بعضَ آلِهَتنا نُصدِّقْكَ ونعبدْ إلَهك ".
فأنزلَ اللهُ تعالى هذه السُّورة { قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ } أي قُل لَهم : يَا أيُّهَا الْكَافِرُونَ توحيدَ اللهِ ، ليست في حالَتي هذه بعَابدٍ ما تَعبُدون من الأصنامِ ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ؛ أي ولا أنتم عابدون إلَهي بجهلِكم الإخلاصَ في عبادةِ الله ، { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ } ؛ فيما استقبلُ ، { مَّا عَبَدتُّمْ } ؛ من الأصنامِ ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ } ؛ فيما تستَقبلون ، { مَآ أَعْبُدُ } ؛ إلَهي الذي أعبدهُ.
وفي هذه القصَّة أنزَلَ اللهُ تعالى{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ }[الزمر : 64] ، فلمَّا نزَلت هذه السورةُ غَدَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى المسجدِ الحرام وفيه ملأٌ من قريشٍ ، فقامَ على رُؤوسِهم ، ثم قرأها عليهم ، فآيَسُوا منه عندَ ذلك وآذوهُ وآذوا أصحابَهُ.
وأما تكرارُ الكلامِ فمعناهُ : لا أعبدُ ما تَعبُدون في الحالِ ، ولا أنتُم عابدُون ما أعبدُ في الحالِ ، ولا أنتُم عابدُون ما أعبدُ في الحالِ ، ولا أنَا عابدٌ ما عبَدتُم في الاستقبالِ ، ولا أنتُم عابدُون ما أعبدُ في الاستقبالِ ، وهذا خطابٌ لِمَن سبقَ في علمِ الله تعالى أنَّهم لا يُؤمنون.
وقال بعضُهم : نزلَ القرآنُ بلغة العرب ، ومن مذهب العرب التكرارُ في الكلامِ على وجه التأكيدِ حَتماً للإطْمَاعِ ، كما أنَّ من مذهب الاختصار إرادةُ التخفيفِ والإيجاز ، ومثلُ هذا كثيرٌ في الكلامِ والأشعار ، كما رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صعدَ المنبرَ فقال : " إنَّ بَنِي مَخْزُومٍ اسْتَأْذنُونِي فِي أنْ يُنْكِحُوا عَلِيّاً فَتَيَاتِهِمْ ، فَلاَ آذنُ ، فَلاَ آذنُ ، إنَّ فَاطِمَةَ بضْعَةٌ مِنِّي ، يَسُوءُنِي مَا يَسُوءُهَا ، وَيَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا ".
وكذلك قالَ الشاعرُ : يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وَأكْرَمُهْوقالَ : أخَيْرُكُمْ نِعْمَةً كَانَتْ لَكُمْ كَمْ وَكَمْ
(0/0)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ؛ قرأ نافعُ (وَلِيَ) بالتحريكِ ، ومعناه : لكم جزاؤُكم على عبادةِ الأوثان ، ولِي جزائِي على عبادةِ الرَّحمن.
وَقِيْلَ : إن هذه الآية منسوخةٌ بآيةِ السَّيف.
(0/0)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : ((نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْحُدَيْبيَةِ)) ، ومعناهُ : إذا جاءَ نصرُ الله على الأعداءِ من قُريشٍ وغيرِهم ، وجاءَ فتحُ مكَّة ، { وَرَأَيْتَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ } ؛ الإسلامِ ، { أَفْوَاجاً } ؛ جماعاتٍ جَماعاتٍ بعدَ أن كانوا في ابتداءِ الإسلام واحداً واحداً واثنين اثنينِ.
(0/0)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ؛ أي صَلِّ له مع شُكرِك إياهُ على إنعامه عليكَ ، { وَاسْتَغْفِرْهُ } ؛ لذنبكَ وللمؤمنين والمؤمناتِ ، { إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } ؛ أي مُتجاوزاً على المستغفرِين. " فلمَّا نزَلت هذه السُّورة جعلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُكثِرُ التسبيحَ ، وعاشَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعدَ هذه السُّورة سنتينَ ، وكان كثيراً ما يقولُ : " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبحَمْدِكَ ، أسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إلَيْكَ " فقِيلَ له في ذلكَ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم : " قَدْ جُعِلَتْ لِي عَلاَمَةٌ فِي أُمَّتِي ، إذا رَأيْتُهَا قُلْتُهَا " ".
وكان الحسنُ يقول : ((اخْتُمُوا أعْمَالَكُمْ بخَيْرٍ ، فَإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرُبَ أجَلُهُ أُمِرَ بكَثْرَةِ التَّسْبيحِ وَالاسْتِغْفَار)).
(0/0)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ؛ روي عن ابنِ عبَّاس أنه قال : " " لَمَّا " نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } صَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا وَنَادَى : " يَا صَبَاحَاهْ " فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِب ، يَا بَنِي فِهْرٍ ، يَا بَنِي لُؤَيٍّ ، لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بسَفْحِ الْجَبَلِ قَدْ أظَلَّتْكُمْ أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " فَإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيدٍ " فَقَالَ أبُو لَهَبْ : تَبّاً لَكَ! ألِهَذا دَعَوْتَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } ".
والتَّبَاتُ : الْخُسَرانُ الذي يؤدِّي إلى الهلاكِ ، والمعنى : خَسِرَتْ يداهُ من كلِّ خيرٍ. وأضافَهُ إلى اليَدَين ؛ لأنَّ العملَ أكثرُ ما يجرِي على اليدَين.
ومعنى قولهِ { وَتَبَّ } أي وخَسِرَ هو بنفسهِ خُسراناً لا يفلِحُ بعدَهُ أبداً ، واختلفُوا في المعنى الذي ذكرَهُ اللهُ بالكُنيَةِ ، قال بعضُهم : إنما ذكرَهُ بها ؛ لأنه كان اسمهُ عبدُ العُزَّى فلذلك ذُكِرَ بالكُنيَةِ. وقال بعضُهم كان مشهوراً بهذه الكُنيَة. وقال بعضهم : كانت وَجنَتاهُ حمراوَينِ.
(0/0)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } ؛ أي لا تنفعهُ كثرة مالهِ في الآخرة ولا ينفعهُ ما أعَدَّ من الكَيدِ والحِيَلِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ما أغنَى عنه مالهُ وولده ، سُمِّي الولدُ كَسْباً ؛ لأن ولدَ الرجُل من كسبهِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أفْضَلَ مَا أكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبهِ ، وَإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبهِ ".
(0/0)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } ؛ أي سيدخلُ أبو لَهب ناراً لا يسكنُ لَهبُها ولا يطفأُ جَمرُها ، قرأ أبو رجاء (سَيُصَلَّى) بالتشديد وضمِّ الياء.
(0/0)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } ؛ اسمها أُمُّ جَميل بنتُ حرب ، أختُ أبي سفيان ، يُصْلِيها اللهُ معه ، وكانت عَورَاء ، وقولهُ تعالى : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } أي نقَّالَةً للكذب ، قال ابنُ عباس : ((إنَّهَا كَانَتْ تَمْشِي بالنَّمِيمَةِ)) ، تقولُ العرب : فلانٌ يَحْطِبُ على فلانٍ ؛ أي ينمُّ عليه.
وقال الضحَّاك : ((كَانَتْ تَأْتِي بالشَّوْكِ وَالْفَضَلاَتِ ، فَتَطْرَحُهَا باللَّيْلِ فِي طَرِيقِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابهِ لِتَعْقِرُهُمْ ، وَكَانَتْ تُعَيِّرُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْفَقْرِ ، فَعَيَّرَهَا اللهُ تَعَالَى بالاحْتِطَاب)).
وهو ما تحمله من الشوكِ. قراءةُ العامَّة (حَمَّالَةُ) بالرفع ، على أنه خبر لمبتدأ ، ويجوز أن يكون نعتاً وخبرُ المبتدأ (فِي جِيدِهَا) ، ومن نصبَ (حَمَّالَةَ) فعلى الذمِّ والشتمِ ، كقوله تعالى { مَّلْعُونِينَ } [الأحزاب : 61] والمعنى : أعنِي حَمَّالَةَ الحطب ، وفي قراءةِ عبدِ الله (وَمَرِيَّتُهُ حَمَّالة الْحَطَب) ، وقراءة أبي قلابة (وَامْرَأتُهُ حَامِلَةَ الْحَطَبِ) على وزن فاعلة.
(0/0)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } ؛ في عُنقها حبلٌ في الآخرةِ له ثقلُ الحديدِ ، وحرارةُ النار ، وخشُونَةِ اللِّيف ، وقال ابنُ عبَّاس : ((مَعْنَاهُ : فِي عُنُقِهَا سِلْسِلَةٌ ذرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً مِنْ حَدِيدٍ ، لَوْ وُضِعَتْ مِنْهَا حَلَقَةٌ عَلَى جَبَلٍ لَذابَ ، كَمَا يَذُوبُ الرَّصَاصُ ، تَدْخُلُ فِي فِيْهَا ، وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهَا ، وَيُلْوَى سَائِرُ بَاقِيهَا فِي عُنُقِهَا ، وَذلِكَ لأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا قِلاَدَةٌ فَاخِرَةٌ وَكَانَتْ تَقُولُ : لأُنْفِقَنَّهَا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)).
ويقال : إنَّها اختنَقت في الدُّنيا بحبلٍ من ليفٍ خنَقَها اللهُ به فأهلَكها ، ويجعلُ في الآخرةِ في عنُقها جبلٌ من نارِ تُساق به إلى النار.
والْمَسَدُ في اللغة : الْفَتْلُ ، والممسُود : المفتولُ. وَقِيْلَ : المسَدُ : الحديدةُ التي تدورُ عليها البكَرَةُ تجعلُ في عنقِِها سلسلةً ، وتُجعَلُ السلسلةُ في تلك الحديدةِ ، فهي تُجتَذبُ بها في النار وتختلفُ بها في النار ، كما تختلفُ بالدَّلوِ في البئرِ على البكَرةِ ، يُشْهِرُها الله بهذه العلامةِ في جهنَّم ، تُرفَعُ مرَّة ، وتُخفَضُ أخرى مع سائرِ أنواع العقوباتِ.
(0/0)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ؛ اختلفَ المفسِّرون في سبب نُزول هذه السُّورة فروي عن ابنِ عبَّاس : ((أنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَدْعُونَا إلَيْهِ)). وعن مقاتلٍ : ((أنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ الْعَامِرِيِّ قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنْعَتْ لَنَا رَبَّكَ مِنْ ذهَبٍ هُوَ أمْ مِنْ فِضَّةٍ أمْ مِنْ نُحَاسٍ أمْ مِنْ حَدِيدٍ أمْ مِنْ صُفْرٍ ، فَإنَّ آلِهَتَنَا مِنْ هَذِهِ الأَشْيَاءِ؟! قَالَ : بَيِّنْ لَنَا أيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ؟! وَكَيْفَ هُوَ ؟ فَشُقَّ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ)).
وعن سعيدِ بنْ جُبير : ((أنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : يَا أبَا الْقَاسِمِ إنَّكَ أخْبَرْتَنَا أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ دُخَانٍ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارجٍ مِنْ نَارٍ وَخَلَقَ آدَمَ مِنْ طِينٍ ، فَأَخْبرْنَا عَنْ رَبكَ مِمَّ خَلْقُهُ؟!)). ورُوي أنَّهم قالوا : إنَّ هَذا الْخَلْقَ خَلْقُ اللهِ فَمَنْ خَلَقَهُ ؟ فَغَضِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَعَلَ لَحْمَهُ يَرْبُو عَلَيْهِ وَحَتَّى هَمَّ أنْ يُبَاسِطَهُمْ ، فأَوْحَى إلَيْهِ جِبْرِيلُ : أنِ اسْكُنْ ، وَأنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةَ.
وقال ابنُ كَيسَانُ : ((قَالَتِ الْيَهُودُ : صِفْ لَنَا رَبَّكَ ، فَإنَّهُ قَدْ نَزَلَ نَعْتُهُ فِي التَّوْرَاةِ ، فَمَا طُولُهُ وَمَا عَرْضُهُ ؟ فَارْتَعَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَوَضَعَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ، فَجَعَلَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ وَجْنَتَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ السُّورَةَ جَوَاباً لَهُمْ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً)).
والمعنَى : قُل لهم يا مُحَمَّدُ : الذي سأَلتُم عن تَبيين نسَبهِ هو اللهُ ، وهذا الاسمُ معروفٌ عند جميعِ أهل الأديانِ والمللِ ، كما قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[الزخرف : 87]. والأحَدُ والواحدُ في اللغةِ بمعنى واحد ، وقال ثعلبُ : ((وَاحِدٌ وَأحَدٌ وَفَرْدٌ سَوَاءٌ)).
(0/0)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الصَّمَدُ } ؛ معناهُ : هو اللهُ الذي يصمَدُ إليه في الحوائجِ وإليه المفزَعُ في الشدائدِ ، تقول العربُ : صَمَدْتُ إلى فلانٍ أصْمُدُ صَمْداً بسكونِ الميم إذا قصدتهُ ، والْمَصْمُودُ : المقصودُ.
وعن ابنِ عبَّاس : (أنَّ الصَّمَدَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي سُؤْدَدِه ، وَالشَّرِيفُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي شَرَفِهِ ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عَظَمَتِهِ ، وَالْجَبَّارُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَبَرُوتِهِ ، وَالْغَنِيُّ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي غِنَاهُ ، وَالْعَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي عِلْمِهِ ، وَالْحَكِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِكْمَتِهِ ، وَالْحَلِيمُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي حِلْمِهِ ، فَهُوَ اللهُ الَّذِي لَهُ هَذِهِ الصِّفَاتِ كُلَّهَا لاَ تَنْبَغِي إلاَّ لَهُ)).
وقال قتادةُ : ((الصَّمْدُ : الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ)) ، وَقِيْلَ : هو الدائمُ ، وقال السديُّ : ((الصَّمَدُ الْمَقْصُودُ إلَيْهِ فِي الرَّغَائِب ، الْمُسْتَعَانُ بهِ عِنْدَ الْمَصَائِب)) ، والعربُ تسمي السيِّدَ الصمدَ ، قال الشاعرُ : ألاَ بَكَّرَ النَّاعِي بخَيْرِ بَنِي أسَدْ بعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وَبالسَّيِّدِ الصَّمَدْوعن أُبَيِّ بن كعبٍ قال : ((الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ؛ لأَنَّهُ لاَ شَيْءَ يَلِدُ إلاَّ سَيُورَثُ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلاَّ سَيَمُوتُ ، وَاللهُ سََبْحَانَهُ لاَ يُورَثُ وَلاَ يَمُوتُ)).
وكتبَ أهلُ البصرةِ إلى الحسنِ بن عليٍّ يسألوهُ عن معنى الصَّمَدِ ، فَكَتَبَ إليهم : ((بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ : أمَّا بَعْدُ ؛ فَلاَ تَخُوضُوا فِي الْقُرْآنِ بغَيْرِ عِلْمٍ ، فَإنَّ اللهَ جَلَّ ذِكْرُهُ قَدْ فَسَّرَ الصَّمَدَ فَقَالَ : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } )).
وعن محمَّد بن الحنفية قال : ((الصَّمَدُ الغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ)) ، وعن زيدِ بن عليٍّ قال : ((الصَّمَدُ الَّذِي أمْرُهُ إذا أرَادَ شَيْئاً أنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)).
(0/0)
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } ؛ أي لَمْ يلِدْ أحَداً فيَرِثُ مُلكَهُ ، ولم يُولَدْ عن أحدٍ فيَرِثُ عنه الملْكَ ، والحاصلُ من هذا يرجعُ إلى نفي الحدثِ والحاجة عنِ الله تعالى ؛ لأنه لو كان مَولوداً لكان مُحدَثاً ، ولو كان له ولدٌ لكان مُحتاجاً ، لأن أحداً لا يَستَولِدُ إلاَّ لحاجتهِ إلى الولد والاستمتاعِ ، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن هذه الصِّفات كما قال تعالى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }[الأنعام : 101].
(0/0)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ؛ تقديرهُ : ولم يكن أحدٌ كُفُؤاً له ؛ أي ليس كمثلهِ شيءٌ ، و " في " قوله تعالى { كُفُواً } ثلاثُ قراءاتٍ ، قرأ حمزةُ ويعقوب وخلَف ساكنةُ الفاءِ مهموزةٌ ، ومثله مرويٌّ عن أبي عمرٍو ونافع ، وقرأ حفصُ عن عاصم كُفُوّاً مثقلة غيرُ مهموزةٍ ، وقرأ الباقون كُفُؤاً مهموزة مضموم الفاء ، والكفؤُ والكفاء والكفَى واحدٌ ، وهو المثلُ والنظير ، تعالَى اللهُ عن المثلِ والنظير.
(0/0)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } ؛ قال الكلبيُّ : ((هَذِهِ السُّورَةُ وَالَّتِي بَعْدَهَا أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ سُحِرَ ، فَأُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَعَوَّذ بهِمَا ، وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ : لَبيدُ بْنُ أعْصَمَ ، سَحَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ شَكْوَاهُ حَتَّى تُخُوِّفَ عَلَيْهِ.
" فَبَيْنَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إذْ أتَاهُ مَلَكَانِ ؛ أحَدُهُمَا عِنْدَ رَأسِهِ وَالآخَرُ عِنْدَ رجْلَيْهِ ، فَقَالَ الَّذِي عِنْدَ رَأسِهِ لِلثَّانِي ، أيُّ شَيْءٍ بهِ ؟ قَالَ : سِحْرٌ ، قَالَ : مَنْ فَعَلَ بهِ ؟ قَالَ : لَبيدُ بْنُ أعْصَمَ الْيَهُودِيُّ ، قَالَ : فَأََيْنَ جَعَلَهُ ؟ قَالَ : فِي بئْرٍ لِبَنِي زُرَيْقِ ، وَجَعَلَهُ فِي صَخْرَةٍ فِي كُوبَةٍ ، قَالَ : فَمَا دَوَاؤُهُ ؟ قَالَ : نَبْعَثُ إلَى تِلْكَ الْبئْرِ فَيُنْزَحُ مَاؤُهَا ، ثُمَّ تُقْلَعُ الصَّخْرَةُ فَتُسْتَخْرَجُ الْكُوبَةُ مِنْ تَحْتِهَا فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً. وَإنَّمَا قَالَ ذلِكَ ؛ لِكَي يُفْهِمَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَانْتَبَهَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ فَهِمَ مَا قَالاَ.
فَأَرْسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أصْحَابهِ إلَى تِلْكَ الْبئْرِ ، فَانْتَهَى إلَيْهَا عَمَّارُ ، وَقَدْ تَغَيَّرَ مَاؤُهَا كَهَيْئَةِ الْحِنَّاءِ مِنْ ذلِكَ السِّحْرِ ، فَنَزَحُوا ذلِكَ الْمَاءَ حَتَّى بَدَتِ الصَّخْرَةُ فَإذا تَحْتَهَا كُوبَةٌ ، فَأَخَذُوهَا وَإذا فِي الْكُوبَةِ وَتَرٌ فِيْهِ إحْدَى عَشْرَةَ عُقْدَةً ، فَجَاءَ بهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُحْرِقَتْ وَأُنْزِلَتِ الْمُعَوَّذتَانِ إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً فَحَلَّتْ كُلُّ آيَةٍ عُقْدَةً ، وَأُمِرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَعَوَّذ بهِمَا ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ بهِمَا الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ ، فَكَانَ لَبيدُ بَعْدَ ذلِكَ يَأْتِي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَمَا رَأى فِي وَجْهِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً مِنْ ذلِكَ قَطُّ وَلاَ ذاكَرَهُ إيَّاهُ ".
وفي بعضِ الروايات : " أنَّ بَنَات لَبيدِ بْنِ أعْصَمَ اللَّوَاتِي سَحَرْنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَذهَبَ بذلِكَ لَبيدُ فَجَعَلَهُ فِي وعَاءِ الطَّلْعِ - أعْنِي كُوزَي النَّخْلِ - وَجَعَلَهُ فِي بئْرٍ تَحْتَ صَخْرَةٍ ، فَلَمَّا أطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ عَلَى ذلِكَ بَعَثَ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ حَتَّى أخْرَجَاهُ. وَقِيْلَ : بَعَثَ عَلِيّاً فِي اسْتِخْرَاجِهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ ".
والفَلَقُ على قولِ الكلبيِّ وقتادة : ((الصُّبْحُ عِنْدَ بَيَانِهِ وَظُهُورهِ)) ، وعن ابنِ عبَّاس : ((أنَّ الْفَلَقَ الْخَلْقُ يَخْرُجُونَ مِنْ أصْلاَب آبَائِهِمْ وَأرْحَامِ أُمَّهَاتُهُمْ كَمَا يَنْفَلِقُ الْحَبُّ مِنَ النَّبَاتِ)). وهذا القول أعمُّ من الأولِ وأقربُ إلى تعظيمِ الله تعالى ، لأن الفلَقَ كلمةٌ جامعة من لطائفِ القرآن ، واللهُ تعالى فاِلقُ الإصباحِ وفالقُ الحب والنَوى ، وفالقُ البحرِ لموسى.
ومعنى السُّورة : قُل يا مُحَمَّدٍ : امتَنِعُ واعتَصِمُ واستَعِذُ بربِّ الفلقِ من شرِّ كل ذي شرٍّ منِ الجنِّ والإنسِ والسباع والحيَّات والعقارب وغيرها ، وعن كعب الأحبار أنه قالَ : ((الْفَلَقُ بَيْتٌ فِي النَّار لَوْ فُتِحَ بَابُهُ صَاحَ جَميعُ أهْلِ النَّار مِنْ شِدَّتِهِ)). قال السديُّ : ((الْفَلَقُ بئْرٌ فِي جَهَنَّمَ)).
(0/0)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } ؛ الغَاسِقُ : هو الليلُ إذا اشتدَّت ظُلمَتهُ ، ووقُوبُ الليلِ دخولهُ في الظَّلام ، هكذا عن قتادةُ ، وأصل الغَسَقِ : الجريانُ بالضَّرر من قولهم : غَسَقَتِ القَرْحَةُ إذا جرَى صَدِيدُها ، والغَاسِقُ صديدُ أهلِ النار ، والغاسِقُ كلُّ هاجمٍ بالضَّرر كائناً ما كان ، وسُمِّي الليلُ غَاسِقاً ؛ لأنه تخرجُ فيه السِّباعُ من آجَامِها ، والهوامُّ من مكانِها.
وإنما أضيفُ الشرُّ إلى الليلِ ؛ لأن الإنسانَ يحذرُ في أوقاتِ الليل من الشرِّ ما لا يحذرُ مثلَهُ بالنهار ، كأنه قالَ تعالى : ومن شرِّ ما في الغاسقِ ، كما يقالُ : أعوذُ بالله من هذا البلدِ إذ كَثُرَ فيه الظُّلم والفسادُ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال : ((الْغَاسِقُ هُوَ الظَّالِمُ ، وَوُقُوبُهُ دُخُولُهُ عَلَى الظُّلْمِ)). ويقالُ : الغاسقُ سقوطُ الثُّريا ؛ لأن الطوَاعِين والأسقامَ تكثرُ عند سقوطِها ، وترتفعُ عند طلوعِها.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : " أرَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقَمَرَ فَقَالَ : " تَعَوَّذِي باللهِ مِنْ شَرِّ هَذا الْغَاسِقِ إذا وَقَبَ " أيْ إذا كَسَفَ وَاسْوَدَّ.
(0/0)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } ؛ أي من شرِّ السَّواحِرِ ينفُثْنَ ؛ أي يسحَرْنَ في عُقَدِ السحرِ ، وهن الجماعات السواحر ، وذلك أنَّهن إذا أردنَ الإضرارَ بإنسانٍ نفَثْنَ عليه ورقَّيْنَهُ بكلامٍ فيه كفرٌ وشرك وتعظيمُ الكواكب من الأدويةِ الضارَّة والسُّموم القاتلةِ بالاحتيال ، ثم يزعُمن إذا ظهر الضُّر عليه أنَّ ذلك من رُقَاهِنَّ.
وإذا أردنَ نفعَ إنسان نَفَثْنَ عليه ، واحتَلنَ أنْ يَسقِنَهُ شيئاً من الأدويةِ النافعة ، ثم إذا اتَّفقَ للعليلِ خفَّةُ الوجعِ أوهَمْنَ أنَّهن اللَّواتي نفعنَهُ من النفعِ والرقى ، والنَّفثُ هو أن يُلقِي الإنسان بعضَ ريقه على منَ يعوِّذهُ ، يقالُ : نَفَثَ يَنْفُثُ ، وتَفَلَ يَتْفُلُ بمعنى واحدٍ.
(0/0)
وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } ؛ معناهُ : إن الحاسدَ يستعظمُ نعمةَ صاحبهِ ويريدُ زوالَها ، فيحملهُ ذلك على الظُّلم والبغي والاحتيالِ بكلِّ ما يقدرُ عليه لإزالةِ تلك النعمةِ عنه. والحسَدُ في اللغة بمعنى زَوَالِ النِّعمةِ عن صاحبها لِمَا يدخلُ على النفسِ من المشقَّة بها.
ويقالُ : معناهُ : التلهُّف على جودِ الله تعالى ، وهذا هو الحسدُ المذموم ، وأما إذا تَمنَى لنفسهِ نعمةً من اللهِ تعالى مثلَ نعمةِ صاحبهِ من غيرِ أنْ يتمنَّى زوالَها عنه ، فذلك يكونُ غِبْطَةً ، ولا يكون حَسَداً.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بهذه الآيةِ : استعاذةٌ من شرِّ عينِ الحاسد ، واستدلَّ على ذلك بما رُوي : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عَائِشَةَ أنْ تَسْتَرْقِى مِنَ الْعَيْنِ " ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْعَائِنِ عِنْدَ إعْجَابهِ بمَا يَرَاهُ أنْْ يَقُولَ : مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله ، كما رُوى أنسٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " مَنْ رَأى شَيْئاً يُعْجِبُهُ فَقَالَ : اللهُ اللهُ! مَا شَاءَ اللهُ لاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ، لَمْ يَضُرُّهُ شَيْءٌ ".
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " الْعَيْنُ حَقٌّ ، فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ ، وَإذا اسْتَغْسَلْتُمْ فَاغْسِلُوا ".
وإنما خُتمت السورةُ بالحسدِ ، ليُعلَمَ أنه أخَسُّ من الأشياءِ التي قبلَهُ ، وهو أخسُّ الطبائعِ.
(0/0)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَـاهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ : امتَنِعْ واعتصمُ بخالقِ الخلْقِ المقتدر عليهم ، المالكِ لنفعِهم وضرِّهم وحياتِهم وموتِهم ، المستحقِّ للعبادةِ الذي إليه مفزَعُهم وملجأُهم ، من شرِّ الشيطانِ ذي الوَسْوَاسِ المستقر المختفِي عن أعيُن الناسِ ، { الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } ؛ الذي يَصِلُ بوسوستهِ إلى صُدور الناسِ ، كما جاء في الحديث : " إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ ، فَتَعَوَّذُوا بالله مِنْهُ ".
قال قتادةُ : ((إنَّ الْخَنَّاسَ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْب فِي صُورَةِ الإنْسَانِ ، جَاثِمٌ عَلَى قَلْب ابْنِ آدَمَ ، إذ غَفِلَ الْعَبْدُ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَسْوَسَ ، وَإذا ذكَرَ اللهَ خَنَسَ)). ورُوي : أن عيسَى عليه السلام دعَا ربَّهُ أنْ يُرِيَهُ موضعَ الشيطان من ابنِ آدم ، فجلَى له فإذا رأسهُ رأسُ الحيَّة واضعٌ رأسه على ثمرةِ القلب ، فإذا ذكرَ العبدُ ربَّهُ خَنَسَ ، وإن لم يذكُرْ ربَّهُ وضعَ رأسَهُ على ثمرةِ قلبه وحَدَّثهُ.
(0/0)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } ؛ قِيْلَ : ذلك عائدٌ على الوسواسِ ، كأنه قالَ : شرِّ الوسواسِ الذي هو من الجِنَّةِ ، والوسواسِ الذي هو من الناسِ. ويقالُ : معناه : من شرِّ كلِّ ماردٍ من الجنِّ والإنسِ. وَقِيْلَ : إنَّ قولَهُ تعالى { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } عائدٌ على لفظ الناسِ المذكور في قولهِ تعالى : { فِي صُدُورِ النَّاسِ } ؛ لأن اسمَ الناسِ يصلحُ للإنس والجنِّ ، كما قال تعالى{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ }[الجن : 6] فجعلَهم رجالاً ، والشيطانُ يوسوس في صدور الجنِّ ، كما يوسوسُ في صدور الإنس ، ودليلُ هذا قولهُ تعالى في أوَّل السورةِ { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ } أرادَ به ربَّ الإنس والجنِّ جَميعاً.
(0/0)