وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَى فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْـمَةِ } ؛ أي وَاحْفظْنَ ما يُقْرَأُ عليكُن في بُيوتِكن منَ القُرْآنِ والمواعظِ. وهذا حَثٌّ لَهن على حِفْظِ القُرْآنِ والأخبار ومذاكرتَهن بهما للإحاطةِ بحدودِ الشَّريعةِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } ؛ أي لَطِيفاً بأوليائهِ ، خَبيراً بجميعِ خَلْقِهِ وبجميعِ مصالِحهم.
(0/0)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ؛ الآيةُ ، قال قتادةُ : (لَمَّا ذكَرَ اللهُ أزْوَاجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ نِسَاءٌ مِنَ الْمُسْلِمَاتِ عَلَيْهِنَّ ؛ فَقُلْنَ : ذُكْرِتُنَّ وَلَمْ نُذْكَرْ! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقال مقاتلُ : " لَمَّا رَجَعَتْ أسْمَاءُ بنْتُ عُمَيْسٍ مِنَ الْحَبَشَةِ مَعَ زَوْجِهَا جَعْفَرِ بْنِ أبي طَالِبٍ ، دَخَلَتْ عَلَى نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَتْ : هَلْ نَزَلَ فِيْنَا شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ ؟ قُلْنَ : لاَ. فَأَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ النِّسَاءَ لَفِي خَيْبَةٍ وَخَسَارَةٍ! قَالَ : " وَمِمَّ ذلِكَ ؟ " قَالَتْ : لأَنَّهُنَّ لاَ يُذْكَرْنَ بخَيْرٍ كَمَا يُذْكَرُ الرِّجَالُ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةِ ".
وقال مقاتلُ : (قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بنْتُ أبي أُمَيَّةَ وَنُسَيْبَةُ بنْتُ كَعْبٍ الأَنْصَاريَّةُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : مَا بَالُ ربنَا يَذْكُرُ الرِّجَالَ وَلاَ يَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابهِ ، فَعَسَى أنْ لاَ يَكُونَ فِيْهِنَّ خَيْرٌ ، وَلاَ للهِ فِيْهِنَّ حَاجَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وَقِيْلَ : إنَّ أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قُلْنَ : (يَا رَسُولَ اللهِ! ذكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الرِّجَالَ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَمْ يَذْكُرِ النِّسَاءَ بخَيْرٍ ، فَمَا فِيْنَا خَيْرٌ نُذْكَرُ بهِ ، إنَّا نَخَافُ أنْ لاَ يَتَقَبَّلَ مِنَّا طَاعَةً). فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
وَاعْلَمْ : أنَّ الرجالَ والنساء يُجَازَوْنَ بأعمالِهم الصالحة مغفرةً لذِنوبهم وأجْراً عظيماً.
ومعنى الآيةِ : { إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } يعني الْمُخْلِصِيْنَ بالتَّوحيدِ والمخلِصاتِ { وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي المصدِّقِين بالتوحيدِ والْمُصَدِّقَاتِ. والإسلامُ في اللغةِ : هو الانْقِيَادُ وَالاسْتِسْلاَمُ. والإيْمَانُ في اللغة : هو التَّصْدِيْقُ ، غيرَ أنَّ معنى الإسلامِ والإيمان في هذه الآية واحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ } ؛ أي الْمُطِيعِينَ للهَ في أوامرهِ ونواهيه والْمُطِيْعَاتِ. والقَانِتُ : هو الْمُوَاظِبُ على الطاعةِ ، والقُنُوتُ : طُولُ القيامِ في الصَّلواتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ } ؛ يعني الصَّادِقينَ في إيْمانِهم والصَّادِقاتِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ } ؛ الصَّابرُ : هو الذي يَحْبسُ نفسَهُ عن جميعِ ما يجبُ الصَّبرُ عنهُ ، ويصبرُ على جميعِ ما يجبُ الصبر عليهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ } ؛ يعني بالْمُتَصَدِّقِيْنَ الذين يُؤدُّونَ ما عليهم مِن الصَّدقة المفروضةِ. ويقالُ : أرادَ به جميعَ الصَّدقاتِ. وأما الخاشِعُ : فهو الْمُتَوَاضِعُ للهِ تعالى وللناسِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ } ؛ يعني الصَّائمين صومَ الفرضِ بنيَِّةٍ صادقةٍ ، ولكن فِطْرُهُمْ على حَلالٍ. قال ابنُ عبَّاس : (مَنْ صَامَ شَهْرََ رَمَضَانَ وَثَلاَثَةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الْغُرِّ الْبيْضِ ، كَانَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ ، وَيُؤْتُوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بمَائِدَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ ، يَأْكُلُونَ مِنْهَا وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ ، وَيُظِلُّهُمُ اللهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ وَالنَّاسُ فِي شِدَّةٍ ، وَيَنْفَحُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ ريْحُ الْمِسْكِ).
وقوله تعالى : { وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ } ؛ أي عمَّا لا يحلُّ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ } ؛ قِيْلَ : أرادَ به الذِّكْرَ في الصَّلواتِ الخمسِ. وَقِيْلَ : أرادَ به الذِّكْرَ باللِّسانِ والقلب في جميعِ الأحوال. قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ فِي أدْبَار الصَّلَوَاتِ غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَفِي الْمَضَاجِعِ ، وَكُلَّمَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ ، وَكُلَّمَا غَدَا وَرَاحَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذكَرَ اللهَ). وقال مجاهدُ : (لاَ يَكُونُ الرَّجُلُ مِنَ الذاكِرِيْنَ كَثِيْراً حَتَّى يَذْكُرَ اللهَ قَائِماً وَقَاعِداً وَمُضْطَجِعاً). وعن أبي هريرةَ ؛ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ وَأيْقَظَ امْرَأتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ، كُتِبَا مِنَ الذاكِرِيْنَ اللهَ كَثِيْراً وَالذاكِرَاتِ " وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } ؛ وهو الجنَّةُ.
(0/0)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } ؛ نزلَتْ هذه الآيةُ في عبدِالله بن جَحْشٍ وأُختهِ زينبُ ، وكانت أُمُّهُما أُمَيْمَةُ بنتُ عبدِ المطَّلب عمَّةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، " خَطَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ بنْتَ جَحْشٍ لِزَيْدِ ابْنِ حَارثَةَ مَوْلاَهُ ، فَكَرِهَ أخُوهَا عَبْدُاللهِ أنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ زَيْدٍ ، وَكَانَ زَيْدٌ عَرَبِيّاً فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْلاَهُ فِي الإسْلاَمِ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أصَابَهُ مِنْ سَبْيِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعْتَقَهُ وَتَبَنَّاهُ.
فَقَالَتْ زَيْنَبُ : لاَ أرْضَاهُ لِنَفْسِي ، ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ! أنَا أتَمُّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ مِنَ ابْنَةِ عَمِّكَ ، فَلَمْ أكُنْ لأَفْعَلَ وَلاَ أرْضَاهُ يَا رَسُولََ اللهِ ، وَقَالَ أخُوهَا عَبْدُاللهِ كَذلِكَ أيْضاً ، وَكَانَتْ زَيْنَبُ بَيْضَاءَ جَمِيْلَةً ، وَكَانَ فِيْهَا حِدَّةٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ رَضِيْتُهُ لَكِ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } أي مَا ينبغِي لِمؤمِنٍ { وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } يعني عبدَاللهِ بن جَحش وأُختَهُ زينبُ إذا اختارَ اللهُ تعالى ورسولهُ أمْراً { أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } بخلافِ ما اختارَ اللهُ ورسولهُ.
قرأ أهلُ الكوفةِ (أنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بالياءِ للحائلِ بين التأنيثِ والفعل ، وقرأ الباقونَ بالتاء. وقَوْلُهُ تَعَالَى { الْخِيَرَةُ } قراءَةُ العامَّة بفتحِ الياءِ ؛ أي الاختيارُ ، وقرأ ابنُ السَّمَيْقِعِ (الْخِيْرَةُ) بسُكون الياءِ, وهُما لُغتانِ. وإنَّما جُمِعَ الضميرُ في قولهِ { لَهُمُ الْخِيَرَةُ } لأن المرادَ بقولهِ { لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } كلَّ مؤمنٍ ومؤمنة في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ أي فيما أمَرَتهُ ، { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } ؛ أي فقد أخطأَ خطأً ، وذهبَ عن الحقِّ والصواب ذهاباً بَيِّناً.
فلما نزلت الآية قَالَتْ : قَدْ رَضِيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ. وَكَذلِكَ رَضِيَ أخُوهَا ، فَجَعَلَتْ أمْرَهَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ زَيْدٍ وَسَاقَ إلَيْهِمَا عليه السلام عَشْرَةَ مَثَاقِيْلَ وَسِتِّيْنَ دِرْهَماً ؛ وَخِمَاراً وَمِلْحَفَةً وَدِرْعاً وَإزَاراً ؛ وَخَمْسِيْنَ مُدّاً مِنْ طَعَامٍ وَثَلاَثِيْنَ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ.
(0/0)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } ؛ أي واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ قولَكَ { لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } بالإسلامِ وغيرهِ ، { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } ؛ بالإعْتَاقِ ؛ وهو زيدُ ابنُ حارثةَ ؛ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأتِهِ زَيْنَبُ تَشَاجُرٌ ، فَجَاءَ زَيْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَشْكُوهَا بَما كَانَتْ تَسْتَطِيْلُ عَلَيْهِ بشَرَفِهَا.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ عَلَى سَبيْلِ الأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } ؛ امْرَأتَكَ ولا تُطلِّقْهَا ، { وَاتَّقِ اللَّهَ } ؛ فيها ولا تَفْعَلْ في أمرِها ما تَأْثَمُ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } ؛ خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أضْمَرَ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ إنْ طَلَّقَهَا زَيْدٌ ، تَزَوَّجَهَا هُوَ وَضَمَّهَا إلَى نَفْسِهِ صِلَةً لِرَحِمِهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا ، فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ وإخفائه ؛ لكي لا يكون ظاهرُ الأنبياء عليهم السلام إلاّ كباطنهم.
وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعلمُ أنَّهما لا يتِّفِقانِ لكثرةِ ما كان يجرِي بينَهما من الخصومةِ ، فجعل يُخْفِيْهِ عن زيدٍ ، وكان الأَولَى بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يدعُوهُما إلى الْخُلْعِ فلم يفعَلْ ، وقالَ لهُ : (أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) خشيةَ أنه لو خَالَعَها ثُم تزوَّجَها النبيُّ عليه السلام أن يطعنَ الناسُ عليهِ فيُقالُ : تزوَّجَ بحليلةِ ابنهِ بعد ما بيَّنَ للناسِ أنَّ حليلةَ الابنِ حرامٌ على الأب ، فهذا معنى قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَخْشَى النَّاسَ } ؛ أي تخافُ لاَئِمَتَهُمْ أنْ يقولُوا : أمَرَ رَجُلاً بطَلاَقِ امْرَأتِهِ ثُمَّ نَكَحَهَا. قال ابنُ عبَّاس في هذه الآيةِ : (أرَادَ بالنَّاسِ الْيَهُودَ ، خَشِيَ أنْ يَقُولَ الْيَهُودُ : تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ امْرَأةَ ابْنِهِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ؛ أي هو أوْلَى بأنْ تخشاهُ في كلِّ الأحوالِ.
وعن عليِّ بن الحسنِ : أنْ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : (كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ أعْلَمَ نَبيَّهُ عليه السلام أنَّ زَيْنَبَ سَتَكُونُ مِنْ أزْوَاجِهِ ، وَأنَّ زَيْداً سَيُطَلِّقُهَا ، فعلى هذا يكون النبي عليه السلام مُعَاتَباً عَلَى قَوْلِهِ : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } مَعَ عِلْمِهِ بأَنَّهَا سَتَكُونُ زَوْجَتَهُ ، وَكِتْمَانِهِ مَا أخْبَرَهُ اللهُ بهِ ، وَإنَّمَا كَتَمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأَنَّهُ اسْتَحْيَا أنْ يَقُولَ لِزَيْدٍ : إنَّ زَوْجَتَكَ سَتَكُونُ امْرَأتِي).
وَقِيْلَ : " إنَّ زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ لَمَّا أرَادَ فِرَاقَهَا ، جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنِّي أُريْدُ أنْ أُفَارقَ صَاحِبَتِي ، فَقَالَ : " مَا لَكَ ؟ أرَابَكَ مِنْهَا شَيْءٌ ؟ " قَالَ : لاَ وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا رَأيْتُ مِنْهَا إلاَّ خَيْراً ، وَلَكِنَّهَا تَتَعَظَّمُ عَلَيَّ لِشَرَفِهَا وَتُؤْذِيْنِي بلِسَانِهَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ".
ثُمَّ إنَّ زَيْداً طَلَّقَهَا ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ صلى الله عليه وسلم لِزَيْدٍ : " مَا أجِدُ فِي نَفْسِي أحَداً أوْثَقَ مِنْكَ ، إذْهَبْ إلَى زَيْنَبَ فَاخْطُبْهَا لِي " قَالَ زَيْدٌ : فَذهَبْتُ فَإذا هِيَ تُخَمِّرُ عَجِيْنَهَا ، فَلَمَّا رَأيْتُهَا عَظُمَتْ فِي صَدْري ، حَتَّى لَمْ أسْتَطِعْ أنْ أنْظُرَ إلَيْهَا حِيْنَ عَلِمْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذكَرَهَا ، فَوَلَّيْتُهَا ظَهْرِي وَقُلْتُ : يَا زَيْنَبُ أبْشِرِي ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطِبُكِ ؛ فَفَرِحَتْ بذلِكَ ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ { زَوَّجْنَاكَهَا } فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ بهَا ، وَمَا أوْلَمَ عَلَى امْرَأةٍ مِنْ نِسَائِهِ مَا أوْلَمَ عَلَيْهَا ، أطْعَمَ النَّاسَ الْخُبْزَ واللَّحْمَ حَتَّى امْتَدَّ النَّهَارُ ".
(0/0)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
قَوْلُُهُ تَعَالَى : { مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ } أي مَا كان عليه من ضِيْقٍ وإثْمٍ فيما شَرَّعَهُ اللهُ تعالى وأحَلَّهُ له كسُنَّةِ اللهِ ، { فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } ، أي سائرِ الأنبياء الماضِين في التَّوسِعَةِ عليهم في النِّكاحِ ، فقَوْلُهُ : { سُنَّةَ اللَّهِ } منصوبٌ بنَزعِ الخافضِ ، وقَوْلُهُ تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } ؛ أي قضاءً مَقْضِيّاً ، أخبرَ اللهُ تعالى أن أمرَ زينبَ كان من حُكمِ الله وقَدَرهِ.
(0/0)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ } ؛ موضعُ (الَّذِيْنَ) الخفضُ ؛ لأنه نعتُ الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذينَ خَلَوا من قَبلُ ، كانوا يبَلِّغُون الرسالةَ ، { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ } ؛ ويخشَون اللهَ ولا يخشونَ أحداً سواهُ ، أي لا يخشون مقالةَ الناسِ ، { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً } ؛ أي مُجَازياً لِمن يخشاهُ ، وَقِيْلَ : حَفِيظاً لأعمالِ العباد ، مُجازياً لَهم.
(0/0)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } ؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَزَوَّجَ زَيْنَبَ ، قَالَ النَّاسُ : إنَّ مُحَمَّداً تَزَوَّجَ امْرَأةَ ابْنِهِ! فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } ، يعني أنَّهُ ليس بأَبي زَيْدٍ حتى تحرُمَ عليه زوجتهُ ، { وَلَـاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } ؛ فعظَّموهُ وأقِرُّوا بهِ.
قرأ الحسنُ وعاصم (وَخَاتَمَ النَّبيِّيْنَ) بفتحِ التاء ؛ أي آخِرَ النَّبيِّينَ ، وقرأ الباقونَ بكسرِ التَّاء على الفاعلِ ؛ أي إنه خَتَمَ النَّبيينَ بالنبوَّةِ ، { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ؛ أي لَم يَزَلْ عالِماً بكلِّ شيء من أقوالِكم وأفعالِكم.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ؛ اختلَفُوا في المرادِ بالذِّكرِ الكثيرِ في هذه الآية. قال الكلبيُّ : (الْمُرَادُ بهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ أذْكَاراً كَثِيْرَةً ، وَأرَادَ بالتَّسْبيْحِ التَّنْزِيْهَ فِي الصَّلاَةِ). وقال مجاهدُ : (هُوَ أنْ لاَ يَنْسَاهُ أبَداً). وقال مقاتلُ : (هُوَ التَّسْبيْحُ وَالتَّحْمِيْدُ وَالتَّهْلِيْلُ وَالتَّكْبيْرُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَهُوَ أنْ يَقُولَ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ. وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ يَتَكَلَّمُ بهِنَّ صَاحِبُ الْجَنَابَةِ وَالْغَائِطِ وَالْحَدَثِ).
قَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بي شِفَاهُهُ ".
قَوْلُهُ تََعَالَى : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } بالغَدَاةِ والعَشِيِّ ، قال الكلبيُّ : (أمَّا بُكْرَةً فَصَلاَةُ الْفَجْرِ ، وَأمَّا أصِيْلاً فَصََلاَةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ). وقال بعضُهم : أرادَ بذلك صلاةَ الصُّبح وصلاةَ العصرِ على قولِ قتادةَ ، وصلاةَ المغرب على قولِ غيرهِ. وخَصَّ طَرَفَي النهار بالذِّكر ؛ لأنه يجتمعُ عندَهُما ملائكةُ اللَّيل والنهار ، فيقولون : أتينَاهم وهم يُصَلُّونَ ، وتركنَاهُمْ وهم يُصَلُّونَ. وَقِيْلَ : خُصَّ التسبيحُ بطرَفَي النهار ؛ لأن صحيفةَ العبدِ إذا كان في أوَّلِها وآخِرِها ذكرٌ وتسبيحٌ يرجَى أن يُغْفَرَ له ما بين طَرَفَي الصحيفةِ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " مَا جَلَسَ قَوْمٌ قَطُّّ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى ، إلاَّ نَادَى مُنَادِي السَّمَاءِ : أنْ قُومُوا فَقَدْ غُفِرَتْ لَكُمْ ذُنُوبُكُمْ ، وَبُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ " وَقِيْلَ : معنَى قولهِ { اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } أي باللَّيلِ والنهار ، وفي البَرِّ والبحرِ ، والسَّفر والحضرِ ، والغِنَى والفقرِ ، والصِّحة والسَّقمِ ، والسِّر والعلانيةِ ، وعلى كلِّ حالٍ. وقال مجاهدُ : (الْكَثِيْرُ هُوَ الَّذِي لاَ يَتَنَاهَى أبَداً).
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } ؛ أي يَرْحَمُكُمْ ويغفرُ لكم ، وقوله { وَمَلاَئِكَتُهُ } أي يَدْعُونَ لكم. وَقِيْلَ : يأمرُ الملائكةَ بالاستغفار لكم. والصَّلاةُ مِن اللهِ الرحمةُ بالثواب ، ومِن المؤمنين الدُّعاءُ ، ومِن الملائكةِ الاستغفارُ للمؤمنين.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ } ؛ أي مِن ظُلُمَاتِ المعاصِي والجهلِ { إِلَى النُّورِ } ؛ العِلْمِ والطاعةِ ، وَقِيْلَ : مِن ظُلماتِ الكُفرِ إلى نور الإيْمانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } ؛ أي لَم يَزَلْ رَحِيْماً بهم إذ رَضِيَ عنهُم وأمَرَ الملائكةَ بالاستغفار لَهم.
(0/0)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } ؛ أي تحيةُ المؤمنينَ مِن الله تعالى { يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ } أنْ يُسَلِّمَ عليهم ، يقولُ لَهم الملائكةُ بأمرِ الله. السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ مَرْحَباً بِعِبَادِي الْمُؤمِنِينَ الَّذينَ أرْضَوْنِي فِي دار الدُّنيا باتِّباعِ أمْرِي. ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ }[الزمر : 73]. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } ؛ أي رزْقاً حَسَناً في الجنَّةِ ، وَقِيْلَ : الأجرُ الكريمُ هو الذي يكون عظيمَ القَدْر.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } ؛ على أُمَّتِكَ وعلى جميعِ الأُممِ بتبليغِ الرِّسالةِ ، { وَمُبَشِّراً } ؛ للخَلْقِ بالجنَّة والثواب لِمَن أطاعَ اللهَ وصَدَّقَكَ ، { وَنَذِيراً } ؛ أي ومُخَوِّفاً بالنار والعقاب لِمَن عصَى الله تعالى وكَذبَكَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ } ؛ أي وأرسلناكَ للناس رَاعِياً للخَلْقِ إلى دينِ اللهِ تعالى بأمرهِ ، يعني إنَّهُ أمَرَكَ بهذا. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } ؛ أي وأرسلناكَ سِرَاجاً مُضِيئاً لِمَن تَبعَكَ واهتدَى بكَ ، كالسِّراجِ في الظُّلْمَةِ يُستَضَاءُ بهِ.
وإنَّما سُمِّيَ النبيُّ عليه السلام سِرَاجاً ؛ لأنه بُعِثَ والأرضُ في ظُلْمَةِ الشِّركِ ، فكان حين بُعِثَ كالسِّراجِ في الظُّلمة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } ؛ أرادَ بالفَضْلِ الكبيرِ مغفرةَ الله لَهم ، وما أعدَّ لَهم في الجنَّةِ.
(0/0)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ؛ فيما يطلِبونَهُ منكَ ، فقد ذكرنَا تفسيرَهُ في أوَّل السُّورة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصْبرْ على أذاهُم واحتَمِلْ منهم ، ولا تَشْتَغِلْ بمجَازَاتِهم إلى أن تُؤْمَرَ فيهم بأمرٍ ، وهذا منسوخٌ بآية السَّيفِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَكَّـلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي فَوِّضْ أمُورَكَ إليهِ. فإنه سَيَكْفِيْكَ أمرَهُم إذا تَوَكَّلْتَ عليهِ ؛ أي تَوَكَّلْ عليه في كِفَايَةِ شرِّهم وأذاهم ، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِـيلاً } ؛ إذا وَكَّلْتَ أمْرَكَ إليهِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } ؛ أي إذا تَزوَّجتُمُوهُنَّ من قَبْلِ أن تُجامِعُوهن ، { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } ، تَسْتَوْفُونَهَا بالعَدَدِ لا بالحيضِ ولا بالشُّهور. والاعْتِدَادُ هو استيفاءُ العَدَدِ ، أسقطَ اللهُ العِدَّةَ من الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخولِ لبَرَاءَةِ رحِمِها ، فلو شاءَتْ تزوَّجت مِن يومِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ؛ أي أعْطُوهُنَّ مُتْعَةَ الطلاقِ ، وهذا على سبيلِ الوجُوب فيمَن يدخلُ بها ولَم يُسَمِّ لَها مهراً ، وعلى النَّدب في مَن سَمَّى لَها مهراً ثُم طلَّقَها قبلَ الدُّخولِ.
وقال سعيدُ بن المسيَّب : (نُسِخَ حُكْمُ هَذِهِ الآيَةِ بقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ{ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ }[البقرة : 237]). وقال الحسنُ : (الْمُتْعَةُ وَاجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ وَمُخْتَلَعَةٍ وَمُلْتَعَنَةٍ ، وَلَكِنْ لاَ يُجْيَرُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَرِّحُوهُنَّ } أرادَ له التسريحُ عن المنْزِلِ لا عن النكاحِ ؛ لأن حقَّ الحبسِ لا يثبتُ إلاّ بأحدِ الأمرين : إما النكاحُ ؛ وإما العدَّةُ ، وقد عُدَّ ما جميع في هذا الموضعِ بعددِ الطَّلاق المذكور.
والسَّراحُ الجميلُ : هو الذي لا يكونُ فيه جَفْوَةٌ ولا أذَى ولا منعُ حقٍّ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قولهِ { فَمَتِّعُوهُنَّ } : (أيْ أعْطُوهُنَّ الْمُتْعَةَ ، قَالَ : وَهَذا إذا لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا صَدَاقاً ، فَأَمَّا إذا فَرَضَ صَدَاقاً فَلَهَا نِصْفٌ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } أي أبَحْنَا لكَ نساءَكَ اللاِّتِي تزوَّجْتَهن بمُهُورٍ مُسَمَّاةٍ ، وأعطيتَ مُهورَهُنَّ ، وسَمَّى المهرَ أجْراً لأنه يجبُ بَدَلاً عن منافعِ البُضْعِ ، كما أنَّ الأجرَ يجبُ بَدَلاً عن منافعِ الدَّار والعبدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ؛ أي وَأبَحْنَا لكَ ما ملكَتْ يَمينُكَ ؛ يعني الْجَوَاري التي يَملِكُها. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ } ؛ أي مِمَّا أعطاكَ اللهُ من الغنيمةِ جُوَيْرِيَّةَ بنتِ الحارثِ ، وصَفِيَّةَ بنتِ حَييِّ بن أخْطََبَ. ويدخلُ في هذه اللفظةِ الشِّراءُ والتزوُّجُ ، كما رُوي في صَفِيَّةَ " أنَّهُ عليه السلام أعْتَقَهَا ثُمَّ تََزَوَّجَهَا ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } ؛ أرادَ به إباحةَ تزويجِ بناتِ عمِّه وبناتِ عمَّاتهِ من بنِي عبدِ المطَّلب ، { وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } ، وبناتِ خالهِ وبنات خالاتهِ ؛ يعني نساءَ بني زُهرَةَ من بنِي عبدِ منافٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ } ؛ أي هَاجَرْنَ معكَ من مكَّة إلى المدينةِ ، وهذا إنَّما كان قَبْلَ تَحليلِ غير الْمُهاجِرَاتِ ، ثُم نُسِخَ شرطُ الهجرةِ في التحليلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } ؛ بلا مَهرٍ إن أراد النبيُّ أن يتزوَّجَها ، ومَن قرأ (وَهَبَتْ) بالفتحِ ، فمعناهُ : أحللناهَا أنْ وهَبَت ، وهي قراءةُ الحسنِ ، فالفتحُ على الماضِي والكسرُ على الاستئنافِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } ؛ أي إنْ أرادَ النبيُّ أن يتزوَّجَها فلَهُ ذلكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِصَةً لَّكَ } ؛ أي خاصَّةً لكَ ، { مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ فليسَ لامرأةٍ أن تَهَبَ نفسَها لرجلٍ بغيرِ شُهودٍ ولا وَلِيٍّ ولا مَهْرٍ إلاّ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وهذا مِن خَصَائِصِهِ في النِّكاحِ ، كالتَّخْييرِ والعددِ في النِّساء.
ولو تزوَّجَها بلفظِ الهبة وقََبلَها بشهودٍ ومَهْرٍ انعقدَ النكاحُ ولَزِمَ المهرُ ، وهذا مذهبُ أبي حنيفةَ ، وقال الشافعيُّ ومالكٌ : (لاَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بلَفْظِ الْهِبَةِ إلاَّ للنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً ؛ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } وَلَمْ يَقُلْ لَكَ ، لأَنَّهُ لَوْ قَالَ : إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ ، كَانَ يَجُوزُ أنْ يُتَوَهَّمَ أنَّهُ يَجُوزُ ذلِكَ لِغَيْرِهِ عليه السلام كَمَا جَازَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ } ، لأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ }.
وحُجَّةُ أبي حنيفةَ وأصحابهِ : إنَّ إضافةَ الهبةِ إلى المرأةِ دليلاً أنَّ النبيَّ لَم يكن مَخْصُوصاً بالنكاحِ بلفظةِ الهبةِ ، وإنَّما كانت خُصوصِيَّة في جواز النِّكاح ِ بغير بدلٍ ، ولو لَم يكن بلفظِ الهبةِ نكاحاً لِمَا قالَ تَعَالَى { إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا } ، فلمَّا جعلَ اللهُ الهبةَ جواباً للاسْتِنْكَاحِ ، عُلِمَ أنَّ لفظَ الهبة نِكَاحٌ.
وقَوْلُهُ { خَالِصَةً } نعتُ مصدرٍ ؛ تقديرهُ : إنْ وَهَبَتْ نفسهَا هبةً خالصةٌ لك بغيرِ عِوَضٍ ، أحْلَلْنَا لكَ ذلك مِن دونِ المؤمنين ، فأمَّا المؤمنونَ إذا قَبلُوا هذه الهبةَ على وجهِ النِّكاحِ لزِمَهم المهرُ.
(0/0)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
قَوْلُهُ تََعَالَى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } ، معناه : تؤخِّرُ مَن تشاءُ من فراشِكَ من نسائك ، وتضمُّ إلى فراشِكَ مَن تشاءُ منهن من غير حرجٍ عليك. وهذا من خصائصِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تفضيلاً له ، أُبيح له أن يجعلَ لِمَن أحبَّ منهن يوماً أو أكثرَ ، ويعطِّلُ مَن شاء منهنَّ فلا يأتيها. وكان القَسْمُ واجباً على النبيِّ صلى الله عليه وسلم والتسويةُ بينهن ، فلما " نزَلت " هذه الآيةُ سقطَ الوجوبُ ، وصار الاختيار إليه فيهن. قال منصورُ عن أبي رَزين : (وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ وَأُمُّ سَلَمَةَ وَزَيْنَبُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ ، وَكَانَ يُسَوِّي بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ ، وَكَانَ مِمَّنْ أرْجَى سَوْدةُ وَجُوَيْرِيَّةُ وَصَفِيَّةُ وَأُمُّ حَبيبَةَ وَمَيْمُونَةَ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لَهُنَّ مَا شَاءَ ، وَكَانَ قَدْ أرَادَ أنْ يُفَارقَهُنَّ ، فَقُلْنَ لَهُ : اقْسِمْ لَنَا مَا شِئْتَ مِنْ نَفْسِكَ ، وَدَعْنَا عَلَى حَالِنَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، معناهُ : إنْ أردتَ أن تُؤوي إليك امرأةً ممن عزَلتهُنَّ من القسمةِ وتضمَّها إليه ، فلا عتبَ عليك ولا لَوْمَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } ، أي ذلك التخييرُ الذي خيَّرتك في صُحبَتهنَّ أدنى إلى رضاهن إذا كان ذلك مُنَزَّلاً مِن الله عليك ، ويرضيهنَّ كلُّهن بما أعطيتهن من تقريبٍ وإرجاء وإيواءٍ. قال قتادةُ : (إذا عَلِمْنَ أنَّ هَذا جَاءَ مِنَ اللهِ لِرُخْصَةٍ ، كَانَ أطْيَبَ لأَنْفُسِهِنَّ وَأقَلَّ لِحُزْنِهِنَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } ، واللهُ يعلَمُ ما في قلوبكم من أمر النساء والميلِ إلى بعضِهنَّ ، ويعلمُ ما في قلوبكم من الرِّضا والسُّخط وغيرِ ذلك ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } ، بمصالحِ العباد ، { حَلِيماً } ، على جهلِهم ولا يعاقبُهم بكلِّ ذنبٍ.
(0/0)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ } ، قال قتادةُ : (وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ، شَكَرَ اللهُ لَهُنَّ فَقَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِنَّ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ سِوَاهُنَّ). وكُن يؤمئذ تِسعاً : عائشةُ ، وحفصةُ ، وزينب ، وأُم سَلَمة ، وأمُّ حَبيبة ، وصفيَّة ، وميمونةُ ، وجويرِيَّة ، وسَوْدَةُ.
ومعنى الآية : لا يحلُّ لكَ من النساءِ سوى هؤلاء اللاَّتي اخترنَكَ ، { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } ، وليس لكَ أن تُطلِّقَ واحدةً منهن وتَزَوَّج بدَلها. وقولهُ : { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ، يعني ماريَّة القِبطية وغيرها من السَّبايا. وقولهُ تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً } ، أي حفيظاً. وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها قالت : [مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى حَلَّتْ لَهُ النِّسَاءُ].
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } ، نزَلت هذه الآيةُ في شأنِ ولِيمَةِ زينب ، قال أنسُ ابن مالكٍ : " لَمَّا بََنَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بزَيْنَبَ بنْتِ جَحْشٍ ، أوْلَمَ عَلَيْهَا بتَمْرٍ وَسَوِيقٍ وَذَبَحَ شَاةً ، وَبَعَثَت إلَيْهِ أُمِّي أُمُّ سُلَيمٍ بحَيْسٍ في تُورٍ مِنَ حِجَارَةٍ ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ أدْعُوَ أصْحَابَهُ إلَى الطَّعَامِ فَدَعَوْتُهُمْ ، فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَدْخُلُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ آخَرُونَ فيَأْكُلُونَ وَيَخْرُجُونَ ، فَوَضَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدَهُ عَلَى الطَّعَامِ وَدَعَا فِيهِ ، فَأَكَلُوا حَتَّى شَبعُواْ وَخَرَجُواْ ، وَبَقِيَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " ارْفَعُواْ طَعَامَكُمْ " فَرَفَعُواْ وَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَقِيَ أُوْلَئِكَ الْقَوْمُ يَتَحَدَّثُونَ فِي البَيْتِ فَأَطَالُوا الْمُكْثَ. وَإنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِكَيْ يَخْرُجُواْ ، فَمَشَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى جَميعِ بُيُوتِ أزْوَاجِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَإذا الْقَوْمُ جُلُوسٌ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِهِ ، وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
قال أنسٌ : " فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب جِئْتُ لأَدْخُلَ كَمَا كُنْتُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَرَاءَكَ يَا أنسُ " ".
ومعنى الآية : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ } صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي إلا أن يُدعَوا إلى الضيافةِ أو يُؤذن لكم في الدخول ، من غير أن يجتنبوا وقتَ الطعام فيستأذنوا في ذلك الوقت ، ثم تقعُدوا انتظاراً لبُلوغ الطعامِ ونُضجهِ.
ومعنى : { غَيْرَ نَاظِرِينَ } أي مُنتظرين نُضجَهُ وإدراكَهُ ، يقال أنَى يَأنِي إنَاهُ ، إذا حانَ وأدركَ ، وكانوا يدخلون بَيتَهُ فيجلسون منتظرين إدراكَ الطعام ، فنُهوا عن ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ } ، أي فتفرَّقوا ، { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } ، ولا تجلسوا مُستَأنِسين لحديثٍ بعدَ أن تأكُلوا ، { إِنَّ ذَالِكُمْ } ، إنَّ طُولَ مقامكم بعدُ في منزل النبي عليه السلام ، { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } ، صلى الله عليه وسلم ، { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } ، أن يأمركم بالخروج ، { وَاللَّهُ } ، عَزَّ وَجَلَّ ، { لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } ، أي لا يمنعه عن بيان ما هو الحقُّ استحياءً منكم ، وإن كان رسولهُ يفعل ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ، أي إذا سألتُم أزواجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من متاعِ البيت ، فخاطبُوهم من وراء الباب والسَّترِ ، قال مقاتلُ : (أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ أنْ لاَ يُكَلِّمُوا نِسَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ). وعن أنسٍ رضي الله عنه قال : قَالَ عُمر : (يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، فَلَوْ أمَرْتَ أُمَّهَاتَ الْمُؤْمِنِينَ بالْحِجَاب ، فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَاب).
(0/0)
إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ } ، أي إنْ تُظهروا قَولاً أو تُضمِرُوهُ ، فإنَّ الله عالِمٌ بالظواهرِ والبواطنِ والضمائر. وقيل : معناهُ : إنْ تُظهروا أشياءَ من أمرِهنَّ ، يعني طلحةَ ، قوله تعالى : { أَوْ تُخْفُوهُ } أي تسِرُّونَهُ في أنفسكم ، وذلك أنَّ نفسَهُ حدَّثته بتزويجِ عائشة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ، أي عليمٌ بكل شيءٍ من السرِّ والعلانية.
فلمَّا نزلَت آيةُ الحجاب قال الأباءُ والأبناء والأقاربُ : يا رسولَ الله ونحنُ أيضاً نُكلِّمُهنَّ من وراء حجاب ؟ فأنزلَ اللهُ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ } ، الآية. أي لا حرجَ عليهن في إذنِ آبائهن بالدخول عليهن ، ولا في إذن الأبناءِ والإخوان وأبناء الإخوانِ وأبناء الأخوات.
فإن قيلَ : فهلاَّ ذكَر الأعمامَ والأخوال ؟ قيل : إنَّ العمَّ والخالَ يجريان مجرَى الوالدين في الرُّؤية ، وكان ذِكرُ الأباء يتضمَّن ثباتَ حُكم الأَعمام والأخوال. وقيل : إنما لم يذكُر الأعمامَ والأخوال لكي لا يدخلَ أبناؤهما ، ولا يطمَعا فيهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } ، قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (يَعْنِي نِسَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ، لاَ نِسَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَصِفْنَ لأَزْوَاجِهِنَّ نِسَاءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنْ رَأيْنَهُنَّ). وقولهُ تعالى : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ، يعني العبيدَ والإماءَ ، قيل : حَمْلُهُ على الإماءِ أوْلَى ؛ لأن الْحُرَّ والعبيدَ يختلفان فيما يُباح لهما من النَّظَر ، فلا يجوزُ للبالغين من العبيدِ أن يَنظُروا إلى شيءٍ منهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } ، أي واتَّقين اللهَ أن يرَاكُنَّ غيرُ هؤلاء ، وقيل : اتَّقين اللهَ في الإذنِ لغير المحارمِ في الدخول عليكن ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ، من أعمال العباد ، { شَهِيداً } ، لم يغب عنه شيء.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ } ، معناه : أنَّ اللهَ يترَحَّمُ على النبيِّ ويُثني عليه ، وقوله : { وَمَلاَئِكَـتَهُ } أي والملائكة يدعونَ له بالرَّحمة ، وقوله تعالى : { يُصَلُّونَ } الضميرُ فيه يعودُ على الملائكة دون اسم الله تعالى ؛ لأن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُفرِدُ ذِكرَهُ عن ذِكر غيره إعظاماً كما تقدم في قوله : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }[التوبة : 62]. وقرأ ابن عباس : (وَمُلاَئِكَتُهُ) بالرفع عطفاً على محل قوله تعالى قبل دخول (إنَّ) ، ونظيره قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ }[المائدة : 69] وقد مضى ذلك.
وقيل : معنى قوله : { وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ } أي يُثْنُونَ ويترحَّمون ويَدْعُون له. وقال مقاتلُ : (أمَّا صَلاَةُ اللهِ فَالْمَغْفِرَةُ ، وَأمَّا صَلاَةُ الْمَلاَئِكَةِ فَالاسْتِغْفَارُ لَهُ). وقولهُ تعالى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ } ، أي قولوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى محَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد ، تَعظِيماً وإجْلاَلاً وتَفضِيلاً.
وعن كعب بن عُجرة قال : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، قِيلَ : " يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ : " قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَبَاركْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيدٌ " ".
وعن عبدِالله بن مَسعُود أنه قال : (إذا صَلَّيْتُمْ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَحْسِنُوا الصَّلاَةَ عَلَيْهِ ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ لَعَلَّ ذلِكَ يُعْرَضُ عَلَيْهِ. قَالُواْ : فَعَلِّمْنَا ذلِكَ. قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَإمَامِ الْمُتَّقِينَ وَخَاتَمِ النَّبيِّينَ مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ ، إمَامِ الْخَيْرِ وَقَائِدِ الْخَيْرِ وَرَسُولِ الرَّحْمَةِ. اللَّهُمَّ ابْعَثْهُ مَقَاماً مَحْمُوداً يَغْبطُهُ فِيهِ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } ، يجوزُ أن يكون معناه : واخْضَعُوا لأمرهِ خُضوعاً ، ويجوز أن يكون معناه : الدُّعاء بالسلامِ ، يقول : السَّلامُ عليكَ يا رسولَ اللهِ. وعن الحسنِ قال : " سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ عَرَفْنَا السَّلاَمَ عَلَيْكَ ، فَكَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ : " قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ " والأفضلُ في هذا الباب أن تصَلِّي على مُحَمَّد وعلى آلهِ ، فتقولَ : اللَّهُمَّ صلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحََمَّد. فإنْ اقتُصِرَ على أحدهما جازَ.
واختلفوا في كيفيَّة وجُوب الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضُهم : تجبُ في العُمرِ مرَّة واحدةً بمنزلة الشهادَتين ، وإلى هذا ذهبَ الكرخيُّ قالَ : (إذا صَلَّى عَلَيْهِ فِي عُمُرِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ أدَّى فَرْضَهُ ، إلاَّ أنَّ الْمُسْتَحَبَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ فِي مُقَابَلَةِ حَقِّهِ فِي الدِّينِ عَلَيْنَا ، كَمَا يَلْزَمُ الْمَرْءَ الدُّعَاءُ لأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنِيْنِ لِيَقْضِيَ بذلِكَ الدُّعَاءِ حَقَّهُمَا عَلَيْهِ).
وقال بعضُهم : تجبُ عليه في كلِّ مجلسٍ مرَّة بمنزلة سَجدَةِ التِّلاوة. وقال الطحَّاويُّ : (تَجِبُ الصَّلاَةُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كُلِّمَا ذُكِرَ) واستدلَّ بما رُوي أنَّ جبريلَ عليه السلام قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصََلِّ عَلَيْكَ فَلاَ غَفَرَ اللهُ لَهُ " وقال الشافعيُّ رضي الله عنه : (الصَّلاَةُ عَلَيْهِ فَرْضٌ فِي كُلِّ صَلاَةٍ) وهذا قولٌ لم يقُل به أحدٌ غيرهُ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ، قال المفسِّرون : هم المشرِكون واليهودُ والنصارى ، وصَفُوا اللهَ بالولدِ فقالوا : عُزيرٌ ابن الله ، والمسيحُ ابن الله ، والملائكةُ بناتُ الله ، وكذبوا رسولَهُ وشجُّوا وجهَهُ وكسَرُوا رُباعيته ، وقالوا : مجنونٌ ، وشاعر ، وساحرٌ كذاب. قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ أحَدٍ أصْبَرُ عَلَى أذَى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى ، جَعَلُوا لَهُ نَدّاً وَجَعَلُوا لَهُ وَلَداً ، وَهُوَ مَعَ ذلِكَ يُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ " وكذلك قالتِ اليهودُ : يدُ الله مغلولةٌ ، وقالوا : إن الله فقيرٌ.
ومعنى يُؤذون اللهَ ، أي يُخالفون أمرَ اللهِ ويعصونه ويصفونَهُ بما هو مُنَزَّهٌ عنه ، والله تعالى لا يلحقهُ أذَى. وقوله تعالى : { لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي باعدَهم اللهُ يعني بالقتلِ والجلاء في الدُّنيا والعذاب بالنار في الآخرة ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً } ، أي ذي هوانٍ.
(0/0)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ } ، أي يَرمُونَهم بما ليس فيهم ، قال قتادةُ والحسن : (إيَّاكُمْ وَإيْذاءَ الْمُؤْمِنِ ؛ فَإنَّ اللهَ يَغْضَبُ لَهُ وَيُؤْذِي مَنْ آذاهُ). وعن عبدالرحمن بن سَمُرة قال : " خَرَجَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : " رَأيْتُ اللَّيْلَةَ عَجَباً ، رأيْتُ رجَالاً مُعَلَّقُونَ بأَلْسِنَتِهِمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلاَءِ الَّّذِينَ يَرْمُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } ، أي فقد قَالُوا كَذِباً وجَنَوا على أنفُسهم وزْراً وعقوبةً.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } ، أي قُل لنسائك وبناتِكَ والحرائرِ من النساء يُلقِينَ على رُؤوسهن وووجوههنَّ من جلابيبهن ، والجلبابُ : هو المقنعةُ التي تسترُ بها المرأة ما يَظْهَرُ من العنُق والصدر ، وهي الملاءةُ التي تشتمل بها المرأةُ.
قال المفسِّرون : يُغطِّين رؤُوسَهن ووجوههن إلا عَيناً واحدة. وظاهرُ الآية يقتضي أنْ يكُنَّ مأمورات بالسَّتر التام عند الخروجِ إلى الطُّرق ، فعليهن أن يَستَتِرْنَ إلا بمقدار ما يعرفنَ به الطريق.
وقولهُ تعالى : { ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ، معناه : ذلك أقربُ أنْ يعرِفن الحرائرَ من الإماءِ فلا يؤذِي الحرائر ؛ لأن الناسَ كانوا يومئذٍ يُمازحون الإماءَ ولا يمازحون الحرائرَ ، وكان المنافقون يمازحون الحرائرَ ، فإذا قيلَ لهم في ذلك ، قالوا : حسِبنا أنَّهن إماءٌ. فأمرَ اللهُ الحرائرَ بهذا النوعِ من السَّتر قطعاً لأعذار المنافقين.
وعن عُمر رضي الله عنه : أنَّهُ كَانَ يَضْرِبُ الإمَاءَ وَيَقُولُ : (اكْشِفْنَ رُؤُوسَكُنَّ وَلاَ تتَشَبَّهْنَ بالْحَرَائِرِ). ومرَّت جاريةٌ بعُمر رضي الله عنه متقنِّعة ، فعَلاَها بالدرَّة وقال : (يَا لُكَاعُ ، أتَتَشَبَّهِينَ بالْحَرَائِرِ ، ألْقِي الْقِنَاعَ).
ويقالُ في معنى ذلك : { أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ } أي أقربُ إلى أن يُعرفن بالسَّتر والصلاح ؛ فيَيئَسَ منهن فُسَّاق الرِّجال ، فلا يطمَعُون فيهن كطمَعِهم فيمن تتبرَّج وتتكشَّف.
(0/0)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ } ، أي لإنْ لم يَنْتَهِ المنافقون عن نِفَاقهم ، { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ، يعني الفُجور وهم الزُّناة وضعفاء الدِّين عن أذى المؤمنين ، { وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ } ، وهم قومٌ كانوا يُوقعون الأخبارَ بما يكرهُ المؤمنون ، ويقولون : قد أتَاكُم العدوُّ ، ويقولون لسَرَاياهم : أنهم قُتِلوا وهُزِموا ، يُخيفون المؤمنين بذلك. لئن لم ينتَهُوا عن هذه الأفعالِ القبيحة ، { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } ، أي لنسلطنَّكَ عليهم ، ونأمرك بقتلِهم حتى تقتُلَهم وتخلو منهم المدينة ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً } ، أي في المدينةِ ، والمعنى : لا يُساكِنُونك في المدينة إلا يَسيراً حتى يهلَكُوا ، { مَّلْعُونِينَ } ، مطرودين مُبعَدين عن الرَّحمة ، { أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } ، أي أينَما وُجدوا وأُدركوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّلْعُونِينَ } نصبٌ على الحالِ ، وقيل : على الذمِّ ، وتقديرُ النصب على الحالِ : لا يُجاورونك إلا وهم مَلعُونون مطرودون مخذولون.
وقولهُ تعالى : { أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } ، أي أُخذوا وقُتلوا مرَّة بعد مرَّة ؛ لأنه إذا ظهرَ أمرُ المنافقين كانوا بمنزِلة الكفَّار ، ومن حقِّ الكفار أن يُقتلوا حيث يوجدون. قال قتادة : (أرَادَ الْمُنَافِقُونَ أنْ يُظْهِرُوا مَا فِي قُلُوبهم مِنَ النِّفَاقِ ، فَلَمَّا وَعَدَهُمُ اللهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَكَتَمُوهُ).
(0/0)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } ، أراد بالسُّنة الطريقةَ التي أمرَ اللهُ بلُُزومها واتباعها ، وقد كانت هذه السُّنة في الأُممِ الماضية ، لَمَّا آذى المنافقون أنبياءَهم ، أمرَ الله أنبياءَهُ بقتالهم.
قال الزجَّاجُ : (سَنَّ اللهُ فِي الَّذِينَ يُنَافِقُونَ الأَنْبيَاءَ وَيُرْجِفُونَ بهِمْ أنْ يُقْتَلُوا حَيْثُمَا ثُقِفُوا) ولا يبدِّلُ الله سُنَّتَهُ فيهم ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } ، أي هكذا سُنة الله فيهم إذا أظهَرُوا النفاقَ.
(0/0)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } ، قال الكلبيُّ : (سَأَلَ أهْلُ مَكَّةَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّاعَةِ وَعَنْ قِيَامِهَا) فقال الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ } ، أي قُل لهم يا مُحَمَّد : إنَّما العلمُ بوقتِ قيامها عند اللهِ ، لا يُطلِعُ أحدا عليها. وقولهُ تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً } ، أيْ أيُّ شيْءٍ يُعلمُكَ أمرَ الساعة ومتى يكون قيامُها ، أي أنتَ لا تعرفهُ ، ثم قال : { لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }.
وما بعدَ هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ، ظاهرُ المعنى.
(0/0)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } ، أي تُقلَّبُ وجوهُ الكفار ظهرَ البطنِ ، وقيل : تُقلَّبُ إلى سوادٍ ، وقيل : تُقلَّبُ إلى الأقفيةِ.
وقرأ أبو جعفر : (تَقَلَّبُ) بفتح التاء بمعنى تَتَقَلَّب. وقرأ عيسى بن عمر : (نُقَلِّبُ) بالنون وكسرِ اللام (وُجُوهَهُمْ) بالنصب. وقولهُ تعالى : { يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ } ، في الدُّنيا.
(0/0)
وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } أي صرَفُونا عن الدِّين وعن سَبيلِ الهدى. قرأ الحسنُ وابن عامرٍ ويعقوب : (سَادَتِنَا) بالألفِ وكسر التاء على جمعِ الجمع.
(0/0)
رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ } ، أي عذِّبْهم مِثْلَي عذابنا ، فيكون ضعفٌ على كُفرِهم وضِعفٌ على دُعائهم لنا إلى الضلالِ. وقوله : { وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً } ، قرأ عاصم (كَبيراً) بالباء ؛ أي عظيماً ، وقرأ الباقون بالثاء مِن الكثرة ، وإنما اختاروا الكثرةَ لقوله : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ }[البقرة : 159] وقولهِ تعالى : { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[البقرة : 161] فهذا يشهدُ للكثرة.
حدثنا مُحَمَّد بن الحسن العسقلاني ، قال : " سمعتُ مُحَمَّدَ بن السري يقولُ : رأيتُ في المنام كأنِّي في مسجدِ عَسقلان ؛ وكأنَّ رجُلاً يُناظِرُني ويقول : (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبيرًا) وأنا أقولُ : (كَثِيراً). وإذا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم فدخلَ علينا بالمسجدَ ، وكان في وسطِ المسجد منارةً لها بابٌ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقصدُها.
فقلتُ : هذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقلتُ : السلامُ عليكَ يا رسولَ الله استَغفِرْ لي. فأمسكَ عنِّي ، فجِئتهُ عن يمينهِ فقلتُ : يا رسولَ الله استغفِرْ لي ، فأعرضَ عني ، فقمتُ من تلقاءِ صدره ، حدَّثَنا سُفيان بن عُيينة عن مُحَمَّد بن المنكدر وعن جابرِ بن عبدالله : " أنَّكَ مَا سُئِلْتَ شَيْئاً قَطْ فَقُلْتُ لاَ " فتبسَّم عليه السلام وقال : " اللَّهم اغفِرْ له ". فقلتُ : يا رسولَ الله إني وهذا نتكلَّمُ في قولهِ تعالى : (وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَثِيرًا) ، فأنا أقولُ : (كَثِيراً) وهذا يقولُ : (كَبيراً) ، قال : فدخلَ النبيُّ المنارةَ وهو يقولُ : كَثيراً ، كَثِيراً ، بالثاءِ إلى أن غابَ عني صوتهُ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ } ، أي لا تكونُوا في أذى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كبني إسرائيلَ ، الذين آذوا موسَى بعيبٍ أضافوهُ إليه ، فبرَّأهُ اللهُ مما قالوا عليه ، { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } ، أي رفيعَ القدر والمنزلةِ.
واختلفوا في العيب الذي أضافَهُ بنوا إسرائيلَ إلى موسى ، قال بعضُهم : كان هارونُ أحبَّ إلى بني إسرائيلَ من موسى لزيادةِ رفقه بهم ، فلما ماتَ هارونُ في حالِ غيبتهما عنهم ، قالوا : إنَّ موسى قتلَهُ لتخلصَ له النُّبوة ، فأحياهُ الله تعالى حتى كذبَهم.
وقال بعضُهم : كان أذاهُم له أنهم رَمَوه بالأَدَرَةِ لكثرةِ حيائه واستتارهِ عن الناس ، وكانت بنوا إسرائيلَ عُراةً ينظرُ بعضهم إلى سَوءَةِ بعضٍ ، وكان موسى يغتسلُ وحدَهُ ، فقالوا : واللهِ ما يمنعُ موسَى أن يغتسلَ معنا إلا أنه آدَرَ.
قال : فذهبَ يغتسلُ مرَّة ، فوضعَ ثوبَهُ على حجرٍ ، فذهبَ الحجرُ بثوبهِ ، فخرجَ موسى من الماءِ في إثْرِ الحجرِ ، يقول : ثَوبي يا حجرُ ، حتى نظَرت بنوا إسرائيل إلى سَوأتهِ عليه السلام ، فقالوا : واللهِ ما به من بأسٍ. فقامَ الحجرُ بعدما نظروا إليه وأخذ ثوبه ، فطَفِقَ بالحجرِ ضَرباً. قال أبو هُريرة : " وَاللهِ إنَّ بالْحَجَرِ نُدَبٌ سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ مِنْ ضَرْب مُوسَى " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً } أي حَظِيّاً لا يسألهُ شيئاً إلا أعطاهُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ } ، أي اتَّقوا عذابَ الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، { وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } ، قال ابنُ عباس : (صَوَاباً) ، وقال الحسنُ : (صَادِقاً) يعني كلمةَ التوحيدِ : لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
(0/0)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
وقولهُ تعالى : { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ يَتَقَبَّلُ حَسَنَاتِكُمْ) { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } ، بسَدَادِ قَولِكم ، { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } ، أي فقد نالَ الخير كلَّهُ وظَفِرَ به ، والفوزُ العظيم هو الظَّفَرُ بالكرامةِ والرضوان من اللهِ تعالى.
(0/0)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ } ، معناه : إنا عرَضنا الأمانةَ التي هي الشرائعُ والفرائض التي يتعلَّقُ بأدائها الثوابُ وبتركها العقاب. قال ابنُ عباس : (عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى السَّمَوَاتِ السَّبْعِ الَّتِي زُيِّنَتْ بالنُّجُومِ وَحَمَلَتِ الْعَرْشَ الْعَظِيْمَ ، فَقِيْلَ لَهُنَّ بأَخْذِ الأَمَانَةِ بَما فِيهَا ، قُلْنَ : وَمَا فِيهَا ، قِيلَ : إنْ أحْسَنْتُنَّ جُزِيتُنَّ ، وَإنْ أسَأْتُنَّ عُوقِبْتُنَّ ، قُلْنَ : لاَ. ثُمَّ عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَى الْجِبَالِ الصُّمِّ الشَّوَامِخِ الصِّلاَب الْبَوَاذِحِ) ، { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا }. قال ابنُ جريج : (قَالَتِ السَّمَاءُ : يَا رَب خَلَقْتَنِي وَجَعَلْتَنِي سَقْفاً مَحْفُوظاً ، وَأجْرَيتَ فِيَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ ، لاَ أعْمَلُ فرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً. وَقَالَتِ الأَرْضُ : يَا رَب جَعَلْتَنِي بسَاطاً وَمِهَاداً ، وَشَقَقْتَ فِيَّ الأَنْهَارَ ، وَأنْبَتَّ فِيَّ الأَشْجَارَ ، لاَ أتَحَمَّلُ فَرِيضَةً وَلاَ أبْتَغِي ثَوَاباً وَلاَ عِقَاباً).
ومعنى قولهِ : { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا } أي مخافةً وخِشيَةً لا معصيةً ولا مخالفة ، والعرضُ كان تَخييراً لا إلزاماً ، قولهُ : { وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } أي خِفْنَ من الأمانةِ أن لا توفِّيها ، فيلحقهُنَّ العقابُ ، فأَبَوا ذلك تَعظيماً لدِين الله وخَوفاً أن لا يقوموا به ، وقالوا : نحنُ مسخَّرات لأمرِكَ لا نريدُ ثَواباً ولا عقاباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } ، يعني : وحَملَها آدمُ عليه السلام قال الله له : يا آدمُ إني عرضتُ الأمانةَ على السَّموات والأرض والجبالَ فأبَين أن يحمِلنَها ولم يُطِقْنَها ، فهل أنتَ آخذُها بما فيها ؟ قال : يا رب وما فيها ؟ قال : إنْ أحسنتَ جُزِيتَ ، وإنْ أسأتَ عُوقِبْتَ. فتحمَّلها آدمُ ، وقال : حَمَلتُها بين أذُنَيَّ وعاتِقي.
قال ابنُ عباس : (عَرَضَ اللهُ عَلَى آدَمَ أدَاءَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي مَوَاقِيتِهَا ، وَأدَاءَ الزَّكَاةِ عِنْدَ مَحِلِّهَا ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ ، وَحِجِّ الْبَيْتِ ، عَلَى أنَّ لَهُ الثَّوَابَ وَعَلَيْهِ الْعِقَابَ ، فَقَالَ : بَيْنَ أُذُنَيَّ وَعَاتِقِي).
وقال مقاتل : (قَالَ اللهُ تَعَالَى لآدَمَ : أتَحْمِلُ هَذِهِ الأَمَانَةَ وَتَرْعَاهَا حَقَّ رعَايَتِهَا ؟ فَقَالَ آدَمُ : وَمَا لِي عِنْدَكَ ؟ قَالَ : إنْ أحْسَنْتَ وَأطَعْتَ وَرَعَيْتَ الأَمَانَةَ ، فَلَكَ الْكَرَامَةُ وَحُسْنُ الثَّوَاب فِي الْجَنَّةِ ، وَإنْ عَصَيْتَ وَأَسَأْتَ مُعَذِّبُكَ وَمُعَاقِبُكَ. قَالَ : قَدْ رَضِيتُ يَا رَب ، وَتَحَمَّلَهَا. فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ حَمَّلْتُكَهَا. فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }.
قال الكلبيُّ : (ظُلْمُهُ حَيْثُ عَصَى رَبَّهُ وَأُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَجَهْلُهُ حَيْثُ تَحْمَّلَهَا). وقال مقاتلُ : (ظَلُوماً لِنَفْسِهِ ، جَهُولاً بعَاقِبَةِ مَا حُمِّلَ). وقال مجاهدُ : (لَمَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ وَالْجِبَالَ ، عُرِضَتِ الأَمَانَةُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقْبَلْهَا فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ : قَدْ تَحَمَّلْتُهَا يَا رَب. قال مجاهدُ : فَمَا كَانَ بَيْنَ أنْ تَحَمَّلَهَا وَبَيْنَ أنْ أُخْرِجَ مِنَ الْجَنَّةِ إلاَّ قَدْرَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالظُّهْرِ).
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : (إنَّ اللهَ قَالَ لآدَمَ : إنِّي عَرَضْتُ الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ يُطِقْنَهَا ، فَهَلْ أنْتَ حَامِلُهَا بمَا فِيهَا ؟ قَالَ : يَا رَب وَمَا فِيهَا ؟ قَالَ : إنْ حَفِظْتَهَا أُجِرْتَ ، وَإنْ ضَيَّعْتَهَا عُوقِبْتَ ، قَالَ : قَدْ تَحَمَّلْتُهَا.
(0/0)
لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } ، أي ليعذبَهم اللهُ بما خَانُوا الأمانةَ وكذبوا الرُّسُلَ ، ونقضِ الميثاق الذي أقَرُّوا به حين أُخرِجُوا من ظهرِ آدم. قال الحسنُ : (هَؤُلاَءِ الَّذِينَ خَانُوهَا ، وَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوهَا).
قَوْلهُ تَعَالَى : { وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ، لأنَّهم أدَّوا الأمانةَ ، وهي الفرائضُ. وقيل : معنى الآية : إنَّا عرَضنا الأمانةَ ليَظهَرَ نِفاقُ المنافقِ ، وشِرْكُ المشركِ فيعذِّبُهم اللهُ ، ويُظهِرَ إيمانَ المؤمنين فيتوبَ اللهُ عليهم بالمغفرةِ والرَّحمة إنْ حصلَ منهم تقصيرٌ في بعضِ الطاعات ، وكذلك ذكرَ بلفظِ التوبة ، فدلَّ على أن المؤمنَ العاصي خارجٌ من العذاب ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } ، للمؤمنين إذا تَابُوا ، { رَّحِيماً } ، بمن ماتَ على التوبةِ.
(0/0)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ الحمدُ : الوصفُ بالجميلِ على جهةِ التَّعظيمِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } المعنى : له ما في السموات والأرض مُلْكاً وخَلْقاً ، { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } ؛ أي يَحمدهُ أهلُ الآخرةِ على دَوَامِ نِعَمِهِ عليهم كما يحمدهُ أهلُ الدُّنيا ، ولكنَّ الحمدَ في الدُّنيا تَعَبُّدٌ ، وفي الآخرة شُكْرٌ على سبيلِ السُّرور ؛ لأنه لا يُكَلَّفُ في الآخرةِ ، يقولُ أهلُ الآخرةِ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذا ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ وَالنِّقَمَ فِي الدَّارَيْنِ كُلِّهَا مِنْهُ. قَوْلُهُ : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ؛ أي الْحَكِيْمُ في أفعالهِ ، الْخَبيْرُ بأحوالِ عبادِه.
(0/0)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } ؛ أي ما يدخلُ في الأرضِ ويَغِيبُ فيها مِن المطرِ والحيواناتِ من الْمَيْتَةِ ، ويعلمُ ما يخرجُ منها من أنواعِ النَّباتِ والزُّروعِ وغيرِ ذلك مما لا يعلمهُ إلاّ هُوَ ، وَيعلمُ { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ } ؛ مِن الأمطار التي هي سببُ أرزاقِ العباد ، وَيعلمُ { وَمَا يَعْرُجُ } ؛ في السَّماء ؛ أي مَن يصعدُ ، { فِيهَا } ؛ مِن الملائكةِ الْحَفَظَةِ لديوانِ العباد ، وما يرتفعُ فيها من الرِّياح والحرِّ والبردِ ، ويعلمُ ما يصعدُ فيها من أعمالِ العباد. يقالُ : عَرَجَ يَعْرُجُ ؛ إذا صَعَدَ ، وعَرَجَ يَعْرِجُ إذا صَارَ أعْرَجاً.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } ؛ أي الرَّحِيْمُ بعبادهِ ، الغَفُورُ لِمَنِ استحقَّ المغفرةَ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ } ؛ أي قالَ الكفَّارُ : لا تَأتِينَا القيامةُ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمَّد : { بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ؛ على ما أخبرَ اللهُ تعالى ، { عَالِمِ الْغَيْبِ }.
قرأ حمزةُ والكسائيُّ (عَالِمِ الْغَيْب) بخفضِ الميمِ على وزن فِعَالِ على المبالغةِ ، كقولهِ : عَلاَّمِ الْغُيُوب ، وقرأ نافعُ وابنُ عامرٍ : (عَالِمُ) برفعِ الميمِ على تقدير : هو عالِمٌ ، وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمر وعاصمُ (عَالِمِ) بالكسرِ نعتٌ لقولهِ (وَرَبي).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } ؛ أي لا يغيبُ عنه ولا يبعدُ عليه معرفةُ وزنِ ذرَّةٍ ، { فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } ؛ وخصَّ الذرَّةَ بالذِّكر لأنَّها أصغرُ شيءٍ يدخلُ في أوهامِ البَشَرِ ، وهذا مَثَلٌ ؛ لأنه سُبْحَانَهُ لا يخفَى عليه ما هو دُونَ الذرةِ ، والمعنى : اللهُ يعلمُ كلَّ شيءٍ دَقَّ أو جَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ؛ الكتابُ الْمُبيْنُ في هذه الآيةِ هو اللَّوحُ الْمَحفوظُ.
(0/0)
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَقَوْلُهُ : { لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ؛ معناهُ : لتَأتِيَنَّكُم الساعةُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عَلَى أعمالِهم بالمغفرةِ والرِّزقِ الكريمِ ؛ أي الثواب الحسَنِ في الجنَّة.
(0/0)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
وَقََوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } ؛ أي سَعَوا فيها بعدَ ظُهورها ووضُوحِها بالتكذيب لَها والجحودِ بها ، مقدِّرينَ أنَّهم سيفُوتُونَنا ، ويُعاجِزُونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم ، { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } ؛ من عذابٍ مُؤلِم ، والرِّجْزُ : أسْوَأُ الْعَذاب.
قرأ ابنُ كثيرٍ (ألِيْمٌ) بالرفعِ على نعتِ العذاب ، وقرأ الباقونَ بالخفضِ على نعتِ الرِّجْزِ.
(0/0)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ عطفٌ على قولهِ (لِيَجْزِيَ) أي ولكَي يعلمَ الَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبكَ وهو القُرْآنُ وآيهِ يهدِي إلى صِراط العزيزِ بالنِّقمةِ لِمَن لا يؤمنُ به ، الْحَمِيْدِ لِمَن وحَّدَهُ ، أي يهدِي إلى دِينِ اللهِ.
وقوله تعالى { الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } يعني مؤمنِي أهلِ الكتاب. وقال قتادةُ : (يَعْنِي أصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وقولهُ { هُوَ الْحَقَّ } إنَّما دَخلت (هُوَ) في هذا الموضعِ للفصلِ عند البصريِّين ، ويُسمَّى ذلك عِمَاداً ، ولا يدخلُ العِمَادُ إلاّ في المعرفةِ ، قال الشاعرُ : لَيْتَ الشَّبَابُ هُوَ الرَّجِيْعُ عَلَى الْفَتَى وَالشِّيْبُ كَانَ هُوَ الْبَدِئُ الأَوَّلُ
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ أي قال الكُفَّارُ على وجهِ التَّعَجُّب والإنكار ؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ : هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يَعْنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يَزْعُمُ أنَّكُمْ تُبْعَثُونَ بَعْدَ أنْ تَكُونُوا عِظَاماً وَرُفَاتاً! وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي يقولُ لكم إذا بَلِيتُمْ وتقطَّعَتْ أجسامُكم وانْدَرَسَتْ آثارُكم تعودونَ. وقوله تعالى { كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي إذا تفرَّقتُم في الأرضِ وتفرَّقَت العظامُ والجلودُ كلَّ تفريقٍ ، { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي نجدِّدُ خلْقَكم بأنْ تُبعَثُوا.
(0/0)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ هذا مِن قولِ الكُفَّار بعضُهم لبعضٍ ؛ قالوا : افْتَرَى مُحَمَّدٌ على اللهِ كَذِباً حين زَعَمَ أنَّا نُبْعَثُ بعدَ الموتِ! { أَم بِهِ جِنَّةٌ } ؛ أي جنونٌ ، يقولون : زَعَمَ كَذِباً أمْ بهِ جنونٌ.
فردَّ اللهُ عليهم مقالَتَهم بقوله : { بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ } ؛ أي ليسَ الأمرُ على ما قالوا من افتراءِ وجنون ، كأنه قالَ : لا هذا ولا ذاكَ ، ولكنَّ الذين لا يؤمنونَ بالبعثِ في الآخرةِ ، والخطأ البعيدِ في الدُّنيا.
(0/0)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ معناهُ : إنَّ سماءَنا محيطةٌ بهم والأرضَ حاملةٌ لَهم ، { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ } ؛ هذهِ ، { الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ } تلكَ ، { كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ } فما يحذرُونَ هذا فيرتَدِعونَ عنِ التكذيب بآياتِنا.
والمعنى : أنَّ الإنسانَ حيث ما نظرَ رأى السماءَ فوقَهُ ، والأرضَ قُدَّامَهَُ وخلفَهُ وعن يَمينهِ وعن شِمالهِ ، فكأنهُ تعالَى قال : إنَّ أرضِي وسَمائِي محيطةٌ بهم ، وأنا القادرُ عليهم ، إنْ شِئْتُ خسفْتُ بهم ، وإنْ شئتُ أُسقِطْ عليهم قطعةً من السماءِ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلَف : (إنْ يَشَأْ) و(يَخْسِفْ) و(يُسْقِطْ) في ثلاثَتها بالياءِ لذكرِ الله تعالى قبلَهُ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى (أفْتَرَى) ألفُ استفهامٍ دخلَتْ على ألفِ الوَصلِ فلذلك سَقطَتْ.
وقَوْلُهُ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } ؛ أي إنِّ فيما ذُكِرَ من مَنيعهِ وقدرتهِ وفيما تَرونَ من السَّماء والأرضِ لعلامةٌ تدلُّ على قُدرةِ اللهِ تعالى على البعثِ ، وعلى مَن يشاءُ من الخسفِ بهم ، لكلِّ عبدٍ أنابَ إلى الله ورجعَ إلى طاعتهِ وتأمَّلَ ما خلقَ. قال الحسنُ : (الْمُنِيْبُ : الرَّاجِعُ إلَى اللهِ تَعَالَى بقَلْبهِ وَقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ، فَإذا نَوَى نَوَى للهِ ، وَإذا قَالَ قَالَ للهِ ، وَإذا عَمِلَ عَمِلَ للهِ).
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } ؛ يعني النبوةَ والكتابَ والْمُلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ } ؛ أي سَبحِي معهُ إذا سَبَّحَ ، فكان داودُ عليه السلام إذا سَبَّحَ سَبَّحَتِ الجبالُ معه حتى يُسمَعَ صوتُ تسبيحِها. وقُرئَ (أُوْبي مَعَهُ) أي عُودِي في التَّسبيحِ معه كلَّما عادَ فيهِ.
وقال القُتَيْبيُّ : (أصْلُهُ مِنَ التَّأْويْب ، وَهُوَ السَّيْرُ باللَّيْلِ كُلِّهِ ، كَأَنَّهُ أرَادَ ادْنِي النَّهَارَ كُلَّهُ بالتَّسْبيْحِ مَعَهُ). وَقِيْلَ : تسيرُ معه كيفَ شاءَ.
وقوله (وَالطَّيْرَ) ، قرأ العامةُ بالنصب ، وله وجوهٌ ؛ أحدُها : بالفعلِ ؛ تقديرهُ : وسخَّرنَا له الطيرَ ، تقول : أطعَمتهُ طَعَاماً ومَاءً أي وسَقيتهُ ماءً. والثانِي : بالنِّداءِ ، يعني بالعطفِ على موضعِ النداء ، لأنَّ موضعَ كلَّ مُنادَى النصبُ. والثالث : بنَزعِ الخافضِ ، كأنه قالَ : أوِّبي مَعَهُ الطَّيرَ ، كما يقالُ : لو تركتَ الناقةَ وفصِيلَها لرَضَعَها ؛ أي مع فصِيلها. وقرأ يعقوبُ (والطَّيْرُ) بالرفعِ عَطفاً على الجبالِ. وَقِيْلَ : على الابتداءِ ، قال الشاعرُ : ألاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَاكُ سِيرَا فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خََمَرَ الطَّرِيْقِيُروى هذا البيتُ بنصب (الضَّحَّاكَ) ورفعهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } ؛ أي جعلنَا له الحديدَ لَيِّناً يضربهُ كيفَ شاءَ من غيرِ نارٍ ولا مِطرَقَةٍ ، وكان عندَهُ مثلُ الشَّمعِ والطينِ المسلول والعَجِينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ } ؛ أي قُلنا له اعْمَلْ دُرُوعاً واسعاتٍ تامَّاتٍ يجرُّها لابسُها على الأرضِ ، فكان داودُ عليه السلام أوَّلُ مَن عَمِلَ الدُّروعَ ، والسَّابغُ : هو الذي يغطِّي كلَّ ما على الرجُلِ حتى يفضُلَ ، فكان داودُ يبيعُ كلَّ درعٍ بأربعَةِ آلاَفٍ ، فيأكلُ ويُطعِمُ عيَالَهُ ويتصدَّقُ على الفُقَرَاءِ والمساكينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } ؛ أي اجْعَلْ حِلَقَ الدِّرعِ متتابعةً مُتناسقةً بعضُها إلى بعضٍ على مقدارٍ مَعلُومٍ لا يتفاوتُ على وجهٍ ، ولا تنفذُ فيه السِّهامُ ولا السِّنانُ. يقال : سَرَدَ الكلامَ يسرِدُهُ إذا ذكَرَهُ بالتأليفٍ على وجه تحصلُ به الفائدةُ ، ومِن هذا يقالُ لصانعِ الدُّروعِ : سَرَّادٌ وَزَرَّادٌ. والسُّرُودُ والزُّرُدُ للوَصْلِ.
وقال بعضُهم : السَّرْدُ سَمْرُكَ طَرَفَي الْحَلَقِ ؛ أي لا تَجعَلِ المساميرَ دِقَاقاً فتنغلقَ ، ولا غِلاَظاً فتكسرَ الحلَقُ ، واجعَلْ ذلك على قَدْر الحاجةِ. والقولُ الأولُ أقربُ إلى الآيةِ ، لأن الدروعَ التي عمِلَها داودُ كانت بغيرِ المساميرِ ؛ لأنه كانت معجزةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } ؛ أي قالَ اللهُ لآلِ داودَ : اعْمَلُوا صَالِحاً فيما بينَكم وبينَ ربكُم ، { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ؛ من شُكرٍ وطاعةٍ.
(0/0)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } ؛ أي وسَخَّرنَا لسليمانَ الرِّيحَ كانت تحملُ سَريرَهُ فتذهبُ في الغُدُوِّ مسيرةَ شَهرٍ ، وترجعُ في الرَّواحِ مسيرةَ شَهرٍ.
قال الفرَّاءُ : (نُصِبَ (الرِّيحَ) عَلَى الْمَفْعُولِ ؛ أيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيْحَ). وقرأ عاصمُ (الرِّيْحُ) بالرفعِ على معنى : ولَهُ تسخيرُ الرِّيحُ ، والمعنى أنَّ الريحَ كانت تسيرُ في اليومِ مسيرةَ شَهرَينِ للرَّاكب الْمُسرعِ.
قَولُهُ تَعَالَى : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } ؛ أي أذبْنَا له عَينَ النُّحاسِ ، فسَالَتْ له ثلاثةَ أيَّامٍ كما يسيلُ الماءُ ، وإنَّما انتفعَ الناسُ بما أخرجَ الله لسُليمانَ ، وكان قبلَ سُليمان لا يذوبُ. والقِطْرُ هو الرَّصَاصُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ أي وسخَّرنا له من الجنِّ { مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } مِنَ القُصُور والبُنيانِ ، { بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } ؛ أي مَن يَمِلْ من الشَّياطينِ عن أمرِنا الذي أمَرْناهُ من الطاعةِ لسُليمانَ ، { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ } ؛ أي مِن عذاب النَّار الموقَدَةِ. وَقِيْلَ : إنَّ اللهَ تعالى وَكَّلَ مَلَكاً بيدهِ سوطٌ من نارٍ ، فمَن زَاغَ منهم مِن طاعةِ سُليمانَ ضَرَبَهُ ضربةً أحرقَتْهُ.
(0/0)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } ؛ أي يعملونَ لسُليمانَ ما يشاءُ { مِن مَّحَارِيبَ } أي مَسَاجِدَ ، كان هو والمؤمنونَ يُصَلُّونَ فيها. ويقالُ : أراد بالْمَحَاريب الغُرَفَ والمواضعَ الشريفةَ ، يقالُ لأشرفِ موضعٍ في الدار مِحْرَابٌ ، والْمِحْرَابُ مُقَدَّمُ كلِّ مسجدٍ ومجلس وبيتٍ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَمَاثِيلَ } أي تَماثيلَ كلِّ شيءٍ ، يعني صُوَراً من نُحاسٍ وزُجاجٍ ورُخامٍ ، كانت الجنُّ تعمَلُها ، وكانوا يصوِّرُون له الأنبياءَ والملائكةَ في المسجدِ ليَرَاهَا الناسُ فيزدادوا عبادةً ، وهذا يدلُّ على أن التصويرَ كان مُباحاً في ذلكَ الزمانِ ، ثُم صارَ حَرَاماً في شَريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كما رُوي في الحديثِ : " إنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتاً فِيْهِ صُورَةٌ " ورُويَ : " لَعَنَ اللهُ الْمُصَوِّرِيْنَ بمَا صَوَّرُواْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ } ؛ الْجِفَانُ جمع جُفْنَةٍ وهي القَصْعَةُ الكبيرةُ من الصُّفُرِ. وقَوْلُهُ { كَالْجَوَابِ } أي كالحِيَاضِ العِظَامِ ، فهي كحِيَاضِ الإبلِِ ، والْجَوَابُ جمعُ الْجَابيَةِ ، وسُمِّيَ الحوضُ جَابيَةً ؛ لأنه يَجْبي الماءَ ؛ أي يَجمعهُ ، والجِبَايَةُ جمعُ الماءِ. يقالُ : إنه كان يجتمعُ على جَفْنَةٍ واحدةٍ ألفُ رجُلٍ يأكلون بين يديهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } ؛ أي ثابتاتٌ عِظَامٍ من الْحَجَرِ كالجبالِ لا تُرْفَعُ مِن أماكِنها ، ولكن يوقدُ تحتَها حتى ينطَبخَ ما فيها من الأطعمةِ فيأكلُ منها الألُوفُ ، وكانت هذه الأعمالُ التي يعملونَها معجزةً لسُليمانَ عليه السلام.
وقَولُهُ تَعَالَى : { اعْمَلُواْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } ؛ أي قُلنا لَهم : اعمَلُوا بطاعةِ اللهِ شُكْراً لَهُ على هذه النِّعَمِ التي مَنَّ بها عليكُم. وَقِيْلَ : انتصبَ قوله (شُكْراً) على المصدريَّة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ؛ أي قليلٌ مِن عبادِي مَن يَشْكُرُ لِي ؛ لأن الشَّاكِرِينَ وَإنْ كَثُرُوا فقَليلٌ في جَنْب مَن لَم يشكُرْ.
(0/0)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } ؛ وذلك أنَّ سُليمانَ عليه السلام كان يعتادُ طُولَ القيامِ في الصَّلاة ، وكان إذا أعْيَا اتَّكَأَ على عَصاهُ ، فاتَّكَأَ ذاتَ يومٍ على عصاهُ ، فقَبَضَ اللهُ رُوحَهُ ، فبَقِيَ على تلكَ الحالةِ سَنَةً ، والعَمَلَةُ في أعمَالِهم يعملونَ كما هم ولَم يَجتَرِئ أحدٌ أن يَدْنُو منه هيبةً لَهُ.
وقوله { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } دابَّةُ الأرضِ هي الأَرْضَةُ التي تأكلُ الخشبَ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى { مِنسَأَتَهُ } أي عصاهُ التي كان يَتَّكِئُ علَيها.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } ؛ أي فلمَّا سَقَطَ سليمانُ لتَآكُلِ الْمِنْسَأَةِ ، تَبَيَّنَ الجِنُّ للإنسِ ؛ أي ظَهَرُوا أنَّهم لا يعلمونَ الغيبَ ، فلو عَلِمُوا ما عَمِلُوا له سَنةً وهو ميِّتٌ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لَبِثُواْ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } أي في العذاب مِن أعمالِهم الشاقَّة التي كانوا يعملونَها في بناءِ بيتِ المقدس وغيرهِ ، فلمَّا عَلِمُوا بموتهِ لسُقوطِ العصَا ترَكُوا الأعمالَ.
ثُم أن الشياطينَ قالوا للأَرْضَةِ : لو كُنْتِ تأكلينَ الطَّعامَ لآتيناكِ بأطيَب الطعامِ ، ولو كُنْتِ تشرَبينَ الشرابَ لآتيناكِ بأطيب الشراب ، ولَكِنَّا سننقلُ إليكِ الطينَ والماءَ ، فهُمْ ينقلونَ إليها ذلك حيث كانَتْ ، فما رأيتموهُ من الطِّينِ في جَوفِ الخشب فهو مما ينقلهُ الشياطينُ إليها شُكراً لَها!
وسُميتِ العصا مِنْسَأَةً لأنه يَنْسَأُ بها الغنمُ وغيرهُ ؛ أي يؤَخِّرُ ويطردُ ، يقال : أنْسَأَ اللهُ في أجَلهِ ؛ أي أخَّرَ اللهُ في أجَلهِ. وأكثرُ القرَّاء يقرأون (مِنْسَأَتَهُ) بالهمزةِ ، وقرأ أبو عمرٍو ونافع بتركِ الهمزةِ ، وهما لُغتَانِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ } أي ظَهَرَ أمرُهم. وَقِيْلَ : في موضع النصب تقديرهُ : عَلِمَتْ وأيْقَنَتِ الجنُّ { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ } ، وكان الإنسُ قَبْلَ هذا يظنُّونَ أن الشَّياطينَ يعلمونَ السِّرَّ يكون بين اثنَينِ ، فظَهَرَ لَهم يومئذٍ أنَّهم لا يعلمونَ ذلكَ.
قال أهلُ التَّّاريخِ : كان عُمْرُ سليمانَ ثلاثاً وخمسينَ سَنةً ، ومدَّة مُلكهِ أربعون سَنةً ، ومَلَكَ يومَ مَلَكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشرةَ سَنةً ، وابتدأ في بناءِ بيت المقدسِ لأربعِ سِنين مَضَينَ من مُلكهِ ، وكان عُمْرُ داودَ مائة وأربعون سنة.
(0/0)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ؛ قال فروةُ بن مُسَيكٍ : " أتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ سَبَأ مَا هُوَ ؟ فَقَالَ : " رَجُلٌ مِنَ الْعَرَب أوْلَدَ عَشْرَةَ أوْلاَدٍ ، تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ، وَتَشَامَّ مِنْهُمْ أرْبَعَةٌ. فَأَمَّا الَّذِيْنَ تَيَامَنُواْ فَالأَزْدُ وَكِنْدَةُ وَحِمْيَرُ وَمُذْحَجُ وَالأَشْعَرِيُّونَ وَإنْمَارُ وَمِنْهُمْ بَجِيْلَةُ. وَأمَّا الَّذِيْنَ شَامُوا فعَامِلَةُ وَغَسَّانُ وَلَخْمٌ وَجُذامُ " والمرادُ بسَبَأ القبيلةُ الذين هُم مِن أولادِ سَبَأ بنِ يَشْجُبَ بنِ يَعْرُبَ بن قَحطَانَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي مَسْكَنِهِمْ } أنه كانت مساكِنُهم بمَأْرَبَ مِن اليَمَنِ (آيَةً) أي علامةً يدلُّ على قُدرةِ اللهِ وأنَّ الْمُنْعِمَ عليهم هو اللهُ تعالى. ثُم فسَّر تلكَ الآيةِ فقالَ : { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } ؛ أي عَن يَمين وَادِيهم وشِمالهِ قد أحاطَتَا بذلك الوادِي الذي بين مسَاكِنهم.
والمعنى لقد كان لأهلِ سَبَأَ في مواضِعِهم علامةٌ ، وهي جَنَّتَانِ ؛ أي بُستَانَانِ ؛ إحدَاهُما عن يَمينِ الطريقِ ، وأُخرَى عن يسار الطَّريقِ ، ويقالُ : كان بُستَانَين عن يَمين الطريقِ وبُستانَين عن شِمال الطريقِ ، إلاّ أنَّ البَساتينَ كلَّ واحدٍ مِن الجانبين سُمي جَنَّةً لاتِّصالِ بعضِها ببعضٍ ، وكانوا في النِّعمةِ بحيثُ كانتِ المرأةُ تَمشِي في تلك الطريقِ بين البساتينِ وعلى رأسِها الزَّنبيلُ فيمتلئُ من ألوانِ الفاكهةِ مِن غيرِ أن تَمَسَّ شيئاً بيدِها.
قرأ حمزةُ والنخعيُّ وحفص (فِي مَسْكَنِهِمْ) بفتحِ الكاف على الواحدِ ، وقرأ الأعمشُ والكسائي وخلَف : (مَسْكِنَهُمْ) بكسر الكاف على الواحد أيضاً ، وقرأ الباقون : (مَسَاكِنِهِمْ) على الجمعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ } ؛ أي قيلَ لَهم : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ ربَكُمْ) يعني هذه النِّعَمَ ، { وَاشْكُرُواْ لَهُ } ؛ أي للهِ على نعمةِ هذه ، وهذا حدُّ الكلامِ ، اثُم ابتدأ فقال : { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } ؛ أي هذه بلدةٌ طيبة أو لكُم بلدةٌ طيبة ، يعني ليست بسَبْخَةٍ ، ولَم يكن يُرَى بعوضةٌ قَطُّ ، ولا ذُبابٌ ولا بَرغُوثٌ ولا حيَّةٌ ولا عقربٌ ، وأنَّ الرجلَ الغريبَ ليأتِيَها وفي ثوبهِ القملُ والدوابُّ ، فحين يرَى بُيوتَهم تَموتُ الدوابُ والقملُ. والمعنى : بلدةٌ طيِّبةُ الهواءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبٌّ غَفُورٌ } ؛ أي غفورُ الخطَايَا ، كثيرُ العطايَا.
(0/0)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } ؛ أي فأعرَضُوا عن الحقِّ وكفَرُوا وكذبُوا أنبيائَهم ، ولَم يشكرُوا نِعَمَ اللهِ ، وقالوا : لا نعرفُ لله تعالى نِعْمَةً علينا! وقالوا لأنبياءهم : قولُوا لربكم الذي يَزعمُونَ أنه مُنْعِمٌ فليحبسْ عنَّا نِعَمَهُ إنِ استطاعَ!
قال وهبُ : (بَعَثَ اللهُ تَعَالَى إلَى سَبَأ ثَلاَثَةَ عَشَرَ نَبيّاً ، فَدَعَوْهُمْ إلَى اللهِ وَذكَّرُوهُمْ نِعَمَهُ ، وَخَوَّفُوهُمْ عِقَابَهُ ، فَكَذبُوهُمْ وَقََالُواْ : مَا نَعْرِفُ للهِ عَلَيْنَا نِعْمَةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ } ، قال ابنُ الأعرَابيِّ : (الْعَرِمُ : السَّيْلُ الَّذِي لاَ يُطَاقُ) ، وقال مقاتلُ : (الْعَرِمُ وَادِي سَبَأ). وَقِيْلَ : العَرِمُ : المطرُ الشديدُ الذي يأتِي منه سَيْلٌ لا يطاقُ دَفْعُهُ ، وعَرْمَةُ الماءِ ذهَابُهُ في كلِّ مذهبٍ.
وَقِيْلَ : العَرِمُ هو الفَأرُ الذي نَقَبَ السدَّ عليهم ، وصِفَةُ ذلكَ : أن الماءَ كان يأتِي أرضَ سَبَأ مِنَ الشَّجرِ وأوديةِ اليَمَنِ ، فَرَدَمُوا رَدْماً بين جَبلَين وحبَسُوا الماءَ في ذلك الرَّدْمِ ، وجعَلُوا لذلكَ الرَّدمِ ثلاثةَ أبوابٍ بعضُها فوق بعضٍ ، وكانوا يَسْقُونَ مِن الباب الأعلى ، ثُم مِن الباب الثانِي ، ثم مِن الباب الأسفَلِ ، فلا ينفذُ الماءُ حتى يأتِي ماءُ السَّنة الثانيةِ ، فأخصَبُوا وكَثُرَتْ أموالُهم. فلمَّا كذبُوا الرُّسُلَ بعثَ اللهُ عليهم جِرْذاً نقبَ ذلك الرَّدْمَ ، فاندفعَ الماءُ عليهم وعلى جنَّتَيهِم ، فدَفَنَ السَّيلُ بُيوتَهم وأغرقَ جنَّتَيهِم وخرَّبَ أراضَيهِم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ } ؛ أي بدَّلنَاهم بالجنَّتَين اللَّتين أهلكنَاهما جنَّتين ، { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } ؛ الأُكُلُ : اسمٌ لِمَا يؤكَلُ. والْخَمْطُ : شَجَرُ الأرَاكِ ، ويقالُ : الْخَمْطُ كلُّ نَبْتٍ قد أخذ طَعْماً مِن مرارةٍ حتى لا يُمكنُ أكلهُ. وَقِيْلَ : هو شجرٌ ذاتُ شَوكٍ.
قرأ أبو عمرٍو ويعقوبُ (أُكُلِ خَمْطٍ) بالإضافةِ ، وقرأ الباقون (أُكُلٍ) بالتَّنوينِ ، وهما مُتقاربان في المعنى.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَثْلٍ } ؛ الأثْلُ : ما عَظُمَ من شَجَرِ الطَّرْفَاءِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } ؛ والسِّدْرُ إذا كان بَرِّيّاً لا يُنتفَعُ به ولا يصلحُ ورَقُهُ للغُسُولِ ، كما يكونُ ورَقُ السِّدر الذي نَبَتَ على الماءِ. ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } يعني أن الْخَمْطَ وَالأثْلَ كان أكثرَ في الجنَّتين المبدَّلَتين من السِّدر. قال قتادةُ : (كَانَ شَجَرُ الْقَوْمِ مِنْ خَيْرِ الشَّجَرِ ، فَبَدَّلَهُ اللهُ مِنْ شَرِّ الشَّجَرِ بأعْمَالِهِمْ) ، والسِّدْرُ هو شجرُ النَّبْقِ.
(0/0)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَالِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ } ؛ أي جَزَينَاهُمْ ذلك التَّبديلِ والتَّخريب بكُفْرِهم بنِعَمِ اللهِ تعالَى ، { وَهَلْ نُجَازِي } ؛ بمثل هذه العقوبةِ وتعجيلِ سَلْب النِّعمةِ ، { إِلاَّ الْكَفُورَ } ؛ أي الكافِرَ المعَانِدَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ المؤمنَ نُكَفِّرُ عنه ذُنوبَهُ بطاعاتهِ ، والكافرُ يُجازَى على كلِّ سوءٍ يعملهُ. وقال الفرَّاءُ : (الْمُؤْمِنُ يُجْزَى وَلاَ يُجَازَى) أيْ يُجْزَى الثَّوَابَ بعَمَلِهِ ، وَلاَ يُكَافَؤُ بسَيِّئَاتِهِ.
قرأ أهلُ الكوفةِ : (نُجَازي) بالنُّونِ وكسرِ الزَّاي. ونُصِبَ (الكَفُورَ) لقولهِ (جَزَيْنَاهُمْ) ولَم يقل جُوزُوا ، وقرأ الآخرونَ (يُجَازيُ) بياءٍ مضمومة ورفعِ (الْكَفُورُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ } مَن قرأ بالنصب فهو اسمُ قبيلةٍ ، فلِهَذا لَم ينصرِفْ ، ومَن نَوَّنَهُ وخفضَهُ فهو اسمٌ لرَجُلٍ.
(0/0)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } أي جعَلنا بين أهلِ سَبَأ وبين قُرَى الأرضِ التي بارَكْنا فيها وهي الأرضُ المقدَّسة بارَكنا فيها بالماءِ والشَّجرِ ، يعني قُرَى الشَّامِ ومصر ، وقوله { قُرًى ظَاهِرَةً } أي قرى متقاربةً متَّصِلةً ، إذا خرجَ الرجلُ من واحدةٍ من القُرَى ظهرَتْ له الأُخرى ، فكانوا لا يحتاجُونَ في سَيْرِهم إلى الشَّامِ إلى زادٍ ، وكانت المرأةُ تخرجُ ومعَها مِغْزَلُهَا ، وعلى رأسِها مِكْتَلُهَا ، ثُم تَغْزِلُ ساعةً فلا ترجعُ بيتَها حتى يَمتَلِئ مكْتَلُها من الثِّمار ، وكان ما بين الشَّام وأرضِ سبأ على تلكَ الصفةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } ؛ أي جعلنا القُرَى مُوَاصَلةً بقدر السَّير المتَّصلِ على قدر الْمَقِيْلِ والمبيتِ مِن قريةٍ إلى قرية ، أنعَمْنا عليهم في مَسِيرِهم كما أنعَمْنا عليهم في مسَاكنِهم ، فقُلنَا لَهم : { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } ؛ إنْ شِئْتُم باللَّيالِي وإنْ شِئتُمْ بالأيَّامِ ، { آمِنِينَ } ؛ مِن الظُّلمِ والجوعِ والعطشِ وعن جميع ما يُخَافُ في الطريقِ.
ومعنَى الآيةِ : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } من القريةِ إلى القريةِ مِقْدَاراً واحداً ، نِصْفَ يَوْمٍ ، وقُلنا لَهم : { سِيرُواْ فِيهَا } في تِلكَ القُرَى ، { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } ؛ لِيْلاً شِئتُمْ السيرَ أو نَهاراً { آمِنِينَ } من الجوعِ والعطَشِ والسِّباعِ والتَّعب ومِن كلِّ خوفٍ.
ثم إنَّهم بطَرُوا النعمةَ ، وسألُوا أن تكونَ القُرَى والمنازلَ بعضُها أبعدَ من بعضٍ ، { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ؛ أي اجعَلْ بيننا وبين الشَّامِ فَلَوَاتٍ وَمَفَاوزَ لنَركَبَ عليها الرَّواحِلَ ونَتَزَوَّدَ الأَزْوَادَ ، ذلك أنَّهم قالوا لو كانَتْ ثِمارُنا أبعدَ مما هي لكان أجدرَ أن نشتَهِيَها ، فاجعَلْ بين منازلنا وبين مقصَدِنا الْمَفَاوزَ. ويقالُ : كانت هذه المسألةُ من تُجَّارُهم ليربَحُوا في أمولِهم.
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو (بَعِّدْ) على وجهِ الدُّعاء. وقرأ ابنُ الحنفيَّة ويعقوب (رَبُّنَا) برفعِ الباء (بَاعَدَ) بألفٍ وفتح العينِ والدلالةِ على الخبر ، استبعَدُوا أسفارَهم بَطَراً منهم وأشَراً. وقرأ الباقونَ (رَبَّنَا) بفتح الباء و(بَاعِدْ) بالألفِ وكسرِ العين وجزمِ الدَّالِ على الدُّعاء. وقد قُرئَ (بَعُدَ) بضمِّ العين و(بَيْنُ) بالرفع ؛ أي بَعُدَ مَا يتَّصِلُ بسفَرِنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ؛ يعني بتَرْكِ الشُّكرِ والطاعةِ ، وَقِيْلَ : بالكُفرِ ، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } ؛ لِمَن بعدَهم يتحدَّثون بأمرِهم وشأنِهم ، ولَم يبقَ منهم ولا مِن ديارهم أثرٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } ؛ أي فرَّقنَاهم في البلادِ المختلفة كلَّ تفريقٍ ، وذلك أنَّهم شُرِّدُوا في البلادِ ، وصَارُوا بحيث يتمثلُ بهم العربُ يقولون : تفرَّقَ القومُ أيدِي سَبََأَ وأيَادِي سَبَأ.
قال الشعبيُّ : (أمَّا غَسَّانُ فَلَحِقُواْ بالشَّامِ ، وَأمَّا الأَنْصَارُ فَلَحِقُواْ بيَثْرِبَ ، وَأمَّا خُزَاعَةُ فَلَحِقُواْ بتُهَامَةَ ، وَأمَّا الأَزْدُ فَلَحِقُواْ بعُمَانَ) وَكَانَتْ غَسَّانُ مُلُوكَ الشَّامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ } ؛ أي فيما فُعِلَ بسَبأ { لآيَاتٍ } ؛ لَعِبَرٍ ودلالاتٍ { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } ، عنِ معاصيِ اللهِ ، { شَكُورٍ } ؛ لأَنْعُمِهِ.
(0/0)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ قرأ أهلُ الكوفةِ (صَدَّقَ) بالتشديدِ ؛ أي ظنَّ فيهم ظَنّاً حيثُ قال : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص : 82]{ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }[الأعراف : 17] فصدَّقَ ظنَّهُ وحقَّقهُ بفعلهِ ذلك واتِّباعِهم إيَّاه. وقرأ الآخَرونَ (صَدَقَ) بالتخفيفِ ؛ أي صَدَقَ عليهم في ظَنِّهِ بهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى { عَلَيْهِمْ } أي على أهلِ سَبأ ، وقال مجاهدُ : عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلاَّ مَنْ أطَاعَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ { فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } وهمُ الَّذين قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهِم{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[الاسراء : 65].
وَقِيْلَ : إن إبليسَ لَمَّا وَسْوَسَ إلى آدمَ وعمِلتْ فيه وَسْوَسَتُهُ ، طَمِعَ في ذرِّيته ؛ فقال : إنَّهُ مع فضلهِ وعقْلهِ ، وعَمِلَتْ فيه وسْوَسَتِي ؛ فكيفَ لا تعملُ في ذرِّيتهِ ؟ فأخبرَ اللهُ في هذه الآيةِ : أنَّ القومَ اتبعُوهُ فصدَّقُوا ظَنَّهُ ، إلاَّ طائفةً مِن المؤمنينَ لَم يتَّبعوهُ في شيءٍ.
وَقِيْلَ : إنَّ ابليسَ لَمَّا سألَ النَّظِرَةَ فأَنْظَرَهُ اللهُ تعالى قال : لأَضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأُمَوِّهَنَّهُمْ ، ولَم يكن في وقتِ هذه المقالةِ مُستَيقِناً ، وإنَّما قالَ ظَنّاً منهُ ، فلما اتَّبَعُوهُ وأطاعوهُ صَدَقَ عليهم ما ظَنَّهُ فيهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } ؛ أي ما كانَ لأبليسَ عليهم من حُجَّةٍ ولا نَفَاذِ أمْرٍ إلاّ بالتَّزيين والوَسْوَسَةِ. وقَوْلُهُ : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } ؛ أي ما كان تُسْلِيْطُنَا إياه عليهم إلاّ لنعلمَ المؤمنينَ مِن الشاكرين.
والمعنى : ما سَلَّطْنَاهُ عليهم إلاّ لنعلمَ إيْمانَ المؤمنِ ظَاهراً وكُفْرَ الكافرِ ظَاهِراً ، وقد يذكرُ العلمُ ويراد به الإظهارُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } ؛ أي عالِمٌ بكلِّ شيء مِن الإيْمَانِ وشَكٍّ وغيرِ ذلك.
(0/0)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي قُل لكُفَّار مكَّة : أدعُوا الَّذينَ زَعمتُم أنَّهم آلهةٌ مِن دون اللهِ ، قال مقاتلُ : (أيِ ادْعُوهُمْ لِيَكْشِفُواْ عَنْكُمُ الضَّرَرَ الَّذِي نَزَلَ بكُمْ فِي سِنِيْنِ الْجُوعِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : ادْعُوا الذين زَعمتُم أنَّهم آلهةٌ لكم لكي يرزُقوكم ويدفَعُوا عنكم الشدائدَ ، ثُم إنَّهم لا يَملكون مِثْقَالَ ذرَّةٍ ؛ أي لَم يخلِقُوا زنَةَ ذرَّة في السَّموات ولا في الأرضِ ، فمِن أينَ يستَحقُّون العبادةَ؟!
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } ؛ أي ما لَهم في السَّموات والأرضِ مِنْ شِرْكٍ في خَلْقِهما ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } ؛ أي وما اللهُ تعالى منهم من مُعِينٍ فيما خَلَقَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } ؛ أي ولا تنفعُ شفاعةُ مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نَبيٍّ ولا أحدٍ حتى يأْذنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ. وهذا تكذيبٌ مِن الله لَهم حيثُ قالُوا : هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ.
قرأ أبو عَمرٍو وحمزةُ والكسائي وخلف (أُذِنَ) بضمِّ الألفِ ، وقرأ غيرُهم بالفتحِ ، فمَن فَتَحَ كان المعنى لِمَن أذِنَ اللهُ له في الشَّفاعةِ ، وكذلك مَن قرأ بالضمِّ لأنَّ الآذِنَ هو اللهُ تعالى في القِراءَتين جميعاً.
(0/0)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } ؛ قرأ ابنُ عامرٍ ويعقوب : (فَزَّعَ) بفتح الفاء والزاي ، وقرأ غيرُهما بضمِّ الفاءِ وكسرِ الزاي. والمعنى : حتى إذا كُشِفَ الفزعُ والجزَعُ عن قلوبهم. ومَن قرأ بالفتحِ فالمعنى : حتَّى إذا كَشَفَ اللهُ الفزعَ عن قلوبهم.
واختلَفُوا في هذه الكتابةِ والموصُوفِين بهذه الصِّفةِ ، مَن هم ؟ ومَن النَّصَب الذي مِن أجلهِ فَزَّعَ عن قلوبهم ؟ فقال قومٌ : همُ الملائكةُ. واختلَفُوا في سبب ذلك ، فقال بعضُهم : إنَّما فَزَّعَ عن قلوبهم مِن غَشْيَةٍ تصيبُهم عند سَماعِ كلامِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
قال عبدُالله بنُ مسعودٍ : (إذا تَكَلَّمَ اللهُ تَعَالَى بالْوَحْيِ ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً مِثْلَ صَلْصَلَةِ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفْوَانِ ، فِيُصْعَقُونَ لِذلِكَ وَيَخُرُّونَ سُجَّداً ، فَإذا عَلِمُوا أنَّهُ وَحْيٌ فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ فَتُرَدُّ إلَيهِمْ ، فَيُنَادِي أهْلُ السَّمَواتِ بَعْضُهُمْ بَعْضاً : (ماذا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ).
وعن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " إنَّ اللهَ تَعَالَى إذا تَكَلَّمَ بالْوَحْيِ ، سَمِعَ أهْلُ السَّمَاءِ صَلْصَلَةً كَجَرِّ السِّلْسِلَةِ عَلَى الصَّفَا ، فيُصْعَقُونَ فَلاَ يَزَالُونَ كَذلِكَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ جِبْرِيْلُ ، فَيَقُولُونَ لَهُ : مَاذا قَالَ رَبُّكَ ؟ قَالَ : يَقُولُ الْحَقَّ ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إذا قَضَى اللهُ الأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ، ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ بأَجْنِحَتِهَا خُضُوعاً لِقَوْلِهِ ، كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإذا فَزَّعَ عَنْ قُلُوبهِمْ ، قَالُواْ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُواْ : الْحَقَّ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا تَكَلَّمَ اللهُ بالْوَحْيِ ، أخَذتِ السَّمَوَاتُ مِنْهُ رَجْفَةً أوْ رَعْدَةً شَدِيْدَةً خَوْفاً مِنَ اللهِ تَعَالَى ، فَإذا سَمِعَ ذلِكَ أهْلُ السَّمََوَاتِ صُعِقُواْ وَخَرُّواْ سُجَّداً ، فَيَكُونُ أوَّلُ مَنْ رَفَعَ رَأسَهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام ، فَيُكَلِّمُهُ اللهُ مِنْ وَحْيهِ بمَا أرَادَ ، ثُمَّ يَمُرُّ جِبْرِيْلُ بالْمَلاَئِكَةِ ، فَكُلَّمَا مَرَّ بسَمَاءٍ سَأَلَهُ مَلاَئِكَتُهَا : مَاذا قَالَ رَبُّنَا يَا جِبْرِيْلُ ؟ فَيَقُولُ جِبْرِيْلُ : قَالَ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبيْرُ ، فَيَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَ جِبْرِيْلُ ، فَيَنْتَهِي جِبْرِيْلُ بالْوَحْيِ حَيْثُ أمَرَ اللهُ ".
وقال مقاتلُ والكلبيُّ : (لَمَّا كَانَتِ الْفَتْرَةُ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ عَاماً ، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كَلَّمَ اللهُ تَعَالَى جِبْرِيْلَ بالرِّسَالَةِ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فَسَمِعَتِ الْمَلاَئِكَةُ الصَّوْتَ بالْوَحْيِ ، فَظَنُّواْ أنَّهَا الْقِيَامَةُ قَامَتْ ، فَصُعِقُواْ مِمَّا سَمِعُواْ ، فَلَمَّا انْحَدَرَ جِبْرِيْلُ بالرِّسَالَةِ ، جَعَلَ أهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ يَسْأَلُونَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعَرُّفِ بَعْدَ مَا انْكَشَفَ الْفَزَعُ عَنْ قُلُوبهِمْ ، قَالُواْ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ جِبْرِيْلُ وَمَنْ مَعَهُ : قَالَ الْحَقَّ).
وَقِيْلَ : لَمَّا سَمعَتِ الملائكةُ الوحيَ صُعِقُوا فَخَرُّوا سُجَّداً ظَانِّينَ أنَّها القيامةُ ، فلما نَزَلَ جبريلُ بالوحيِ انكشَفَ فزَعُهم فرَفَعُوا رُؤوسَهم ، وقال بعضُهم لبعضٍ : (مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُواْ الْحَقَّ) يعنِي الوحيَ { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي الغالبُ القاهر السيِّدُ المطاعُ الكبيرُ العظيم ، فلا شيءَ أعظمَ منهُ.
وقرأ الحسنُ (حَتَّى إذا فَزِعَ عَنْ قُلُوبهِمْ) بالعَينِ المعجمةِ والزَّاي بمعنى فَزِعَتْ قلوبُهم من الفزَعِ ، وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قولَهُ { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } راجعٌ إلى المشرِكينَ ، فإنَّهم إذا شاهَدُوا أهوالَ يومِ القيامةِ غَشِيَ عليهم ، فيُزِيلُ اللهُ ذلك عن قلوبهم ، ثُم تقولُ لَهم الملائكةُ : مَاذا قَالَ رَبُّكُمْ في الدُّنيا والآخرةِ ؟ فيقولونَ : الْحَقَّ ، فأَقَرُّوا حين لا ينفعُهم الإقرارُ.
(0/0)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّد لكُفَّار مكَّة : مَن يرزُقكم من السَّمواتِ المطرَ ، ومِن الأرضِ النباتَ والثمرَ ؟ وإنَّما أمرَ بهذا السُّؤالِ احتِجَاجاً عليهم ؛ لأنَّ الذي يرزقُ هو المستحقُّ للعبادةِ لا غيره ، وذلك أنه إذا استفهَمَهم عن الرِّزقِ لَم يُمكِنُهم أن يُبَيِّنُوا رَازقاً غيرَ اللهِ ، فيتحيَّرُوا في الجواب فيُؤمَرُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالجواب ، فيقولُ لَهم : إنَّ الذي يرزقُكم هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وتَمَّ الكلامُ.
ثُم أمَرَ بأنْ يُخبرَهم أنَّهم على الضَّلالِ بعبادةِ غيرِ الله تعالى بقولهِ تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ وهذا على وجهِ الإنصَافِ في الحجَّة لاستمالةِ قُلوبهم ، كما يقولُ القائلُ من المسَارعِين : أحَدُنا كاذبٌ ؛ وهو يعلمُ أنَّهُ صادقٌ وصاحبهُ كاذبٌ.
والمعنى : مَا نحنُ وأنتم إلاَّ على أمرٍ واحدٍ ؛ أحدُ الفرِيقَين مهتَدٍ والآخرُ ضَالٌّ ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم ومَنِ اتَّبَعَهُ على الْهُدَى ، ومَن خالفَهُ في ضَلالٍ مُبينٍ.
(0/0)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي قُل يا مُحَمَّدُ للكفَّار لا تُؤاخَذُونَ بجُرمِنا ، ولا نؤاخَذُ بجُرمِكُم ، فانظُرُوا لأنفُسِكم واعلَمُوا أنَّ حِرصَنا على إيْمانِكم لا ينفعُكم ، وهذا على وجهِ التَّبَرُّؤ منهُم ومِن كُفرِهم.
(0/0)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } ؛ يعني بَعْدَ الْبَعْثِ في الآخرةِ فِي الْمَحشَرِ ، { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ } ؛ أي ثُم يقضِي بينَنا ويحكُمَ بيننا بالعدلِ ، { وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } ؛ أي وهو القاضِي العليم بما يقضِي.
(0/0)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرُونِيَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ } ؛ أي قُل لَهم أرُونِي الَّذينَ ألْحَقْتُمُوهُمْ بالله تعالَى وجعلتمُوهم شركاءَ اللهِ في العبادةِ ؛ هل لَهم قدرةٌ على الْخَلْقِ والأمرِ ، وهل يرزُقون ويخلُقون ؟ وقَوْلُهُ تَعَالَى { كَلاَّ } كلمة رَدْعٍ وزَجْرٍ ؛ أي ارتَدِعُوا عن مقالَتِكم وانْزَجِرُوا ؛ فإنَّكم لا تَقدِرُونَ أن تجعَلُوا للهِ شُركاءَ ، { بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ } ؛ أي المنيعُ الغالِبُ لكلِّ شيءٍ ، الْحَكِيْمُ في تدبيرهِ لخلقِه ، فأنَّى يكونُ له شريكٌ في مُلْكِهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : قل أرُونِي الذين ألحقتُموهم باللهِ في العبادة شُركاءَ هل يَرزُقونَ ويَخلُقون ؟ كَلاَّ ؛ لا يرزُقون ولا يخلُقون ، بل الذي يخلُقُ ويرزقُ هو اللهُ العزيز في مُلكهِ ، الحكيمُ في أمرهِ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } ؛ أي ما أرسلنَاكَ يا مُحَمَّدُ إلاّ للناس كافَّة أي كلَّهم ، أحمَرِهم وأسوَدِهم. وَقِيْلَ : معناهُ : إلاَّ مَانِعاً للناسِ من الكُفرِ والضَّلالِ ، والكفُّ على هذا هو المنعُ. وأُدخِلَتِ الهاءُ ها هُنا للمبالغةِ كالرِّوايةِ والعلامةِ ، (بَشِيراً) بالخيرِ لِمَن أطاعَ الله ، (وَنَذِيراً) أي ومُخَوِّفاً بالنار لِمَن كَفَرَ باللهِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ يعني كُفَّارَ مكَّة لا يتدبَّرُون القُرْآنَ ، فلو تدَبُّرُوا لعَلِمُوا.
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } ؛ أي يقولُ الكفَّارُ : مَتَى هَذا الْوَعْدُ الذي تُخوِّفُونا به مِن البعثِ والعذاب ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فِي مَقالَتِكم ، { قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } ؛ أي قُل لِبَعثِكُم وعَذابكم ميقاتُ يَوْمٍ لا يؤخَّرُ عن وقتِ الوَعْدِ ولا يُقَدَّمُ وهو يومُ القيامةِ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ أي قالَ الكفَّارُ : لن نؤمِنَ بصِدْقِ هذا القُرْآنِ ولا بالَّذي بينَ يديهِ من أمرِ الآخرةِ ، والنشأةُ الثانية.
وَقِيْلَ : معنَى { وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } يعنُونَ التَّوراةَ والإنجيلَ ، وذلك : أنَّهُ لَمَّا قالَ مؤمِنُوا أهلِ الكتاب : إنَّ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كِتَابنا وهو نبيٌّ مبعوثٌ ، كَفَرَ أهلُ مكَّةَ بكِتَابهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } ؛ أي ولو ترَى يا مُحَمَّدُ مُشرِكي مكَّة مَحبُوسُونَ في الْمَحْشَرِ للحِسَاب يومَ القيامةِ ، يتجَاوَبونَ فيما بينِهم يرُدُّ بعضُهم على بعضٍ القولَ في الجدالِ ، ويحمِلُ كلُّ واحدٍ منهُم الذنبَ على صاحبهِ ، فيقولُ الأتبَاعُ لرُؤسَائِهم : { لَوْلاَ أَنتُمْ } ؛ ودعَاؤُكم إيَّانا إلى الكُفرِ ، { لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } ؛ كغِيرِنا ، بل أنتُم منعتُمونا وصدَدتُمونا عنِ الإيْمانِ.
فأجَابَهم رؤسَاؤُهم على وجهِ الإنكار : { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } باختياركم الكُفرَ على الإيْمانِ.
فقالَ الأتباعُ للرُّؤسَاءِ : { وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } ؛ قال الأخفشُ : (اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ لاَ يَمْكُرَانِ بأَحَدٍ ، وَلَكِنْ يُمْكَرُ فِيْهِمَا ، وَهَذا كَقَوْلِهِ{ مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ }[محمد : 13] وَهَذا مِنْ سَعَةِ الْعَرَبيَّةِ).
والمعنى : بل مَكْرُكم بنَا في الليلِ والنهار إذ تأمُرونَنا ، وكذلك يقالُ : فلانٌ نَهارُ صائمٍ وليلهُ قائمُ ، وقال الشَّاعرُ : (مَا لَيْلُ الْمِطَي بنَائِمِ). ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ }[محمد : 21]. وَقِيْلَ : مكرُ اللَّيلِ والنهار بهم طولُ السَّلامةِ فيهما ، كقولهِ{ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ }[الحديد : 16].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ } ؛ أي أضْمَرُوها في أنفسِهم ؛ لأن موضعَ النَّدامَةِ القلبُ. وَقِيْلَ : أظهَرُوها فيما بينهم ، أقبلَ بعضُهم يَلُومُ بَعْضاً ، ويعرضُ بعضُهم بعضاً الندامةَ ، وهذا مِن ألفاظِ الأضدَادِ ، يقالُ : أسَرَّ إذا كَتَمَ ، وأسَرَّ إذا أظهَرَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي غُلَّتْ أيْمَانُهم إلى أعناقِهم ، { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ من الشِّركِ في الدُّنيا.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } ؛ أي ما أرسَلنَا في أهلِ قريَةٍ مِن رسولٍ إلاَّ قال رؤَساؤُها وأعيَانُها وأُولُو النِّعمَةِ فيها : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } ؛ مِن الإيْمانِ والتَّوحيدِ ، { كَافِرُونَ * وَقَالُواْ } ؛ للرُّسُلِ : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } ؛ فكان فُضِّلْنَا عليكم في الدُّنيا لن نُعَذبَ بذُنوبنا في الآخرةِ! افتخَرَ مُشرِكُوا مكَّة على رسولِ الله والمؤمنينَ بأموَالِهم وأولادِهم ، وظَنُّوا أنَّ اللهَ إنَّما خوَّلَهم المالَ والولدَ كرامةً لَهم عندَهُ ، فقالوا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ؛ أي إنَّ اللهَ أحسَنَ إليْنا بالمالِ والولدِ فلا يعذِّبُنا!
فقَالَ اللهُ تَعَالَى لِنَبيِّهِ عليه السلام : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ يعني أنَّ بَسْطَ الرزقِ وتضييقهِ مِن الله تعالى بفعلهِ إبتلاءً وامتحاناً ، ولا يدلُّ البسطُ على رضَا اللهِ تعالى ، ولا التضييقُ على سَخَطِهِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ يعني أهلَ مكَّة لا يعلمونَ حين ظَنُّوا أنَّ أموالَهم وأولادَهم دليلٌ على كرامةِ اللهِ لَهم.
(0/0)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ } ؛ أي ليست كَثْرَةُ أموَالِكم ولا أولادِكم بِـ الخصلَةِ { بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } ؛ أي بالتي تُقرِّبُكم إلى الثواب والكرامة قُرْبَةً. وَقِيْلَ : معناهُ : بالَّتي تقرِّبُكم عندَنا قُربَى. قال الأخفشُ : (زُلْفَى : اسْمُ الْمَصْدَر ؛ كَأَنَّهُ أرَادَ : بالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا تَقْرِيْباً). { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ؛ بصرفِ المال في وجُوهِ الخيرِ ، وبصرفِ الأولاد في طاعةِ الله تعالى. وَقِيْلَ : معناهُ : إلاَّ مَن آمَنَ وعَمِلَ صَالحاً فإنَّ إيْمَانَهُ وعملَهُ يقرِّبُه منِّي.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } ؛ أي لَهم الجزاءُ الْمُضَاعَفُ على حسَنَاتِهم بالحسَنةِ الواحدةِ عشراً ، { وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ } ؛ الجنَّة ، { آمِنُونَ } ؛ مِن كلِّ آفَةٍ ومَكروهٍ. والغُرْفَةُ : هي البيوتُ فوقَ الأبنية.
قرأ حمزةُ (وَهُمْ فِي الْغُرْفَةِ) على الواحدةِ ، لقوله{ أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ }[الفرقان : 75] ، وقرأ الباقون (فِي الْغُرُفَاتِ) على الجمعِ ، لقوله{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ }[العنكبوت : 58] ، وقرأ يعقوبُ (فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءًَ) بالنصب مُنَوَّناً (الضِّعْفُ) بالرفع تقديرهُ : فأولئكَ لَهم الضعفُ جَزاءً على التقديرِ والتأخيرِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } ؛ أي يَسْعَوْنَ في دَلائلِ التوحيدِ والنبوَّة مُعَانِدِيْنَ ، يحسَبُون أنَّهم يَفُوتُونَنَا ويُعجِزُوننا ، { أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ؛ أي مَحبُوسُونَ.
(0/0)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } ؛ أي ما أنفَقتُم من مالٍ في غير إسْرافٍ ولا تَقتِيرٍ فهو يُخلِفُهُ في الدُّنيا بالعِوَضِ ، وفي الآخرةِ بالحسَناتِ والدَّرجَاتِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } لكم أو علَيكم ، يقالُ : أخلَفَ اللهُ لَهُ وعليهِ ؛ إذا أبدلَ اللهُ لَهُ ما ذهبَ عنهُ ، وعن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " مَنْ فَقِهَ الْمُرَادَ فَقِهَ فِي مَعِيْشَتِهِ ".
وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : وَمَا أنْفَقْتُمْ فِي الْخَيْرِ وَالْبرِّ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ، إمَّا أنْ يُعَجِّلَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَإمَّا أنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ). وعن سعيدِ بن بشَّار قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبحُ الْعِبَادُ فِيْهِ إلاَّ وَمَلَكَانِ أحَدُهُمَا يَقُولُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً ، وَيَقُولُ الآخَرُ : اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً " وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ؛ أي وهو خيرُ الْمُخْلِفِيْنَ ، وإنَّما خَيْرُ الرَّازِقينَ لأنه قَدْ يُقالُ : رزَقَ السُّلطانُ الْجُنْدَ.
(0/0)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } ؛ يعني المشرِكين ، { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } ؛ هذا استفهامُ تَوبيخٍ للعَابدين كقوله تعالَى لعيسَى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ }[المائدة : 116]. فنَزَّهَتِ الملائكةُ ربَّهُم عن الشِّرك و { قَالُواْ سُبْحَانَكَ } ؛ تَنْزِيْهاً لكَ مما أضَافُوا إليكَ مِن الشُّركاء ، { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } ؛ أي ما اتَّخذنَاهم عَابدين ، ولا تولَّينَاهم ولسْنَا نريدُ غيرَكَ وَلِيّاً ، وأنتَ العالِمُ بأمورنا وافتِرَائِهم علينا ، كنَّا نُوالِيكَ ولا نُوالِيهم ، { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } ، أي أطَاعُوا الشيَّاطينَ في عِبادَتِهم إيَّانا ؛ لأن الشياطينَ كانت دعوتُهم إلى ذلكَ ، فكان أكثرُهم بالشَّياطين مؤمنينَ.
(0/0)
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } ؛ أي يقالُ لَهم : اليومُ لا يَقْدِرُ بعضُكم لبعضٍ جَرَّ نفعٍ ولا دَفْعَ ضُرٍّ ، { وَنَقُولُ } ، خَزَنَهُ النار بأمرِ الله ، { لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } في الدُّنيا.
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } ؛ معناهُ : إذا يُقْرَأُ على أهلِ مكَّة آياتِنا وهي القُرْآنُ واضحات الْحُجَجِ ، { قَالُواْ مَا هَـاذَا } ؛ يعنون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـاذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } ، وقالُوا : ما هَذا الذي أتَانا به إلاّ كذبٌ مُفتَرَى ؟ يعنُونَ القُرْآنَ ، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } ؛ وهو القُرْآنُ : مَا هَذا القُرْآنُ ؟ { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }.
(0/0)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } ؛ أي ما آتَينا أهلَ مكَّة مِن كُتُبٍ يقرَؤُنَها. والمعنى : مِن أين كذبُوكَ ، ولَم يأتِهم كتابٌ ولا نذير بهذا الذي فعلوهُ ، وما أرسلنا إليهم قَبْلَكَ يا مُحَمَّد مِن رسولٍ.
ثُم خوَّفَهم وأخبرَ عن عاقبةِ مَن كذبَ قبلَهم فقال : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } ؛ يعني أمم كافرة ، { وَمَا بَلَغُواْ } ؛ يعني أهلَ مكَّة ، { مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } ؛ أي ما بَلَغَ هؤلاءِ الذين أُرسِلْتَ إليهم عُشْرَ ما أُوتِيَ الأممُ قبلَهم من القوَّة والعُدَّة ، { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } ؛ فَانْظُرْ كيفَ كان إنْكَاري عليهم وتَعذِيبي لَهم ، ألَيسُوا مُهلَكِين بالعذاب إذ لَم يُؤمِنُوا به مِعْشَارَ. والعُشْرُ والعَشِيرُ جزءٌ من عشرةٍ. قال ابنُ عبَّاس : (الْمَعْنَى : وَمَا بَلَغَ قَوْمُكَ مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَطُولِ الْعُمُرِ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ).
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } ؛ أي آمُرُكم وأُوصِيكُم بخِصْلَةٍ واحدةٍ ، وهي : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى } ؛ أي تقُومُوا للهِ اثنَين اثنَين وواحداً واحداً ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } , فيُناظِرُوا ويذكِّرُوا في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، هَل تَرَوْنَ في فعلهِ وقَولهِ ودُعائهِ إلى توحيدِ الله ما يكونُ مِن كلامِ الْمَجانِين وأفعَالِهم ، وهُو كَلامُ عالِمٍ حازمٍ ؟ قال مقاتلُ : (وَالْمَعْنَى : ألاَ يَتَفَكَّرُ مِنْكُمْ وَاحِدٌ وَمَعَ صَاحِبهِ يَنْظُرُوا أنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّ خَالِقَهَا وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } ؛ وذلكَ أنَّ المشركينَ قالُوا : إنَّ مُحَمَّداً ساحرٌ مجنونٌ! فقال اللهُ تعالى : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } وما صَاحِبُكم بمجنُونٍ ، فعلَى هذا المعنى يكونُ قولهُ { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } ابتداءُ كلامٍ مِن اللهِ تعالى ، ويجوزُ أن يكونَ المعنى : ثُم تتفكَّرُوا فتعلَمُوا بُطلاَن قولِكم في نِسْبَتِهِ إلى الجنونِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ } ؛ أي ما هُو إلاَّ رسولٌ مُخَوِّفٌ ، { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } ؛ أي بينَ يدَي القيامةِ لكي تُخَلِّصُوا أنفُسَكم من عذاب اللهِ بالتَّلافِي والتَّوبةِ.
(0/0)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } ؛ معناهُ : قُل لَهم يا مُحَمَّد : ما سألْتُكم على تبليغِ الرِّسالة أجْراً فتتَّهمُونِي ، وقَوْلُهُ تَعَالَى { فَهُوَ لَكُمْ } هذا الرجلُ يقول لغيرهِ : ما أعطَيتَنِي فخُذْهُ ، يريدُ بذلك لَم يُعْطِهِ شيئاً ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ما ثَوابي إلاَّ على اللهِ ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ مِن أعمالِ العِبَادِ { شَهِيدٌ }.
(0/0)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ؛ القَذْفُ : هو الرَّمْيُ بألْسِنَتِهم والحصَى والكلامِ ، قال الكلبيُّ : (فَمَعْنَى الآيَةِ : قُلْ إنَّهُ يَأْتِي بالْحَقِّ ؛ أيْ يَتَكَلَّمُ بالْوَحْيِ وَهُوَ الْقُرْآنُ يُلْقِيْهِ إلَى نَبيِّهِ عليه السلام). والمعنَى : قُل إنَّ رَبي يُنْزِلُ الوحيَ مِن السَّماء فَيَقْذِفُهُ ويُلقيهِ إلى الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ظاهرُ المعنَى.
(0/0)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ جَآءَ الْحَقُّ } ؛ يعني الإيْمَانَ والقُرْآنَ ؛ أي ظَهَرَ الإسلامُ والقُرْآنُ ، { وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } ؛ معناهُ : ذهبَ الباطلُ وزَهِقَ ، فلم يَبْقَ له بَقِيَّةٌ يُبدِئُ بها ولا يعيدُ. قال الحسنُ : (الْبَاطِلُ : كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ ، فَإنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ لاَ يُبْدِئُ لأَهْلِهِ خَيْراً فِي الدُّنْيَا ، وَلاَ يُعِيْدُ بخَيْرِهِ فِي الآخِرَةِ). فقال قتادةُ : (الْبَاطِلُ إبْلِيْسُ ؛ أيْ مَا يَخْلُقُ إبْلِيْسُ أَحَداً وَلاَ يَبْعَثُهُ).
ويجوزُ أن يكون هذا اسْتِفْهَاماً ، كأنَّهُ قالَ : وأيُّ شيءٍ يُبدِئُ الباطلُ ؟ وأيُّ شيء يعيدهُ ؟ وعنِ ابنِ مسعودٍِ قال : " دَخَلَ رَسُُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسُتُّونَ صَنَماً ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بعُودٍ مَعَهُ وَيَقُولُ : " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ، جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيْدُ " أيْ ذهبَ الباطلُ بحيثُ لا يبقَى له بقيَّة ، لا إقبالٌ ولا إدبارٌ ولا إبداءٌ ولا إعادة كما قَالَ تَعَالَى{ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ }[الأنبياء : 18]. ويقالُ : فلانٌ ظهرَتْ عليه الحجَّة ، فما يُبدِئُ وما يعيدُ ، ومَا يحل وما يَمرُّ.
(0/0)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } ؛ وذلك أنَّ كفارَ مكَّة قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : لقد ضَلَلْتَ حين تركتَ دِين آبائِكَ! فَقَالَ اللهُ تَعَالَى { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي } أي ضَرَرُ ذلكَ راجعٌ إلى نفسِي ، { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ } ؛ إلى الحقِّ ، { فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } ؛ من القُرْآنِ والبَيانِ ، { إِنَّهُ سَمِيعٌ } ؛ لكلِّ ما يقولهُ الْخَلْقُ من حقٍّ وباطلٍ ، { قَرِيبٌ } ؛ مِنِّي ، لا تخفَى عليه خافيةٌ.
(0/0)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } ؛ ولو ترَى يا مُحَمَّدُ الكفَّار ، يعنِي عندَ البعثِ ، فلا يُمكِنُهم الغَوْثُ ولا الْهَرَبُ مِن ما هو نازلٌ بهم ، لرأيتَ ما يُعْتَبَرُ به غايةَ الاعتبار. ومعنى الآيةِ : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ } عند البعثِ فلا يَفُوتُونَنِي ؛ أي لاَ يَفُوتُنِي أحدٌ ولا ينجُوا منِّي ظالِمٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } ؛ يعنِي من القُبُور حيثُ كانوا ، فَهُمْ مِن اللهِ قريبٌ لا يبعُدونَ عنه ولا يَفُوتُونَهُ. تعني هذه الآيةِ ؛ قال بعضُهم : أرادَ بقولهِ { إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ } مما أصَابَهم يومَ بدرٍ عند القتالِ. وقال بعضُهم : أرادَ به يومَ القيامةِ إذ فَزِعُوا مِن مُشاهدَةِ عذاب جهنَّم ، وعلِمُوا أنَّهم لا يفُوتُونَ للهَ ، وأُخِذُوا بالعذاب مِن مكانٍ قريبٍ إلى جهنَّم فقُذِفُوا فيها.
{ وَقَالُواْ } ، عندَ رُؤيَةِ العذاب : { آمَنَّا بِهِ } ، أي آمَنَّا باللهِ تعالَى وبرسُولهِ ، يقولُ اللهُ تعالى : { وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ؛ أي أينَ لَهم تَنَاوُلُ ما أرادُوا بُلُوغَهُ مِن مكانٍ بعيد ، يعني مِن الآخرةِ وقد تركوهُ في الدُّنيا ؟ يعني أنَّهم قد تَعَذرَ عليهم تناولُ الإيْمانِ كما يتعذرُ على الإنسانِ تناوُلُ النُّجومِ.
والتَّنَاوُشُ هو التَّنَاوُلُ ، نِشْتُهُ أنُوشُهُ نَوْشاً ، إذا تَنَاوَلَهُ ، كأنَّهُ قالَ : وأنَّى لَهُمُ التوبةُ. وَقِيْلَ : ما يتَمَنَّوْنَ. قال ابنُ عبَّاس : (يَتَمَنَّوْنَ الرَّدَّ حِيْنَ لاَ رَدَّ).
قرأ أبُو عمرٍو والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ وخلف : (التَّنَاؤُشُ) بالمدِّ والهمزةِ ، وهو الإبطاءُ والبُعْدُ ؛ أي مِن أينَ لَهم أن يتحرَّكُوا فيما لا حيلةَ لَهم فيهِ. يقالُ : أنَشْتُ الشَّيءَ ؛ إذا أخذتهُ مِن بعيدٍ ، والنَّيْشُ : الشيءُ البطيءُ. وقرأ الباقونَ بغيرِ همزةٍ من التَّناوُلِ ، يقالُ : نِشْتُهُ إذا تناوَلتهُ ، وَتَنَاوَشَ القومُ في الحرب إذا تدَانَوا وتناولَ بعضُهم بعضاً.
واختارَ أبو عُبيد تركَ الهمزِ ؛ لأنه قالَ : (مَعْنَاهُ مِنَ التَّنَاوُلِ ، فَإذا هُمِزَ كَانَ مَعْنَاهُ الْبُعْدُ فكيف يقول : { وَأَنَّى لَهُمُ } البُعْدُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيْدٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني أنَّهم يريدونَ أنْ يتناوَلُوا التوبةَ ، وقد صَارُوا في الآخرةِ ، وإنَّما تُقْبَلُ التوبةُ " في الدنيا " وقد ذهبَتِ الدُّنيا فصارت بعيداً مِن الآخرةِ.
(0/0)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ مِن قَـبْلُ } ؛ أي كانوا كَافِرينَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ في الدُّنيا قبلَ ما عايَنُوا مِن العذاب وأهوالِ القيامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ؛ أي يَنْسِبُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم إلى السِّحرِ والجنونِ والكَهَانَةِ رَجْماً منهم بالغَيْب والقذفِ. والرَّجْمُ بالغَيْب : أن يَلْفِظَ الإنسانُ شَيئاً لاَ يَتَحَقَّقُ ، ومنه سُمِّي الرميُ بالفاحشةِ قَذْفاً.
ومعنى قَوْلِهِ تَعَالَى { بِالْغَيْبِ } أنْ يقذِفُون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بالظَّنِّ لا باليقينِ ، والغيبُ على هذا الظَّنُّ ، وهو ما غَابَ عِلمُه عنهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني بُعْدَهم عن الحقِّ. وقال قتادةُ : (مَعْنَى { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ } يَقُولُونَ : لاَ بَعْثَ وَلاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ).
(0/0)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } : أي حِيْلَ بين هؤلاءِ الكفَّار وبين الرَّجعةِ إلى الدُّنيا ، وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : حِيْلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الإيْمَانِ وَالتَّوْبَةِ) ، { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم } ؛ أي كما فُعِلَ بنُظَرَائِهم أو أشيَاعِهم ، ومَن كان على مِثْلِ حالِهم من الكفَّار ، { مِّن قَبْلُ } ، أي قَبْلَ هؤلاءِ ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ } ؛ مِن البعثِ ونُزولِ العذاب بهم ، { مَّرِيبٍ } ، أي ظاهرِ الشَّكِّ.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ سَبَأ لَمْ يَبْقَ رَسُولٌ وَلاَ نَبيٌّ إلاَّ كَانَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَفِيْقَاً وَمُصَافِحاً ".
(0/0)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{ الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي خالِقُهما ، مُبتَدِئاً من غيرِ مثالٍ سبقَ ، قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (مَا كُنْتُ أعْرِفُ مَا مَعْنَى فَاطِرِ حَتَّى اخْتَصَمَ إلَيَّ أعْرَابيَّانِ فِي بئْرٍ ، فَقَالَ أحَدُهُمَا : أنَا فَطَرْتُهَا ؛ أيْ بَدَأتُهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } ؛ قال بعضُهم : أرادَ به بالملائكةَ كلَّهم ، فإنَّهم كلُّهم رسُلُ اللهِ بعضُهم إلى بعضٍ وبعضُهم إلى الإنسِ ، وقالَ بعضُهم : أرادَ بذلك جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملَكُ الموتِ والحفَظَةَ ، يرسلُهم إلى النبيِّين وإلى ما شاءَ من الأُمور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلِي أَجْنِحَةٍ } ؛ صفةُ الملائكةِ أي ذوي أجنحةٍ ، { مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } ، منهم مَن له جَناحَان ، ومنهم مَن له ثلاثةٌ ، ومنهم من له أربعةٌ ، اختارَهم الله تعالى لرِسالَتهِ من حيث عَلِمَ أنَّهم لا يُبدِّلون.
وقولهُ تعالى : { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } ؛ أي يزيدُ في أجنحةِ الملائكة ما يشاءُ ، فمِنهُم من له مائةُ ألفِ جَناحٍ ، ومنهم من له أكثرُ ، وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ قال : " رَأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيلَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَلَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ ".
وعن ابنِ شِهَابٍ قال : " سَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَرَاءَى لَهُ فِي صُورَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : إنَّكَ لَنْ تُطِيقَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " إنِّي أُحِبُّ أنْ تَفْعَلَ " فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُصَلَّى فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ ، فَغَشِيَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَآهُ ، ثُمَّ أفَاقَ وَجِبْرِيلُ مُسْنِدُهُ إلَيْهِ وَاضِعٌ إحْدَى يَدَيْهِ عَلَى صَدْرهِ وَالأُخْرَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ. فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " سُبْحَانَ اللهِ مَا كُنْتُ أرَى شَيْئاً مِنَ الْخَلْقِ هَكَذا " فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : كَيْفَ لَوْ رَأيْتَ إسْرَافِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! لَهُ اثْنَا عَشَرَ جَنَاحاً ، جَنَاحٌ بالْمَشْرِقِ وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب وَالْعَرْضُ عَلَى كَاهِلِهِ ".
وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قالَ : (إنَّ للهِ تَعَالَى مَلَكاً يَسَعُ الْبحَارَ كُلُّهَا فِي نَقْرَةِ إبْهَامِهِ). وَقِيْلَ : معنى قولهِ { يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ } يعني حُسنَ الصَّوتِ ، كذلك قال الزهريُّ ، وقال قتادةُ : (هِيَ الْمَلاَحَةُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالشَّعْرِ الْحَسَنِ وَالْوَجْهِ الْحَسَنِ وَالْخَطِّ الْحَسَنِ).
وقولهُ تعالى { وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } في موضعِ خفضٍ ؛ لأنه لا يتصرَّفُ. وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ أي قادرٌ على ما يزيدُ على الزيادةِ والنُّقصانِ.
(0/0)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } ؛ أي ما يُرسِلِ اللهُ إلى الناسِ من رسوُلٍ فلا مانعَ له ، وذلك لأن إرسالَ الرسُولِ من اللهِ تعالى رحمةٌ لعبادهِ كما قالَ تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء : 107].
وَقِيْلَ : أرادَ بالرحمةِ ها هنا المطرَ والرزقَ والعافية وجميعَ النِّعَمِ ، ما يفتحِ اللهُ من ذلك فلا مانعَ له ، ولا يستطيعُ أحدٌ من الخلقِ حبسَهُ ولا إمساكَهُ ، وقولهُ تعالى : { وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } ؛ أي وما يُمسِكِ اللهُ من ذلك فلا يقدِرُ أحدٌ على إرسالهِ ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي العزيزُ فيما أمسكَ ، الحكيمُ فيما أرسلَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } ؛ يعني أهلَ مكَّة اذكرُوا نعمةَ الله عليكم إذ أسكنَكم الحرَمَ ومنعَكم من الغاراتِ ، { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } ؛ هذا استفهامٌ ، ومعناهُ التوبيخ ؛ أي لا خالقَ سواهُ. وقولهُ تعالى : { يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ أي مِن السَّماءِ بإنزالِ المطر ومِن الأرض بإخراجِ النبات ، { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } ؛ أي فأنَّى تُصرَفون عن الإلهِ الذي هذه صفتهُ إلى معبودٍ لا يقدرُ على شيءٍ.
(0/0)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ } ؛ في هذه الآيةِ تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لئَلاَّ يجزعَ على تكذيب قومه ، ويصبرُ كما صَبَرَ على تكذيب الأمُمِ الرسلُ ، { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ } ؛ عواقبُ { الأُمُورُ } ؛ في مجازاةِ المكذِّبين ونُصرَةِ المسلمين.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ معناهُ إن الذي وعدَهُ اللهُ المجازاةَ والبعثَ بعد الموتِ حقٌّ كائن ، { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } ؛ بزِينَتِها وزَهرتِها حتى تشتَغِلوا بها عن أمرِ دينكم ، { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ؛ أي ولا يستزِلَّكم عن طاعةِ الله الشيطانُ الذي مِن عادته الغرورُ. وقرأ ابنُ سماك العدويّ : (الْغُرُورُ) بضمِّ الغينِ ، وهو أباطيلُ الدنيا ، وأما (الْغَرُورُ) بفتح الغينِ فيه ، الشَّيطانُ.
(0/0)
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } ؛ أي احتَرِزُوا من كَيدهِ ، ولا تقبلُوا منه وتطيعوهُ ، { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ } ؛ أي أهلَ طاعتهِ ليكون معه ، { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } ؛ أي ليَسُوقَهم إلى النار ، { الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ }.
(0/0)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } ؛ نَزَلْنَ في أبي جهلٍ ومُشرِكي مكَّة. وَقِيْلَ : نزلت في أصحاب الأهوَاءِ والمِلَلِ التي خالَفت الْهُدَى ، والمعنى : أفمَن زُيِّنَ له سوءُ عملهِ فرآهُ حسناً كمَن هداهُ الله ، ويدلُّ على هذا المحذوفِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ }.
قولهُ : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ؛ أي لا تَغْتَمَّ ، ولا تُهلِكْ نفسَكَ عليهم حَسَرَاتٍ على تركِهم الإسلامَ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ؛ في كُفرِهم فيجازيهم بما هو أولى بهم ، قرأ أبو جعفر (فَلاَ تُذْهِبْ) بضم التاء وكسر الهاء ، نصب السِّين.
(0/0)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } ؛ معناهُ : اللهُ الذي أرسلَ الرياحَ لإثارةِ السَّحاب ، { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } ، فأجريناه الى بلد ميت ليس فيه نبات ولا شجر ، { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ، فأحيَا " الله " بالمطرِ الأرضَ بإخراجِ الزَّرعِ والأشجار منها بعدَ يُبسِها وذهاب النباتِ منها ، { كَذَلِكَ النُّشُورُ } ؛ كذلك البعثُ في القيامةِ.
وهذا احتجاجٌ على مُنكرِي البعثِ ، فإن موتَهم كموتِ الأرض ، وذهابَ أثَرِهم كذهاب أثرِ الأشجار والزُّروعِ ، والقادرُ على إخراجِ الأشجار والزروعِ من الأرضِ قادرٌ على إخراجِ الموتَى من الأرضِ.
ومعنى الآية : { وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي تُزعِجهُ من حيث هو { فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي مكانٍ ليس فيه نباتٌ { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي أنبَتنا فيها الزرعَ والكلأَ بعدَ أن لم يكن ، { كَذَلِكَ النُّشُورُ } أي الإحياءُ والبعث.
وعن أبي رُزَينِ العقيليِّ قالَ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحييِ اللهُ الْمَوْتَى ؟ " أوَمَا مَرَرْتَ بوَادِي قَوْمِكَ مُمَحَّلاً ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ خَضِراً ؟ " قُلْتُ : بَلَى ، قَالَ : " فَكَذلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى " وَقَالَ : " كَذلِكَ النُّشُورُ " ".
(0/0)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قَوُلَهُ تَعَالَى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً } ؛ أي مَن كان يطلبُ العزَّةَ بعبادةِ الأصنام فليطلُبْها بطاعةِ الله تعالى وطاعةِ رسوله صلى الله عليه وسلم ، العزيزُ مَن أعزَّهُ اللهُ. وذلك أنَّ الكفارَ كانوا يعبدُونَ الأصنامَ طَمَعاً في العزَّةِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً }[مريم : 81]. أو قِيْلَ : معناهُ : مَن كان يريدُ أن يعلمَ العزَّةَ لِمَن هي فليعلَمْ أنَّها للهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } ؛ إلى اللهِ تصعدُ كلمةُ التوحيدِ وهو قولهُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، ومعنى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ } أي يعلمُ ذلك كما يقالُ : ارتفعَ الأمرُ إلى القاضِي والسُّلطان أي عَلِمَهُ. وَقِيْلَ : صعودُ الكَلِمِ الطيِّب أن يُرفَعَ ذلك مَكتُوباً أو مَقبُولاً إلى حيث لا مالِكُ إلاَّ اللهُ ؛ أي إلى سَمائهِ يصعدُ الكَلِمُ الطيِّبُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } ؛ قال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : ذُو الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُرْفَعُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلَى اللهِ تَعَالَى بعَرْضِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ ، فَإنْ وَافَقَ الْقَوْلُ الْفِعْلَ قُبلَ ، وَإنْ خَالَفَ رُدَّ ، لأنَّ الْعَبْدَ إذا وَحَّدَ اللهَ وَأخْلَصَ فِي عَمَلِهِ ارْتَفَعَ الْعَمَلُ إلَى اللهِ تَعَالَى). قال : (لَيْسَ الإيْمَانُ بالتَّحَلِّي وَلاَ بالتَّمَنِّي ، وَلَكِنْ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْب وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ ، مَنْْ قَالَ حُسْناً وَعَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ رَدَّهُ اللهُ تَعَالَى ، وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً رَفَعَهُ الْعَمَلُ).
وقرأ أبو عبدِالرحمن (الْكَلاَمُ الطَّيِّبُ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله علي وسلم في قولهِ { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ } : " هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ، إذا قَالَهَا الْعَبْدُ عَرَجَ بهَا مَلَكٌّ إلَى السَّمَاءِ ".
وَقِيْلَ : الكلامُ الطيب : لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، والعملُ الصالِحُ : أداءُ فرائضهِ ، ومَن لا يؤدِّي فرضَهُ رُدَّ كلامهُ. وجاءَ في الخبرِ : " طَلَبُ الْجَنَّةِ بلاَ عَمَلٍ ذنْبٌ مِنَ الذُّنُوب " ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَقْبَلُ اللهُ قَوْلاً بلاَ عَمَلٍ " ، وعلى هذا المعنَى قولُ الشاعرِ : لاَ تَرْضَ مِنْ رَجُلٍ حَلاَوَةَ قَوْلِهِ حَتَّى يُصَدِّقَ مَا يَقُولُ فَعَالُفَإذا وَزَنْتَ فَعَالَهُ بمَقَالِهِ فَتَوَازَنَا فَإخَاءُ ذاكَ جَمَالُوقال ابنُ المقفَّع : (قَولٌ بلاَ عَمَلٍ كَثَرِيدٍ بلاَ دَسَمٍ ، وَسَحَابٍ بلاَ مَطَرٍ ، وَقَوْسٍ بلاَ وَتَرٍ). وَقِيْلَ : معناهُ : والعملُ الصالِحُ يرفعهُ اللهُ ؛ أي يَقبَلهُ.
قَوُلَهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } ؛ أي يَفعلُونَها على وجهِ المخادَعة كما كان الكفارُ يَمكُرون بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم في دار النَّدوةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الذين يُشرِكون باللهِ وبعملِ السيِّئات لَهم عذابٌ شديد في الآخرةِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ { يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ } يعمَلون عمَلاً على وجهِ الرِّياءِ.
" كما رُوي أنَّ رجُلاً قالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ فِيمَ النَّجَاةُ غَداً ؟ فَقَالَ : " لاَ تُخَادِعِ اللهَ ، فَإنَّهُ مَنْ يُخَادِعِ اللهَ يَخْدَعُهُ وَيَخْلَعُهُ مِنَ الإيْمَانِ ". فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ يُخَادَعُ اللهُ ؟ فَقَالَ : " أنْ تَعْمَلَ بمَا أمَرَكَ اللهُ ، لاَ يُقْبَلُ مَعَ الرِّيَاءِ عَمَلٌ ، فَإنَّ الْمُرَائِي يُنَادَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ بأرْبَعَةِ أسْمَاءٍ : يَا كَافِرُ ؛ يَا فَاجِرُ ؛ يَا غَادِرُ ؛ يَا خَاسِرُ ؛ ضَلَّ عَمَلُكَ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } ؛ أي يفسَدُ ويهلَكُ ويكسَرُ ولا يكون شيئاً.
(0/0)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } ؛ أي خلَقَ أصلَكم وأبَاكم آدمَ من ترابٍ ، { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } ؛ أي ثم خلقَ نسلَ آدم من نُطفةٍ ، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } ؛ يعني ذُكرَاناً وإنَاثاً ، { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى } ؛ أو تَلِدُ لتمامٍ وغيرِ تَمام ، { وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } ؛ أي ما يَطُولُ عمُر أحدٍٍ ، ولا يَنقصُ من عمُرِ أحدٍ إلاَّ وهو مُثْبَتٌ في اللوحِ المحفوظ ، وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ؛ أي كتابةُ الآجالِ والأعمالِ وحِفظُها من غيرِ كتابةٍ على الله هيِّنٌ.
(0/0)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ؛ قِيْلَ : هذه مثلٌ ضربَهُ اللهُ ، يقولُ : كما لا يستوِي البحرَان أحدُهما عَذْبٌ في غايةِ العذُوبَةِ هنِيءٌ شرابهُ مَرِيءٌ ، والآخَرُ مرٌّ زُعَافٌ لا يستطاعُ شرابه ، فكذلك لا يستوِي المؤمنُ والكافر ، والتقيُّ والفاسقُ. والسائغُ : هو السالكُ في الحلْقِ. والأُجَاجُ : شديدُ الْمُلُوحَةِ. وقرأ عيسى (سَيِّغٌ شَرَابُهُ) مثل ميِّتٍ وسَيِّد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } ؛ أي ومِن كلِّ البحرَين تأكلُون السمكَ لا يختلفُ طَعْمُ السَّمكِ لاختلاف ماءِ البحرَين ، فكذلك قد يولَدُ للكافرِ ولدٌ مسلم مثلَ خالدِ بن الوليد وعكرمةَ بن أبي جهلٍ وغيرِهما.
وقولهُ تعالى : { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ؛ قِيْلَ : أرادَ به إخراجَ اللُّؤلُؤِ والمرجان من أحدِهما خاصَّة وهو الملحُ. والمعنى : تَستَخرِجُونَ من الملحِ دون العَذْب. قِيْلَ : إن اللؤلؤَ قطرُ المطرِ يقعُ في جوفِ الصَّدَفِ فيكون منه اللؤلؤُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ } ؛ أي ترَى السفُنَ جواري في البحرِ ، قال مقاتلُ : (هُوَ أنْ تَرَى سَفِينَتَيْنِ ، أحَدُهُمَا مُقْبلَةً وَالأُخْرَى مُدْبرَةً ، وَهَذِهِ تَسْتَقْبِلُ تِلْكَ ، وَتِلْكَ تَسْتَدْبرُ هَذِهِ ، تَجْرِيَانِ برِيحٍ وَاحِدَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } ؛ لتَطلبُوا من رزقهِ التجارةَ ، فتحملُ النِّعَمُ فيها من بلدٍ إلى بلدٍ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ أي فَعَلَ ذلك لتعلَمُوا أنَّ هذه النعَمَ من اللهِ ، ولكي تشكرونَهُ عليها.
(0/0)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
وقولهُ تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } ؛ أي الذي يفعلُ هذه الأشياءَ هو اللهُ ربُّكم ، و ؛ { لَهُ الْمُلْكُ } ؛ الدائمُ الذي لا يزولُ ، { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ؛ من الأصنامِ ، { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } ؛ لا يقدِرون على أنْ ينفعُوكم بقدر قِطْمِيرٍ ، وهو القشرةُ الدَّقيقة الملتزِقَةُ بنواةِ الثَّمرة كاللفَّافَةِ عليها.
(0/0)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } ؛ ولو كانُوا سَامِعين ما أجَابُوكم بإغاثةٍ ولا نُصرةٍ ، والمعنى : إنْ تدعُوهم لكشفِ ضُرٍّ لا يَسمَعُوا دعاءَكم لأنَّها جمادٌ لا تنفعُ ولا تضرُّ ، { وَلَوْ سَمِعُواْ } ؛ بأنَّ الله خَلَقَ فيهم السمعَ ، { مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } ؛ أي يتبرَّؤُن منكم ومِن عبادِتكم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ }[البقرة : 166] والمعنى بقولهِ : { يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ } أي يتبرَّؤن من عبادتِكم ، يقولون : ما كُنتم إيَّانا تعبُدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } ؛ معناهُ : لا يُخبرُكَ بحقائقِ الأمُور وعواقبها إلاَّ اللهُ ؛ لأنه عالِمٌ بكلِّ الأشياءِ ، لا يخفَى عليه منها شيءٌ ، ولا تلحقهُ المضَارُّ والمنافعُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي الْمُحتَاجُونَ إليه وإلى نِعَمِهِ ومغفرتهِ حالاً بعد حالٍ ، { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ } ؛ عن إيمانِكم وطاعتكم ، { الْحَمِيدُ } ؛ أي المحمودُ في أفعالهِ عند خَلقهِ. وإنَّما أمرَكم بطاعتهِ لتنتَفِعوا بها لا حاجةَ به إليها ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ } ؛ أي إنْ يشأ يهلككم ، { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } ، ويأتِ بخلقٍ أطوعَ منكم ، { وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } ؛ أي ليس إهلاكُكم وإتيانهِ بمثلِكم على اللهِ ممتنعٌ.
(0/0)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20)
قوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؛ أي لا تحملُ يومَ القيامةِ حمل حاملةٍ أُخرى ؛ أي لا تؤخذُ نفسٌ بذنب غيرِها ، { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } ؛ بالذُّنوب ، { إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } ، إلى أن يُحمَلَ عنها شيءٌ من ذنوبها لا تُحمَلُ مِن ذنوبها شيءٌ ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ، ولو كانت المدعوَّةُ ذاتَ قرابةٍ من الداعيةِ لِمَا في ذلك مِن غِلَطِ حملِ الآثام ، ولو تحمَّلتْهُ لا يُقبَلُ حملها ؛ لأن كلَّ نفسٍ بما كسبَتْ رهينةٌ ، فلا يؤخَذُ أحدٌ بذنب غيرهِ.
وسُئل الحسنُ بن الفضلِ عن الجمعِ بين هذه الآيةِ وبين قولهِ{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ }[العنكبوت : 13] فقالَ (قَوْلُهُ { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } يَعْنِي طَوْعاً ، وَقَوْلُهُ{ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ }[العنكبوت : 13] يَعْنِي كَرْهاً). قال ابنُ عبَّاس : في قولهِ { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } قال : (يَقُولُ الأَبُ وَالأُمُّ : يَا بُنَيَّ احْمِلْ عَنِّي ، فَيَقُولُ : حَسْبي مَا عَلَيَّ).
قوله تعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } ؛ يقولُ : إنما ينتفعُ بإنذارِكَ ووَعْظِكَ الذين يُطيعون ربَّهم في السرِّ ، { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ المفروضةَ ، ولأن مَن خَشِيَ اللهَ واجتنبَ المعاصي في السرِّ مِن خشيةِ الله تعالى ، اجتنبَها لا محالةَ في العَلانيةِ.
ويقال : إنَّ الخشيةَ في السرِّ ، والإقدامَ على الطاعةِ في السرِّ ، واجتنابَ المعصيةِ في السرِّ ، أعظمُ عندَ اللهِ ثواباً ، كما قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَا تَقَرَّبَ امْرِئٌ بشَيْءٍ أفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ " وأما عطفُ الماضِي في قولهِ تعالى { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } على المستقبَلِ في قولهِ { يَخْشَوْنَ } ، ففائدةُ ذلك أنَّ وجوبَ خشيةِ الله لا تختصُّ بزمانٍ دون زمانٍ ولا بمكان دون مكانٍ ، ووجوبُ إقامةِ الصَّلاة يختصُّ ببعضِ الأوقاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } ؛ أي ومَن تطَهَّرَ من دَنَسِ الذُّنوب والشِّركِ ليكون عند ربه زكيّاً ، فإن منفعةَ تطَهُّرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ ، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } ؛ أي إليه يرجعُ الخلق كلُّهم في الآخرةِ ، { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ؛ يعني الْمُشرِكُ والمؤمنُ ، { وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ } ؛ أي ولا الشِّركُ ولا الضَّلالُ كالنور والهدى والإيمان.
(0/0)
وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)
وقولهُ تعالى : { وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ } ؛ ولا الجنَّةُ ولا النارُ. وقال عطاءُ : (يَعْنِي ظِلَّ اللَّيْلِ وَسَمُومَ النَّهَار) ، { وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَآءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ } ؛ يعني المؤمنين والكافرينَ ، وهذه أمثالٌ ضربَهَا اللهُ تعالى ، كما لا تستوِي هذه الأشياءُ ، كذلك لا يستوِي الكافرُ والمؤمن.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } ؛ أي يسمعُ كلامَهُ مَن يشاءُ ؛ أي يتَّعِظُ ويهتدِي ، قال عطاءُ : (يَعْنِي أوْلِيَاءَهُ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِجَنَّتِهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ } ؛ أي كمَا لا تقدرُ تسمِعُ مَن في القبور ، فكذلكَ لا تقدرُ أن تُسمِعَ الكفارَ ، شبَّهَهم بالموتَى لأنَّهم لا ينتفَعُون كالموتَى.
وقرأ أبو رُزَين العقيليِّ (مَا أنْتَ بمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُور) بلا تنوينٍ بالإضافة ، وقولهُ تعالى : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } ؛ أي ما أنتَ إلاَّ رسولٌ تُنذِرُهم النارَ وتخوِّفُهم ، وليس عليك غيرُ ذلك.
(0/0)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } ؛ أي ما مِن أُمَّة إلاَّ سَلَفَ فيها نبيٌّ ، { وَإِن يُكَذِّبُوكَ } ؛ فلستَ بأوَّلِ رسولٍ كُذِّبَ ، { فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ الواضحاتِ ، { وَبِالزُّبُرِ } ؛ وهِي الكتُب ، وقولهُ تعالى : { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } ؛ يعني التوراةَ. وَقِيْلَ : إنَّما كرَّرَ الزبورَ هي الكتُب أيضاً لاختلافِ صفات الكتاب ؛ لأن الزبورَ هو الكتابةُ الثابتة كالنَّقرَةِ في الصخرةِ ، ثم قالَ { وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } الموصوف واحدٌ والصفات مختلفةٌ. وقولهُ تعالى : { ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي أخذتُهم بالعقوبةِ, { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } ؛ أي إنكاري عليهم وتعذيبي لَهم.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } ؛ وطعمُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } ؛ أي وخلَقنا من الجبالِ (جُدَدٌ بيضٌ) أي طرُق يكون في الجبالِ كالعرُوقِ بيضٌ وسود وحُمْرٌ ، واحدها جُدَّة ، قال المبرِّد : (جُدَدٌ : طُرْقٌ وَخُطُوطٌ وَنَحْوُ هَذا ، وَالْجُدَدُ الْجُدَّةُ ، وَهِيَ الطَّرِيقَةُ كَالْمُدَّةِ وَالْمُدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْعُدَدِ ، وَأمَّا الْجُدُدُ بضَمَّتَيْنِ فَهِيَ جَمْعُ الْجَدِيدِ مِثْلُ سَرِيرٍ وَسُرُرٍ).
وقوله تعالى { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } يجوز أن يكون الغرَابيبُ هي الجبالُ السُّود ، كأنَّه قالَ : ومن الجبالِ غرابيبُ ، والغَرَابيبُ الذي لَونهُ كَلَونِ الغُرَاب ، ولذلك حَسُنَ أن يقال سُودٌ ، وقال الفرَّاء : (هَذا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، تَقْدِيرُهُ : وَسُودٌ غَرَابيبُ).
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ؛ كاختلافِ الثِّمار والجبالِ ، وتَمَّ الكلامُ على ، { كَذَلِكَ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : إنَّما يَخَافُونَ مِنْ خَلْقِي مَنْ عَلِمَ جَبَرُوتِي وَعِزَّتِي وَسُلْطَانِي) ، وقال مقاتلُ : (أشَدُّ الناسِ للهِ خِشْيَةً أعْلَمُهُمْ بهِ) ، وقال مسروقُ : (كَفَى بخِشْيَةِ اللهِ عِلْماً ، وَكَفَى بالاغْتِرَار باللهِ جَهْلاً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } ؛ أي عزيزٌ قاهر وغالبٌ في مُلكهِ ، { غَفُورٌ } ؛ لذنوب المؤمنين.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ } ؛ يعني القرآنَ في الصَّلاةِ وغيرِها ، { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ المفروضةَ ، { وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } ؛ أي وأنفَقُوا مما أعطَيناهم من الأموالِ تطوُّعاً سِرّاً فيَسلَمُوا بذلك عن تُهمَةِ الرِّياءِ ، وفريضةً جَهْراً فيَسلَمُون بذلك عن تُهمةِ المنعِ ، ويقالُ أرادَ بذلك النفقةَ في الجهادِ ، { يَرْجُونَ } ؛ بذلك ، { تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } ؛ أي لن تَكْسَدَ ولا يَرِدُ عليها الفسادُ والبُطلان.
(0/0)
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ } ؛ ليُعطِيَهم أجرَ أعمالِهم كاملةً ، { وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } ؛ فوق ما يستحقُّوهُ ، قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي سِوَى الثَّوَاب) ، وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } ؛ إنه غفورٌ لذنوبهم ، شكورٌ يعامِلُ بالأحسنِ معاملةَ الشاكرِ ، قال ابنُ عبَّاس : (غَفَرَ الْعَظِيمَ مِنْ ذُنُوبهِمْ ، وَشَكَرَ الْيَسِيرَ مِنْ أعْمَالِهِمْ).
(0/0)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ أي مُوافِقاً لِمَا قبلَهُ من الكتُب ، لأن كتبَ اللهِ تعالى كلُّها دالَّة على توحيدهِ وإنِ اختلفتْ بالشرائعِ ، { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } ؛ أي خبيرٌ بأقوالِهم وأفعالِهم ونيَّاتِهم فيَجزِيهم بما يستحقُّون.
(0/0)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } ؛ قال مقاتلُ : (يَعْنِي الْقُرْآنَ) ، وقوله تعالى : { الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } يريد أُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
ثم قسَّمَهم ورتَّبَهم فقالَ تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } ؛ وهو الذي ماتَ على كِبْرِه ولم يَتُبْ عنها ، { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ؛ وهو الذي لَمْ يُصِبْ كبيرةً ، { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } ؛ يعني المقرَّبين الذين سبَقُوا إلى أعمالٍ ، وقال الحسنُ : (الظَّالِمُ : الَّذِي تَرَجَّحَ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ ، وَالْمُقْتَصِدُ : الَّذِي اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتُهُ ، وَالسَّابقُ : مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ).
وعن عُمر بن الخطَّاب رضي الله عنه قالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " سَابقُنا سَابقٌ " أي إلى الجنَّة أو إلى رحمةِ الله تعالى بالخيراتِ ؛ أي بالأعمال الصالحة ، { بِإِذُنِ اللَّهِ } ؛ أي بإرادةِ الله ، { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } ؛ معناهُ : إيراثُهم الكتابَ هو الفضلُ الكبير ، وسُمي إعطاءُ الكتاب إيْرَاثاً لأنَّهم أُعْطُوهُ بغيرِ مسألةٍ ولا اكتساب.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُمْ قَالُواْ : " السَّابقُونَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بغَيْرِ حِسَابٍ ، وَالْمُقْتَصِدُونَ يُحَاسَبُونَ حِسَاباً يَسِيراً ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ، وَالظَّالِمُونَ يُحَاسَبُو مَا شَاءَ اللهُ أنْ يُحَاسَبُواْ ، ثُمَّ يَرْحَمُهُمُ اللهُ تَعَالَى فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ ، وَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ... " إلى آخرِ الآيتَين.
وعن الحسنِ أنه قالَ : (السَّابقُ الَّذِي تَرَكَ الدُّنْيَا ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أخَذ الْحَلاَلَ ، وَالظَّالِمُ الَّذِي لاَ يُبَالِي مِنْ أيْنَ أخَذ). ويقالُ : الظالِمُ صاحبُ الكبائرِ ، والمقتصدُ صاحبُ الصَّغائرِ ، والسَّابقُ الذي اتقى سيئاته.
فإنْ قيلَ ما الحكمةُ في تقديمِ الظالِم وتأخيرِ السابق ؟ قِيْلَ : الواوُ لا توجِبُ الترتيبَ كما قالَ تعالى{ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ }[التغابن : 2]. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ لئَلاَّ ييأسَ من رحمتهِ ، وأخَّرَ السابقَ لئَلا يُعجَبَ بنفسهِ. وَقِيْلَ : قدَّمَ الظالِمَ فإذا لَم يكن له شيءٌ يتَّكِلُ عليه إلاَّ رحمةُ الله تعالى ، وثَنَّى بالمقتصدِ لِحُسنِ ظنِّهِ بربه. وَقِيْلَ : لأنه بين الخوفِ والرَّجاءِ ، وأخَّرَ السابقَ لأنه اتَّكَلَ على حسَناتهِ. وَقِيْلَ : لئلا يأمَنَ أحدٌ مَكْرَهُ ، وكلُّهم في الجنَّة بُحرَمِة كلمةِ الإخلاصِ.
وعن عُقبة بن صَهبان قال : (سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَوْلِهِ : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } فَقَالَتْ : يَا بُنَيَّ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَأمَّا السَّابقُ فَمَنْ مَضَى عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهِدَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْجَنَّةِ ، وَأمَّا الْمُقْتَصِدُ فَمَنْ تَبعَ أثَرَهُ مِنْ أصْحَابهِ حَتَّى لَحِقَ بهِ ، وَأمَّا الظَّالِمُ فَمِثْلِي وَمِثْلَكَ). وقال سهلُ بن عبدِالله : (السَّابقُ الْعَالِمُ ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ).
وَقِيْلَ : السابقُ الذي اشتغلَ بمَعادهِ ، والمقتصدُ بمعَادهِ ومعاشهِ ، والظالِمُ الذي اشتغلَ بمعاشهِ عن معادهِ. وَقِيْلَ : الظالِمُ طالِبُ الدُّنيا ، والمقتصدُ طالبُُ العُقبَى ، والسابقُ طالب المولَى. وَقِيْلَ : الظالِمُ الْمُرائِي في جميعِ أفعالهِ ، والمقتصدُ المرائِي في بعضِ أفعالهِ دون بعضٍ ، والسابقُ المخلِصُ في أفعالهِ كلِّها.
(0/0)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } ؛ يعني الأصنافَ الثلاثةَ : الظالِمُ ؛ والمقتصدُ ؛ والسابقُ. ومعنى الآيةِ : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي بساتينُ إقامةٍ لا تزولُ, { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } ؛ أي يُلبَسُونَ أقُلْبُةً من ذهبٍ وسِوَارُ القُلْبِ. وقولهُ تعالى : { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ؛ مَن قرأ بالكسرِ فالمعنى مِن ذهبٍ ومن لؤلؤٍ ، ومَن قرأ بالنصب فمعناهُ : ويحلَّونَ لُؤلُؤاً.
(0/0)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } ؛ أي يقولون بعدَ دُخولِهم الجنَّةَ : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ } أي حَزَنَ الموتِ وأهوالَ يومِ القيامة ، وَقِيْلَ : حَزَنَ المعاشِ وهمومَ الدُّنيا ، فإنَّ الدنيا سجنُ المؤمنِ. وقال عكرمةُ : (حَزَنَ الذُّنُوب وَالسَّيِّئَاتِ) ،
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لَيْسَ عَلَى أهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْشَةٌ فِي قُبُورهِمْ ، وَلاَ فِي مَحْشَرِهِمْ ، كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ وَهُمْ يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } ؛ أي متجاوزٌ عن الذنوب ، يقبَلُ اليسيرَ من العملِ ، ويعطِي الجزيلَ من الثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ } ؛ أي دارَ المقامِ وهي الجنةُ ، { مِن فَضْلِهِ } ، بتفَضُّلهِ لا بالأعمالِ. وسُمي دارَ المقامةِ لأن مَن دخلَها يخلدُ لا يموت ، ويقيمُ فيها لا يحوَّلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ } ؛ أي لا يَمسُّنا فيها تعبٌ ؛ { وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } ؛ أي مشَقَّةٌ وتعبٌ وإعياء وقبورٌ.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } ؛ أي الذين كفَروا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ لَهم في الآخرةِ نارُ جهنم ، { لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } ؛ فلا يُقضى عليهم بمَوتٍ فيستريحونَ من العذاب ، { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } ؛ من عذاب النار طُرفةَ عَينٍ. قرأ الحسنُ : (فَيَمُوتُونَ) بالنُّون ولا يكون حينئذٍ جَواباً للنفيِّ ، والمعنى : لا يُقضَى عليهم ولا يَموتُونَ كقولهِ{ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }[المرسلات : 36].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } ؛ أي هكذا يُجزَى في الآخرةِ كلُّ كفورٍ بنِعَمِ الله تعالى. قرأ العامَّة (نَجْزِي) بالنون ونصب اللام ، وقرأ أبو عمرٍو وحده بضم الياءِ وفتح الزاي على ما لَم يسمَّ فاعلهُ ورفعَ اللامَ.
(0/0)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } ؛ أي يستَغِيثُونَ في النار وهو افتعالٌ من الصُّراخِ يقولون : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا } ؛ من النار ، { نَعْمَلْ صَالِحاً } ؛ أي بقَولُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ ، وقولهُ تعالى : { غَيْرَ الَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } ؛ أي غيرَ الشِّركِ. فوبَّخَهم اللهُ تعالى فقالَ : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } ، معناهُ : أوَلَمْ نُعمِّركُم مقدارَ ما يتَّعِظُ فيه مَن كان يريدُ أن يتَّعظَّ ويؤمِنَ. قال عطاءُ : (يُرِيدُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً) ، وقال الحسنُ : (أرْبَعِينَ سَنَةً) ، وقال ابنُ عبَّاس : (سِتِّينَ سَنَةً).
قَالَ : (هُوَ الْعُمْرُ الَّذِي أعْذرَ اللهُ إلَى ابْنِ آدَمَ ، قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ عَمَّرَهُ اللهُ تَعَالَى سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أعْذرَ اللهُ إلَيْهِ فِي الْعُمُرِ " ). وعن أبي هُريرةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِين ، وَأقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذلِكَ " قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْزِلُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ } ؛ قال جمهورُ المفسِّرين : يريدُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. ورُوي عن عكرمةَ وسُفيان بن عُيينة : (الْمُرَادُ مِنَ النَّذِيرِ الشَّيْبُ) وَمَعْنَاهُ : أوَلَمْ نُعَمِّركُم حتى شِبتُم؟. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ : " مَنْ أنَافَ سِنُّهُ عَلَى أرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ تَغْلِبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَلْيَتَجَهَّزْ إلَى النَّار ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } ؛ أي فذُوقوا العذابَ فما للمُشرِكين من مانعٍ يَمنعُهم من العذاب.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي عالِمُ سِرِّ أهلِ السمواتِ والأرض ، إنه عليمٌ بما في القُلوب من الخيرِ والشرِّ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي جعلَكم خُلفاءَ عن مَن كان قبلَكم أُمَّةً بعد أُمةٍ ، وقَرناً بعد قرنٍ ، { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً } ؛ أي إلاَّ نَقصاً ، { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } ؛ أي خَبرُونِي عن شُركائِكم الذين أشرَكتُموهم مع اللهِ في العبادةِ ؛ بأَيِّ شيءٍ أوجَبْتُهم لَهم شركاءَ مع اللهِ تعالى ؟ بخلقِ خلَقوهُ من الأرضِ ؛ أم لَهم نصيبٌ في خلقِ السَّمواتِ ؛ أم أعطينَاهم كِتَاباً فيه ما يدَّعُونَهُ فهُم على بيِّنةٍ منه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } ؛ ولكن ما يَعِدُ الظالمون بعضَهم بعضاً إلاّ خِدَاعاً وأباطيلَ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ } ؛ أي مَنَعهما من الزَّوالِ والذهاب ، { وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } ؛ أي ولَو زالَتا عن أماكنِها لَمْ يُمسِكْهُما أحدٌ غيرُ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ؛ أي حَليماً عن مقالةِ الكفَّار ، غَفُوراً لِمَن تابَ منهم ، والحكيمُ هو القادرُ الذي لا يعجِّلُ بالعقوبةِ ، والغفورُ كثيرُ الغُفرانِ.
(0/0)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } ؛ أي حَلَفَ كفارُ مكَّة باللهِ غايةَ أيْمانِهم قبلَ أنْ يأتيهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } ؛ أي رسولٌ ، { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ } ؛ أي ليكونُنَّ أسرعَ إجابةً وأصوبَ دِيناً من إحدَى الأُمم ، اليهودُ والنصارَى والصَّابئين وغيرهم ، { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } ؛ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } ؛ عن الحقِّ وتباعداً عن الهدى ، وقولهُ تعالى : { اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ } ؛ منصوبٌ على أنه مفعولٌ له (أيْ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً). الاستكبارُ في الأرضِ عُتُوّاً على اللهِ وتكَبُّراً عن الإيمانِ ، وَقِيْلَ : على البدلِ مِن قوله (نُفُوراً). وَقِيْلَ : على المصدر.
وقولهُ تعالى : { وَمَكْرَ السَّيِّىءِ } ؛ أي القصدَ أي الإضرارَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ من حيث لا يشعُرون. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ؛ أي لا يحيقُ ضرَرُ المكرِ السيِّ إلاَّ بفاعلهِ ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ ، والمكرُ السيِّء هو العملُ القبيح ، وقولهُ تعالى { وَلاَ يَحِيقُ } أي ولا يحِلُّ ولا ينْزِلُ إلاَّ بأهلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ } ؛ أي ما ينظرُ أهل مكَّة إلا أن ينْزِلَ بهم العذابُ مثلَ ما نزلَ بمَن قبلَهم من الأُمَم السَّالفة المكذِّبة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يُحوِّلَ العذابَ عنهم إلى غيرِهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } معناهُ : أوَلَمْ يُسافِروا في الأرضِ فينظُروا كيفَ صارَ آخرُ أمرِ الَّذين من قبلِهم عند تكذيبهم الرسُلَ كيف فعلَ اللهُ بهم ؟ { وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ } ؛ من أهلِ مكَّة ، { قُوَّةً } ؛ ومكَّن لَهم ما لم يُُمكِّن لهؤلاء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي لن يُعجزَهُ أحدٌ من الخلقِ في السَّموات ولا في الأرض ، { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } ؛ أي عَليماً بخلقهِ ، قادراً عليهم.
(0/0)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } ؛ أي لو يُؤاخِذُهم بما كسَبوا من المعاصِي ما تركَ على ظهرِ الأرض من دابَّة ، { وَلَـاكِن يُؤَخِّرُهُمْ } ؛ بفضلهِ ، { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ إلى وقتٍ معلوم ، { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } ؛ فإذا جاءَ ذلك الوقتُ ، { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } ؛ يفعلُ به ما يستحقُّونَهُ من ثوابٍ وعقابٍ.
(0/0)
يس (1)
{ يس } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ : يَا إنْسَان) ، يَعْنِي مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، وقال أبو العاليةِ : (يَا رَجُلُ) ، وقال سعيدُ بن جبير : (يَا مُحَمَّدَ صلى الله عليه وسلم) ، قرأ أبُو عمرٍو وحمزةُ وعاصم بإظهار النُّون ، وقرأ عيسَى بن عمر (يس) بالنصب تَشبيهاً بأينَ وكيفَ ، وقرأ ابن أبي إسحق (يس) بكسر النُّون تشبيهاً بأمسِ وحذامِ وقِطَامِ ، وقرأ هَارون الأعور بضمِّ النون تشبيهاً بمُنذُ وحيثُ وقطُّ ، وقرأ الآخرَون بإخفاءِ النُّون.
(0/0)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ } ؛ أي الْمُحْكَمِ من الباطل ، وَقِيْلَ : أُحكِمَ بالحلالِ والحرام والأمرِ والنهي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } وذلك أنَّ كفارَ مكَّة قالوا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم : لَسْتَ مُرْسَلاً ، فأقسمَ اللهُ تعالى بالقرآنِ الحكيم إنَّكَ مُرسَلٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ يعني دينِ الإسلامِ وطريقِ الأنبياء عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ الذين مَضَوا قبلَكَ.
(0/0)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
وقولهُ تعالى : { تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } ؛ أي هو تنْزِيلُ العزيزِ في مُلكهِ ، الرحيمِ بخلقهِ ، قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : هَذا الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ). وقولُ ابنِ عامر وأهلِ الكوفة (تَنْزِيلَ) بالنصب على المصدر ، كأنَّهُ قَالَ : ونزَّلَ تَنْزِيلاً.
(0/0)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
وقولهُ تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } ؛ مُتَّصلٌ بقولهِ { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ ؛ أي لتُنذِرَ قَوماً لم يأْتِهم نذيرٌ قبلَكَ ؛ لأنَّهم كانوا في الفَترَةِ وهو معنى قولهِ : { فَهُمْ غَافِلُونَ } ؛ أي عن حُجَجِ التَّوحيدِ وأدلَّةِ البعثِ ، وَقِيْلَ : { فَهُمْ غَافِلُونَ } عن أمرِ الآخرةِ.
(0/0)
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } ؛ أي لقد حقَّتْ كلمةُ العذاب على أهلِ مكَّة لكثرة كفرهم فهم لا يُصدِّقون ، وهذا إخبارٌ عن علمِ الله فيهم أنَّهم لا يُؤمنون ، فقُتِلوا يومَ بدرٍ على الكُفرِ.
(0/0)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
وقولهُ تعالى : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } ؛ أي في أعناقِهم وأيمانِهم أغْلاَلاً ، ولَم يذكُرِ الأَيمانَ في الآيةِ لأنَّ الكلامَ دليلٌ عليهِ ؛ لأن الغُلَّةَ لا يكون في العنُقِ دون اليدِ ، ولا في اليدِ دون العنُقِ ، وإنما تُغَلُّ الأيدي إلَى الأعناقِ. وقولهُ تعالى : { فَهِىَ إِلَى الأَذْقَانِ } ؛ كنايةٌ عن الأيدِي دون الأغلالِ ، وقولهُ تعالى : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } ؛ أي رَافِعُوا رؤوسِهم ، والْمُقْمَحُ : الرافعُ رأسَهُ الغاضُّ بصرَهُ.
واختلَفُوا فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ ، فرُوي عن ابنِ عبَّاس : (أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْكُفَّارِ فِيْهِمْ أبُو جَهْلٍ ، تَوَاطَؤُا عَلَى أنْ يَقْتُلُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا رَأوْهُ يُصَلِّي ، وَحَلَفَ أبُو جَهْلٍ أنَّهُ إذا رَآهُ يُصَلِّي لَيَدْمَغَنَّهُ بالْحَجَرِ ، فَأَتَوْهُ يَوْماً وَهُوَ يُصَلِّي ، فَجَاءَهُ أبُو جَهْلٍ وَمَعَهُ الْحَجَرُ ، فَرَفَعَ الْحَجَرَ لِيَدْمَغَنَّ بهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَيَبسَتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ وَالْتَزَقَ الْحَجَرُ إلَى يَدِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إلَى أصْحَابهِ خَلَّصُواْ الْحَجَرَ ، فَأَخْبَرَهُمْ بأَمْرِ الْحَجَرِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُغِيرَةَ : أنَا أقْتُلُهُ! وَأخَذ الْحَجَرَ وَدَنَا مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَطَمَسَ اللهُ عَلَى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَتَهُ).
فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ؛ أي جعَلنا من بين أيدِيهم غطاءً وسَدّاً ومِن خلفِهم كذلكَ فأَغْشَينا أبصارَهم حتى لم يَرَوا.
قال الفرَّاءُ : (مَعْنَى أغْشَيْنَا : ألْبَسْنَا أبْصَارَهُمْ غِشْوَةً أيْ عَمًى) ، وعن ابنِ خُثَيم قالَ : (سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقْرَأُ (فَأَعْشَيْنَاهُمْ) بالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ) ، ورُوي ذلك عن ابنِ عبَّاس أيضاً ، وقال الحسنُ : (هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ) وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا حَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ أرَادُواْ مِنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا كَمَنْ غُلَّتْ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ لاَ يُمْكِنُهُ أنْ يَبْسُطَهَا إلَى شَيْءٍ ، وَهُوَ طَافِحٌ رَأسُهُ لاَ يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ ، قَدْ سُدَّ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ فِي الذهَاب وَالرُّجُوعِ.
(0/0)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } ؛ أي مَن أضَلَّهُ اللهُ هذا الضلالَ لم ينفعْهُ الإنذارُ ، { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } ؛ معناهُ : إنما ينفع الإنذارُ مَن اتَّبعَ القرآنَ ، { وَخشِيَ الرَّحْمـانَ بِالْغَيْبِ } ؛ أي وخافَ من اللهِ بحيث لا يراهُ ، { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } ؛ لذنوبهِ ، { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } ؛ وثوابٍ حسَنٍ في الجنَّة.
(0/0)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } ؛ أي ما أسلَفُوا من الخيرِ والشرِّ ، وقولهُ تعالى : { وَآثَارَهُمْ } ؛ أي خُطَاهُم ، فإنَّ كلَّ خُطوَةٍ في الطاعةِ طاعةٌ ، وكلَّ خطوةٍ في المعصيةِ معصيةٌ. وَقِيْلَ : معنى { وَآثَارَهُمْ } أي ما استَنَّ به مَن بعدَهم ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أجْرُهَا وَأجْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وزْرُهَا وَوزْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ } ؛ أي وكلَّ شيءٍ من الأعمالِ أثبتناهُ في اللوحِ المحفوظِ. وَقِيْلَ : أرادَ بالإمامِ المبين : الصحائفَ التي يكتبُها الملائكةُ ، وسُمي الإمامُ مُبيناً لأنه لاَ يَنْدَرسُ أثرُ مكتوبه.
(0/0)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً } ؛ أي مثل لأهلِ مكَّة مثل ، { أَصْحَابَ القَرْيَةِ } ؛ يعني إنطاكيَّةَ ؛ { إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ } ، رسُل اللهِ تعالى ، { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ }.
وذلك أنَّ عيسى عليه السلام أرسَلَ إلى أهلِ إنطاكيَّةَ رسُولَين من الحواريِّين ليدعُوهم إلى عبادةِ الله تعالى. وإنَّما أُضيفَ الإرسالُ في الآيةِ إلى اللهِ تعالى لأنَّ إرسالَهُ كان بأمرِ الله تعالى.
(0/0)
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَـانُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }
والقصَّةُ : أنَّ عيسَى عليه السلام لَمَّا بعثَ الرسولَين إلى أنطاكيَّة وقَرُبَا من المدينةِ ، وجَدَا شيخاً كَبيراً يرعَى غُنَيمَاتٍ له وهو حبيبُ النجَّار فسَلَّما عليه ، فقالَ لَهما : مَن أنتُما ؟ قالاَ : رسُولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكم إلى عبادةِ الله تعالى ، قالَ : هل معَكُما آيةٌ ؟ قالاَ : نَعَمْ ؛ نَشفِي المريضَ ونُبرِئُ الأكْمَهَ وَالأبرصَ بإذنِ الله تعالى. فقالَ الشيخُ : إنَّ لِي إبناً مَريضاً صاحبَ فِرَاشٍ منذُ سِنينَ ، قالاَ : فَانطَلِقْ بنا إليهِ.
فانطلقَ بهما إليه ، فمَسَحا ابنَهُ فقامَ من ساعتهِ صَحيحاً بإذنِ الله تعالى. ففشَا الخبرُ في المدينةِ ، وشفَى اللهُ على أيدِيهما كَثيراً من المرضَى ، وآمَنَ حبيبُ النجَّار ، وجعلَ يعبدُ اللهَ تعالى في غار جَبَلٍ في أبعدِ أطرافِ المدينة.
فسمعَ الملِكُ بخبرِ هذين الرَّسولَين ، وكان يعبدُ الأصنامَ ، فدعَا لَهُما فأتياهُ ، فقالَ لَهما : مَن أنتُما ؟ قالاَ : رسولاَ عيسَى عليه السلام ندعُوكَ إلى عبادةِ الله تعالى ، قال : وما آيتُكما ؟ فقالاَ : نُبرِئُ الأكمَهَ والأبرصَ ، فغَضِبَ الملِكُ وأمرَ بهما فحُبسَا ، وجُلِدَ كلُّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ.
فلمَّا كُذِّبَ الرسُولاَنِ ، بعثَ عيسى رسُولاً ثالثاً يقالُ له : شَمعون المصفِّي على إثرِهما لينصُرَهما ، فدخلَ شمعونُ البلدَ متنكِّراً ، وجعلَ يعاشِرُ حاشيتَهُ حتى أفشَوا به ، فرُفِعَ خبرهُ الى الملِكِ فدعاهُ فأكرمَهُ وأنِسَ بهِ. فقالَ له ذاتَ يومٍ : أيُّها الملِكُ ؛ بلَغَني أنَّكَ حبستَ رجُلَين في السِّجن وضَربتَهُما حين دعَياكَ الى دينٍ غيرِ دِينكَ ، فهل كلَّمْتَهما وسمعتَ قولَهما ؟ قالَ : لاَ ، قالَ : فإنْ رأى الملِكُ أن يدعوَهُما ويسمعَ قولهما حتى يطَّلِعَ على ما عندهما.
فدعاهُما الملِكُ ، فقالَ لهما شمعونُ : مَن أرسلَكُما ؟ قالاَ : اللهُ الذي خلقَ كلَّ شيءٍ وليس له شريكٌ. فقالَ لهما شمعون : صِفَاهُ وأوجِزَا ، فقالاَ : إنه يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ ما يريد. قال شمعونُ : وما آيَتُكما ؟ قَالاَ : ما تَتمَنَّاهُ.
فأمرَ الملِكُ حتى جَاؤُا بغُلامٍ مطمُوسِ العَينَينِ ، موضعُ العينين كلٌّ لجِهَةٍ ، فمَا زالاَ يدعُوَان اللهَ حتى انشقَّ موضعُ البصرِ ، ثم أخذا بَندُوقَتَيْنِ فوُضِعَتا في الحدَقَتَين ، فصارَتا مُقْلَتَيْنِ يبصرُ بهما ، فعَجِبَ الملِكُ من ذلك.
فقال شمعونُ للملِك : إنْ سألتَ إلَهكَ أن يصنعَ مثل هذا ، فصَنَعَهُ كان لكَ ولآلهتكَ الشرفُ. فقال الملِكُ : ليس لِي عَنْكَ سِرُّ أُسِرُّه إليك : إنَّ إلَهنا الذي نعبده لا يسمعُ ولا يبصر ولا ينفعُ.
ثم قالَ للمرسُولِين : إنَّ هنا مَيِّتاً ماتَ منذُ سبعةِ أيَّام ، فلم أدفِنْهُ وأخَّرتُه حتى يرجعَ أبوهُ ، وكان أبوهُ غائباً ، فإن قَدِرَ إلَهُكما على إحيائهِ آمنتُ بهِ.
(0/0)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } ؛ وذلكَ أنَّهم لَمَّا قتلوهُ وغَضِبَ اللهُ عليهم وعجَّلَ لهم العذابَ ، ومعنَى الآية : وما أنزَلنا على قومِ حبيب بإهلاكِهم من جُندٍ من السَّماء يعني الملائكةَ ؛ أي لَم تنتَصِرْ منهم بجُندٍ من السَّماء ، { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } ولا كُنَّا نُنَزِّلُ ذلك بمَن قبلَهم من الأُمَم إذا أهلكنَاهم.
ثم بيَّن اللهُ تعالى كيف كانت عقوبتُهم وعذابُهم فقالَ تعالى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } ؛ أي ميِّتون لا يتحرَّكُ منهم أحدٌ. قال المفسِّرون : أخذ جبريلُ بعضادتي باب المدينةِ وصاحَ بهم صيحةً واحدةً ، فتطايرَت قلوبُهم فإذا هم ميِّتون ، ولم يُسمَعْ لهم حِسٌّ ، كالنار إذا طُفِئَتْ.
(0/0)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ قال مقاتلُ : (يَا نَدَامَةَ عَلَيْهِمْ فِي الآخِرَةِ باسْتِهْزَائِهِمْ بالرُّسُلِ فِي الدُّنْيَا). وَالْحَسْرَةُ : أن يركبَ الإنسانُ مِن شدَّةِ اللَّومِ ما لا نِهايةَ بعدَهُ حتى يبقَى قلبُه حَسِيراً ، والعربُ إذا دعَتْ نكرةً موصولةً بشيء آثرَتِ النصبَ ، تقولُ : يا رجلاً كريماً أقْبلْ. ثُم بيَّن اللهُ تعالى سببَ الحسرةِ فقالَ : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }.
(0/0)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ؛ معناهُ : ألَمْ يَرَ أهلُ مكَّة كم أهلَكنا قبلَهم من الأُمَمِ الماضيةِ فخَافُوا أن يُعجَّلَ لهم في الدُّنيا مثلُ ما عُجِّلَ لغيرِهم وهم يعلمون أنَّهم لا يُعادون إلى الدُّنيا أبَداً.
(0/0)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ؛ أي وما كلٌّ منهم إلاَّ لدنيا مُحضَرُونَ في أرضِ الْمَحشَرِ للحساب والجزاء ، هذا على قراءةُ مَن قرأ (لَمَّا جَمِيعاً) بالتشديدِ, وهي قراءةُ ابنِ عامر وعاصمٍ وحمزة ، وأما على قراءةِ مَن قرأ بالتخفيفِ فإن (مَا) صلةٌ مؤكِّدة ، فإن (إنْ) للإثباتِ كأنه قالَ : وإنْ كلٌّ لَجميعٌ لدَينا مُحضَرون.
ثم وعظَ اللهُ كفارَ مكَّة ليعتَبروا فقالَ تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا } ؛ أي وعلامةٌ لَهم تدلُّهم على التوحيدِ والبعث ، الأرضُ الْمَيْتَةُ اليابسةُ التي لا نباتَ فيها ولا شجرَ { أَحْيَيْنَاهَا } بإخراجِ الأشجار والزُّروعِ ، { وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } ، ما يُقْتَاتُ من الحبوب جمعِ الحب ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ } ؛ أي في الأرضِ بساتين ، { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ } ؛ أي من عُيونِ الماءِ.
(0/0)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } ؛ أي من ثَمر النخيلِ والأعناب على اختلاف طُعومِها وألوانِها ، فيستدِلُّوا بذلك على قُدرةِ الله تعالى. قرأ الأعمشُ (ثُمْرِهِ) بضمِّ الثاء وسُكونِ الميمِ, وقرأ طلحةُ ويحيى وحمزة والكسائي وخلف (ثُمُرِهِ) بضمِّ الثاء والميمِ ، وقرأ الباقون بفتحِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } ؛ أي وما عملَتْ أيديهم شَيئاً مما ذكرناهُ ، وإنما هو مِن فعلِنا ، { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ؛ نِعَمَ اللهِ ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : ليأكلُوا من ثَمَرهِ ومِن ثَمَرِ ما عملَتْ أيديهم ، يعني الغرُوسَ والحرْثَ.
قرأ أهلُ الكوفة (وَمَا عَمِلَتْ) بغير هاءٍ ، ويجوزُ في (مَا) ثلاثةُ أوجهٍ : النفيُ بمعنى ولَمْ تعمَلْ أيديهم ؛ أي وجدُوها معمولةً فلا صُنْعَ لَهم فيها ، وهذا قولُ الضَّحاك ومقاتل. والثانِي : أن يكون بمعنَى المصدر ؛ أي ومِنْ عَمَلِ أيدِيهم. والثالث : بمعنى (الَّذِي) أي ومِن الذي عمِلت أيديهم من الغَرْسِ والحرثِ. ومَن قرأ (عَمِلَتْهُ) بالهاءِ ، فالهاءُ عائدةٌ على (مَا) التي بمعنى الذي.
(0/0)
سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أي سُبحان الذي خلقَ الأصنافَ كلَّها من أجناسِ الفواكهِ والحبوب ، وأصنافِ ما تُنبتُ الأرضُ من الحلوِ والحامض والأبيضِ والأحمر وغيرِ ذلك من الطُّعوم والألوانِ. وقولهُ تعالى : { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } أي وخلَقَ من أنفُسِهم الذُّكرَانَ والإناثَ. وقوله تعالى : { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } أي وخلقَ في البرِّ والبحرِ وأجوافِ السَّموات والأرضِ من جميع الأنواعِ والأشياء.
(0/0)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } ؛ أي وعلامةٌ لَهم أُخرى تدلُّ على قُدرَتِنا ، الليلُ المظلم يُنْزَعُ منه النهارُ فإذا هم داخِلون في الظَّلام ، وذلك أنَّ الأصلَ هو الظُّلمةُ ، والنهارُ داخلٌ عليها لأنَّ الله خلقَ الدُّنيا مظلمةً ، فإذا طلَعتِ الشمسُ صارت الدُّنيا مضيئةً تشبهُ ضوءَ النهار باللِّباس ، فإذا ذهبَ الضوءُ بغُروب الشمسِ كان ذهابُ ذلك بمنْزِلة سَلْخِ جلدِ الشَّاة عن الشاةِ ، وسلخِ الثوب الرجُل عن الرجلِ ، والمعنى : إذا غربَتِ الشمسُ سُلِخَ النهارُ من الليلِ أن كشفَها فأُزيلَ فتظهرُ الظُّلمة.
(0/0)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } ؛ معناهُ : وآيةٌ لهم { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } أي إلى مُستَقَرٍّ لها وهو آخرُ مدَّة الدنيا ثم تجرِي بعدها ، ويقالُ : مستقرُّها منازلُها إذا انتهت الى أقصَى منازلها التي لا تجاوزُها في الصيفِ رجَعت ، ويقالُ : سمعت منازلَها مستقرَّها ، كما يقالُ في منْزِل الرجلِ : هو مُستَقَرُّهُ ، وإن تصَّرَفَ فيه وتحرَّكَ.
وعن أبي ذرٍّ قال : " سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا } قالَ : " مُسْتَقَرُّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ؛ أي ذلك الذي سبَقَ ذِكرهُ تقديرُ العزيزِ في مُلكهِ ، العليمُ الذي لا يخفَى عليه شيءٌ. وفي قراءةِ ابن عبَّاس : (تَجْرِي لاَ مُسْتَقَرَّ لَهَـا) أي لا قرارَ لها فهي جاريةٌ أبداً ما دامت الدُّنيا.
(0/0)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } ؛ قرأ نافعُ وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (وَالْقَمَرُ) بالرفعِ عطفاً على قولهِ{ وَالشَّمْسُ تَجْرِي }[يس : 38] ، وَقِيْلَ : على الابتداءِ ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى وقدَّرناهُ القمرَ وقدَّرنا منازلَ ، كما تقولُ : زيداً ضربتهُ.
والمعنى : قدَّرنا له منازلَ ينْزِلُ في كلِّ ليلة منْزِلَةً ، وجملةُ منازلِ ثمانيةٌ وعشرون ، فإذا صارَ إلى آخرِ منْزِله وهي ليلةُ ثَمانٍ وعشرين ، { حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ } ؛ وهو عذْقُ النخلةِ الذي فيه الشَّمَاريخُ إذا يَبسَ ، ولأن العُذْقَ إذا مضَت عليه الأيامُ جفَّ وتقوَّسَ ويَبسَ ودقَّ واصفرَّ وصار شبهَ الأشياءِ بالقمر في أوًّل الشهرِ ، وآخره ، لا يقدرُ على ذلك إلاَّ اللهُ تعالى.
(0/0)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ } ؛ يعني أنَّ الشمسَ أبطأُ مَسِيراً من القمرِ فلا تدركهُ ، وذلك أنَّ الشمسَ تقطعُ منازلَها في سنةٍ ، والقمرَ يقطعُ منازلَهُ في شهرٍ ، وهما مسخَّران مقهوران على ما ذكرَهُما اللهُ تعالى.
ويقالُ معنى قولهُ : { لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ } أي لا يدخلُ النَّهارُ على الليلِ قبلَ انقضائهِ ، ولا يدخلُ الليلُ على النهار قبلَ انقضائهِ ، كلاهُما يَسِيران دائِبَين ، ولكلٍّ حدٌّ لا يعدوهُ ولا يقصُر دونَهُ ، فإذا جاءَ سُُلطان هذا ذهبَ ذلك ، فإذا جاءَ سلطانُ ذلك ذهبَ هذا ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ } ؛ أي لا تتأخَّرُ الشمسُ عن مجرَاها ، فتسبقُ ظلمةُ الليلِ في وقتِ النَّهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ؛ أي كلٌّ مِن الشمسِ والقمرِ والنُّجومِ الغَاربَةِ والطَّالعةِ في فَلَكٍ يَسِيرُونَ ويَجْرُونَ بالأبْسَاطِ. والفلَكُ : هو مواضعُ النجومِ من الهواءِ ؛ أي الذي يجرِي فيه ، سُمِّي بهذا الاسمِ لأنه يدورُ بالنجومِ ، ومنه فُلْكَةُ الْمِغْزَلِ لأنَّها تدورُ بالمغزلِ.
(0/0)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } ؛ معناهُ : وآيةٌ لَهم أُخرى يعني أهلَ مكَّة تدلُّهم على توحيدِ الله تعالى : أنَّا حَمَلنا ذُرِّيَتَهُمْ في السَّفينةِ المملوءةِ ، وهي سفينةُ نُوحٍ عليه السلام ، وذريَّتهُ في كلامِ العرب : الآباءُ والأبناء والأجدادُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } ؛ أي وخلَقنا لهم مثلَ سفينةِ نُوحٍ عليه السلام ما يركَبُون فيه على البحرِ ، يعني السُّفنَ التي عُملت بعدَ سفينةِ نوحٍ عليه السلام على هيأَتِها وصُورَتِها.
(0/0)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } ؛ أي أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكَرَ تفَضُّلَهُ أنَّهُ يحفَظُهم ، ولو شاءَ أغرقَهم فلم يُغنِهم أحدٌ ولم يُنقِذْهُم من الغرقِ ، ومعنى قولهِ تعالى : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } أي فلا مُغِيثَ لَهم ، { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } ؛ من المكروهِ والغرَقِ.
والصَّرِيخُ : بمعنى الصَّارخِ لهم بالاستغاثةِ. وَقِيْلَ : الصَّريخُ الْمُعِينُ على الصُّراخ ، كأنه قالَ : فلا مُعينَ لَهم { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } أي ولا هم يُخَلَّصُون من الغرقِ ، { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } ، إلاّ أنْ تدارَكَهم رحمةُ اللهِ فتنقذهم إلى حين آجالِهم.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } ؛ أي وإذا قِيْلَ لهؤلاءِ الكفار اتَّقُوا ما بين أيدِيِكم من أمرِ الآخرةِ فاعملُوا لها ، وما خلفَكم من أمرِ الدُّنيا. فاحذرُوهم ولا تغتَرُّوا بها ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ أي لتكونُوا على رَجَاءِ الرحمةِ من اللهِ تعالى ، وجوابُ (إذا) محذوفٌ تقديرهُ : إذا قيلَ لهم هذا أعرَضُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } ؛ من عِبرَةٍ ودلالةٍ تدلُّ على صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ } ؛ قال مقاتلُ : (وَذلِكَ أنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّار قُرَيشٍ : أنْفِقُواْ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين مَا زَعَمْتُمْ مِنْ أمْوَالِكُمْ أنَّهُ للهِ ، وَهُوَ مَا جَعَلُوهُ مِنَ حُرُوثِهِم وَأنْعَامِهِمْ للهِ ، فَقَالَ الْكُفَّارُ : أنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أطْعَمَهُ وَرَزَقَهُ).
قال الحسنُ : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أهْلَ إجْبَارٍ ، فَقَالَُواْ : لَمْ يَشَأ اللهُ أنْ نُطْعِمَهُ ، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لأَطْعَمْنَاهُ). ويقال لهم : ظَنُّوا بجهلِهم أنه تعالَى إذا كان قَادراً على أن يُطعِمَهم فُيغنِيَهُم عن إنفاقِ الناسِ ، وهذا القولُ منهم خطأٌ ؛ لأنَّ الله تعالى أغنَى بعضَ الخلقِ وأفقرَ بعضَهم لِيَبلِيَ الغنيَّ بالفقيرِ فيما فرضَ له في مالهِ من الزَّكاة ، والمؤمنُ لا يَعتَرِضُ على المشيئةِ ، وإنما يوافقُ الأمرَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ هذا من قولِ الكفَّار للمؤمنين ، يقولون لَهم : إنْ أنتم في اتِّباعِكم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وتركِ دِيننا إلاَّ في خطأ بيِّنٍ.
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي يقولُ كفار مكَّة : متى هذا الوعدُ الذي تُعِدُنا يا مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم من القيامِ إنْ كنتم صادقِين أنتَ وأصحابُكَ أنَّا نُبعَثُ بعدَ الموتِ فأَرُونِي ذلكَ.
(0/0)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
يقولُ الله تعالى : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } قالَ ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي النَّفْخَةَ الَّتِي تَفْجُرُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فِي أمْرِ الدُّنْيَا وَفِي مُصْرِفَاتِهِمْ) ، والمعنى : تأخذُهم الصيحةُ وهم يختَصِمون في البيعِ والشِّراء ويتكلَّمون في الأسواقِ والمجالسِ ، وهي نفخةُ إسرافيلَ.
قِيْلَ : قرأ ابنُ كثير وورش (يَخَصَّمُونَ) بفتح الخاء وتشديد الصاد ، وقرأ نافعُ غير ورشِ ساكنة الخاء مشدَّدة الصادِ ، وقرأ أبو عمرٍو بالإخفاءِ ، وقرأ حمزةُ ساكنةَ الخاء مخفَّفة ؛ أي فغلبَ بعضُهم بعضاً بالخِصَامِ ، وأجودُ القراءةِ فتحُ الخاءِ مع تشديد الصادِ ، ولأن الأصلَ يختَصِمون فأُلقِيَت حركةُ ألِفِ المدغَمِ على الساكنِ الذي قبلَهُ وهو الخاءُ ، وقرأ الباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصاد.
(0/0)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
وقولهُ تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } ؛ أي فلا يستطيعُ أحدٌ أن يوصِيَ في شيءٍ من أمرهِ ، { وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } ؛ أي ولا يلبثُ أحدٌ أن يصيرَ إلى منْزِله وأهلهِ ؛ لأنَّها تأخذُهم بغتةً فيمُوتون في مكانِهم وفي أسواقِهم.
قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ نَشَرَ الرَّجُلاَنِ ثَوْباً جَدِيداً يُرِيدُ أحَدُهُمَا أنْ يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبه فَيَحُولُ قِيَامُ السَّاعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدْ أهوَى الرَّجُلُ بلُقْمَةِ لِيَضَعَهَا فِي فِيْهِ فَيَحُولُ قِيَامُ السَّاعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وُصُولِهَا إلَى فِيْهِ ".
(0/0)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
وقولهُ تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } ؛ أي ونُفَخَ في الصور نفخةَ البعثِ ، فإذا هُم من القبور الى عرَصَاتِ القيامةِ يخرُجون مُسرِعين ، والنَّسَلاَنُ مقاربَةُ الخطوِ مع الإسراعِ ، ومنه نَسَلاَنُ الذِّئب وهو هَروَلَتُهُ وخببه ، والأجداثُ هو القبورُ.
(0/0)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
وقوله تعالى : { قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ؛ قال المفسِّرون : إنَّما يقولُون هذا ؛ لأنَّ الله يرفعُ عنهم العذابَ فيما بين النَّفخَتين فيرقُدون ، فلما بُعِثُوا في النفخةِ الآخرةِ وعَايَنُوا القيامةَ ودَعوا بالويلِ والثُّبور ، فقالوا : يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ؟ فيقولُ الملائكة : { هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمـانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } ؛ على ألْسِنَةِ الرُّسل يبعثُكم بعد الموتِ في موعدِ البعثِ.
وقال قتادةُ : (أوَّلُ الآيَةِ لِلْكَافِرِينَ وَآخِرُهَا لِلمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ الْكَافِرُ : يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ : هَذا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ). ويجوزُ أن يكون قولهُ هذا من نعتِ الْمَرْقَدِ ، كأنَّهم يقولون : مَن بعثَنا من مرقدِنا هذا الذي كُنَّا راقدين فيهِ ؟ فيقالُ لَهم : ما وعدَ الرحمنُ الذي بعثَكم. ويجوزُ أن يكون ما وعدَ الرحمنُ على هذا القولِ خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرهُ : حقٌّ ما وعدَ الرحمنُ ، وهذا ما وعدَ الرحمنُ.
(0/0)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ؛ هذا في النفخةِ الثانية ؛ أي ما كانت نفخةُ البعثِ إلاّ صيحةً واحدةً لا تُثَنَّى ، فإذا هم الأوَّلُون والآخرون في عرَصَات القيامةِ مُحضرَون ، فإهلاكُهم كان صيحةً واحدة ، وبعثُ الخلائقِ كلّهم كان صيحةً واحدة.
(0/0)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ؛ أي لا ينقَصُ من حسناتِ أحدٍ ولا يُزادُ على سيِّئات أحدٍ ، { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، ولا يُجزَى كلُّ عاملٍ إلاَّ ما عَمِلَ من خيرٍ أو شرٍّ.
(0/0)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } ؛ معناهُ : إن أصحابَ الجنَّة في الآخرةِ في شُغُلٍ فَاكِهُونَ. قرأ ابنُ كثير ونافعُ وأبو عمرٍو بجزمِ الغَينِ ، وقرأ الباقون (فِي شُغُلٍ) بضمِّ الغينِ ، وهما لُغتان مثلُ : السُّحُتِ وَالسُّحْتِ.
واختلفَ المفسِّرون في شُغلِهم ، قال مقاتلُ : (شُغِلُوا بافْتِضَاضِ الْعَذارَى عَنْ أهْلِ النَّار فَلاَ يَذْكُرُونَهُمْ وَلاَ يَهْتَمُّونَ بهِمْ). وقال الحسنُ : (شُغِلُوا بمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ النِّعَمِ عَنْ مَا فِيْهِ أهْلُ النَّار مِنَ الْعَذاب).
وعن أبي سعيد الخدريِّ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا جَامَعُوا نِسَاءَهُمْ عُدْنَ أبْكَاراً " قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاكِهُونَ } أي أصحابُ فاكهةٍ ، كما يقالُ : شَاحِمٍ لاَحِمٍ ؛ أي ذُو شحمٍ ولحم ، وعاسِلٍ ذو عَسلٍ ، وقرأ أبو جعفر (فَكِهُونَ) بغيرِ ألفٍ ، والفَكَهُ : الفرِحُ الضَّحُوكُ ، الطيِّبُ النفسِ ، ويقالُ : فَاكِهٌ وَفَكِهٌ كحَاذِرٍ وَحَذِرٍ.
(0/0)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ } ؛ أي هُم وحَلائِلُهم في ظِلاَلِ أشجار الجنَّة ، { عَلَى الأَرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ } ، على السُّرُر في الحجَالِ جالسُون بالاتِّكَاءِ جلسة الْمُلوكِ. والأرائِكُ : هي السُّرُرُ عليها الحجَالُ ، وقولهُ تعالى : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ } ؛ أي لَهم في الجنَّة ألوانُ الفواكهِ ، { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } ؛ أي ولَهم ما يتمنُّون ويسأَلُون ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : وَلَهُمْ مَا يُرِيدُونَ). وَقِيْلَ : معناهُ : مَن ادَّعى شيئاً فهو لهُ يحكمُ الله عَزَّ وَجَلَّ لأنَّهم ما يدَّعون إلاَّ ما يحسنُ.
(0/0)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
وقوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } ؛ أي لهم سَلامٌ يسمعونَهُ من اللهِ ، ويُعلِمُهم بدوامِ الأمنِ والسلامة مع سُبوغِ النعمة والكرامةِ. ويقالُ : تُحَيِّيهم الملائكةُ عن اللهِ تعالى ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم }[الرعد : 23-24].
وعن جابرِ بن عبدِالله قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " بَيْنَمَا أهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ إذا سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ ، فَيَرْفَعُوا رُؤُوسَهُمْ ، فإذا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أشْرَفَ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ، فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } فَيَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ ، فَلاَ يَلْتَفِتُواْ إلَى شَيْءٍ مِنَ النَّعِيمِ مَا دَامُوا يَنْظُرُونَ إلَيْهِ حَتَّى يُحْجَبَ عَنْهُمْ ، فَيَبْقَى نُورُهُ وَبَرَكَتُهُ عَلَيْهِمْ فِي دِيَارهِمْ ".
(0/0)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } ؛ عناهُ : تفرَّقُوا ، وقال السديُّ : معناهُ : (كُونُوا عَلَى حِدَةٍ) ، ومقاتلُ : (مَعْنَاهُ : اعْتَزِلُواْ الْيَوْمَ يَعْنِي فِي الآخِرَةِ مِنَ الصَّالِحِين). وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : تَفَرَّدُواْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ). ومعنى الآيةِ : أنه يقالُ للمُجرِمين : تَمَيَّزُوا عنِ المؤمنين ، وذلك أنَّ الخلقَ كلَّهم يُحشَرون مختلطِين.
(0/0)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِي ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ } ؛ أي ألَمْ آمُرْكُم وأُوصِ إليكم ، وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : ألَمْ أُقَدِّمْ لَكُمْ عَلَى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ يَا بَنِي آدَمَ أنْ لاَ تَعْبُدُواْ الشَّيْطَانَ ، أيْ لاَ تُطِيعُواْ الشَّيْطَانَ ، وَمَنْ أطَاعَ شَيْئاً فَقَدْ عَبَدَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي عدوٌّ ظاهرُ العداوةِ ، أخرجَ أبوَيكم من الجنَّة ، { وَأَنِ اعْبُدُونِي } ؛ أي أطِيعُونِي ووحِّدونِي ، { هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ؛ أي طريقٌ مستقيم قائمٌ ، يعني دينَ الإسلامِ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } ؛ أي ولقد أضَلَّ الشيطانُ منكم أُمَماً كثيرةً ، وَقِيْلَ : خَلْقاً كثيراً.
قرأ عليٌّ رضي الله عنه (جِبْلاً كَثِيراً) بسكون الباءِ مخفَّفاً ، وقرأ عاصمُ ونافع وأيوب : (جِبلاًّ) بكسرِ الجيم والباءِ وتشديد اللامِ. وقرأ يعقوبُ بضمِّ الجيمِ والباء وتشديدِ اللام ، وقرأ ابنُ عامرٍ وأبو عمرو : (جُبْلاً) بضمِّ الجيمِ وسكون الباء مخفَّفاً ، وقرأ الباقون بضمِّ الجيمِ والباء وتخفيفِ اللام. وكلُّها لغاتٌ ، ومعناها الخلقُ والجماعةُ.
وقولهُ تعالى : { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } ؛ أي أفَلَم تعقِلُوا ما رأيتُم من الأُمَم إذ أطَاعُوا إبليسَ وعَصَوا الرَّسُولَ فأهلَكُواْ.
(0/0)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ؛ أي يقالُ لَهم حين دَنَوا من النار : { هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ؛ أي إلزَمُوها اليومَ بكُفرِكم ، وقَاسُوا حرَّها ، وقولهُ تعالى { الْيَوْمَ } يعني يومَ القيامةِ.
(0/0)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
وقولهُ تعالى { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ } ؛ وذلك أنَّهم يُنكِرُون الشِّركَ فيقولون : واللهِ ربنا ما كُنَّا مُشرِكين ، فيختِمُ اللهُ على أفواهِهم ، { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ } ؛ وتكلَّمت جوارحُهم فشَهِدَتْ عليهم بما عَمِلوا ، وقولهُ تعالى : { وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ قال عقبةُ بن عامرٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أوَّلُ عَظْمٍ يَنْطِقُ مِنَ الإنْسَانِ فَخِذُهُ مِنْ رجْلِهِ الشِّمَالِ " ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " أوَّلُ مَا تَكَلَّمَ مِنَ الإنْسَانِ فَخِذُهُ وَكَفُّهُ ".
(0/0)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
وقولهُ تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ } ؛ أي ولو نشاءُ ذهَبنا أعيُنَهم وجعلنَاها بحيث لا يبدُو لها شِقّاً ولا جِفْناً ، والمعنى : ولو نشاءُ لأعمَيناهُم في أسواقِهم ومجالسِهم بتكذيبهم إيَّاكَ يا مُحَمَّدُ كما فعَلنَا بقومِ لُوطٍ حين رَاوَدُوهُ عن ضَيفهِ. وقولهُ تعالى : { فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ } ؛ فغَلَبُوا السَّبقَ وتبادَرُوا إلى الطريقِ إلى منازلهم ، { فَأَنَّى يُبْصِرُونَ } ؛ لو فعَلنا ذلك بهم.
(0/0)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
وقولهُ تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَـانَتِهِمْ } ؛ أي في منازلهم فصيَّرناهم قردةً وخنازيرَ وحجارةً ليس فيها روحٌ ، { فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } ؛ أي لا يقدِرُون على ذهابٍ ومجيءٍ ، والْمَسْخُ في اللغة نِهَايَةُ التبديل.
(0/0)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قولهُ : { وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّـسْهُ فِي الْخَلْقِ } ؛ أي ومَن نُطوِّلُ عُمرَهُ في الدُّنيا نردهُ إلى الحالةِ الأُولى من الضَّعفِ ، قال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : مَنْ أطَلْنَا عُمُرَهُ نَكَّسْنَا خَلْقَهُ ، فَصَارَ بَدَلُ الْقُوَّةِ ضَعْفاً ، وَبَدَلُ الشَّبَاب هَرَماً) { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ؛ أي القادرَ على ردِّ البشرِ من حالة القوَّة والكمالِ ؛ أي حالِ الضَّعفِ وزوالِ العقل ، قادرٌ على إعادةِ الخلقِ بعد الموت.
ومَن قرأ (تَعْقِلُونَ) بالتاءِ فهو على مُخاطَبة الكفارِ. قرأ عاصمٌ وحمزة والأعمش : (نُنَكِّسْهُ) بالتشديدِ ، وقرأ غيرُهم بالتخفيفِ وفتح النونِ.
(0/0)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } ؛ إن كفارَ مكَّة قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنه شاعرٌ ، وإنَّ القرآنَ شِعرٌ ، فأكذبَهم اللهُ بقولهِ تعالى { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي وما يتسهلُّ له ذلك ، وما كان يتَّزِنُ له بيتُ شِعرٍ جرَى على لسانهِ مُنكِراً.
قال الحكيمُ : (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثَّلُ بقَوْلِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَرْدَاسَ : أتَجْعَلُ نَهْبي وَنَهْبَ الْعُب دِ بَيْنَ الأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا هُوَ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ ، فَقَامَ إلَيْهِ أبُو بَكْرٍ وَقَبَّلَ رَأسَهُ وَقَالَ : صَدَقَ اللهُ { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ }.
وعن الحسنِ رضي الله عنه : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَتَمَثَّلُ بهَذا الْبَيْتِ : " كَفَى بالإسْلاَمِ وَالشَّيْب نَاهِياً " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا قَالَ الشَّاعِرُ (كَفَى الشَّيْبُ وَالإسْلاَمُ لِلْمَرْءِ نَاهِياً) فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ } ".
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ " أنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَثُّلُ بشَيْءٍ مِنَ الْشِّعْرِ ؟ فَقَالَتْ : كَانَ الشِّعْرُ أبْغَضَ الْحَدِيثِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَتَمَثَّلْ بَيْتاً مِنَ الشِّعْرِ إلاَّ بَيْتَ طُرْفَةَ : " سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأْتِيكَ مَنْ لَمْ تُزَوِّد بالأَخْبَار ". فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : لَيْسَ هَذا هَكَذا يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّمَا هُوَ : وَيَأْتِيكَ بالأَخْبَار مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ ، فَقَالَ : " إنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ وَمَا يَنْبَغِي لِيَ الشِّعْرُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } ؛ أي ما القرآنُ إلاَّ ذكرٌ وموعظة ، فيه الفرائضُ والحدود والأحكامُ ، { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } ؛ قرأ نافعُ وابن عامر بالتاءِ ، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ الباقون بالياءِ ، يعني ليُنذِرَ القرآنُ مَن كان حيّاً ، يعني مُؤمِناً حيَّ القلب ، لأن الكافرَ كالميِّتِ في أنه لا يتدبَّرُ ولا يتفكَّرُ ، { وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } ؛ أي وتجبُ الحجَّةُ بالقرآنِ على الكافرين.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } ؛ معناهُ : أوَلَم يُشاهِدوا أنَّا خلَقْنا لَهم مما توَلَّينا خلقَهُ بإيداعِنا وإنشائنا ؟ لم يُشاركنا في خلقِ ذلك شريكٌ ولا مُعِينٌ. وذكرُ الأيدِي هَهُنا يدلُ على انفرادهِ بما خلقَ ، والمعنى أوَلَمْ يرَوا أنَّا خلَقْنا لَهم مما عمِلناهُ بقدرَتِنا ؟ لا مما عملتْهُ أيدي مالكِيها أنعاماً وهو الإبلُ والبقر والغنم لها مالِكون وضابطون ، قاهرون لها يصرِّفونَها كيف يشاوُؤن ، واليدُ تُذكَرُ ويرادُ بها القدرةُ وإظهار صُنعهِ.
(0/0)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } ؛ أي لَم يخلُقِ الأنعامَ نافرةً من بني آدمَ ولا يقدِرون على ضَبطِها ، بل هي مسخَّرةٌ لهم ، والمعنى : وسخَّرنَاها لهم مع قوَّتِها وضعفِهم ، { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } ؛ أي مَركُوبُهم ، { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } ؛ من لحومِها ، فقولهُ { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } يعني الإبلَ ، قال عروةُ : (فِي مُصْحَفِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا (رُكُوبَتُهُمْ)) والركُوبُ والركُوبةُ واحدٌ ، مثل الحمُولِ والحمولَةِ ، يقالُ : هذه الجِمَالُ ركوبةُ القومِ وركوبتهم ، وهذه النُّوقُ حلوبةُ القومِ وحلوبُهم.
(0/0)
وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ } ؛ أي مِن أصوافِها وأوبارها وأشعارها ونسلِها ومشارب من ألبانِها ، { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ؛ ربَّ هذه النعمةِ فيُوحِّدونَهُ جميعهم وأفرادهم.
فقالَ : { وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } ؛ أي عَبَدوا من دونِ الله أصناماً رجاءَ أن يَنصرُونَهم ويشفَعُوا لهم ، كما قالُوا : ما نعبدُهم إلاَّ ليُقرِّبُونا إلى اللهِ زُلفَى ، فنفَى اللهُ نصرَهم بقولهِ : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } ؛ أي لا تقدرُ آلِهتُهم أن تَمنعَهم من العذاب ، { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } ؛ أي لهم الأصنامُ كالعبيدِ للأرباب قيامٌ بين أيدِيهم ينتصرون بهم ، والأصنامُ لا تقدرُ على نصرِهم ولا نصرِ أنفسهم. ويجوزُ أن يكون معناهُ : والمشرِكون مُحضَرون من الأصنامِ في النار توبيخاً لَهم وتعذيباً للذين كانوا يَعبُدونَهم. وَقِيْلَ : معناهُ : إن المشركين ينصُرون الأصنامَ وهي لاَ تستطيع نصرَهم.
(0/0)
فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } ؛ أي لا يُحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ قولَ كفَّار مكَّة في تكذيبهم إياكَ وقولِهم إنكَ شاعرٌ ، { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } ؛ في نُفوسِهم من تكذيبهم ومَكرِهم وخيانتِهم ، { وَمَا يُعْلِنُونَ } ؛ لكَ من العداوةِ بألسِنَتهم. والمعنى : إنا نُثَبتُكَ ونُجازيهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } ؛ يعني " أُبيَّ بن خلَفٍ الجمحيِّ خاصمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث ، وأتاهُ بعظمٍ قد بَلِيَ وجعلَ يُفَتِّتَهُ ويُذرِّيهِ في الريَّاحِ ، ويقولُ في أصحابهِ : أيُحيي اللهُ هذا العظمَ بعد ما رمَّ! وبقولِهم : إنَّ مُحَمَّداً يقولُ إذا مِتْنا وصِرْنا تُراباً نُعَادُ ، وتُنفَخُ فينا الروحُ ؛ إنَّ هذا الشيءَ عجيبٌ! مَن يقدرُ أن يُحيي العظامَ وهي رميمٌ؟! ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " يُحيي اللهُ هَذا وَيُمِيتُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
والمعنى : أوَلَمْ يرَ الإنسانُ أنَّا خلقناهُ مع الحياةِ والعقلِ والحواسِّ من نطفةٍ فبلَّغنَاهُ ؛ أي أن صارَ خَصْماً جَدِلاً ظاهرَ الخصومةِ ، وهذا تعجيبٌ من جهلهِ وإنكارٌ عليه خصومتَهُ ؛ أي لا يتفكَّرُ بدءَ خلقهِ.
(0/0)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
وقولهُ تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } ؛ أي ضربَ المثلَ في إنكار البعث بالعظمِ البالِي يفته بيدهِ ، ونَسِيَ خَلقَنا إياهُ وبعدَ أن لَم يكن شيئاً حتى صارَ مُخاصِماً فـ { قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } ؛ أي شيءٌ بالٍ قَاسٍ ، قدَّرَ اللهَ تعالى بقُدرةِ الخلقِ ، فأنكرَ إحياءَ العظم البالِي ما لم يكن ذلك في مقدور البشر.
(0/0)
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد : الذي خلقَ من العدمِ إلى الوجودِ قادرٌ على الإعادةِ بعد المماتِ ، وهو عليمُ بالخلقِ بعد أنْ خلَقَهم.
(0/0)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } ؛ في هذه الآيةِ زيادةُ بيانٍ عن عجيب صُنعهِ ، ومعنى ذلك الزُّنُودُ التي كانت العربُ يُوَرُّونَ منها النارَ ، كانوا إذا احتَاجُوا إلى النارِ أخَذُوا غُصناً من شجرِ الْمَرْخِ وغُصناً من شجرِ العَفَار وهو الأدينُ ، فضَرَبُوا أحدَهما بالآخرِ فخرجت النارُ ، فقيلَ لَهم : إنَّ الذي جمعَ بين الماءِ والنار في الشَّجرِ الأخضرِ قادرٌ على تضادِّهما ، لا يطفئُ الماءُ النارَ ، ولا تحرقُ النارُ الشجرَ ، قادرٌ على أن يبعثَكم ويرُدَّ أرواحَكم إلى أجسادِكم. ويقالُ : ما مِن شجرةٍ إلاَّ وفيها نارٌ غيرَ شجرة العِنَّاب ، ولذلك يختارُها القصَّارون لدقِّ الثياب عليها.
ثُم ذكرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرْضَ } ، ما هو أعظمُ خَلقاً من الإنسانِ فقال : { بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } ؛ معناهُ : إن الذي قَدِرَ على خلقِ السَّموات والأرضِ في عِظَمِهما وعجائبهما يقدرُ على إعادةِ خلقِ البشرِ ؛ لأن خلقَ السَّموات والأرضِ وما فيهما أبلغُ في القدرةِ من إحياءِ الموتَى ، أفَليسَ القادرُ عليهما قادرٌ على الإعادةِ ؟ { بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ } ، يخلقُ خَلقاً بعد خلقٍ ، { الْعَلِيمُ } ، بجميعِ ما خلقَ.
(0/0)
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ؛ معناهُ : إنما أمرهُ إذا أرادَ شيئاً من البعثِ وغيرهِ أن يقولَ له : كُنْ بغيرِ واسطةٍ. فإن قِيْلَ : لِمَ لا ينصبُ قوله تعالى (فَيَكُونُ) على جواب الأمر كما يقالُ : آتِني فأُكرِمَكَ ، قُلنا : ذاك مستقبلٌ مستحبٌّ ، الثانِي : بوجوب الأدنَى ، وهذا كائنٌ مع إرادةِ الله تعالى ، فالفعلُ واجبٌ.
(0/0)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ نَزَّهَ اللهُ تعالى أنْ يوصفَ بغيرِ القدرةِ ؛ أي تنْزِيهاً للَّذي له القدرةُ على كلِّ شيءٍ مِن أن يوصفَ بغيرِ القدرة ، وَ { مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي مَلِكُ كلِّ شيءٍ ، والقدرةُ على كلِّ شيء ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ في الآخرةِ بعدَ الموتِ فيجزِيَكم بأعمالِكم.
(0/0)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2)
{ وَالصَّافَّاتِ صَفَّا } ؛ يعني صُفوفَ الملائكةِ في السَّماءِ كصُفوفِ الخلقِ في الدُّنيا للصَّلاةِ ، وهذا قَسَمٌ أقسمَ اللهُ تعالى بالملائكةِ التي تَصُفُّ أنفُسَها في السَّماء ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ الْمَلاَئِكَةَ صُفُوفاً لاَ يُعْرَفُ كُلُّ مَلَكٍ مِنْهُمْ مِنْ إلى جَانِبه ، لَمْ يَلْتَفِتْ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). وَقِيْلَ : اقسمَ اللهُ بصُفوفِ الملائكةِ تَصُفُّ أجنحتَها في الهواءِ واقفةً فيه حتى يأمُرَ اللهُ بما يريدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً } ؛ أرادَ به الملائكةَ الذين يَزجُرون السَّحابَ فيسُوقُونَهُ إلى الموضعِ الذي أُمِرُوا به ويُؤَلِّفُونَهُ ، وقال قتادةُ : (يَعْنِي زَوَاجِرَ الْقُرْآنِ) وَهُوَ كُلُّ مَا يَنْهَى وَيَزْجُرُ عَنِ الْقَبيحِ.
(0/0)
فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً } ؛ يعني جبريلَ والملائكةَ يَتْلُونَ كتابَ اللهِ وذكره ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ إِلَـاهَكُمْ لَوَاحِدٌ } ؛ جوابُ القسمِ ، وإنما وقعَ القسَمُ بهذه الملائكةِ ؛ لأن في تعظيمِها تَعظِيماً للهِ ، وَقِيْلَ : هذا أقسمَ باللهِ تعالى على تقديرِ : ورب الصافَّات ، إلاَّ أنه حُذفَ لما يقتضِي من التعظيمِ ، وكذلك{ وَالذَّارِيَاتِ }[الذاريات : 1]{ وَالطُّورِ }[الطور : 1]{ وَالنَّجْمِ }[النجم : 1] وغيرِ ذلكَ.
وقد تضمَّنت الآيةُ تشريفَ الملائكةِ وتعظيمَ الاصطفافِ في الصَّلاة ، وفي الحديثِ : " إنَّهُمْ يَصْطَفُّونَ فِي صَلاَتِهِمْ فِي السَّمَاءِ وَيُسَبحُونَ اللهَ تَعَالَى وَيَذْكُرُونَهُ ، وَيَرْفَعُونَ أصْوَاتَهُمْ بقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلاَةِ كَمَا يَصْطَفُّ النَّاسُ فِي صَلاَتِهِمْ " قال مقاتلُ : (وَذَلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُواْ : أجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً وَاحِداً ، فَأَقْسَمَ اللهُ بهَؤُلاَءِ أنَّ إلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ).
(0/0)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } ؛ أي خالقهما ومشيَتِهما وتدبُّرِ ما بينهما ، { وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } ، مالِكُ المشارقِ ، وإنما قالَ هَهُنا : (رَبُّ الْمَشَارقِ) لأن للشمسِ ثلاثُمائة وستِّين مَشرِقاً ، تطلعُ كلَّ يومٍ من مشرقٍ ، وتغربُ في مغربٍ ، فإذا تحوَّلت السَّنةُ عادت إلى المشرقِ والمغرب ، فإنما أرادَ جانبَ المشرقِ وجانبَ المغرب. وَقِيْلَ : أرادَ به الجنسَ ، وَقِيْلَ : أرادَ به مشرِقَها ومغربَها في يومٍ واحد. وأما قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ }[الرحمن : 17] فقيل : إنما أرادَ به مشرقَ الشمسِ ومشرقَ القمرِ. وَقِيْلَ : أرادَ بذلك مشرقَ الشتاءِ والصيفِ ومغرِبهَا. وشروقُ الشمسِ : طلُوعُها ، يقال : شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ ، وَأشرَقَت اذا أضاءَتْ.
(0/0)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } ؛ أي زيَّنا السماءَ التي هي أدنَى إليكم مِن سائرِ السَّموات بضوءِ الكوَاكب ونُورها ، قرأ أبو بكر (بزِينَةٍ) بالتنوينِ ونصبَ (الْكَوَاكِبَ) عمل الزِّينة في الكواكب ؛ أي بأنْ زيَّنا الكواكبَ فيها ، وقرأ حمزةُ وحفص (بزِينَةٍ) بالتنوينِ وخفضِ (الْكَوَاكِب) على البدلِ ؛ أي بزينةٍ بالكواكب ، وقرأ البافون بالإضافة.
(0/0)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } ؛ أي جَعَلَ الكواكبَ حِفْظاً من كلِّ شيطان متجرِّدٍ للشرِّ ، يُقذفون بها إذا استَرَقوا السمعَ ، والماردُ : الخبيثُ الْخَالِي من الخيرِ ، والْمَاردُ : هو الْمُتَمَرِّدُ ، قال الحسنُ : (وَهَذا دَلِيلٌ أنَّهُ إنَّمَا يُرْجَمُ بالْكَوَاكِب بَعْضُ الشَّيَاطِينِ وَهُمُ الْمَرَدَةُ).
(0/0)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى } ؛ كأنَّهُ قالَ : (لاَ يَسْمَعُونَ) أي لا يسمعُ مَرَدَةُ الشياطين غلى الملائكةِ ولا إلى كلامِهم ، قال الكلبيُّ : (مَعْنَى الآيَةِ : لِكَيْلاَ يَسْمَعُوا إلَى الْكَتَبَةِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ). والملأُ الأعلى : همُ الملائكةُ ؛ لأنَّهم في السَّماءِ ، قرأ أهلُ الكوفةِ (يَسَّمَّعُونَ) بالتشديدِ أي يسمَعُون.
وقولهُ تعالى : { وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ } ؛ أي يُرمَون من كلِّ جانبٍ بالشُّهُب ، يعني أنَّ الشياطين يُرمَون بالشُّهب عندَ دُنُوِّهِمْ من السَّماء لاستماعِ كلامِ الملائكة في تدبُّر أمُور الدُّنيا. يُرمَون بالشُّهب من نواحِي السَّماء وأطرافِها.
(0/0)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
وقولهُ تعالى : { دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } ؛ أي طَرْداً وإبْعَاداً ، يقال : دَحَرَهُ دَحْراً ودُحُوراً ؛ إذا طَرَدَهُ وأبعدَهُ ، ولهم مع ذلك في الآخرةِ عذابٌ وَاصِبٌ أي دائمٌ لا ينقطعُ ، وَقِيْلَ : معنى الواصِب الموجِعِ ، من الوَصَب وهو الوجَعُ ، وَقِيْلَ : الوجَعُ : معنى الآية : أنَّهم يُدحَرُونَ ويُبعَدُون عن تلك المجالسِ التي يسترِقُون السمعَ { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أي دائمٌ إلى النفخةِ الأُولى.
(0/0)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } ؛ أي إلاَّ منِ اختلسَ الكلمةَ من كلامِ الملائكة مُسَارَقةً ، { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } ؛ أي لَحِقَهُ وأصابَهُ نارٌ مضيئة تُحرِقهُ ، والثاقبُ : النَّيِّرُ المضيءُ ، وهذا قولهُ إلاَّ مَنِ استرقَ السمعَ مُختَلِساً. والْخَطْفُ : أخذُ الشيءِ بسرعة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي نجمٌ وهَّاجٌ متوقِّد مضيٌ.
(0/0)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } ؛ قبلَهم من الأُمم الماضيةِ ، كانت الأُمم الماضية أشدُّ منهم قوَّةً وآثاراً في الأرضِ ، فأهلكناهم بكُفرِهمِ وتكذيبهم ، فكيف يأمَنُ هؤلاءِ الهلاكَ مع إصرارهم على الكفر وهم أضعفُ مِمَّن قبلَهم.
ثم ذكرَ خلقَ الإنسان فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } ؛ أي خلَقنا أصلَهم وهو أبُو البشرِ آدمَ من طينٍ لاَزبٍ لاصِقٍ ثابت ، يقالُ : له ضربَةُ لاَزبٍ ، وضربَةُ لازمٍ ، وإذا خلَقَ أصلَهم من طينٍ لازمٍ فكيف لا يُقِرُّونَ بقدرةِ الله تعالى على البَعثِ.
(0/0)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } ؛ أي بل عَجِبتَ يا مُحَمَّد من إنكارهم للبعث مع ظُهور ما وَجَبَ من الحجَّة والأدلة ، ويقالُ : بل عَجِبَ من جهلِهم حيث اختارُوا ما تجبُ به النارُ لهم وتركوا ما يجب لهم به الجنَّة ، وهم يسخَرون من بعثَتِكَ ، ويستهزِئون بكلامِكَ بالقرآنِ.
وقرأ حمزةُ والكسائي وخلَف بضمِّ التاء ، وهي قراءةُ ابنِ مسعود على معنى أنَّهم قد حَلُّوا محلَّ مَن تعجَّبَ منهم ، وقال الحسنُ بن الفضل : (الْعَجَبُ مِنَ اللهِ عَلَى خِلاَفِ الْعَجَب مِنَ الآدَمِيِّينَ ، وَإنَّمَا مَعْنَى الْعَجَب هَهُنَا هُوَ الإنْكَارُ وَالتَّعْظِيمُ ، وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ : " أنَّ اللهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّاب لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ " ).
وَقِيْلَ : إن الجنيدَ سُئِلَ عن هذه الآيةِ فقال : (اللهُ لاَ يَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ ، وَلَكِنَّ اللهَ وَافَقَ رَسُولَهُ لَمَّا عَجِبَ رَسُولُهُ فَقَالَ : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ }[الرعد : 5] أيْ هُوَ كَمَا تَقُولُهُ) قال شُرَيحُ : (إنَّمَا الْعَجَبُ مِمَّنْ لاَ يُعْلَمُ ، وَاللهُ تَعَالَى عِنْدَهُ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ).
وقرأ الباقونَ (بَلْ عَجِبْتَ) بفتحِ التاء على خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. و(بَلْ) معناه : تركُ الكلامِ الأوَّلِ والآخرِ في كلامِ آخر ، كأنَّهُ قال : دَعْ يا مُحَمَّد ما مضَى عجيبٌ من كفار مكَّة حين أوحيَ إليك القرآنُ ولَم يؤمنوا بهِ.
وقولهُ تعالى { وَيَسْخَرُونَ } لأنَّ سُخرِيَتَهم بالقرآنِ تركُ الإيمانِ به ، قال قتادةُ : (عَجِبَ نَبيُّ اللهِ مِنْ هَذا الْقُرْآنِ حِينَ نَزَلَ عَلَيْهِ ، وَظَنَّ أنَّ كُلَّ مَنْ سَمِعَهُ آمَنَ بهِ ، فَلَمَّا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَلَمْ يُؤْمِنُواْ بهِ وَسَخِرُواْ مِنْهُ ، عَجِبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلِكَ ، فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَجِبْتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْكَ وَتَرْكِهِمُ الإيْمَانَ).
(0/0)
وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ } ؛ وإذا وُعِظُوا بالقرآنِ لا يتَّعظون ، { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } ؛ إذا رأوا معجزةَ مثلَ انشقاقِ القَمَرِ وغيره اتَّخذوهُ سُخرِيَةً ، ونسَبُوا ما دلَّهم على توحيدِ الله تعالى إلى السِّحرِ ، { وَقَالُواْ إِن هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ }. وقالوا أيضاً على وجهِ الإنكار : { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا } ؛ صِرْنا ؛ { تُرَاباً وَعِظَاماً } ؛ بَالِيَةً ، { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؛ أي أنُبعَثُ بعدَ الموتِ ، { أَوَ آبَآؤُنَا الأَوَّلُونَ } ؛ الذين مضَوا قبلَنا ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمَّد : { نَعَمْ } ؛ تُبعَثون { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } ؛ أنتُم وآباؤُكم ؛ أي وأنتم أذلاَّءُ صاغِرُون ، والدُّخُورُ أشَدُّ الذُّلِّ.
ثم ذكَرَ أنَّ بعثَهم يقعُ بزَجرَةٍ واحدةٍ ؛ أي بصَيحَةٍ واحدةٍ ، فإذا هم قيامٌ ينظُرون ماذا يُؤمَرون به ، وقولهُ تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ؛ أي فإنَّما قضيةُ البعثِ صيحةٌ واحدة من إسرافيلَ ، يعني نفخةَ البعثِ ، { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } ؛ أي بُعِثَ الذي كذبوا به.
فلما عايَنُوا البعثَ ذكَرُوا قولَ الرسُلِ في الدُّنيا أنَّ البعثَ حقٌّ ، فدَعَوا بالويلِ ، { وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا } ؛ من العذاب ، { هَـاذَا يَوْمُ الدِّينِ } ؛ أي هذا يومُ الحساب والجزاء نُجازَى فيه بأعمالِنا. فقالت الملائكةُ : { هَـاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ } ؛ يومُ القضاءِ ، { الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ؛ يُفْصَلُ به بين الْمُسِيءِ والْمُحْسِنِ ، والْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ ، وهو اليومُ الذي كنتم به تكذِّبون في الدُّنيا.
(0/0)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } ؛ أي فيقالُ لِخَزَنَةِ جهنَّم : اجْمَعُوا الذين ظلَمُوا وقُرنَاءَهم من الشَّياطين الذين قبَضُوا لضَلالَتِهم ، ويقالُ : أرادَ بالأزواجِ نُظَراءَهُمْ وأشكالَهم من الأتباعِ ، والزَّوجُ في اللغة : النظيرُ ، ومن ذلك : زوجَانِ من الْخُفِّ. ويقالُ : أرادَ بالأزواجِ نِساءَهُم ، سواءاً أكانت امرأةُ الكافرِ كافرةً أو منافقةً ، والمعنى : اجمعوا الذين ظلَمُوا من حيث هم إلى الوقفِ للجزاء والحساب ، والمرادُ بالذين ظلَمُوا المشركينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ يعني اجْمَعُوا المشركين وأتباعَهم وأوثانَهم وطواغيتَهم وأصنامهم التي كانوا يعبدُونَها من دون اللهِ ، قال مقاتلُ : (يَعْنِي إبْلِيسَ وَجُنُودَهُ) فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ }[يس : 60]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ } ؛ أي سُوقُوهم واذهَبُوا بهم إلى فريقِ الجحيم.
فلما انطُلِقَ بهم إلى جهنَّم أرسلَ مَلَكٌ يقولُ لِخَزَنَةِ جهنَّم : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } ؛ أي اسألُهم في موضعِ الحساب ، يُسأَلُوا ويعرفوا أعمالَهم ، وهذا سؤالُ توبيخٍ لا سؤالُ استفهامٍ ، قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (إنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ عَنْ أعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأقَاويلِهِمْ) ، وقال مقاتلُ : (تَسْأَلُهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ : ألَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ، ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ).
ويجوزُ أن يكون هذا السؤالُ ما ذُكِرَ بعدُ ، وهو قولهُ : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } ؛ أي يقالُ لَهم على سبيلِ التوبيخِ : ما لكم لا ينصرُ بعضُكم بعضاً كما كنتم في الدُّنيا.
وذلك أنَّ أبا جهلٍ لَعَنَهُ اللهُ قالَ يومَ بدرٍٍ : نحنُ جميعٌ منتصر ، فقيلَ لهم ذلكَ اليومِ : ما لَكم غير متناصِرين ، وأنتم زعَمتُم في الدُّنيا أنكم تَنَاصَرون ، فاللهُ تعالى قال : { بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ } ؛ أي مُنقَادُون خاضِعون لِمَا يرادُ بهم ، والمعنى : هم اليومَ أذِلاَّءُ منقادون ، لا حيلةَ لهم ، فالعابدُ منهم والمعبودُ لا يحمِلُ عن أحدِهم أحداً ولا يمنعُ أحدٌ عن أحدٍ.
(0/0)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ أي أقبلَ الشياطين والمشركون يسألُ بعضُهم بعضاً سؤالَ توبيخٍ ، { قَالُواْ } ، فيقولُ المشركون للشياطين : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ } ؛ فتُزَيِّنوا لنا الضَّلالةَ ، وتَردُّوننا عن الخيرِ ، { قَالُوا } ، فيقولُ لهم الشياطين : { بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ؛ إنما كان الكفرُ مِن قِبَلِكم ، { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } ؛ أي من قوَّةٍ فنُجبرَكم على الكفرِ ، { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } ؛ أي مُتجاوزين ضَالِّين.
وقال الحسنُ فِي مَعْنَى الآيَةِ : (وَأقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ أيْ أقْبَلَ التَّابعُونَ عَلَى الْمَتْبُوعِينَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، فَيَقُولُونَ : لَوْلاَ أنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ، فَيَقُولُ لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ : مَا أجْبَرْنَاكُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَلْ كَفَرْتُمْ بسُوءِ اخْتِيَاركُمْ ، فَيَقُولُ لَهُمُ التَّابعُونَ : إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ؛ أيْ مِنْ أقْوَى الْجِهَاتِ ، وَذلِكَ أنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أقْوَى مِنْ جِهَةِ الشِّمَالِ ، كَمَا أنَّ الْيَمِينَ أقْوَى مِنَ الشِّمَالِ) وتقديرهُ : خدَعتُمونا بأقوَى الوجُوهِ ، واليمينُ هي القوَّة ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ }[الصافات : 93] أي بالقوَّة.
وقال قتادةُ : (مَعْنَى : إنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ؛ أيْ تَمْنَعُونَنَا عَنْ طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى) فََيَقُولُ الرُّؤَسَاءُ : لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي الأَصْلِ ، إذا لَمْ تَكُونُوا تُرِيدُونَهُ ، فَكَيْفَ إجْبَارُكُمْ عَلَيْهِ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سَلْطَنَةِ الإجْبَار عَلَى الْكُفْرِ ، { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ } ؛ أي فوجبَ علينا جَميعاً كلمةُ ربنا بالعذاب والسُّخط ، وهي قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ }[الأعراف : 18].
وقوله : { إِنَّا لَذَآئِقُونَ } ؛ أي لذائِقُوا العذاب ، فالضَّالُّ والْمُضِلُّ في النار ، وقولهُ تعالى : { فَأَغْوَيْنَاكُمْ } ؛ أي أضْلَلْنَاكم عن الهدَى ودعوناكم إلى الغِوَايَةِ ، { إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } ، بأنفُسِنا.
(0/0)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
يقولُ الله تعالى : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } ؛ أي لا ينفَعُهم التنازعُ والتخاصمُ ، وكِلاَ الفريقين مشتركون في العذاب ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ } ؛ أي هكَذا نُعاقِبُ المشركين.
وقولهُ تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ } ؛ أي إنَّهم كانوا يستَكبرون عن كلمةِ التوحيد ، { وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُواْ آلِهَتِنَا } ؛ أنَتركُ آلِهَتنا وعِبادتَها ، { لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } ؛ يَعنُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَسَبوهُ إلى الشِّعرِ والجنون.
فأكذبَهم اللهُ تعالى بقولهِ : { بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } ؛ أي ما هو يقولِ شاعر وما صَاحِبُكم بمجنون { بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ } أي بالقُرآن والتوحيدِ ، { وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } الذين كانوا قبلَهُ ؛ أي أتَى بما أتَوا بهِ من الأيمانِ وقول الحقِّ.
(0/0)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ } ؛ أي يقالُ لَهم : إنَّكم أيها المشرِكون لذائِقُوا العذاب الأليمِ على شِرْكِكُم ونِسبَتِكُم النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى الشِّعر والجنونِ ، { وَمَا تُجْزَوْنَ } ؛ في الآخرةِ ، { إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا من الشِّرك.
ثُم استثنَى فقال : { إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ؛ أي لكن عباد الله الموحِّدين ، فإنَّهم لا يُعذبون ، { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } ؛ أي يُجزَون بالبرِّ ما يستحقُّون ، وَقِيْلَ : لَهم رزقُهم فيها بُكرةً وعَشِيّاً.
وَقِيْلَ : الرزقُ المعلوم هو ما ذكرَهُ بعدَ هذا في قولهِ تعالى { فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ } ؛ والفَوَاكِهُ جَمعُ فَاكِهَةٍ ، وعلى الثِّمار كُلِّها رَطِبها ويابسِها ، وهم مُكرَمون بثواب الله تعالى على السُّرُر ، { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } ؛ لا يرَى بعضُهم قَفَا بعضٍ ، { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } ؛ أي بآنِيَةٍ مملوءة من الشَّراب ، ولا تُسمَّى الآنيةُ كاساً إلاَّ إذا كان فيها الشرابُ ، والْمَعِينُ ههنا الخمرُ ، سُمِّيت مَعِيناً لأنَّها تجرِي هناكَ على وجهِ الأرضِ من العُيونِ كما تجرِي الماءُ فيها في غيرِ الأُخدُودِ.
(0/0)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
وقولهُ تعالى : { بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } ؛ قال الحسنُ : (خَمْرُ الْجَنَّةِ أشَدُّ بَيَاضاً مِنَ اللَّبَنِ ، لَيْسَتْ هِيَ عَلَى لَوْنِ خَمْرِ الدُّنْيَا ، وَلَكِنَّهَا بَيْضَاءُ لِرِقَّتِهَا وَنُورهَا وَرَوْنَقِهَا وَصِفَائِهَا). وقولهُ تعالى { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي لذيذةٌ أو ذاتُ لذةٍ ، يقالُ شَرب لذ ولذيذٌ.
(0/0)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } ؛ أي ليس في شُربها صُدَاعٌ ولا وجعُ بطنٍ ولا أذَى ، ولا تَغتَالُ عقولَهم فتذهبُ بها. ويقالُ للوجَعِ غَوْلٌ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ ، وقولهُ تعالى : { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } ؛ أي ولا هُم يَسكَرُونَ ، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ فهو مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ إذا سَكِرَ ، وقال الكلبيُّ : (يَعْنِي لاَ فِيهَا غَوْلٌ أيْ إثْمٌ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ }[الطور : 23]). وقال ابنُ كَسيَان : (الْغَوْلُ الْمََعْصِرُ).
وقال أهلُ المعانِي : الغَوْلُ فسادٌ يلحَقُ في خفاءٍ ، يقالُ : اغتَالَهُ اغْتِيَالاً إذا فَسَدَ عليه أمرٌ فَسَدَ في خِفيَةٍ. وقولهُ تعالى { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } ، قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف بكسرِ الزاي ههنا ، وفي الواقعةِ ، ومعناهُ : لاَ ينفَذُ شرابُهم بل هو دائمٌ لَهم أبداً ، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ إذا نَفَذ شرابهُ ، ومَن قرأ بفتحِ الزاي فمعناهُ : لا يَسكَرُونَ منها ، يقالُ : نَزَفَ الرجلُ فهو مَنْزُوفٌ ونَزِيفٌ ؛ إذا سَكِرَ وزالَ عقلهُ.
(0/0)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } ؛ أي يُعقَدُ لَهم مجلسُ الشَّراب ، ويُسقَوْنَ هذه الكؤوسَ اللَّذيذةَ ، وتحضرُهم حُورُ عِينٍ قاصِراتُ الطَّرْفِ ، قصرت أطرافُهن على أزواجهنَّ لا يبتغين بهم بَدَلاً ، لا ينظُرون إلى غيرِ أزواجهن ، والعِينُ جمعُ العين وهُنَّ كبارُ الأعيُن وحِسَانُها ، وقال الحسنُ : (اللاَّتِي بَيَاضُ عَيْنِهِنَّ فِي غَايَةْ الَْبَيَاضِ ، وَسَوَادُهَا فِي غَايَةِ السَّوَادِ).
ومعنى الآيةِ : وعندَهم حَابسَاتُ أعيُنهن الأعين غاضَّات الجفُونِ قصرنَ أعيُنهن عن غيرِ أزواجهن ، فلا ينظُرن إلاَّ إلى أزواجهنَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عِينٌ } أي كبارُ الأعيُن حسانُها ، واحدتُها عَينَاءُ يقال : رجلٌ أعيَنُ ، وامرأةٌ عَيْنَاءُ ، ونساءٌ عِيْنٌ. وقولهُ تعالى : { عِينٌ } وامرأةٌ عَيْنَاءُ ونساءٌ عِينٌ.
وقولهُ تعالى { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } أي مستورٌ مَصُونٌ ، والبيضُ مُحُّ البيضةِ ، قال الحسنُ : (يُشْبهْنَ بَيْضَ النَّعَامِ يَكِنُّهَا الرِّيشُ مِنَ الرِّيحِ) وهذا مِن تشبيهات العرب في وَصفِ النِّساء بالبيضِ ، فشَبَّهَ الأبياض أبدانَهن ببياضِ البَيض المكنون ، ويقالُ : أراد بالبيضِ المكنون ههنا البياضَ الذي في داخلِ القشرِ الخارج.
(0/0)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ أي يتحدَّثون في الجنةِ عن أمُور الدُّنيا ، { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ } ؛ في جواب ما يسألُ عنه : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } ؛ أي كان لِي صاحبٌ في الدُّنيا يقولُ لِي حين صدَّقتُ وهو منكِرٌ للبعثِ ، { يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ } ؛ بالبعثِ ، { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } ؛ باليةً ، { أَءِنَّا لَمَدِينُونَ } ؛ أي لَمَجزِيُّون محاسَبون ؟ وهذا استفهامُ إنكار ، والدِّينُ : الحسابُ والجزاء ، كأنه يقول : إنَّ هذا الأمر ليس بكائنٍ. { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } ، قال قائل من أهل الجنة لأصحابه : هل تطَّلِعون على النار وعلى أهلِها فتنظُرون إلى هذا الذي كان قَريناً لِي وتعرِفُون حالَهُ ، فاطَّلعَ هو بنفسهِ على النار وأهلِها فرأى قَرِينَهُ في وسَطِ الجحيمِ يُعذبُ بألوانِ العذاب. قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوَّةٌ يُنْظَرُ مِنْهَا إلَى أهْلِ النَّار) ، { فَاطَّلَعَ } ، هذا المؤمنُ ، { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ } ؛ أي في وسطِ النار يُعذب.
فـ { قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } ؛ أي أرَدتَ أنْ تُهلِكَني كهلاكِ الْمُتَرَدِّ من الشَّاهقِ ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : لَقَدْ كِدْتَ أنْ تُغْوِيَنِي فَأَنْزِلَ مَنْزِلَكَ) ، والإرْدَاءُ الإهْلاَكُ ، ومَن أغوَى إنساناً فقد أهلكَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي } ؛ أي لولاَ إنعامهُ علَيَّ بالإسلامِ ، { لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } ؛ معكَ في النار.
وقال الكلبيُّ : (ثُمَّ يُؤْتَى بالْمَوْتِ فَيُذْبَحُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّار ، وَيُنَادِي مُنَادٍ بأَهْلِ الْجَنَّةِ : خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ ، وَبأَهْلِ النَّار : خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ) فيقولُ هذا القائلُ لأصحابهِ على جهة السُّرور : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ } ؛ في هذه الجنَّة أبداً ، { إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأُولَى } ؛ التي كانت في الدُّنيا ، { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ؛ أبداً. فيقالُ لَهم : لاَ ، فيقولون : { إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ فُزْنَا بالجنَّة ونَعِيمها ، ونَجَونا من النار وجحيمِها. فهذه قصةُ الأخَوَين ذكرَهما اللهُ في سورةِ الكهف بقوله تعالى{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ }[الكهف : 32].
(0/0)
لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِمِثْلِ هَـاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } ؛ أي لمثلِ هذا النَّعيمِ الْمُقيمِ ، والْمُلكِ العظيمِ فليعملِ العاملون في الدُّنيا ، يعني بالنعيمِ ما ذكرَهُ اللهُ من قوله{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ... }[الصافات : 41-43] إلى قولهِ{ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ }[الصافات : 49].
(0/0)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
وقولهُ تعالى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } ؛ معناهُ : أذلكَ الفوزُ الذي سبقَ ذِكرهُ لأهلِ الجنَّة خيرٌ مما يُهَيَّأُ من الإنزالِ أم نُزُلُ أهلِ النار ؟ وقولهُ تعالى : { أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ } لأهلِ النار في النار ، والزَّقُّومُ : هو ما يُكرَهُ تناولهُ ، والذي أرادَهُ اللهُ شيء مُرٌّ كريهٌ تناولهُ ، وأهل النار يُكرَهون على تناوُلهِ ، فهم يتَّزِقُّونَهُ على أشدِّ كراهةٍ ، تقولُ : تَزَقَّمْ هذا العظامَ ؛ أي تناولْهُ على نَكَدٍ ومشقَّةٍ شديدةٍ.
(0/0)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } ؛ رُوي سببُ نزولِ هذه الآيةِ : أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ }[الصافات : 62] كانوا يقولون لا ندري ما الزقومُ ؟ فكانوا يتذاكَرون هذا الحديثَ إذ جاءَهم عبدُالله بن الزبعرَى السهمي فذكَرُوا له ، فقالَ : أكثرَ اللهُ في بيوتِكم منها ، إن أهلَ اليمنِ يدعُوا الزُّبدَ والتمرَ الزقُّوم ، فقالَ أبو جهلٍ لجاريتهِ : زَقِّمِينَا يا جاريةُ ، فَأتَتْهُ بزُبدٍ وتَمرٍ ، فقال : تَزَقَّمُوا فإنَّ هذا الذي يُخوِّفُكم به مُحَمَّدٌ ، فشاعَ في أهلِ مكَّة أن مُحَمَّداً يُخوِّفُ أصحابَهُ بالزُّبد والتمرِ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } أي عَذاباً بالكافرين ، والفتنةُ : هي العذابُ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ }[الذاريات : 13-14] أي عذابَكم فأنزلَ الله تعالى{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ }[الدخان : 43-44].
ويجوزُ أن يكون معنى الفتنةِ في هذه الْمِحْنَةَ والبليَّةَ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : هذه الشجرةُ افتتنَ بها الظَّلَمةُ. قالوا : كيف يكون في النار شجرةٌ وهي تأكلُها ؛ لأن النارَ تأكلُ الشجرَ ، فأنزل اللهُ تعالى { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } أي خِبرةً لهم افتَتَنوا بها وكذبوا بكونِها.
وبيَّنَ اللهُ تعالى : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ } ؛ أي تنبتُ في قعرِ الجحيم ، قال الحسنُ : (أصْلُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ ، وَأصْلُهَا فِي دَرَكَاتِهَا ، بالنَّار غُذِّيَتْ وَمِنْهَا خُلِقَتْ بلَهَب النَّار ، كَمَا يَنْمُو شَجَرٌ بالْمَاءِ ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ النَّارُ الْتِهَاباً ازْدَادَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ نُمُوّاً وَارْتِفَاعاً ، وَإنَّ أهْلَ النَّار لَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَلْبَسُونَ النَّارَ ، وَيَتَقَلَّبُونَ فِي النَّار ، وَإنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّار عَذاباً رَجُلٌ يَكُونُ لَهُ نَعْلاَنِ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ).
(0/0)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } ؛ أي ثَمَرُها كريهٌ مرٌّ هائلُ المنظرِ كأنه حيَّاتٌ هائلاتُ الرُّؤوسِ تكون في طريقِ اليمَنِ ، تسمِّي العربُُ تلك الحيَّات رؤوسَ الشَّياطين لقُبحِها. وقال بعضُهم : أُريدَ به الشياطينَ المعروفةَ ، وقد اعتقدَ الناسُ قُبحَهم وقبحَ رُؤوسِهم ، وإن لم يُشاهِدُوهم ، ولذلك يشبهون الشيءَ القبيحَ بالشياطينِ ، يقولُ الرجل : رأيتُ فلاناً كأنَّهُ شياطينُ ، ورؤوسهُ رأسُ الشيطانِ ، فالشياطينُ موصوفةٌ بالقُبحِ وإنْ كانت لا تُرَى.
(0/0)
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا } ؛ أي من ثَمرِها ، { فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ } ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى يُلقِي من أهلِ النار من شدَّة الجوعِ ما يُلجِؤُهم الى أكلِها بما هي عليه من الحرارةِ والمرَارةِ والخشونة ، فيبتَلعُونَها على جهدٍ حتى يختَنِقوا بها وتَمتليءَ بطونُهم منها ، ويكون حالُهم في الأكلِ منها أضرَّ كحالهم في الأكلِ منها أولاً.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى يُلقِي عليهم عطشاً بعد ذلك حتى يشرَبُوا من الحميمِ ، وهو الماءُ الحارُّ الذي قد انتهَى حرُّه ، والشَّوبُ كما هو خلطُ الشيءِ بما ليس منه ، بما هو شَرٌّ منه ، يقالُ له شَابَهُ الشيءُ إذا خالطَهُ ، فشَوبُ الجحيمِ في بطونِهم الزقومُ فيصير شَوباً له.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ } ؛ معناهُ : إن مَرجِعَهم بعد شُرب الجحيم وأكلِ الزقوم الى الجحيمِ ، وذلك أنَّهم يورَدُون الحميمَ من شُربهِ وهو خارجٌ من الجحيمِ كما تُورَدُ الإبلُ الماءَ ، ثم يُرَدُّونَ إلى الجحيمِ ، فيتجرَّعونَهُ ويُصَبُّ على رُؤوسِهم ، ومرَّةً يُردُّون إلى النار الموقَدة ، وهذا عذابُهم أبداً. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ اللهَ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ ، فَلَوْ أنَّ قَطْرَةً قَطَرَتْ مِنَ الزَّقُّومِ مِنَ الأَرْضِ لأَمَرَّتْ عَلَى أهْلِ الدُّنيا مَعِيشَتَهُمْ ، فَكَيْفَ بمَنْ هُوَ طَعَامُهُ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ غَيْرُهُ ".
(0/0)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } ؛ معناهُ : إنَّهم وجَدُوا آباءَهم في الدُّنيا ضالِّين عن الحقِّ والدِّين ، فَـ ، كانوا ، { فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } ؛ أي يَمْضُوا مُسرِعين كأنَّهم يُزعَجون من الإسراعِ الى اتِّباع آبائِهم ، يقالُ : هَرَعَ وأهْرَعَ إذا أسرعَ.
(0/0)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي ولقد ضلَّ قبلَ هؤلاء المشركين أكثرُ الأوََّلين من الأُمم الخاليةِ ، كما ضَلَّ قومُكَ ، { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ } ؛ أي رُسلاً يُنذِرونَهم العذابَ ؛ أي يخوِّفونَهم بالعذاب على تركِ الإيمان ، { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ } ؛ الذي أُنذِرُوا فكذبوا الرسُلَ ، كيف أهلكَهم اللهُ تعالى ، وقولهُ تعالى : { إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ؛ يعني إلاّ عبادَ الله الموحِّدين الذين لم يكَذِّبوا ، فإنَّهم نَجَو من العذاب ولم يهلَكُوا.
(0/0)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } ؛ أي ولقد دعَانا نوحُ على قومهِ بالإهلاكِ حين يَئِسَ من إيمانِهم ، وأُذِنَ له في الدُّعاء ، وقال{ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ }[القمر : 10] ، وقال{ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }[نوح : 26] ، وقوله { فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ } أي نِعْمَ الْمُجِيبُونَ فأجَبناهُ وأهلكنا قومَهُ الكافرين ، { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } ؛ ومَن آمَنَ به ، { مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ؛ وهو الغرقُ.
(0/0)
وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ } ؛ وذلك مَن كان معه من المؤمنين في السَّفينة انقرَضُوا من غير عَقِبٍ ، وكان نسلُ نوحٍ عليه السلام من أولادهِ الثلاثة : سام وحامُ ويافث ، فأما سامُ فأبو العرب وفارسَ والرُّوم ، وحامُ أبو الحبَشِ وجميع السُّودان والسِّند والهند والبربَرِ ، ويافثُ أبو التُّرك ويَأْجُوجَ ومأْجُوجَ وما هنالك من باقِي الناس. قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا خَرَجَ نُوحُ عليه السلام مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلاَّ وَلَدَهُ الثَّلاَثَةُ وَنِسَاءَهُمْ) فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُمُ الْبَاقِينَ }
(0/0)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
وقولهُ تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } ؛ أي ترَكنا على نوحٍ الذِّكرَ الجميلَ في الباقين بعده ، وذلك الذكرُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ } ؛ أي يُصَلَّى عليه إلى يومِ القيامة ، قال الزجَّاجُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } أيْ وَأبْقَيْنَاهُ ذِكْراً حَسَناً وَثَنَاءً جَمِيلاً فِيمَنْ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْْقِيَامَةِ) { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي كما جَزَينا نُوحاً وأنعَمْنا عليه ، فكذلكَ نجزِي الْمُحسِنين في القولِ والعملِ ، { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } ؛ وَقِيْلَ : (معناهُ : تَرَكنا على نوحٍ في الآخِرين أن يُصَلَّى عليه إلى يومِ القيامة) ، { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ }.
(0/0)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } ؛ معناهُ : وإنَّ مِنْ أهلِ ملَّةِ نوحٍ عليه السلام والمتمسِّكين بدينهِ لإبراهيم ، { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ؛ أي إذْ أقبَلَ إلى طاعةِ ربهِ بقلبٍ سَليمٍ من الكُفرِ والمعاصِي ومن كلِّ عيبٍ. والشِّيعَةُ : هي الجماعةُ التَّابعَةُ لِذي رأي لَهم.
(0/0)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } ؛ هذا إنكارٌ من إبراهيمَ على قولهِ ، كالرجُل ينظرُ غيرَهُ على قبيحٍ من الأمر ، فيقولُ له : ما هذا الذي تفعلُ؟
(0/0)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ } ؛ معناهُ : أأتَّخذُ آلهةً تريدون عبادتَها على وجهِ الكذب. وَقِيْلَ : معناهُ : أتَأْفِكُونَ إِفْكاً هو أسوأُ الكذبُ ، وتعبدون آلهةً سوَى اللهِ ، { فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ إذا لقيتموهُ وقد عبدتُّم غيرَهُ ، أي فما ظنُّكم أنه يصنعُ بكم.
(0/0)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } ؛ قال بعضُهم : إنَّما نظرَ إلى النُّجوم نظرَ تدبُّر واعتبارٍ ، وليستدلَّ بها على وقتِ الحمَّى كانت تأتيهِ ، فلما عرفَ بذلك وقت حماه قال إنِّي سقيمٌ ؛ أي جاءَ وقتُ سقَمي ومرَضي.
ويقالُ : أوهَمهم بهذا القول أن به مرضاً فتركوهُ ، وكان يريدُ بهذا القولِ في نفسه : إنِّي سقيمُ القلب بما أرَى من أحوالِكم القبيحة في عبادةِ غيرِ الله ، وذلك أنه أرادَ أن يُكايدَهم في أصنامِهم لِيُلزمَهم الحجَّةَ في أنَّها غيرُ معبودةٍ ، وكان لَهم عيدٌ يخرجون إليه ، فكلَّفوهُ الخروجَ معهم إلى عيدِهم ؛ فنظرَ في النُّجوم يُرِيَهم أنه مستدلٌّ بها على حالهِ ، فقالَ : إنِّي سقيمٌ ، { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } ؛ فتركوهُ وذهبوا إلى عِيدهم.
(0/0)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92)
وقولهُ تعالى : { فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } ؛ أي مَالَ إلى أصنامِهم مَيلةً في خِفيةٍ سِرّاً لَمََّا أدبَرُوا عنه فوجدَ بين أيدِيهم طعاماً كانوا قد وضعوهُ قبلَ خروجِهم إلى عيدِهم ، وزعَمُوا بجهلِهم أن أصنامَهم تباركُ لهم فيه ، فإذا رجَعُوا من عيدِهم أكلوهُ. قال مقاتلُ : (كَانَتْ أصْنَامُهُمْ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَنَماً مِنْ خَشَبٍ وَحَدِيدٍ وَرَصَاصٍٍ وَذهَبٍ وَفِضَّةٍ ، وَكَانَ أكْبَرُهُمْ مِنْ ذهَبٍ وَعَيْنَاهُ يَاقُوتَتَانِ ، فَلَمَّا رَآهُمْ إبْرَاهِيمُ كَذلِكَ وَبَيْنَ أيْدِيِهِمُ الطَّعَامُ ، قَالَ : ألاَ تَأْكُلُونَ مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الأَطَعِمَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أكْلٌ وَلاَ جَوَابٌ قَالَ لَهُمْ : ألاَ تَنْطِقُونَ إنْ كُنْتُمْ آلِهَةً).
(0/0)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ } ؛ أي مَالَ عليهم بالضَّرب بيدهِ اليُمنَى وبالقوَّة ، ويقالُ : برَّ يَمِينَهُ التي كان حلفَ باللهِ لأكِيدَنَّ أصنامَكم ، فجعلَ يضربُهم بالفأسِ حتى جعلَهم جُذاذاً ، ثم جعلَ الفأسَ على عاتقِ كبيرِ الأصنام ، والرَّوَغَانُ في اللغة : هو الْمَيْلُ على وجهِ الاضطراب.
(0/0)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } ؛ أي أقبلَ المشركون إليه بعدَ رجُوعِهم من عيدِهم يُسرِعون في المشيِ ، كأنَّهم أُخبرُوا بصُنعهِ فقصدوهُ. والزَّفِيفُ : هو الْمَشْيُ السَّريعُ ، ومن ذلكَ زَفِيفُ النَّعَامِ وهو خَبَبُهُ الذي يكون بين المشيِ والعَدْو ، ومنه الآزفَةُ لسُرعةِ مجيئها وهو القيامةُ.
وقرأ حمزةُ (يُزِفُّونَ) بضمِّ الياءِ ؛ أي يَحمِلُونَ دوابَّهم وظُهورَهم على الإسراعِ في المشي ، وذلك أنَّهم أُخبرُوا بصُنعِ إبراهيمَ بآلهتِهم ، وأسرَعُوا ليأخذوهُ ، فلما انتهَى إليه ؛ { قَالَ } لَهم محتجّاً عليهم : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ؛ بأيدِيكم من الأصنامِ ، أي تعبدُون ما تَنحِتُونَهُ من الخشب والحجرِ أمواتاً لا تنطقُ ولا تسمعُ ولا تَنصُر ولا تعقلُ.
(0/0)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ؛ تَنحِتُونَ بأيديكم ؛ أي خلَقَكم ومعمُولكم وهو منحوتُهم الذي نَحتوهُ ، والمعنى : خلَقَكم وعمَلَكم ، وهذا مذهبُ أهلِ السُّنة ؛ لأنَّهم يعتقدون أنَّ اللهَ خلَقَهم وعمَلَهم ، والقدريَّةُ تُنكِرُ خلقَ الأعمالِ.
فلمَّا ألزمَهم إبراهيمُ عليه السلام الحجَّةَ ، { قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } ؛ أي قالوا : ابنُوا له حَائِطاً من حجارةٍ طولهُ في السَّماء ثلاثون ذِرَاعاً ، وعرضهُ عشرون ذراعاً ، ومَلَؤُوهُ نَاراً ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ } وهي النارُ العظيمة ، فبَنَوا له ذلك وجَمعُوا فيه الحطبَ ، وأرسَلُوا فيه النارَ حتى صارَ جَحيماً ، ثم رمَوهُ بالمنجنيقِ.
فنجَّاهُ اللهُ تعالى ، وجعلَ النارَ عليه بَرْداً وسَلاماً لم يُؤذهِ منها شيءٌ ولا أحرقَتْ شيئاً من ثيابهِ ، وذلك لإخلاصهِ وقوَّةِ دِينهِ وصدقِ توكُّلهِ ويقينهِ ، كما رُوي أنه عليه السلام لما انفصلَ من المنجنيقِ أتاهُ جبريل في الهواءِ ، فقالَ هل لكَ من حاجةٍ ؟ فقال : وأمَّا إليكَ فلاَ.
(0/0)
فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } ؛ أي أرَادُوا به شَرّاً ، وهو أن يحرِقوهُ بالنار ، { فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ } ، لأن إبراهيمَ علاَهُم بالحجَّة حين سَلَّمَهُ اللهُ تعالى وردَّ كيدَهم عنه ، ولم يلبَثُوا إلاَّ يَسِيراً حتى أهلكَهم اللهُ تعالى ، وجعلَهم في نارٍ أعظمَ وأسفلَ مما ألقَوهُ فيها.
(0/0)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } ؛ أي قالَ إبراهيمُ : إنِّي ذاهبٌ إلى مرضاتِ ربي سيَهدينِي لِمَا فيه رُشدِي وصَلاحِي ، وأرادَ بهذا الذهابَ إلى الأرضِ المقدَّسة ، وَقِيْلَ : إلى أرضِ الشَّام ، قال مقاتلُ : (فَلَمَّا قَدِمَ الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ) فقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ أي ولَداً صَالحاً.
واستجابَ اللهُ دعاءَهُ بقولهِ : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } ؛ قال الزجَّاجُ : (هَذِهِ الْبشَارَةُ تَدُلُّ عَلَى أنَّهُ مُبَشَّرٌ بابْنٍ ذكَرٍ ، وَأنَّهُ يَبْقَى حَتَّى يَنْتَهِي فِي السِّنِّ ، وَيُوصَفُ فِي الْحِلْمِ) ، قال الحسنُ : (وَهُوَ إسْحَاقُ عليه السلام). وقال الكلبيُّ : (هُوَ إسْمَاعِيلُ ، وَكَانَ أكْبَرَ مِنْ إسْحَقَ بثَلاَثَةَ عَشَرَ سَنَةً).
(0/0)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ } ؛ أي فلمَّا بلغَ ذلك الغلامُ معه حالةَ السَّعيِ في طاعةِ الله تعالى ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ }[البقرة : 127] ، وَقِيْلَ : معناهُ : فلما بلغَ أن يمشِي معه ، وقال مجاهدُ : (لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ أنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ سَنَةً). وَقِيْلَ : أرادَ بالسَّعي في الوقتِ الذي ينتفعُ الوالدُ بالولدِ في قضاءِ حوائجه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ يابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } ؛ أي رأيتُ في المنامِ رُؤيا تأويلُها أنِّي أذبَحُكَ ، وَقِيْلَ : رأيتُ في المنامِ أنِّي أذبَحُكَ ، قال مقاتلُ : (رَأى إبْرَاهِيمُ ذلِكَ فِي الْمَنَامِ ثَلاَثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ) ، قال ابنُ جبير : (رُؤْيَا الأَنْبيَاءِ وَحْيٌ) ، وقال قتادةُ : (رُؤَى الأَنْبيَاءِ حَقٌّ ، إذا رَأَوا شَيْئاً فَعَلُوهُ).
وقولهُ تعالى : { فَانظُرْ مَاذَا تَرَى } ؛ أي مِن الرأيِ فيما ألقيتُ إليكَ ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ : (مَاذا تُرِي) بضمِّ التاء وكسرِ الراء ، ومعناهُ : ماذا تُشِيرُ وماذا تُرِيني صَبرِكَ أو جَزَعِكَ ؟ { قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ } ؛ به من ذبحِي ، { سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ } ؛ على بَلائهِ ، وإنما قالَ له إبراهيمُ هذا القولَ مع كونهِ مأمُوراً بذبحهِ ؛ لأنه أحبَّ أن يعلمَ صبرَهُ وعزيمتَهُ على أمرِ الله وطاعته.
وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ إبراهيمَ كان مأمُوراً بذبحِ ولَدهِ ، لأن رُؤيَا الأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَحْيٌ بمنْزِلة الوحيِ إليهم في اليقظَةِ ، ولذلك قالَ الابنُ : (يَا أبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) ولَم يقل : افعل ما رأيتَ في المنامِ.
واختلَفُوا في الذبيحِ مَن هو ؟ فذهبَ الأكثَرون إلى أنه إسحقُ ، وإليه ذهبَ من الصَّحابة عمرُ بن الخطَّاب وعليُّ بن أبي طالبٍ وعبدُالله بن مسعودٍ وعبَّاسُ بن عبدِالمطَّلب ، ومِن التابعين كعبُ الأحبار وسعيدُ بن جبير وقتادةُ ومسروق وعكرمة وعطاءُ ومقاتل والزهريُّ والسدي.
وقال آخرُونَ : هو إسماعيلُ ، وهو قولُ ابنِ عمر وابنِ عبَّاس وسعيدِ بن المسيَّب والشعبيِّ والحسن ومجاهدٍ والكلبيِّ والربيع بن أنسٍ ومحمَّد بن كعب القُرَظِيِّ. وروُي عن أبي إسحق الزجَّاج أنه قال : (اللهُ أعْلَمُ أيُّهُمَا الذبيحُ).
وسياقُ الآيةِ يدلُّ على أنه إسحق ؛ لأنه تعالَى قال{ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ }[الصافات : 101] ولا خلافَ أنه إسحقَ ، ثم قالَ : فلما بلغَ معه السعيَ ، فعطفَ بقصَّة الذبحِ مع ذكر اسحق ، وقد رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم القولانِ ، ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الَّذِي أرَادَ إبْرَاهِيمُ ذبْحَهُ هُوَ إسْحَقُ ".
وعن معاويةَ رضي الله عنه أنه قالَ : كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ عُدَّ عَلَيَّ مِمَّا أفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ الذبيحَيْنِ ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَ مُعَاويَةُ وَمَنِ الذبيحَانِ ؟ فَقَالَ : [إنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِب لَمَّا حَفَرَ زَمْزَمَ نَذرَ للهِ تَعَالَى لَئِنْ سَهَّلَ اللهُ أمْرَهُ لَيَذْبَحَنَّ أحَدَ وَلَدِهِ ، فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى عَبْدِاللهِ ، فَمَنَعَهُ أخْوَالُهُ وَقَالُواْ : إفْدِ ابْنَكَ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ ، فَفَدَاهُ بمِائَةٍ مِنَ الإبلِ ، وَالذبيحُ الثَّانِي إسْمَاعِيلُ] ، ويدلُّ على صحَّة هذا قولهُ عليه السلام :
(0/0)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } ؛ أي فلمَّا انقادَا وخضعا لأمرِ الله تعالى ورَضِيَا به ، وقرأ ابنُ مسعود : (فَلَمَّا سَلَّمَا) أي فَوَّضَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي صَرَعَهُ وأضجعَهُ وكَبَّهُ على وجههِ للذبحِ ، وَقِيْلَ : طرحَهُ على الأرضِ على أحدِ جَنبَيْهِ كما يُفعَلُ بالكبشِ حين يُذبَحُ ، نادته الملائكةُ من الجبلِ بإذن الله : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ } ؛ أي وَفَّيْتَ الرُّؤيا حقَّها ؛ أي وفَّيتَ بما أُمِرتَ به في المنامِ ، دَعِ ابنكَ وخُذِ الكبشَ الذي ينحدرُ إليكَ من الجبلِ المشرفِ على مسجدِ مِنَى.
وقولهُ تعالى { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ } أي نُودِيَ من الجبلِ أن يا إبراهيمُ قد صدَّقتَ الرُّؤيا لأنَّ الله تعالى قد عرَفَ منهُما الصدقَ حين قصدَ إبراهيمُ الذبحَ بما أمكنَهُ وطاوعَ الابنُ بالتمكينِ من الذبحِ ، ففَعلَ كلُّ واحدٍ منهما ما أمكنَهُ وإن لم يحقِّقوا الذبحَ ، وكان قد رأى في المنامِ معالجةَ الذبح ولم يُرَقِ الدمُ ، ففعلَ في اليقظةِ ما رأى في المنامِ ، فلذلكَ قيل له : { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ } وتَمَّ الكلامُ. ثم قال { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي هكذا نُجزِي كلَّ مُحسِنٍ ممن سلكَ طريقَهما في الانقيادِ لأمر الله ، وجميلِ الصبر على ابتلائهِ.
(0/0)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ } ؛ أي لَهُوَ الاختيارُ البيِّنُ فيما يوجبُ النعمةَ والنقمةَ ، وأيُّ اختبارٍ أعظمُ من أن يؤمرَ الشيخُ الكبير بذبحِ الولد العزيزِ بيده. وقولهُ تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } ، أي بكبشٍ عظيم ؛ أي أقَمنَا الذبحَ مقامَهُ وجعلناهُ بَدَلاً عنه.
وعن عطاءِ بن يسار قال : (لَمَّا بَلَغَ إسْمَاعِيلُ سَبْعَ سِنِينَ رَأى إبْرَاهِيمُ عليه السلام أنَّّهُ يَذْبَحُ ، فَأَخَذ بيَدِهِ وَمَضَى بهِ إلَى حَيْثُ أُمِرَ حَتَّى انْتَهَى إلَى مَنْحَرِ الْبُدْنِ الْيَوْمَ ، فَقَالَ : يَا بُنَيَّ إنَّ اللهَ أمَرَنِي بذبْحِكَ ، قَالَ إسْمَاعِيلُ : فَأَطِعْ رَبَّكَ.
فَفَعَلَ إبْرَاهِيمُ ، فَجَعَلَ يَنْحَرُهُ فِي حَلْقِهِ ، نَحَرَ فِي فَأْسٍ لَمْ تُؤَثِّرْ فِيْهِ الشَّفْرَةُ ، فَشَحَدَهَا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاَثاً بالْحَجَرِ ، وَفِي كُلٍّ لاَ يَسْتَطِيعُ ، فَرَفَعَ رَأسَهُ فَإذا هُوَ بكَبْشٍ قَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أرْبَعِينَ خَرِيفاً).
قال الحسنُ بن الفضل : (مَا فُدِيَ إلاَّ بتَيْسٍ هَبَطَ عَلَيْهِ مِنْ ثَبير فَذبَحَهُ إبْرَاهِيمُ فِدَاءً عَنِ ابْنِهِ). وَقِيْلَ : كان الفداءُ وَعْلاً من الأوْعَالِ الجبليَّة.
وأما قولهُ { بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال سعيدُ بن جبير : (حَقٌّ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عَظِيماً ، وَقَدْ رَعَى فِي الْجَنَّةِ أرْبَعِينَ خَرِيفاً). وقال مجاهد : (سُمِّيَ لأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ) ، وقال الحسنُ ابن الفضل : (لأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى) ، وقال أبو بكرٍ الورَّاقُ : (لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ نَسْلٍ وَإنَّمَا كَانَ بالتَّكْوِينِ).
(0/0)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } ؛ أي ترَكنا على إبراهيم في العالَمين أنْ يُقالَ : { سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ } ، ويصلَّى عليه إلى يومِ القيامةِ ، { كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ، وبقينا عليها حُسنا ، { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ } ؛ مَن جعلَ الذبيحَ إسماعيلَ قال : بشَّرَ اللهُ إبراهيمَ بولدٍ بعدَ هذه القصَّة جزاءً لطاعتهِ ، ومَن جعلَ الذبيحَ إسحق قالَ : بُشِّرَ إبراهيمُ بنبوَّةِ إسحق ، وأُثيبَ إسحقُ بصبرهِ بالنبوَّة.
(0/0)
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } ؛ أي وبارَكنا على إبراهيمَ وعلى إسحقَ ، وَقِيْلَ : على إسماعيلَ وعلى إسحقَ ، وقولهُ تعالى : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } ؛ الْمُحسِنُ هو المؤمنُ ، والظالِمُ المبينُ هو الكافرُ.
(0/0)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } ؛ أي أنعَمنا عليهما بالنبوَّة والرسالةِ وغير ذلك من أنواعِ النعيمِ ، والْمَنُّ قطعُ كلِّ أذِيَّةٍ ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ }[الانشقاق : 25] أي غيرُ مقطوعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ؛ أي وخلَعنَاهما من الخزيِ القطيعِ من استعبادِ فرعون إيَّاهم ، ومن ذبحِ الأبناء ، وتسخيرِ الرجُلِ في الأمور الشاقَّة ، { وَنَصَرْنَاهُمْ } ، على فرعونَ وقومهِ ، { فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ } ؛ بعدَ ما كانوا مغلُوبين ، { وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ } ؛ أي أعطينَاهُما الكتابَ البيِّنَ وهو التوراةُ ، { وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ؛ وهو دينُ الاسلامِ ، { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ عَمُّ الْيَسَعَ ، وَهُوَ مِنْ ذُرِّيَّةِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ ، وَهَارُونُ هُوَ جَدُّ أبيهِ). وقال ابنُ إسحق : (إلْيَاسُ هُوَ يُوشُعُ بْنُ نُونٍ).
ويقالُ : إلياس والخضِرُ في الأحياءِ ، فإلياسُ صاحب البراري ، والخضِرُ صاحبُ الجزائرِ ، ويجتمعان في كلِّ سنةٍ مرَّة بعرفات!
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال : " غزَونا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنَّا نفحَ الناقةِ إذ نحن بصَوتٍ يقولُ : اللَّهم اجعلني من أُمة مُحَمَّد المرحومةِ المغفور لها المثوب عليها المستجاب لها ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " يَا أنَسُ انْظُرْ هَذا " فدخلتُ الجبلَ فاذا أنا برجُلٍ أبيضَ الرأسِ واللحيَةِ ، عليه ثيابٌ بيض طولهُ أكثرَ من ثلاثمائة ذراعٍ ، فلما نظرَ إليَّ قال : أنتَ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلتُ : نعم ، قال : ارجِعْ إليه فأقرئْهُ منِّي السَّلامَ ، وقل له : أخوكَ إلياسُ يريدُ لقاءكَ ، فجاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأنا معه ، حتى إذا كُنَّا قريباً منه ، تقدَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتأخرتُ ، فتحادثَا طويلاً ، فنَزل عليهما من السَّماء شبه السُّفْرَةِ ، فدعَونِي أكلتُ معهما ، فإذا فيها كمأةٌ ورمَّان وكرفس ، فلما أكلتُ قمت فتنحيتُ ، فجاءت سحابةٌ فاحتملَتْهُ وأنا أنظرُ إلى بياضِ ثوبه ، فهوَت به قبَل الشَّام ".
(0/0)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ عقابَ اللهِ بعبادة غيرِ الله ، وقولهُ تعالى : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } ؛ أي أتَدَّعون بالإلهيَّة بَعْلاً صَنَماً ، { وَتَذَرُونَ } ، وتتركون عبادةَ ، { أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ } ؛ وكان قومهُ يعبدون صَنماً لهم من ذهب يقال له بَعْلٌ ، وكان طولهُ عشرين ذراعاً ، وكان له أربعةُ وجوهٍ ، فجعلَ إلياسُ يدعوهم إلى عبادةِ الله وهم في ذلك لا يسمَعون منه شيئاً.
(0/0)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
وقولهُ تعالى : { اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي خالقُكم وخالقُ آبائكم ، ومَن قرأ (رَبَّكُمْ) بالنصب فعلى صفة (أحْسَنَ الْخَالِقِينَ).
(0/0)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
وقولهُ تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } ؛ أي لِمُحضَرون في النار والعذاب بتكذِيبهم ، { إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ؛ أي لكن عبادَ الله المخلَصين مبعَدُون من الموضعِ الذي فيه المشرِكون.
(0/0)
وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ } ، يريدُ إلياسَ ومَن آمنَ معه ، { سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ } ؛ قال أبو علي الفارسي : (تَقْدِيرُهُ : اليَاسِيِّينَ) إلاَّ أنَّ اليَائَيْنِ لِلنِّسْبَةِ حُذِفَتَا ، كَمَا حُذِفَتَا فِي الأشْعَرِيِّينَ وَالأَعْجَمِينَ ، وقرأ نافعُ (اليَاسِينَ) أي سلامٌ على أهلِ كلام الله وآل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، فإن يس مِن كلامِ الله تعالى في القرآنِ.
(0/0)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ الْمُرْسَلِينَ } ؛ أي من جُملة المرسَلين ، { إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } ؛ يعني امرأتَهُ المنافقةَ تخلَّفت في موضعِ العذاب في جُملة الباقين ، { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ } ؛ أي أهلَكنَاهم بعذاب الاستئصال.
(0/0)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ هذا خطابٌ لِمُشرِكي العرب ، كانوا يَعْدُونَ على قرياتِ قوم لوطٍ فلم يعتَبروا.
(0/0)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } ؛ أي هربَ من قومهِ إلى السفينةِ المملوءَةِ بالناسِ والدواب ، وإنما هربَ لأن الله كان أوعدَهم بالعذاب إنْ لم يؤمِنُوا فلم يؤمنوا ، وعلِمَ أنَّ العذابَ نازلٌ بهم ، فخرجَ من بينِهم من غيرِ أن يأمرَهُ اللهُ تعالى بالخروجِ ، فكان ذلك ديناً منه وكان قصدهُ حين خرجَ منهم للمبالغةِ في تحذيرِهم وإنذارهم ، فكان بذهابهِ كالفارِّ من مولاهُ ، فوُصِفَ بالأبَاقِ.
وقولهُ تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } ؛ وذلكَ أنه لَمَّا رَكِبَ السفينةَ ، وقفَتِ السفينةُ ولم تَسِرْ بأهلِها ، فقالَ الملاَّحون : ههُنا عبدٌ آبقٌ من سيِّدهِ ، وهذا رسمُ السفينة إذا كان فيها عبدٌ آبقٌ لا تجرِي ، واقترَعُوا فوقعتِ القُرعَةُ على يونسَ فقال : أنا الآبقُ ، { فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ }.
قال سعيدُ بن جبير : (لَمَّا اسْتَهَمُوا جَاءَ حُوتٌ إلَى السَّفِينَةِ فَاغِراً فَاهُ يَنْتَظِرُ أمْرَ رَبهِ ، كَأَنَّهُ يَطْلُبُ وَاحِداً مِنْ أهْلِهَا ، فَقَالَ يُونُسُ : يَا أهْلَ السَّفِينَةِ أنَا الْمَطْلُوبُ مِنْ بَيْنِكُمْ ، فَقَالُواْ : أنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ أنْ يَبْتَلِِيكَ بمِثْلِ هَذِهِ الْبَلِيَّةِ ، فَقَالَ لَهُمْ : اقْتَرِعُوا فَمَنْ خَرَجَتِ الْْقُرْعَةُ عَلَى اسْمِهِ أُلْقِيَ إلَى الْحُوتِ ، وَكَانَ يَعْلَمُ أنَّ الْقُرْعَةَ تَخْرُجُ عَلَيْهِ ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يَبْدَأ بإلْقَاءِ نَفْسِهِ إلَى الْحُوتِ مَخَافَةَ أنْ تَلْحَقَهُ سِمَةُ الْجُنُونِ ، فَسَاهَمَ فَوَقَعَ السَّهْمُ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنَ الْمَسْهُومِينَ).
وَالْمُدْحَضُ في اللغة : هو المغلوبُ في الحجَّة ، وأصلهُ من دَحَضَ الرجلُ إذا نزلَ مِن مكانهِ ، فلما أُلقِيَ عليه السُّلَّمُ في البحرِ ابتلعَهُ الحوتُ ابتلاعَ اللُّقمَةِ.
وقولهُ تعالى : { وَهُوَ مُلِيمٌ } ؛ أي أتَى بما يستحقُّ عليه اللّومَ ، والْمَلِيمُ : الآتِي بما يُلائِمُ على مثلهِ ، وسببُ استحقاقهِ اللَّومَ خروجهُ من بين قومهِ قبل ورُودِ الإذنِ عليه مِن اللهِ تعالى.
(0/0)
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } ، أي لولاَ أنه كان قبلَ أن يلتقمَهُ الحوتُ من المصَلِّين للهِ تعالى ، { لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ؛ لَمَكَثَ في بطنِ الحوتِ إلى يوم البعثِ والنُّشور. قال الحسنُ : (مَا كَانَتْ لَهُ صَلاَةٌ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ، وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلاً صَالِحاً قَبْلَ ذلِكَ).
ويقالُ : إن المرادَ بالتسبيحِ في هذه الآيةِ قولهُ في الحوتِ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانََكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. قال السديُّ : (لَبثَ يُونُسُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ أرْبَعِيْنَ يَوْماً) ، وقال الضحَّاكُ : (عِشْرِينَ يَوْماً) ، وقال عطاءُ : (تِسْعَةَ أيَّامٍ) ، وقال مقاتلُ : (ثلاَثَةَ أيَّامٍ).
(0/0)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
وقولهُ تعالى : { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } ؛ اي ألْهَمنَا الحوتَ أن يطرحَهُ على فضاءٍ من الأرضِ ، والعَرَاءُ هو المكانُ الخالِي من الشَّجر والبناءِ ، قال مقاتلُ : (مَعْنَى : { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ } يَعْنِي وَجْهَ الأَرْضِ وَهُوَ سَقِيمٌ قَدْ بَلِيَ لَحْمُهُ مِثْلَ الصَّبيِّ الْمَوْلُودِ) ، قال ابنُ مسعودٍ : (كَهَيْئَةِ الْفَرْخِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ ريشٌ).
وَقِيْلَ : معنى { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي وهو مَرِيضٌ ، وذلك لما أصابَهُ في بطنِ الحوت من الشدَّةِ والضَّغطَةِ والبُعدِ من الهواءِ والغذاء ، حتى ضعُفَ جسمهُ ورقَّ جلده ولم يبقَ ظُفْرٌ ولا شعرٌ كالولدِ أوَّلَ ما يخرجُ من بطنِ أُمِّه.
فلما أُلقِيَ على وجهِ الأرض كان يتأذى بحرِّ الشمس ، فأنبتَ اللهُ تعالى عليه شجرةً من يَقْطِينٍ ، قال الكلبيُّ : (هِيَ الْقَرْعُ) ، وهي شجرةٌ الدُّبَّاءِ العربي ، وكلُّ شجرةٍ لا تقومُ على ساقٍ وتمتدُّ على وجهِ الأرضِ مثل القَرْعِ والبطِّيخ ونحوِها فهو يقينٌ ، واشتقاقهُ من قَطَنَ من المكانِ إذا اقامَ به ، فهذا الشَّجرُ يكون ورقهُ وساقهُ على وجهِ الأرض ، فلذلك قِيْلَ : يَقْطِين ، ومن خصائصِ شجرةِ القَرْعِ أنَّها لا يقربُها ذبابٌ ، قالوا : فكان يستظلُّ بها من الشَّمسِ ، وسخَّرَ اللهُ له وَعْلَةً بُكرَةً وَعَشِيّاً تختلفُ إليه ، فكان يشربُ من لبَنِها حتى اشتدَّ ونبتَ شعرهُ.
ثم أرسلَهُ اللهُ بعدَ ذلك وهو قولهُ : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } ؛ وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : بَلْ يَزِيدُونَ) ، وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : وَيَزِيدُونَ) ، وكان الذين أُرسِلَ إليهم أهلُ نِينَوَى ، كأنَّهُ أُرسِلَ قبلَ ما الْتَقَمَهُ الحوتُ إلى قومٍ ، وبعدَ ما نبذهُ الحوتُ إلى قومٍ آخَرين.
(0/0)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قولهُ : { فَآمَنُواْ } ؛ أي فآمَنَ مَن أُرسِلَ إليهم يونسُ عليه السلام بما جاءَهم به من عندِ الله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } ؛ أي إلى حين آجالِهم. واختلَفُوا في الزيادةِ على مائة ألفٍ ، قال مقاتلُ : (كَانَتِ الزِّيَادَةُ عِشْرِينَ أَلْفاً) ، وقال الحسنُ : (بضْعاً وَثَلاَثِينَ ألْفاً) ، وقال سعيدُ بن جبير : (سَبْعِينَ ألْفاً).
(0/0)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
وقولهُ تعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } ؛ أي سلهُم - يا مُحَمَّدُ - أهلَ مكَّة سؤالَ توبيخٍ وتقريعٍ (ألِرَبكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونُ) ؟ وذلك أنَّ قُريشاً وقبائلَ من العرب منهم خُزاعَةُ وجُهَيْنَةُ وبنو سُليم كانوا يقولُون : إنَّ الملائكةَ بناتُ الله ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيراً. وقولهُ تعالى : { أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } ؛ أي حَاضِرُوا خَلقِنا إيَّاهم ، فكيفَ جعَلوهم إنَاثاً ولم يشهَدُوا خَلقَهم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ }[الزخرف : 19].
(0/0)
أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ في إضافةِ الأولادِ إلى اللهِ تعالى حين زعَمُوا أنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ ، تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيراً ، { أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ } ؛ القراءة المعروفةُ المشهودة بفتحِ الألِفِ على الاستفهامِ الذي فيه التوبيخُ ، والمعنى : سَلْهُمْ أصْطَفَى البناتِ ، إلاَّ أنه حذفَ ألِفَ الوصلِ وبقيت ألِفُ الاستفهامِ مفتوحةً مقطوعة على حالِها مثل أستَكبَرتَ وأستغفرتَ ، وأذهَبتُم ونحوها. وقرأ نافعُ برواية وَرْشٍ (اصْطَفَى) موصولةً على الخبرِ والحكاية عن قولِ المشركين ، تقديرهُ : ليَقولُون ولدَ اللهُ ويقولون اصْطَفَى البناتِ.
(0/0)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157)
وقولهُ تعالى : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؛ هذا توبيخٌ لَهم ؛ أي كيف ترضُون لله ما لا ترضون لأنفُسِكم ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ، أفلاَ تتَّعظُون فتمتَنعون عن مقالِتكم ، { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } ؛ أم لكم حجَّةٌ بيِّنةٌ على صحَّة دعواكم هذهِ ، { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ } ؛ وحجَّتِكم ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فيما تدَّعون.
(0/0)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } ؛ أي جعلَ هؤلاءِ بينَ اللهِ وبينَ الملائكةِ الذين يشاهدونَهم نسَباً ، وسُميت الملائكة جِنَّةً في هذا لاستتارهم عن أعيُن الناسِ كاستتار الجنِّ ، وقولهُ تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } ؛ أي علِمَت الملائكةُ أنَّ الكفارَ الذين عبَدُوهم لَمُحضَرون في العذاب لدُعائِهم إلى هذا القولِ.
ثم نَزَّهَ اللهُ تعالى نفسَهُ فقالَ : { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ أي عمَّا يصِفُونَهُ ويُضِيفُونَهُ إليه ، { إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ؛ لكنَّ عبادَ اللهِ المخلَصين من الجنِّ والإنسِ لا يُحضَرون هذا العذابَ.
(0/0)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } ؛ هذا خطابٌ لأهلِ مكَّة ، معناهُ : فإنَّكم أيُّها المشرِكون وما تعبدونَهُ من دونِ الله الأصنامُ ، { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } ؛ أي ما أنتم على ذلك بمُضِلِّين أحَداً ، { إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } ، إلاَّ مَن كان في علمِ الله أنه يَصْلَى الجحيمَ ، وفي هذا بيانٌ على أنَّهم يُفسِدون أحَداً إلاَّ مَن كان في معلومِ الله أنه سيَكفُر ، يعني أن قضاءَ اللهِ سبَقَ في قومِ بالشَّقاوة ، فإنَّهم يَصْلُونَ النارَ ، فهُم الذين يُضِلُّونَ في الدِّينِ ويعبدون الأصنامَ.
(0/0)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } ؛ هذا من قولُ جِبرِيلَ عليه السلام للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : ليس منَّا معشرُ الملائكةِ ملَكٌ في السَّمواتِ والأرضِ إلاَّ له موضعٌ معلوم يَعبُدُ اللهَ فيه ، لا يتجاوزُ ما أُمِرَ به ، { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّآفُّونَ } ؛ أي الْمُصْطَفُّونَ في الصَّلاة كصُفوفِ المؤمنين. وَقِيْلَ : صافُّون حولَ العرشِ ينتظرون الأمرَ والنهيَ من اللهِ تعالى ، { وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ } ؛ أي الْمُصَلُّونَ للهِ ، المنَزِّهُون له عن السُّوءِ ، وعن جميعِ ما لا يَليقُ بصفاتهِ.
(0/0)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ } ، أي وقد كان كفارُ مكَّة يقولون : { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأَوَّلِينَ } ، لو جاءَنا ذِكرٌ كما جاءَ غيرَنا من الأوَّلِين من الكتُب ، { لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ؛ لأخلَصْنا العبادةَ لله ، فلمَّا جاءَهم الرسولُ والكتاب كما قالُوا وطلبوا ؛ { فَكَفَرُواْ بِهِ } ، كفَرُوا بذلكَ ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، ماذا ينْزِلُ بهم ، وهذا كما قالُوا : لو أنَّا أُنزِلَ علينا الكتاب لكُنَّا أهدَى منكم.
(0/0)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ } ؛ معناهُ : لقد تقدَّمَ وعدُنا بالنصرِ والظَّفر لعبادِنا المرسَلين ، { إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ } ، يعني بالكلمةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي }[المجادلة : 21] فهذه الكلمةُ التي قد سبقَت ، فاللهُ تعالى لم يفرِضَ على نبيٍّ الجهادَ إلاّ ونصرَهُ وجعلَ العاقبةَ له ، قال الحسنُ : (مَا غُلِبَ نَبِيٌّ فِي حَرْبٍ وَلاَ قُتِلَ فِيْهِ قَطٌّ).
(0/0)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } ؛ أي جندُ اللهِ لهم الغلبَةُ بالحجَّة والنصرِ في الدُّنيا ، وينتقمُ الله من أعدائهِ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } ؛ أي أعْرِضْ عنهم حتى تنقضِيَ المدَّةُ التي أُمهِلوا فيها ، { وَأَبْصِرْهُمْ } ، في عذاب الآخرة ، { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ؛ ما وُعدوا من العذاب. وَقِيْلَ : معناهُ : أعرِضْ عنهم حتى نأْمُرَكَ بقتالهم ، وأبصِرهُم بقلبكَ فسوف يُبصِرُونَ العذابَ بأعيُنهم.
فقالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : متى ينْزلُ بنا العذابُ الذي تعِدُنا به ؟ فقالَ اللهُ تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } ؛ أي يطلبُون تعجيلَ عذابنا لجهلِهم ، { فَإِذَا نَزَلَ } ؛ العذابُ ، { بِسَاحَتِهِمْ } ؛ أي بفَنَاءِ دارهم وموضعِ منازلهم ، { فَسَآءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } ؛ أي فبئسَ صباحُ قومٍ أنذرَهم الرسلُ فلم يؤمنوا.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال : " لَمَّا أتَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَيبَرَ ، قالَ : " اللهُ أكْبَرُ ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذا نَزَلْنَا سَاحَةَ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرينَ " ".
(0/0)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
وقولهُ تعالى : { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ } ؛ إنما ذكرَهُ ثانياً تأكيداً لوعدِ العذاب ، وقولهُ تعالى : { وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ؛ ليس هذا بتكرار ؛ لأنَّهما عذابَان ، أرادَ بالأولِ عذابَ الآخرةِ ، وبالثانِي عذابَ الدُّنيا يومَ بدرٍ.
(0/0)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
قَوْلُهُ تَعَلَى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ أي تنْزِيهاً لربكَ رب القُدرَةِ والمنَعَة والغلبَةِ عمَّا يقولون من الكذب بالأوثان آلهةً ، وأنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ.
(0/0)
وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)
وقولهُ تعالى : { وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } ؛ الذين بلَّغُوا عن اللهِ التوحيدَ والشرائعَ. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إذا سَلَّمْتُمْ عَلَيَّ فَسَلِّمُواْ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ، فَإنَّمَا أنَا رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ".
(0/0)
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي الشُّكْرُ للهِ رب الخلائقِ على إهلاكِ الأعداء وإعزاز الأولياء. وَقِيْلَ : معناهُ : والحمدُ للهِ رب العالَمين على إهلاكِ المشرِكين ونُصرَةِ الأنبياءِ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ : (مَنْ أحَبَّ أنْ يَكْتَالَ بالْمِكْيَالِ الأَوْفَى مِنَ الأَجْرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلْيَكُنْ آخِرُ كَلاَمِهِ مِنْ مَجْلِسِهِ : سُبْحَانَ رَبكَ رَب الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ...) إلى آخرِ السُّورة.
(0/0)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
{ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } ؛ اختلَفُوا في قولهِ (ص) قَالَ : (صَدَقَ اللهُ) وهو قول الضحَّاكُ ، وقال عطاءُ : (صَدَقَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ القرظي : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِ اللهِ صَمَدٌ وَصَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ وَصَادِقُ الْوَعْدِ). وَقِيْلَ : هو من فَواتِحِ السُّوَر. قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ قَسَمٌ أقْسَمَ اللهُ بهِ) ، وقال سعيدُ بن جُبير : (هُوَ بَحْرٌ يُحْيي اللهُ بهِ الْمَوْتَى بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ). وَقِيْلَ : هو إشارةٌ إلى صُدودِ الكفَّار عنِ القُرْآنِ والْهُدَى.
قال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : أعْرَضَ عَنِ الْهُدَى) كَأَنَّهُ ذهَبَ إلَى أنَّهُ كَانَ فِي الأصْلِ صَدٌّ ؛ أي صَدَّ أبُو جَهْلٍ أوْ صَدَّ أهْلُ مَكَّةَ عَنِ الْحَقِّ ، فَأُبدِلَتِ إحْدَى الدَّالَينِ ألِفاً).
وقرأ عِيسَى بن عُمر : (صَادَ) بفتحِ الدَّال ، ومثلُ قاف ونون ، لاجتماعِ السَّاكِنَين وحرَّكَها بأخَفِّ الحركَاتِ. ومعناهُ : صَادَ مُحَمَّدٌ قلوبَ الرِّجالِ واستَمالَها حتى آمَنُوا به. وقرأ الحسنُ : (صَادِ) بكسرِ الدَّال من الْمُضَادَّاتِ التي هي مِن المقابلَةِ والمعارضةِ ؛ أي عارضْ عمَلَكَ بالقُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } أي ذِي البيَانِ الْهَادِي إلى الحقِّ. وَقِيْلَ : معناهُ : ذِي الشَّرَفِ ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف : 44] والمعنَى : أقْسَمَ اللهُ تعالى بالقُرْآنِ أنَّ مُحَمَّداً صادقٌ ، وجوابُ قَسَمٍ محذوف تقديرهُ : والقُرْآنِ ذِي الذِّكرِ ما الأمرُ كما يقولُ الكفَّار.
(0/0)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } ؛ يعني : كفَّارَ مكَّة في مَنَعَةٍ وحَمِيَّةٍ وتكبُّرٍ عن الحقِّ ، { وَشِقَاقٍ } أي خِلاَفٍ وعدَاوةٍ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } ؛ أي مِن أُمَمٍ بتكذِيبهم الرُّسُلَ ، { فَنَادَواْ } ؛ عند وُقوعِ الهلاكِ بهم بالاستعاثةِ ، { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } ؛ أي وليسَ الحينُ حينَ نَزْوٍ ولاَ قَرارٍ ، قال وهبُ : (لاَتَ باللُّغَةِ السِّرْيَانِيَّةِ : وَلَيْسَ ، وذلك أنَّ السِّريانِيَّ إذا أرَادَ أن يَقُولَ وَلَيْسَ يَقُولُ : وَلاَتَ) وقال أئِمَّةُ اللُّغَةِ : (أصْلُهَا (لاَ) زيْدَتْ فِيْهَا التَّاءُ ، كَمَا زِيْدَتْ فِي ثَمَّتَ وَرُبَّتَ). وقال قومٌ : إنَّ التاءَ زيدَتْ في (حِينَ) كما زيدَتْ في قولِ الشَّاعرِ : الْعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ وَالْمُطْعِمُونَ زَمَانَ أيْنَ الْمُطْعِمُ؟والمرادُ بتَحِينَ : حِينَ. فمَن قالَ : إنَّ التاء مع لاَ ، فالوقفُ عليه بالتاءِ. ورُوي عن الكسائيِّ (وَلاَه) بالهاءِ في الوقفِ ، ومثلهُ روى قنبلُ عن ابنِ كثير. ومَن قالَ : إن التاءَ مع حينَ لاَ ، فالوقفُ عليهِ ، (ولا) ثُم تبتدئ : تحين مناص.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ كُفَّارُ مَكَّةَ إذا قَاتَلُواْ فَاضْطَرَبُواْ فِي الْحَرْب ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَنَاصٍ ؛ أيْ اهْرُبُواْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَ بهِمُ الْعَذابُ ببَدْرٍ قَالُواْ : مَنَاصٍ ، عَلَى عَادَتِهِمْ ، فَأَجَابَتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ : وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصٍ ؛ أيْ لَيْسَ هَذا حِيْنَ مَنْجَى).
وَقِيْلَ : معناهُ : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي ليسَ هذا حينُ نُزْوٍ ولا حينَ فِرَار ، والمناصُ مصدرِ من النَّوْصِ ، يقالُ : نَاصَهُ يَنُوصُهُ إذا فَاتَهُ ، ويكون النَّوْصُ بمعنى التأخُّرِ ؛ أي ليس هذا حينَ التأَخُّرِ ، والنَّوْصُ هو الْفَوْتُ والتأخُّر.
(0/0)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَجِبُواْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } ؛ أي وعَجِبَ المشركونَ أنْ جاءَهم نَبيٌّ منهم يخوِّفُهم من عذاب الله ، { وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـاذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } ؛ يعنونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـاهاً وَاحِداً } ؛ أي قالُوا لفَرْطِ جَهلِهم على وجهِ الإنكار : أجعَلَ مُحَمَّدٌ الآلِهَةَ إلَهاً واحداً ؟ { إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ؛ أمَّّا هذا الذي يقولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من ردِّ الحوائجِ إلى إلَهٍ واحدٍ ، إلاَّ شيء مُفْرِطٌ في العَجَب.
والعُجَابُ : ما يكون في غايَةِ العَجَب ، يقالُ : رجلٌ طُوَالٌ ، وأمْرٌ كُبَارٌ ، وسيفٌ قُطَاعٌ ، وسَيلٌ جُحَافٌ ، ويرادُ بذلك كلَّ مبالغةٍ.
" وذلك أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّاب لَمَّا أسلمَ شَقَّ على قُريشٍ ، فقال الوليدُ بن المغيرةِ للمَلأ مِن قريشٍ وهم الرُّؤساءُ والصَّناديدُ والأشرافُ ، وكانوا خَمسةً وعشرين رَجُلاً ، منهم الوليدُ بن المغيرة وهو أكبَرُهم سِنّاً ، وأبو جهلٍ ، وأُبَيُّ بن خلَفٍ ، وأبو البحتري بن هِشَام ، وعُتبة وشيبَةُ ابنَا ربيعةَ ، والعاصُ بن وائلٍ ، والنضِرُ بن الحارثِ ، ومَخرَمَةُ بن نوفلٍ ، وزمعَةُ بن الأسودِ ، والأحنَفُ بن شُريقٍ ، وغيرُهم.
قال لَهم الوليدُ بن المغيرة : امْشُوا إلَى أبي طَالِبٍ وَقُولُواْ لَهُ : أنْتَ شَيْخُنَا وَكَبيرُنَا ، وَإنَّا أتَيْنَاكَ لِتَقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أخِيْكَ. فَمَشُواْ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ مَرَضَ الْمَوْتِ ، فَشَكُواْ إلَيْهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ : يَا ابْنَ أخِي مَا تُرِيْدُ مِنْ قَوْمِكَ ؟ قَالَ : " أُريدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً إذا قَالُوهَا مَلَكُواْ الْعَرَبَ وَدَانَتْ لَهُمْ الْعَجَمُ " فَقَالُواْ : وَمَا هِيَ؟! قَالَ : " قُولُواْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " فَنَفَرُواْ مِنْ ذلِكَ ؛ وَقَالُواْ : أنَجْعَلُ آلِهَةً إلَهاً وَاحِداً؟! "
وَقِيْلَ : " إنَّ أبا طالبٍ لَمَّا دعَا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : با ابنَ أخِي ؛ هؤلاءِ قومُكَ يسألونكَ السَّواءَ ، فلا تَمِلْ كلَّ الميلِ عليهم ، فقال : " وَمَاذا يَسْأَلُونَنِي ؟ " قال : ترفضُ ذكرَ آلهِتهم ويدَعُونَكَ وإلَهَكَ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي أدْعُوهُمْ إلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ " قَالُوا : وما هي ؟ قَالَ : " لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " ".
فنَفَرُوا من ذلكَ ، وقال : { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـاهاً وَاحِداً } ، فاغتاظوا مِن ذلكَ وخرَجُوا من عندِ أبي طالبٍ يقولُ بعضهم لبعضٍ : أمشُوا واصبروا على آلهتِكُم. فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ } ؛ أي انطلقَ مِن مجلسهم وهم يقولون الذي كانوا فيه عندَ أبي طالب ، وهم يقولون : اثبتُوا على عبادةِ آلهتِكُم واصبروا ، { أَنِ امْشُواْ وَاْصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ } ؛ على دِينكم ، { إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ } ؛ أي هذا الشيءُ يريده مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ولا يتمُّ له ذلك.
(0/0)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
قولهُ تعالى : { مَا سَمِعْنَا بِهَـاذَا فِى الْمِلَّةِ الآخِرَةِ } ؛ أي قالُوا : ما سَمِعْنَا بهذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من التَّوحيدِ في الملَّة الآخرةِ ، يعنونَ النَّصرانية ؛ لأنَّها آخِرُ الْمِلَلِ ، والنصارَى لاَ تُوَحِّدُ بأنَّهم يقولون : ثالثُ ثلاثةٍ. { إِنْ هَـاذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ } ؛ أي قَالُوا : ما هذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إلاَّ كذبٌ اختَلَقَهُ من تلقَاءِ نفسهِ ، يعنونَ الذي جاءَ به من التوحيدِ والقُرآن.
(0/0)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } ؛ أي قالَ المشركون : اخْتُصَّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم بالنُّبوة والكتاب من بيننا ، ونحن أكبرُ منه سنّاً وأعظمُ شرَفاً! والمعنى بالذِّكْرِ القرآنُ.
يقول اللهُ تعالى : { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } ؛ أي يقولون ما يعتقدونَهُ إلاّ شاكِّين ، { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } ؛ الاستئصالِ ، وهذا تَهديدٌ لهم ، أي أنَّهم سيذُوقوا العذابَ ثم لا ينتَفِعون بزوالِ الشَّكِّ في ذلكَ الوقتِِ.
(0/0)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } ؛ معناهُ : عندَهم خزائنُ رحْمَة ربكَ ؛ أي بأيدِيهم مفاتيحُ النُّبوة والرِّسالة فيضعونَها حيث شاؤُا. وَقِيْلَ : معناهُ : عندَهم خزائنُ رحمة ربكَ فيمنعونَكَ ما مَنَّ الله به عليكَ من الكرامةِ وفضَّلَكَ به من الرِّسالةِ. ومعنى الآيةِ : ليس ذلكَ بأيدِيهم ولكنه بيَدِ العزيزِ في مُلكهِ ، الوَّهاب الذي وَهَبَ النبوَّة لكَ.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ } ؛ وذلكَ أنَّهم كانوا يَحْسِدُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على ما خُصَّ به من النبوَّةِ والوَحْيِ ، فقالَ اللهُ تعالى : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فيُنازعُوا خالِقَهم ، وينَزِّلُ الوحيَ على من يختارُ ، فقال لَهم : { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأَسْبَابِ } أي فَلْيَصْعَدْ في طَوْقِ السَّموات مِن سماءٍ إلى سماء ، فليَمْنَعِ الوحيَ عنكَ إنْ كان لهم مَقْدِرَةٌ على ذلكَ.
(0/0)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأَحَزَابِ } ؛ أخبرََ اللهُ تعالى نَبيَّهُ أنه سيُهزَمُ جندُ المشركين ببَدْرٍ ، و(جُنْدٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ أي هُمْ جُنْدٌ ، و(مَا) زائدةٌ ، و(هُنَالِكَ) إشارةٌ إلى بدلِ ومَصَارعُهم بها و(الأَحْزَاب) سائرُ مَن تقدَّمَهم من الكفَّار الذين تجرَّؤوا على الأنبياءِ عليهم السلام.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } ، أي كذبَتْ قبلَ قومِكَ قومُ نوحٍ ، { وَعَادٌ } ، هوداً ، وَكذب ، { وفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ } ، وموسى عليه السلام ، { وَثَمُودُ } ؛ صالحاً ، { وَقَوْمُ لُوطٍ } ، لوطاً ، { وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ } ؛ شعَيباً ، كَذبَ هؤلاءِ أنبياءَهم فحلَّ بهم عذابُ الاستئصالِ ، وكذلكَ { أُوْلَئِكَ } ؛ أي أُؤْلَئِكَ ، { الأَحْزَابُ } ، والأحزابُ الجماعةُ الكثيرة القويَّة ، { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } ، كلُّهم كذبُوا الرُّسُلَ رسلهم ، { فَحَقَّ عِقَابِ } ، فحَقَّ عليهِم عقابي وعذابي ، وكذلك يحقُّ على قومِكَ.
وسُمِّيَ فرعونُ ذُو الأوتادِ ؛ لأنه كان يَمُدُّ بين الأوتادِ فيُرسِلُ عليهم الحيَّات والعقارب. وَقِيْلَ : إنه كان إذا غَضِبَ على الإنسانِ وَاتَدَ يَدَيْهِ ورجْلَيْهِ ورأسَهُ على الأرضِ ، قال عطيَّة : (ذُو الأوتادِ ؛ أي ذُو الجنودِ والْجُمُوعِ الكثيرةِ) يعني أنَّهم كانوا يُقَوُّنَ أمرَهُ ويشددون مُلكَهُ كما يُقَوِّي الوتدُ الشيءَ. وَقِيْلَ : الأوتادُ الأَبْنِيَةُ الْمَشِيدَةُ ، سُمِّيت بذلك لارتفاعِها كما سُميت الجبالُ أوتَاداً.
(0/0)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَنظُرُ هَـاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } ؛ أي ما ينظر أهلُ مكَّة لوقوعِ العذاب بهم إلاَّ صيحةً واحدةً وهي نفخةُ البعثِ ، وذلك أنَّ العقوبةَ في قومِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُؤَخَّرَةٌ إلى يومِ البعثِ ، وعقوبةُ الأممِ الماضية كانت مُعَجَّلَةً في الدُّنيا ومُؤجَّلةً في الآخرةِ ، ألاَ ترَى أنَّ الله تعالى ذكَرَ عقوبةَ الاستئصالِ في الدُّنيا من الأُمم الماضيةِ ، وقالَ في هذهِ الأُمَّة{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ }[القمر : 46].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } ؛ أي ما لِتِلْكَ الصَّيحةِ مِن رجعةٍ إلى الدُّنيا ، والفَـُوَاقُ بضَمِّ الفاءِ وفتحِها بمعنىً واحدٍ وهو رجوعٌ ، ومن ذلكَ قولُهم : أفَاقَ فلانٌ من الْجُنُونِ ومِن المرضِ ؛ إذا رَجَعَ إلى الصِّحة. والفُوَاقُ بضَمِّ الفاءِ ما بين حَلْبَتَي النَّاقَةِ ؛ لأن اللَّبن رجوعهُ إلى الضَّرعِ بينَ الحلبَتين. والمعنى : ما ينظرُ هؤلاء إلاّ صيحةً واحدة ما لَها من رُجوعٍ. وَقِيْلَ : يرَدَّدُ لكَ الصوتُ فيكون له رجوعٌ.
(0/0)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ } ؛ أي قالَهُ المشركون عَجِّلْ لنا صَحِيفَتَنا قبلَ الحساب حتى نَعلمَ ما فيها ، قال الكلبيُّ : (لَمَّا نَزَلَ فِي الْحَاقَّةِ : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـابَهُ بِيَمِينِهِ }[الحاقة : 19] و{ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ }[الحاقة : 25] قالُوا على جهةِ الاستِهْزاء : رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا فِي الدُّنْيَا ، فقيل : يومُ الحساب أعجِلْ لنا كتابَنا ، قالُوا ذلك تَكذِيباً واستهزاءً).
والقِطُّ : الصَّحِيفَةُ التي أحْصَتْ كلَّ شيءٍ. وَقِيْلَ : القِطُّ : النَّصيبُ ، وسُميت كتبُ الجوائزِ قُطُوطاً لأنَّهم كانوا يكتُبون الأنصِبَاءَ من العطَايَا في الصَّحائفِ ، يقالُ : أخَذ فلانٌ قِطَّهُ ؛ إذا أخذ كتابَهُ الذي كُتِبَ له بجائزتهِ وصِلَتهِ.
وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلُهُ { قِطَّنَا } أيْ حَظَّنَا مِنَ الْعَذاب وَالْعُقُوبَةِ). قال قتادةُ : (نَصِيبَنَا مِنَ الْعَذاب). قال مجاهدُ : (عُقُوبَتَنَا). وقال عطاءُ : (هُوَ يَقُولُهُ النَّضِرُ بْنُ الْحَارثِ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذا هُوَ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أو اءْتِنَا بعَذابٍ ألِيمٍ).
(0/0)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اصْبِر عَلَى مَا يَقُولُونَ } ؛ اصْبرْ يَا مُحَمَّدُ على ما يقولون مِن تكذِيبكَ وعلى قولِهم إنَّكَ ساحرٌ وشاعر ومجنونٌ وكاهن ، وانتظِرْ ما وعَدَكَ اللهُ من النصرِ عليهم والانتقامِ منهم ، { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ } ؛ أي ذِي القوَّة في العبادةِ وذا النِّعَمِ الكثيرةِ ، كيف صَبَرَ على أذى قومهِ ، { إِنَّهُ أَوَّابٌ } ؛ أي مُطِيعٌ للهِ ، مُقبلٌ على طاعتهِ. والأَوَّابُ : كثيرُ الأَوْب الى اللهِ تعالى. قال الزجَّاجُ : (كَانَتْ قُوَّةُ دَاوُدَ عَلَى الْعِبَادَةِ أتَمَّ قُوَّةٍ ، كَانَ يَصُومُ يَوْماً وَيُفْطِرُ يَوْماً ، وَذلِكَ أشَدُّ الصَّوْمِ ، وَكَانَ يُصَلِّي نِصْفَ اللَّيْلِ).
(0/0)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ } ؛ معناهُ : إنَّ الجبالَ كَانَتْ تُسَبحُ معَهُ غُدوةً وعشِيَّة. والإشراقُ طُلُوعُ الشَّمسِ وإضاءَتُها ، يقالُ : شَرَقَتْ إذا طلَعَتْ ، وأشْرَقَتْ في الآية بصلاة الضُّحى ، وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه : " كُنْتُ أقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ لاَ أدْري مَا هِيَ ، حَتَّى حَدَّثَتْنِي أُمُّ هَانِيءٍ فِي بَيْتِ أبي طَالِبٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بوُضُوءٍ ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الضُّحَى ، وَقَالَ : " يَا أُمَّ هَانِيءٍ هَذِهِ صَلاَةُ الإشْرَاقِ " ".
(0/0)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } ؛ أي وسخَّرنا له الطَّيرَ مجموعةً إليه تُسبحُ اللهَ معه غُدوةً وعشياً ، { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي كلٌّ للهِ تعالى مُسَبحٌ ومطيعٌ يرجع التسبيحَ مع داودَ كلما سبَّحَ. وَقِيْلَ : معناهُ : كلٌّ له رجَّاعٌ إلى طاعتهِ وأمره.
(0/0)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } ؛ أي قوَّينا مُلكَهُ وثبَّتناهُ بالهيبَةِ ، ويقالُ بالحرَسِ ، كان يحرسُ محرابَهُ كلَّ ليلةٍ ثلاثةٌ وثلاثون ألفَ رجُلٍ ، كان فيهم أبناءُ الأنبياءِ لم يطمَعْ في مُلكهٍ أحدٌ. قرأ الحسنُ : (وَشَدَّدْنَا) بالتشديد. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (الْحِكْمَةُ هِيَ النُّبُوَّةُ وَالْمَعُونَةُ بكُلِّ مَا حَكَمَ). فقال مقاتلُ : (الْحِكْمَةُ الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ). وَقِيْلَ : الحكمةُ كلُّ كلامٍ حسَنٍ يدعُو إلى الهدى وينهَى عن الرَّدَى.
وأما { فَصْلَ الْخِطَابِ } فهو فصلُ القضَاءِ بين الحقِّ والباطلِ فيما بين الخصُومِ ، لا يُتَعْتِعُ في قضائهِ. وَقِيْلَ : فصلُ الخطاب وهو الحكمُ بالبيِّنة واليمينِ. وَقِيْلَ : هو قولهُ : أمَّا بعدُ ، وهو أوَّل مَن قال : أمَّا بعدُ ، ومعناهُ أما بعدَ حمدِ الله فقد بلغتُ كذا وسمعتُ كذا.
(0/0)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُاْ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ } ؛ اختلَفُوا في خَطِيئَةِ داودَ عليه السلام والذي هو مستفيضٌ بين العوَامِّ ما ذكرَهُ الكلبيُّ : (أن داودَ عليه السلام كان يُصَلِّي ذاتَ يومٍ في محرابه ، والزَّبُورُ منشورٌ بين يدَيهِ ، إذ جاءَهُ إبليسُ في صُورةِ حَمامةٍ من ذهَبٍ فيها كلُّ لونٍ حَسَنٍ ، فوقفت بين يديهِ فمَدَّ يدَهُ ليأخُذها ، فطارَتْ غيرَ بعيدٍ من غيرِ أن توَسِّد من نفسِها ، فامتدَّ إلَيها ليأخُذها فطارت حتى وقعَتْ في الكُوَّة ، فذهبَ ليأخُذها فطارَتْ من الكوَّة ، فجعلَ داودُ عليه السلام ينظر أين تقعُ ، فأبصرَ امرأةً في بُستان تغتسلُ ، وإذا هي من أعجَب النِّساء وأحسَنِهنَّ ، وأعجبتهُ ، فلما حانَتْ منها التفاتةٌ أبصرَتْهُ فأسبَلَتْ شعرَها على جسمِها فغطَّى بدنَها ، فزادَهُ ذلك إعجاباً بها. فسألَ دواد عنها وعن زوجِها ، فقالوا اسمها تشايعُ بنت شائعٍ وزوجُها أوريَّا بن حنانا وهو غائبٌ في غُزَاةٍ بالبلقاء مع أيُّوب بن صوريا ابنِ أُخت داود ، فكتبَ داودُ إلى ابنِ أُخته : اذا أتاكَ كِتَابي هذا فابعَثْ أوريا إلى موضعِ كذا وإلى القلعةِ الفلانيَّة ، ولا يرجِعُوا حتى يفتَحوها أو يُقتلوا. فلما جاءَ الكتابُ نَدَبَهُ وندبَ الناسَ معه ، فأتَوا القلعةَ فلما أتَوْها رمَوهُم بالحجارةِ حتى قَتلُوهم وقُتِلَ أوريا معهم. فلما انقضت عدَّتُها تزوَّجَها داودُ عليه السلام ، فهي أمُّ سليمان.
فلما دخلَ داودُ عليه السلام بها ، فلم يلبَثْ إلاَّ يسِيراً حتى بعثَ عليه مَلَكين في صُورةِ آدَميَّين ، فطلبَا أن يدخُلا عليهِ فوجداهُ في يومِ عبادتهِ ، وكان مِن عادتهِ أنَّهُ جَزَّأ الدهرَ يوماً لعبادتهِ ؛ ويَوماً لنسائهِ ؛ ويوماً للقضاءِ بين النَّاسِ.
فلما جاءَ الملَكان في يومِ عبادته منَعَهُما الحرسُ من الدخولِ عليه ، فتَسوَّرُوا المحرابَ ؛ أي دخَلُوا عليه مِن فوق المحراب ، { إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ } ، فلم يشعُرْ وهو يصلِّي إلاّ وهُما بين يدَيه جالِسَين ، { فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ } ، ففَزِعَ منهما ، فقالا : لا تَخَفْْ يا داودُ نحنُ ، { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ } ؛ أي ولا تَجُرْ ، قال السدِّيُّ : (وَلاَ تُسْرِفْ) ، وقال المؤرِّج : (وَلاَ تُفْرِّطْ).
وقرأ أبو رجَاء (تَشْطُطْ) بفتح التاءِ وضمِّ الطاء الأُولى من الشَّطَطِ ، والإشْطَاطُ مجاوزةُ الحدِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ } ؛ أي وَأرْشِدْنَا إلى الطريقِ المستقيم.
(0/0)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً } ؛ قال أحدُ الملَكين : إن هذا أخِي ، أي على دِيني لهُ تِسْعٌ وتِسعون امرأةً. والنعجةُ : البقرَةُ الوحشيَّة ، والعربُ تكَنِّي عنِ المرأةِ بها ، وتشَبهُ النساءَ بالنِّعَاجِ من البقرِ ، وإنما يعني بهذا داود ؛ لأنه كان له تسعٌ وتسعون امرأةً ، وهذا من أحسنِ التَّعريضِ ، ويُسمَّى تعريضُ التفهيمِ والتنبيهِ ؛ لأنه لم يكن هناك نعاجٌ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ } ؛ أي امرأةٌ واحدة ، { فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا } ؛ أي ضُمَّها إلَيَّ واجعلني أعُولُها. والمعنى : طلِّقْها حتى أتزوَّجَها ، وقال ابنُ جبير : (مَعْنَى قَوْلِهِ : { أَكْفِلْنِيهَا } أيْ تَحَوَّلْ عَنْهَا) ، { وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } ؛ أي غلبَني ، وقال الضحَّاك : (أيْ تَكَلَّمْ وَكَانَ أفْصَحَ مِنِّي ، وَإنْ عَادَانِي كَانَ أبْطَشَ مِنِّي) ، وقال عطاءُ : (مَعْنَاهُ أعَزُّ مِنِّي وَأقْوَى عَلَى مُخَاطَبَتِي لأَنَّهُ كَانَ الْمَلِكَ).
(0/0)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } ؛ أي إنْ كان الأمرُ كما تقولُ فقد ظلمَكَ بما كفَلَكَ من قولهِ عن امرأتِكَ ليتزَوَّجَها هو. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ؛ معناهُ : وإنَّ كثيراً من الشُّركاء لَيظلِمُ بعضُهم بعضاً ، ظنَّ داودُ أنَّهما شَريكان. وقولهُ تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ معناهُ : إلاّ الذين آمَنُوا { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ فإنَّهم لا يَظلمُونَ أحَداً ، { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } ؛ أي هم قليلٌ ، يعني الذين لاَ يظلِمُون.
قال السديُّ : (لما قال أحدُهما : إنَّ هذا أخِي له تسعٌ وتسعون نعجةً ، قال داودُ عليه السلام للآخر : ما تقولُ ؟ قالَ : نَعَمْ لي تسعٌ وتسعون نعجةً وله نعجةٌ ، وأنا أُريد أنْ آخُذها وأكَمِّل نعاجِي مائةً ، قال داودُ عليه السلام : وهو كارهٌ ؟ قال نعَمْ وهو كارهٌ ، قال : إذاً لا ندعُكَ وإنْ رُمْتَ ذلك ضرَبْنا منكَ هذا ، وهذا يعني طرفَ الأنفِ ، وأصلهُ : الجبهة.
قال : يا داودُ أنتَ أحقُّ أن يُضرب مثلَ هذا ، وهذا يعني طرفَ الأنفِ وأصلهُ ، حيث كان له تسعٌ وتسعون امرأةً ولم يكن لأوريَّا إلاّ امرأةً واحدة ، فلم تزَلْ تُعَرِّضُهُ للقتلِ حتى قُتل وتزوَّجتَ امرأتَهُ. ثم صعدَا إلى السَّماء ، فعَلِمَ داودُ عليه السلام أنَّ الله قد ابتلاهُ وامتحنَهُ ، فخَرَّ راكعاً أي ساجِداً وأنابَ. ورجعَ إلى طاعةِ الله تعالى بالتَّوبةِ والنَّدامَةِ.
ومعنى قولهِ تعالى : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ؛ أي وعَلِمَ داودُ أنَّا امتحنَّاهُ بما قدَّرنا عليه من نظرهِ إلى المرأةِ وافتتانه بها ، وهذا قولُ بعضِ المفسِّرين ، إلاّ أنَّ هذا قَوْلٌ مَرْدُودٌ ، لاَ يُظَنُّ بدَاوُدَ عليه السلام ضَلاَلَةٌ ، فهو أجَلُّ قدرةً وأعظمُ منْزلَةً ، وكيف يُظنُّ بالأنبياءِ عليهم السَّلام أن يعرِّضَ المسلمينَ للقتلِ لتحصيل نسائهم لأنفُسِهم ، ومَنْ نَسَبَ الأَنْبيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلَى هَذا وَصَدَّقَ بهِ فَهُوَ مِمَّنْ لاَ يَصْلُحُ لإيْمَانِهِ بهِمْ ، وَلَئِنْ يُخْطِئَ الإنْسَانُ فِي نَفْيِ الْفَوَاحِشِ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِمَّنْ يُخْطِئُ فِي إضَافَتِهَا إلَيْهِمْ ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الشَّرِيعَةِ بحَمْلِ أُمُور الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ مَا أمْكَنَ.
وعن عبدِالله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ : (مَا زَادَ دَاوُدُ عليه السلام عَلَى أنْ قَالَ لِزَوْجِهَا : تَحَوَّلْ لِي عَنْهَا). وعن عليٍّ رضي الله عنه قال : (لَئِنْ سَمِعْتُ أحَداً يَقُولُ إنَّ دَاوُدَ عليه السلام قَارَبَ مِنْ تِلْكَ الْمَرَأةِ سُواءً أوْ حَدَّثَ بحَدِيثِ دَاوُدَ عليه السلام عَلَى مَا يَرْويهِ الْقُصَّاصُ مُعْتَقِداً صِحَّتَهُ جَلَدْتُهُ مِائَةً وَسِتِّينَ جَلْدَةً) يعني مثلَ حدِّ قذفِ سائرِ الناس.
وَقِيْلَ : إنَّ ذنبَ داودَ عليه السلام أنه تَمَنَّى أن تكون له امرأةُ أوريا حَلاَلاً ، وحدَّثَ نفسَهُ بذلك ، فاتفقَ غزوُ أوريا وتقدمه في الحرب وهلاكهُ ، فلما بلغَهُ قتلهُ لم يَجْزَعْ ولم يتوجَّع عليه كما يجزعُ على غيرهِ من جُندهِ إذا هلكَ ، ثم تزوَّجَ امرأتَهُ فعاتبَهُ اللهُ على ذلكَ ؛ لأن ذنوبَ الأنبياءِ وإن صغُرت فهي عظيمةٌ عند اللهِ.
(0/0)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } ؛ أي قال اللهُ له بعدَ المغفرةِ ، { يادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } أي نَبيّاً مَلِكاً على بني إسرائيلَ ، والخليفةُ هو المدبرُ للأمرِ والمقيم. يا داودُ إنَّا صيَّرناكَ خليفةً في الأرضِ تدبرُ أمورَ العبادِ مِن قِبَلِنَا ، { فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ } ؛ أي العدلِ الذي هو حكمُ الله بين خلقهِ ، { وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى } ، في الحكمِ بين النَّاس ، { 1648; فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، أي فيصرِفُكَ الهوَى عن طاعةِ الله ، { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ، أي عن دين الله ، { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } ، في الآخرة ، { بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الْحِسَابِ } أي ترَكُوا العملَ ليومِ الحساب.
(0/0)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } ؛ أي ما خلقنَاهُما وما بينَهما من الخلقِ عبَثاً إلاَّ للأمرِ والنَّهي ، وإنَّما خلقنَاهُما للتعبُّدِ ولنجزي الْمُحسِنَ على إحسانهِ ، والمسِيءَ على إساءَتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ يعني أهلَ مكَّة الذين ظَنُّوا أنَّهما خُلِقا لغيرِ شيء ، وأنَّهُ لا قيامةَ ولا حسابَ ، { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ }.
قال مقاتلُ : قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ : إنَّا نُعْطَى فِي الآخِرَةِ مَا تُعْطَوْنَ فأنزلُ اللهُ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ معناهُ : أنَجْعَلُ المؤمنين المطيعِينَ كالْمُفسِدِينَ في الأرضِ ؟ { أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } ؟ أي أم نجعلُ الذين يتَّقون الكفرَ والكبائرَ كالفجَّار الذين يرتكبون تلكَ الكبائر ، لا نُسَوِّي بين الفريقينِ ولا نُنْزِلُهما منْزِلةً واحدةً.
(0/0)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ } أي هذا كتابٌ أنزلناهُ إليك مباركٌ فيه بركةٌ لكم ، كثيرٌ خيرهُ ونفعه يعني القرآنَ ، وقولهُ تعالى : { لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ } ؛ أي ليتدبَّرِ الناسُ آياتهِ يعني آياتِ الله ، { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ؛ أي ليتَّعِظْ ذوي العقولِ من الناس.
(0/0)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ } ؛ أي أعطَينا لداودَ وَلداً وهو سليمانُ ، ثم أثْنَى علَى سليمان فقالَ : { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ؛ أي رجَّاعٌ إلى اللهِ ، مُقبلٌ على طاعتهِ.
(0/0)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
وقولهُ تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ } ؛ معناهُ : إذ عُرض على سليمان بعدَ العصرِ الخيلُ السَّوابقُ وهي الخيول التي غَنِمَها سليمانُ من أهلِ دمشق وأهل نَصِيبينَ ، كانوا جَمعوا جُموعاً ليقاتلوهُ فهزمَهم وأصابَ منهم ألفَ فَرَسٍ غُرابٍ فعُرضَتْ ، فجعلَ ينظرُ إليها ويتعجَّبُ من حُسنها حتى شغلَتْهُ عن صلاةِ العصرِ وغربَتِ الشمسُ.
فذكرَ الصلاةَ فغَضِبَ وقالَ : رُدُّوا الخيلَ عَلَيَّ ، فرُدَّت فجعلَ يضربُ سُوقَها وأعناقَها بالسَّيف حتى عَقَرَ منها تِسعمائة فرَسٍ ، وهي التي كانت عُرضت عليه وبقيت مائةٌ لم تُعرض عليه ، فكُلُّ ما في أيدِي الناسِ من الخيلِ العِراب فهي من نَسْلِ تلك المائةِ. هذا ذكرَهُ الكلبيُّ.
وقد اعتُرِضَ على هذا القولِ فقالُوا : كيف يجوزُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الأنبياءِ أنْ يَغْفَلَ عن الصَّلاةِ المفروضةِ ثم يعمدَ إلى خيلٍ لا ذنبَ لها يعقِرُها؟! ويجابُ عنه : أنْ لم يكن ضربُ سُوقِها وأعناقِها إلاَّ وقد أباحَ اللهُ ذلك وأجزَى بهِ, وليس في الآيةِ ما يقتضِي أنَّ الصلاةَ كانت مفروضةً عليهِ في ذلك الوقتِ. وقد يذكرُ المسحُ ويراد الضربُ ، يقول العربُ : مسحَ علاوته اذا ضرَبها بالسَّيف.
والصَّافِنَاتُ هي الخيلُ التي تقومُ وتكون القائمةُ الرابعة تَصِلُ إلى طرفِ حافرِها بالأرضِ. صَفَنَ الفرَسُ إذا يَصْفِنَّ صُفُوناً إذا قامَ على ثلاثٍ ، وقَلَبَ أحدَ حوافرهِ. والجيادُ جمعُ جَوَادٍ ، يقال فَرَسٌ جوادٌ اذا " كان سابقاً " بالرَّكضِ.
(0/0)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } ؛ يعني إنِّي آثرْتُ الخيرَ ، ينالُ بهذا الخيلَ فشُغِلْتُ به عنِ الذِّكْرِ ، وقد يذكرُ الخيرُ ويراد به الخيلُ ، لأن الخيلَ معقودٌ بنواصِيها الخيرُ. قال الفرَّاء : (يَعْنِي آثرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ). وقال قطربُ : (أرَادَ حُبّاً عَلَى الْمَصْدَر ، ثُمَّ أضَافَ الْحُبَّ إلَى الْخَيْرِ).
وقولهُ تعالى : { عَن ذِكْرِ رَبِّي } يعني صَلاَةَ العصرِ. وقولهُ تعالى : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } ؛ كنايةٌ عن الشمسِ ؛ والمعنى حتى استَوت الشمسُ بما يحجِبُها عن الأبصارِ ، ولأنَّ قولَهُ تعالى (بالْعَشِيِّ) كنايةٌ عن الشمسِ ؛ أي فيه ما يجرِي مجرَى الشمسِ ، وجازَ الإضمارُ إذ في الكلامِ ما يدلُّ عليه ، قال لَبيدُ : حَتَّى إذا ألْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ وَأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُور ظَلاَمُهَا
(0/0)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
وقولهُ تعالى : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ } ؛ قال أبو عُبيد : (مَعْنَى الطَّفْقِ يَقُولُ مِثْلَ مَا زالَ يَفْعَلُ ، وَهُوَ مِثْلُ : ظَلَّ وَبَاتَ ، وَالْمَعْنَى طَفِقَ يَمْسَحُ مَسْحاً ؛ أيْ يَضْرِبُ ضَرْباً). وقال الفرَّاء : (الْمَسْحُ هَهُنَا الْقَطْعُ). والمعنى : أنه ضرَبَ سُوقَها وأعناقَها ؛ لأنَّها كانت سببَ فَوْتِ صلاتهِ ، وقال عندَ ذلك : حتى لا تشغَلَني عن عبادةِ ربي مرَّةً أُخرى. والسُّوقُ جَمْعُ سَاقٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } ؛ اختلَفُوا في سبب فتنةِ سُليمان ، قال بعضُهم : سمعَ سليمانُ بمدينةٍ في جزيرةٍ من جزائرِ البحر يقالُ لها صَدُوقُ ، بها مَلِكٌ عظيمُ الشَّأنِ ، فخرجَ سليمانُ إلى تلك المدينةِ تحملهُ الرِّيح حتى نزلَ بها بجنودهِ من الجنِّ والانسِ ، فقَتَلَ ملِكَها وسَبَا ما فيها ، وأصابَ فيما أصابَ بنتاً لذلك الملكِ يقالُ " لها " جَرَادَةٌ ، لَمْ يُرَ مثلها حُسناً وجمالاً.
فدعَاها سليمانُ إلى الاسلامِ فأسلَمَت على قلَّة نيَّة منها ، ولم يعلَمْ سليمانُ ما في قلبها ، فتزوَّجَها وأحبَّها محبةً شديدة لم يُحِبَّ أحداً من نسائهِ ، فكانت عندَهُ لا يذهبُ حزنُها ولا يرقَى دمعُها ، فشُقَّ ذلك على سليمان ، وقال لَها : ويحَكِ! ما هذا الحزنُ الذي لا يذهبُ ؟ قالت : إنِّي أذكرُ أبي أذكرُ مُلكَهُ وما كان فيه وما أصابَهُ ، فيُحزِنُني ذلك. قال سليمانُ : قد أبدَلَكِ اللهُ به مَلِكاً هو أعظمُ من مُلكه ، وسُلطاناً خَيراً من سُلطانهِ ، وهَداكِ للإسلامِ ، وهو خيرٌ مِن ذلك كلِّه. قالت : هو كذلكَ ؛ ولكن إذا ذكرتُ أبي أصابَني ما ترَى من الحزن ، فلو أمرتَ الشَّياطين فصوَّرُوا صورتَهُ في داري التي أنَا فيها آرَاها بُكرةً وعشِيّاً لرجوتُ أنْ يُذْهِبَ ذلك حُزني ، ويسَلِّي عني بعضَ ما أجدُ. فأمرَ سُليمان الجنَّ فمَثَّلوا لها صورةَ أبيها في دارها كأنَّه هو ، إلاَّ أنه لا روحَ فيه ، فعمَدَت إليه حين صَنَعُوهُ فآزَرَتْهُ وقمَّصَتْهُ وعَمَّمَتْهُ وردَته بمثل ثيابهِ التي كان يلبسُها.
وكان إذا خرجَ سُليمان من دارها تغدُو عليه في ولائدِها حتى تسجدَ له ويسجُدنَ هُنَّ له ، وكذلكَ كانت تعملُ بالعَشِيِّ وسليمانُ عليه السلام لا يعلمُ شيئاً من ذلك ، فكانت على ذلك أربعينَ صباحاً ، وبلغَ ذلك آصِفَ بن برخيا وكان صدِّيقاً ، فقال لسُليمان عليه السلام : إنَّ غيرَ اللهِ يُعبد في دارك منذُ أربعين صَباحاً في هوَى امرأةٍ ، قال : فِي داري؟! قال : في داركَ ، قال : إنَّا للهِ وَإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
ثم رجعَ سُليمان إلى دارهِ فكَسَرَ ذلك الصنمَ وعاقَبَ تلك المرأةِ وولائدَها ، ثم خرجَ إلى فَلاَةٍ من الأرضِ وحدَهُ ، فأمَرَ برمادٍ ثد رُشَّ ، ثم أقبلَ تائباً إلى اللهِ حتى جلسَ على ذلك الرمادِ وتَمَعَّكَ فيه بثيابهِ تذلُّلاً لله عَزَّ وَجَلَّ وتضرُّعاً إليه ، يدعُو ويبكي ويستغفرُ مما كان في دارهِ ، فلم يزل يومَهُ كذلك حتى أمسَى ثم رجعَ.
وكانت أُمُّ ولَدٍ يقالُ لها الأَمِينَةُ ، كان إذا دخلَ لقضاءِ حاجته وضعَ خََاتَمَهُ عندَها حتى يتطهَّرَ ، وكان لا يَمَسُّ خاتَمهُ وإلاَّ وهو طاهرٌ ، وكان مُلكه في خاتَمهِ ، فوضعَ يوماً من الأيامِ خاتَمه عندها كما كان يضعهُ ، ثم دخلَ موضعَ الحاجةِ فأتاها الشيطانُ صاحبُ البحرِ وكان اسمهُ صَخْراً على صورةِ سُليمان لا تُنكِرُ منه شيئاً ، فقال : يا أمِينَةُ هاتِ خاتَمي ، فناولَتْهُ إياهُ ، فجعلَهُ في يدهِ ثم خرجَ حتى جلسَ على سريرِ سُليمان ، وعكفَتْ عليه الطيرُ والجن والإنسُ.
(0/0)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي } ؛ معناهُ : لَمَّا رجعَ مُلك سليمان إليه قال : رَب اغْفِرْ لِي ذنْبي وَهَبْ لِي مُلكاً لا أُسْلَبُ فيه كما سُلِبْتُ في المرَّة الأُولى ، { إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } ، ولا يجوزُ أن يكون سؤالهُ الْمُلْكَ برغبتهِ له في الدُّنيا ولا بُخلاً بمثلهِ على مَن بعده ، ولكن طلبَ آيةً تدلُّ جميعَ الخلقِ على أنَّ الله تعالى غَفَرَ له ذنبَهُ وردَّهُ إلى منْزِلَةِ الأنبياءِ عليهمُ السَّلام.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ صَلَّى صَلاَةً فَقَالَ : " إنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي لِيُفْسِدَ عَلَيَّ صَلاَتِي ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ فَخَنَقْتُهُ وَلَقَدْ هَمَمْتُ أنْ أُوثِقَهُ إلَى سَاريَةٍ حَتَّى تُصْبحُواْ وَتَنْظُروْا إلَيْهِ جَمِيعاً ، فَذلِكَ قَوْلُ سُلَيْمَانَ عليه السلام (وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي) " ".
(0/0)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } ؛ فاستجَبنا له دعاءَهُ وسخَّرنا له الريحَ تسيرُ بأمرهِ لَيِّنَةً كيف أرادَ ، وذلك أنه كان إذا أرادَ تَسْييرَ الريحِ عاصفةً كانت تجرِي عاصفةً حالةَ حملِ السَّريرِ لكثرةِ مَن عليه من النُّجوم والحشَمِ والأواني والفُرَشِ والأطعمةِ والأشربةِ ، وكانت في حالةِ ما تجرِي بالسَّرير وذلكَ أرفقُ بمَنْ يكون على السَّريرِ ، وأبعدُ من الضَّرر.
ومعنى الآية : فسخَّرنا له الريحَ تجري بأمرهِ لَيِّنَةَ الْهُبُوب ليست بالعاصفِ { حَيْثُ أَصَابَ } أي حيث أرادَ من النواحِي ، وحيث قَصَدَ.
(0/0)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } ؛ أي وسخَّرنا له الشياطينَ يَبْنُونَ له الأبنيةَ الرفيعةَ التي تعجزُ عنها الإنسُ ، ويَبْنُونَ له أيضاً ما يشاءُ من محاريب وتماثيلٍ ، وقولهُ تعالى : { وَغَوَّاصٍ } أي ويغُُوصُونَ له في البحرِ فيستخرجون لهُ اللآَّلِئَ والجواهرَ.
(0/0)
وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)
وقولهُ تعالى : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } ؛ أي وسخَّرنا آخرين مِن الشياطين وهم الْمَرَدَةُ ، سُخِّروا له حتى قَرَنَهم في الأصْفَادِ وهي السَّلاسِلُ من الحديدِ ، فكان سليمانُ يجعل الشياطين مقرَّنين في القيودِ والأغلال ، ويعرفُ مَن شاء منهم في الأعمالِ ، فمعنى قوله { مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } أي مشدُودون في القيُودِ.
(0/0)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا عَطَآؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ؛ معناهُ : قلنا لهُ هذا عطاؤُنا لكَ من المالِ والْمُلكِ والجنودِ المسخَّرة لم نُعطهِ أحداً قبلَكَ ، ولا نعطيهِ أحداً بعدكَ.
وقوله { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } أي إعطاء ما أعطيناكَ مَن شِئْتَ وكيف شئتَ وما شئتَ ولمن شئت ، واحبسْ عمَّن شئتَ بغَيرِ تقديرٍ ، ولم يؤخَذْْ عليك حدٌّ محدودٌ في المنعِ ولا في الإعطاءِ ، ولا حرجَ عليك فيما فعلْتَ من ذلك ، وقال في معنى { فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } أي أطلِقْ من الشَّياطين الذين أوثَقْتَهم أو امسِكْ في الوَثَاقِ مَن شئتَ منهم ، وليس عليك في ذلك تَبعَةٌ ولا جزاءٌ.
(0/0)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
وقولهُ تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى } ؛ أي وإنَّ مع ما خُصَّ به في الدُّنيا في الْمُلكِ والبَسْطَةِ والنبوَّة والرسالةِ لِقُربهِ عندنا ، { وَحُسْنَ مَآبٍ } ، في الآخرةِ ونَصيباً وافراً من ثَوَابنَا في الجنَّة ، فجُمِعَ له ملكُ الدُّنيا وملكُ الآخرةِ.
وروي أن مدةَ مُلكِ سُليمان قبلَ الفتنةِ عشرين سنةً ، ومَلَكَ بعد الفتنةِ عشرين سنةً ، ومَلَكَ يوم مَلََكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشر سنةً ، وماتَ وله ثلاثٌ وخمسون سنةً ، ومدَّة مُلكه أربعون سنةً.
(0/0)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } ؛ معناهُ : واذكُرْ يا مُحَمَّد عبْدَنا أيُّوب إذ نادَى رَبَّهُ في البلاءِ فقالَ : يا رَب إنِّي أصابَني الشيطانُ بنُصْبٍ ؛ أي بتَعَبٍ في بدَنِي وعذابٍ في أهلي ومالِي. والنُّصْبُ والنَّصْبُ بمعنى واحدٍ ، مثل الرَّشَدِ والرُّشْدِ والْحَزَنِ وَالْحُزْنِ.
قرأ أبو جعفرٍ (بنُصُبٍ) بضمَّتين ، وقرأ يعقوبُ (بنَصَبٍ) بفتحِ النون والصاد ، وقرأ هُبَيْرَةُ عن حفصٍ وعاصم (بنَصْبٍ) بفتح النونِ وجزم الصاد ، وقرأ الباقون بـ (النُّصْب) بضمِّ النون وسُكون الصاد ، وكلُّ ذلك لغاتٌ فيه.
قال قتادة : (مَعْنَى قَوْلِهِ { بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } النُّصْبُ الضُّّرُّ فِي الْجَسَدِ ، وَالْعَذابُ فِي الْمَالِ). قال السديُّ : (النُّصْبُ أنْصَبَ الْجَسَدَ ، وَالْعَذابُ أهْلَكَ الْمَالَ).
ثُم فرَّجَ اللهُ عنه ، واختلفوا في سبب بَلاء أيُّوب ، قال الحسنُ رضي الله عنه : (إنَّ ابليسَ قالَ : يا رب هل مِن عبيدك مَن إنْ سلَّطَتنِي عليه يمتنعُ عليَّ ؟ قال : نَعَمْ ؛ عبدِي أيُّوبُ ، فجعلَ يأتيهِ الشيطانُ بوِسَاوسِهِ وحبائلهِ فلا يقدرُ منه على شيءٍ. قال : يا رب إنه قدِ امتنعَ عليَّ فسَلِّطْنِي على مالهِ ، فجعلَ يأتيهِ فيقولُ : يا أيوبُ هَلَكَ مِن مالِكَ كذا وكذا ، فيقولُ أيوب : اللَّهُمَّ أنتَ قد أعْطَيْتَنِيَهُ وأنتَ قد أخذتَهُ ، اللَّهُمَّ لكَ الحمدُ على ما منَعْتَ ، ولكَ الحمدُ على ما أبقيتَ ، فمكثَ كذلك حتى هَلَكَ مالهُ كلُّه.
فقال إبليسُ : يا رب إنَّهُ لا يُبالِي بمالهِ فسَلِّطْنِي على جسدهِ ، فأنَّكَ لو سلَّطَتَني على جسدهِ لم تجدْهُ شَاكراً ، فسَلَّطَهُ عليه فنفخَ في أنفهِ فانتفخَ وجههُ وسَرَى ذلك إلى جسدهِ ، فوقعَ فيه الديدانُ.
إلاَّ أنَّ هَذا الْقَوْلَ لاَ يَصِحُّ وَلاَ وَجْهَ لقَبُولِهِ ، وَلاَ يَجُوزُ أنْ يُسَلِّطَ اللهُ إبْلِيسَ عَلَى نَبيٍّ مِنْ أنْبِيَائِهِ فَيَفْعَلُ بهِ مَا أحَبَّ.
ويقالُ : سببُ ابتلائهِ أنَّ إنسَاناً استغاثَ بهِ في ظُلمٍ يدرَؤهُ عنه ، فصبرَ لوردهِ حتى فاتَهُ فابتُلِيَ. فلَمَّا مكثَ أيوبُ في البلاءِ ما مكثَ ، قاربَتِ امرأتهُ الشيطانَ في بعضِ الأُمور ، قِيْلَ : إنَّ الشيطانَ قال لها : لئِنْ أكلَ أيُّوبُ طَعاماً لم يذْكُرِ اسمَ الله عليه عُوفِيَ. ويقالُ : إنَّها قالت لأَيُّوبَ : لو تَقرَّبْتَ إلى الشيطانِ فذبحتَ له عِنَاقاً ، فقالَ : لا واللهِ ، ولاَ كَفّاً من تُرابٍ. وحلفَ ليَجْلِدَنَّهَا إنْ عُوفِيَ مائةَ جلدةٍ. وَقِيْلَ : إن إبليسَ قالَ لها : إنْ شَفَيْتُهُ تقولِين لِي شفيتَهُ ، فأخبرَتْ بذلك أيوبَ فحلفَ.
فلما طالَ البلاءُ على أيُّوب ، وبلغَ به غايةَ الجدِّ سألَ الله تعالى أنْ يكشِفَ ضُرَّهُ ، فقيلَ له : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } ؛ أي اضرِبْ بها الأرضَ ، فرَكَضَ برجلهِ الأرضَ فنَبَعَتْ عَينُ ماءٍ فاغتسلَ منها فذهبَ الداءُ من ظاهرهِ ، فضربَ برجلهِ الأرض مرَّةً أُخرى فنبعَ ماءٌ وشرِبَ منه ، فذهبَ الداءُ من باطنِ جسده. والرَّكْضُ : هو الدفعُ بالرِّجلِ على جهة الإسراعِ ، ومنه ركضُ الفرس لاسراعهِ ، والْمُغْتَسَلُ موضعُ الاغتسالِ.
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } ؛ أي أحْيَيْنَا له أهلَهُ وأولادَهُ الذين كانوا بأَعيانِهم ، { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } ، ورزقناهُ مثلَهُم في المستقبلِ ، { رَحْمَةً مِّنَّا } ، أي نعمةً مِنَّا عليه ، { وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ } ، وعظمةً لأُولِي العقولِ من النَّاس ، وذلكَ ليعلَمَ العاقلُ أنَّ ما يصيبهُ في الدُّنيا من الْمِحَنِ والْمَكَارهِ والمصائب في النَّفسِ والأهلِ والمال ، لا يكونُ لِهَوانِ العبدِ على اللهِ كما يظنُّه الْجُهَّالُ ، وإنَّما هو امتحانٌ من اللهِ لأوليائه كي يُعوِّضَهُمْ بذلك جَزِيلَ ثوابهِ.
(0/0)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } ؛ وذلك أنَّ أيوبَ كان حلفَ في مرضهِ أن يجلدَ امرأتَهُ مائةَ جلدةٍ ، وكان ذلك لشيءٍ كَرِهَهُ منها على ما تقدَّم ، فجعلَ الله تَحِلَّةَ يَمِينِهِ أن يأخذ حُزمةً واحدةً فيها مائةُ قضيبٍ فيضرِبُها بهِ. والضِّغْثُ : هو مِلْءُ الكَفِّ من الشجرةِ والحشيشِ والشَّمَاريخِ.
وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَحْنَثْ } أي لا تَدَعِ الضَّربَ فتَحْنَثُ ، وفي هذا دليلٌ على جواز الاحتيالِ بمثل هذه الحِيلَةِ في اليمينِ على الضَّرب ، فأما في الحدُودِ فلا يجوزُ الاحتيالُ بمثلِ هذا ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ }[النور : 2] وهذا نَهْيٌ عن التخفيفِ عن مَن وجبَ عليه الحدُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } ؛ أي إنَّهُ صَبَرَ على البلاءِ الذي ابتُلي به. فإنْ قِيْلَ : كيف صَبَرَ وهو يقولُ مسَّنِيَ الضُّرُّ ؟ قِيْلَ : إنه لم يَشْكُ إلى مخلوقٍ وإنما شَكَا إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حين ألَحَّ عليه الشيطانُ بالوسوسةِ ، وخافَ على نفسهِ أن لا يقومَ بطاعةِ الله تعالى ، فدعَا اللهَ بعد أن أُذِنَ له في الدُّعاء. والأَوَّابُ : هو الْمُقْبلُ على طاعةِ الله تعالى الرَّاجِعُ إليهِ.
(0/0)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } معناهُ : اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لقَومِكَ وأُمَّتِكَ حديثَ هؤلاء الأنبياءِ ؛ ليقتَدُوا بهم في حُسْنِ إقبالِهم ؛ فيستَحِقُّوا بذلك جميلَ الثَّناءِ وجزيلَ الثَّواب. وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ صَبْرَ عِبَادِنَا إبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّار ، وَصَبْرَ اسْحَقَ عَلَى الذبْحِ ، وَصَبْرَ يَعْقُوبَ حِينَ ذهَبَ بَصَرُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَاعِيلَ لأَنَّهُ لَمْ يُقْبلْ بشَيءٍ).
قَوْلُهُ : { أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ } ؛ معناهُ : أُولِي القوَّةِ في طاعةِ الله والأبصار في معرفةِ الله. قال قتادةُ : (أُعْطُوا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ ، وَبَصَرٍ فِي الدِّينِ). ويقالُ : إنَّ الأيدِي جمعُ اليَدِ وهي الصَّنيعةُ ؛ أي وهم ذُوو الصَّنائِعِ الجميلةِ في طاعةِ الله تعالى.
وقرأ الحسنُ : (الأَيْدِ) بغيرِ الياء وهو عبارةٌ عن القوَّة. ويجوزُ أن يكون المرادُ به ، فحذفَ الياءِ كما نحذفُ الدَّاعِي والهادِي.
(0/0)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّار } ؛ معناهُ : إنا آثرنَاهُم بخِصلَةٍ خَالِصَةٍ وهي ذكرَى الدار الآخرة. وقال مجاهدُ : (إنَّهُمْ كَانُواْ يُكْثِرُونَ ذِكْرَ الآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرُهَا). وقال السديُّ : (أخْلَصُواْ بذِكْرِ الآخِرَةِ ؛ أيْ بخَوْفِ الآخِرَةِ) { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ } ؛ الأصْفِيَاءُ هو إخرَاجُ الصَّفوَةِ مِن كلِّ شيءٍ ، فهُم صَفْوَةٌ وغيرُهم كَدَرٌ.
(0/0)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ } ؛ أي اذكُرْهُم بصبرِهم وفضلِهم لتسلُكَ طريقَهم ، { وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ }. والْيَسَعُ نبيٌّ من الأنبياءِ ، قال الكلبيُّ : (هُوَ ابْنُ عَمِّ الْيَاسَ). وَأمَّا ذِي الكِفْلِ وهو نبيٌّ أيضاً كَفَلَ مائةَ نَبيٍّ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ يُطعِمُهم ويَسْقِيهِمْ. وَقِيْلَ : إنه كان يعملُ في العبادة عَمَلَ رجُلَين فسُمِّي ذا الكفلِ ، والكفلُ الضِّعْفُ كما في قوله تعالى : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ }[الحديد : 28].
(0/0)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
وقولهُ تعالى : { هَـاذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ } ؛ أي هذا القرآنُ عِظَةٌ وشَرَفٌ للناسِ ، وَقِيْلَ : هو ذِكْرٌ في الدُّنيا لهؤلاء الأنبياءِ يُذكَرُونَ بهِ أبدأ ، وإنَّ لهم مع ذلك لَحُسْنَ مرجعٍ في الآخرة ، فَسَّرَ حُسنَ المرجعِ فقال : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } ؛ أي بسَاتِين إقامةٍ ، { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ } ؛ وانتصبَ على الحالِ ، وذلك أنَّهم اذا انْتَهَوا إليها وجدُوها مُفَتَّحَةَ الأبواب لا يُحبَسُونَ على الباب ليُفتَحَ لهم عند الوُرُودِ. ويقال : إنَّ أبوابَها تُفتَحُ من غيرِ فَتْحٍ ولا مفتاحٍ ، والْمُفَتَّحَةُ أبلغَ من اللفظِ من الْمَفْتُوحَةِ ، والألِفُ واللامُ في قولهِ { الأَبْوَابُ } عِوَضٌ عن الإضافةِ ؛ تقديرهُ : مُفَتَّحَةٌ لَهُمْ أبْوَابُهَا كما في قولهِ تعالى{ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }[النازعات : 41].
(0/0)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
وقولهُ تعالى : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا } ؛ أي في الجنَّات ، { يَدْعُونَ فِيهَا } ؛ في الجناتِ ، { بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ } ؛ أي يَدْعُون في الجناتِ بألوانِ الفاكهة وألوان الشَّراب. والاتِّكَاءُ : هو الاسْتِمْسَاكُ بالسِّنَادِ على هيئةِ جُلوسِ الْمُلُوكِ.
(0/0)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
وقولهُ تعالى : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ } ؛ أي وعندَهم حُورٌ في الجنَّةِ قََاصِرَاتُ الطَّرْفِ على أزواجِهنَّ لا يُرِدْنَ غيرَهم بقُلوبهم ولا يَنْظُرْنَ إلى غيرِ أزواجهنَّ. وقوله { أَتْرَابٌ } أي مُستَوِياتٌ على ميلادٍ امرأة واحدة ، مستويات في السِّنِّ والشباب والْحُسنِ ، كلُّهن بناتُ ثلاثٍ وثلاثين سنةً.
(0/0)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } ؛ قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو بالياءِ ؛ ومعناه : قُل للمتَّقين : هذا ما يُوعَدون به ليومِ الحساب. وقرأ الباقون (يُوعَدُونَ) بالياء ؛ أي هذا الذي تقدَّم ذِكرهُ ما يوعَدُ به المتَّقون على لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. ومعنى الآية : هذا الذي ذكرناهُ ما توعدونَ به يومَ الحساب.
(0/0)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا لَرِزْقُنَا } ؛ أي هذا الذي ذكرناهُ رزقنا لهم ، { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } ؛ أي ما لَهُ مِن انقطاعٍ ولا فَناءٍ. قال ابنُ عبَّاس : (لَيْسَ بشَيْءٍ فِي الْجَنَّةِ نَفَادٌ ، مَا أُكِلَ مِنْ ثِمَارهَا خُلِّفَ مَكَانَهُ مِثْلَهُ ، وَمَا أُكِلَ مِنْ حَيْوَانِهَا وَطَيْرِهَا عَادَ حَيّاً مَكَانَهُ).
(0/0)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } ؛ أي هذا الثوابُ الذي تقدَّم ذِكرهُ للمتَّقين ، ثم ابتدأ الخبرَ عمَّا للطَّاغِينَ فَقَالَ : { وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } أي الذين طَغَوا على اللهِ وكذبُوا الرُّسلَ وجاوزوا الحدَّ في الكفرِ والمعصية { لَشَرَّ مَآبٍ } أي لشَرِّ مرجعٍ ومصير ، ثم أخبرَ بذلك فقال : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } ؛ أي يلزَمُونَها يومَ القيامةِ ، { فَبِئْسَ الْمِهَادُ } ؛ يُمهِّدُنَّها لأنفسهم ، { هَـاذَا } العذابُ { فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } ؛ أي يقالُ لهم في ذلك اليومِ : هذا حميمٌ وغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ.
والْحَمِيمُ : الماءُ الحارُّ الذي قد انتَهى حَرُّهُ من طِينَةِ الْخَبَالِ وهي عُصَارَةُ أهْلِ النَّار. والغَسَّاقُ : ما سَالَ من جُلودِ أهلِ النَّار من القَيْحِ والصَّديدِ ، مِن قولهم : غَسَقَتْ عينهُ إذا تَصَبَّتْ ، والغَسَقَانُ الانْصِبَابُ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلف : (وَغَسَّاقٌ) بالتشديد على معنى أنه يُسَالُ من صَديدِ أهلِ النار. وقرأ الباقون بالتخفيف مصدرُ غَسَقَ يَغْسِقُ إذا سَالَ.
قال الكلبيُّ : (الْغَسَّاقُ هُوَ الزَّمْهَرِيرُ الْبَارِدُ الَّذِي قَدِ انْتَهَى بَرْدُهُ ، يُحْرِقُهُمْ ببَرْدِهِ كَمَا تُحْرِقُهُمُ النَّارُ). وقال ابنُ زيد : (هُوَ الْمُنْتَنُّ بلُغَةِ التُّرْكِ وَالطَّخَاريَّةِ وَالْعَمَالِيقِ). وقال الحسنُ : (لاَ أدْري مَا الْغَسَّاقُ وَمَا سَمِعْتُ فِيهِ شَيْئاً مِنَ الصَّحَابَةِ إلاَّ أنَّهُ بَعْضُ مَا أُعِدَّ لأَهْلِ النَّار ، قَوْمٌ أخْفَواْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ أعْمَالاً فَأَخْفَى اللهُ لَهُمْ عِقَاباً).
(0/0)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } ؛ قرأ الأكثرون (وَآخَرُ) على الوِحْدَانِ ؛ أي وعذابٌ آخَرُ من شكلِ العذاب الأوَّل ، والشَّكْلُ الْمِثْلُ ؛ يعني ضَرْباً من العذاب على مثلِ الحميم والغَسَّاق في الكَرَاهَةِ. وقرأ أهلُ البصرة (وَأُخَرُ) على الجمعِ على معنى : وأنواعٌ أُخَرُ مِنْ شَكْلِهِ ؛ أي وأصنافٌ من العذاب ، وقولهُ { أَزْوَاجٌ } أي ألوانٌ وأنواع وأشباهٌ.
(0/0)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
وقولهُ تعالى : { هَـاذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } ؛ معناهُ : أنَّ القادةَ والرؤساءَ مِن المشركين إذا دخَلُوا النارَ ثم دخلَ بعدَهم الاتباعُ ، قال الملائكةُ من الْخَزَنَةِ للقادةِ : هذا فوجٌ ؛ أي قطيعٌ من الناسِ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ النارَ ، أي داخلون معكم النار ، فتقولُ القادة : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النَّارِ } ؛ كما صَلَيْنَاهَا ، فيقول الاتباعُ للقادةِ : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } ؛ أي أنتم بَدَأتُمْ بالكفرِ قبلَنا ، { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } ؛ جهنَّم للمشركين.
ثم يقولُ الأتباعُ : { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } ؛ أي يقولون ربَّنَا مَنْ شَرَّعَ لنا هذا الكُفرَ وسَنَّهُ لنا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً في النار. والاقتحامُ : هو الدخولُ في الشَّيء بشدَّةٍ وصُعوبَةٍ. وذلك أنَّ أهلَ النار يُسَاقُونَ إليها فَوْجاً فَوْجاً ، فيقالُ للرُّؤساء : هؤلاءِ الاتباعُ داخلون معكم ، فيقولونَ لاَ مَرْحَباً بهِمْ ، كيف يدخلُون معنا ونحنُ في هذا الضِّيق؟! فيقولُ لهم الْخَزَنَةُ : إنَّهُمْ صَالُوا النَّار ؛ أي دَاخِلُونَها كما دخلتُم.
والرَّحْبُ في اللغة هو السِّعَةُ ، وكذلك الْمَرْحَبُ ، ومعنَى لا مَرْحَباً بهم يعني لا اتَّسعت بهم مساكنُهم ولا كرامةَ لهم ، وهذا إخبارٌ أن مَوَدَّتَهُمْ تنقطعُ وتصير عداواةً ، فيقول لهم الأتباعُُ : { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } أي لا وَسَّعَ الله عليكم ، أنتم شَرَعتُم لنا بهذا العذاب ، فيقولُ الله تعالى : { فَبِئْسَ الْقَرَارُ } أي بئْسَ المكانُ الذي أنتم فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـاذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ } أي قالت الأتباعُ والقادةُ جميعاً : ربَّنا مَنْ سَنَّ لنا هذا الكفرَ قبلَنا فَزِدْهُ عذاباً ضِعْفاً مما علينا من العذاب ، يعني حيَّاتٍ وعقاربَ وأفاعي. قال الحسنُ : (مَا مِنْ أحَدٍ مِنْ أهْلِ النَّار إلاَّ وَهُوَ يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَيْطَانَهُ الَّذِي يُضِلُّهُ وَيُوَسْوِسُ إلَيْهِ فِي الدُّنْيَا).
(0/0)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ } ؛ قال الكلبيُّ : (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ يَنْظُرُونَ فِي النَّار ، فَلاَ يَرَوْنَ مَنْ كَانَ يُخَالِفُهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي دَار الدُّنْيَا يَعْنِي فُقَرَاءَ الْْمُؤْمِنِينَ ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُونَ : رَبَنَّا مَا لَنَا لاَ نَرَى رجَالاً كُنَّا نَعُدَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الأَشْرَار ؛ أي كُنَّا نَعُدُّهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ السَّفَلَةِ ، وَنَقُولُ لَهُمْ : أنْتُمْ تَتْرُكُونَ شَهَوَاتِكُمْ تَطْلُبُونَ بذلِكَ النِّعَمَ بَعْدَ الْفَنَاءِ ، فَهَذا مَعْنَى { كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأَشْرَارِ } وَهُمْ عَمَّارُ وَخَبَّابُ وَصُهَيْبُ وَبلاَلُ وسَلْمَانُ وَسَالِمُ وَأشْبَاهُهُمْ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ).
(0/0)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
قَولُهُ تَعَالَى : { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَار } ؛ أي يقولُون قد اتَّخذناهُم سِخْرِيّاً ؛ أي مَالَتْ أبصارُنا عنهم فلم نكن نعدُّهم شيئاً ، فال الحسنُ : (كُلُّ ذلِكَ قَدْ فَعَلُوهُ ، اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيّاً وَزَاغَتْ عَنْهُمُ أبْصَارُهُمْ مُحَقِّرَةً لَهُمْ).
ومن قرأ (اتَّخَذْنَاهُمْ) بقطع الألف وفتحِها معناهُ الاستفهامُ ؛ كأنَّهم يُنكرون ذلك على أنفُسِهم ، وهم يقولون في الآخرةِ سخَّرنَاهُم وَزَاغَتْ أبصارُهم عنهم لضَعفِهم ، فيقولون : ما لنَا لا نراهُم ، ولم يدخلُوا معنا في النار ، أمْ دخَلُوا معنا ولكن لا نراهُم.
وفي قولهِ { سِخْرِيّاً } قِراءَتان : ضَمُّ السِّين وكسرُها ، فمَن ضمَّها فهو من السُّخرِيَةِ ؛ أي استذلُّوهم ، ومَن قرأها بالكسرِ فهو من الْهُزْؤ.
(0/0)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } ؛ أي إنَّ الذي وُصف عنهم لصِدْقٌ كائن واقعٌ ، ثم بَيَّنَ ما هو فقالَ : { تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ } ؛ أي تخاصُم القادةِ والأتباعِ على ما أخبر به عنهم.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : إنَّمَا أنَا مُنْذِرٌ لكم أُحذِّرُكم عقوبةَ اللهِ ، { وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ؛ أي وقُل لهم أيضاً : مَا مِنْ إلَهٍ إلاَّ اللهُ الْوَاحِدُ لا شريكَ لهُ ، القَهَّارُ لِخَلقهِ الغالبُ عليهم ، { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } ؛ أي المنتقمُ ممَّن لا يؤمنُ به ، المتجاوزُ عمَّن تابَ وآمنَ به.
(0/0)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لهم هذا القرآنِ الذي أتيتُكم به عظيمُ الشَّأن والشرفِ ، أنتُم عن تدبُّرهِ والعملِ بهِ مُعرضون. وَقِيْلَ : معناهُ أمرُ القيامةِ عظيمٌ ؛ { أَنتُمْ عَنْهُ } ؛ عن الاستعدادِ له ، { مُعْرِضُونَ }.
(0/0)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
وقَوْلُهُ : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } ؛ معناهُ : إن النبأَ الذي أتيتُكم به من قصَّة آدمَ وإبليس دليلٌ واضح على نُبُوَّتِي ؛ لأن ذلك لا يُعلمِ إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى أو بقراءةِ الكُتب ، ثم بَيَّنَهُ من بعدُ بقوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }[البقرة : 30] الآيةُ أي إنِّي ما علمتُ ذلك إلاَّ بوحيٍ من اللهِ تعالى.
(0/0)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يُوحَى إِلَيَّ } ؛ معناهُ : ما يُوحَى إلَيَّ هذا القرآنُ ، { إِلاَّ أَنَّمَآ } ؛ لأَنَّي ؛ { أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي ما يُوحى إلَيَّ إلاَّ لأَنِّي نبيٌّ ونذيرٌ مُبين ، أُبَيِّنُ لكم ما تَأْتُونَ من الفرائضِ والسُّنن ، وما تترُكون من الحرامِ والمعصية.
(0/0)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُـلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ هذا.
(0/0)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
وقوله : { قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ؛ أي ما مَنَعَكَ عن السُّجودِ لِمَنْ تولَّيتُ خَلْقَهُ من غيرِ واسطةٍ وسبب ، وقوله : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } ، أي رفعتَ نفسَكَ فوق قدركَ ، { أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ } الذين عَلَو فِي مَنْزِلَةٍ من السُّجود لمثلهِ.
قال ابليسُ : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ؛ والنارُ شيء مضيءٌ ، والطِّينُ شيء مظلمٌ.
(0/0)
قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76)
(0/0)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ؛ أي قيلَ : مِن السَّماء ، وَقِيْلَ : من الجنَّة ، وَقِيْلَ : من الأرضِ إلى جزائرِ البحار. والرَّجِيمُ : هو الْمَرْجُومُ بالْخِزْيِ والفضيحةِ والشُّهُب إذا رجعَ إلى السَّماء. { وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }.
(0/0)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } ؛ المؤجَّلِين إلى وقتِ النَّفخة الأُولى ، فلم يُجِبْهُ إلى ما سألَ ، ولم يُعَرِّفْهُ ذلك الوقت.
(0/0)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ أي لأَدعُونَّهم إلى الغِوَايَةِ ولأُضِلَّنَّهُمْ ، { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ، إلاَّ عبادك الذين أخلَصْتَهم وعَصَمْتَهم فلا سبيلَ لي عليهم.
(0/0)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ قول مجاهدِ والأعمش وحمزة وخلف : برَفْعِ الأوَّل ونصب الثاني ؛ أي بمعنى فأنَا الْحَقُّ أو فَمِنِّي الحقُّ وأقولُ ، وقرأ الباقون بنصبهما.
واختلفَ النُّحاة في وجهِ ذلك ، فقيل : نُصِبَ الأولُ على الإغراءِ ، والثاني بإيقاعِ القولِ عليه. وَقِيْلَ : الأولُ قَسَمٌ ، والثاني مفعولٌ ، تقديرهُ : قالَ فبالْحَقِّ وهو اللهُ ، أقسَمَ بنفسهِ ثم حذفَ الخافضَ فنُصِبَ كما يقولُ الله : لأَفْعَلَنَّ ، أقْسَمَ اللهُ تعالى ليمْلأَنَّ جهنَّمَ من إبليس وأتباعهِ.
(0/0)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لكفَّار مكَّة : ما أسأَلُكم على تبليغِ الوحي والقرآنِ من مالٍ تُعْطُونِيَهُ جُعلاً ، { وَمَآ أَنَآ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ } ؛ أي لم أتَكَلَّفْ دُعاءَكم اليه من تلقاءِ نفسي بل أُمرت بذلك.
(0/0)
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي ما القرآنُ إلاَّ مَوعِظَةٌ للحقِّ أجمعين ، { وَلَتَعْلَمُنَّ } ؛ أنتُم يا كفارَ مكَّة ، { نَبَأَهُ } ؛ أي خَبَرَ صدقهِ ، { بَعْدَ حِينِ } ؛ أي بعدَ الموتِ ، وَقِيْلَ : يومَ القيامةِ. وقال الحسنُ : (يَا ابْنَ آدَمَ ؛ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ).
(0/0)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ؛ معناهُ : هذا تنْزِيلٌ من اللهِ العزيزِ بالنِّقمة لِمَن لا يؤمنُ ، الحكيمُ في أمرهِ وقضائه. ويجوزُ أن يكون (تَنْزِيلُ) مبتدأ وخبرهُ { مِنَ اللَّهِ } كما يقالُ : نِعَمُ الدُّنيا والدينِ من اللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } ؛ أي أنزَلنا إليكَ هذا القرآنَ بالحقِّ ولم يُنْزِلهُ بَاطلاً ، وقولهُ تعالى : { فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } ؛ أي اعبُدِ اللهَ وحدَهُ لا كما يعبدهُ عبدَةُ الأوثانِ.
(0/0)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
وقوله : { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } ؛ أي إنَّ العبادةَ الخالصةَ للهِ ، وفي هذا بيانُ أنَّ غيرَ الخالصِ لا يكون للهِ ، والإخلاصُ أن يقصُدَ العبدُ بنيَّتهِ وعملهِ خالقَهُ لا يجعلُ ذلك تعرُّضاً للدُّنيا.
وَقِيْلَ : معنى { أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ } أي إن الدينَ الخالصَ من الشِّرك هو للهِ ، وما سواهُ من الأديانِ فليس بدينِ اللهِ الذي أمرَهُ بهِ. قال قتادةُ : (الدِّينُ الْخَالِصُ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ يعني الذين يعبُدون الأصنامَ والملائكةَ والشَّمس والقمرَ والنجومَ يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } ؛ أي يقولون ما نعبُدهم إلاَّ ليَشفَعُوا لنا إلى اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ؛ أي بين أهلِ الأديان يومَ القيامةِ ، { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ من أُمور الدينِ ، كلٌّ يقولُ : الحقُّ دِيني ، فهُم مختلفونَ ، وحكمُ الله بينَهم : أن يُعذِّبَ كُلاًّ على قدر استخفافهِ ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَـفَّارٌ } ؛ أي لا يُرشِدُ لدينهِ مَن كذبَ في زعمهِ أنَّ الآلهةَ تشفعُ له الله تعالى.
(0/0)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي لو أرادَ أن يتَّخِذ لنفسهِ ولَداً كما زعمَ بعضُ الكفَّار أنَّ الملائكةَ بناتُ الله! لَمَا اقتصرَ على الأدوَنِ من البناتِ دون الأعلَى من الذُّكران ، وهذا كقولهِ تعالى{ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً }[الإسراء : 40] ، وقالَ تعالى{ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى }[النجم : 21].
وَقِيْلَ : معناهُ : لو أرادَ أن يتَّخذ ولَداً كما قالتِ النصارَى في المسيحِ واليهودُ في العزيزِ لاختارَ خلقاً أفضلَ من عيسَى عليه السلام وعُزيرِ. وقولهُ تعالى : { سُبْحَانَهُ } ؛ أي تَنْزيهاً له في كلِّ صفةٍ لا تكون من أرفعِ الصِّفات ، وقولهُ : { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ } ؛ لا شريكَ له و " ليس " شيء كمثله ، { الْقَهَّارُ } ؛ الغالبُ على خلقهِ الذي لا يحتاجُ إلى ولدٍ وظَهيرٍ.
(0/0)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْـلَ عَلَى النَّهَـارِ وَيُكَوِّرُ النَّـهَارَ عَلَى اللَّيْلِ } ؛ أي خلقَ السَّموات والأرضَ عبرةً للخلقِ ، وإقامةً للحقِّ لا للعبثِ والباطلِ ، يُدِيرُ الليلَ على النهار ، ويديرُ النهارَ على الليلِ ، وكلُّ واحدٍ على الآخرِ ، ويزيدُ من ساعاتِ أحدِهما في ساعاتِ الآخر.
والتكويرُ : هو إدارَةُ الشيءِ على الشيء ، ومنه كُورُ العِمَامَةِ ، وقد تسمَّى الزيادةُ كُوراً ، كما قيلَ في الدُّعَاءِ : " اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الْحَوَر بَعْدَ الْكَوَر " أي من النُّقصان بعدَ الزيادةِ. وقولهُ : { وَسَخَّـرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُـلٌّ يَجْرِي لأَجَـلٍ مُّسَـمًّى } ؛ أي إلى الوقتِ الذي وقَّتَ اللهُ الدنيا إليه وهو انقضاؤُها وفناؤها ، وقولهُ : { أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } ؛ أي خالقُ هذه الأشياءِ هو اللهُ الغالب على كلِّ شيء ، الغفَّارُ لأوليائهِ وأهلِ طاعتهِ.
(0/0)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
وقولهُ تعالى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ؛ أي خلقَكم من نفسِ آدمَ وحدَها ثم خلقَ منها زوجَها حوَّاء من ضلعٍ من أضلاعهِ القصيرة ، { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } ؛ يعني الإنزالَ ههنا الإنشاءَ والخلقَ ؛ أي وخلقَ لكم من كلِّ صنفٍ من الإبلِ والبقر والضَّأنِ والمعزِ زوجَين ذكراً وأُنثى.
وقوله : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُـمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } ، أي خلقَكم نُطفةً ثم عَلَقة ثم مُضغَةً إلى أن تخرجوا من البطون ، { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } ؛ يعني ظُلمةَ البطنِ وظُلمةَ الرحِمِ وظلمةَ الْمَشِيمَةِ. وَقِيْلَ : ظلمةَ الأصلاب وظلمةَ الأرحامِ وظلمةَ البُطونِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ } ؛ الدائمُ الذي لا يزولُ ، ولا خالقَ غيرهُ ، { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } ؛ بعدَ هذا البيانِ والبرهان.
(0/0)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } ؛ أي إنْْ تكفُروا يا أهلَ مكَّة بنِعَمِ اللهِ ، فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنكم ، لم يأمُرْكم بالإيمانِ من حاجةٍ له إليكم لا لجلب منفعةٍ ولا لدفعِ مضرَّةٍ ، وإنما آمرُكم به لنفعِكم ، { وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } ؛ أي لا يرضَى لأوليائهِ وأهلِ طاعته الكُفرَ. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يرضَى لعبادهِ المخلصِين الذي قالَ " فيهم "{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ }[الاسراء : 65] فألزمَهم شهادةَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وحبَّبَها إليهم.
وقال السديُّ : (وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَكْفُرُواْ) ، وهذه طريقةُ مَن قالَ بالتخصيصِ في هذه الآيةِ ومَن أجرَاها على العمومِ فمعناهُ : لا يرضَى الكفرَ لأحدٍ ، وكفرُ الكافرِ غيرُ مُرضٍ ، وإنْ كان بإرادةٍ ، فاللهُ تعالى مقدِّرٌ الكفرَ غيرَ راضٍ به لأنه " ما " يَمدحهُ ولا يُثنِي عليه ، قال قتادةُ : (مَا رَضِيَ اللهُ لِعَبْدٍ ضَلاَلَةً وَلاَ أمَرَهُ بهَا وَلاَ دَعَاهُ إلَيْهَا ، وَلَكِنْ قَدَّرَهُ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } ؛ معناهُ : وإن تَشكُروا ما أنعمَ عليكم من التوحيدِ يَرْضَ ذلك الشكرَ لكم ويُثِيبَكم عليه ، { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؛ أي لا تُؤخَذُ نفسٌ وزراً بذنب أُخرى ، { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُـمْ } ؛ في الآخرةِ ، { فَيُنَبِّئُكُـمْ } ، فيَجزِيكم ، { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، في الدُّنيا ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ، بعزائمِ القلوب.
(0/0)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } ؛ إذا أصابَ الكافرَ شدَّةٌ في عَيشهِ أو بلاءٌ في جسدهِ دعَا ربَّهُ راجعاً إليه بقلبهِ ، قال عطاءُ : (يُرِيدُ عُتْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ) ، وقال مقاتلُ : (يَعْنِي أبَا حُذيْفَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ).
وقولهُ : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } ؛ أي ثُم إذا أعطاهُ نِعْمَةً منه ؛ أي أغناهُ وأنعمَ عليه بالصحَّة ، { نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } ؛ أي نَسِيَ الضرَّ الذي كان يدعُو اللهَ إلى كشفهِ ، { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } ؛ أي رجعَ إلى عبادةِ الأوثان ، { لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } ؛ أي ليَزِلَّ عن دينِ الإسلامِ ، ويُضِلَّ الناسَ ، { قُلْ } ؛ يا مُحَمَّدُ لهذا الكافرِ : { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ؛ في الدُّنيا إلى أجَلِكَ ، لفظهُ لفظ الأمرِ ومعناهُ التهديدُ والوعيدُ ، { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } ؛ في الآخرةِ فما ينفعُ التمتُّعُ القليلُ من الدنيا.
(0/0)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } ؛ معناهُ : هذا خيرٌ أيُّها الكافرُ أم مَن هو قانتٌ ؟ وَقِيْلَ : معناهُ : أمَّنْ هو قانتٌ كمَن جعلَ لله أنْدَاداً. وَقِيْلَ : معناهُ : أهذا الخيرُ أم من هو قانتٌ لله؟. والقَانِتُ : هو المواظِبُ على طاعةِ الله تعالى ، القائمُ بما يجبُ عليه لأمرِ الله. و { آنَآءَ الَّيلِ } ساعاتهُ.
وقوله : { سَاجِداً وَقَآئِماً } نُصِبَ على الحالِ ؛ أي تارةً ساجداً وتارةً قائماً ، يفعلُ ذلك حَذِراً من العذاب وطَمعاً في الثواب. وقرأ نافعُ وابن كثير : (أمَنْ) بالتخفيفِ ؛ لأن ألِفَ الاستفهامِ دخلت على (مَنْ) هو استفهامُ إنكارٍ ، والمعنى : أمَنْ هو قانتٌ كالأوَّلِ. ورُوي أنَّ قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الَّيلِ سَاجِداً وَقَآئِماً } نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ ابْنِ عَفَّان رضي الله عنه.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أي لا يستوِي العالِمُ والجاهلُ ، فكذلكَ لا يستوِي المطيعُ والعاصي ، { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ؛ أي يتَّعِظُ بمواعظِ الله ذوُو العقولِ من الناسِ.
وقال مقاتلُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّار بْنِ يَاسِرٍ وَأبي حُذيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ } يَعْنِي عَمَّارَ { وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يَعْنِي أبَا حُذيْفَةَ).
وعن ابنِ عبَّاس ؛ أنَّهُ قالَ : (مَنْ أحَبَّ أنْ يُهَوَّنَ عَلَيْهِ الْمَوْقِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَلْيَرَهُ اللهُ سَاجِداً فِي سَوَادِ اللَّيلِ سَاجِداً أوْ قَائِماً يَحْذرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبهِ).
(0/0)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ } ؛ أي أطِيعوهُ واجْتَنِبُواْ معاصيَهُ ، وتَمَّ الكلامُ ثم قالَ : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا } ؛ أي وحِّدُوا اللهَ وأحسِنُوا العملَ ، { حَسَنَةٌ } ؛ يعني الجنَّةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } ؛ أي ارحَلُوا من مكَّةَ ، وهذا حثٌّ لهم على الهجرةِ من مكَّة إلى حيث يَأْمَنُونَ ، فيه بيانُ أنه لا عذرَ لأحدٍ في تركِ طاعةِ الله تعالى لكونه بأرضٍ لا يتمكَّنُ فيها من ذلكَ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ؛ معناهُ : إنما يُوَفَّى الصَّابرُون على دِينهم فلا يترُكونَهُ بمشقَّةٍ تَلحقُهم. وهذه الآيةُ نزلَتْ في جعفرَ بن أبي طالبٍ وأصحابهِ حين لم يترُكوا دينَهم ، ولَمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ صبَرُوا وهاجَرُوا ، والمعنى : يُعطَوْنَ أجرَهم كاملاً على صبرِهم على البلاءِ ، وهجرانِ أهلِهم وأوطانِهم بغير وزنٍ ولا مقدارٍ ، بل يعطون نَعيماً وثواباً لا يهتدِي إليه عقلٌ ولا وصف.
(0/0)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لكفَّار مكَّة : إنِّي أُمرت أن أعبُدَ اللهَ ، { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ } ، وأُمرتُ أن أعبدَهُ على التوحيدِ والإخلاصِ ، لا يشوبُ عبادتَهُ شركٌ.
قال مقاتلُ : (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لَهُ : يَا مُحَمَّدُ مَا يَحْمِلُكَ عَلَى أتَيْتَنَا بهِ ؟ ألاَ تَنْظُرُ إلَى مِلَّةِ أبيكَ وَجَدِّكَ وَسَادَةِ قَوْمِكَ يَعْبُدُونَ اللاَّتَ وَالْعُزَّى فَتَأْخُذ بهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). أي قُل لَهم إنِّي أمرتُ بالقرآنِ بتوحيدِ الله تعالى ، وأن آمُرَ الخلقِ كلهم بذلك ، وأُمِرتُ أن أكون أوَّلَ من أسلمَ من أهلِ هذا الزَّمان.
(0/0)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)
وقولهُ تعالى : { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ؛ بالرُّجوعِ إلى دينِ آبائي ، { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي } ؛ بالتوحيدِ لا أُشرِكُ به شيئاً ، { فَاعْبُدُواْ مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } ؛ هذا أمرُ تَهديدٍ ، { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ بأن صَارُوا إلى النار ، { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } ، يعني الكفارَ هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم وأهليهم من الأزواجِ والخدَمِ بالتخلية في النار. ويقالُ : خُسْرَانُ الأهلِ أن يخسَرُوا أهلَهم من الحور العينِ التي أُعِدَّت لهم في الجنَّة لو أسلَمُوا.
(0/0)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
وقولهُ تعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ } ؛ أي أطبَاقٌ من النار تلهبُ عليهم ، { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } ؛ أي مِهَادٌ من النار. يريدُ بذلك أنَّهم جُعِلُوا بين أطبَاقِ جهنَّم ، فأحاطَت بهم النارُ من كلِّ جانبٍ.
وإنما سُمي الذي من تحتَهم ظِلاً لأنه ظُلَلٌ لا يكون أسفلَ منهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ } ؛ أي ذلك الذي ذُكر من عذاب الكفَّار تخويفٌ للمؤمنين ليخَافوهُ فيتَّقونَهُ بالطاعةِ والتوحيدِ. ثم أمرَهم بذلك فقالَ : { ياعِبَادِ فَاتَّقُونِ } ؛ أي اتَّقُوا عذابي بامتثالِ أوَامِري.
(0/0)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } ؛ يعني اجتنَبُوا كلَّ ما يُعبَدُ من دون اللهِ ، { وَأَنَابُواْ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي ورجَعُوا إلى طاعةِ الله بعزَائمِهم وأقوالِهم وأفعالهم ، { لَهُمُ الْبُشْرَى } ؛ بالجنَّة ، { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } ؛ وذلك لأنَّ القرآن يشتملُ على ذكرِ المباحات والطَّاعات ، والمباحات حسَنةٌ ، والطاعات أحسَنُ ، واستحقاقُ الثواب يتعلَّقُ بفعلِ الأحسنِ.
ويجوزُ أن يكون معنى الآيةِ : أن العفوَ عن القصاصِ أحسنُ من استيفاءِ القصاصِ ، والصبرُ أحسن من الانتصار ، كما قََالَ اللهُ تَعَالَى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }[البقرة : 237] ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى : 43] ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ }[البقرة : 184] فجعلَ الأخذ بأحسنِ الطَّريقَين أعظمُ للصواب.
وَقَِيْلَ : معنى { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي أحسنَهُ وكلُّه حسنٌ ، قولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } ؛ أي الذين وصَفْنَاهم ، { وَأُوْلَـائِكَ } ، هم الذين وفَّقَهم اللهُ للصواب ، { هُمْ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ؛ أي ذوُو العقولِ.
وقال عطاءُ عن ابنِ عبَّاس : (أنَّ أبَا بَكْرٍ رضي الله عنه آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَدَّقَهُ ، فَجَاءَ عُثْمَانُ رضي الله عنه وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ وَسَعِيدُ ، فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بإيْمَانِهِ فآمَنُوا ، فَنَزَلَ فِيْهِمْ { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ } أيْ يَسْتَمِعُونَهُ مِنْ أبي بَكْرٍ { فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أيْ حُسْنَهُ ، وَكُلُّهُ حَسَنٌ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ ذوُو الْعُقُولِ).
(0/0)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
وقولهُ تعالى : { أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ } ؛ معناهُ : أفمَنْ وجبَتْ عليه كلمةُ العذاب بكُفرهِ كمَن ليس كذلك ، { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ } ؛ أي سبقَ في علمِ الله أنه من أهلِ النار ، أفأنتَ تنقذهُ فتجعلهُ مؤمناً ، يعني لا تقدِرُ على ذلك.
قال عطاءُ : (يُرِيدُ أبَا لَهَبٍ وَأوْلاَدَهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإيْمَانِ بهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ } ؛ بالإيمانِ والطاعة ، { لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } ؛ أي لَهم منازلُ في الجنَّة رفيعةً وفوقَُها منازلُ أرفَعُ منها ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } ، وعدَهم اللهُ تلك الغُرَف والمنازلَ وعْداً لا يُخْلِفهُ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي فأجراهُ في الأرضِ ينابيعَ وهو جمعُ يَنْبُوعٍ ، والينبوعُ : المكانُ الذي يَنْبَعُ منه الماءُ. قال مقاتلُ : معناهُ (فَجَعَلَهُ عُيُوناً وَرَكَايَا فِي الأَرْضِ) وَذلِكَ أنَّ أصْلَ الْمِيَاهِ الَّتِي فِي الأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ.
وقولهُ : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } ؛ أي ثم يُخرِجُ بالمطرِ زَرْعاً من بين أحمرٍ وأصفر وأبيض وأخضرٍ ، { ثُمَّ يَهِـيجُ } ؛ أي يَيْبَسُ ، { فَـتَرَاهُ } ؛ بعدَ الْخُضْرَةِ ، { مُصْفَـرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ } ؛ اللهُ ، { حُطَاماً } ؛ أي متكسِّراً متَفَتِّتاً دِقَاقاً ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ } ؛ أي الذي ذكرَ من صُنعِ الله وقدرتهِ لدلالةِ ذوي العقولِ على سُرعة زوالِ الدُّنيا ، وعلى قدرةِ الله على البعثِ بعدَ الموت.
(0/0)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } ؛ معناهُ : أفمَن وسَّعَ الله صدرَهُ لقَبولِ الإسلام ، فهو على بيانٍ وحجَّة من ربه يُبصِرُ به الحقَّ من الباطلِ ، كمَن طبعَ الله على قلبهِ فلم يهتَدِ للحقِّ لقَسوَتهِ ، فال قتادةُ : (فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبهِ : النُّورُ هُوَ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى ، فِيْهِ يَأْخُذُ وَبهِ يَنْهَى).
وتقديرُ الآيةِ : أفمَن شرحَ اللهُ صدرَهُ للإسلامِ فهو على نورٍ من ربه ، كمَن قَسِيَ قلبهُ. وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه أنه قالَ : " تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ ، قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هَذا الانْشِرَاحُ ؟ قَالَ : " إذا دَخَلَ نُورٌ الْقَلْبَ انْشَرَحَ وَانْفَسَحَ " قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَمَا عَلاَمَةُ ذلِكَ ؟ قَالَ : " الإنَابَةُ إلَى دَار الْخُلُودِ ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَار الْغُرُور ، وَالتَّأَهُّب لِلْمَوْتِ قَبْلَ لِقَاءِ الْمَوْتِ " قِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ نزلت في عمَّار بن ياسرٍ ، وقال مقاتلُ : (أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ يَعْنِي النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } ؛ هم أبُو جهلٍ وأصحابهُ من الكفَّار ، { أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }. وَقَِيْلَ : إنَّ قولهُ { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } يعني عَلِيّاً وحمزةَ ، وقولهُ تعالى { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } هو أبو لَهَبٍ وأولادهُ. وقولهُ { مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } أي عن ذكرِ اللهِ.
(0/0)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } ؛ يعني القرآنَ ، سُمي حَديثاً لأن النبيَّ كان يُحَدِّثُ به قومَهُ. وقوله : { كِتَابا } ؛ منصوب على البدل من أحسن الحديث. قولهُ : { مُّتَشَابِهاً } ؛ أي يُشبهُ بعضه بعضاً في كونهِ حكمةً ومصلحةً ، وفي أنه حقٌّ لا تناقُضَ فيهِ.
وقولهُ تعالى : { مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } ؛ أي مُكَرِّرُ الأنباءِ والقصصِ للإبلاغِ والتأكيدِ ، وتُثْنَى تلاوتهُ في الصَّلاةِ وفي غيرِها فلا يمل من سماعهِ.
وقولهُ : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } خَوفاً مما في القرآنِ من الوعيدِ ، ومعنى تَقْشَعِرُّ : تأخذُهم قَشْعَرِيرَةٌ وهي تغيُّر يحدثُ في جلدِ الإنسان عند الوجَلِ والخوفِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الْعَبْدِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، تَحَاتَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ وَرَقُهَا " وقال الزجَّاجُ : (إذا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذاب اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ) ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ الإنْسَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّار ".
وعن عبدِالله بنِ عُروةَ قالَ : قُلْتُ لأَسْمَاءَ بنْتِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه : كَيْفَ كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُونَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآنُ ؟ قَالَتْ : (كَانُوا كَمَا نَعَتَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، تَدْمَعُ عُيُونُهُمْ وَتَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُهُمْ) فَقُلْتُ لَهَا : إنَّ نَاساً الْيَوْمَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ خَرُّواْ مَغْشِيّاً عَلَيْهِمْ ؟ قَالَتْ : (أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ).
ورُوي : أنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه مَرَّ برَجُلٍ مِنْ أهْلِ الْعِرَاقِ سَاقِطٍ فَقَالَ : (مَا بَالُ هَذا؟) فَقَالُواْ : إنَّهُ إذا قُرِئَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسَمِعَ ذِكْرَ اللهِ سَقَطَ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه : (إنَّا لَنَخْشَى اللهَ وَلاَ نَسْقُطُ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : (إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَدْخُلُ فِي جَوْفِ أحَدِهِمْ! مَا كَانَ هَذا صُنْعَ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى لله عليه وسلم).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } ؛ أي تسكنُ رعدَةُ أعضائِهم إذا سمعوا آياتِ الرَّحمة ، وَقِيْلَ : تلينُ جلودُهم وقلوبُهم ؛ أي تطمئنُ وتسكنُ إلى ذكرِ الله للجنَّة والثواب.
قال قتادةُ : (هَذَا نَعْتُ أوْلِيَاءِ اللهِ ، وَصَفَهُمُ اللهُ بأَنْ تَقْشَعِرَّ جُلُودُهُمْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللهِ ، وَلَمْ يَنْعَتْهُمْ بذهَاب عُقُولِهِمْ وَالْغِشْيَانِ عَلَيْهِمْ ، إنَّمَا ذلِكَ فِي أهْلِ الْبدَعِ وَهُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ).
وقولهُ تعالى : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ } ؛ يعني أحسنَ الحديثِ وهو القرآنُ ، هُدَى اللهُ يهديهِ ، { مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
(0/0)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ الْكَافِرَ يُلْقَى فِي النَّار مَغْلُولَ الْيَدِ إلَى الْعُنُقِ ، لاَ يَتَهَيَّأُ لَهُ أنْ يَتَّقِي النَّارَ إلاَّ بوَجْهِِهِ) ، فكان معنى الآيةِ : أفمَن يتَّقي بوجههِ شدَّةَ العذاب يومَ القيامةِ كمَن يدخلُ الجنةَ ويتلذذُ بنعيمِها.
قِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ نزلت في أبي جهلٍ ، قال الكلبيُّ : (يُنْطَلَقُ بهِ إلَى النَّار مَغْلُولاً ، فَإذا دَفَعَتْهُ الْخَزَنَةُ فِيْهَا تَتَلَقَّفُهُ النَّارُ بأَوَّلِ وَجْهِهِ) ، وقوله : { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } ؛ أي يقولُ الخزَنة للكفار : ذوقوُا العذابَ بما كنتم تكسَبون في الدُّنيا من الكفرِ والمعاصي.
(0/0)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أي كذبَ الذين من قبلِ كفَّار مكَّة رسُلَهم ، { فَأَتَاهُمُ الْعَـذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ يعني وهم آمِنُون في أنفُسِهم غَافِلون عن العذاب. وفي هذه الآيةِ تحذيرٌ لأهلِ مكَّة لئَلاَّ يسلُكوا طريقةَ مَنْ قَبْلَهُم فينْزِلُ بهم من العذاب ما نزلَ بمَن قبلَهم.
(0/0)
فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
وقولهُ تعالى : { فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي الهوانَ والعذابَ في الحياةِ الدنيا ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } ؛ مما أصابَهم في الدُّنيا ، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؛ ولكنَّهم لم يعلَمُوا ذلكَ.
(0/0)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ؛ أي ولقد ضرَبنا لأهلِ مكَّة في هذا القرآنِ من كلِّ مثَلٍ لَهم فيه من كلِّ وجهٍ ما يحتاجون إليه ، { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ؛ فيؤمِنُوا.
(0/0)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
وقولهُ تعالى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ؛ قُرْآناً نصَبهُ على الحالِ كما يقالُ : جاءَنِي زيدٌ رجُلاً صالحاً ، وقولهُ تعالى : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي مستقيمٌ وليس مختلِفٌ ، وعن ابنِ عبَّاس : (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ؛ أيْ غَيْرَ مَخْلُوقٍ) ، وَقِيْلَ : غيرَ تضَادُدٍ واختلافٍ ، لا يخالِفُ الكتبَ المنَزَّلةَ قبلَهُ.
(0/0)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } ؛ أي وصفَ اللهُ مثلَ آلِهَتِهم التي يعبدونَها من دونِ الله ، يقول اللهُ : الذي يعبدُ آلهةً شينٌ في أخلاقِهم وشراسةً ، والذي يعبدُ ربّاً واحداً خالصاً في عبادتهِ إياهُ ، والمعنى فيه شركاءُ متشَاحُّون ، ورجُلاً سَلَماً لرَجُل سلم له من غيرِ منازعٍ ، وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ أربَاباً كثيرةً فيه شركاءُ متشَاحُّون سَيِّئةٌ أخلاقُهم ، وكلُّ واحدٍ منهم يستخدمهُ بقدر نصيبهِ ، يقالُ : رجلٌ شَكِسٌ وَشَرِسٌ ، وَضَرِسٌ وضَبسٌ ، إذا كان سَيِّءَ الْخُلُقِ ومُخَالفاً للناسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ } ؛ (ورَجُلاً سَالِماً) هذه قراءةُ ابنِ كثير وأبي عمرٍو ومجاهد والحسن ويعقوب ، واختيار أبي عُبيد ؛ لأن السالِمَ " الْخَالِصُ " ضدُّ المشترَكِ ، وقرأ الباقون (سَلَماً) من غيرِ ألف بفتحِ اللام وهو ضدُّ المحارب ، ولا موضعَ للحرب ههُنا ، والمعنى ورَجُلاً ذا سَلَمٍ لرَجُل ، من قولِهم : هو لكَ سَلَمٌ ؛ أي مسلم لا منازعَ لكَ فيه.
وقوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ؛ أي هل يستوِي عندكَ شِرْكٌ فيه مختلفون يملكونَهُ جميعاً ورجلٌ خالِصٌ لرجلٍ لا شركةَ فيه لأحدٍ. والمعنى هل يستوِي من يعبدُ آلهةً شتَّى مختلفةً ، يعني الكافرَ ، والذي يعبدُ ربّاً واحداً ، يعني المؤمنَ ، وهذا استفهامٌ معناهُ الإنكارُ ؛ أي لا يستوِيان.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْحَمْدُ للَّهِ } ؛ أي الشكرُ للهِ دون غيرهِ من المعبودِين ، وقولهُ : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ ما يصِيرُون إليه من العقاب ، والمرادُ بالأكثرِ الكلَّ.
(0/0)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } ؛ إنكَ يا مُحَمَّدُ ميِّتٌ عن قليلٍ وإنَّهم ميِّتون ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنكَ ستموتُ وإنَّهم سيمُوتون ، { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } ؛ يعني الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ ، والظالِمَ والمظلومَ. قولهُ : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ } ، بأن جعلَ له ولَداً وشَريكاً ، { وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } ؛ وكذبَ بالصدقِ بالتوحيد والقرآنِ إذْ جاءَ به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وقولهُ تعالى : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } ؛ لفظَةُ استفهامٍ وهو تقديرٌ وتحقيقٌ ؛ أي مثوَاهُم جهنَّمُ.
(0/0)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قولهُ : { وَالَّذِي جَآءَ بِالصِّدْقِ } ؛ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، { وَصَدَّقَ بِهِ } ؛ أبُو بكرٍ رضي الله عنه كَانَ يُصدِّقهُ في كلِّ ما أخبرَ به ، فلذلك سُمي صِدِّيقاً ، وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } ؛ يعني أبا بَكرٍ وأصحابَهُ المؤمنين ، وقولهُ تعالى : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ يعني لَهم ما يَشاؤُون من الكرامةِ في الجنَّة و { ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ } ؛ في أقوالِهم وأعمالهم. وقولهُ تعالى : { لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ } ؛ أي ليُكَفِّرَ اللهُ عنهم أقبحَ أعمالِهم التي عمِلُوها في الدُّنيا بحسناتِهم ، { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } ، قال مقاتلُ : (بالْمََحَاسِنِ مِنْ أعْمَالِهِمْ ، وَلاَ يَجْزِيهِمْ بالْمَسَاوئ).
(0/0)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } ؛ وذلك " أنَّ " المشرِكين من أهلِ مكَّة قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّكَ لا تزالُ تشتمُ آلِهَتَنا وتُعِيبُها فاتَّقِها أنْ لا تصيبَكَ بشيءٍ فتُخَبلَكَ! فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. وَقِيْلَ : معناهُ : أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يكفِيه عداوةَ من يُعاديهِ.
ومن قرأ (عِبَادَهُ) فالمرادُ بالعبادِ الأنبياءَ ، وذلك أنَّ الأُمم قصدَتْهم بالسُّوء ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ }[غافر : 5] فكفَاهم اللهُ شَرَّ مَن عادَاهم ، يعني إنه كافِيكَ كما كفَى هؤلاء الرسُلَ قبلَكَ.
وقوله تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } ، أي بالذين يَعبُدون من دونهِ هم الأصنامُ. { وَمَن يُضْـلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَـادٍ * وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ }.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } ؛ وذلك أنَّهم " مع " عبادتَهم غيرَ اللهِ يُقِرُّونَ أن اللهَ خالقُ هذه الأشياءِ ، فجعلَ اللهُ إقرارَهم بذلك حجَّةً عليهم.
وبيَّن أنه تعالَى إذا أرادَ بعبدهِ ضُرّاً لم تقدر الأصنامُ على دفعهِ عنهُ ، وإذا أرادَ بعبدٍ رحمةً لم تقدر الأصنامُ على حبسِها عنه ، فكيف يعبدونَها ويتركون عبادةَ اللهِ الذي له هذه الصفاتُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ } أي أمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يحتجَّ عليهم بأن جميعَ ما تعبُدون من دون اللهِ لا يَمِلكون كشفَ ضُرٍّ ، قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (وَالْمَعْنَى : أرَادَنِي اللهُ بفَقْرٍ أوْ مَرَضٍ أوْ بَلاَءٍ أوْ شِدَّةٍ ، هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتٌ ضُرَّهُ ، أوْ أرَادَنِي برَحْمَةٍ أيْ بخَيْرٍ وَصِحَّةٍ ، هَلْ هُنَّ حَابسَاتٌ تِلْكَ الرَّحْمَةَ عَنِّي).
قرأ أبو عمرٍو ويعقوب (كَاشِفَاتٌ) و (مُمْسِكَاتٌ) بالتنوينِ ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ غيرُ واقعٍ ، وما لَمْ يقع منهُ فوجهُها التنوينُ ، وقرأ الباقونَ بغير تنوينٍ استخفافاً ، وكِلاَ الوجهين حسنٌ.
وقولهُ تعالى : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } ؛ أي يكفينِي اللهُ تعالى الذي بيدهِ الضرُّ والرحمةُ ، { عَلَيْهِ يَتَوَكَّـلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } ؛ أي به يَثِقُ الواثِقُون لا بغيرهِ.
(0/0)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُـمْ } ؛ أي على نَاحِيَتِكم التي اختَرتُموها ، { إِنِّي عَامِلٌ } ؛ على نَاحِيَتي وجِهَتي ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ؛ أي يَفضَحهُ ويُهلِكهُ في الدُّنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ؛ وينْزِلُ عليه عذابٌ دائم في الآخرةِ. ويجوز أنْ يكون قولهُ { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ابتداءُ كلامٍ من اللهِ تعالى ، وخبرهُ { يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ }.
(0/0)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّـاسِ بِالْحَقِّ } ؛ يعني القرآنَ لتعلَمُوا ما فيه وتعمَلُوا به ، { فَـمَنِ اهْتَـدَى فَلِنَفْسِهِ } ؛ أي فمنفعةُ اهتدائهِ راجعةٌ إلى نفسهِ ، { وَمَن ضَـلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ، ومن ضَلَّ فضَلالهُ راجعٌ إليه ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِـيلٍ } ؛ أي بحفيظٍ ؛ أي تُجبرُهم بالإيمانِ ، وهذا كان قبل أن يؤمرَ بقتالِهم.
(0/0)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا } معناهُ : اللهُ يقبضُ الأرواحَ عند انقضاءِ آجَالِها ، ويقبضُ الأرواحَ التي لم تَمُتْ في منامِها ، { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } ؛ فيحبسُ الأرواحَ التي قَضَى عليها الموتَ ولا يردُّها إلى الأجسادِ ، ويَرُدُّ أرواحَ النائمين إليهم عند الاستيقاظِ ، { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي إلى الأجلِ الذي قدَّرَ اللهُ لهم وهو انقضاءُ الأجَلِ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } ؛ إن في رَدِّ الأرواحِ بعد القبضِ لعلاماتٍ ، { لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ في قُدرةِ الله تعالى ، فيستدلُّون بذلك على قُدرتهِ على البعثِ.
قال الزجَّاجُ : (لِكُلِّ إنْسَانٍ نَفْسَانِ ؛ أحَدُهُمَا : نَفْسُ التَّمْييزِ ؛ وَهِيَ الَّتِي تُفَارقُهُ إذا نَامَ فَلاَ يَعْقِلُ. وَالأُخْرَى : نَفْسُ الْحَيَاةِ ؛ إذا زَالَتْ زَالَ مَعَهَا النَّفَسُ ، وَالنَّائِمُ يَتَنَفَّسُ). وعن ابن جُريج عن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (إنَّ النَّفْسَ الَّتِي هِيَ الْعَقْلُ وَالتَّمْييزُ ، وَالرُّّوحُ هُوَ الشُّعَاعُ الَّذِي بهِ يَتَحَرَّكُ الإنْسَانُ ، فَإذا نَامَ الْعَبْدُ قَبَضَ اللهُ نَفْسَهُ وَلَمْ يَقْبضْ رُوحَهُ ، وَإذا مَاتَ قَبَضَ نَفْسَهُ وَرُوحَهُ).
ويقالُ : إن الأشباحَ له نفسٌ وروح وحياةٌ ، والبهائمُ لها أرواحٌ ، والنباتُ له حياةٌ ، فنَمَا النباتُ بحياتهِ ، وتحرَّكَ البهائمُ بأرواحِها ، وتَمييزُ الإنسان بنفسِه ، فإذا نامَ غَرَبَ عنه عقلهُ وفَهمهُ وتَمييزهُ ، فإذا انتبهَ عادَ كما كان ، وكذلك الميِّتُ إذا بُعِثَ عادَ يبعث كما كانَ.
" وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أيَنَامُ أهْلُ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ : " النَّوْمُ أخُو الْمَوْتِ ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ لاَ يَنَامُونَ وَلاَ يَمُوتُونَ " وروي أن في التوراةِ مكتوبٌ : يا بن آدمَ كما تنامُ تموتُ ، وكما تستيقظُ تُبعَثُ.
وقوله { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } أي يُمسِكُها عن جسدِ ، يعني الروحَ التي توفَّاها فلا تعودُ إلى الجسدِ ، وقوله { وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } يعني النَّفسَ إلى الجسدِ { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى انقضاءِ الأجلِ.
قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلف : (قُضِيَ عَلَيْهَا) بضمِّ القاف وكسرِ الضاد وفتح الياء ، ورفعِ (الْمَوْتُ) على ما لَمْ يُسمَّ فاعلهُ. وقرأ الباقون : (قََضَى) على الفعلِ الماضي ، ونصب (الْمَوْتَ عَلَيْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ } ؛ قال المفسِّرون : إن أرواحَ الأحياءٌ والأموات تلتقِي في المنامِ فتعارَفُوا ما شاءَ اللهُ ، ثم يُمسِكُ اللهُ أرواحَ الأمواتِ فلا يردُّها ، وأرسلَ أرواحَ الأحياءِ إلى الأجسادِ إلى وقتِ انقضاء مدَّة حياتِها. وعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إذا أوَى أحَدُكُمْ إلَى فِرَاشِهِ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى جَنْبهِ الأَيْمَنِ ، وَلْيَقُلْ : باسْمِكَ رَبي وَضَعْتُ جَنْبِي وَبكَ أرْفَعُهُ ، إنْ أمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا ، وَإنْ أرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بمَا تَحْفَظُ بهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ".
(0/0)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَآءَ } ؛ نزلت في أهلِ مكَّة زعَمُوا أن الأصنامَ شفعاؤُهم عند اللهِ ، فقالَ تعالى مُنكراً عليهم (أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي بل اتَّخَذُوا من دون اللهِ آلهةً يعبدونَها طمَعاً في شفاعتِها ، { قُلْ } ، لَهم يا مُحَمَّد : { أَوَلَوْ كَـانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ } ، أتَعبدُونَهم وإنْ كانوا لا يقدِرون على شيءٍ من الشفاعةِ ولا يعقِلون الشفاعةَ ، فكيف يشفَعُون ؟ وَقِيْلَ : ولا يعقِلون أنَّكم تعبدونَهم.
ثم أخبرَ أنه لا شفاعةَ إلاَّ بإذنهِ ، فقالَ : { قُل لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ أي لا يشفعُ أحدٌ إلاَّ بإذنهِ ، والمعنى لا يملِكُ أحدٌ الشفاعةَ إلاّ بتمليكهِ ، وهو إبطالٌ لشفاعةِ الأصنامِ.
(0/0)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } ؛ وذلك أنَّ المشرِكين إذا قيلَ لَهم لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ نفَرُوا من ذلك واستَكبَروا.
والاشْمِئْزَازُ في اللُّغة : النُّفُورُ وَالاسْتِكْبَارُ. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (اشْمَأَزَّتْ انْقَبَضَتْ عَنِ التَّوْحِيدِ) وقال قتادةُ : (اسْتَكْبَرَتْ) ، وقال أبو عُبيدة : (نَفَرَتْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } ؛ يعني الأصنامَ التي يعبُدنَها من دون اللهِ ، { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ؛ والمعنى إذا قيل لَهم : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، نفَرُوا من ذلك ، وإذا ذُكرت أصنامُهم فرِحُوا بذكرِها. فقيل له : { قُلِ } ؛ لَهم يا مُحَمَّدُ : { اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي خالِقُهما ، { عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ؛ أي عالِمُ ما غابَ عن العبادِ ، وما علِمَهُ العبادُ ، { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ } ، أي تقضي بين عبادك ، { فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ من الدِّين.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي لو كان للَّذين ظلَمُوا أنفُسَهم بالشِّركِ ما في الأرضِ جميعاً من المالِ ومثلَهُ معَهُ لفَدَوا به أنفُسَهم لشدَّةِ ما ينْزِلُ بهم من العذاب ، ثم لا يُقْبَلُ منهم ذلك الفداءُ ، وظهرَ لهم من عقاب الله ما لم يكونوا يتوقَّعون في الدُّنيا أنه ينْزِلُ بهم في الآخرةِ.
وذلك أنَّهم لَمَّا كانوا لا يُقِرُّونَ بالبعثِ والنُّشور كانوا لا يتوقَّعون أهوالَ يومِ القيامة ، بل كانوا ينتظِرُون ثوابَ اللهِ أن لو قامَتِ القيامةُ كما أخبرَ اللهُ عنهم بقوله{ وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى }[فصلت : 50] فإذا رأوُا العذابَ فقد ، { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ * وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَـسَبُواْ } ؛ وظهرَ لهم عقوباتُ ما كسَبُوا من المعاصِي ، { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ، وحلَّ بهم جزاءُ استهزائِهم بالكتاب والرسول.
(0/0)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } ؛ أي إذا أصابَهُ مكروهٌ دعَانَا لنكشِفَ عنهُ ، { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا } ، ثم أعطينَاهُ نعمةً منَّا من صحَّة وعافيةٍ ، ويُسْرٍ بعد شدَّةٍ ، { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } ؛ اللهِ أنَّني أهلٌ لذلك ، وقالَ : على علمٍ منِّي فيه بوجُوهِ مُكاَسبَة.
وقولهُ : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } ؛ أي بل النعمةُ والشدَّة بَلِيَّةٌ وامتحانٌ من اللهِ للغنيِّ والفقيرِ ، للغنيِّ بالشُّكر وللفقيرِ بالصبرِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أنَّها من اللهِ.
(0/0)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أي قد قالَ تلك الكلمةِ قارونُ حين قالَ{ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي }[القصص : 78]. والمعنى : قد قالَها الذين من قبلِ هؤلاء الكفَّار ، { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ أي ما أغنَى عنهم الكفرُ من العذاب شيئاً ، والمعنى أنَّهم ظَنُّوا إنما آتَينَاهم لكرامتِهم علينا ، ولم يكن كذلك ؛ لأنَّهم وقَعُوا في العذاب ، ولم يُغْنِ عنهم ما كسَبُوا شيئاً ، وقولهُ تعالى : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } ؛ أي جزاؤُها.
ثم أوعدََ كفارَ مكَّة فقال : { وَالَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ هَـاؤُلاَءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } ؛ أي جزاءُ ما قالُوا وعمِلُوا ، { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } ؛ لأن مرجِعَهم اللهُ ، فهم لا يُعجِزُونَهُ ولا يَفُوتُونَهُ فيُجازيهم بأعمالِهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ معناهُ : أوَلَم يعلَمُوا أنَّ الله يوسِعُ الرزقَ على مَن يشاءُ ويُضَيِّقُ على مَن يشاءُ ، كلُّ ذلك من عندهِ لا بحَوْلِ الإنسانِ وقوتهِ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ إنَّ في البَسْطِ والتقتيرِ لآياتٍ لقومٍ يُصدِّقون أنَّها من اللهِ تعالَى.
(0/0)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي وَحْشِي وَأصْحَابهِ الَّذِينَ قَتَلُواْ حَمْزَةَ عَمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَجَمَاعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، أرْسَلُواْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَسُولاً يَطْلُبُونَ التَّوْبَةَ ، فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه قالَ : (بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه إلَى وَحْشِي يَدْعُوهُ إلَى الإسْلاَمِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ : يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَدْعُونِي إلَى دِينِكَ وَأنْتَ تَزْعُمُ أنَّهُ مَنْ قَتَلَ أوْ أشْرَكَ أوْ زَنَى يَلْقَ أثَّاماً ، يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدُ فِيْهِ مُهَاناً ؟ وَأنَا قَدْ فَعَلْتُ ذلِكَ كُلُّهُ ، فَهَلْ تَجِدُ لِي فِيْهِ رُخْصَةً ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً }[الفرقان : 70].
فَقََالَ وَحْشِي : هَذا شَرْطٌ شَدِيدٌ لاَ أقْدِرُ عَلَى هَذا ، فَهَلْ غَيْرُ ذلَك ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }[النساء : 48] وَقَالَ وَحْشِي : وَإنِّي فِي شُبْهَةٍ فَلاَ أدْري أيُغْفَرُ لِي أمْ لاَ ، فَهَلْ غَيْرُ ذلِكَ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ { قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ } فَجَاءَ وَحْشِي فَأَسْلَمَ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : هَذِهِ لَهُ خَاصَّةً أمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ فَقَالَ : [بَلْ لِلْمُسْلِمينَ عَامَّةً].
معنى الآيةِ : قُل يا عبادِي الذي جاوَزُوا الحدَّ في المعاصِي بالكُفرِ والزِّنا والقتلِ ونحوِها : لا تيأَسُوا من رحمةِ اللهِ ، { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } ؛ أي الصغائرَ والكبائرَ ، { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ } ؛ لِمَن تابَ وآمَنَ ، { الرَّحِيمُ } ؛ بمَن تابَ على التوبةِ.
(0/0)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنِـيبُواْ إِلَى رَبِّكُمْ } ؛ أي ارجِعُوا إلى طاعةِ ربكم بالتوبةِ ، { وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } ، واستَسلِمُوا له من قبلِ أن يأتيَكم العذابُ ثم لا تُمنَعون مما يرادُ بكم.
(0/0)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبِعُـواْ أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُـمْ } ؛ وهو القرآنُ ، { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُـمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ؛ وقتَ مجيئهِ.
(0/0)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : بَادِرْ واحذرْ من أنْ تقولَ نفسِي ، أو حَذار من أن تصيرَ إلى حالةٍ تتحسَّرون فيها على التفريطِ فيما يُنَالُ به ثوابُ اللهِ ، قال الفرَّاءُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { فِي جَنبِ اللَّهِ } : هُوَ الْقُرْبُ ؛ أيْ فِي قُرْب اللهِ وَجِوَارهِ).
والمعنى : أنْ تقولَ نفسِي : يا حسرَتَا على ما فرَّطتُ في طلب جِوَار اللهِ وقُربهِ وهو الجنَّةُ ، وقال عطاءُ : (مَعْنَاهُ : عَلَى مَا ضَيَّعْتُ مِنْ ثَوَابٍ). وقولهُ تعالى : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ } ؛ أي وما كنتُ إلاَّ من المستهزِئين القرآنِ والمؤمنين في الدُّنيا وبمَن دعَانِي إلى التوحيدِ.
(0/0)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُـنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي وخَوفاً أنْ تقولَ لو أنَّ الله نَجَّانِي من العذاب لكنتُ من جُملَةِ المتَّقين الشِّركَ.
(0/0)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَـرَّةً فَأَكُونَ مِنَ } ، الموحدين ، { الْمُحْسِنِينَ } ؛ أو تقولَ حين ترَى العذابَ أو لِئَلاَّ تقولَ حين ترَى العذابَ : لو أنَّ لي رجعةً إلى الدُّنيا فأكون من الموحِّدين الْمُحسِنينَ.
فيُقال لهذا القائلِ : { بَلَى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي } ؛ يعني القرآنَ ؛ { فَكَذَّبْتَ بِهَا } ؛ أي قُلتَ : ليست من عندِ الله ، { وَاسْتَكْبَرْتَ } ؛ أي وتكبَّرتَ من الإيمانِ بها ، وتعظَّمتَ عن الإقرار بذلك ، { وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ، وصرتَ من الجاحدِين لنِعَمِ اللهِ ، فأصابكَ ما أصابكَ بجنايتِكَ على نفسِكَ.
(0/0)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } ؛ أي وترَى يا مُحَمَّدُ يومَ القيامةِ الذين كذبُوا على اللهِ في قولِهم : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، وقولِهم : المسيحُ ابن اللهِ ، وقولِهم : الملائكةُ بناتُ الله تعالى ، وقولِ عبَدةِ الأصنامِ : مَا نعبُدهم إلاَّ ليقَرِّبونا إلى اللهِ زُلفَى ، ترَى هؤلاءِ تسوَدُّ وجوهُهم وتزرَقُّ أعينُهم. وقوله : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } ؛ تحقيقٌ وتقرير ، والْمَثْوَى : هو الْمَنْزِلُ ، المتكبرُ : هو المتعَظِّمُ عن الإيمانِ.
(0/0)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ } ؛ أي يُخَلِّصُهم من العذاب بفَوزهم الذي استحقُّوهُ بأعمالِهم ، قال المبرِّدُ : (الْمَفَازَةُ : مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْز) وَهِيَ السَّعَادَةُ وإنْ جُمِعَ فَحَسَنٌ كَقَوْلِهِمْ السَّعَادَةُ وَالسَّعَادَاتُ ، ويقرأ (بمَفَازَاتِهِمْ). وقولهُ : { لاَ يَمَسُّهُمُ السُّوءُ } ؛ أي لا يُصِيبُهم العذابُ ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ؛ لأنَّهم رَضُوا بالثواب.
(0/0)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)
وقولهُ تعالى : { اللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } ؛ أي جميعِ ما في الدُّنيا والآخرةِ من شيءٍ فاللهُ خالِقهُ ، وهو المستحقُّ للعبادةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ؛ أي الأشياءُ كلُّها موكلةٌ إليه ، فهو القائمُ بحفظِها ، المدبرُ لأمُورها ، الكفيلُ بأرزاقِها.
(0/0)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له خزائنُ السَّمواتِ والأرض ، يفتَحُ الرزقَ على من يشاءُ ويغلقه ، قال ابنُ عبَّاس : (الْمَقَالِيدُ الْمَفَاتِيحُ) وَاحِدُ الْمَقَالِيدِ مِقْلِيدٌ ، كَمَا يُقَالُ مِنْدِيلٌ ومَنَادِيلُ ، وقال الضحَّاكُ : (مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ خَزَائِنُهَا). ويجوزُ أن تكون المقاليدُ جمعَ الْمِقْلاَدِ ، وهو مِفْعَالٌ من الْمِقْلاَدَةِ ؛ أي هو مالكُ الخلقِ وله طاعتُهم وبيدهِ قلوبُهم.
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ معناهُ : والذين كفَرُوا بالقرآنِ هم الذين خَسِرُوا حتى صارُوا في النار.
(0/0)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } ؛ وذلك أنَّ المشرِكين من قُريشٍ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : أتُؤمِنُ ببعضِ آلهتنا ونؤمِنُ بإلَهِكَ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. والمعنى أتأمُرونَني أن أعبدَ اللهِ أيُّها الجاهلونَ بالنعمةِ.
قرأ نافعُ (تَأْمُرُونِي) بنونٍ واحدة خفيفة على التخفيف ، وقرأ ابنُ عامرٍ بنُونَين على الأصلِ ، وقرأ الباقون بنُونٍ واحدة مشدَّدة على الإدغامِ.
(0/0)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وقوله : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ؛ أي ليَحبَطَنَّ عمَلُكَ الذي عَملتَهُ قبلَ الشِّركِ ، وهذا أدبٌ من اللهِ لنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وتَهدِيدٌ لغيرهِ ، لأنَّ الله قد عصمَهُ من الشِّركِ ومُدَاهَنَتِهِ الكفارَ. قوله تعالى : { بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ } ؛ أي وَحِّدْ ؛ لأن عبادتَهُ لا تصحُّ إلاّ بتوحيدهِ ، { وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ } ؛ لإنعامهِ عليكَ به.
(0/0)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ؛ أي ما عرَفُوا اللهَ حقَّ معرفتهِ ، ولا عظَّموهُ حقَّ تعظيمهِ ، إذ عبَدُوا الأوثانَ مِن دونهِ ، وأمَرُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعبادةِ غيره. ثم أخبرَ عن عظَمتهِ فقالَ : { وَالأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ } ؛ أي وجميعُ الأرضِ في مَقدُورهِ يومَ القيامةِ كالذي يقبضُ عليه القابضُ في قَبضَتهِ ، وهذا كما يقالُ : فلانٌ في قبضةِ فلانٍ ؛ أي تحتَ أمرهِ وقبضَتهِ ، والقَبْضَةُ في اللغة : ما قَبَضْتَ عليهِ بجمعِ كفِّكَ ، أخبرَ اللهُ تعالى عن قُدرتهِ فذكرَ أن الأرضَ كلَّها مع عَظَمتِها وكثافَتِها في مَقدُورهِ ، كالشَّيء الذي يَقبضُ عليه القابضُ بكَفَّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } ؛ ذكرَ اليمينَ للمبالَغةِ في الاقدار ، يعني أنَّهُ يَطوِيها بقُدرتهِ كما يطوِي الواحدُ منَّا الشيءَ المقدورَ له طَيُّهُ بيمينهِ ، قال الأخفَشُ : (مَعْنَاهُ مَطْوِيَّاتٌ فِي قُدْرَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُكُمْ ؛ أيْ مَا كَانَتْ لَكُمْ عَلَيْهِ قُدْرَة وَلَيْسَ الْمُلْكُ لِليَمِينِ دُونَ الشِّمَالِ). وقد يُذكَرُ اليمينُ بمعنى القوَّة كما قالَ الشاعرُ : إذا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بالْيَمِينثُم نَزَّهَ نفسَهُ عن شِركهم فقالَ : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
(0/0)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ } ؛ قد ذكَرنا أن النفخةَ نفخَتان في قولِ أكثر المفسِّرين وبينَهما أربعون سَنة ، فالنفخةُ الأُولى هي نفخةُ الصَّعقِ.
والصعقُ : هو الموتُ بصيحةٍ شديدة حالَّةٍ هَائلةٍ ، ومنها الصواعقُ وهي التي تأتِي بشدَّةِ الرَّعدِ ، وعن عبدِالله بن عمر قالَ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصُّور فَقَالَ : " قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيْهِ فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرَضِ " أي يَمُوتُونَ من الفزَعِ وشدَّة الصوتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } ؛ يعني الملَكَ الذي ينفخُ في الصُّور ، ثم يُمِيتهُ اللهُ بعدَ ذلك ، وقال الحسنُ : (يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ وَمَلَكَ الْمُوْتِ). وعن أبي هُريرة رضي الله عنه : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ : " مَنِ الَّذِي شَاءَ اللهُ أنْ يَصْعَقَهُمْ ؟ قَالَ : هُمُ الشُّهَدَاءُ مُتَقَلِّدُونَ أسْيَافَهُمْ حَوْلَ الْعَرْشِ " ".
عن أنسٍ ابن مالك قالَ : " سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ وَقَالَ لَهُمْ : " جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإسْرَافِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : يَا مَلَكَ الْمَوْتِ خُذْ نَفْسَ إسْرَافِيلَ ، فَيَأْخُذُهَا ؛ ثُمَّ يَقُولُ : خُذْ نَفْسَ مِيكَائِيلَ ، فَيَأْخُذُهَا ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : يَا مَلَكَ الْمَوْتِ مَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ : سُبْحَانَكَ يَا رَب تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ بَقِيَ جِبْرِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ ، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : مُتْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ، فَيَمُوتُ ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : يَا جِبْرِيلُ مَنْ بَقِيَ ؟ فَيَقُولُ : تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ بَقِيَ وَجْهُكَ الْبَاقِي الدَّائِمُ ، وَبَقِيَ جِبْرِيلُ الْمَيِّتُ الْفَانِي ، فَيَقُولُ : يَا جِبْرِيلُ مُتْ ، فَيَبْقَى سَاجِداً يَخْفِقُ بجَنَاحَيْهِ فَيَمُوتُ " ".
وقال الضحَّاك : (مَعْنَى قَوْلِهِ : { إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } هُمْ رُضْوَانُ وَالْحُورُ وَمَالِكُ وَالزَّبَانِيَةُ) ، وقالُ قتادة : (اللهُ أعْلَمُ بثَنْيَاهُ). وَقِيْلَ : هم عقاربُ النار وحيَّاتُها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى } ؛ يعني نفخةَ البعثِ ، { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } ؛ ماذا يقالُ لهم.
(0/0)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا } ؛ وأضاءَتِ الأرضُ يومئذٍ بعدلِ ربها ، فسُمِّيَ العدلُ نُوراً كما سُمِّيَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم نُوراً وسُمِّي القرآنُ نوراً. ويقالُ : إن نورَ الأرضِ العدلُ ، كما أنَّ نورَ الدينِ العلمُ ، وقال بعضُهم : يخلقُ اللهُ تعالى يومئذٍ نوراًً يُضِيءُ لأهلِ القيامة غيرَ الشمسِ والقمر.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } ؛ يعني صحائفَ الأعمالِ ، { وَجِـيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (الْمُرَادُ بقَوْلِهِ { وَالشُّهَدَآءِ } هُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ) وَهُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقال عطاءُ : (يَعْنِي الْحَفَظَةَ) وقال السديُّ : (يَعْنِي الَّذِينَ اسْتُشْهِدُواْ فِي طَاعَةِ اللهِ).
وقولهُ تعالى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ } ؛ أي قُضِيَ بين الرُّسلِ والأُمم بالعدلِ ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ أي لا ينقَصُ من حسناتِ أحدٍ ولا يزادُ في سيِّئات أحدٍ. قولهُ : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } ؛ أي أُعطيت كلُّ نفسٍ بَرَّةٍ أو فاجرةٍ جزاءَ ما عمِلَتْ من خيرٍ أو شرٍّ ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } ؛ وهو أعلمُ بفعِلهم ، لا يحتاجُ إلى كاتبٍ ولا شاهدٍ.
(0/0)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً } ؛ وذلك أنَّهم يُسَاقُونَ إلى جهنَّم فَوْجاً فَوْجاً ، الأوَّلُ فالأولُ ، يُسَاقُ كفارُ كلِّ أُمة على حِدَةٍ ، والزُّمَرُ : جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ بعضُها على إثْرِ بعضٍ ، يُسَاقُونَ سَوْقاً عَنِيفاً ، يُسحَبُونَ على وُجُوهِهم إلى جهنَّم ، { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } ؛ عند مجيئِهم ، { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ } ؛ وهم الزَّبَانِيَةُ : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ } ، ويخوفونكم ، { لِقَـآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } ، اليوم ، { قَالُواْ بَلَى } ، أتونا بالرسالة ، { وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } ؛ ولكن وجَبتْ كلمةُ العذاب على الكافرين ، فيقولُ لَهم الزبانيةُ : { قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَـبِّرِينَ } ؛ ادخُلوا أبوابَ جهنَّم السبعةَ خالِدين فيها.
ومعنى قولهِ { وَلَـاكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } هو قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود : 119]. واختلفَ القُراء في قولهِ { فُتِحَتْ } فخفَّفها الكوفيُّون ، وشدَّدها الباقون على التكثيرِ.
(0/0)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً } ؛ وذلك أنَّ المؤمنين يُنطَلَقُ بهم إلى الجنَّة فَوْجاً فوجاً بالتلطُّفِ والإكرامِ ، { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } ؛ قال الأخفشُ : (هَذِهِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ) وَالْمَعْنَى : فُتِحَتْ أبْوَابُهَا حَتَّى تَكُونَ جَوَاباً لِقَوْلِهِ { حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا }. وقال الزجَّاجُ : (الْقَوْلُ عِنْدِي أنَّ الْجَوَابَ مَحْذُوفٌ ، تَقْدِيرُهُ : حَتَّى إذا جَاؤُهَا وَفُتِحَتْ أبْوَابُهَا وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ خَزَنَتُهَا سَارُوا إلَى السَّعَادَةِ وَوَصَلُواْ إلَى مَقْصُودِهِمْ).
وَقِيْلَ : هذه الواوُ واوُ الحالِ تقديرهُ : حتى إذا جاؤُها وَقد فُتحت أبوابُها ، وأدخل الواو ههنا لبيانِ أنَّها قد كانت مفتَّحةً قبل مجيئِهم ، وحذفَها من الآية الأُولى لبيانِ أنَّها قد كانت مُغلقةً قبلَ مجيئهم.
ويقالُ : زيدَتِ الواوُ ههنا لأن أبوابَ الجنَّة ثمانيةٌ وأبوابَ جهنَّم سبعةٌ فزيدت الواوُ فَرْقاً بينهما. وحُكي عن أبي بكرِ بن عيَّاش : (أنَّهَا تُسَمَّى وَاو الثَّمَانِيَةِ) وَذلِكَ أنَّ مِنْ عَادَةِ قُرَيْشٍ أنَّهُمْ يَعُدُّونَ الْعَدَدَ مِنَ الْوَاحِدِ إلَى الثَّمَانِيَةِ ، فَإذا بَلَغُواْ الثَّمَانِيَةَ زَادُوا فيهَا الْْوَاوَ ، فَيَقُولُونَ : خَمْسَةٌ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى{ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ }[الحاقة : 7] ، وَقَالَ اللهُ{ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ }[التوبة : 112] فَلَمَّا بَلَغَ الثامن{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ }[التوبة : 112] ، وَقَالَ تَعَالَى{ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ }[الكهف : 22] ، وَقَالَ تَعَالَى{ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }[التحريم : 5]). وَقِيْلَ : زيادةُ الواوِ في صفة الجنَّة علامةٌ لزيادةِ رحمةِ الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ { طِبْتُمْ } أيْ طَابَ لَكُمُ الْمُقَامُ) ، وَقِيْلَ : معناهُ ظَفرتُم بصالحِ أعمالكم وكنتم طيِّبين في الدنيا. وَقِيْلَ : طابت لكم الجنَّة فادخلُوها خالِدين. فلما دخَلُوها { وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } ، أي أنْجَزَنا وعدَهُ ، { وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ } ، وأنزلنا أرضَ الجنَّة ، { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ } ؛ أي نتَّخذُ فيها من المنازلِ ما نشاءُ ، لقولِ الله تعالى { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } ؛ أي نِعمَ ثوابُ العاملين للهِ في الدُّنيا الجنَّةُ.
(0/0)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } ؛ أي مُحَدِّقِينَ حولَ العرشِ مُحِيطيِنَ به ، { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ؛ إجْلاَلاًَ لعظَمتهِ ، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ؛ الخلائقِ ، { بِالْحَقِّ } ؛ أي بالعدلِ وانتصفَ بعضُهم من بعضٍ ، { وَقِيلَ } ، ويقالُ لهم بعد الفراغِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى ابتدأ خلقَ الأشياءِ بالحمدِ فقالَ : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ }[الأنعام : 1] فلمَّا بعثَ الخلقَ واستقرَّ أهلُ الجنَّة في الجنةِ ، وأهلُ النار في النار ، ختمَهُ بقولهِ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
(0/0)
حم (1)
{ حـم } ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " حم ، اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى ، وَهِيَ مِفْتَاحُ خَزَائِنِ رَبكَ " ، وقال ابن عباس : [هُوَ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ]. وعن عكرمةَ قال : (ألر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعَةٌ) ، وَقِيْلَ : (أقسمَ اللهُ بحَمَلَةِ " عرشهِ " وَمَلاَئِكَتِهِ لاَ يعذِّبُ أحَداً عَادَ إلَيْهِ يقُوْلُ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُخْلِصاً مِنْ قَلْبهِ) ، وقال عطاء الخراسانِيُّ : (الْحَاءُ : افْتِتَاحُ أسْمَاءِ اللهِ : حَلِيمٌ وَحَمِيدٌ وَحَيٌّ وَحَكِيمٌ ، وَالْمِيمُ : افْتِتَاحُ أسْمَائِهِ : مَلِكٌ وَمَجِيدٌ وَمَنَّانٌ) ، وقال الضحَّاك : (حم قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ).
(0/0)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ؛ أي هذه تنْزِيلُ الكتاب من الله العزيزِ العليم بخَلقهِ ، وقرأ حم بفتح الميمِ ؛ أي أُتْلُ حَمِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } ؛ أي غافرِ الذنب لِمَن قالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وهم أولياؤهُ وأهلُ طاعتهِ ، وقابلِ التَّوب من الشِّركِ ، شديدِ العقاب لِمَن ماتَ على الشِّركِ.
والتَّوْبُ : جمعُ التَّوبَةِ ، ويجوزُ أن يكون مَصدراً مِن تَابَ يَتُوبُ تَوباً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذِي الطَّوْلِ } ؛ أي ذِي الغِنَى عمَّن لا يُوحِّدهُ ولا يقولُ : لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ. وقال الكلبيُّ : (ذُو الْفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ وَالْمَانِّ عَلَيْهِمْ) ، وقال مجاهدُ : (ذُو السَّعَةِ وَالْغِنَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ أي لا معبودَ للخلقِ سواهُ ، { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ؛ أي مصيرُ مَن آمَنَ ، ومصيرُ مَن لم يؤمِنْ ، وعن الحسنِ رضي الله عنه : (أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه سَأَلَ عَنْ بَعْضِ إخْوَانِهِ الَّذِينَ كَانُوا بالشَّامِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ أخِي فُلاَنٌ ؟ وَقَالُوا : ذاكَ أخُو الشَّيْطَانِ يُخَالِطُ أهْلَ الأَشْرَفِيَّةِ وخَالَفَ أصْحَابَهُ. فَقَالَ : إذا خَرَجْتُمْ إلَى الشَّامِ فَآذِنُونِي. فَلَمَّا أرَادُوا الْخُرُوجَ أعْلَمُوهُ ، فَكَتَب :
مِنْ عَبْدِاللهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَلاَمٌ عَلَيْكَ ؛ فَإنِّي أحْمَدُ إلَيْكَ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ.
أمَّا بَعْدُ : فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ : { حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ... } إلَى قَوْلِهِ { إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }. وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ.
فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِِتَابُ قَالُواْ لَهُ : اقْرَأ كِتَابَكَ أيُّهَا الرَّجُلُ ، فَلَمَّا قَرَأ { الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } قَالَ : عَلِيمٌ بمَا أصْنَعُ ، { غَافِرِ الذَّنبِ } إن اسْتَغْفَرْتُ غَفَرَ لِي ، و { وَقَابِلِ التَّوْبِ } إنْ أنَا تُبْتُ لِيَقْبَلَ تَوْبَتِي ، { شَدِيدِ الْعِقَابِ } إنْ لَمْ أفْعَلْ عَاقَبَنِي { ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ }. ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللهُ وَنَصَحَ عُمَرُ رضي الله عنه ، فَأَقْبَلَ بطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ إلَى أنْ مَاتَ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أمْرُهُ ، قَالَ : هَكَذا فَاصْنَعُوا ؛ إذا رَأيْتُمْ أخَاكُمْ نَزَلَ فَشَدِّدُوهُ وَوَفِّقُوهُ ، وَادْعُوا اللهَ لَهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ ، وَلاَ تَكُونُوا أعْوَاناً لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ).
(0/0)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي ما يُخاصِمُ في آياتِ الله لتكذيبها والطَّعنِ فيها والمراءِ عليها إلاَّ الذين كفَروا ، { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ } ؛ بالتَّجارَاتِ وسلامِتهم في تصرُّفاتِهم بعدَ كُفرِهم ، فإنَّ عاقبةَ أمرِهم العذابُ كعاقبةِ مَن قبلهم من الكفَّار. وَقِيْلَ : معناهُ : فلا يَغْرُرْكَ ذهابُهم ومجيئُهم في الأسفار بالتِّجارات ، فإنَّهم لَيسُوا على شيءٍ.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } ؛ أي قبلَ قَومِكَ ، { قَوْمُ نُوحٍ } ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ } ؛ وهم الذين تحزَّبُوا على أنبيائِهم بالتكذيب نحوُ عادٍ وثَمود ؛ أي كذبُوا رُسلَهم كما كذبك قومُكَ ، { وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } ؛ فيقتلوهُ ، { وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ } ؛ أي وخاصَمُوا الرُّسلَ بالباطلِ ليُبطِلُوا به الحقَّ الذي جاءَت به الرسلُ ، { فَأَخَذْتُهُمْ } ، بعاقبةِ الاستئصالِ ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } ؛ لَهم.
(0/0)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي مثلَ ما حقَّ على الأُمَمِ المكذِّبة حقَّت كلمةُ ربكَ بالعذاب على الذين كفَرُوا من قومِكَ ، { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } ، في الآخرةِ.
(0/0)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } ؛ يعني حَمَلَةَ العرشِ والطائفِين به ، وهم الكرُّوبيُّونَ وهم سادة الملائكة ، { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ؛ بأنه واحدٌ لا شريكَ له ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } ، ويقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } ؛ أي وسِعَتْ رحمتُكَ كلَّ شيءٍ ، { فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ } ؛ عن الشِّركِ والمعصيةِ ، { وَاتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } ؛ الطريقَ الذي دعوتَهم إليه ، { وَقِهِمْ } ، وادفَعْ عنهم ، { عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ } ؛ أي ربَّنا وأدخِلهُم بساتينَ إقامةٍ ، { الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ } ؛ في الكتُب على ألسِنَةِ الرُّسلِ ، وأدخِلْ معهم ، { وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } ؛ ونسائِهم وأولادهم ، { إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ } ؛ في مُلكِكَ وسُلطانِكَ ، { الْحَكِيمُ } ؛ في أمْرِكَ وقضائِكَ ، { وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ } ؛ وادفَعْ عنهم عقوبةَ السَّيئاتِ ، { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } ومَن يدفَعْ عنه عقوبةَ السيئاتِ ، { فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ أي النجاةُ الوافرة.
وانتصبَ قولهُ { رَّحْمَةً وَعِلْماً } على التمييزِ ، قال ابنُ عبَّاس : (حَمَلَةُ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْب أحَدِهِمْ إلَى أسْفَلِ قَدَمِهِ مَسِيرَةُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ ، وَمُسْتَقَرُّ أرْجُلِهِمْ فِي الأَرْضِ السَّابعَةِ السُّفْلَى ، وَرُؤُوسُهُمْ تَحْتَ الْعَرْشِ ، وَهُمْ خُشُوعٌ لاَ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ ، وَهُمْ أشَدُّ خَوْفاً مِنْ أهْلِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ).
وعن الضحَّاك قال : (لَمَّا خَلَقَ اللهُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ قَالَ لَهُمْ : احْمِلُوا عَرْشِي ، وَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، وَقَالَ لَهُمْ : احْمِلُوا عَرْشِي ، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَوَاتِ وَأرْضِينَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، وَمِثْلَ مَنْ فِي الأَرْضِينَ مِنَ الْخَلْقِ ، وَقَالَ لَهُم : احْمِلُوا عَرْشِي ، فَلَمْ يُطِيقُواْ! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَجُنُودِ سَبْعِ أرْضِينَ وَعَدَدَ مَا فِي الرَّمْلِ مِنَ الْحَصَى وَالثَّرَى وَقَالَ : احْمِلُوا عَرْشِي ، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَقَالَ : قُولُوا : لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ، فَلَمَّا قَالُوهَا حَمَلُواْ الْعَرْشَ) ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أُذِنَ لِي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَتَي أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ ".
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } ؛ وذلكَ أن الكفارَ لَمَّا دخَلُوا النارَ مَقَتُوا أنفُسَهم ، ومَقَتَ بعضُهم بعضاً لاشتغالِهم في الدُّنيا بما قادَهم إلى النار ، فيُنادِيهم مُنَادٍ : { لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي مَقْتُ اللهِ إيَّاكم في الدُّنيا { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } أكبرُ مِن مَقْتِكُم أنفُسَكم اليومَ.
(0/0)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ } ؛ قالَ بعضُهم : معناهُ : كُنَّا نُطَفاً في أصلاب آبائنا أمْوَاتاً فخَلقتَ فينا الحياةَ ، ثم أمَتَّنا بعد ذلك عند انتهاءِ آجالِنا ثُم أحيَيتَنَا للبعثِ ، وهذا كقولهِ تعالى{ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ }[البقرة : 28]. قالوا هكذا لأنَّهم كانوا في الدُّنيا فكذبوا في البعثِ ، فاعترَفُوا في النار بما كذبوا بهِ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } ؛ أي بالتَّكذيب.
وقال بعضُهم : أرادَ بالموتِ الأُولى التي تكون عند قبضِ الأرواحِ ، وبالموتِ الثانية التي تكون بعدَ الإحياءِ في القبرِ للسُّؤال ؛ لأنَّهم أُمِيتُوا في الدُّنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم فسُئِلُوا ، ثم أُمِيتُوا في قبورهم ، ثم أُحْيُوا في الآخرةِ للبعث ، فيكون المرادُ بالإحياءِ الأَول الإحياءُ في القبرِ ، وبالإحياءِ الثاني الإحياءُ للبعثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } أي بإنعَامِكَ علينا ونفوذ قضائِكَ فينا وتكذيبنا في الدُّنيا ، { فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن } ؛ النار ، من ، { سَبِيلٍ } ، طريقٍ فنُؤمِنَ بكَ ونرجِعَ إلى طاعتك؟
فيجابُون : ليس إلى خروجٍ مِن سبيلٍ ، يقالُ لَهم : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ } ؛ أي ذلك العذابُ في النار والْمَقْتُ بأنَّكم إذا قيلَ لكم في الدُّنيا : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، أنْكَرتُم وكفرتُم وقلتُم أجَعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً ، { وَإِن يُشْرَكْ بِهِ } ؛ باللهِ ، { تُؤْمِنُواْ } ، صدَّقتُم ، { فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِـيِّ } ؛ في سُلطانهِ ، { الْكَبِيرِ } ؛ في عظَمتهِ لا يُرَدُّ حكمهُ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
وقولهُ تعالى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ؛ أي دلائلَ توحيدهِ ومصنوعاتهِ التي تدلُّ على قدرته من السَّماء والأرضِ ، والشمسِ والقمرِ ، والنجومِ والسَّحاب وغيرِ ذلك ، { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَآءِ رِزْقاً } ؛ يعني المطرَ الذي يسببُ الأرزاقَ ، { وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ } ؛ أي ما يتَّعِظُ بهذه المصنوعاتِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وما يتَّعِظُ بالقرآن إلاَّ من يرجعُ إلى دلائلِ الله فيتدبَّرها.
ثم أمَرَ المؤمنين بتوحيدهِ فقالَ : { فَادْعُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ؛ أي مخلصين له الطاعةَ موحِّدين ، { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ؛ منكُم ذلكَ.
ثم عظَّمَ تعالى نفسَهُ فقالَ : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } ؛ أي رافعُ درجاتِكم ، والرفيعُ بمعنى الرافعِ ، والمعنى : أنه يرفعُ درجات الأنبياءِ والأولياء في الجنَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُو الْعَرْشِ } أي خالِقهُ ومالِكهُ ، { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ } ، أي ينزل الوحي ، { عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ؛ أي على مَن يختصُّ بالنبوَّة والرسالةِ ، { لِيُنذِرَ } ؛ ذلك النبيُّ الموحَى إليه ، { يَوْمَ التَّلاَقِ } ؛ أي يومَ القيامةِ ، وسُمي يومَ التَّلاَقِ ؛ لأنه يلتقِي فيه أهلُ السموات والأرضِ ، والمؤمنون والكافرونَ والظالمون والمظلُومون ، ويلتقِي المرءُ فيه بعملهِ ، وقرأ الحسنُ : ( { لِتُنْذِرَ } بالتاء (يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلاَقِ) أي لِتُخَوِّفَ فِيْهِ) ، وقرأ العامةُ بالياء ، أي ليُنذِرَ اللهُ.
(0/0)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } ؛ أي يومَ هم خارجون من مواضِعهم من الأرضِ والبحَار وحواصلِ الطَّير وبطُونِ السِّباعِ ، { لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ } ؛ ولاَ مِن أعمالِهم ، { شَيْءٌ } ؛ ومحلُّه رُفع بالابتداءِ ، و { بَارِزُونَ } خبرهُ.
ويقولُ اللهُ في ذلك اليومِ : { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ؛ فيقولُ الخلقُ كلُّهم : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } ؛ وقال الحسنُ : (هُوَ السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ ذلِكَ حِينَ لاَ أحَدَ يُجِيبُهُ ، فََيُجِيبُ نَفْسَهُ).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الْحَمْدُ للهِ الَّّذي تَصَرَّفَ بالْقُدْرَةِ وَقَهَرَ الْعِبَادَ بالْمَوْتِ ، نَظَرَ اللهُ إلَيْهِ ، وَمَنْ يَنْظُرْ إلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي الأَرْضِ ".
(0/0)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } ؛ أي تُجزَى كلُّ نفسٍ بعمَلِها ، الْمُحسِنُ بإحسانهِ ، والمسِيءُ بإسَاءَتِهِ ، { لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ } ؛ من أحدٍ إلى أحدٍ ، { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ؛ يُحاسِبُهم جميعاً في ساعةٍ واحدة ، يظنُّ كلُّ واحدٍ المجابُ دون غيرهِ.
(0/0)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ } ؛ أي حَذِّرهُم يومَ القيامةِ ؛ والمعنى : يا مُحَمَّدُ أنْذِرْ أهلَ مكَّة يومَ الآزفَةِ ، يعني القيامةَ ، سُميت القيامةُ آزفَةً مِن الأزَفِ : وهو الأَمْرُ إذا قَرُبَ ، والقيامةُ آزفةٌ لِسُرعَةِ مَجِيئِهَا. قال الزجَّاجُ : (قِيْلَ : لَهَا : آزفَةٌ لأَنَّهَا قَرِيبَةٌ وَإن اسْتَبْعَدَهَا النَّاسُ ، وَكُلُّ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ) ، { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } ؛ أي تزولُ القلوبُ من مواضعِها من الخوفِ ، فتشخَصُ صدورُهم حتى يبلغَ حاجِزَهم في الحلُوقِ ، فلا هي تعودُ إلى أماكنِها ولا هي تخرجُ من أفواهِهم فيموتُوا فيستريحوا.
وذلك أنَّ القلبَ بين فَلَقَتَي الرِّئة ، فإذا انتفخَتِ الرِّئَةُ عند الفزَعِ رفعَتِ القلبَ حتى يبلُغَ الحنجرةَ ، فيلصقُ بالحنجرةِ فلا يقدرُ صاحبه على أن يرُدَّهُ إلى مكانهِ ، ولا على أن يلفُظَ به فيستريح. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ }[الأحزاب : 10] ، وقولهُ تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }[الواقعة : 83] وقولهُ تعالى{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ }[إبراهيم : 43] وقولهُ تعالى : { إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ }[القيامة : 26].
وقولهُ تعالى : { كَاظِمِينَ } أي مَغمُومِينَ مكرُوبينَ مُمتَلِئين غَمّاً وخَوفاً وحُزناً ، يعني أصحابَ القُلوب يتردَّدُ حُزْنُهم وحسراتُهم في أجوافِهم ، والكَاظِمُ : هو الممتلِيءُ أسَفاً وغَيظاً ، والكَظْمُ تردُّدُ الغيظِ والحزنِ والخوف في القلب حتى يضيقَ به ، نصبَ (كَاظِمِينَ) على الحالِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ؛ أي ما لَهم مِن قريبٍ ينفعُهم ولا شفيعٍ يطاعُ الشفيع فيهم فتُقبَلَ شفاعتهُ.
(0/0)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
وقولهُ تعالى : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ } ؛ أي خِيانَتها وهي مُسَارَقَةُ النظرِ إلى ما لا يحلُّ ، قال ابنُ عبَّاس : (خَائِنَةُ الأَعْيُنِ : هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ جَالِساً مَعَ الْقَوْمِ ، فَتَمُرُّ الْمَرْأةُ فَيُسَارقُهُمُ النَّظَرَ إلَيْهَا). وقال قتادةُ : (هِيَ هَمْزُهُ بعَيْنِهِ وَإغْمَاضُهُ فِيمَا لاَ يُحِبُّ اللهُ). ويجوزُ أن يكون المرادُ به : يعلَمُ العينَ الخائنةَ ؛ أي يُجَازي بخائنةِ الأعيُن ، فكيف بما فوقَها ، كما قالَ في آيةٍ أُخرى{ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }[الاسراء : 36].
وفي الحديثِ : أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِِعَلِيٍّ رضي الله عنه : " لاََ تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإنَّ لَكَ الأٌوْلَى وَعَلَيْكَ الثَّانِيَةَ " ، يعني بأنَّ الأُولى إذا وقعَ نظرٌ إلى موضعٍ لا يجوزُ له النظرُ إليه لا عن تعَمُّد منه ، فإنه لا يكون إثماً في ذلك ، وإنما يأثَمُ إذا عادَ بالنظرِ ثانيةً. وقولهُ تعالى : { وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } ؛ أي ويعلمُ ما تُضمِرُ الصدورُ عند خَائنةِ الأعيُن ، ويعلمُ ما تُسِرُّ القلوبُ من المعصيةِ.
(0/0)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ } ؛ أي يحكمُ بالقسطِ والعدل ، لا يمنعُ أحَداً من ثواب عمَلهِ ، ولا يعاقبهُ على ذنبٍ لا يكتسبهُ ، بل يجزِي بالحسَنةِ والسيئة ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } ؛ معناهُ : والذين تدعُونَ من دونِ الله من الأصنامِ لا ينفَعُون مَن أطاعَهم ، ولا يضرُّون مَن عصَاهم ولا يُجازون أحداً ؛ لأنَّهم لا يعلَمُون ولا يقدِرُون.
قرأ نافعُ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) بالتاءِ ، وقرأ الباقون بالياء ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لِمَقَالَتِهم ، { الْبَصِيرُ } ؛ بهم وأعمالِهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُواْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ الآيةُ ظاهرة المعنى. وقولهُ تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } أي ما كان لهم من عذاب الله من واقٍ يقي العذابَ عنهم.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24)
وقولهُ تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا } ؛ يعني الآياتِ التسع ، { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ أي حجَّة ظاهرةٍ ، { إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ } ؛ أي كثيرُ الكذب ، وخُصَّ فرعونُ وهامان وقارون بالكذب ؛ لأنَّهم كانوا همُ المتبُوعِين ، وفي ذكرِ المتبوعين ذكرُ التابعين.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ اقْتُلُواْ أَبْنَآءَ الَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَاسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ } ؛ أي استَبقُوا النساءَ للخدمةِ ، وذلك أنَّ فرعون كان قد أُخبرَ أنه يولَدُ مِن بني إسرائيلَ مولودٌ يذهَبُ ملكهُ على يديهِ ، فأمَرَ بقتلِ أبنائهم واستبقاءِ نسائهم ، فلمَّا جاءَهم مُوسَى عليه السلام بالحقِّ ، أمَرَ بإعادةِ ذلك القتلِ عليهم كَيلاَ يبلُغَ الأبناءُ فيُعِينُوهُ عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَـيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ أي يذهبُ كَيدُهم باطلاً ، ويحيقُ بهم ما كانوا يَكِيدُونَ.
(0/0)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى } ؛ وذلك أنَّ قومَ فرعون قالوا له : أرْجِئْهُ وأخاهُ ولا تقتُلهما ، فإنَّكَ إنْ قَتَلتَهُما قبلَ ظُهور حُجَّتنا عليهما وقعَتْ للناسِ الشُّبهَةُ في أنَّهما كانا على الحقِّ ، فقالَ فرعونُ : دَعُونِي أقْتُلْ موسى ، { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } ؛ حتى يدفعَ ذلك القتلَ عنه.
ثم بيَّن لأيِّ معنى يقتلهُ فقال : { إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ } ؛ يعني يبدِّلَ عبادتكم إيَّايَ ، { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ } ؛ وأرادَ ظُهورَ الهدَى وتغيُّرَ أحكَامِ فرعون فجعلَ ذلك فساداً.
قرأ الكوفيُّون ويعقوب : (أوْ أنْ يُظْهِرَ) بالألفِ ، وقرأ نافعُ وأبو عمرو : (وَيُظْهِرَ) بضمِّ الياء وكسرِ الهاء ، ونصب (الْفَسَادَ) ، وقرأ الباقون بفتحِ الياءِ والهاء ورفعِ (الْفَسَادُ) ، واختارَ أبو عُبيد قراءةَ نافعٍ وأبو عمرٍو ، ولأنَّها أشبهُ بما قبلَها لإسنادِ الفعل إلى موسى وعطفهِ على بدَلِه.
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ } ؛ أي لَمَّا توعَّدَ موسى بالقتلِ قال موسَى : إنِّي عُذْتُ برَبي وربكم ، { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ } ، مُتَعَظِّمٍ عن الإيمانِ وعن قَبول الحقِّ لا يصدِّقُ بيومِ القيامة ، استعاذ موسَى بالله مِمَّن أرادَ به سُوءً.
(0/0)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } ؛ اختلَفُوا في هذا المؤمنِ ، فقال بعضُهم : كان قِبْطِيّاً من آلِ فرعون ، غيرَ إنه كان آمَنَ بموسى وكان يكتمُ إيمانه من فرعون وقومه خَوفاً على نفسهِ.
وقال مقاتلُ والسديُّ : (كَانَ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ) ، وَهُوَ الَّذِي حَكَى اللهُ عَنْهُ{ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى }[القصص : 20] ، وهذا هو الأشير وكان اسمهُ حِزقِيلُ ، وَقِيْلَ : حِزْبيلُ. وقال بعضُهم كان إسرَائِيليّاً ، وتقديرُ الآية : وقال رجلٌ مُؤمِنٌ يكتمُ إيمانهِ مِن آلِ فرعون.
وقولهُ تعالى : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } أي لأَنْ يقولَ رَبيَ اللهُ ، وقد جاءَكم بالبيِّنات من ربكم بما يدلُّ على صدقهِ من المعجزات ، { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } ؛ لا يضرُّكم ذلك ، { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } ؛ أي يُصِبكُمْ كلُّ الذي يَعِدُكم من العذاب إنْ قتلتموهُ وهو صادقٌ.
والمرادُ بالبعضِ الكلَّ في هذه الآيةِ ، وقال الليثُ : (بَعْضُ هَهُنَا زَائِدَةٌ ؛ أيْ يُصِبْكُمُ الَّّذِي يَعِدُكُمْ) ، وقال أهلُ المعاني : هذا على الْمُظَاهَرَةِ في الحِجَاجِ ، كأنهُ قالَ لَهم : أقلُّ ما يكون في صِدقهِ أنْ يُصِبكُم بعضُ الذي يَعِدْكم وفي بعضِ ذلك هَلاكُكم) ، فذكرَ البعضَ ليُوجِبَ الكلَّ ، ويدلُّ على ذكر البعضِ بمعنى الكلِّ ، قال لبيد : تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَهَا أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَاأراد كلَّ النُّفُوسِ ، ومثلُ قولِ الآخر.قَدْ يُدْركُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُوقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ؛ أي لا يهدِيهِ في الآخرةِ إلى جنَّتهِ وثوابهِ. والمسرِفُ هو المتجاوزُ عن الحدِّ في المعصيةِ.
(0/0)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي قالَ لهم الرجلُ المؤمِنُ على وجهِ النَّصيحةِ لَهم : { ياقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } أي غَالبينَ مُستَعلِينَ فِي أرضِ مصرَ ، { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا } ؛ أي فمَن يَمنَعُنا من عذاب الله إنْ جاءَنا ، { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى } ؛ أي ما أُشِيرُ عليكم إلاَّ ما أراهُ حقّاً من الصواب في أمرِ مُوسَى ، { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } ؛ أي ما أُعَرِّفُكم إلاَّ طريقَ الهدى.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ياقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ } ؛ معناهُ : وقالَ لَهم الرجلُ المؤمِنُ : إنِّي أخافُ عليكم في قَتلهِ وتركِ الإيمان بهِ أنْ ينْزِلَ بكُم من العذاب ، { مِثْلَ دَأْبِ } ؛ مِثلَما نزلَ بالأُمَمِ الماضيةِ قبلَكُم حين كذبُوا رُسُلَهم ، { قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ }. وقوله تعالى : { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } ؛ أي لا يُعاقِبُ أحداً بلا جُرمٍ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ } ؛ يعني يومَ القيامةِ يُنَادَى فيه كلُّ أُناسٍ بإمَامِهم ، وينادي فيه أهلُ النار أهلَ الجنة ، وأهلُ الجنة أهلَ النار ، وينادَى فيه بسعادةِ السُّعدَاءِ وشقاوةِ الأشقياءِ ، وأصلهُ : يومَ التَّنَادِي بإثباتِ الياء كما في التَّناجِي والتَّقَاضِي ، إلاّ أنَّ الياءَ حُذفت منه كما حُذف مِن قولهِ تعالى{ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ }[القمر : 6] وشبهِ ذلك.
وَقِيْلَ : سُمِّي يومُ التَّنادِي لأنَّ الكفَّارَ يُنادُونَ فيه على أنفُسِهم بالويلِ والثُّبُور ، كما قالَ تعالى : { لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً }[الفرقان : 14] ، وَقِيْلَ في معنى ذلك : أنه يُنادِي المنادي ألاَ أنَّ فُلان بن فلان سَعِدَ سعادةً لا شقاوةَ بعدَها أبداً ، ويُنادِي : إلا إنَّ فلان بنَ فلان شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ بعدَها أبداً.
وقرأ الحسنُ : (يَوْمَ التَّنَادِي) بإثباتِ الياء على الأصل. وقرأ ابنُ عبَّاس : (يَوْمَ التَّنَادِّي) بتشديدِ الدال على معنى يوم التنافُرِ ، وذلك إذا هرَبُوا فنَدُّوا في الأرضِ كما يَنُدُّ الإبلُ إذا شرَدَتْ على أصحابها.
قال الضحاك : (إذا سَمِعُوا بزَفِيرِ النَّار نَادَوا هَرَباً ، فَلاَ يَأْتُوهُ قِطْراً مِنَ الأَقْطَار إلاَّ وَجَدُوا مَلاَئِكَةً صُفُوفاً ، فَيَرْجِعُونَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُواْ فِيْهِ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { يَوْمَ التَّنَادِ } ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن : 33].
(0/0)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
وقولهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } ؛ أي منصَرِفين عن موقفِ الحساب إلى النار ، { مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ؛ أي مَانِعٍ يَمْنَعُكم من عذابهِ ، { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }.
(0/0)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي جاءَكم يوسفُ بن يعقوبَ مِن قَبْلِ موسى بالدَّلاَلاتِ ظاهرةً على وحدانيّةِ اللهِ تعالى{ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }[يوسف : 39]. وَقِيْلَ : معنى قوله { مِن قَبْلُ } أي من قَبلِ الْمُؤِمِنِ.
وقولهُ تعالى : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } ؛ أي في شَكٍّ من عبادةِ الله وحدَهُ ، { حَتَّى إِذَا هَلَكَ } ، حتى إذا ماتَ ، { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } ؛ يأمُرنا وينهَانا ، { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } ؛ هكذا يُهلِكُ اللهُ مَن هو متجاوزٌ عن الحدِّ ، { مُّرْتَابٌ } ؛ أي شَاكٌّ في توحيدِ الله وصدقِ أنبيائه.
(0/0)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } ؛ قال الزجَّاجُ : (هَذا تَفْسِيرُ الْمُسْرِفِ الْمُرْتَاب) على معنى هُم الذين يُجادِلُونَ في آياتِ الله بغيرِ سُلطانٍ بالإبطالِ والتكذيب والطَّعنِ بغير حُجَّة أتَتْهُم ، { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي عَظُمَ جدالُهم بُغْضاً وسُخْطاً عندَ الله وعند الذين آمنوا ، { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ } ؛ أي هكذا يَختمُ اللهُ بالكفرِ ، { عَلَى كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ } ؛ عن الإيمانِ ، { جَبَّارٍ } ؛ للناسِ على " ما " يُريد.
قال ابنُ عبَّاس : (يَخْتُمُ عَلَى قُلُوبهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلاَ يَعْقِلُونَ الرَّشَادَ) وقُرئ (عَلَى كُلِّ قَلْبٍ) بالتنوينِ ، وقال الزجاجُ : (الْوَجْهُ الإضَافَةُ لأَنَّ الْمُتَكَبرَ هُوَ الإنْسَانُ).
(0/0)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً } ؛ أي قالَ لوزيرهِ هامان : ابْنِ لِي قَصراً مَنِيفاً مشَّيداً بالآجُرِّ ، قالَ في موضعٍ آخرَ : { فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً }[القصص : 38] وكانَ هامانُ هو أوَّلَ مَن استعملَ الآجُرَّ لبناءِ الصَّرحِ ، ولكن كُرِهَ بناءُ القبور بالآجُرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّعَـلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ } ؛ الطريقَ للسَّموات ، والسَّبَبُ في الحقيقةِ : كُلُّ ما يُوصِلُكَ إلى الشيءِ ، ولذلك سُمي الجبلُ سَبَباً. وقال بعضُهم : أسبابُ السَّموات طَبقَاتُهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى } ؛ ظنَّ فرعون بجهلهِ أنَّ إلهَ موسى مما يرقى إليه ، قوله تعالى : { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } ، أي إني لأظن موسى كَاذِباً فيما يقولُ إنَّ له ربّاً في السَّماء ، ولما قالَ موسى : ربُّ السَّمواتِ ، فظنَّ فرعون بجهلهِ واعتقاده الباطل أنه لَمَّا لَم يُرَ في الأرض أنه في السماء ، فرَامَ الصعودَ إلى السَّماء لرؤيةِ إله موسى. وقيل : معناهُ : وإني لأظنُّ موسى كَاذباً فيما يقولُ أنَّ له ربّاً غيرِي أرسلَهُ إلينا.
وقرأ الأعرجُ (فَاطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى) بنصب العين على جواب (لعَلِّي) بالفاء على معنى إنِّي إذا بلغتُ اطَّلَعتُ ، وقرأهُ العامة (فَأطَّلِعُ) عطفاً على قولهِ تعالى : { وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ } ؛ أي كذا حُسِّنَ له قُبْحُ عملهِ ، زَيَّنَ له الشيطانُ جهلَهُ ، ومَن قرأ (زَيَّنَ) بفتح الزاي على أنَّ المعاصي يدعُو بعضُها إلى بعضٍ.
وقولهُ تعالى : { وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ } ؛ أي صدَّ غيرَهُ عن الهدى ، ويحتملُ أنه صدَّ عن السبيلِ بنفسه ، و { صُدَّ } بضم الصاد أي مُنِعَ عن سبيلِ الحقِّ ، { وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } ؛ أي في خَسَارٍ وهلاكٍ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ الرَّشَـادِ } ؛ أي قال الرجلُ المؤمن من آلِ فرعون : يا قومِ اتَّبعونِي على دِيني أحملكُم على طريقِ السَّداد والهدى ، { ياقَوْمِ إِنَّمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ } ؛ أي مشقَّةٌ يسيرةٌ تنقطعُ ، { وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَـرَارِ } ؛ فلا تزولُ أي هي المحِلُّ الذي يقعُ فيه الاستقرارُ.
(0/0)
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
قولهُ : { مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً } ، يعني الشِّرك ، { فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } ؛ فلا يُجزى إلاَّ مثلَها في العِظَمِ ، معنى النار ، { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً } ؛ أي طاعةً ، { مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ؛ مخلصٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) { فَأُوْلَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } ؛ أي بما لا يُعرَفُ له مقدارٌ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُـمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ } ؛ أي قال لَهم الرجل المؤمنُ : يا قومِ مَا لِي أدعُوكم إلى سبب النَّجاةِ ، { وَتَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِاللَّه } ، وتدعونَني إلى عملِ أهلِ النَّار وهو الشِّركُ. وقولهُ تعالى : { وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } ؛ أي من لا أعرفُ له ربوبيَّته ، { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ } ؛ أي الغالب المنتَقِم ممن عصاهُ ، { الْغَفَّارِ } ؛ لِمَن تابَ وآمَنَ.
(0/0)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ } ؛ يعني قوله { لاَ جَرَمَ } أي حَقّاً أنَّ ما تدعونَني إليه من المعبودِين دون الله ليس له دعوةٌ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ ، قال السديُّ : (مَعْنَاهُ : لاَ يَسْتَجِيبُ لأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ) ، والتقديرُ : ليس له استجابةُ دعوةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي وإنَّ مَرجِعَنا إليه في الآخرةِ ، يفصلُ بين الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ ، { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ } ؛ أي وإنَّ المتجاوزين عن الحدِّ في الكُفرِ وسَفكِ الدماء بغيرِ الحقِّ ، { هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ }.
(0/0)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ } ؛ أي فستذكُرون هذا الذي أقولُ لكم في الدُّنيا من النَّصيحة إذا نزلَ بكم العذابُ في الآخرةِ ، في حين لا ينفعُكم الذِّكرُ عليه ، { وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ } ؛ أي وأتركُ أمرَ نفسي إلى اللهِ فأَثِقُ به ولا أشتَغِلُ بكم ، { إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } ؛ أي بأوليائهِ وأعدائه.
(0/0)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ } ؛ وذلك أنَّ فرعون أرادَ أن يَقتُلَهُ فهربَ منهم ، فلم يقدِرُوا عليه ، ودفعَ اللهُ عنه غَائِلَةَ مَكرِهم ، { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } ؛ أي نزلَ بفرعون وقومه أشَدُّ العذاب ، قال الكلبيُّ : (غَرِقُوا في الْبَحْرِ وَدَخَلُواْ النَّارَ) والمعنى : وحاقَ بآلِ فرعون سوءُ العذاب ، في الدُّنيا الغرقُ ، وفي الآخرةِ النارُ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } ؛ ارتفاعُ (النارُ) على البدلِ من { سُوءُ الْعَذَابِ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } أي صَباحاً ومسَاءً ، يقالُ لَهم : يا آلَ فرعون هذهِ منازلُكم ، توبيخاً ونقمةً ، قال ابنُ مسعود : (إنَّ أرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّار كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ) ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ أحَدَكُمْ إذا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ " أهْلِ " الْجَنَّةِ ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّار فَمِنْ " أهْلِ " النَّار ، يُقَالُ : هَذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
وقولهُ تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } قرأ نافعُ والكوفيُّون بقطعِ الألفِ وكسرِ الخاء ؛ أي يقالُ للملائكةِ : أدْخِلُوا آلَ فرعون أشدَّ العذاب ، وهو الدَّرْكُ الأسفلُ من النار ، وقرأ الباقون بضَمِّ الخاء ووصلِ الألف على الأمرِ لهم بالدخول.
(0/0)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النَّـارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْـبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ } ؛ أي واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لقومِكَ : إذ يختصِمُ أهلُ النار في النار ، وباقي الآية مفسَّرٌ في سورةِ إبراهيمَ عليه السلام.
(0/0)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
وقولهُ تعالى : { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } ؛ أي إنا نحنُ وأنتم قد استَوَينا في العذاب ، { إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ } ؛ أي قضَى بهذا علينا وعليكم وحَكَمَ أنْ لا يتحملَ أحدٌ عذابَ أحدٍ.
فلما رأوا شدَّة العذاب ، { وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّار } ، قالوا ، { لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَاب } ؛ أي يُهَوِّنْ عنَّا العذابَ قدر يومٍ من أيَّام الدُّنيا ، { قَالُواْ } ، فيقول الزبانية : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالدَّلالاتِ الظاهرةِ على وحدانيَّة اللهِ ، { قَالُواْ بَلَى } ، فيقولون : بلَى قد أتَتْنا الرسُل ، { قَالُوا } ، فتقولُ لَهم الزبانيةُ : { فَادْعُواْ } ، أنتم فإنَّ اللهَ تعالى لم يأْذنْ لنا في الدُّنيا ، { وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ أي في ضياعٍ لا ينفعُهم.
(0/0)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي إنا لَنُعِينُ الرسُلَ والمؤمنين على أعدائِهم في الدُّنيا بالاستعلاءِ عليهم بالحجَّة وبالغَلبةِ عليهم في المحارَبةِ ، وَنُعِينُهم ، { وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ؛ بإعلاءِ كلِمَتهم وإظهار منْزِلتهم ، والمعنى : ويومَ القيامةِ تقومُ الحفَظَةُ من الملائكةِ يشهدون للرُّسُلِ بالتبليغِ ، وعلى الكفَّار بالتكذيب.
وواحدُ الأشهَادِ : شَاهِدٌ ، مثل صَاحِبٍ وأصحابٍ ، وطائر وأطيَارٍ ، والمرادُ من الأشهادِ الأنبياءُ والملائكةُ والمؤمنونَ والجوارحُ والمكانُ والزمانُ ، يشهدون بالحقِّ لأَهلهِ ، وعلى المبطلِ بفعلهِ ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ } ؛ أي إن اعتذرُوا من كُفرِهم لم يقبَلْ منهم ، وإنْ تابوا لم تنفَعْهم التوبةُ ، { وَلَهُمُ الْلَّعْنَةُ } ؛ أي البُعْدُ من الرحمةِ ، { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ؛ يعني جهنَّمَ سوءُ المنقَلب.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى } ؛ من الضَّلالةِ يعني التوبةَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : ولقد أعطَينا موسى الدِّينَ المستقيمَ ، { وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } ، ونزَّلنا على بنِي إسرائيلَ التوراةَ والإنجيلَ والزَّبُورَ ، { هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ } ، هُُدًى من الضَّلالة وعِظَةً لذوي العقولِ ، { فَاصْبِرْ } ، يا مُحَمَّدُ على أذى الكفَّار كما صَبَرَ الرسلُ قبلَكَ ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ، في نُصرَتِكَ وإظهار دِينِكَ صدقٌ كائن ، { وَاسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ } ؛ يعني الصغائرَ ؛ لأن أحداً من البشرِ لا يخلُو من الصغائرِ وإنْ عُصِمَ من الكبائرِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : واستغفِرْ لذنُوب أُمَّتِكَ ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ؛ أي نَزِّهْهُ عن كلِّ صفةٍ لا تليقُ به ، واحْمَدْهُ على كلِّ نعمةٍ. ويجوزُ أن يكون المرادُ بالتسبيحِ في الآية مِن قوله : { بِالْعَشِيِّ } ؛ الصَّلوات الخمسِ وقت ما بعدَ الزَّوالِ إلى وقتِ العشاء الآخرةِ ، ومِن قوله : { وَالإِبْكَارِ } ؛ صلاةَ الفجرِ. والمعنى : صَلِّ لرَبكَ شَاكراً لربك بالعشيِّ والإبكار.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } ؛ وذلك أن اليهودَ كانوا يجادلون في النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رفعِ القرآن ، وكانوا يقولون له : صَاحِبُنا المسيحُ بن داودَ ، يعنون الدجَّالَ يخرجُ في آخرِ الزمانِ فيبلغُ سلطانَ البرِّ والبحرِ ، ويرُدُّ الْمُلْكَ إلينا وتسيرُ معه الأنْهَارُ ، وهو آيةٌ من آياتِ الله! ويعظِّمون أمرَ الدجَّال ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناهُ : إنَّ الذين يخاصِمون بغيرِ حجَّةٍ أتَتْهُم ، { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } ؛ أي ما في قُلوبهم إلاَّ عَظَمَةٌ عن قبولِ الحقِّ لِحَسَدِهم ، ما هم ببَالِغِي تلك العَظَمة التي في قُلوبهم لأنَّ الله تعالى مُذِلُّهم ، فلا يَصِلُونَ إلى دفعٍ من آياتِ الله.
قال ابنُ عبَّاس : (وَالْمَعْنَى : مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبكَ إلاَّ مَا فِي صُدُورهِمْ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا هُمْ ببَالِغِي مُقْتَضَى ذلِكَ الْكِبْرِ لأَنَّ اللهَ مُذِلُّهُمْ). وقال ابنُ قتيبة : (إنَّ فِي صُدُورهِمْ إلاَّ تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَطَمَعٌ أنْ يَصِلُوهُ وَمَا هُمْ ببَالِغِي ذلِكَ ، فَاسْتَعِذْ باللهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكِبْرِ وَمِنْ شَرِّ الْيَهُودِ وَمِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ وَمِنْ كُلِّ مَا تَجِبُ الاسْتِعَاذةُ مِنْهُ) ، وقولهُ تعالى : { إِنَّـهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } ؛ بهم وبأعمالِهم.
(0/0)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
وقوله تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } ؛ أي هذا أكبرُ من خلقِ بغير عَمَدٍ وجريانِ الأفلاكِ بالكواكب فيه أعظمُ في النفسِ وأهْوَلُ في الصدر من خلقِ الناس ، { وَلَـاكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ } ؛ الكفار ، { لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ حين لا يستدُّلون بذلك على توحيدِ خالِقِهما وقدرتهِ على ما هو أعظمُ من خلقِ الدجَّالِ ، وعلى أنْ يمنِعَ المسلمين من غَلَبَتِهِ عليهم.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلاَثُ سِنِينَ ، أوَّلُ سَنَةٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا ، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ ثُلُثَي قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَي نَبَاتِهَا ، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ تُمْسِكُ السَّمَاءُ مَا فِيْهَا وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهَا ، وَيَهْلَكُ كُلُّ ذاتِ ظِلْفٍ وَضِرْسٍ ".
وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ قال : " خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ ، فَكَانَ أكْثَرُ خُطْبَتِهِ أنْ يُحَدِّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ وَيُحَذِّرَنَا ، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ : " أيُّهَا النَّاسُ ؛ إنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ أعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ ، إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبيّاً إلاَّ حَذرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ ، وَأَنَا آخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَأنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ ، وَهُوَ خَارجٌ فِيكُمْ لاَ مَحَالَةَ ، فَإنْ يَخْرُجْ وَأنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُ كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَإنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ ، وَاللهُ تَعَالَى خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.
أنَّهُ يَخْرُجُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ يَعِيثُ يَمِيناً وَيَعِيثُ شِمَالاً ، فَيَا عِبَادَ اللهِ اثْبُتُوا ، فَإنَّهُ يَبْدَأ فَيَقُولُ : أنَا نَبيٌّ وَلاَ نَبيَّ بَعْدِي! ثُمَّ يُثْنِي وَيَقُولُ : أنَا رَبُّكُمْ! وَلَنْ تَرَوا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا ، وَإنَّهُ أعْوَرٌ وَلَيْسَ رَبُّكُمْ بأَعْوَرَ ، وَإنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ : كَافِرٌ ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَتْفُلْ فِي وَجْهِهِ.
وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بنَارهِ فَلْيَقْرَأ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَيَسْتَغِيثُ باللهِ ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاَماً ، وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ شَيَاطِين يَتَمَثَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ ، فَيَأْتِي الأَعْرَابيُّ فَيَقُولُ لَهُ : إذا بَعَثْتُ أبَاكَ وَأُمَّكَ وَأهْلَكَ تَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صَوْتِ أبيهِ وَأُمِّهِ ، فَيَقُولانِ لَهُ : يَا بُنَيَّ اتَّبعْهُ فَإنَّهُ رَبُّكَ ، وَمِنْ فِتْنَتِهِ أنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا ، ثُمَّ يُحْييهَا اللهُ بَعْدَ ذلِكَ ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ : انْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذا ، فَإنِّي بَعَثْتُهُ الآنَ وَيَزْعُمُ أنَّ لَهُ رَبّاً غَيْرِي " ".
قال مقاتلُ : (إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُسَلَّطَ عَلَيْهِ الدَّجَّالُ رَجُلٌ مِنْ جَشْعَم ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى ، فَيَقُولُ لَهُ الدَّجَّالُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : اللهُ رَبي وَإنَّكَ الدَّجَّالُ عَدُوُّ اللهِ).
[وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ يَقُولُ لِلأعْرَابيِّ : أرَأيْتَ إنْ بَعَثْتُ لَكَ أبيكَ وَأُمَّكَ أتَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صُورَةِ أبيهِ وَأُمِّهِ. وإنَّ أيَّامَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً ، فَيَوْمٌ كَالسَّنَةِ ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ ، وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ ، وَيَوْمٌ كَالجُمُعَةِ ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ ، وَآخِرُ أيَّامِهِ كَالشُّرْفَةِ ، فَيُصْبحُ الرَّجُلُ ببَاب الْمَدِينَةِ فَلاَ يَبْلِغُ بَابَهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ].
(0/0)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَسْتَوِي الأَعْـمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَلاَ الْمُسِيءُ } ؛ أي فكمَا لا يستوِيَان فكذلك لا يستوِي المؤمنُ والكافر في الآخرةِ في الجزاءِ بالعذاب والنَّعيم ، وباقِي الآيتَين : { قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ رَبُّكُـمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ؛ أُدعُونِي ووَحِّدُونِي في الدُّنيا أقبلُ منكم وأستمع دعاءَكم ، { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } ؛ إنَّ الذين يتعظَّمُون عن طاعَتِي وعن المسألةِ مني ، { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } ؛ أي صاغرُون ذليلون ، والدَّاخِرُ : هو الذلِيلُ الصَّاغِرُ ، قال حسَّان : قَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَجِئْنَا بالأُسَارَى دَاخِرَاقرأ ابنُ كثير (سَيُدْخَلُونَ) بضمِّ الياءِ وفتح الخاءِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَـارَ مُبْصِـراً } ؛ أي تُبصِرُونَ فيه لطلب المعاشِ ، { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـاكِنَّ أَكْـثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } ؛ نِعَمَ اللهِ ، { ذَالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَـالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ ومُبتَدِعهُ ، لا معبودَ سواهُ ، فلا ينبغِي لأحدٍ أنْ يدعوَ مخلوقاً مثلَهُ ، { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } ؛ وقد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك ، { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ؛ أي هَكذا كان لمصرفِ القوم الذين كانُوا بدلائلِ الله يجحَدُون.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ الأَرْضَ قَـرَاراً } ؛ أي مُستقَرّاً للأحياءِ والأَموات ، كما قالَ : { فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ }[الأعراف : 25] { وَالسَّمَآءَ بِنَـآءً } ؛ أي وجعلَ السَّماء سَقْفاً مرفُوعاً فوقَ كلِّ شيءٍ ، { وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـم } ؛ أي خلقَكم فَأحسنَ خلقَكُم.
قال ابنُ عبَّاس : (خَلَقَ اللهُ ابْنَ آدَمَ قَائِماً مُعْتَدِلاً يَأْكُُلُ بيَدِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ بيَدِهِ وَكُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ يَتَنَاوَلُ بفِيهِ). وقال الزجَّاجُ : (خَلَقَكُمْ أحْسَنَ الْحَيْوَانِ كُلِّهِ) ، { وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } ؛ أي من لَذِيذِ الأطعمَةِ وكريمِ الأغذية.
وقولهُ تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُـمْ } ؛ أي الذي فَعَلَ ذلك كلَّهُ هو ربُّكم فاشكروهُ ، { فَتَـبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي فتعالَى اللهُ دائمُ الوجودِ لم يزَلْ ولا يزالُ ربَّ كلِّ ذي روحٍ من الجنِّ والإنسِ وغيرها ، { هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ بلاَ أوَّلٍ ولا آخرٍ ، لم يَزَلْ ، كان حَيّاً ولا يزالُ حيّاً ، مُنَزَّهٌ عن كلِّ آفاتٍ ، وليس أحدٌ غيرهُ من الأحياءِ بهذه الصِّفات ، لا مستحقٌّ للإلهيَّة غيره ، { فَـادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ، فوحِّدوهُ مخلصين له الدِّين ؛ أي الطاعةِ ، واشكروهُ على معرفةِ التوحيد. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (إذا قَالَ أحَدُكُمْ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ فَيَقُلْ فِي إثْرِهَا : الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِينَ).
(0/0)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66)
وقولهُ تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ الْبَيِّنَـاتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ } ؛ أي أُمِرتُ أن أستقيمَ على الإسلامِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } ؛ أي خلقَ أصلَكم من ترابٍ ، { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } ؛ لآبائِكم ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } ، ثم نقلَكُم إلى العلَقَةِ وهو الدمُ الغليظ ، { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ } ؛ من بطُونِ أمَّهَاتِكم أطفَالاً واحداً واحداً لذلكَ قوله : { طِفْلاً } ؛ وقال{ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً }[الكهف : 103] لأن الواحدَ يكون أعمالٌ.
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ } ؛ أي بنقلِكم إلى حالِ اجتماع القوَّة والكمالِ ، { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً } ؛ أي تصِيرُوا شُيوخاً بعدَ الأشُدِّ ، { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ } ؛ من قبلِ البُلوغِ ومن قبلِ الشَّيخوخةِ ، { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } ؛ يريدُ أجلَ الحياةِ إلى الموتِ ، ولكلِّ أجلٍ لحياتهِ ينتهي إليه ، ويقالُ : لتبلغُوا أجَلاً مسمَّى ؛ أي لتُوَافُوا القيامةَ للجزاءِ والحساب ، { وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } ، ولكي يعقِلُوا وحدانيةَ اللهِ تعالى وتَمام قدرتهِ ، وتصدقوا بالبعثِ بعدَ الموتِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ؛ أي يُحيي الأمواتَ ويميتُ الأحياءَ ، { فَإِذَا قَضَى أَمْراً } ؛ من الإحياءِ والإماتةِ ، { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ } ، يريدهُ ، { كُن فيَكُونُ } ، ويُحدِثهُ.
وقولهُ تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ } ؛ أي يُخاصِمُونَ في القرآنِ بالردِّ والتكذيب ، وهم المشركون ، { أَنَّى يُصْرَفُونَ } ، كيف يُصرَفُونَ إلى الكذب بعد وضوحِ الدلالةِ ، { الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِالْكِـتَاب } ؛ الذين كذبوا بالقرآنِ ، { وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } ، من الشَّرائعِ والأحكامِ والتوحيد ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، عاقبةُ أمرِهم ، { إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ والسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ } حين تُجعَلُ الأغلالُ الحديدُ مع السَّلاسلِ في أعناقِهم ، يُسحَبُونَ في الحبالِ على وجُوهِهم ، يُلقَوْنَ ، { فِي الْحَمِيمِ } ، في نارٍ عظيمة ، { ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ } ؛ قال مجاهدُ : (تُوقَدُ بهِمُ النَّارُ فَصَارُواْ وَقُودَهَا).
(0/0)
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ } ، ثم تقولُ لهم الزَّبَانِيَةُ : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ } ، أين الآلِهةُ التي كُنتم تعبدونَها ، وتَرجُونَ منافعَها ، وتدعونَها ، { مِن دُونِ اللَّهِ } ، فيُؤلِمُونَ قلوبَهم بمثلِ هذا التوبيخِ كما يؤلِمُون أبدانَهم بالتعذيب ، { قَـالُواْ } ؛ فيقولُ الكفار : { ضَـلُّواْ عَنَّا } ، أي ضَلَّتْ ألهتُنا عنَّا ؛ أي ضاعَت فلا نرَاهَا ، ثم يجحَدُون عبادةَ الأصنامِ فيقولون : { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } ، إنْ لم نكن نعبدُ مِن قبل هذا شيئاً ، ويجوزُ أن يكون هذا كالرَّجُل يعملُ عمَلاً لا ينتفعُ به ، فيقالُ له : إيش تعملُ ؟ فيقول : لا شيءَ.
وقولهُ تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } ؛ أي هكَذا يُهلِكُهم ذلكَ العذابُ الذي نزلَ بكم ، { ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } ؛ قال مقاتلُ : (يَعْنِي الْبَطَرَ وَالْخُيَلاَءَ).
والغِلُّ : هو ما يُجعَلُ في العُنقِ للإذلالِ والإهانةِ. والطَّوْقُ : هو ما يجعلُ للإجلالِ والكرامةِ. وقرأ ابنُ عبَّاس : (وَالسَّلاَسِلَ) بفتح اللام ، و(يَسْحَبُونَ) بفتح الياء ؛ معناهُ : ويَسحَبُونَ السلاسلَ.
(0/0)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ بنصرِكَ والانتقامِ منهم ، { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ؛ معناهُ : فإنِ انتقَمْنا منهم وأنتَ حيٌّ فبُشرَى لكَ ، وإن نتوَفَّاكَ قبل " أنْ " نُرِيَكَ ذلك فإلَينا مرجِعُ الكلِّ منهم للمُجازاةِ ، وسيَصِلُ إليهم موعدُهم.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } ؛ أي منهُم من قصَصْنا عليكَ خبَرَهم في القرآنِ ، ومنهم مَن لَم نقصُصْ عليكَ خبرَهم ، { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ في الآيةِ إبلاغُ عُذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يأْتِيهم به من الآياتِ التي كانوا يقترحونَها عليه ، وليس علينا حصرُ عددِ الرُّسل ، ولكنا نؤمنُ بجُملَتِهم.
وقولهُ تعالى : { فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ اللَّهِ } ؛ أي إذا جاءَ قضاؤهُ بين أنبيائهِ وأُمَمِهم ، { قُضِيَ بِالْحَقّ } ، لم يُظلَموا إذا عُذِّبوا { وَخَسِرَ هُنَالِكَ } ؛ عندَ ذلك ، { الْمُبْطِلُونَ } ، المكذِّبون.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ؛ اللهُ الذي خلقَ لكم الإبلَ والبقرَ والغنَمَ لتركَبُوا بعضَها وتأكلُوا لحمَ بعضِها ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } ؛ من ألبانِها وأصوَافِها وأوْبَارها وأشعارها ، { وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } ؛ أي لتبلغُوا عليها في ركوبها حاجةً في قلُوبكم لا تبلغونَها إلاّ بها ، قال مجاهد : (تَحْمِلُ أثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، وَتَبْلَغُواْ عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ فِي الْبلاَدِ مِمَّا كَانَتْ) ، { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } ؛ أي وعلى ظهُورها في البَرِّ وعلى السُّفن في البحرِ تحمَلُون في كسبكم وحجِّكم وتجاراتِكم.
(0/0)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ؛ أي يُرِيكُم اللهُ دلائلَ قُدرتهِ من الشمسِ والقمر والنُّجوم والليلِ والنهار والجبالِ والبحار ، وتسخَّرُ الأنعامُ لمنافعِ العباد ، كلُّها من آيات اللهِ ، { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ } ، فأيُّ آيةٍ من آياتِ الله تجهَلُون أنَّها ليست من اللهِ تعالى؟
(0/0)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ من الأُمَم كيف أهلكَهم اللهُ بتكذيبهم الرسُلَ ، { كَانُواْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ } ؛ من أهلِ مكَّة بالعددِ ، { وَأَشَدَّ قُوَّةً } ؛ في البُلدانِ ، وَأظهرَ ؛ { وَآثَاراً فِي الأَرْضِ } ؛ في الأبنيةِ العظيمة ، والقصُور الْمَشِيدَةِ ، والعيُونِ المستخرجة ، { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، فلم ينفعْهُم من عذاب الله كثرةُ عَدَدِهم وشدَّةُ قُوَّتِهم وجمعهم الأموال ، { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ بالجهلِ الذي عندَهم أنه علمٌ ، وقالوا : نحنُ أعلَمُ منهم ، لن نُبعَثَ ولن نعذبَ ، فمعنى قوله : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ } أي رَضُوا بما عندَهم من العلمِ وهو في الحقيقةِ جهلٌ وإنْ زعَموهُ عِلْماً.
(0/0)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا } ، فلمَّا رأوا عذابَنا آمَنُوا ، { بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } ؛ ولا ينفعُ الإيمان عندَ ذلك.
وقولهُ تعالى : { سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } ؛ أي هذا قَضَائِي في خَلْقِي أنَّ من كذبَ أنبيائِي وجحَدَ رُبوبَتِي ؛ أي سنَّ اللهُ هذه السُّنة في الأممِ كلِّها أنْ لا ينفعَهم الإيمانُ إذا رأوا العذابَ ، وسُنة اللهِ هي حكمُ اللهِ الذي مضَى في عبادهِ في بعثِ الرُّسل إليهم ، ودُعائِهم إلى الحقِّ وترك المعاجَلةِ بالعقوبة ، وأنَّ الإيمانَ وقتَ البأسِ لا ينفعُ.
ونُصب قولهُ { سُنَّتَ اللَّهِ } على التحذيرِ أو على المصدر ، وقولهُ تعالى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } ؛ أي هلكَ عند ذلك المكذِّبون.
(0/0)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
{ حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ } ؛ قال { تَنْزِيْلٌ } مبتدأٌ ؛ وخبرهُ : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } ؛ أي بُيِّنَ حَلاَلُهُ وحرامهُ ، ومعنى التَّنْزِيْلِ : الْمُنَزَّلِ كما يذكرُ العلمُ بمعنى المعلومِ ، والحلقُ بمعنى الْمَحلُوقِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } ؛ منصوبٌ على الحالِ ؛ أي بُيِّنَتْ آياتهُ في حالِ جَمعهِ على مجرَى لُغةِ العرب ، { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؛ اللِّسانَ العربيَّ ، { بَشِيراً } ؛ بالجنَّة لِمَن أطاعَ ، { وَنَذِيراً } ؛ بالنار لِمن عصَى اللهَ ، { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } ؛ أهلُ مكَّة عنِ الإيْمانِ ، { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ؛ سَماعاً ينتفعُون بهِ.
(0/0)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } ؛ أي قالَ كفَّارُ مكَّة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : قلوبُنا في أغْطِيَةٍ مما تدعُونا إليه مِن القُرْآنِ لا يصلُ إلى قُلوبنا ، { وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } ؛ أي ثُقْلٌ وصَمَمٌ يَمنعُ مِن استماعِ ما تقرؤهُ.
والأَكِنَّةُ : جمعُ كِنَانٍ ، مثل عِنَانٍ وأعِنَّةُ. { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } ؛ وبيننا وبينَكَ حاجِزٌ وفِرْقَةٌ في الدِّين فلا نوافِقُكَ على ما تقولُ ، { فَاعْمَلْ } ؛ على أمرِكَ ودِينِكَ ، { إِنَّنَا عَامِلُونَ } ؛ على أمرِنا ومذهَبنا.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ } ؛ يا مُحَمَّدُ : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ؛ أي كواحدٍ منكُم ولولاَ الوحيُ ما دعوتُكم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ؛ لاَ شريكَ لَهُ ، { فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ } ؛ أي لا تَمِيلُوا عن سَبيلهِ وتوجَّهُوا إليه إلى طاعتهِ ، { وَاسْتَغْفِرُوهُ } ؛ مِن الشِّرك ووحِّدُوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } ؛ وويلٌ لِمَن لا يقولُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، { الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } ، ولا يُطَهِّرُونَ أنفُسَهم من الشِّركِ بالتوحيدِ ، { وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } ، وقال الحسنُ : (لاَ يُقِرُّونَ بالزَّكَاةِ ، وَلاَ يَرَوْنَ إيْتَاءَهَا وَلاَ يُؤْمِنُونَ بهَا) ، قال الكلبيُّ : (عَابَهُمُ اللهُ وَقَدْ كَانُواْ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ) ، قال قتادةُ : (الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلاَمِ ، فَمَنَ قَطَعَهَا نَجَا) أي فمَن عَبَرَهَا نَجَا ، ومَن لَم يعبُرْها هَلَكَ.
وفي هذهِ الآية دلالةٌ على أنَّ الكفارَ يُعاقَبون في الآخرةِ على تَرْكِ الشَّرَائِعِ كما يُعاقَبون على تَرْكِ الإيْمَانِ ؛ لأن اللهَ وَعَدَهم على ذلكَ ، وقال فِي جواب أهلِ النار حين يقالُ لَهم{ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ }[المدثر : 42-44].
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } ؛ أي غيرُ مقطوعٍ ، مِن قولِهم : مََنَنْتُ الْحَبْلَ إذا قطعتَهُ ، وثوابُ المؤمنِ لا ينقطعُ. وَقيْلَ : لا يُمَنُّ عليهِم بذلكَ ؛ لأن الْمِنَّةَ تُكَدِّرُ الصنيعةَ.
(0/0)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } ؛ أي { قُلْ أَإِنَّكُمْ } يا أهلَ مكَّة { لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ } في عِظَمِها وقوَّتِها في يومِ الأحَدِ ويوم الاثنينِ ، { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } ؛ من الأصنامِ ؛ أي أضداداً ، وقولهُ تعالى : { ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي ذلكَ الذي هذهِ قدرتهُ رَبُّ كلِّ ذِي رُوحٍ ومَلِكُهم.
(0/0)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } ؛ أي وخَلَقَ فيها جِبَالاً ثَوَابتَ أوتَاداً لَها في يومِ الثَّلاثاء ، { وَبَارَكَ فِيهَا } ؛ أي بَارَكَ في الأرضِ بالسَّماء والشجرِ والنبات والثمار ، { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } ؛ أي معايشَها ، قدَّرَ اللهُ لكلِّ حيوانٍ ما يكفيهِ بحسبَ الحاجةِ ، وجعلَ في كلِّ أرضٍ معيشةً ليست في غيرِها لتعايَشُوا وتَتَّجِرُوا.
وكان تقديرُ الأقواتِ في يومِ الأربعاءِ ، فتَمَّ خلقُ الأرضِ بما فيها في أربعةِ أيَّام ، ولو أرادَ اللهُ أن يخلُقَها في لحظةٍ واحدة لفَعَلَ وقَدِرَ ، ولكنه خلقَها في ستَّة أيامٍ لأنه تعالى حَلِيْمٌ ذُو أنَاةٍ ، أحبَّ أن يُعَلِّمَ الخلقَ الأَنَاةَ في الأمور.
وقال الحسنُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } أيْ قَسَّمَ الأَرْضَ أرْزَاقَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ) ، وقال الكلبيُّ : (الْخُبْزُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالثَّمَرُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالذرَّةُ لأَهْلِ قُطْرٍ ؛ وَالسَّمَكُ لأَهْلِ قُطْرٍ ، جَعَلَ اللهُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ فِي الأُخْرَى ؛ لِيَعِيْشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بالتِّجَارَةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } ؛ رفعَهُ أبو جعفرٍ على الابتداءِ ؛ أي هُنَّ سَوَاءٌ ، وخفضَهُ الحسنُ ويعقوب نعتُ أربعةِ أيَّام ، ونصبَهُ الباقون على معنى : اسْتَوَتْ سَوَاءً للسَّائِلِيْنَ ، واستواءً يعني على المصدر كما يقالُ : في أربعةِ أيَّام تَماماً. ومعناهُ : مَن سألَ عنه فهكذا الأمرُ.
وقال السديُّ : (سَوَاءً لاَ زيَادَةَ وَلاَ نُقْصَانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأَلَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الأَرْضُ وَالأَقْوَاتُ ، فَيُقَالُ : أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً). و(لِلسَّائِلِيْنَ) ههنا هُم اليهودُ ، سألُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن مدَّة خَلْقِ السَّموات والأرضِ ، ويجوزُ قولهُ { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } عائداً على تقديرِ الأقواتِ ، كأنه قال : لكلِّ مُحتاجٍ إلى القُوتِ.
(0/0)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } ؛ قال السديُّ : (كَانَ ذلِكَ الدُّخَانُ مِنْ نَفْسِ الْمَاءِ حِيْنَ تَنَفَّسَ ، وَكَانَ بُخَارُهُ يَذْهَبُ فِي الْهَوَاءِ ، فَخُلِقَتِ السَّمَاءُ مِنْهُ وَفُتِقَتْ سَبْعاً فِيْ يَوْمِ الْخَمِيْسِ وَالْجُمُعَةِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } ؛ أي ائْتِيَا ما آمُرُكما وافْعَلاَ ، كما يقالُ : ائْتِ ما هو الأحسنُ ؛ أيِ افْعَلْهُ.
قالَ المفسِّرون : إن الله تعالى قال : أما أنتِ يا سماءُ فأطلعي شَمسَكِ وقمرَكِ ونجومَكِ ، وأما أنتِ يا أرضُ فَشَقِّقِي أنْهَارَكِ واخرِجِي ثِمارَكِ ونباتَكِ ، وقال لَهما : اعْمَلا ما آمُرُكُمَا طَوْعاً وإلاَّ ألْجَأْتُكما ذلكَ حتى تفعلاهُ كَرْهاً ، فأجَابَتا بالطَّوعِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } ؛ أي أتَينا أمرَكَ. ولَمَّا ركَّبَ اللهُ فيهنَّ العقولَ ، وخطابُ مَن يعقل جمعُهن جمع مَن يعقلُ كما قال تعالَى : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء : 33] ولو جمعَهن جمعَ مَن لا يعقلُ لقيلَ : طَائِعَاتٍ.
ويقالُ في معناهُ : أتَينا نحنُ مَن فينا طائعينَ ، وإنَّما ذكرَ تارة بلفظِ التَّثنيةِ وتارةً بلفظ الجمعِ ؛ لأن السَّموات والأرضِ شيئان من حيث الجنسُ بمنْزِلة الفئتين (والطائعين) ، فقيلَ لَهما : ائْتِيَا ، ثُم السَّموات بنفسِها جماعةٌ ، وكذلك الأرضُ ، فلذلك قالتَا : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }. وانتصب (طَوْعاً) و (كَرْهاً) على معنى أطِيعَا طاعةً أو تُكرَهَانِ كَرْهاً.
وبلَغَنا أن بعضَ الأنبياءِ قالَ : يا ربِّ ؛ لو أنَّ السَّمواتِ والأرضَ حين قُلْتَ لَهما { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } عصَياكَ ما كُنْتَ صانِعاً بهما ؟ قال : كنتُ آمُرُ دابَّة من دوابي فتبتلعهُما. قال : فأينَ تلك الدابةُ ؟ قال : في مَرْجٍ من مُروج ، قال : وأين ذلكَ الْمَرْجُ ؟ قال : فِي علمٍ من عُلومِي.
(0/0)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ؛ أي صَنَعَهُنَّ وأحكَمَهن وأتَمَّ خَلْقَهن سَبع سَمواتٍ بعضُها فوق بعضٍ بما فيهنَّ من الشمسِ والقمر والنجومِ ، { فِي يَوْمَيْنِ } ، في يوم الخميسِ والجمُعة ، فَتَمَّ خلقُ السموات والأرض في ستَّة أيامٍ.
لفظُ القََضَاءِ في اللغة بمعنى الإتْمَامِ ، ومِن ذلك : انقضاءُ الشَّيء إذا تَمَّ ، وقضَى فلانٌ إذا ماتَ ؛ لأنه تَمَّ عمرهُ ، وقال الشاعرُ : وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَان قََضَاهُمَا دَاودُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّعُعَمِلَهما وصَنَعَهُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } ؛ قال قتادةُ : (يَعْنِي خَلْقَ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا ، وَخَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيْهَا مِنَ الْبحَار وَجِبَالِ الْبَرِّ وَمَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ هُوَ). وَقِيْلَ : أمَرَ في كلِّ سَماءٍ بما أرادَ. وَقِيْلَ : أوحَى إلى أهلِ كلِّ سَمَاءٍ ما يصلحُها به مِن أمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ } ؛ أي زَيَّنَا السَّمَاءَ القُربَى إلى الأرضِ بمصابيحَ وهي النجومُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحِفْظاً } ؛ أي وحَفِظْنَاهَا بالنُّجوم من استراقِ الشَّياطين السمعَ حِفْظاً.
وَقِيْلَ : انتصبَ (حِفْظاً) على تقديرِ : وزيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بمصابيحَ زينةً وحِفظاً ، فبعضُ النَّجوم زينةٌ للسَّماء لا يتحرَّكُ ، وبعضُها يُهتدَى بها في ظُلمات البَرِّ والبحرِ ، وبعضُها رجومٌ للشَّياطينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ؛ أي ذلكَ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ ؛ تقديرهُ : الْعَزِيْزُ في مُلكهِ القادرُ القاهرُ الذي لا يلحقهُ عَجْزٌ ولا يَعْتَرِيهِ سهوٌ ولا جهل ، أحكَمَ ذلك كلَّهُ وأتقنَهُ حتى لا يدخلَهُ الخللُ مدَى الدُّهور.
(0/0)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } ؛ الآيةُ ، وذلكَ أنَّ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ قَالُواْ : قَدِ الْتَبَسَ عَلَيْنَا أمْرُ مُحَمَّدٍ ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلاً عَالِماً بالشِّعْرِ وَالْكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ فَأَتَاهُ وَكَلَّمْنَاهُ ، وَأتَانَا ببَيَانِ أمْرِهِ.فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيْعَةَ : وَاللهِ لَقَدْ سَمِعْتُ الشِّعْرَ وَالْكَهَانَةَ وَالسِّحْرَ ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذلِكَ عِلْماً لاَ يَخْفَى عَلَيَّ إنْ كَانَ كَذلِكَ.
فَمَضَى عُتْبَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْحَطِيْمِ ، فَكَلَّمَهُ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً إلاَّ قَالَهُ ، وََكَانَ عُتْبَةُ مِنْ أحْسَنِ النَّاسِ حَدِيْثاً ، فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ أنْتَ خَيْرٌ أمْ هَاشِم ؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ الْمُطََّلِب ؟ أنْتَ خَيْرٌ أمْ عَبْدُ اللهِ ؟ فِيْمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا ؟ فَإنْ كَانَ ذلِكَ طَلَباً لِلرِّئَاسَةِ عَقَدْنَا لَكَ ألْوِيَتَنَا وَكُنْتَ رَأسَنَا مَا بَقِيْتَ ، وَإنْ كَانَ لَكَ الْبَاءهُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ مِمَّنْ تَخْتَارُ مِنْ بَنَاتِ قُرَيْشٍ ، وَإنْ كَانَ بكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مَا تَسْتَغْنِي بهِ أنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لاَ يَتَكَلَّمُ.
فَلَمَّا فَرَغَ عُتْبَةُ مِنْ كَلاَمِهِ قَرَأ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ { حـم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ... } إلَى قَوْلِهِ { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ }. فَوَثَبَ عُتْبَةُ فَزَعاً مَخَافَةَ أنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ الَّذِي خَوَّفَهُ بهِ النَّبيُّ صلى اله عليه وسلم ، فَأَتَى قَوْمَهُ مَذْعُوراً وَأقْسَمَ لاَ يُكَلِّمُ مُحَمَّداً بَعْدَهَا أبَداً.
فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ : لَعَلَّكَ صَبَوْتَ إلَى مُحَمَّدٍ ، وَمَا ذاكَ إلاَّ مِنْ حَاجَةٍ أصَابَتْكَ ، وَإنْ كَانَ بكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا مَا يُغْنِيْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ! فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَقَالَ : وَاللهِ لَقَدْ كَانَ أبي مِنْ أكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً ، وَلَكِنْ أتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بشِعْرٍ وَلاَ كَهَانَةٍ وَلاَ سِحْرٍ ، وَاللهِ مَا اهْتَدَيْتُ لِجَوَابهِ. فَقَالَ حَرْثُ بْنُ عَلْقَمَةَ : وَاللهِ لَقَدْ أفْسَدَ هَذا الرَّجُلُ دِيْنَنَا وَفَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَتِنَا ، وَأيْمِ اللهِ لَئِنْ بَقِيَ هَذا الرَّجُلُ وَيُقِيْمُ لَيَكُونَنًّ بَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا ، وَسَيَبيْنُ ذلِكَ لَكُمْ إذا خَرَجَ مِنْكُمْ إلَى غَيْرِكُمْ ، فَذرُوهُ مَا تَرَكَكُمْ.
ومعنى الآيةِ : فإنْ أعرَضُوا عنِ الإيْمَانِ بكَ ولَمْ يقبَلوا قولكَ بعد هذا البيانِ ، فقُلْ : خوَّفْتُكم عَذاباً مثلَ عذاب قوم هودٍ وقوم صالِح. والصَّاعِقَةُ : هو الهلاكُ على حالةٍ هائلةٍ.
وقولهُ تعالى : { إِذْ جَآءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أي إذا جاءتهم الرسلُ إلى مَن كان قبلَهُم فعلِمُوا بتواترِ الأخبار. ثم إنَّهم الرسلُ أيضاً من خَلَفِ مَن كان قبلَهم بأن لا يعبدُوا إلاّ اللهَ ، { قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } ؛ أي لو شاءَ رَبُّنا أنْ ينَزِّلَ إلينا رسُولاً لأنزلَ ملائكةً من جُندهِ ، { فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ؛ ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلُنا. ويجوز أن يكونَ معنى { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } بأن الرُّسُلَ أتَتْهُمْ من جميعِ جِهاتِهم.
(0/0)
فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ أي تَعَظَّمُوا عن الإيْمانِ بنبيهم وأعجبَتْهم أجسامهم ، { وَقَالُواْ } ؛ لنَبيِّهم : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } ؛ بالبَدَنِ فيهلِكَنا ، وذلك أنَّ هُوداً عليه السلام خوَّفَهم وهدَّدَهم بالعذاب ، فقالوا : نحن نقدرُ على دفعهِ بفضل قوَّتنا ، وكانت لَهم أجسامٌ طويلة وخَلْقٌ عظيمٌ ، فلما أَتَتْهُمُ الريحُ قاموا ليصدُّون عنهم فحملَتْهم إلى عَنَانِ السَّماء ثُم صرَعتهم على وجوهِهم ثُم ألقت عليهم الرَّملَ حتى غطَّتهم ، وكان يُسمَعُ أنينُهم تحتَ التُّراب حتى أهلكَهم اللهُ.
فلمَّا قالوا لنَبيِّهم : { مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدّاً عليهم : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } ؛ لأن الخالقَ للشَّيءِ لا بدَّ أن تكون له مِزْيَةٌ على خلقهِ ، { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } ؛ أي يكفُرون.
(0/0)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } ؛ أي عَاصِفاً شديدَ الصَّوتِ ، مأخوذٌ من الصَّرَّةِ وهي الصيحةُ ، وقال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي الْبَاردَةَ ، مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّرِّ وَهُوَ الْبَرْدُ). قال الفرَّاءُ : (هِيَ الْبَاردَةُ تُحْرِقُ كَمَا تُحْرِقُ النَّارُ) وَهِيَ رِيْحٌ بَاردَةٌ شَدِيْدَةُ الْهُبُوب ، ذاتُ صَوْتٍ تُحْرِقُ كَالنَّار.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } ؛ أي نَكِدَاتٍ مَشْؤُومَاتٍ عليهم ، ذاتِ نُحُوسٍ ، قال ابنُ عبَّاس : (كَانُواْ يَتَشَاءَمُونَ بتِلْكَ الأَيَّامِ). قرأ ابنُ عامرٍ وأهل الكوفة (نَحِسَاتٍ) بكسرِ الحاءِ ، وقرأ الباقون بسكونِها ، يقالُ : يَوْمُ نَحْسٍ وَنَحِسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي عذابُ الْهَوْنِ وَالذُّلِّ وهو العذابُ الذي يُخزَونَ به ، والْخِزْيُ والفَضِيحَةُ والنَّكَالُ كلُّه بمعنى واحدٍ ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } ، وعذابُ الآخرةِ أبلغُ في الْمَذلَّةِ وأبقَى وأشدُّ ، لا يدفعُ عنهم ولا يخفَّفُ عنهم.
(0/0)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } ؛ أي وأمَّا ثَمُودٌ فَبَيَّنَّا لَهم سبيلَ الْهُدَى ودعَونَاهم ودلَلْناهم على الخيرِ بإرسال الرُّسلِ ، فاختارُوا الكُفْرَ على الإيْمَانِ بعد أنْ أرَينَاهُم الأدلَّة وأخرجنا لَهم ناقةً عَشْرَاءَ من صخرةٍ ملسَاءَ ، { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } ، أي ذِي الْهَوَانِ ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، بكُفرِهم وعَقْرِهم الناقةَ ، { وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ بصَالِح ، { وَكَانُواْ يتَّقُونَ } ؛ الشِّركَ والكبائرَ.
(0/0)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } ؛ قرأ نافعُ ويعقوب (نَحْشُرُ) بنونٍ مفتوحة وضمِّ الشِّين ، ونصب (أعْدَاءَ) ، وقرأ الباقونَ (يُحْشَرُ) بالياء المضمومةِ ورفعِ (أعْدَاءُ). ومعنى الآيةِ : وأنْذِرْهُم يومَ يُجمَعُ أعداءُ اللهِ ويُساقونَ إلى النار بالعُنفِ ، وقولهُ تعالى { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يُحبَسُ أوَّلُهم على آخرِهم ليتلاحَقُوا ثُم يقذفُون في النار.
(0/0)
حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا مَا جَآءُوهَا } ؛ أي حتَّى إذا جَاءُوا النارَ التي لم يقذفوا ثم يقذفون في النار. قولهُ تعالى : حُشِر أعداءُ الله حُبسُوا عندَها وهم يُعَاينُونَها ، ويقالُ لَهم : أينَ شُركاؤُكم الذين كنتم تَزعُمون ، فيجْحَدُون ويقولونَ : واللهِ ربنا ما كُنا مشركينَ ، فعند ذلك يُخْتَمُ على أفواهِهم وتُسْتَنْطَقُ جوارحُهم { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ } ، وكلُّ عُضوٍ من أعضَائِهم بما ارتكَبُوا من الكُفرِ والمعاصِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ فُُرُوجَهُمْ ، كَنَّى عَنْهَا بالْجُلُودِ). وَقِيْلَ : الجلودُ الجوارحُ ، { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ } ، فيقولُ الكفَّار لجلودِهم بَعدَما يُرَدُّ النطقُ إلى ألسِنتهم : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } ؛ وعمِلتُم على هلاكِنا ، { قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } ؛ وتَمَّ الكلامُ.
ثُم قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ أي ليسَ إنطاقهُ الجلودَ أبدعَ من خلقهِ إيَّاكم ابتداءً وإعادةً بعد الموتِ ، وليس هذا مِن كلامِ الجلود.
(0/0)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } ؛ معناهُ : ما كنتم تَستَتِرُونَ بالمعاصِي عن الناسِ مخافةً مِن أن تشهدَ عليكم هذه الجوارحُ في الآخرةِ ؛ لأنَّكم ما كنتم تظنُّونَ ذلكَ ، { وَلَـاكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ ولكن عمِلتُم بالمعاصِي عَمَلَ مَن يظُنُّ أنَّ الله لا يعلمُ بما يعملهُ في السرِّ. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ : إنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِنَا وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَظْهَرُ!).
(0/0)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ } ؛ أي ظنكم أن الله لا يعلم ما تعملون ، { أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ } ؛ أي أهلَكَكُم فصِرتُم من المنبذين بالوِزْر والعقوبةِ. وَقِيْلَ : معنى { أَرْدَاكُمْ } أي طَرَحَكم في النار.
(0/0)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن يَصْبِرُواْ فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } ؛ أي فإنْ يُمسِكُوا عن الاستغاثةِ ولم ينطقوا بشكوَى فالنارُ مسكنٌ لَهم منتقمةٌ منهم ، { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ } ؛ أي وإنْ يطلبُوا العُتْبَى وهي الرِّضَا فمَاهُم عن " أنْ " يطلبُوا رضَاهُم ويقبلُ عُذْرُهم. يقالُ : أعْتَبَنِي فلانٌ ؛ أي أرْضَانِي بعدَ اسْتِخَاطِهِ إيَّايَ ، وَاسْتَعْتَبْتُهُ طلبتُ منه أن يَعْتَبَ أي يرضَى.
(0/0)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } ؛ معناهُ : سبَّبنا لَهم أعوَاناً وقُرَنَاءِ من الشَّياطين حتى أضَلُّوهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ؛ من أمرِ الآخرةِ أنْ لا جنَّةَ ولا نارَ ولا بعث ولا حسابَ ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } ؛ من أمرِ الدُّنيا أن لا يُنفِقُوا في وجوهِ البرِّ ، وأن يتلَذذُوا في الدُّنيا ويجمَعُوا الأموالَ ، { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } ؛ أي وجبَ عليهم ، { فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ }.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } ؛ وذلك أنَّ كفارَ قريشٍ قالوا لأتْبَاعِهم : لاَ تَسْمَعُواْ هَذا الْقُرْآنَ الَّذِي يَقْرَؤُهُ عَلَيْكُمْ مُحَمَّدٌ ، فَإذا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ فَارْفَعُواْ أصْوَاتَكُمْ بالأشْعَار وَالأرَاجِيْزِ وَالْغُواْ فِيْهِ بالْمِكَاءِ وَالصَّفيرِ ، وقَابلُوهُ بكَلامِ اللَّغْوِ حتى تَغْلِبُوهُ فَيَسْكُتَ.
(0/0)
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
يقولُ اللهُ تعالى : { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } ؛ أي في الدُّنيا بالقتلِ والأسرِ ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، ولنُعاقِبَنَّهم في الآخرةِ بعذابٍ أشدَّ مِن عذابهم في الدُّنيا ، { ذَلِكَ } ؛ العذابُ ، { جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ }. وقولهُ تعالى : { النَّارُ } ؛ بدلٌ مِن العذاب ؛ أي بدلٌ من قولهِ { جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ }. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } ؛ أي لَهم في النَّار دارُ الإقامةِ ، { جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } ؛ يعني الْقُرْآنَ جَحَدُوا أنه مِن عند اللهِ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ } ؛ معناهُ : يقولُ الَّذين كفَرُوا في النار : يا رَبَّنَا أرنَا اللَّذينِ أضَلاَّنا عن الحقِّ. قال بعضُهم : يريدُ به إبليسَ وقابيلَ أوَّلَ مَن أحدثَ المعصيةَ في بنِي آدمَ ، { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } ؛ أي أسْفَلَ منَّا في النار ، { لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ } ؛ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ليَكونَا أشَدَّ عذاباً منَّا.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ } ؛ أي إنَّ الذين وحَّدُوا اللهََ ، { ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } ، على الإيْمَانِ ولَم يشرِكُوا. وكان الحسنُ إذا قرأ هذه الآيةَ قال : (اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ).
وقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه : (يَعْنِي ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى أنَّ اللهَ رَبٌ لَهُمْ) ، وقال مجاهدُ : (هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً حَتَّى يَلْقَوْهُ). وقال بعضُهم : يعني الاستقامةَ على أداءِ الفرائضِ ولُزومِ السُّنة. وروي عن عُمر رضي الله عنه : (اسْتَقَامُواْ للهِ بطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُواْ رَوَغَانَ الثَّعَالِب).
وقوله : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ } ؛ يعني قَبْضَ أرواحِهم فتقولُ لَهم : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ؛ أي لا تَخافُوا ما أنتم وَاقِفُونَ عليه ، ولا تَحزَنُوا على الدُّنيا وأهلِها ، وتقولُ لَهم عند خُروجِهم حين يَرَونَ أهوالَ القيامةِ : { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ؛ تولَّينَاكم وحَفِظْنَا أعمالَكم ، ونتولاَّكم في الآخرةِ ونحفَظُكم.
وعن ثابتٍ أنه قالَ : (بَلَغَنَا أنَّ الْمُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَظَرَ إلَى حَافِظِيْنَ قَائِمِيْنَ عَلَى رَأسِهِ يَقُولاَنِ لَهُ : لاَ تَخَفِ الْيَوْمَ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتَ تُوعَدُ).
وقال عثمانُ رضي الله عنه في معنى قولهِ : (ثُمَّ اسْتَقَامُواْ : ثُمَّ أخْلَصُواْ الْعَمَلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ). وقال مجاهدُ وعكرمة : (مَعْنَاهُ : ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ حَتَّى لَحِقُوا باللهِ).
وقال مقاتلُ : (اسْتَقَامُواْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَلَمْ يَرْتَدُّوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ) فِي ثَلاَثِ مَوَاطِن : عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَفِي الْقَبْرِ ، وَفِي وَقْتِ الْبَعْثِ : أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى صَنِيعِكُمْ وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مُخَلِّفِيكُمْ.
وقال مجاهدُ : (أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى مَا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أمْرِ الآخِرَةِ ، وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى خِلْفَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأهْلٍ ، فَإنَّهُ سَيَخْلِفُكُمْ فِي ذلِكَ كُلِّهِ). وقال السديُّ : (لاَ تَخَافُواْ مِنْ ذُنُوبكُمْ فَإنِّي أغْفِرُهَا لَكُمْ).
وقال بعضُهم : معنى هذه الآيةِ : أنَّ الذين قالُوا : { رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ } بالوفاءِ على ترك الْخَنَى تَتَنَزَّلُ عليهمُ الملائكةُ بالرِّضَى : أن لا تخافُوا من الغِنَى ولا تحزنُوا على الغنَى وأبْشِرُوا بالبَقاءِ مع الذي كنتم توعدونَ من اللقاءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ألاَّ تَخافُوا فلا خوفٌ على أهلِ الاستقامةِ ، ولا تَحزنُوا فإن لكم أنواعَ الكرامةِ وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ السَّلامةِ ، لا تخافُوا فعل دِينِ الله إنِ استقمتُم ، ولا تحزَنُوا ، فبحبلِ اللهِ اعتصَمتُم ، وأبْشِرُوا بالجنةِ إن تُبْتُمْ لا تخافوا ما دُمتم ولا تحزنوا فقد نِلتُمْ ما طلبتم ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي فيها رَغِبْتم ، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الإيْمانِ ، ولا تحزنوا وأنتم أهلُ الغفرانِ ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الرِّضوانِ ، لا تخافوا وأنتم أهلُ الشَّهادة ، ولا تحزَنوُا فأنتم أهلُ السَّعادة ، وأبشروا بالجنةِ التي هي دارُ الزِّيادة ، لا تخافوا فأنتم أهلُ النَّوالِ ، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الوصالِ ، وابشروا بالجنة التي هي دارُ الحَلالِ ، لا تخافوا فقد أمنتم الثُّبُورَ ، ولا تحزنوا فإن لكم الحورَ ، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور ، ولا تخافوا فسعيُكم مشكورٌ ، ولا تحزنوا فذنبُكم مغفورٌ ، وابشروا بالجنة التي هي دار النور ، لا تخافوا فطَالَما كنتم خائفينَ ، ولا تحزنوا فقد كنتم عَارفين ، وأبشِرُوا بالجنة التي عَجَزَ عنها وصفُ الواصفين ، لا تخافُوا فأنتم مِن أهل الإيْمانِ ، ولا تحزنوا فأنتم من أهلِ الحرمَان ، وأبشِروا بالجنة التي هي دارُ الأمانِ.
(0/0)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
قولهُ تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا إلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) ، وقال الحسنُ : (هُوَ الْمُؤْمِنُ أجَابَ اللهُ دَعْوَتَهُ وَدَعْوَةَ النَّاسِ إلَى مَا أجَابَ اللهُ فِيِْهِ دَعْوَتُهُ وَعَمِلَ صَالِحاً فِي إجَابَتِهِ) { وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ؛ وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِيْنَ الَّذِيْنَ يَدْعُونَ إلَى الصَّلاَةِ وَيُصَلُّونَ بَيْنَ الأَذَانِ وَالإقَامَةِ).
(0/0)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ } ؛ ولا تَستَوِي كلمةُ التَّوحيدِ وكلمةُ الشِّركِ ، وَقِيْلَ : هُما الطاعةُ والمعصية ، ويقالُ : الخِصْلَةُ الحميدةُ والخِصلة السيِّئةُ. وَقِيْلَ : الْحِلْمُ والجهلُ ، والعَفْوُ والإساءةُ.
ودخولُ (لاَ) في قولهِ : { وَلاَ السَّيِّئَةُ } زائدةٌ للتأكيدِ وبُعدِ المساواةِ ؛ لأن المعنى : لا تستَوِي الحسنةُ والسيئةُ ، ومثلهُ قولُ الشاعرِ : مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَـ هُمُ وَالطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُوَقَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ؛ أي ادْفَعِ السَّفَاهَةَ والعجَلةَ بالأنَاةِ وبالرِّفقِ ، وذلك أنكَ إنْ لقِيتَ بعض مَن يضمرُ في نفسهِ عداوتَكَ فتبدأهُ بالسَّلام أو تبتسِمُ في وجهه لأن ذلكَ يلين لك قلبَهُ ، ويسلَمْ لك صدرُهُ فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ؛ أي إذا فعلتَ ذلك صارَ الذي يُعادِيكَ صَديقاً قريباً لك. وتُسمِّي العربُ القريبَ حَمِيماً ؛ لأنه يَحمِي لِمَا يهُم صاحبهُ.
(0/0)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ } ؛ أي ما يلقَى هذه الخِصلَةَ التي هي دفعُ السَّيئة بالحسنةِ إلاّ الذين صَبَرُوا على كَظْم الغَيْظِ واحتمالِ المكروهِ وصبَرُوا على طاعةِ الله ، وصبَروا عن معصيتهِ ، { وَمَا يُلَقَّاهَآ } ، أي وما يُعْطَاها ، { إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ؛ من الخيرِ. وَقِيْلَ : مِن الصبرِ ، وَقِيْلَ : الحظُّ العظيمُ الجنَّة ، أي ما يُلَقَّاهَا إلاّ مَن وجبت له الجنةُ. وَقِيْلَ : الحظُّ العظيمُ القَدْر ، العظيمُ عندَ الله.
(0/0)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ } ؛ أي وإمَّا يلحقنَّكَ مِن الشيطانِ وَسْوَسَةٌ عند هفوةِ غيرِك وعندما يدعُو بكَ إلى معصيةِ الله فتصرِفُكَ الوسوسةُ عن الاحتمالِ ، { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } ؛ أي اعْتَصِمْ باللهِ من شرِّ الشَّيطانِ ، امْضِ على حُكْمِكَ ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لِمقالَةِ أعدائِكَ ، { الْعَلِيمُ } ؛ بهم وبمُجارَاتِهم.
ثُم ذكرَ اللهُ علاماتِ توحيدهِ ودلائل قُدرتهِ ؛ فقال : { وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } ؛ أي ومن آياتهِ الدَّالةِ على رُبُوبيَّتِهِ ووَحدَانِيَّتهِ الليلُ والنهارُ بما فيهما من المنافعِ والمقاصدِ ، والشمسُ والقمرُ بما فيهما من البدائعِ ، { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ } ؛ أي لا تَعبدُوا الشمسَ والقمرَ ، واعبدُوا اللهَ الذي خَلَقَهُنَّ ، { إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } ؛ أي إنْ كُنتم تُرِيدونَ بعبادةِ الشَّمس والقمرِ عبادةَ اللهِ.
وذلك أنَّ قَوماً من الكفَّار يَسجُدونَ لَهما ويزعمونَ أنَّهم يتقرَّبون بذلكَ إلى اللهِ تعالى ، فقيلَ لَهم : إنْ كنتم تريدون بذلكَ عبادةَ الله تعالى ، فالسُّجود لِخالِقِهما أولَى من السُّجود لَهما.
فإنْ قِيْلَ : ما معنى قولهِ { خَلَقَهُنَّ } والقمرُ مذكَّرٌ والشمسُ مؤنَّثة ، والمذكَّرُ والمؤنث إذا اجتمَعا غلبَ المذكَّر ؟ قُلْنَا : إنَّ قوله (خَلَقَهُنَّ) راجعٌ إلى الآياتِ التي سَبَقَ ذكرُها في أوَّلِ هذه الآيةِ من الليل والنهار والشَّمسِ والقمر ، ويكون ضميرُ ما لا يعقلُ على لفظ التأنيثِ كما يقالُ : هذه كِبَاشُ ذُبحْنَ وذُبحَتْ.
(0/0)
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنِ اسْتَكْبَرُواْ فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ؛ أي فإن تَكبَّرُوا عن عبادتِي والسجودِ لِي فالملائكةُ الذين عندَ ربكَ بقرب الكرامة والمنْزِلة يُصلُّون له بالليلِ والنهار ، ويَنزِّهُونَهُ عن كلِّ ما لا يليقُ له ، { وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ } ؛ أي لا يَميلُونََ على عبادتهِ ولا يَفْتَرُونَ.
واختلَفُوا في موضعِ السُّجود من هذه السُّورةِ ؛ فقال الحسنُ : (عِنْدَ قَوْلِهِ (تَعْبُدُونَ). وهو قولُ الشَّافعي. وقا ابنُ عبَّاس ومسروقُ : (هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ : لاَ يَسْأَمُونَ) وهو قولُ عُلمائِنَا ، وهو الأصحُّ لأنه موضِعُ تَمام الكلامِ.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً } ؛ مِن آياتهِ الدَّالة على وحْدَانِيَّتِهِ وقُدرتهِ أنَّكَ ترَى الأرضَ مُغْبَرَّةً يابسةً لا نباتَ فيها ، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } ؛ تحرَّكت للنباتِ وانتفخَتْ وارتفعت له حتى يكادُ النباتُ يظهر ، { إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا } ؛ بإنزالِ المطر ، { لَمُحْىِ الْمَوْتَى } ؛ في الآخرة ، { إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من الإحياءِ والإمَاتةِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا } ؛ أي يَمِيلُونَ عن الحقِّ في آياتنا إلى جانب الباطل ، قال مقاتلُ : (يَمِيلُونَ عَنِ الإيْمَانِ بالْقُرْآنِ) ، وقال مجاهدُ : (يَلْحِدُونَ بآيَاتِنَا بالْمُكَاءِ وَاللَّغَطِ) ، { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } ، بأَشْخَاصِهِمْ وَأفْعَالِهِمْ وَأقْوَالِهِمْ وَعَزَائِمِهْمِ. واللَّحْدُ واللِّحَادُ بمعنى واحدٍ وهو الْمَيْلُ ، ومنهُ الْمُلْحِدُ لعدولهِ عن الحقِّ ، ومنهُ اللَّحْدُ الذي في القَبرِ لأنه في جانبٍ منهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ هو تقديرُ نفيِ المساواة بين الفريقينِ. قِيْلَ : المرادُ قولهُ { أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ } أبو جهل وجدلهُ { خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } حمزة ، وَقَوْلُهُ : { اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ؛ لفظهُ لفظُ الأمرِ ، ومعناهُ التهديدُ والوعيدُ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالذِّكْرِ } ؛ أي بالقُرْآنِ ، { لَمَّا جَآءَهُمْ } ؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } ؛ محذوفُ الجواب ، تقديرهُ : (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) سيَنْزِلُ لهم مِن العذاب ما هو مذكورٌ في الكتاب العزيزِ. والعَزِيزُ : هو الكريمُ على اللهِ. وَقِيْلَ : هو الممتنعُ على مَن يريدُ مُعَارَضَتَهُ وَتَغْييْرَهُ بزيادةٍ ونُقصانٍ.
(0/0)
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } ؛ أي لا يأتيهِ التكذيبُ من الكتب التي قبلَهُ ولا يجيءُ بعده كتابٌ فيبطلهُ ، وقال الزجَّّاج : (مَعْنَاهُ : أنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أنْ يُنْقَصَ مِنْهُ فَيَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ، أوْ يُزَادَ فِيْهِ فَيَأْتِيْهِ الْبَاطِلُ مِنْ خَلْفِهِ) ، فمعنى الباطلِ على هذا الزيادةُ والنقصانُ. وفي عَينِ المعانِي : (الْبَاطِلُ إبْليْسُ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ؛ أي مُنَزَّلٌ من عالِمٍ بوجوه الحكمةِ ، مستحقٍّ للحمدِ على خَلْقِهِ بإنعامهِ عليهم.
(0/0)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } ؛ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما كان يلحقهُ من أذِيَّةِ قومهِ ؛ أي قد قيلَ للأنبياءِ قبلَكَ ساحرٌ ، وكُذِّبُوا كما كُذِّبْتَ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : ما أقولُ لكَ ولا آمرُكَ بتبليغِ الوحْيِ والرسالةِ إلاّ ما قد قيلَ للرُّسلِ قبلَكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ ذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أي لذُو مغفرةٍ لِمَن تابَ وآمنَ ، وذُو عقابٍ ألِيْمٍ لِمَن ثابَ على الكُفرِ.
(0/0)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } ؛ أي لو جعلناهُ قُرْآناً بلُغةٍ غير لغةِ العرب لقال العربُ : ولو بُيِّنَتْ آيَاتهُ بلغةِ العرب حتى نفهمَها عندَكَ بغيرِ مُترجمٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } ؛ استفهامٌ على وجهِ الاستبعادِ ؛ كأنَّهم قالُوا : كتابٌ أعجميٌّ ورسول عربيٌّ ، كيف يكونُ هذا؟! فيُنْكِرونَهُ أشدَّ الإنكار. يقالُ : رجل أعجميٌّ إذا كان لا يُفْصِحُ سواءٌ كان مِن العرب أو العجمِ ، ورجلُ عَجَمِيٌّ إذا كان مَنْسُوباً إلى العجمِ وإنْ كان فَصِيحاً ، ورجلٌ أعْرَابيٌّ إذا كان مِن أهل الباديةِ سواءٌ كان من العرب أو لَم يكن ، ورجلٌ عَرَبيٌّ إذا كان مَنْسُوباً إلى العرب وإن كان غيرَ فصيحٍ.
ومعنَى الآيةِ : أنَّهم كانوا يقولُونَ : إنَّ الْمُنَزَّلَ عليه عربيٌّ ، والْمُنَزِّلُ أعجميٌّ ، فكان ذلك أشدُّ لتكذيبهم ، { قُلْ } ؛ يا مُحَمَّد : { هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } ؛ يعني القُرْآنَ هُدًى للذين آمَنُوا من الضَّلالةِ وشِفَاءٌ من الأوجاعِ. وقال مقاتلُ : (شِفَاءٌ لِمَا فِي الْقُلُوب بالْبَيَانِ الَّذِي فِيْهِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ } ؛ أي إنَّهم في تَرْكِ القَبُولِ بمنْزِلَةِ الصُّمِّ العُمْيِ ، وسيؤدِّيهم تكذيبُهم إلى العَمَى ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } ؛ أي عُمُوا عنِ القُرْآنِ وصُمُّوا عنه.
وقال السديُّ : (عَمَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ). والمعنى : وهو عليهم ذُو عمَى. وانتصبَ قولهُ (عَمًى) على المصدر. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ؛ أي إنَّهم لا يَسمَعُونَ ويفهمونَ كما أنَّ مَن دعَا مِن مكانٍ بعيدٍ لَم يسمَعْ ولَم يفهم. والمعنى : أنَّهُ بعيدٌ عندَهم مِن قُلوبهم ما يُتْلَى عليهم.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } ؛ يعني التوراةَ ، { فَاخْتُلِفَ فِيهِ } ؛ قومهُ كما اختلفَ قومُكَ في القُرْآنِ ، وهذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أي كما آتينَاكَ الكتابَ وكذبَ به قومُكَ وصدَّقَ به بعضُهم كذلك آتينَا موسى الكتابَ فكذبَ به بعضُ قومهِ وصدَّقَ به بعضُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ؛ معناهُ : ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن هذه الأُمةِ إلى يوم القيامةِ كما قَالَ تَعَالَى{ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ }[القمر : 46] لعَذبَهم بعذاب الاستئصالِ. وَقِيْلَ : أرادَ بسبقِ الكلمةِ : أنْ لا يعَذِّبَهم وأنتَ فيهم.
والمعنى : ولَوْلاَ كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن مُكَذِّبي القُرْآنِ إلى أجلٍ مُسمَّى يعني القيامةَ ، لقُضِيَ بينَهم بالعذاب الواقعِ بمَن كذبَ ، { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } ، مِن صِدقِكَ وكِتَابكَ ، { مُرِيبٍ } ؛ أي موقعٌ لَهم الرِّيبة ، وَقِيْلَ : إنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ من القُرْآنِ ظاهرِ الشَّكِّ.
(0/0)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنْ عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـامٍ لِّلْعَبِيدِ } ؛ ظاهرُ المرادِ.
(0/0)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ } ؛ أي لا يَعْلَمُ متَى وقتُ قيامِها إلاّ اللهُ تعالى ، ولا يجابُ فيها بشيءٍ ، ويقالُ : اللهُ أعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا } ؛ قرأ نافعُ وابن عامر (ثَمَرَاتٍ) بالجمعِ ، وقرأ الباقونَ (ثَمَرَةٍ) على والوِحدَانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّنْ أَكْمَامِهَا } الأكْمَامُ جَمْعُ الكُمَّةِ ، وهي لِيْفُ النَّخْلِ ، وقال ابنُ عبَّاس : (الأَكْمَامُ الكُفُرِّيُّ قَبْلَ أنْ يَنْشَقَّ ، فَإذا انْشَقَّ فَلَيْسَ بأَكْمَامٍ) { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } ؛ بَيَّنَ اللهُ أنَّ الذي يعلمُ الثِّمارَ في الأكمامِ ، والأولادَ في الأرحامِ مع مُشاهدةِ الأكمامِ ، والأُمَّهاتِ هو اللهُ تعالى لا يَعْلَمُهُ أحدٌ غيرهُ ، ومَن لَم يُشاهد شيئاً منها أوْلَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } ؛ فيه وعيدٌ للمشرِكين ؛ أي يقالُ للمشركين يومَ القيامةِ : أيْنَ شُرَكَائِي في ظَنِّكُمْ وزَعمِكم؟! فيقولون : { قَالُواْ آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } ؛ أي أعْلَمْنَاكَ وعرَّفنَاكَ أنَّا كُنا في الدُّنيا جُهلاءَ غيرَ عارفين ، ما مِنَّا من شهيدٍ أنَّ لكَ شَريكاً ، يَتَبَرَّؤُونَ يومئذٍ مِن أن يكونَ مع اللهِ شريكٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَلَّ عَنْهُم } ؛ أي ضَاعَ ، { مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ } ؛ يَعبُدُونَ ، { مِن قَبْلُ } ؛ في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } ؛ أي أيْقَنُوا أنه لا خلاصَ لَهم من النَّار.
(0/0)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ } ؛ أي لا يَمَلُّ الإنسانُ من الخيرِ ، { وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ } ؛ والمكروهُ والأمراض والأسقامُ والشَّدائدُ ، { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } ؛ أي يصيرُ آيَسَ شيءٍ من عَوْدٍ النِّعمةِ ، وزوالِ المكروهِ عنه ، فيَضْجَرُ على ذلكَ غايةَ الضَّجرِ.
(0/0)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا } ؛ أي نِعْمَةً منَّا ، { مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ } ؛ من بعدِ مَكْرُوهٍ مَسَّهُ ، { لَيَقُولَنَّ هَـاذَا لِي } ؛ أي بفَضْلِي وقوَّتِي وعملٍ اسْتَحْقَقْتُهُ ، وهذا من اختلافِ الكفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً } ؛ هذا يدلُّ على أنَّ هذا الإنسانَ كافرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى } ؛ أي لستُ على يقينٍ من البعثِ ، فإن كان الأمرُ على ذلكَ ورُدِدْتُ إلَى رَبي أنَّ لِي عندَهُ الجنةَ ويعطيني في الآخرةِ أفضلَ ما أعطانِي في الدُّنيا. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } ؛ وعيدٌ لَهم.
(0/0)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
قوله تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } ؛ أي اذا أنْعَمْنَا على الكافرِ أعرضَ عن الطاعةِ والشُّكر وتباعدَ عن الواجب كِبَراً ، { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } ، وإذا أصابَهُ مكروهُ الدَّهرِ فإذا هو يَئِسٌ يدعُو اللهَ ليكشِفَ ذلك عنهُ.
والمعنى بقولهِ تعالى { دُعَآءٍ عَرِيضٍ } أي كثيرٍ لا يَمِلُّ من الدُّعاء. وإنَّما لَم يقل : طَوِيلٍ ؛ لأن ذِكْرَ العريضِ أبلغُ في باب الامتدادِ والانبساط ، لأن العريضَ يدلُّ على الطويلِ ، ولا يدلُّ الطويلُ على العريضِ.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّد لأهلِ مكَّة : أرَأيْتُمْ إنْ كان القُرْآنُ من عندِ اللهِ ، { ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ } ؛ عن الحقِّ والْهُدَى ، { مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ؛ خِلاَفٍ للحقِّ بعيدٍ عنهُ ، وهو أنتُمْ ، فلا أحدٌ أضَلُّ منكُم.
(0/0)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ } ؛ أي سنُرِيهم دلائلَ التوحيدِ من مَسِيرِ النُّجومِ وجَرَيانِ الشَّمسِ والقمرِ طُلُوعاً وغُرُوباً على مرِّ الدُّهور ، وفي الأرضِ من الجبالِ والأودية والأشجار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي أَنفُسِهِمْ } من مَخَارجِ الأنْفَاسِ ومجَاري الدَّم وموضعِ العَقْلِ والفِكْرِ والفهمِ وآلاَتِ الكلامِ.
وَقِيْلَ : معنى { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ } أي سَنُرِيهم ما نفتحُ من القُرَى على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم في النواحِي والأطرافِ { وَفِي أَنفُسِهِمْ } فتحُ مكَّة. قال الحسنُ : يعني (سَنُرِيْهِمْ ظُهُورَ مُحَمَّدٍ عَلَى الآفَاقِ وَعَلَى مَكَّةَ حَتَّى يَعْرِفُواْ أنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى بَعْدَ أنْ كَانَ وَاحِداً لاَ نَاصِرَ لَهُ). وذلك معنى قَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } ؛ أي ما يقولُ لَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الحقٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؛ معناهُ : أوَلَمْ يَكْفِ برَبكَ شَاهداً أنَّ القُرْآنَ من اللهِ وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم صادقٌ وشهيد هو العالِمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } ؛ معناهُ : ألا إنَّهم في شكٍّ من البعثِ والثواب والعقاب ، { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } ؛ أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً ؛ إنَّهُ يعلَمُ الغيبَ والشَّهادةَ.
(0/0)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حـم * عسق } ؛ (ح) حِلمهُ و (م) مجدهُ و (ع) عِلمهُ و (س) سناؤه و (ق) قُدرَتهُ ، أقسمَ اللهُ بها ، { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ اخباراً بالغيب ويكون قبلَ أن يكون ، وَقِيْلَ : الحاءُ من الرَّحمنِ ، والميمُ من مَلِكٍ ، والعين من عزيزٍ والسين من قدُّوسٍ والقافُ من قاهرٍ ، ومعنى { كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ } مثل ما أوحَينا إليك بهذه السُّورة أوحَينا إلى مَن قَبلَكَ من الرُّسلِ. وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنه قالَ : (لَيْسَ مِنْ نَبيٍّ إلاَّ وَقَدْ أُوْحِيَ إلَيْهِ بـ حم عسق كَمَا أُوحِيَ إلَى نَبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
(0/0)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ العَظِيمُ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
وقولهُ تعالى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } ؛ أي تكادُ كلُّ سماءٍ تشَقَّقُ فوقَ التي تَلِيها من قولِ المشركين : اتَّخذ اللهُ ولداً ، ومِن استعظامِ كُفرِ أهل الأرضِ مع عِظَمِ نِعَمِ اللهِ تعالى عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } ؛ أي يُنَزِّهُونَ اللهَ عن القولِ الذي تكادُ السَّموات يتفطَّرن منه ، { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ أَلاَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ؛ لأوليائهِ وأهلِ طاعته.
(0/0)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ يعني كفارَ مكَّة اتَّخذُوا آلهةً فعبَدُوها من دونِ الله ، وقولهُ تعالى : { اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } ؛ أي اللهُ حفيظٌ على أعمالِهم ليجازيَهم بها ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } ؛ أي لم يوَكِّلكَ حتى تُؤخَذ بهم وتعاقَبَ بمخالفَتِهم.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ؛ أي كما أنزَلنا على مَن قبلكَ بلسانِ قَومِهم أنزَلنا عليكَ قُرآناً بلُغَةِ العرب لتُخَوِّفَ به أُمَّ القُرى وهي مكَّةُ ، سُمِّيت أُمَّ القرى لأنَّ الأرضَ دُحِيَتْ من تحتِها. وقولهُ تعالى : { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي لتُنذِرَ أهلَ أُمِّ القُرَى ومَن حولَها مِن البُلدانِ ، وَقِيْلَ : يعني قُرَى الأرضِ كلِّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ } ؛ وهو يومُ القيامةِ ، يَجْمَعُ اللهُ فيه الأوَّلين والآخِرين ، وأهلَ السمواتِ وأهلَ الأرضِ ، { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ؛ أي لا شكَّ في الجمعِ فيه أنه كائنٌ ، ثم بعدَ الجمعِ يتفرَّقون كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ } ؛ أي طائفةٌ من أهل الجمع وهم المؤمنون يُساقون إلى الجنَّة يتنعَّمون ويتمتعون ، وطائفة يُساقون إلى النار ذات الوقود وهمُ الكفَّارُ فيها يُعذبون.
(0/0)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي لو شاءَ لجمَعَهم على دينِ الإسلامِ بأنْ يُعرِّفَهم طريقَ الحقِّ بالاضطرار ، ولكنَّهُ لم يفعلْهُ ، أرادَ أن يعرضهم للثواب والإلجاءُ يَمنَعُ من ذلكَ ، ومثلُ قولهِ تعالى{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى }[الأنعام : 35]. وقولهُ تعالى : { وَلَـاكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } ؛ أي في دينِ الإسلام ، { وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ، يَمنَعُهم ؛ أي والكافِرُونَ ما لَهم من ولِيٍّ يدفعُ عنهم العذابَ وَلاَ نَصِيرٍ يَمنَعُهم من " النار ".
(0/0)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ بلِ اتَّخذ الكفارُ من دون اللهِ أربَاباً ، { فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ) { وَهُوَ يُحْيِـي الْمَوْتَى } ؛ يَبعثُهم للجزاءِ ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ من الإحياءِ والإماتَةِ ، { قَدِيرٌ }.
(0/0)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } ؛ معناهُ : وما اختلفتُم فيه من شيءٍ من الدِّين فرُدُّوا حُكمَهُ إلى كتاب الله ، واعتَمدُوا الأدلَّةَ دون التقليدِ والشبه كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ }[النساء : 59].
وقولهُ تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي } ؛ الذي ادعُوكم إلى عبادتهِ وهو اللهُ ربي ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ؛ في كِفَايَةِ مهمَّاتِي ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ؛ أي أرجعُ في المعادِ.
(0/0)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي هو مُبتَدِعُهما ومدبرُهما ، { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } ؛ أي خَلَقَ لكم من مثلِ خَلقِكم نساءً ، وَ خلقَ لكم ، { وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجاً } ؛ ذُكوراً وإناثاً لتَكمَلَ منافعُكم بها ، يعني خلقَ الذكرِ والأنثى من الحيوانِ كلِّه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } ؛ أي يَخلقُكم في الرَّحِم ويُكثِرُكم بالتزويجِ ، ولولاهُ لم يكنِ الناسُ.
وقولهُ تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ؛ في العلمِ والقدرةِ والتدبيرِ ، { وَهُوَ السَّمِيعُ } ؛ بمقالَةِ العبادِ ، { الْبَصِيرُ } ؛ بأعمالِهم ، والكافُ في { كَمِثْلِهِ } زائدةٌ مُؤكِّدَةٌ ، والمعنى : ليس مثلهُ شيءٌ ، إذ لا يجوزُ أن يقالَ : ليس مثلَ مثلهِ شيءٌ ؛ لأن مَن قال ذلكَ فقد أثبتَ المثلَ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذلِكَ عُلُوّاً كَبيراً.
(0/0)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له مَفاتِيحُها ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ). وقال الكلبيُّ : (مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ خَزَائِنُ الْمَطَرِ ، وَخَزَائِنُ الأَرْضِ النَّبَاتُ). والمعنى أنه يقدِرُ على فتحِها ، يَملِكُ فتحَ السَّماء بالمطرِ ، وفتح الأرضِ بالنبات ، يدلُّ على هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ أي يُوسِّعهُ على مَن يشاءُ ، ويُضَيِّقهُ على مَن يشاءُ ؛ لأن مفاتيحَ الرزقِ بيدهِ ، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ من البَسْطِ والضِّيقِ ما لا يفعلُ ذلك جُزَافاً ، ولكن يرزقُ كلَّ أحدٍ على ما تُوجِبهُ الحكمةُ.
(0/0)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ } ؛ أي بَيَّنَ وأوضحَ من الدينِ ، { مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً } ؛ يعني التوحيدَ ، { وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } ؛ من القرآن وشَرائعِ الإسلامِ ، { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى } ؛ وشرعَ لكم ما وصَّى بهع إبراهيمَ وموسى وعيسى.
ثم بيَّن ما وصَّى به هؤلاء فقال : { أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ } ؛ يعني التوحيدَ ، { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } ؛ أي لا تختلِفُوا في التوحيدِ ، قال مجاهدُ : (يَعْنِي شَرَعَ لَكُمْ وَلِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الأَنْبيَاءِ دِيْناً وَاحِداً ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبيّاً إلاَّ وَصَّاهُ بإقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإيْتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَالإقْرَار باللهِ تَعَالَى وَالطَّاعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ أمَرَهُ اللهُ بهِ ، فَذلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَهُ لَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } ؛ قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : عَظُمَ عَلَى مُشْرِكِي مَكَّةَ مَا دَعَاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَالإخْلاَصِ لَهُ وَحْدَهُ وَخَلْعِ الأنْدَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } ؛ أي يصطفي من عباده لدينه من يشاء ، { وَيَهْدِي إِلَيْهِ } ؛ إلى دينهِ ؛ { مَن يُنِيبُ } ؛ أي مَن يُقبلُ إلى طاعتهِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : اللهُ يختارُ لرسالتهِ مِن يشاءُ مِمَّن تقتضِي الحكمةُ اختيارَهُ ، ويَهدِي إلى جنَّتهِ وثوابهِ مَن يرجعُ إلى طاعتهِ.
(0/0)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } ؛ أي ما اختلفَ اليهودُ والنَّصارى إلاَّ من بعدِ ما وَضُحَ لهم أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّهم كانوا يَعرِفُونَهُ كما يعرفون أبناءَهم ، فأنكرَ مَن أنكرَ مِن علمائِهم للبَغيِ والعداوةِ على طلب الدُّنيا ، خافُوا أن تذهبَ عنهم رئاسَتهم ومكانتهم ، وأن يصِيرُوا تابعِين بعد أن كانوا مَتبُوعِين ، فترَكُوا اسمَ الإسلامِ ، وقولهُ تعالى { بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي بَغياً منهم على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قولهُ تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } ؛ أي لولاََ حُكمِ اللهِ بإنظارهم وتأخيرِ العذاب عن هذه الأُمة { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني يومَ القيامةِ { لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } أي بين مَن آمنَ ومَن كفرَ بنُزولِ العذاب بالمكذِّبين في الدُّنيا. وقولهُ تعالى : { وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُواْ الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ } ؛ يعني اليهودَ والنصارى أُورثُوا التوراةَ من بعدِ أنبيائهم وأسلافِ أحبارهم ، { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } ؛ من دينِ الإسلام ظاهرِ الشكِّ.
(0/0)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ أي فلذلكَ الذي سبقَ ذِكرهُ ، يعني الذي وصَّى به الأنبياءُ من التوحيدِ فادعُ. وَقِيْلَ : معناهُ : فلأجلِ ما وقعَ منهم من الشكِّ فادعُ واستقِمْ على دينِ الإسلامِ كما أُمِرتَ ولا تتَّبع أهواءَ أهلِ الكتاب ، وذلك أنَّهم دعَوا إلى دينِهم ، { وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ } ؛ أي آمنتُ بكُتب الله كلِّها. وإنما قالَ ذلك لأنَّ الذين تفرَّقوا آمَنُوا ببعضِ الكُتب دون بعض. وقوله تعالى : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } ؛ أي أُمرت أن لا أحيفَ عليكم بأكثرَ مما افترضَ اللهُ عليكم في الأحكامِ.
وقولهُ تعالى : { اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } ؛ أي إلِهُنا وإلَهُكم وإن اختلفَتْ أعمالُنا ، وكلٌّ يجازَى بما عَمِلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } ؛ لنا جزاءُ أعمالِنا ولكم جزاءُ أعمالِكم ، لا يُؤاخَذُ أحدٌ بعملِ غيره ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } ؛ أي قد ظهرَ الحقُّ وسقطَ الباطلُ ، ومع ذلك الحجَّة لنا عليكم لظهُورها ، وقولهُ تعالى : { اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا } ؛ وبينَكم في الآخرةِ فيُجازي كُلاًّ بعملهِ ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }.
(0/0)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ } ؛ أي والذين يخاصِمُون في دينِ الله من بعد ظُهور دلائلهِ ، وهم اليهودُ والنصارى قالوا : كتابُنا قبلَ كتابكم ، ونبيُّنا قبلَ نبيِّكم ، فنحن خيرٌ منكم! فهذه خصومَتُهم وإنما قصَدُوا بما قالوا دفعَ ما أتَى به مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وقولهُ تعالى : { مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ } أي من بعدِ ما دخلَ الناسُ في الإسلامِ وأجَابُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى ما دعَاهُم إليه ، { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ أي خصومتُهم باطلةٌ حين زعَمُوا أن دينََهم أفضلُ من الإسلامِ ، وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } أي في حُكم ربهم ، وإنما قالَ ذلك لأنَّها لم " تكن " باطلةً في زعمِهم ، { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } ؛ من اللهِ ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } في الآخرةِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ } ؛ معناهُ : اللهُ الذي أنزلَ القرآن بالحقِّ ؛ أي بما ضَمَّنَهُ من الأمرِ والنهي والفرائضِ والأحكام ، وكلُّه حقٌّ من اللهِ تعالى. وقولهُ تعالى { وَالْمِيزَانَ } اختلَفُوا في إنزالِ الميزان ، قال الحسنُ ومجاهد والضحَّاك : (أرَادَ الْعَدْلَ) وإنما كنَّى عن العدلِ بالميزان لأنَّ الميزانَ طريقٌ معه العدلُ والمساواة.
وقال بعضُهم : أنزلَ الميزان الذي يوزَنُ به في زمنِ نوحٍ عليه السلام. وقال ابنُ عبَّاس : (أمَرَ اللهُ بالْوَفَاءِ ، وَنَهَى عَنِ الْبَخْسِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ } ؛ هذا تخويفٌ للمشرِكين من قُرب الساعة لينْزَجِرُوا ، وقد كان قومٌ من المشركين سأَلُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الساعةِ تَكذيباً بها ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةََ ، وإنَّما قال { قَرِيبٌ } ولم يقل قريبةٌ ؛ لأن تأنيثَ الساعةِ غيرُ حقيقيٍّ كما في قولهِ تعالى{ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ }[الأعراف : 56] ولأن معنى الساعةِ البعثُ.
(0/0)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } ؛ والذين يستعجِلون بها قصدَ الإتيان بها استِبعاداً لِقيامِها لأنَّهم لا يؤمنون بها ، وهذه طريقةُ الْجُهَلاَءِ في كلِّ شيء يجحَدُونه من حقائقِ الأمُور.
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } ؛ أي خائِفُون منها لاَ يَدرُون على ما يُقدِمون عليه لأنَّهم موقنون أنَّهم مبعُوثون مُحاسَبون ، { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ } ؛ أي الساعةُ لا ريبَ فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فَي السَّاعَةِ } ؛ تدخُلهم الْمِرْيَةُ والشكُّ في القيامةِ ، { لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ؛ حين لم يفكِّروا فيعلَمُوا أن الذي خلَقَهم أوَّلاً قادرٌ على بعثِهم.
(0/0)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } ؛ أي بارٌّ رحيم بهم ، يعني أهلَ طاعة ، وقال مقاتلُ : (لَطِيفٌ بالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، لاَ يُهْلِكُهُمْ جُوعاً) ، يدلُّ على هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } ؛ وكلُّ مَن رزقَهُ اللهُ من مؤمنٍ وكافر ذي روحٍ ممن يشاء أن يرزقَهُ ، { وَهُوَ الْقَوِيُّ } ؛ على ما أرادَ من رزقِ مَن يرزقهُ ، { الْعَزِيزُ } يعني الغالبُ الذي لا يلحقهُ عَجْزٌ فيما أرادَ. واللطيفُ هو الْمُوصِلُ للنفعِ إلى غيرهِ من جهةِ يدُقُّ استدراكُها.
(0/0)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } ؛ أي مَن كان يريدُ بعملهِ نفعَ الآخرةِ { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي نُعِينهُ على العبادةِ ، ونسَهِّلُ له ، وَقِيْلَ : نزِدْ له في ثوابهِ الْحَسَنَةَ بعشرِ أمثالها. وَقِيْلَ : نزِدْ له في قوتَّهِ ونشاطهِ وخِشيَتهِ في العملِ ، كما قالَ تعالى{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }[العنكبوت : 69].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا } ؛ أي ومَن كان يريدُ بعملهِ نفعَ الدُّنيا من رزقٍ أو مَحْمَدَةٍ ، { نُؤْتِهِ مِنْهَا } ؛ ما نشاءُ على ما تقتضيهِ الحكمةُ ، { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } ؛ مِن ثوابٍ ؛ لأنه عَمِلَ لغيرِ الله ، قال السديُّ : (هَذا الْمُنَافِقُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ُيُعْطِيهِ سَهْمَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ).
(0/0)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } ؛ يعني كفارَ مكَّة ألَهُمْ آلِهةٌ سَنُّوا من الدينِ والشريعةِ ما لَم يعلمِ اللهُ به ؟ قال ابنُ عبَّاس : (شَرَعُوا لَهُمْ دِيْناً غَيْرَ دِينِ الإسْلاَمِ) { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ؛ أي لولاَ حكمُ الله بأن يَفصِلَ بينهم يومَ القيامةِ لعاجَلَهم بالعقوبةِ ، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي وجيعٌ في الآخرةِ { تَرَى الظَّالِمِينَ } ، الذين يكذبونك خائفين يوم القيامة ، { مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } ؛ مِن الكفرِ والتكذيب ، { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } ؛ أي وجزاؤهُ واقعٌ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ } ؛ الرَّوضَةُ : هي البستانُ الجامع لأنواعِ الرَّياحينِ ، والجنَّةُ هي البستانُ الجامِعُ لأنواعِ الشَّجرِ ، { لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ مِن النعيمِ في حكمةِ ربهم ، { ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ } ؛ أي الْمَنُّ العظيمُ من اللهِ تعالى.
(0/0)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ أي ذلك الذي سبقَ ذِكرهُ من النعيمِ يبشِّرُ اللهُ عبادَهُ المؤمنين المخلِصين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ؛ أي لا أسألُكم على تبليغِ الرسالة ؛ أي تعليمِ الشريعةِ أجْراً ، وهذا دأبُ كلِّ نبيٍّ مع قومهِ ، وقولهُ تعالى : { إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } أي لاَ أَسأَلُكم عليه أجراً إلاَّ أن تَصِلُوا ما بيني وبينَكم من القرابةِ. قال ابنُ عبَّاس : (لَمْ يَكُنْ بَطْنٌ مِنْ بُطُونِ قُرَيْشٍ إلاَّ وَلِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَابَةٌ فِيْهِمْ).
والمعنى : قُل لا أسأَلُكم على ما أدعُوكم إليه من الحقِّ إلاَّ أنْ تحفَظُوني في قرابَتِي بيني وبينكم. وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أقُولُ أجْراً ، أرْقُبُونِي فِي الدُّعَاءِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، وَلاَ تَعْجَلُوا إلَيَّ وَدَعُونِي وَالنَّاس). وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : إلاَّ أنْ تُؤَدُّوا إلَى اللهِ فِيمَا يُقَرِّبُكُمْ إلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ).
وعن ابنِ عبَّاس قالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْمُرُنَا اللهُ بمَودَّتِهِمْ ؟ قَالَ : " عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدَهُمَا " ".
وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ : (قَالَ فِينَا ، فِي آلِ مُحَمَّدٍ ، فِي حَمِ آيَةً لاَ يَحْفَظُ مَوَدَّتَنَا إلاَّ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، ثُمَّ قَرَأ : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } ) ، وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : لاَ أسْأَلُكُمْ عَلَى الإيْمَانِ جُعْلاً إلاَّ أنْ تُوَادُّوا أقَاربي ، حَثَّ اللهُ النَّاسَ عَلَى مَوَدَّةِ ذوي قَرَابَتِهِ).
وعلى الأقوالِ كلِّها قولهُ { إِلاَّ الْمَوَدَّةَ } استثناءٌ ليس من الأوَّلِ ، وليس المعنى : أسأَلُكم المودَّةَ في القُربَى ؛ لأن الأنبياءَ لا يسأَلُون أجْراً على تبليغِ الرسالة ، والمعنى ولكنِّي أُذكِّرُكم المودةَ في قرابَتِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } ؛ أي ومَن يكتَسِبْ حسنةً نُجازيه عليها أضْعَافاً ، بالواحدةِ عشراً فصاعداً ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لذُنوب الناسِ ، { شَكُورٌ } ؛ للقليلِ حتى يُضاعفَهُ.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ يعني كفَّارَ مكَّة قالوا : اختلَقَ مُحَمَّدٌ كَذِباً حين زعمَ أن القرآنَ من عندِ اللهِ ، فَاغْتَمَمْتَ لذلكَ يا مُحَمَّدُ ، { فَإِن يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ } ؛ أي يَرْبطْ على قلبكَ بالصبرِ على أذاهُم حتى لا يشقَّ عليك قولُهم ، { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } ، ويُذهِبُ اللهُ ما يقولون من الباطلِ ، { وَيُحِقُّ الْحَقَّ } ؛ يعني الإسلامَ ، { بِكَلِمَاتِهِ } ؛ أي بما أنزَلَ من كتابهِ ، وقد فعلَ اللهُ ذلك فأزهقَ باطلَهم وأعلَى كلمةَ الإسلام ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي بما " فِي " قُلوب خَلقهِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُواْ عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ؛ مِن خيرٍ وشرٍّ ، مَن قرأ بالتاءِ فهو خطابٌ للمشركين وتَهديدٌ لَهم ، { وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ أي يُجِيبُهم ما سألوهُ. قال ابنُ عبَّاس : (يُثِيبُهُمْ) ، { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } ؛ سِوَى ثواب أعمالهم تفَضُّلاً عليهم ، وقال أبو صالِح : (يُشَفِّعُهُمْ فِي إخْوَانِهِمْ) ، { وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ }.
(0/0)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي لو وسَّعَ على عبادهِ لطَغُوا وتطاوَلُوا ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : لَوْ وَسَّعَ اللهُ لِعِبَادِهِ فَرَزَقَهُمْ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ لَعَصَواْ وَبَطَرُواْ النِّعْمَةَ وَطَلَبُواْ مَا لَيْسَ لَهُمْ أنْ يَطْلُبُوهُ) ؛ لأَنَّ الَّذِي يُوَسَّعُ عَلَيْهِ يَرْتَفِعُ مِنْ مَنْزِلَةٍ إلَى مَنْزِلَةٍ ، وَمِنْ مَرْكَبٍ إلَى مَرْكَبٍ ، وَمِنْ مَلْبَسٍ إلَى مَلْبَسٍ ، وَيَسْتَطِيلُ بذلِكَ عَلَى النَّاسِ ، وَيَسْتَعِينُ برزْقِ اللهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ.
وقولهُ تعالى : { وَلَـاكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ } ؛ معناهُ : ولكن يوسِّعُ على قومٍ ، ويُضَيِّقُ على آخَرِين على ما تقتضيهِ الحكمةُ ، { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي أعلَمُ بهم من أنفُسِهم ، منهم من يصلحُ له الفَقرُ ولو أغناهُ لكان شَرّاً له ، ومنهم من يصلحُ له الغِنَى ، ولو أفقَرهُ لكان شَرّاً له.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } ؛ أي يُنَزِّلُ المطرَ من بعدِ ما يَئِسُوا منه ، { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } ؛ بإخراجِ النبات والثِّمار ، وَقِيْلَ : معنى (يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) أي يبسطُ مَطَرَهُ ، { وَهُوَ الْوَلِيُّ } ؛ لِمَن أطاعَهُ ، وَقِيْلَ : وهو الولِيُّ بإنزال المطرِ عَاماً بعدَ عامٍ ، { الْحَمِيدُ } ؛ المستحقُّ للحمدِ على خَلقهِ بإنعامهِ عليهم.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } ؛ معناهُ : ومِن دلائلِ توحيدهِ خلقُ السَّموات والأرضِ بما فيهما من الشَّمسِ والقمر والنُّجوم والجبال والبحار والأشجار { وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } أي وما فرَّقَ فيهما من الملائكةِ والناس وغيرِهم ، وَقِيْلَ : معناهُ : وما بثَّ في الأرضِ من دابَّة ، وهذا كقولهِ{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }[الرحمن : 22] وإنما يخرجُ من أحدِهما ، { وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ } ؛ في الآخرةِ ، { إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ }.
(0/0)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَصَـابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ } ؛ يعني وما أصابَكم من المعاصِي في النَّفسِ والمالِ والولدِِ أو نكَبةِ حجَرٍ أو عثرَةِ قدَمٍ ، { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ، يعني المعاصِي ، { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ؛ فلا يعاقِبُ بها لُطفاً بهم.
قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ خَدْشَةِ عُودٍ أوْ عَثْرَةِ قَدَمٍ أو اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بذنْبٍ ، وَمَا يَعْفُو اللهُ تَعَالَى أكْثَرُ " وقال الحسنُ : (مَعْنَى الآيَةِ : وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ حَدٍّ فِي سَرِقَةٍ أوْ زنَى فَبمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ). وقال الضحَّاكُ : (مَا حَفِظَ رَجُلٌ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بذنْبٍ) وَقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ وَقَالَ : إنَّ أعْظَمَ الذُّنُوب نِسْيَانُ الْقُرْآنِ).
وفي مصاحفِ المدينةِ والشَّام (بمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ). قال الزجَّاجُ : (وَإثْبَاتُ الْفَاءِ أجْوَدُ لأَنَّ الْفَاءَ جَوَابُ الشَّرْطِ). وَمَنْ حَذفَهَا فَعَلَى أنَّ (مَا) بمعنى (الَّذِي) تقديرهُ : والَّذي أصابَكم وقعَ بما كسَبت أيدِيكُم) { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ يا معشرَ المشركين لا تُعجِزونِي في السَّموات حيث كُنتم ، ولا تَسبقونَنِي هَرباً في الأرضِ ولا في السَّماء لو كُنتم فيهما ، { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } ؛ أي ومِن آياته الدَّالة على توحيدهِ وقُدرتهِ الجوَاري في البحرِ ، وهي السُّفُنُ جمعُ جَاريَةٍ تجرِي في البحرِ ، { كَالأَعْلاَمِ } أي كالجِبَالِ الطِّوَالِ ، { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ } ؛ معناهُ : إن شاءَ اللهُ يُسكِنِ الرِّيحَ التي تَجرِي بها السُّفنُ فيَبقينَ واقفاتٍ على ظهرِ الماء ، ويبقَى أهلُها حيَارَى لا يجدُونَ حِيلةً في الخلاصِ ؛ لأن ماءَ البحرِ راكدٌ لا تجري السفينةُ فيه إلاَّ بريحٍ تُجرِيهِ ، فذلك معنَى قولهِ تعالى : { فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ } ؛ يعني السُّفنَ رَوَاكِدَ ؛ أي ثوابتَ على ظهرِ البحر لا تجرِي ولا تبرحُ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } ؛ أي لدلاَلاتٍ على توحيد اللهِ تعالى ، { لِّكُلِّ صَبَّارٍ } ؛ على طاعتهِ ، { شَكُورٍ } ؛ على نِعَمِهِ. وَقِيْلَ : لكلِّ صبَّارٍ في الشدَّة ، شَكُورٍ في الرَّخاءِ.
(0/0)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } ؛ أي يُهلِكُهُنَّ بالريحِ العاصفِ ، ويُغرِقُهُنَّ ، يعني : أهلَهُنَّ { بِمَا كَسَبُوا } أي بما أشرَكُوا واقترَفُوا من الذنب ، { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } ؛ من ذنوبهم فيُنَجِّيهم من الغرقِ والهلاكِ. والمعنى : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } وإنْ يشَأْ يَعْفُ عن كثيرٍ فتَجرِي السُّفنُ على ما يشاؤونَ.
(0/0)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } ؛ يعني أن الكفارَ الذين يكذِّبون بالقرآنِ إذا صَارُوا إلى اللهِ بعدَ البعثِ عَلِمُوا أنْ لا مهربَ لَهم من عذاب الله تعالى.
فمَن قرأ (وَيَعْلَمُ) بالرفعِ فعلى الابتداءِ من غيرِ أن يكون مَعطُوفاً على (وَيَعْفُ) لأنَّ عِلمَ اللهِ تعالى مقطوعٌ به لا يجوزُ تعليقه بمشيئةٍ ، ومَن قرأ بالنصب فهو نصب على إضمار (أنْ) معناهُ : ولَئنِ يَعْلَمَ الذين يُنازعُونَ في آياتِنا بالتكذيب أنه لا مَخْلَصَ لَهم في الآخرةِ مِن عذابهِ ، كما لا مَخْلَصَ لأهلِ السَّفينة من البحرِ إلاَّ باللهِ.
(0/0)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي ما أُعطِيتُم من شيءٍ مما في أيدِيكم فهو متاعٌ يتمتَّعُ به إلى حين ، { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ؛ من الثواب أفضَلُ وأدوَمُ مما في أيدِيِكم ، ثم بيَّن اللهُ لِمَنِ الثوابُ فقالَ : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.
(0/0)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } ؛ قد تقدَّمَ الكلامُ في الكبائرِ والفواحشِ في سُورة النِّساء ، قال مقاتلُ : (الْفَوَاحِشُ مَا يُقَامُ فِيْهَا الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا). وَقِيْلَ : الفواحشُ الزِّنَى وأنواعهُ ، وكبائِرُ الإثمِ الشِّركُ ، كذا قالَ ابنُ عبَّاس. وقرأ حمزةُ (كَبيرَ الإثْمِ) على الوِحدان وهو يريدُ الجمعَ.
وقولهُ تعالى { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي يَكْظِمُونَ الغَيْظَ ويَعْفُونَ عمَّن ظلَمَهم ، ويطلبون بذلك ثوابَ الله وعَفوَهُ. وهذه الآيةُ نزَلت في أبي بكر رضي الله عنه حين أقبلَ رجلٌ من المشرِكينَ يَشتِمهُ ويقعُ فيه ولم يَرُدُّ عليه أبو بكرٍ رضي الله عنه.
(0/0)
وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
قولهُ : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ أي أجَابوهُ إلى ما دعاهم إليه من التوحيدِ والعبادة ، { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي فعالاً مِن المشورةِ ، وهي الأمرُ الذي يُتَشَاوَرُ فيه ، يقالُ : صارَ هذا الأمرُ شُورَى بين القومِ إذا تشَاوَرُوا فيه.
والمعنى أنَّهم يتَشاوَرُونَ فيما يبدُو لهم ، ولا يَعجَلُونَ في الأمرِ. وقال الحسنُ : (وَاللهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلاَّ هَدَاهُمُ اللهُ تَعَالَى لأَفْضَلِ مَا بحَضْرَتِهِمْ). والمعنى : أنَّهم إذا حَدَثَ بهم أمرٌ لا نصَّ فيه من كتابٍ ولا سُنة ولا إجماعٍ ؛ شاوَرَ بعضُهم بعضاً لإظهار الحقِّ.
(0/0)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } ، معناهُ : الذين إذا أصابَهم البغيُ والظُّلم والعدوان هم ينتَصِرون مِمَّن ظلَمَهم ، قال عطاءُ : (يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الَّّذِينَ أخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مَكَّةَ وَبَغُواْ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ حَتَّى انْتَصَرُواْ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ).
قال ابنُ زيد : (جَعَلَ اللهُ الْمُوْمِنِينَ صِنْفَيْنِ : صِنْفٌ يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ ، فَبَدَأ بذِكْرِهِمْ فَقَالَ : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ }[الشورى : 37]. وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ ، وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُواْ فِي هَذِهِ الآيَةِ ، وَمَنِ انْتَصَرَ فَأَخَذ حَقَّهُ وَلَمْ يُجَاوزْ فِي ذلِكَ مَا حَدَّ اللهُ فَهُوَ مُطِيعٌ للهِ ، وَمَنْ أطَاعَ اللهَ فَهُوَ مَحْمُودٌ).
ثم اعْلَمْ : أن أوَّلَ هذه الآيةِ يقتضي أنَّ الاقتصارَ بأخذِ الواجب من القصاصِ أو نحوه أفضلُ ؛ لأن اللهَ تعالى عطفَ هذه الآيةَ على الآيةِ التي ذكرَ فيها الاستجابةَ للهِ تعالى وإقامِ الصَّلاة.
وتكلَّمُوا في معنى ذلك ، قالَ بعضُهم : أرادَ به الانتصارَ مِمَّن فارَقَهم في دِينهم ، فأما مِن المسلمين فالانتصارُ مباحٌ ، كما قال{ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَـائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ }[الشورى : 41] والعفوُ أفضل ، كما قالَ تعالى{ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }[البقرة : 237] ، وقال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }[الشورى : 40].
وقال بعضُهم : إذا كان العفوُ يؤدِّي إلى الإخلالِ بشيءٍ من حُقوقِ الله مثل العفوِ عن الفاسقِ الذي لا يرتدعُ ، والعفوِ عن الباغِي الذي لا يكون مُصِرّاً على قصدهِ ، فالانتصارُ أولى من العفوِ ، وإذا كان العفوُ لا يؤدِّي إلى إسقاطِ شيءٍ من حُقوقِ الله تعالى فالعفوُ أفضَلُ كما قالَ تعالى في آيةِ القصاص{ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ }[المائدة : 45]. وفي بعضِ التَّفاسيرِ : إنما جُعِلَ الانتصارُ في أوَّلِ هذه الآياتِ أفضلَ لأنَّهم كانوا يَكرَهُونَ أن يُذلِّلُوا أنفُسَهم فَيَجْتَرِئُ عليهم الفُسَّاق.
(0/0)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } ؛ فيه بيانُ أنه لا تجوزُ الزيادةُ على السَّيئة الأُولى ، وإنما سُميت الثانيةُ سيئة لأنَّها في مقابَلة الأُولى ، والأُولى سيِّئة لفظاً ومعنىً ، والثانيةُ سيئةٌ لفظاً لا معنى ، وسُميت بهذا الاسمِ لأن مُجازاةَ السُّوء لا تكون إلاَّ بمثلهِ ، قال مقاتلُ : (مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ فِي الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي مَن عفَى عمَّن ظلمَهُ وأصلحَ بالعفوِ بينه وبين ظالِمه فأجرهُ على اللهِ تعالى ، وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } ؛ يعنِي مَن يبدأُ بالظُّلمَ. وفيه بيانُ أنَّ اللهَ تعالى إنما نَدَبَ المظلومَ إلى العفوِ لا لِمَيلهِ إلى الظالِمِ أو لِحُبهِ إياهُ ، ولكن ليُعَرِّضَ المظلومَ لجزيلِ الثَّواب بالعفوِ.
(0/0)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ } ؛ أي بعدَ ظُلمِ الظالِم إيَّاهُ ، فالمصدرُ ها هنا مضافٌ إلى المفعولِ ، كقولهِ : { مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ }[فصلت : 49] و{ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ }[ص : 24] ، { فَأُوْلَـائِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ } ؛ يعني الذين يَبدَأُونَ بالظُّلمِ ، { وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ أي يعمَلون بالمعاصِي ، { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(0/0)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } ؛ يعني من صَبَر ولم ينتَصِرْ وغفرَ ، { إِنَّ ذَلِكَ } ؛ الصبرُ والتَّجاوُز ، { لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ؛ قال مقاتلُ : (مِنْ الأُمُور الَّتِي أمَرَ اللهُ بهَا) ، وَالْمُرَادُ بذلِكَ إذا كَانَ الْجَانِي نَادِماً مُقْلِعاً. وَالْعَزْمُ على الشيءِ هو أن يَعْقِدَ قَلْبَهُ على أنَّهُ سيفعَلهُ ، وكلُّها كانت رغبةَ الصابرِ في الثواب أكثرَ كان عزمهُ على التجاوُز أتَمَّ لتَيَقُّنهِ بالخلَفِ والثواب.
(0/0)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ } ؛ أي مَن يخذلْهُ الله بعنادهِ وجُحودهِ ، ويُضِلَّهُ عن الهدَى ، { فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } ؛ أي ما لَهُ من أحدٍ يَلِي هِدَايتَهُ بعدَ إضلالِ الله إيَّاهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : مَن يُهلِكْهُ اللهُ ويُضَيِّعْهُ فما لَهُ من ولِيٍّ يَلِي أمرَهُ ويدفعُ عنه العذابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الظَّالِمِينَ } ؛ أي ترَى المشرِكين يا مُحَمَّدُ ، { لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ } ؛ في الآخرةِ يسأَلُون الرجعةَ إلى الدُّنيا ، { يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ }.
(0/0)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } ؛ أي على النار قبلَ أن يدخلُوها ، { خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ } ؛ أي أذِلاَّءَ من الهوَانِ ، وَقِيْلَ : سَاكنِين مُتواضِعين ، { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } ؛ أي يَنظُرون إلى النار سَارقَةِ الأَعيُن نظرَ الخائفِ ؛ أي مَن يخافهُ فَزَعاً منه. وَقِيْلَ : معنى { خَاشِعِينَ } مُطرِقِينَ من الْخَجَلِ والوَجَلِ ، والطَّرْفُ هو العينُ.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قال : (يَنْظُرُونَ بقُلُوبهِمْ نَظَرَ الأَعْمَى ، إذا سَمِعَ حِسّاً وَقَفَ مُسْتَمِعاً خَائِفاً مِنْهُ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً }[الإسراء : 97]).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي عرَفَ المؤمنون خُسرانَ الكفَّار في ذلك اليومِ فقالوا : { إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } بأن صَارُوا إلى النار ، وأهلِيهم في الجنَّة بأَنْ صَارُوا لغَيرِهم. وقولهُ تعالى : { أَلاَ إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } ؛ أي دائمٍ لا ينقطعُ ، { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ }.
(0/0)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
قولهُ : { اسْتَجِيبُواْ لِرَبِّكُمْ } ؛ أي أجِيبُوا دَاعِيَ ربكم ، يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } ؛ لا يقدرُ أحدٌ على دفعهِ وهو يومُ القيامةِ ، { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ } ؛ تلجَأُون إليه ، { وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } ؛ يُنكِرُ العذابَ ويدفعهُ عنكم ، وَقِيْلَ : لا تَقدِرُونَ أن تُنكِرُوا ما توقَفُون عليه مِن ذنوبكم وما ينْزِلُ بكم.
(0/0)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ؛ فإنْ أعرَضُوا عن إجَابَتِكَ يا مُحَمَّدُ فما أرسَلناكَ عليهم حَفيظاً تحفَظُ أعمالَهم وأقوالَهم ، { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ } ؛ عن اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } ؛ أي غِنًى وصحَّةً ، { فَرِحَ بِهَا } ؛ يعني الكافرُ ، { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ؛ أي قَحْطٌ ، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ؛ من الكُفرِ ، { فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ } ؛ لِمَا تقدَّمَ من نِعَمِ اللهِ عليه ويجحَدُ.
(0/0)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له التصرُّفُ فيهما بما يريدُ ، { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } ؛ مثلَ ما وَهَبَ للُوطٍ عليه السلام ، { وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ } ؛ مثلَ ما وهبَ لإبراهيم عليه السلام لم يكُن له ولدٌ أُنثى ، { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } ؛ أي يَجمَعُ لِمَن يشاءُ البنينَ والبناتِ ، كما وهبَ لنبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فإنه كانَ له ثلاثةُ بَنين وأربعُ بناتٍ ، { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } ؛ لا يولَدُ له مثلَ يحيَى وعيسَى عليه السلام ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بعواقب الأمُور وَأواخرِها وأوَائلِها ، وفواتِحها وخواتِمها ، وظواهِرها وبواطنِها ، { قَدِيرٌ } ؛ على كلِّ شيء ، لا يلحقهُ عَجزٌ ولا يعتريهِ منعٌ.
(0/0)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } ؛ أي ما كان لآدمِيٍّ أن يُكلِّمَهُ اللهُ مواجهةً بغيرِ حجابٍ ، إلاَّ أن يوحِي أن يقذفَ في قلبهِ ويُلهِمَ إما في المنامِ أو بالإلهام ، كما أخبرَ اللهُ في قصَّة إبراهيم عليه السلام في قوله{ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ }[الصافات : 102].
وقولهُ تعالى : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كما كلَّمَ موسَى عليه السلام ، كان يسمعُ كلامَهُ من حيث لا يراهُ ، أو يُرسِلَ من الملائكةِ جبريلَ أو غيرَهُ فيُوحِي ذلك الرسولُ إلى الْمُرْسَلِ إليه بإذن الله ما يشاءُ الله.
قال الزجَّاجُ : (الْمَعْنَى : أنَّ كَلاَمَ اللهِ لِلْبَشَرِ إمَّا أنْ يَكُونَ بإلْهَامٍ أوْ يُكَلِّمَهُمْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كَلَّمَ مُوسَى ، أوْ برِسَالَةِ مَلَكٍ إلَيْهِمْ). فمَن قرأ (أوْ يُرْسِلَ) بنصب اللام فمعناهُ : أو أنْ يُرسِلَ رسُولاً من الملائكةِ ، كما أرسلَ جبريلَ عليه السلام ، وتقديرهُ : وما كان لبشرٍ أن يُكلِّمَهُ اللهُ إلاَّ وَحْياً أن يُوحِي إليه أو يُكلِّمه من وراءِ حجابٍ أو يرسِلَ رسُولاً. ومَن قرأ بالرفعِ أرادَ : وهو يُرسِلُ فهو ابتداءٌ واستئناف ، والوقفُ كافٍ على ما قبله.
وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } ؛ أي هو أعلَى مِن أن يدركَهُ الخلقُ بالأبصار الفانية بلا حجابٍ ، الحكيمُ فيما يأمرُ وينهَى.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } ؛ أي كما أوْحَينَا إلى الرُّسُلِ من قبلِكَ أوحَينا إليك جبريلَ بالقُرآنِ الذي " فيه " حياةُ القلوب من الجهلِ. ومِن هذا سُمِّي القرآنُ رُوحاً ؛ لأنه سببُ حياةِ الدِّّين ، كما أنَّ الروحَ سببُ حياةِ الجسد. وقال مقاتلُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { رُوحاً } يَعْنِي الْوَحْيَ) وَهُوَ الْقُرْآنُ ؛ لأَنَّهُ يُهْتَدَى بهِ ، فَفِيهِ حَيَاةٌ مِنْ مَوْتِ الْكُفْرِ. وقولهُ { مِّنْ أَمْرِنَا } ، وَقِيْلَ : إنَّ الروحَ ها هنا جبريلُ.
وقولهُ : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ } ؛ أي ما كنتَ تدري قبلَ الوحيِ ما الكتابُ ولا ما الإيمانُ ؛ قيل : لأنه كان لا يعرِفُ القرآنَ قبلَ الوحي ، ولا كان يعرفُ بشرائعِ الإيمان ومعالِمه ، وهي كلُّها إيمانٌ ، وهذا اختيارُ الإمامِ محمَّد بن جرير ، واحتجَّ بقولهِ{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ }[البقرة : 143] يعني الصَّلاةَ سَمَّاها إيْماناً. وَقِيْلَ : معناهُ : ما كُنتَ تدري ما الإيمانُ قبلَ البلوغِ ، يعني حين كان طِفْلاً في الْمَهْدِ. وقال الحسينُ بن الفضلِ : (هَذا مِنْ بَاب حَذْفِ الْمُضَافِ ؛ مَعْنَاهُ : " أيْ مَا كُنْتَ تَدْري مَا الْكِتَابُ " ولا أهْلِ الإيْمَانِ " أيْ " مَنِ الَّذِي يُؤْمِنُ وَمَنِ الَّذِي لاَ يُؤْمِنُ) ، وَفِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَكُنِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْكُفْرِ قَطُّ ، وَإنَّهُ كَانَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلاَمِ حِينَ وُلِدَ ، وَكَذلِكَ جَمِيعُ أنْبيَاءِ اللهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ، وَكَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَعْبُدُ اللهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً } ؛ يعني الوحيَ ودليلاً على الإيمانِ والتوحيد ، { نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } ؛ إلى دينِ الحقِّ ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي لتَدعُو الخلقَ كلَّهم بوَحينا إليك إلى طريقٍ قائمٍ يرضاهُ اللهُ وهو الإسلامُ. وقولهُ تعالى : { صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ خُفِضَ على البدلِ ، وقولهُ تعالى : { أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ } ؛ أي إليه ترجعُ عواقِبُ الأمُور في الآخرةِ.
(0/0)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
{ حـم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } ؛ أقسمَ اللهُ بالقرآنِ ، الْمُبين : الذي أبَانَ طريقَ الهدى من طريقِ الضَّلالةِ ، وأبانَ ما يحتاجُ إليه من الشَّرائعِ ، وجوابُ { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ؛ أي إنَّا أنزلناهُ على لُغةِ العرب ليكون أبلغَ في الحجَّة وأدعَى إلى القَبولِ ، كي يَعْقِلَهُ العربُ من غيرِ متَرجِمٍ.
(0/0)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } ؛ أي إنَّهُ مذكورٌ مُثْبَتٌ في اللَّوحِ المحفوظِِ عندَنا ، كما قالَ في آيةٍ أُخرى{ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ }[البروج : 21 - 22] ، وسُمي اللوحُ أُمَّ الكتاب ؛ لأنه أصلُ كلِّ كتابٍ ، وتُسمَّى الوالدةُ : أُمّاً ؛ لأنَّها أصلُ الولدِ.
وقولهُ تعالى { لَدَيْنَا } يريدُ الذي عندَنا نُخبرُ عن فضيلتهِ ، ومَنْزِلتِه وشرفهِ أنْ كذبتُم به يا أهلَ مكَّة ، فإنه عندَنا شريفٌ رفيع مُحكَمٌ من الباطلِ. ويقالُ : ذُو حِكمَةٍ لا يحتملُ الزيادةَ والنُّقصانَ ، والتبديلَ والتغييرَ.
(0/0)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } ؛ قال الكلبيُّ : (يَقُولُ اللهُ لأَهْلِ مَكَّةَ : أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ صَفْحاً فَلاَ نَأْمُرُكُمْ وَلاَ نَنْهَاكُمْ وَلاَ نُرْسِلُ إلَيْكُمْ رَسُولاً ؟ وَهَذا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الإنْكَارُ ؛ أيْ لاَ نَفْعَلُ ذلِكَ).
ومعنى الآيةِ : إفَنُمسِكُ عن إنزالِ القرآن ونُهمِلُكم فلا نُعرِّفُكم ما يجبُ عليكم من أجلِ أنَّكم أسرَفتُم في كُفرِكم ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } ، والمعنى : لإنْ كُنتم ، والكسرُ في (إنْ) على أنه جزاءٌ استغنى عن جوابهِ بما تَقدَّمَهُ ، كما تقولُ : أنتَ ظالِمٌ إنْ فعلتَ كذا ، ومثلهُ{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ }[المائدة : 2] بالفتحِ والكسر ، وقد تقدَّمَ.
ومعنى الآيةِ : أفنَضرِبُ عنكم تَذكُّرنَا إيَّاكم الواجبَ ونتركُكم بلا أمرٍ ولا نَهيٍ مُعرِضين عنكم لَئِن أسرَفتُم. والصَّفْحُ في اللغة : هو الإعراضُ ، يقالُ : صَفَحَ عن دِينه أي أعرضَ عنه ، " صَفَحَ " فلانُ عنِّي بوجههِ ؛ أي أعرَضَ, وهو في صِفات اللهِ بمعنى العَفْوِ ، يقالُ : أصْفحَ عن دينه ؛ أي أعرضَ عنه. والإضرابُ والضَّربُ في الكلامِ كلاهُما بمعنى الإعراضِ والعدُولِ.
(0/0)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبيانُ أنَّ دَأبَ كلَّ أُمة مع رسولِهم التكذيبُ والاستهزاء به ، وإنَّ من سُنة اللهِ تعالى إهلاكُ المكَذِّبين ، فحدِّث أيها الرسولُ قومَك كي لا يَسلِكوا طريقَ من قبلهم فينزلُ بهم من العذاب ما نزلَ بمَن قبلَهم.
(0/0)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
وقولهُ تعالى : { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } ؛ أي أقوَى من قومِكَ ، يعني الأوَّلين الذين هَلَكوا بتكذيبهم ، { وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ } ؛ وسبقَ فيما أنزلنا إليكَ تشبيهٌ بتكذيبهم ، فعاقبةُ هؤلاء أيضاً الإهلاكُ.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
قَوْلُهُ تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ معناهُ : ولئن سألتَ قومَكَ مَن خلقَ السَّموات والأرضَ ، { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } ، وهذا إخبارٌ عن غايةِ جَهلِهم إذ أقَرُّوا بأنَّ الله خلقَ السموات والأرض ، ثم عَبَدُوا معه غيرَهُ وأنكَرُوا قدرته على البعثِ ، فهُم يُقرُّون بالله ويُشركون به غيرَهُ ، كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }[يوسف : 106] وتَمَّ الكلامُ والإخبار عنهم.
ثُم ابتدأ قوله عَزَّ وَجَلَّ فقال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً } ؛ هذا ابتداءُ كلامٍ من اللهِ تعالى على معنى : نَعَمْ خلَقَهُنَّ العزيزُ العليم الذي جعلَ لكم الأرضَ مِهَاداً يمكنُكم القرارُ عليها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ؛ أي طُرقاً ، { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ؛ في الطريقِ من بلدٍ إلى بلد ، وتَهتدون بوحدانيَّة اللهِ.
(0/0)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ } ؛ يعني المطرَ بمقدارٍ معلوم يعلمهُ خازنُ المطرِ ليس كما أنزلَ على قومِ نوح بغير قَدَرٍ حتى أهلكَهم ، بل هو بقَدرٍ يكون مَعاشاً لكم ولأنعامِكم ، وقولهُ تعالى : { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } ؛ أي فأَحيَينا بذلك المطرِ بَلداً ميتاً بإخراجِ الأشجار والزرعِ ، { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ؛ من القُبور يومَ النشور للحساب والجزاء.
(0/0)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ } ؛ معناهُ والذي خلقَ الأصنافَ كُلَّها والألوانَ كُلَّها ، ويقالُ : الذكورُ والإناث كلِّها ، وجعل لكم من الفُلكِ والأنعامِ ما تركبون عليها في البَرِّ.
(0/0)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ } ؛ الكنايةُ تعود إلى لفظ (مَا) أي لتَستَوُوا على ظُهور ما تركبون ، { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } ؛ يعني النعمةَ بتسخيرِ ذلك المركَب في البَرِّ والبحرِ ، قال مقاتلُ والكلبي : (وَهُوَ أنْ تَقُولَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي رَزَقَنِي هَذا وَحَمَلَنِي عَلَيْهِ) ، { وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا } ؛ المركَبَ وذلَّلَهُ لنا ، وسهَّلَ رُكوبَهُ ، ولولاَ تسخيرهُ لنا ، { وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } ؛ أي مُطِيقين ضابطين ، يريدُ : لا طاقةَ لنا بالإبلَ ولا بالفلكِ ولا بالبحر ، لولاَ أنَّ اللهَ تعالى سخَّرَ لنا ذلك.
قال قتادةُ : (قَدْ عَلَّمَكُمُ اللهُ كَيْفَ تَقُولُونَ إذا رَكِبْتُمْ). وعن ابنِ مسعودٍ أنَّهُ قالَ : (إذا رَكِبَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللهِ ، رَدَفَهُ الشَّيْطَانُ ، فَقَالَ لَهُ : تَغَنَّ ، فَإنْ لَمْ يُحْسِنْ قَالَ لَهُ : تَمَنَّ).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " " أنَّهُ كَانَ إذا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارجاً فِي سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثاً سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ، وَإنَّا إلَى رَبنَا لَمُنْقَلِبُونَ ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذا الْبرَّ وَالتَّقْوَى ، وَالْعَمَلَ بمَا تَرْضَى ، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا وَأطْوِعْنَا بُعْدَهُ ، اللَّهُمَّ أنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ، وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ ، اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَب ، وَسُوءِ الْمُنْظَرِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ ". وَإذا رَجَعَ قَالَ : " آيبُونَ تَائِبُونَ لِرَبنَا حَامِدُونَ " ".
(0/0)
وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وقولهُ تعالى : { وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ؛ فيه بيانٌ أنه كما يَذكرُ نعمةَ اللهِ عليه في الدُّنيا ، فعلَيهِ أنْ يذكُرَ مصيرَهُ إلى الآخرةِ. وينبغِي للعاقلِ إذا ركِبَ دابَّةً أو سفينةً أن يتذكَّرَ آخرَ مركَبهِ وهي الجنازةُ ، وإذا لَبسَ أن يتذكَّرَ آخرَ مَلبَسهِ وهو الكفَنُ ، وإذا اغتسلَ أن يتذكَّرَ آخرَ عهدهِ بالغُسلِ ، وإذا نامَ أن يذكَّرَ الحالَ التي يوضَعُ فيها على جَنبهِ في اللَّحدِ.
(0/0)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } ؛ أي جَعل الكفارُ للهِ تعالى من عبادهِ جُزءاً ؛ لأنَّهم قالوا : الملائكةُ بنات اللهِ ، فوصَفُوا عبادَ اللهِ بأنَّهم جزءٌ من اللهِ ، وقد تقدَّمَ أن الذين قالوا هذا القولَ حيٌّ من خزاعةَ ، ومعنى الجعلُ ههنا الحكمُ بالشيءِ ، والوصفُ والتسمية كما جعلَ فلانٌ زيداً مِن أعلمِ الناس ؛ أي وصفَهُ بذلك ، ويقالُ : إن الْجُزْءَ في كلامِ العرب عبارةٌ عن الأُنثى كما قال الشاعرُ : إنْ أجْزَأتْ حُرَّةٌ يَوْماً فَلاَ عَجَبٌ قَدْ تُجْزِئُ الْحُرَّةُ الْمِذْكَارُ أحْيَانَاأرادَ بـ (أجْزَأتْ) : ولَدَت أُنثى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الإنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } ؛ أرادَ الإنسانِ الكافرَ ، وقولهُ تعالى { لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } أي لَجَحُودٌ لنِعَمِ اللهِ ، { مُّبِينٌ } ظاهرُ الكُفرَانِ.
ثُم أنكرَ عليهم هذا فقالَ تعالى : { أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ } ؛ هذا استفهامُ توبيخٍ وإنكار ، يقولوا : أتَّخَذ ربُّكم لنفسهِ البنات وأصفاكم بالبنينِ وأخلَصَكم بهم. والمعنى : كيف اختارَ لنفسهِ أهونَ قِسْمَي الولدِ ، واختارَ لكم أعلَى القِسمَين ، والحكمةُ لا توجبُ أن يختارَ الحكيمُ الأدوَنَ لنفسهِ والأعلَى لغيرهِ.
ثم وصَفَ كراهتَهم بالبناتِ ، فقالَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـانِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } ؛ أي وإذا أُخبر أحدُهم بما وصفَ للرحمنِ من إضافةِ البنت إليه صارَ وجههُ مُسْوَدّاً متغَيِّراً يُعرَفُ فيه الحزنُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ كَظِيمٌ } ؛ أي يتردَّدُ حُزنهُ في جَوفهِ. وقد تقدم تفسيرهُ في سورة النحلِ.
(0/0)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } ؛ زيادةٌ في الإنكار عليهم والْمَذمَّةِ لَهم ، كأنَّهُ قالَ : أوَيَختارُ لنفسهِ مع استغنائهِ عن الخلقِ كلِّهم (مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ) أي مَن رُبيَ في حِلية الذهب والفضَّة ، { وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } ، وهو في الكلامِ غيرُ ثابتِ الحجَّة.
قال المبرَّدُ : (تَقْدِيرُ الآيَةِ : أوَتَجْعَلُُونَ لَهُ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ، يَعْنِي الْبنْتَ نَبَتَتْ). (وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبينٍ) ؛ أي وهو عندَ الْمُخَاصَمَة غيرُ مُبينِ الحجَّة ، قال قتادةُ : (قَلَّ مَا تَكَلَّمَتِ امْرَأةٌ بحُجَّتِهَا إلاَّ تَكَلَّمَتْ بحُجَّتِهَا عَلَيْهَا) لِضَعْفِ رَأيهَا وَنُقْصَانِ عَقْلِهَا.
ويستدَلُّ من هذه الآيةِ على ثُبوتِ الترخُّصِ للنساءِ في التزَيُّن بحِلية الذهب والفضَّة ، " كما قالَ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أخَذ الذهَبَ بإحْدَى يَدَيْهِ ، وَالْحَرِيرَ بالأُخْرَى وَقَالَ : " هَذانِ مُحَرَّمَانِ عَلَى ذُكُور أُمَّتِي ، حِلٌّ لإنَاثِهِمْ " ".
(0/0)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـانِ إِنَاثاً } ؛ معناهُ : ووَصَفُوا الملائكةَ الذين هم عبادُ الرحمنِ أنَّهم بناتُ اللهِ ، وقرئ (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) وكلٌّ صوابٌ ، وقد جاءَ القرآنُ بالأمرَين معاً ، وذلك قولهُ{ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }[الأنبياء : 26] وقولهُ{ إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ }[الأعراف : 206] ، وفي قولهِ تعالى (عَبْدُ الرَّحْمَنِ) دلالةٌ على رفعِ المنْزِلة والقُربَةِ من الكرامةِ.
وقولهُ تعالى : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } ؛ معناهُ : أحَضَرُوا عندَ خَلقِهم فعَلمُوا ذلك ، والشهادةُ ها هنا من الحضور ، ووبَّخَهم اللهُ على ما قالوا ما لَم يُشاهِدُوهُ. وقرأ نافعُ : (أشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ) بهمزة الاستفهامِ وتخفيف الهمزةِ الثانية على معنى أحَضَرُوا وعَايَنُوا خَلقَهُم حتى عَلِموا أنَّهم أناثٌ ، وهكذا كقوله{ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ }[الصافات : 150].
قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ : أحَضَرُواْ وَعَايَنُواْ خَلْقَهُمْ؟) ، قال الكلبيُّ : " لَمَّا قَالُواْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ سَأَلَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَقًَالَ : " مَا يُدْرِيكُمْ أنَّهُمْ إنَاثٌ ؟ " قَالُواْ : سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُواْ أنَّهُمْ إنَاثٌ " فقالَ اللهُ : { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } ؛ عنها في الآخرةِ.
(0/0)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } ؛ يعني بني مَلِيح من خُزاعة ، كانوا يعبُدون الملائكةَ ، { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } أي ما عبَدُوا الملائكةَ ، وإنما عبَدناهم بمشيئةِ الله تعالى. وإنما كانوا يقُولون هذا القولَ إبلاغاً لعُذرهم عند سَفَلَتِهم ، يقول اللهُ تعالى : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } ؛ بقولِهم إنَّ الملائكةَ بناتُ الله وإنَّهم كَذبُوا في ذلك ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } ؛ أي ما هُم إلا يكذبون فيما قالوا ، ولم يتعرَّضْ لقولِهم { لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } بشيءٍ ؛ لأن هذا القولَ حقٌّ ، وإنْ كان من الكفار ، وهذا كقولهِ : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ }[النحل : 35] أي ولو جعلتَ قولَهُ { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } ردّاً لقولِهم { لَوْ شَآءَ الرَّحْمَـانُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } كان المعنى : أنَّهم قالوا : إنَّ الله قدَّرَنا على عبادتِهم فلم يُعاقِبْنا لأنه رَضِيَ ذلك ، وهذا كذبٌ منهم ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وإنْ قدَّرَ كُفرَ الكافرِ لا يرضاهُ ، وتقديرُ الكفرِ من الكافرِ لا يكون رضًى من اللهِ له.
(0/0)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ } ؛ أي هل أعطَيناهم كِتَاباً من قبلِ القرآن بأن يعبُدوا غيرَ اللهِ ، { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } ؛ أي آخِذُونَ بمَا فيه. ثم أعلمَ اللهُ أنَّهم اتَّبعُوا آباءَهم في الضَّلالةِ فقالَ تعالى : { بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } ؛ أي على سُنَّةٍ وملَّةٍ ودينٍ.
ومَن قرأ (عَلَى إمَّةٍ) بكسر الهمزةِ فمعناهُ : على طريقةٍ ؛ أي ليس لَهم حُجَّةٌ إلاَّ هذا القول ، { وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } ؛ أي ليس لهم حُجَّة إلاَّ تقليدُ آبائِهم.
(0/0)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } أي مُلوكُها وأغنياؤُها ورؤساؤها : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } ؛ بهم.
فقالَ اللهُ تعالى لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ } ؛ معناهُ : أتَّتبعون دينَ آبائكم وتكفُرون مِثلَهم ، ولو جئتُكم بأرشدِ مما وجدتُّم عليه آباءَكم ، فأَبَوا أنْ يقبَلُوا ذلك ؛ و { قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ }.
ثُم ذكَرَ ما فعَلَ بالأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ تخويفاً لَهم فقالَ تعالى : { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ؛ يعني ما صَنَعَ بقومِ نوحٍ وعاد وثَمود.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } معناه واذكُر يا مُحَمَّدُ إذ قالَ إبراهيمُ لأبيهِ وقومهِ حين خرجَ من السِّرب وهو ابنُ سبعَ عشرة سنةً ، رأى أباهُ وقومَهُ يعبدون الأصنامَ ، فقالَ لَهم : إنِّي بَرَاءٌ مما تعبُدون من دونِ الله تعالى ، { إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } ، إلاَّ مِن الذي خلَقَني فإنه سيحفَظُني ويُرشِدُني لدينهِ وطاعته.
وقوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } ؛ أي وجعلَ براءتَهُ عن عبادةِ غير الله وهي كلمةُ التوحيدِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ باقيةً في عَقِبهِ لكي يرجِعُوا إلى التوحيدِ ، ويدعُوا الخلقَ إليهِ ، فلا يزالُ في ولَدهِ مَن يوحِّدُ اللهَ تعالى. ومعنى الآيةِ : وجعلَها كلمةً باقيةً في ذريَّة إبراهيم ونَسلهِ ، فلا يزالُ في ذُريَّتهِ مَن يعبدُ اللهَ ويوحِّدهُ ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ أي لعَلَّ أهلَ مكَّة يتَّبعون هذا الدِّينَ ويرجعون إلى دِينكَ دينِ إبراهيمَ ، إذ كانوا مِن وَلدهِ. وقال السديُّ : (لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ إلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى).
ثُم ذكرَ نِعمَتهُ على قريشٍ فقالَ : { بَلْ مَتَّعْتُ هَـاؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ } ؛ يعني المشركين متَّعْتُهم بأموالِهم وأنفُسِهم وأنواعِ النِّعَمِ ، ولم أُعاجِلْهُم بعقوبةِ كُفرِهم ، بل أمهَلتُهم زيادةً في الْحُجَّةِ وقطعاً للمعذرةِ ، { حَتَّى جَآءَهُمُ الْحَقُّ } ؛ أي القرآنُ ، { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } ؛ للحُجَجِ وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ لَهم الأحكامَ والدينَ.
وكان من حقِّ الإنعَامِ أن يُطيعوا الرسولَ بإجابتهِ ، فلم يُجيبوه وعَصَوا ، وهو قولهُ : { وَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ قَالُواْ هَـاذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } ؛ أي لما جاءَ الرسولُ والقرآن ، نَسَبوا القرآنَ إلى السِّحر وجحَدُوا بهِ.
(0/0)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } ؛ أي قال كفَّارُ مكَّة : هلاَّ نُزِّلَ هذا القرآنُ على رجلٍ من القَريتَينِ مكَّة والطائف ، وعَنَوا بالرَّجُلين إما الوليدَ بنَ المغيرةِ من مكَّة ، وإما أبا مسعودٍ الثقفيِّ من الطائفِ ، ظَنُّوا بجهلِهم أنَّ استحقاقَ النبوَّة إنما يكون بشَرفِ الدُّنيا مع اعترافِهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن أرفعِهم نَسباً.
فقالَ اللهُ تعالى ردّاً عليهم وإنكاراً لِمَا قالوا : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } ؛ يعني النبوَّةَ التي هي مِن أعظمِ النِّعَمِ ، وذلك أنَّهم اعترَضُوا على اللهِ بقولِهم : لِمَ لَمْ ينْزِل هذا القرآنُ على غيرِ مُحَمَّدٍ ، فَبَيَّنَ اللهُ تعالى أنه الذي يقسِمُ النبوَّةَ لا غيرهُ.
قال مقاتلُ : (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أبأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ الرِّسَالَةِ فَيَضَعُونَهَا حَيْثُ شَاؤُا). فبيَّن اللهُ تعالى أنه لَمْ يجعَلْ أمرَ معايشِهم مع قلَّةِ خطرِ ذلك إلى رأيهم ، بل رفعَ بعضَهم فوقَ بعضٍ في الرِّزقِ ، وتلقاه شذ على ما تُوجبهُ الحكمةُ ، فقال تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي قسَمنا الرزقَ في المعيشةِ ، وليس لأحدٍ أن يتحكَّمَ في شيءٍ من ذلك ، فكيف نجعلُ أمرَ النبوَّة مع عِظَمِ قَدرهِ ورفعةِ شأنه إلى رأيهم ، قال قتادةُ في معنى (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) : (تَلْقَى الرَّجُلَ ضَعِيفَ الْحِيلَةِ عَيَّ اللِّسَانِ وَهُوَ مَبْسُوطٌ فِي الرِّزْقِ ، وَتَلْقَاهُ شَدِيدَ الْحِيلَةِ بَسِطَ اللِّسَانِ وَهُوَ مُقَتَّرٌ عَلَيْهِ).
وقولهُ تعالى : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } ؛ يعني الفضل في الغنى والمال { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } ؛ أي ليستخدِمَ بعضُهم بعضاً ، فيُسخِّر الأغنياءُ بأموالهم الفقراءَ لِيلتَئِمَ قِوَامُ أمرِ العالَم ، وقال قتادةُ : (لِيَمْلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فَيَتَّخِذُونَهُمْ عَبيداً وَمََمَالِيكَ). والسِّخْرِيُّ بالكسرِ مِن الاستهزاءِ ، وبالضَّم من التسخيرِ.
وقولهُ تعالى : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } ؛ أي وما خصَّكَ اللهُ به من النبوَّةِ خيرٌ لكَ مما يجمَعُون من المالِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ورحمةُ ربكَ يعني الجنَّةَ للمؤمنين خيرٌ مما يجمَعُ الكفَّارُ من الأموالِ.
(0/0)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } ؛ معناهُ : ولولاَ أن تَمِيلَ بالناسِ الدُّنيا فيصيرَ الخلقُ كلُّهم كُفَّاراً لأعطى اللهُ الكافرَ في الدُّنيا غايةَ ما يتمنَّى فيها لِهَوانِهَا وقلَّتِها عندَ الله تعالى ، ولكنَّهُ لم يفعَلْ ذلك لعلمهِ بأن الغالبَ على الخلقِ حبُّ العاجلةِ.
وقوله (سَقْفاً) من قرأهُ بالوحدانِ فهو على معنى جعلنا لكلِّ بيتٍ سَقْفاً من فضَّة. ومن قرأ (سُقُفاً) بضمَّتين فهو جمعُ سَقْفٍ ، مثلُ رَهْنٍ وَرُهُنٍ. ومَن قرأهُ (سُقْفاً) بضمِّ السين وجزمِ القاف فعلى تخفيفِ سِقْفٌ مثل رهْنٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } يعني الدَّرَجَ عليها يرتَفِعون ويَعلُون ، واحدُها مَعْرِجٌ ، ويقالُ مِعْرَاجٌ وَمَعَاريجُ وَمَعَارجُ ، مثل مَفَاتِيح وَمَفَاتِح في جمعِ مِفتاحٍ ، والمعنى : وكذلك جعلنا لَهم معارجَ من فضَّة عليها يصعَدُون.
(0/0)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } ؛ أي ولبُيوتِهم أبوَاباً من فضَّة وسُرُراً من فضَّة ، على سُرُُر الفضَّة يجلِسُون ويتَّكئِون ، وقولهُ تعالى : { وَزُخْرُفاً } ؛ الزُّخرُفُ هو الذهَبُ ، كأنَّهُ قال : وجعَلنا أمتِعَتَهم من الذهب.
هكذا في التفاسيرِ أنَّ المرادَ بالزُّخرُفِ الذهبَ ، إلاَّ أنَّهُ في اللغةِ الزُّخرف : كَمَالُ الزِّينةِ ، كما قال تعالى{ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا }[يونس : 24] ، ويجوزُ أن يكون قولهُ { وَزُخْرُفاً } عَطفاً على قولهِ{ مِّن فِضَّةٍ }[الزخرف : 33] كأنَّهُ قالَ : مِن فضَّةٍ وزُخرُفاً ، إلاَّ أنه لَمَّا قالَ حذفَ (مِنْ) جعل نصباً ، وهذا إنما يكون على قولِ الكوفِيِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ مَن قرأ (لَمَّا) بالتشديدِ فالمعنى : ما كلُّ ذلك إلاَّ متاعُ الحياةِ الدُّنيا, ومَن قرأ بالتخفيفِ فـ (مَا) صلةٌ زائدة ، والمعنى : وإنْ كلُّ لَمَا متاعُ الحياة الدنيا ، يُتَمَتَّعُ به إلى حين ثُم يفنَى ، وَ ثوابُ { وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ الكفرَ والفواحشَ ، والذي قرأ (لَمَّا) بالتشديدِ حمزةُ جعلَهُ في معنى إلاَّ ، وحُكي عن سيبويهِ : نشَدتُكَ لَمَّا فعلتَ ، بمعنى إلاَّ فعلتَ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " لَوْلاَ أنْ يَجْزَعَ عَبْدِي الْمُؤْمِن لَعَصَبْتُ الْكَافِرَ بعَصَابَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ، وَلَصَبَّبْتُ الدُّنْيَا عَلَيْهِ صَبّاً " قال : ومصداقُ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ }[الزخرف : 33].
(0/0)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } ؛ أي مَن يُعرِضُ عن ذكرِ الرَّحمنِ نُسَببْ له شَيطاناً يُضِلُّهُ ، يجعلُ ذلك جزاؤه ، { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } ؛ لا يفارقهُ في الدُّنيا والآخرةِ ، يقالُ : عَشِيَ إلى النار باللَّيل إذا تنَوَّرَها فقَصَدَها ، وعَشِيَ عنها إذا أعرضَ عنها قاصداً لغيرِها ، ونظيرُ هذا مالَ إليه ومالَ عنهُ ، قال الشاعرُ : مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلَى ضَوْءِ نَارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مَوْقِدِومَن قرأ (يَعْشَ) بفتح الشينِ وهو من عَشَى يَعشَى إذا لم يُبصِرْ بالليلِ ، والمعنى : ومَن يَعْمَ عن ذكرِ الرَّحمنِ.
قال الزجَّاجُ : (مَعْنَى الآيَةِ : وَمَنْ يُعْرِضْ عَنِ الْقُرْآنِ وَمَا فِيْهِ مِنَ الْحِكْمَةِ إلَى أبَاطِيلِ الْمُضِلِّينَ ، نُعَاقِبْهُ بشَيْطَانٍ نُقَيِّضُهُ لَهُ حَتَّى يُضِلَّهُ وَيُلاَزمَهُ قَرِيناً لَهُ فَلاَ يَهْتَدِي ، مُجَازَاةً لَهُ حِينَ آثَرَ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبينِ).
وقولهُ تعالى : { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } أي صاحبٌ يُزَيِّنُ له العَمَى ويُخَيِّلُ إليه أنَّهُ على الْهُدَى وهو على الضَّلالة ، وذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } ؛ معناهُ : وإنَّ الشياطين ليمنعونَهم عن سبيلِ الهدى ، { وَيَحْسَبُونَ } ؛ الكفارُ ، { أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ }.
(0/0)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَنَا } ؛ يعني الكافرَ إذا جاءَ يومَ القيامةِ { قَالَ } ، لقَرِينهِ وهو الشيطانُ الذي يُجعَلُ معه في سِلسلةٍ واحدةٍ : { يالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ } ؛ المشرقُ والمغرِبُ إذ كُنَّا في الدُّنيا فلم أرَكَ ولم تَرَنِي ، { فَبِئْسَ الْقَرِينُ } ؛ كُنْتَ لِي.
وإنما سُمِّيَ المشرقُ والمغربُ باسمٍ الواحد للازدواجِ ، كما يقالُ للشَّمسِ والقمر : القَمَرَانِ ، وفي تثنيةِ أبي بكرٍ وعمرَ : العُمَرَينِ ، قال الشاعرُ : أخَذْنَا بآفَاقِ السَّمَاءِ عَلَيْكُمُ لَنَا قَمَرَهَا وَالنُّجُومُ الطَّوَالِعُوقُرئ : (حَتَّى إذا جَاءَنَا) يعني الكافرَ وشيطانهُ يُبعثان يومَ القيامةِ في سلسلةٍ واحدة ، كما رُوي أنَّ الكافرَ إذا بُعث يومَ القيامةِ مِن قبرهِ أخذ بيدهِ شَيطانهُ فلم يُفارقْهُ حتى يُصَيِّرهُما اللهُ إلى النار ، فلذلك حيثُ يقولُ : (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدُ الْمَشْرِقَيْنِ فَبئْسَ الْقَرِينُ) ، ويقولُ اللهُ في ذلك اليومِ للكافرين " و " أنت أيها الشيطان : { وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ } ؛ أي إذا أشرَكتُم في الدُّنيا ، { أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ } ؛ قال المفسِّرون : لا يُخفَّفُ عنهم الإشراكُ شيئاً من العذاب ، لأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم الحظَّ الأوفرَ من العذاب ، ولا يستأنِسُ بعضُهم ببعضٍ.
(0/0)
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ } ؛ أي أفأنتَ تُسمِعُ الكفارَ الذين يتصَامَمُون عن الحقِّ ويتعامَون عنهُ ، { وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي بَيِّنٍ قد ظهرَتْ ضَلالتهُ.
(0/0)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
وقولهُ تعالى : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ } ؛ أي نُمِيتُكَ قبلَ أن نُرِيَكَ النَّقمَةَ في كفار مكَّة ، { فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } ؛ بالقتلِ بَعدَكَ ، { أَوْ نُرِيَنَّكَ } ؛ في حياتِكَ ما ، { الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ } ؛ من الذُلِّ ، { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ }. بَيَّنَ اللهُ تعالى أنه قادرٌ على عقوبتِهم في حالِ حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعدَ وفاتهِ.
والأصلُ : في (إمَّا) : (إنْ مَا) فحُذف الشرطُ (ان ما) صلةٌ ومتى دخلت (مَا) في الشرطِ للتوكيدِ دخلت النونُ الثَّقيلةُ المؤكِّدة في الفعلِ المذكور بعدَها.
ومعنى الآية : أنَّ الله تعالى " قالَ " مُطَيِّباً لقلب نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم : إنْ ذهَبْنَا بكَ انتقَمنَا لكَ مِمَّنْ كَذبَكَ بعدَكَ أو نُرِيَنَّكَ في حياتِكَ ما وعدنَاهم من العذاب ، فإنَّا قادِرُون عليهم متى شِئْنَا عذبنَاهُم ثم أُريَ ذلِكَ يومَ بدرٍ.
(0/0)
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ } ؛ أي استَمسِكْ بالقُرآنِ ، { إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ؛ أي القرآنُ شَرَفٌ لكَ ولَهم ، { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } ؛ عن شُكرِ هذه النِّعمةِ ، يعني ما أعطاهُ الله من الحكمةِ وقومَهُ المؤمنين من الْهُدَى بالقرآنِ إلى إدراكِ الحقِّ ، وقال مجاهدُ : (الْقَوْمُ هَا هُنَا الْعَرَبُ ، وَالْقُرْآنُ لَهُمْ شَرَفٌ إذْ نَزَلَ بلُغَتِهِمْ).
(0/0)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَـانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؛ وذلك أنه " لَمَّا أُسرِيَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم بعثَ اللهُ آدمَ وجميعَ الْمُرسَلِينَ وأذنَ جبريلُ ثم أقَامَ ، وقالَ : يا مُحَمَّدُ تقَدَّمْ فصَلِّ بهم ، فلمَّا فرغَ من الصَّلاةِ قَالَ جِبْرِيلُ : سَلْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ ، هَلْ أرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ جَوَازَ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ أسْأَلُ قَدِ اكْتَفَيْتُ " ".
وَقِيْلَ : معناهُ : اسأَل أُمَمَ مَن أرسَلنا قبلَكَ ، يعني مؤمني أهلِ الكتاب سَلْهُم هل جاءَتْهم الرُّسُلُ إلاَّ بالتوحيدِ ، فلم يشُكَّ ولم يسأَلْ ، (ومعنى الأمرِ بالسُّؤال لتقريرِ مُشرِكي قريشٍ أنه لَمْ يأتِ رسولٌ ولا كتابٌ بعبادةِ غير اللهِ تعالى).
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
وقولهُ تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَـاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَـالَمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُم بِآيَاتِنَآ إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } ؛ أي يَهْزَأُونَ ويضحَكُون منها جَهْلاً وغفلةً.
(0/0)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
وقولهُ تعالى : { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } ؛ يعني ما نرادفُ عليهم من الطُّوفان والجرَادِ والقُمَّلِ والضفادعِ والدَّمِ والطَّمْسِ ، وكانت كلُّ آيةٍ من هذه الآياتِ أكبرَ مِن التي قبلَها ، وهي العذابُ المذكور في قولهِ تعالى : { وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ لأنَّهم عُذِّبوا بهذه الآياتِ.
(0/0)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ يَاأَيُّهَ السَّاحِرُ } ؛ قال الكلبيُّ : (يَا أيُّهَا الْعَالِمُ ، وَكَانَ السَّاحِرُ فِيْهِمْ عَظِيماً يُعَظِّمُونَهُ ، ولَمْ يَكُنْ " السِّحْرُ " صِفَةَ ذمٍّ ، وَكَانَ عُلَمَاؤُهُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ السَّحَرَةُ ، فَكَانُواْ يُوَقِّرُونَهُ بهَذا الْقَوْلِ ، وَلَمْ يُرِيدُوا شَتْمَهُ).
وقوله تعالى : { ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } ؛ أي سَلْ ربَّكَ بما عَهِدَ عِندَكَ فيمن آمنَ بكَ ليكشِفَ العذابَ عنَّا ، والمعنى : بمَا عَهِدَ فيمَنْ آمنَ به من كشفِ العذاب عنه ، { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } ؛ مُؤمنون بكَ.
فدَعَا مُوسَى ربَّهُ فكشفَ عنهم فلم يُؤمِنُوا ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } ؛ العهدَ الذي عَاهَدُوا موسَى ، معناهُ إذا هم يَنْقُضُونَ عهُودَهم.
(0/0)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } ؛ إلى قولهِ : { قَالَ ياقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ؛ يعنِي أنْهارَ النِّيلِ تجرِي مِن تَحتِي ؛ أي من تحتِ قُصوري وفي بساتينِي ، وقال الحسنُ : (بأَمْرِي) فعلى هذا معناهُ : من تحتِ أمري ، أفلا تُبصِرُونَ عظَمَتي وشدَّةَ مُلكِي وفضلِي على موسى.
(0/0)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هَـاذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ } ؛ أي بل أنا خيرٌ من هذا الذي هو ضعيفٌ حقير ، يعني موسَى ؛ وإنما وصفَهُ بهذا لأنه كان يقومُ بأمرِ نفسه ، ولم يكن أحدٌ يقومُ بأمرهِ ، ومن ذلك المهنَةُ ، وقولهُ تعالى : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } ؛ أي لا يكادُ يُبينُ الكلامَ ، يعني أنه كان بلسانهِ لَثْغَةً من أثرِ العُقدةِ التي كانت ، وكان ذلك بَليغاً مُبيناً.
(0/0)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
قَولُهُ تََعَالَى : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } ؛ معناهُ : قالَ فرعونُ : هلاَّ أُلقِيَ على موسى أسوِرَةٌ من ذهبٍ إن كان رَسُولاً كما يُسَوِّرُ الملوكُ رُسُلَهم تَعظيماً لهم ، وكان آلُ فِرعَون يلبَسُون الأسَاورَ ، والأسْوِرَةُ جمعُ السِّوَار ، والأسَاورُ جمعُ الأسْوِرَةِ.
وقولهُ تعالى : { أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلاَئِكَةُ مُقْتَرِنِينَ } ؛ أي مُتَتابعِين يُعِينُونَهُ على أمرهِ الذي بُعث له ، ويشهَدُون له بصِدقهِ. والمعنى : أنَّ فرعون قالَ : هلاَّ جاءَ معه الملائكةُ متعاونين يَمشُونَ معه فيدُلُّون على صدقهِ بنبوَّتهِ.
(0/0)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } ؛ أي استخفَّ فرعونُ عُقُولَ قومهِ القبطِ فوجَدَهم خِفَافَ العقولِ فأطاعوهُ على تكذيب موسى ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ؛ أي خارجين عن أمْرِنا.
(0/0)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
وقولهُ تعالى : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ } ؛ أي فلَمَّا أغضَبُونا انتقَمنا منهم ، وجازَيناهم على معاصِيهم ، { فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ }. والآسَفُ : الْغَضَبُ في هذه الآيةِ ، وأصلهُ في اللغة : الْحُزْنُ ، إلاَّ أن الحزنَ لا يجوزُ في صفاتِ الله.
وقولهُ تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً } ؛ أي متقدِّمين ، وَقِيْلَ : سَلَفاً إلى النار ، { وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } ؛ يُتمَثَّلُ بهم في الهلاكِ إلى آخر الدَّهرِ.
وقرأ حمزةُ (سُلُفاً) بالضمِّ في السين واللامِ : جمعُ سَلِيفٍ وهو الماضِي مأخوذٌ من سُلُفٍ بضمِّ اللام يَسْلُفُ ؛ أي تقدَّمَ فهو سَلِيفٌ. ومَن قرأ (سُلَفاً) بضمِّ السين وفتحِ اللام فهو جمعُ سُلَفَةٍ وهي الفِرقَةُ التي قد مضَتْ.
(0/0)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : " لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ... } الآيةُ ، قَرَأهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى : أخَاصٌّ هَذا أمْ عَامٌّ ؟ فَقَالَ : " عَامٌّ " فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى : فَإنَّ عِيسَى تَعْبُدُهُ النَّصَارَى ، فَهُوَ وَالنَّصَارَى فِي النَّار ، وَعُزَيْرٌ تَعْبُدُهُ الْيَهُودُ ، وَخُزَاعَةُ تَعْبُدُ الْمَلاَئِكَةَ ، فَإنْ كَانَ هَؤُلاَءِ فِي النَّار فَآلِهَتُنَا خَيْراً مِنْهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } ".
والمعنى : لَمَّا شبَّهوهُ بآلهتهم { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } يعني قومَهُ الكفارَ كانوا يضُجُّون ضجيجَ المجادَلةِ ، حيث خاصَموهُ وقالوا : رضِينَا أن تكون آلهتَنا ، وهو قولُهم : { وَقَالُواْ ءَأَ الِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } ؛ أي ليست آلِهتُنا خيراً من عيسَى ، فإنْ كان عيسَى في النار بأنه يُعبَدَ من دونِ الله فآلِهتُنا في النار.
قرئ (يَصِدُّونَ) بكسرِ الصاد وضمِّها ، قال الفرَّاءُ والزجَّاجُ والأخفش والكسائيُّ : (هُمَا لُغَتَانِ ، مَعْنَاهُمَا : يَضُجُّونَ). وَقِيْلَ : يَصُدُّونَ : يُعْرِضُونَ. ومَنَ قرأ بكسرِ الصاد فمعناهُ : يضحَكُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } ؛ أي ما ذكَروا لكَ وصفَ عيسى إلاَّ لِيُجادِلُوكَ به ؛ لأنَّهم قد علِمُوا أن المرادَ بحصَب جهنَّم ما اتخذوهُ من الموتِ.
ثم ذكرَ أنَّهم أصحابُ خصُومَاتٍ فقالَ : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } ؛ أي جَدِلُونَ بالباطلِ ، وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ أنه قالَ : (مَا ضَلَّ قَوْمٌ إلاَّ أُوْتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ).
(0/0)
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } ؛ فيه بيانُ أنَّ عيسَى عليه السلام عبدٌ مثلُهم فضَّلَهُ بالنبوَّةِ والرسالةِ ، والمعنى : أنعَمْنا عليه بالنبوَّةِ ، { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي جَعلنا خلقَهُ بغيرِ الأب آية تدلُّهم على وحدانيَّةِ اللهِ تعالى وقُدرتهِ على ما يريدُ.
ثم خاطبَ كفارَ مكَّة فقالََ تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } ؛ أي لو نشاءُ أهلَكنَاكُم وجعلنا بَدَلاً منكم ملائكةً ، { فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ } ؛ كم يكون خَلَفاً منكم.
(0/0)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } ؛ يعني نزولَ عيسى من أشراطِ السَّاعَةِ نعلمُ به ، { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } ؛ أي لاَ تَشُكُّنَّ في القيامةِ إنَّها كائنةٌ ، ولا تُكَذِّبُوا ، وَ ؛ قُل لَهم : { وَاتَّبِعُونِ } ؛ على التوحيدِ ، و { هَـاذَا } ؛ الذي أنا عليهِ ، { صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ؛ أي دينٌ قائم لا عِوَجَ فيهِ ، { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } ؛ أي لا يَصرِفنَّكُم عن هذا الدينِ ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي ظاهرُ العداوةِ.
(0/0)
وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالْمُعجِزَاتِ ، وقال قتادةُ : (يَعْنِي الإنْجِيلَ) ، وقوله تعالى : { قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ } ؛ أي بالإنجيلِ ، وَقِيْلَ : بالنبوَّةِ ، وَ ؛ جئتكم { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } ؛ فيما بينكم ، قال مجاهدُ : (مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ).
فإن قِيْلَ : فهلاَّ بَيَّنَ لَهم جميعَ ما اختلَفُوا فيه وقد أُرسِلَ إليهم ؟ قُلنا : قد اختلفوا فيه ؛ قال بعضُهم : إنَّ الذي جاءَ به عيسى في الإنجيلِ إنما هو بعضُ الذي اختلَفُوا فيهِ ، وقد بيَّنَ لهم من غيرِ الإنجيلِ ما احتاجُوا إليه.
وقال بعضُهم : معناهُ : لأُبَيِّنَ لكم بعضَ الكتاب الذي تختلفون فيهِ ، إذ كانوا مختلفين في بعضِ التَّوراةِ. وقال بعضُهم معناهُ : لأُبيِّنَ لكم أمرَ دينكم لأنَّهم كانوا مُختلفين في أمرِ دينهم ودُنياهم ، والمقصودُ من إرسالِ الرسُلِ بيانُ الدينِ ، فكان ذلك بعضَ ما اختلفوا فيه ، وقد يذكَرُ البعضُ أيضاً بمعنى الكلِّ ، كما قالَ الشاعرُ : قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُوأرادَ بالبعضِ الكلَّ ، لأن المستعجلَ أيضاً قد يدركُ البعضَ ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ }.
(0/0)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } ؛ يعني اليهودَ والنصارَى ، وَقِيْلَ : المرادُ فِرَقَ النصَارَى على ما تقدَّم ذِكرهُ من الاختلافِ فيما بينهم في عيسَى عليه السلام ، وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } ؛ أي هل ينظُرون إلاَّ القيامةَ أن تأتِيَهم فجأةً على غِرَّةٍ منهم ، " مِنْ " غير تأهُّبٍ ولا استعدادٍ ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ وقتَ مجِيئها.
فإنْ قِيْلَ : كيف تُسمَّى القيامةُ الساعةَ وهي تشتملُ على خمسين ألفَ سَنة ؟ قلنا : إنما سُمِّيت ساعةً لسُرعَةِ مجيئِها ، ولأنَّها في جنب ما وراءَـها ساعةٌ ، وهي سريعةُ الانقضاءِ على المؤمنين.
(0/0)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } ؛ يعني الأخِلاَّءَ في يومئذٍ ؛ أي يومَ تأتي الساعةُ { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } يعني إذا كانت الْخِلَّةُ على المعصيةِ والكُفرِ صارت عداوةً يومَ القيامةِ ، { إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } يعني المؤمنينَ الذين يُخَالِلُ بعضُهم بعضاً على الإيمانِ والتقوَى ، فإنَّ خِلَّتَهُمْ لا تصيرُ عدواةً.
وفي الحديثِ : " أنَّ الأَخِلاَّءَ أرْبَعَةٌ : مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ، فَإذا سُئِلَ الْمُؤْمِنُ عَنْ خَلِيلِهِ ، قَالَ : مَا عَلِمْتُهُ إلاَّ أمَّاراً بالْمَعْرُوفِ نَهَّاءً عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَيُسْأَلُ الْمُؤْمِنُ الثَّانِي عَنْ خَلِيلِهِ ، فَيَقُولُ مِثْلَ ذلِكَ ، وَيُثْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبهِ خَيْراً ، فَتَزْدَادُ مُخَالَلَتُهُمَا فِي الآخِرَةِ عَلَى الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا. ثُمَّ يُسْأَلُ أحَدُ الْكَافِرِيْنِ عَنْ خَلِيلِهِ ، فَيَقُولُ : بئْسَ الأَخُ ؛ مَا عَلِمْتُهُ إلاَّ أمَّاراً بالْمُنْكَرِ ، نَهَّاءً عَنِ الْمَعْرُوفِ ، اللَّهُمَّ أضْلِلْهُ كَمَا أضَلَّنِي ، وَيَقُولُ الآخَرُ مِثْلَ ذلِكَ ، وَيُثْنِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبهِ شَرّاً وَتَنْقَلِبُ مُخَالَلَتُهُمَا عَدَاوَةً ، لأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي ذاتِ اللهِ تَعَالَى ".
(0/0)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70)
قوله تعالى : { ياعِبَادِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } ؛ أي يقالُ للمتَّقين : يا عِبَادِي لا خوفٌ عليكم من أهوالِ القيامة وما بعدَها ، ولا أنتُم تَحزَنُونَ إذا حَزِنَ الناسُ ، فقولهُ : (الَّذِينَ) موضعُ نصبٍ على النعتِ لِعِبَادِي ، لأن عِبَادِي مُنَادَى مضاف.
وقولهُ تعالى : { وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } أي خَاضِعينَ مُنقَادِين ، يقالُ لَهم : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } ؛ أي لأَنْتُم وحَلائِلِكُم المؤمناتِ تُكرَمُونَ غايةَ الإكرامِ بالتُّحَفِ والهدايا. ويقالُ : معنى : تُحبَرُونَ : تُسَرُّونَ ، والْحُبُورُ السُّرُورُ.
(0/0)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
وقولهُ تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } ؛ أي يَطُوفُ عليهم خَدَمُهم بقِصَاعٍ من ذهبٍ فيها من أنواعِ الأطعمَةِ اللَّذِيذةِ الشَّهيَّةِ ، وواحدُ الصِّحَافِ : صَحْفَةٌ ؛ وهي القَصْعَةُ الواسعةُ العريضة ، وقولهُ تعالى : { وَأَكْوَابٍ } ؛ أي وأكوابٍ من ذهَبٍ ، والأكوابُ جمع الكُوب ، وهو إناءٌ مستدير مُدَوَّرُ الرأسِ لا عُروةَ له. وَقِيْلَ : الأكوابُ هي الأباريقُ التي لا خرَاطِيمَ لها ولا أُذُنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ } ؛ أي في الجنَّة ما تتمنَّى الأنفُسُ وتستحسنهُ الأعيُن ، { وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ مِن الأعمالِ الصالحة ، { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } ؛ ألوان الفاكهةِ الكثيرة ، { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ }.
(0/0)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } ؛ أي إنَّ الْمُجرِمِينَ في عذاب جهنَّم دائمون ، { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } ؛ أي يُرَفَّهُ عنهم ولا يُهَوَّنُ عليهم ، { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } ؛ أي آيسُونَ مِن الرَّوْحِ والرَّاحَةِ.
والإبْلاَسُ هو : اليأسُ من الخيرِ ، والْمُبْلِسُ هو الساكتُ المنقطعُ لِيَأْسِهِ من الفرحِ ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } ؛ بهذا العذاب ، { وَلَـاكِن كَانُواْ هُمُ الظَّالِمِينَ } لأنفُسِهم بالكفرِ والمعاصي.
وفي قراءةِ ابنِ مسعود (الظَّالِمُونَ) بالرفعِ على لُغة تَميم يُعمِلُونَ الْمُضْمَرَ قبلَهُ ، وأما على القراءةِ التي ليست في المصحَفِ (فَهُمْ) زيادةٌ وفصلٌ لا موضعَ لها من الإعراب بمنْزِلة (مَا) في قولهِ{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ }[آل عمران : 159].
(0/0)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَوْاْ يامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } ؛ وذلكَ أنَّهُ إذا اشتدَّ عليهم العذابُ وقد صيَّرَهم ، تَمَنَّوا الموتَ ، فنادَوا مَالِكاً خازنَ جهنَّم : يا مالِكُ ادعُ لنا ربَّكَ يقضِي علينا بالموتِ فنستريحَ من العذاب بعد أربعين سنةً ، { قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } ؛ مُقيمون دائمون ، وعن ابنُ عبَّاس : (أنَّهُمْ يُنَادُونَ مَالِكاً ألْفَ سَنَةٍ فَيُجِيبُهُمْ : إنَّكُمْ مَاكِثُونَ فِي الْعَذاب) ، وقرأعليٌّ وابنُ مسعودٍ : (يَا مَالِ) بالترخيمِ.
(0/0)
لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ } ؛ أي لقد أرسَلنا إليكم يا معشرَ قُريش مُحَمَّداً رسُولَنا بالحقِّ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
(0/0)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
وقولهُ تعالى : { أَمْ أَبْرَمُواْ أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } ؛ أي بل احكَمُوا عند نُفوسِهم أمراً في كيدِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والْمَكْرِ به ، فإنَّا مُحكِمُونَ أمْراً في مُجازَاتِهم شَرّاً بشَرٍّ.
(0/0)
أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } ؛ السِّرُّ ما يعقدهُ الإنسانُ في نفسهِ ويُضمِرَهُ بقلبهِ ، والنَّجوَى ما يُحَدِّثُ به غيرَهُ في الخِفْيَةِ ، وقولهُ تعالى (بَلَى) أي نسمَعُ سِرَّهم ونَجوَاهُم ، ورسُلُنا هم الْحَفَظَةُ عندَهم ، يكتُبونَ عليهم ذلكَ.
ويقالُ : إنَّ هذه الآيةَ نزلت في ثلاثةِ نَفَرٍ من المشركين ، وهم صفوانُ بن أُمَية ، وربيعةُ بن عمرٍو وأخوهُ حبيبُ بن عمرٍو ، وكانوا يَمْكُرُونَ في قتلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أخبرْنَا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقولُ لأصحابهِ : إنَّ الله يعلَمُ السرَّ يكون بين الاثنينِ ، أفَتَرَوْنَهُ يعلمُ ما نقولُ ؟ قال ربيعةُ : أراهُ يعلَمُ بعضَ ما نقولُ ولا يعلَمُ بعضاً ، فقال صفوانُ : ولا كلمةً واحدةً ، ولو عَلِمَ بعضَهُ لعلمَهُ كُلَّهُ ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ.
(0/0)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } ؛ وذلك أنَّ المشركين لَمَّا قالوا : لله ولدٌ! ولَم يرجِعُوا عن مَقالَتِهم ، أنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ، والمعنى : قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : { إِن كَانَ لِلرَّحْمَـانِ وَلَدٌ } في زَعمِكم { فَأَنَاْ أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } مَن عبدَ اللهَ وحدَهُ وكذبَكم بما تقولون ، هكذا رُوي عن مجاهد.
وقال قتادةُ والحسن : (مَعْنَاهُ : مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ، وَأنَا أوَّلُ مَنْ عَبَدَ اللهَ مِنْ أهْلِ هَذا الزَّمَانِ). وَقِيْلَ : معناهُ : إنْ كان للرَّحمنِ ولدٌ كما تزعمون فأنَا أوَّلُ مَن غَضِبَ للرحمنِ ، فعلى هذا القولِ العَابدُ من العَبَدِ بمعنى الغَضَب. وقال الفرَّاءُ : (عَبَدَ عَلَيْهِ أيْ غَضِبَ عَلَيْهِ). وَقِيْلَ : معناهُ : فأنا أوَّلُ الآنِفِينَ ، يقالُ : عَبَدَ يَعْبُدُ ؛ إذا أنِفَ وَغَضِبَ.
(0/0)
سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ نَزَّهَ اللهَ تعالى نفسَهُ مما يقولُ المشركون ؛ أي تَنْزِيهاً لخالقِ السَّمواتِ والأرضِ ، { رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ يُضِيفُونَ إليه مِن الولدِ.
(0/0)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
وقوله تعالى : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَـاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } ؛ أمرٌ بتركِهم على وجه التوبيخِ ؛ أي اترُكْ يا مُحَمَّدُ كفارَ مكَّة يخوضُوا في أباطيلِهم ، ويلعَبُوا في دُنياهم بمقالتِهم حتى يُعاينُوا يومَ القيامةِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
وقولهُ تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمآءِ إِلَـاهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَـاهٌ } ؛ أي هو معبودُ مَن في السَّموات ومَن في الأرضِ ، لا معبودَ غيرهُ ولا إلهَ إلاَّ هُوَ ، { وَهُوَ الْحَكِيمُ } ؛ في أمرهِ وقضائه ، { الْعَلِيمُ } ؛ بخلقهِ وتدبيرِهم.
(0/0)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وقولهُ تعالى : { وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } ؛ أي تعالَى ودامَ الذي بيدهِ خزائنُ السموات والأرضِ وما بينهما ، { وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } ؛ أي عِلمُ قيامِ الساعة ، لا يعلَمُ وقتَها أحدٌ غيرهُ ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ في الآخرةِ.
(0/0)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } ؛ أي لا يَملِكُ الذين يدْعُونَ من دونهِ الشفاعةَ ، ثُم استَثْنَى عيسَى والعزيرَ والملائكةَ فقالَ : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ } ؛ أي مَن شَهِدَ أنَّهُ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ؛ بقُلوبهم ما شَهِدُوا به بأَلسِنَتِهم. والمعنى : إلاَّ مَن شَهِدَ بكلمةِ التوحيد ، وعَلِمَ بقَلْبهِ أنَّها حقٌّ.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
وقولهُ تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؛ أي ولئِنْ سألتَ هؤلاءِ الذين عَبَدُوا غيرَ اللهِ : مَن خلَقَهم وخلَقَ معبودَهم ؟ ليقُولُنَّ : اللهُ خلَقَهم ، فمِن أين يُصرَفُونَ عن عبادةِ اللهِ مع معرفتِهم بأنه الخالقُ ، والخالقُ أولى بالعبادةِ من المخلوقِ؟
(0/0)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقِيلِهِ يارَبِّ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ؛ من قرأ بنصب اللام ؛ فمعناهُ : يعلمُ قيامَ الساعة ، ويعلمُ (قِيلَهُ) محمد يا ربِّ ؛ لأن معنى{ وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ }[الزخرف : 85] ويعلمُ قيامَ الساعةِ. وقيل : انتصبَ عطفاً على قوله{ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم }[الزخرف : 80] كأنه قال : أمْ يحسبون أنا لا نسمعُ سِرَّهم ونجواهم ، (وَقِيلَهُ) يا ربِّ في شكوى منهم إلى ربه. قال المبرِّدُ : (الْعَطْفُ عَلَى الْمَنْصُوب حَسَنٌ وَإنْ تَبَاعَدَ الْمَعْطُوفُ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ).
ومَن قرأ (وَقِيلِهِ) بكسرِ اللامِ فهو على معنى : وعندَهُ علمُ الساعةِ وعلمُ قِيلِهِ. والقِيْلُ مصدرٌ كالقولِ ، يقالُ : قلْتُ قَوْلاً وقِيْلاً وقَالاً. ولو قُرئ (وَقِيلُهُ) بالرفعِ على معنى : وقيلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، هذا كان جائزاً في الكلامِ.
(0/0)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ } ؛ أي أعرِضْ عنهم إلى أن تُؤمَرَ فيهم بشيءٍ ، { وَقُلْ سَلاَمٌ } ، قال عطاءُ : (يُرِيدُ مُدَارَاةً حَتَّى يَنْزِلُ حُكْمِي) ، ومعناهُ : الْمُتَارَكَةُ ؛ أي سلامُ هِجرَانٍ وتركٍ لا سلامَ تحيَّةٍ ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ؛ عاقبةَ كُفرِهم ، وماذا ينْزِلُ بهم فيَندَمُونَ حين لا ينفعُهم الندمُ.
ومَن قرأ (تَعْلَمُونَ) فعلى الأمرِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يُخاطِبَهم بهذا ، قال مقاتلُ : (نَسَخَ السَّيْفُ الإعْرَاضَ وَالسَّلاَمَ).
(0/0)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حـم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } ؛ أوَّلُ السورةِ قَسَمٌ ، وجوابهُ : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } ؛ وَقِيْلَ : جوابهُ : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } لأنه ليس من عادةِ العرب أن يُقسِمُوا بنفسِ الشيء الذي يُخبرُونَ عنه ، فعلَى هذا يكون قولهُ : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } مُعتَرِضاً بين القسَمِ والجواب ، { فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } ، والليلةُ المباركَةُ : هي ليلةُ القَدْرِ ، { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ، أنزلَ اللهُ فيها القرآنَ إلى السَّفَرَةِ في السَّماءِ الدُّنيا ، فوضعوهُ في بيت العِزَّةِ ، ثُم كان جبريلُ يَنْزِلُ به على النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً بعدَ شيءٍ على مقدار الحاجة ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس ، وقد قدمنا ذلكَ في قولهِ تعالى{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ }[البقرة : 185].
وسُمِّيت هذه الليلةُ مباركةً لأنَّ فيها الرحمةُ ومغفرةُ الذنوب ، وفيها يقدِّرُ اللهُ الأشياءَ من أرزاقِ العباد وآجالِهم وغيرِ ذلك من الأمُور. ويقالُ : إنما سُمِّيت مباركةً لأنه لا يُقدِّرُ فيها شيئاً من الْمَكَارهِ ، كما قالَ تعالى : { سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }[القدر : 5].
وعن عكرمةَ أنه كان يقولُ : (اللَّيْلَةُُ الْمُبَارَكَةُ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فِيهَا يُقْضَى كُلُّ أمْرٍ فِيْهِ حِكْمَةٌ ، وَفِيهَا يُنْسَخُ لِجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإسْرَافِيلَ وَمَلَكُ الْمَوْتِ جَمِيعَ مَا هُمْ مُوَكَّلُونَ بهِ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ). وكان ابنُ عبَّاس يقولُ : (إنَّكَ لَتَلْقَى الرَّجُلَ فِي السُّوقِ قَدْ كُتِبَ اسْمُهُ فِي الْمَوْتَى). والصحيحُ : أنَّ الليلةَ المباركةَ هي ليلةُ القَدْر ، وعليه أكثرُ المفسِّرين.
(0/0)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } ؛ انتصبَ بـ (يُفْرَقُ) بمنْزِلة (يُفْرَقُ) لأن (أمْراً) بمعنى فَرْقاً. وفيه بيانُ أنَّ الذي يُفْرَقُ في هذه الليلةِ لا يكون إلاَّ من عندِ الله تعالى وتدبيرهِ ، كأنَّهُ قال : بأمرٍ مِن عندِنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } ؛ أي مُرسلِين مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ومَن قَبلَهُ من الأنبياءِ ، { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } ؛ أي رَأفَةً منِّي بخَلْقِي ونعمةً عليهم. وانتصبَ على أنه مفعولٌ له على تقديرِ الرَّحمةِ ، وقال الزجَّاجُ : (تَقْدِيرُهُ : إنَّا أنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ لِلرَّحْمَةِ). { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لِمَا يقولهُ الْمُحِقُّ والْمُبْطِلُ ، { الْعَلِيمُ } ، بأفْعَالِ العبادِ.
(0/0)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
وقولهُ تعالى : { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } ؛ بالخفضِ على البدلِ من قوله { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ }. وقولهُ تعالى : { وَمَا بَيْنَهُمَآ } يعني من الهواءِ والخلقِ. وقوله تعالى : { إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ } ؛ معناهُ : أنَّ الذي دَبَّرَ السمواتِ والأرضَ هو الذي دَبَّرَ بإرسالِ الرُّسُلِ رحمةً منه ، فإنْ كُنتم مُوقِنينَ بتدبيرهِ في السَّمواتِ والأرض ، فأَيقِنُوا إنَّما هو مثلهُ. واليقينُ : ثَلْجُ الصَّدر بالْعِلْمِ ، ولذلك يقالُ : وجدَ بَرْدَ اليَقِينِ ، ولا يجوزُ في صفاتِ الله تعالى : مُوقِنٌ ، ويجوزُ : عَلِيمٌ وعَالِمٌ.
(0/0)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
وقولهُ تعالى : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ } ؛ يعني الكفارَ من هذا القرآنِ ، { يَلْعَبُونَ } ؛ أي يَهْزَأُونَ به لاَهِينَ عنهُ.
(0/0)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
وقوله تعالى : { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَـاذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَّبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مْؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } ؛ وذلك أنَّ الْمُشْرِكِينَ بَالَغُوا فِي إيْذاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويَئِسَ مِنْ إيْمَانِهِمْ بهِ ودعَا عَلَيْهِمْ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرٍ وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ ".
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ ، فَأَخَذتْهُم السَّنَةُ حَتَّى أكَلُوا الْجِيَفَ وَالْكِلاَبَ وَالْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ مِنَ الْجُوعِ ، وَارْتَفَعَ الْقَطْرُ وَأجْدَبَتِ الأَرْضُ ، وَكَانُواْ إذا نَظَرُواْ إلَى السَّمَاءِ رَأوا دُخَّاناً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لِلظُّلْمَةِ الَّتِي غَشِيَتْ أعْيُنَهُمْ وأبْصَارَهُمْ مِنْ شِدَّةِ الْجُوعِ. ويقال : يَبسَتِ الأرضُ وانقطعَ الغيثُ.
والمعنى : فانتظِرْ يا مُحَمَّدُ يومَ تأتِي السَّماءُ بدُخَانٍ مُبينٍ ، " فَجَاءَ أبُو سُفْيَانَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدٌ جِئْتَ تَأْمُرُنَا بصِلَةِ الرَّحِمِ وَإنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُواْ ، فَادْعُ اللهَ لَهُمْ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ دَعَوْتُكَ فَأَجَبْتَنِي ، وَسَأَلْتُكَ فَأَعْطََيْتَنِي ، اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثاً مُغِيْثاً مَرِيّاً مَرِيعاً طَبَقاً عَاجِلاً غَيْرَ آجِلٍ نَافِعاً غَيْرَ ضَارٍّ " ، فَمَا بَرِحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أنْزَلَ اللهُ الْمَطَرَ.
وَجَاءَ النَّاسُ يَشْتَدُّونَ وَقَالُواْ : الْغَرَقُ الْغَرَقُ ، فَقَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم { إنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } فَكَشَفَ اللهُ عَنْهُمُ الشِّدَّةَ ، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْكُفْرِ " فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } ؛ وذلك يومُ بدرٍ ، { إِنَّا مُنتَقِمُونَ }.
وهذا التأويلُ إنما يستقيمُ على قولِ ابن مسعودٍ فإنه كان يقولُ : (خَمْسٌ قَدْ مَضَيْنَ : الدُّخَّانُ وَالرُّومُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ) وكان يذهبُ إلى أنَّ البطشةَ الكُبرَى هي التي أصابَتْهُم يومَ بدرٍ ، وذلك أعظمُ من الجوعِ الذي أصابَهم بمكَّةَ.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ المرادَ بالدُّخان في هذه الآياتِ : الدخَّانُ الذي يُنْزِلهُ اللهُ تعالى عندَ قيامِ الساعة ، ثم يغشَاهُم عذابٌ أليم بعدَ ذلك ، كما رُوي عن مسروقٍ أنه قالَ : (إذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَزَلَ دُخَّانٌ مِنَ السَّمَاءِ ، فَأَخَذ بأَسْمَاعِ الْكُفَّار وَالْمُنَافِقِينَ وَأبْصَارهِمْ حَتَّى تَصِيرَ رُؤُوسُهُمْ كَالرَّأسِ الْحَنِيذِ ، وَيَأْخُذُ الْمُؤْمِنِينَ بمَنْزِلَةِ الزُّكَامِ).
فعلى هذا القولِ يكون معنى قولهِ تعالى : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } أي مِن أين لَهم الذِّكرَى ، أي مِن أين ينفعُهم إيمانُهم { وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ } في الوقتِ الذي كانوا مكلَّفين فيه ثُمَّ أعرَضُوا عن الإيمانِ به { وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } أي هو معلِّمٌ يعلِّمهُ الجنُّ ، ويعترِضُون له. وَقِيْلَ : معناهُ : يعلِّمهُ بشَرٌ مجنونٌ بادِّعائهِ النبوَّةَ. ويكون معنى قولهِ : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ } أي عذابَ الدُّنيا بعد مجيءِ الرسولِ إلى وقت الدُّخان ، فمَهَّلَهُم لكي يتُوبُوا ، ولن يتُوبُوا.
والمرادُ بالبطشةِ الكُبرَى على هذا القولِ يومُ القيامةِ ، وأما على القولِ الأوَّلِ فقولهُ : { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى } أي التذكُّر والاتِّعاظُ ، يقولُ : كيف يتذكَّرُون ويتِّعِظون ، وحالُهم أنه قد جاءَهم رسولٌ مُبينٌ ظاهرُ الصِّدقِ والدلالة ، { ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ } أي أعْرَضُوا ولَمْ يقبَلُوا قولَهُ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ } يعني عذابَ الجوعِ { قَلِيلاً } أي زَمَاناً يَسِيراً ، قال مقاتلُ : (يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ إنَّكُمْ عَائِدُونَ فِي كُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبكُمْ) وفيه إعلامٌ أنَّهم لا يتَّعِظُون ، وإنه إذا رُفِعَ عنهم العذابُ عادُوا إلى طُغيانِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى } أي واذكُرْ لَهم ذلك اليومَ ، يعني يومَ بدرٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } ؛ أي كلَّفنا قبلَ أهلِ مكَّة قومَ فرعونِ مِن الطاعَةِ ما اشتدَّ عليهم ، { وَجَآءَهُمْ } ؛ موسَى ، { رَسُولٌ كَرِيمٌ } ، لا خلافَ على اللهِ تعالى.
(0/0)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
وقولهُ تعالى : { أَنْ أَدُّواْ إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ } ؛ أي بأَنْ أدُّوا إلَيَّ بني إسرائيلَ ، وهذا قولُ موسَى ، يقولُ : أطلِقُوا بني إسرائيلَ من العذاب والتسخيرِ ، فإنَّهم أحرارٌ ، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ } ؛ من اللهِ ، { أَمِينٌ } ؛ على الرسالةِ ، لستُ بخائنٍ ولا كذابٍ ولا كاتِمٍ مما أُوحِيَ إلَيَّّ ، { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي لا تتجبَّرُوا عليه بتركِ طاعته ، { إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ بحجَّةٍ بَيِّنَةٍ ظاهرةٍ تدلُّ على صِدقِي.
فلمَّا قالَ موسى هذه المقالةَ توعَّدُوهُ بالقتلِ بالحجارةِ ، فقال : { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } ، أي اعتصمتُ بخالقي وخالقكم من أن تقتلوني بالحجارة ، { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فَاعْتَزِلُونِ } ؛ أي وإنْ لَم تصَدِّقونِ فاترُكونِي لا معِي ولا عليَّ ، فلا أقلَّ مِن أن تَكُفُّوا شرَّكُم عنِّي.
فأَبَوا أن يقبَلُوا منه ، ولم يؤمنوا به ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَـاؤُلاَءِ قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } ؛ أي مُشرِكون ، ولم يَدْعُ إلاَّ بعد أنْ أُذِنَ له في الدُّعاء عليهم ، فدعا عليهم.
قَالَ اللهُ تَعَالَى له : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً } ؛ حتى تَقْطَعَ بهمُ البحرَ ، { إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } ؛ يتبعكم فرعونُ وقومهُ فيكون ذلك سَبباً لغَرقِهم ، فسارَ موسَى بمَن معَهُ من بني إسرائيلَ حتى أتَى بهم البحرَ ، فضربَهُ بعصاهُ بأمرِ الله تعالى فانفلَقَ ودخلَهُ أصحابهُ.
ثُم عطَفَ موسَى ليضرِبَ البحرَ بعصاهُ ليَلتَئِمَ ويخلطَ الطريقَ التي جعلَها اللهُ لبني إسرائيل حتى لا يعبُرَ فيها فرعونُ وقومه ، فقيلَ له : { وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً } ؛ أي سَاكِناً مُنفَتِحاً على ما هو عليه حتى يدخلَهُ فرعونُ وجنوده ، { إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } ؛ في حُكمِ اللهِ تعالى.
قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ اتْرُكْهُ رَهْواً ؛ أي اتْرُكْهُ طَرِيقاً). والرَّهْوُ : يكون بمعنى الفُرْجَةِ بين الشَّيئين ، ونظرَ أعرابيٌّ إلى فَالِجٍ ؛ فقالَ : سُبحان اللهِ! رَهُوٌ بين سِنَامَين ، فيكونُ المعنى على هذا : واترُكِ البحرَ ذا رَهْوٍ ؛ أي ذا فُرجَةٍ ، وهي الطريقُ التي أظهرَها اللهُ تعالى في الماءِ.
(0/0)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أي كَم ترَكَ فرعونُ وقومه بعدَ الغرقِ من بسَاتين عامرةٍ بليغةِ الأشجار ، وعيونٍ ظَاهرةٍ عَذْبَةٍ فيها زرعٌ ومساكن شريفةٌ حسَنةٌ ، { وَنَعْمَةٍ } ؛ أي وعيشٍ ليِّنٍ ، { كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } ؛ أي نَاعِمينَ متعجِّبين ، { كَذَلِكَ } ؛ كانت حالُهم. وَقِيْلَ : كذلك أفعَلُ بمَن عصَانِي ، { وَأَوْرَثْنَاهَا } ؛ وأورثنا ما تركوهُ ، { قَوْماً آخَرِينَ } ؛ وهم بنو إسرائيل ، رجَعُوا بعدَ هلاكِ فرعون إلى مصرَ فصارت أموالُ قومِ فرعون ونَعيمُهم لهم من غيرِ كُلفَةٍ ولا مشقَّةٍ ، كالميراثِ الذي ينقلُ من المورثِ إلى الوارثِ من غير مشقَّةٍ تلحقُ الوارثَ ، وهذا من غايةِ إنعامِ الله على بني إسرائيل.
(0/0)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ } ؛ أي ما بَكَتْ على فرعونَ وقومه ؛ أي كانوا أهْوَنَ من أن يَبكِي عليهم أحدٌ من أهلِ السَّماء والأرضِ ، إنَّهم كانوا في مقامِ الجدي.
قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلاَّ وَلَهُ فِي السَّمَاءِ بَابَان : بَابٌ يَصْعَدُ فِيْهِ عَمَلُهُ ، وَبَابٌ يَنْزِلُ فِيْهِ رزْقُهُ ، فَإذا مَاتَ بَكَيَا عَلَيْهِ ، وَكَذلِكَ مُصَلاَّهُ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيْهِ مِنَ الأَرْضِ " فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ }. وعن مجاهدٍ أنه قالَ : (إذا مَاتَ الْمُؤْمِنُ بَكَتْ عَلَيْهِ الأَرْضُ أرْبَعِينَ يَوْماً صَبَاحاً). وعن السديِّ قالَ : (لَمَّا قُتِلَ الْحُسَيْنُ رضي الله عنه بَكَتِ السَّمَاءُ عَلَيْهِ ، وَبُكَاؤُهَا حُمْرَةُ أطْرَافِهَا).
والمعنى على هذا : لَمْ يكن لفرعونَ وقومه موضعُ طاعةٍ في الأرضِ ولا مصاعِدُ طاعاتٍ في السَّماء فتفقِدَهم وتبكِي عليهم ، بخلافِ المؤمنين. وقولهُ تعالى : { وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } ؛ أي لَمْ يُنظَروا ولم يُمهَلُوا حين أخذهم العذابُ لتوبةٍ ولا لغيرِها.
(0/0)
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ } ؛ أي خلَّصنَاهُم مما كان فرعونُ يفعلُ بهم من ذبحِ الأبناء واستحياءِ النِّساء واستعمالِهم في الأمُور الشاقَّة. وقولهُ تعالى : { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } ؛ أي متَكبراً ؛ { مِّنَ الْمُسْرِفِينَ } ، من الْمُتَجَاوزينَ عن الحدِّ حتى ادَّعَى الإلهيَّة.
(0/0)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } ؛ أي اختَرنا بني إسرائيلَ بكَثرَةِ الأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ فيهم على عالَمي زمانِهم ، { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ } ؛ من فَلْقِ البحرِ وتظليلِ الغَمامِ وإنزال الْمَنِّ والسَّلوَى وغيرِ ذلك ، { مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } ؛ أي نعمةٌ ظاهرة.
(0/0)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ * إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأُوْلَى } ؛ راجعٌ إلى ذكرِ كفَّار مكَّة يقولون : ما الْمَوْتَةُ نَموتُها في الأُولى ثم لا نُبعَثُ بعدَها ، ومعنى قولهِ : { وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ } ؛ أي بمبعُوثِينَ ، وهذا ذمٌّ لهم على الجهلِ.
(0/0)
فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36)
وقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي قالوا فَأحْيي يا محمد آباءَنا الذين ماتوا حتى نسألَهم : أحقٌّ ما تقولُ أم باطلٌ ؟ ورُوي أنَّهم كانوا يقولون : إنْ كان ما تقولهُ فَأْتِ بقُصَيِّ بن كلابٍ ليُخبرَنا عنكَ ، فإنه كان صَدُوقاً فيما بيننا.
(0/0)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } ؛ خوَّفَهم اللهُ تعالى مثلَ عذاب الأُمم الخاليةِ ، فقال : (أهُمْ خَيْرٌ أمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) أي ليسوا خَيراً منهم ، يعني أقوَى وأشدَّ وأكثرَ ، والمعنى أهُمْ خيرٌ في القدرةِ والقوَّةِ والمالِ ، أمْ قومُ مَلِكِ اليمَنِ { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }.
وخصَّ مَلِكَ اليمنِ بالذِّكرِ لأنه كان أقربَ إلى زمانِهم. وتُبَّعُ اسمٌ لكلِّ مَن كان من مُلوكِ اليمنِ ، كما أنَّ فرعونَ اسمُ ملكِ مصرَ ، وقيصرَ اسمُ ملكِ الروم ، وكسرَى اسم ملك العجَمِ. وإنما سُمِّي ملكُ اليمنِ بهذا الاسمِ لكثرة تَبَعِهِ.
وجاءَ في التفسيرِ : أنَّ ملكَ اليمنِ الذي كان أقربَ إلى زمانِهم كان مُؤمناً ، وكان اسمهُ أسعَدُ بنُ مَلكي كرب ، وكان قومهُ كُفَّاراً. ورُوي عن عائشةَ أنَّها قالت : (كَانَ تُبَّعُ رَجُلاً صَالِحاً ، ألاَ تَرَى أنَّ اللهَ تَعَالَى ذمَّ قَوْمَهُ وَلَمْ يَذِمَّهُ). ورُوي : (أنَّهُ وُجِدَ مَكتُوباً عَلَى قَبْرَينِ بنَاحِيَةِ حِمْيَرَ : هَذانِ قَبْرَا رَضْوَى وَحَصْيَا ابْنَيْ تُبَّعٍ مَاتَا لاَ يُشْرِكَانِ باللهِ شَيْئاً).
(0/0)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ } ؛ أي لَمْ نخلِقْهُما عابثين ، { مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ؛ أي للحَقِّ ؛ أي للثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } ؛ أكثر المشركين ، { لاَ يَعْلَمُونَ }.
(0/0)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
وقولهُ تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ معناهُ : إنَّ يومَ الفَصْلِ بين الخلائقِ ميعادُهم أجمعين ، يُوافِي يومَ القيامةِ الأوَّلُون والآخِرون.
ثم نَعَتَ ذلك اليومَ فقال تعالى : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } ؛ أي يومَ لا ينفعُ فيه صديقٌ صديقاً ولا قريبٌ قريباً ، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ؛ أي ولا يُمنَعُونَ من عذاب الله ، { إِلاَّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ } ؛ وهم المؤمنون ، فإنه يَشْفَعُ بعضُهم لبعضٍ ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَإنَّ الرَّجُلَ مِنْ أُمَتِّي لَيَشْفَعُ لأَكْثَرَ مِنْ رَبيعَةَ وَمُضَرَ " { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ } ؛ في انتقامهِ من أعدائهِ ، { الرَّحِيمُ } ؛ بالمؤمِنين.
(0/0)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ شجرةِ الزقُّوم ، والأثِيمُ ذو الإثْمِ وهو أبُو جهلٍ ، قال أهلُ اللغة : الأثِيمُ كثيرُ الإثمِ ، وعن ابنِ مسعود : (أنَّهُ كَانَ يُلَقِّنُ رَجُلاً : (إنَّ شَجَرَةَ الزَّقُومِ طَعَامُ الأَثِيمِ) فَكَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ : طَعَامُ الْيَتِيمِ! فَقَالَ لَهُ : قُلْ : طَعَامُ الْفَاجِرِ). { كَالْمُهْلِ } ؛ دُرْدِيُّ الزيتِ وعكرُ القِطْرَانِ ، وهو أسوَدُ غليظٌ. وَقِيْلَ : الْمُهْلُ كُلُّ مَا يُمْهَلُ في النار من نُحاسٍ أو فضَّةٍ أو غيرِ ذلك حتى يَذُوبَ ويَنْمَاعَ يشتَدُّ حرُّهُ.
وقولهُ تعالى : { يَغْلِي فِي الْبُطُونِ } ؛ أي في بُطونِ الكفَّار ، وقرئَ (يَغْلِي) بالياءِ يعني الطعامَ ، واختارَهُ أبو عبيدٍ ؛ لأن الْمُهْلَ مذكَّرٌ ، وقرئَ بالتاءِ يعني الشَّجرةَ ، قال أبو علي الفارسي : (لاَ يَجُوزُ أنْ يُحْمَلَ الْغَلْيُ عَلَى الْمُهْلِ ؛ لأَنَّ الْمُهْلَ إنَّمَا ذُكِرَ لِلتَّشْبيهِ به فِي الذوْب ، ألاَ تَرَى أنَّ الْمُهْلَ لاَ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ إنَّمَا يَغْلِي مَا شُبهَ بهِ).
(0/0)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } ؛ يعنِي الماءَ الحارَّ إذا اشتدَّ غَليانهُ. وقولهُ تعالى : { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَآءِ الْجَحِيمِ } ؛ يقالُ للزَّبانِيَةِ : (خُذُوهُ) يعني الآثِمَ (فَاعْتِلُوهُ) أي قُودُوهُ بالعُنقِ دَفعاً وسَحباً إلى وسطِ الجحيمِ ، يقالُ : عَتَلَهُ يَعْتُلُهُ ، ويَعْتِلُهُ إذا جَرَّهُ وذهبَ به إلى مكَروهٍ ، وقال مجاهدُ : (فَادْفَعُوهُ عَلَى وَجْهِهِ إلَى وَسَطِ الْجَحِيمِ). وَقِيْلَ للوسَطِ : سَوَاءٌ لاستواءِ المسافة بينَهما وبين أطرافهِ المحيطة به.
(0/0)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ } ؛ قال مقاتلُ : (إنَّ خَازنَ النَّار يَضْرِبُهُ عَلَى رَأَسِهِ " بمَقْمَعَةٍ مِنْ حَدِيدٍ " فَيَنْقِبُ رَأسَهُ عَنْ دِمَاغِهِ ، ثُمَّ يَصُبُّ فِيْهِ مَاءً حَمِيماً قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ ، وَيَقُولُ لَهُ) : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }.
وذلكَ أنَّ أبا جَهلٍ قالَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي! فَوَاللهِ مَا تَسْتَطِيعُ أنْتَ وَلاَ رَبُّكَ " أنْ " تَفْعَلاَ بي شَيْئاً ، وَإنِّي لَمِنْ أعَزِّ أهْلِ هَذا الْوَادِي وَأكْرَمِهِمْ! فَيَقُولُ لَهُ الْمَلَكُ : ذُقِ الْعَذابَ أيُّهَا الْمُتَعَزِّزُ الْمُتَكَرِّمُ فِي زَعْمِكَ كَمَا كُنْتَ تَقُولُهُ. وقرأ الكسائيُّ (أنَّكَ) بالفتحِ على تقدير : ذُقْ بأنَّكَ أو لأَنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريم ، أو بهذا القولِ الذي قلتَهُ في الدُّنيا.
(0/0)
إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } ؛ أي يقولُ لَهم الخازنُ : إنَّ هذا العذابَ الذي كُنتم به تَشُكُّونَ في الدُّنيا أو تَكذِبُونَ به.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } الأمِينُ هو المقَامُ الذي أمِنُوا فيه الغَيَرَ من الموتِ والحوادث ، والْمَقَامُ هو المجلسُ ، وقرئَ (مُقَامٍ) بضمِّ الميمِ ، يريدُ موضعَ الإقامةِ ، ومعنى القراءَتين واحدٌ.
(0/0)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
وقوله : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } ؛ السُّنْدُسُ ما لَطُفَ من الدِّيباجِ ، والاسْتَبْرَقِ ما غَلُظَ منه مع دقَّةِ السِّلكِ ، وهما نَوعَانِ من الحريرِ. وقوله تعالى : { مُّتَقَابِلِينَ } ؛ أي يُقابلُ بعضُهم بعضاً في المجالسِ بالتحيَّة والمحبَّةِ.
(0/0)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } ؛ أي كذلكَ حالُهم في الجنَّة ، وقَرَنَّاهُمْ بحُورٍ عِينٍ ، والْحُوْرُ : الشَّدِيدَةُ بيَاضِ العينِ ، الشديدةُ سَوَادِها ، البيضاءُ البشَرةِ والعينِ ، جمعُ العَيْنَاءِ ، واسعةُ العينِ الحسَنةِ ، قال مجاهدُ : (الْحُورُ : هُنَّ اللَّوَاتِي يُحَارُ الطَّرْفُ فِيْهِنَّ ، يَرَى مُخَّ سُوقِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ ثِيَابهِنَّ ، يَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ فِي صَدْر إحْدَاهُنَّ كَالْمِرْآةِ مِنْ رقَّةِ الْجِلْدِ وَصَفَاءِ اللَّونِ).
(0/0)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } ؛ فيه بيانُ أنَّ بساتينَ الجنَّة تشتملُ على كلِّ الفواكهِ في كلِّ وقتٍ من الأوقاتِ بخلاف بسَاتينِ الدُّنيا ، وقولهُ تعالى : { آمِنِينَ } من الانقطاعِ والنُّقصانِ ، وآمِنينَ مما يخافُ من الفواكهِ من التُّخَمِ والأمراضِ والأسقامِ.
(0/0)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى } ؛ أي لا يَمُوتونَ سِوَى الموتَة التي ذاقُوها في الدُّنيا ، { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ؛ أي ودفعَ عنهم ربُّهم عذابَ النار مع ما أعطَاهُم من النعيمِ المقيم. وقوله تعالى : { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ أي فَعَلَ اللهُ ذلك بالمتَّقين تفَضُّلاً منه عليهم. وسُمي الثوابُ " فضلاً " لأنَّ اللهَ تعالى لم يكلِّفْهم لحاجتهِ ، ولكن ليَصِلُوا إلى ذلك الثواب.
(0/0)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } ؛ أي أنزَلنا القُرآنَ بلُغَتِكَ ولُغةِ قَومِكَ ليَسهُلَ عليهم ، و { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ؛ يتَّعِظُونَ فيُؤمِنُوا به ، ولولا تَيسِيرُ اللهِ حِفظَهُما ما قَدَرَ أحدٌ على حفظهِ لعِظَمِ أمرهِ وجَلالِ قَدرهِ.
(0/0)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } ؛ أيِ انتَظِرْ بالكفَّار ما وعَدنَاهُم من العذاب إنَّهم مُنتَظِرُونَ هلاكَكَ.
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الدُّخَانِ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً وَتَصْدِيقاً ، بهَا ، أصْبَحَ مَغْفُوراً لَهُ ، وَإنْ قَرَأهَا فِي سَائِرِ اللَّيَالِي كَانَتْ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
(0/0)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
{ حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ؛ { حـم } مبتدأٌ وخبرهُ { تَنزِيلُ } ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لأيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي لدَلالاَتٍ على الحقِّ تدلُّ بخلقِها على أنَّ لها خالقاً قَديماً لا أوَّلَ له ، ويدلُّ تعظِيمُها وبقاؤها من غيرِ علاقةٍ فوقَها ولا عِمَادٍ تحتَها على قادرٍ لا يُعجِزهُ شيءٌ. وقولهُ تعالى { لأيَاتٍ } في موضعِ نصبٍ ؛ لأنه اسمُ (إنَّ) ، كما يقالُ : إنَّ في الدار لزيداً.
(0/0)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَاتٌْ } ؛ أي وفي خلقِكم حَالاً بعد حالٍ من نُطفةٍ إلى أن يصيرَ إنساناً ثم يصيرَ فيه العقلُ ثم الحواسُّ ، وما يبُثُّ من دابَّةٍ على وجهِ الأرض على اختلافِ أجناسِ الدواب ومنافعِها وصُوَرها ، وما يقصرُ من منافعِها في ذلك دلالاتٌ واضحة على وحدانيَّة اللهِ تعالى : { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ؛ يطلُبون علمَ اليقينِ ، ويوقِنُون أنَّه لاَ إلهَ غيرهُ.
وقرأ حمزةُ (آيَاتٍ) (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) بالكسرِ على أنَّهما منصُوبان نَسَقاً على قولهِ تعالى{ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الجاثية : 3] على معنى وإنَّ في خلقِكم آياتٍ ، ومَن رفعَ فعلى الاستئنافِ بعدَ أنْ ، تقولُ العرب : إنَّ لِي عليكم مَالاً وعلى أخِيكَ مالٌ ، ينصبُون الثاني ويرفعونَهُ.
(0/0)
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ؛ أي وفِي ذهابهما ومجيئِهما ، وما يحدثُ في كلِّ واحدٍ منهما من الزيادةِ والنُّقصان من غير أنْ يكونا جَميعاً أزيدَ من أربعٍ وعشرين ساعةً ، { وَمَآ أَنَزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } ، وفيما أنزلَ اللهُ من السَّماءِ من المطرِ فأحيَا به الأرضَ بعد يُبسِها ، وفي تقَلُّب الرياحِ شمالاً وجَنُوباً وقُبُولاً ودُبُوراً وعَذاباً ورحمةً ، { ءَايَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ الدلالةَ ويتدبَّرونَها.
(0/0)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ } ؛ أي تلكَ التي سبقَ ذِكرُها دلائلُ اللهِ لعبادهِ يتلُوهَا عليكَ جبريلُ بأَمرِنا بقصصنا عليك بالحقِّ ، { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ } ، كتاب ، { اللَّهِ وَءَايَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } ؛ إنْ لم يُؤمِنُوا بهذا القرآنِ. ومَن قرأ بالتاءِ فعلى تأويلِ : قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : فبأَيِّ حديثٍ تؤمنون.
(0/0)
وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ ءَايَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ يعني النضرَ بن الحارثِ ، كان يروي من أحاديثِ العجَمِ للمشركين فيستَملِحُونَ حديثَهُ ، وكان إذا سمعَ آياتِ القرآن استهزأ بها ، فجعلَ اللهُ له العذابَ مرَّتين ، مرَّةً ألِيماً ومرَّة مُهِيناً ، وقد ذكرنا تفسيرَ الآيةِ في سُورةِ لقمان.
ومعنى الآية : ويلٌ لكلِّ كذابٍ فاجرٍ كثيرِ الإثمِ ، يسمعُ القرآنَ يُقرَأُ عليهِ ولا يتدبَّرهُ ، ولا يخشعُ لاستماعهِ ، بل يُقِيمُ على كُفرهِ مُتَعَظِّماً عن الإيمانِ بالله ، كأنْ لَمْ يسمَعْ آياتِ الله ، فخَوِّفْهُ يا مُحَمَّدُ بعذابٍ وجيعٍ يَخلُصُ وجعهُ إليه.
(0/0)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً } ؛ أي إذا سمعَ من آياتِ القرآن شَيئاً اتَّخذها هُزُواً ، { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ }.
(0/0)
مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } ؛ أي لَهم من بعدِ موتِهم جهنَّمُ ، { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } ؛ ولا ينفَعُهم ما كسَبُوا من الأموالِ والأولادِ شيئاً ، { وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ أربَاباً في دفعِ شيء من عذاب الله ، { وَلَهُمْ } ؛ في الآخرةِ ؛ { عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ كلُّ ذلك للنَّضرِ بن الحارث وأمثالهِ.
(0/0)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
وقولهُ : { هَـاذَا هُدًى } ؛ أي هذا القرآنُ بيانٌ للحقِّ من الباطلِ في كلِّ ما يحتاجُ إليهِ من أمرِ الدِّين والدُّنيا ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } ؛ اللهِ أي جحَدُوا دلائلَ اللهِ ، { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } ؛ أي عذابٌ من عذابٍ وجيعٍ يخلصُ وجعهُ إلى قلوبهم ، وقرئ (ألِيمٌ) بالرفعِ على نعت العذاب ، وبالكسرِ على نعتِ الرِّجْزِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ } ؛ أي هو الذي ذلَّلَ لكم البحرَ بتسهيلِ السبيلِ إلى سُلوكِها باتِّخاذِ السُّفنِ وإصلاحِها ، { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، وباقي الآيةِ قد تقدَّم تفسيرُها.
(0/0)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ } ؛ من شَمسٍ وقمرٍ ونجوم ومطرٍ وثلج وبَرَدٍ ، { وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ من دابَّةٍ وشجَرٍ ونبات وثمارٍ وأنْهَارٍ ، ومعنى سَخَّرَهُ لنا : هو أنَّهُ خلَقَها لانتفاعِنا بها على الوجهِ الذي يريدهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَمِيعاً مِّنْهُ } ؛ أي الكلُّ رحمةٌ منه وبفضلهٍِ ومَنِّهِ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ في صُنعِ الله وإحسانهِ ، فيُوَحِّدُونَهُ.
(0/0)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } ؛ نزَلت في عُمر رضي الله عنه : شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ بمَكَّةَ ، فَهَمَّ أنْ يَبْطُشَ بهِ ، فَأَمَرَهُ اللهُ بالْعَفْوِ وَالتَّجَاوُز. والمعنى : قُل للَّذين آمَنُوا اغْفِرُوا ، ولكنه شَبَّهَهُ بالشرطِ والجزاء كقوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ }[إبراهيم : 31].
وقولهُ : { لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ } أي لا يَخَافُونَ عذابَ اللهِ من إيذائِكُم ، فتجاوَزُوا عنهم ليُوَفِّيَهُمُ اللهُ عقابَ سيِّئاتِهم بما عمِلُوا. ويجوزُ أن يكون المعنى : تجاوَزُوا عن الذين لا يَرجُونَ ثوابَ اللهِ للمؤمنين ، { لِيَجْزِيَ } ؛ اللهُ ، { قَوْماً } ، المؤمنينَ يومَ الجزاءِ ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ بما كَانُوا يعملون من الخيراتِ.
وَقِيْلَ : إن الآية نزلت في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، كانوا في أذَى شديدٍ من أهلِ مكَّة قبلَ أن يُؤمَرُوا بقتالِهم ، فأمرَ اللهُ المؤمنين بتركِ مكافَأَتِهم ، ثم نُسخت بقولهِ تعالى{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ }[الحج : 39].
وقالَ الحسَنُ : (لَمْ تُنْسَخْ هَذِهِ الآيَةُ ، وَهِيَ عَلَى الاسْتِحْبَاب فِي الْعَفْوِ مَا لَمْ يُؤَدُّواْ إلَى الإخْلاَلِ بحَقِّ اللهِ أوْ إلَى إذْلاَلِ الدِّينِ). { مَنْ عَمِلَ صَـالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ }.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ } ؛ يعني التوراةَ والإنجيلَ ، { وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } ؛ أي الفهمَ في الكتاب وفصْلَ الأمرِ ، وجَعلنا فيهم الأنبياءَ والرُّسلَ ، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } ؛ أي من الحلالِ ومِن لذيذِ الأطعمةِ كالْمَنِّ والسَّلوَى وغيرِهما ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمينَ } ؛ أي على عالَمي زمانِهم بكثرةِ النبيِّين فيهم ، وفضَّلَ اللهُ أُمَّةَ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم بكثرةِ العُلماءِ فيهم ، والقائمِين بالحقِّ منهم كما قالَ تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }[آل عمران : 110].
(0/0)
وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ } ؛ يعني العلمَ بمبعَثِ النبيِّ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما بَيَّنَ لَهم من الأمرِ ، { فَمَا اخْتَلَفُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ الآيةُ قد تقدَّمَ تفسيرُها.
(0/0)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا } ؛ أي ثُم أكرَمناكَ يا مُحَمَّدُ بعدَ اختلافِهم فجعلناكَ على طريقةٍ مستقرَّةٍ من الدِّين ، فاستقِمْ عليها وادْعُ الخلقَ إليها ، ولا تعمَلْ بأهواءِ الذين يخالِفونكَ في أمرِ الدِّين والقِبلة ، وهو قَولُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ، توحيدَ اللهِ ؛ قيل : يعني كفَّارَ قريش.
(0/0)
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } ؛ أي لن يدفَعُوا عنكَ من عذاب الله شيئاً إن اتَّبعتَ أهواءَهم ، { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ، يعني المشرِكين أنصارُ بعضِهم بعضاً ، { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي ناصرُ المؤمنين المتَّقين الشركَ وهم أُمة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } ؛ أي هذا القرآنُ عِظَاتٌ للناسِ وعبرةٌ وبيان لهم من الضَّلالةِ ونجاةٌ من العذاب ، { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ؛ أنه من اللهِ تعالى.
(0/0)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ قِيْلَ : إنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ في ثلاثِ نَفَرٍ من المشرِكين ؛ وهم عُتبَةُ وشَيبَةُ والوَلِيدُ بنُ عُتبَةَ ، بارَزُوا علِيّاً وحمزةَ وعبيدةَ بن الحارث رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يومَ بدرٍ ، كانوا يقُولون لَهم : لئِنْ كان مُحَمَّدٌ حقّاً في الآخرةِ لتَفضَّلَ عليكم في الآخرةِ كما فضَّلَنا عليكم في الدُّنيا.
ومعنى الآيةِ : أحَسِبَ الذين { اجْتَرَحُواْ } اكتسَبُوا { السَّيِّئَاتِ } المعاصِي { أَن نَّجْعَلَهُمْ } فِي الآخرةِ { كَالَّذِينَ آمَنُواْ } بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } من الصَّلاة والزكاةِ.
وتَمَّ الكلامُ ، ثم قالَ : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } ، ارتفعَ (سَوَاءٌ) على أنه خبرُ مبتدأ مقدَّمٍ ، تقديرهُ : محياهُم ومماتُهم سواءٌ ، والضميرُ فيهما يعودُ إلى القبيلتين المؤمنين والكافرين ، يقولُ المؤمِنُ مؤمنٌ في محياهُ ومؤمنٌ في مماتهِ ، والكافرُ كافرٌ في حياتهِ ومماتهِ. والمعنى : إنَّ المؤمن يموتُ على إيمانهِ ويُبعَثُ عليه ، والكافرُ يموت على كُفرهِ ويبعَثُ عليه ، يريد مَحيَا القبيلتَين ومَماتَهم سواءٌ.
ومَن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعلَهُ مفعولاً ثانياً ، فجعلَهُ على تقديرِ : فجعلَ محيَاهم ومماتَهم سواءً ، يعني أحَسِبُوا أنَّ حياتَهم وموتَهم كحياةِ المؤمنين وموتِهم ؛ كَلاّ ؛ وقولهُ تعالى : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ أي بئْسَ ما يَقضُونَ حين يرَون أنَّ لهم في الآخرةِ ما للمؤمنين ، { وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }.
(0/0)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ } ؛ وذلك أنَّ أهلَ مكَّة كانوا يعبُدون الحجَرَ والخشبَ ، فإذا رأوْا ما هو أحسنُ منه ، رَمَوا بالأوَّلِ وعبَدُوا الثانِي ، فهُم يعبدون ما تَهوَاهُ أنفسُهم ، قال قتادةُ : (هُوَ الْكَافِرُ لاَ يَهْوَى مَا شَاءَ إلاَّ رَكِبَهُ ، يَبْنُونَ الْعِبَادَةَ عَلَى الْهَوَى لاَ عَلَى الْحُجَّةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ } ). قال الحسنُ : (اتَّخَذ إلَهَهُ هَوَاهُ لاَ يَعْرِفُ إلَهَهُ بعَقْلِهِ وَإنَّمَا يَعْرِفُهُ بهَوَاهُ).
وقولهُ تعالى : { وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ } ؛ أي خذلَهُ على ما سبقَ في عمَلهِ أنه ضَالٌّ قبلَ أن يخلقَهُ ، { وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ } ؛ فلم يسمَعِ الهدَى ، وعلى { وَقَلْبِهِ } ؛ فلم يعقل الهدى ، { وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } ؛ أي ظُلمةً فهو لا يُبصِرُ الهدَى بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ } ؛ أي مَن يَهديهِ مِن بعدِ إضلالِ اللهِ لَهُ ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ فتعرِفُوا قدرتَهُ على ما يشاءُ.
(0/0)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } ؛ أي نموتُ نحنُ ويحيَى آخَرُون مِمَّن يأتُون بعدَنا ، وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ نُحيي وَنُمِيتُ ، وَالْوَاوُ لِلاجْتِمَاعِ) وَالْقَائِلُونَ بهَذا زَنَادِقَةُ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ } ؛ أي إلاَّ طُولُ الْعُمُرِ واختلافُ الليلِ والنهار ، { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } ؛ أي لَمْ يقولوهُ على علمٍ عَلِموهُ ، بل قالُوا ضُلاَّلاً شَاكِّين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } ؛ وكان هذا القولُ من زنادِقَتهم الذين كانُوا يُنكِرُونَ الصانعَ الحكيمَ ، ويزعمُون أنَّ الزمانَ ومُضِيَّ الأوقاتِ هو الذي يُحدِثُ هذه الحوادثَ ، يَمُوتُ قومٌ ويحيَا قومٌ.
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ } ؛ فيه بيانُ أنَّهم كانوا يتعلَّقون بالْحُجَجِ الباطلةِ ، ولو تأَمَّلوا لعَلِمُوا أنَّ دلائلَ معجزاتِ النبيَِّ صلى الله عليه وسلم أوكدُ مما كانوا يطلبُون.
(0/0)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
قَوْلُهُُ تَعَالَى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } ؛ أي وترَى أهلَ كلِّ دينٍ باركةً على الرُّكَب متهيِّئةً للحساب والجزاءِ ، مُترقِبةً لِمَا يُصنَعُ بها ، كما يَنحَنِي بين يدَي الحاكمِ ينتظرُ القضاءَ ، { كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا } ؛ أي إلى صحائفِ أعمَالِها ، يقالُ لَهم : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في دار الدُّنيا من الخيرِ والشرِّ.
(0/0)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
قَوْلُهُُ تَعَالَى : { هَـاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ يعني كتابَ الحفظِ يقرَؤُونَهُ فيدُلُّهم على ما عَمِلوا ، فكأنَّهُ ينطقُ كما يقالُ : نطقَ الكتابُ بتحريمِ الخمرِ ، وقولهُ { بِالْحَقِّ } أي بالعدلِ ، فيه حسناتُهم وسيِّئاتُهم ، وقولهُ تعالى { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ } أي نأمرُ الملائكةَ بنَسخِ ما عمِلتُم وتَبيينهِ بياناً شافياً وتثبيتهِ عليكم.
وما بعدَها هذا ظاهرُ المعنى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ }.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ لبعثٍ ، { وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا } ؛ أي القيامةُ كائنةٌ من غيرِ شكٍّ ، { قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ } ؛ أنْكَرتُموهم وأظهرتُم الشكَّ فقلتم : { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } ؛ ومَن قرأ (وَالسَّاعَةَ) بالنصب فهو عطفٌ على (وَعْدَ) { وَبَدَا لَهُمْ } ؛ في الآخرةِ ، { سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ في الدُّنيا ؛ أي ظَهَرَ لهم قَبائِحُ أعمالهم حين عايَنُوا ذلكَ في كتابهم الذي أحْصَى عليهم كلَّ قليلٍ وكثير.
(0/0)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ؛ أي نترُكم في النار ، ونتركُ مراعاتَكم وحِفظَكم ، ولا نحفظُكم من العذاب كما لم تحفَظُوا حقَّ اللهِ ، وتركتُم الإيمانَ والعملَ بلقاءِ هذا اليوم. والنسيانُ ضِدُّ الحفظِ ، وقد يكون للتَّركِ.
(0/0)
ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُواً } ؛ أي ذلك العذابُ عليكم بسبب أنَّكم اتَّخذتُم كتابَ اللهِ ورسولَهُ استهزاءً ، { وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } ؛ حتى قُلتم لا بعثَ ولا حسابَ ، { فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أي لا يُطلَبُ رضاهُم ، ولا يقالُون ؛ لأنه لا يقبل في ذلك اليوم استقالة وقد انقطعتِ المعايَنةُ فلا يُجابون ، ولا يُقبَلُ لَهم في " ذلك " اليومِ عُذرٌ ولا توبةٌ.
(0/0)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي للهِ الشُّكر على عظيمِ نَعمائهِ على الخلائقِ كلِّهم ، { وَلَهُ الْكِبْرِيَآءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ وهو المختصُّ بالكبرياءِ في السَّموات والأرضِ ، وله العظَمةُ والجبَروتُ فيهما ، { وَهُوَ الْعِزِيزُ } ؛ في مُلكهِ وسُلطانهِ ، { الْحَكِيمُ } ؛ في قضائهِ وأمرهِ لَهُ وَحْدَهُ فِي أعْلَى مَرَاتِب التَّعْظِيمِ لأنه سبحانَهُ لا يجوزُ عليه صفةُ النقصِ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يَقُولُ اللهُ : الْْكِبْرِيَاءُ ردَائِي ، وَالْعَظَمَةُ إزَاري ، مَنْ نَازَعَنِي وَاحِدَةً مِنْهَا ألْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ".
(0/0)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ؛ ظاهرُ المعنى ، { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ ينتهِي إليه وهو يومُ القيامةِ تنتهي إليه السَّمواتُ والأرض ، وهذا إشارةٌ إلى فنائِهما وانقضائِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } ؛ أي مُعرِضون عمَّا خُوِّفُوا به من القُرآنِ ، ولا يتدبَّرون ولا يتفكَّرون.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ من الملائكةِ والأصنامِ ، وتدَّعون أنَّها آلهةٌ ، { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأَرْضِ } ؛ أي أخبرونِي ماذا خلَقُوا من الأرضِ ، لأنَّ الخالقَ هو الذي يستحقُّ العبادةَ ، { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } أمْ لَهم نصيبٌ في خلقِ السَّموات ، فذلك ما أشرَكتُموهم في عبادةِ الله تعالى ، { ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـاذَآ } ؛ القرآنِ فيه برهانُ ما تدَّعون ، { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } ؛ معناه ائتُونِي ببقية من علمِ المتقدِّمين ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }.
وَقِيْلَ : الأثَارَةُ ؛ والأَثْرَةُ - بإسكان الثاء - والأَثَرَةُ - بفتحِها - معناها : الرِّوايَةُ من العُلماءِ ، يقالُ : فلانٌ يَأْثُرُ الحديثَ عن فلانٍ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ }[المدثر : 24] ، والعلمُ الْمَأْثُورُ هو الْمَرْويُّ.
(0/0)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ أي أبْعَدُ ذهاباً عن الصَّواب ممن يدعُو مِن دون الله مَن لا يستجيبُ دعاءً ولو دعاهُ ، { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } يعني الأصنامَ ، { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } أي عن دُعاءِ مَن دعاها ؛ لأنَّها جَمَادٌ لا تسمعُ ولا تُبصِرُ.
(0/0)
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } معناهُ : وإذا جُمِعَ الناسُ يومَ القيامة صارتِ الأصنامُ أعداءً لِمَن عبَدَها في الدُّنيا ، كما قالَ تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِـكُمْ }[فاطر : 14] ، وقال : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ }[القصص : 63].
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
وقولهُ تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ ويقولون : إنَّ مُحَمَّداً أتَى به من نفسهِ ، وهو قوله : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } ؛ أي لايَقدِرون أن يُردُّوا عنِّي عذابَهُ ، فكيف أفتَرِي على اللهِ لأجلِكم وأنتُم لا تقدِرُون على دفعِ عِقابهِ عنِّي إن افتريتُ عليهِ شيئاً ؟ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ } ؛ أي اللهُ أعلَمُ بما تَقولون في القرآنِ وتَخوضُونَ فيه من التَّكذيب به والقولِ فيه إنه سحرٌ وكهانةٌ ، { كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ؛ أي القرآنُ جاءَ من عندِ الله ، { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ؛ في تأخيرِ العذاب عنكم حين لَمْ يعجِّلْ عليكم بالعقوبةِ.
قال الزجَّاجُ : (هَذا دُعَاءٌ لَهُمْ ؛ أيِ التَّوْبَةُ ، مَعْنَاهُ : أنَّ مَنْ أتَى مِنَ الْكَبَائِرِ بمِثْلِ مَا أتَيْتُمْ بهِ مِنَ الافْتِرَاءِ عَلَى اللهِ ثُمَّ تَابَ ، فَاللهُ غَفُورٌ رَحيمٌ ، أيْ غَفُورٌ لَهُ رَحِيمٌ بهِ).
(0/0)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ } ؛ أي ما أنا أوَّلُ رَسُولٍ أُرسِلَ إلى الناسِ ، قد بُعِثَ قَبلِي كثيرٌ من الرُّسل. والبديعُ من كلِّ شيء المبتَدِعُ ، { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } ؛ أيَتركُني بمكَّة أو يُخرِجُني منها أو يُخرِجكم. وَقِيْلَ : معناهُ : لا أدري أموتُ أم أُقتَلُ ، ولا أدري أيُّها المكذِّبون أتُرمَون بالحجارةِ من السَّماء أو يُخسَفُ بكم.
وهذا إنَّما هو في الدُّنيا ، فأمَّا في الآخرةِ فقد عَلِمَ أنه في الجنَّة ، وأنَّ مَن كذبَهُ في النار ، ألاَ تراهُ يقول : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } ؛ وقد أُوحيَ إليه ما يصيرُ إليه الكافرُ والمؤمنُ في الآخرةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وما أدري ماذا أوْمَرُ به في الكفَّار من حربٍ أو سلِمٍ ، وما أدري ماذا يفعَلُ اللهُ بهم أيُعَاجِلُهم اللهُ بالعقوبةِ أو يؤخِّرُها عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي ما أتَّبعُ إلاَّ القرآنَ ولا أبتَدِعُ من عندي شيئاً ، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي أُنذِرُكم وأُبَيِّنُ لكم الشرائعَ.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } ؛ ثم اختلَفُوا ، والمرادُ بشاهدٍ في هذه الآيةِ فقالَ مَن ذهبَ إلى أنَّ هذه السُّورةَ مكِّيةٌ كلُّها : أنَّ المرادَ به يَامِينَ بن يامين ، فإنَّ عبدَالله بنَ سلام مِمَّن أسلمَ بالمدينةِ ، وهذا شاهدٌ قَدِمَ بمكَّة فآمنَ. وَقِيْلَ : إنَّ المرادَ بالشاهدِ مُوسَى عليه السلام كان مِن بني إسرائيلَ ، وكان شهادتهُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في التوراةِ من تصديقِ القُرآنِ ، ومثل القرآن هو التوراةُ.
وقال ابنُ عبَّاس : (هُوَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ) ، رُوي : " أنَّهُ قَدِمَ مِنَ الشَّامِ ، فأتَى النَّبيَّ عليه السلام لَيْلاً وشَهِدَ أنَّ نَعتَهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ فَآمَنَ بهِ ، ثم قالَ : أخْبئْنِي فِي الْبَيْتِ ، ثُمَّ أحْضِرِ الْيَهُودَ سَلْهُمْ عَنِّي ، فَإنَّهُمْ سَيَذْكُرُونَنِي عِنْدَكَ ويُخْبرُونَكَ بمَكَانِي مِنَ الْعِلْمِ.
فَفَعَلَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتَخْبَرَ الْيَهُودَ وَقَالَ لَهُمْ : " مَا تَقُولُونَ فِي عَبْدِاللهِ ابْنِ سَلاَمٍ ؟ " فَقَالُواْ : عَالِمُنَا وَابْنُ عَالِمِنَا ، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا ، وَبَقِيَّةُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أرَأيْتُمْ إنْ آمَنَ بي تُؤْمِنُوا أنْتُمْ ؟ " فَقَالُواْ : إنَّهُ لاَ يَفْعَلُ ذلِكَ.
فَكَرَّرَ عَلَيْهِمْ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى قَالُواْ : نَعَمْ ، فَخَرَجَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَقَالَ لَهُمْ : ألَمْ يَأْتِكُمْ فِي التَّوْرَاةِ عَنْ مُوسَى عليه السلام : إذا رَأيْتُمْ مُحَمَّداً فَأَقْرِئُوهُ مِنِّي السَّلاَمَ وَآمِنْواْ بهِ ؟ ثُمَّ جَعَلَ يُوقِفُهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مَوَاضِعَ مِنْهَا فِيْهَا ذِكْرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتُهُ ، وَكَانُواْ يَسْتَكْبرُونَ وَيَجْحَدُونَ ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، أرْسَلَكَ بالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ. فَقَالُواْ : مَا كُنْتَ أهْلاً لِمَا أثْنَيْنَا عَلَيْكَ ، وَلَكِنَّكَ كُنْتَ غَائِباً فَكَرِهْنَا أنْ نغْتَابَكَ ".
ومعنى الآيةِ : أخبروني ماذا تقُولون إنْ كان القرآنُ من عندِ الله ، أنزلَهُ وكفرتُم أيُّها المشرِكون ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ } عبدُاللهِ بن سلامٍ على صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نبُوَّتهِ { عَلَى مِثْلِهِ } أي عليه أنَّهُ من عندِ الله ، والْمِثْلُ صلةٌ. وقولهُ تعالى : { فَآمَنَ } يعني الشاهدُ واستكبَرتُم أنتم عن الإيمانِ به ، وجوابُ (إنْ) محذوفٌ ؛ وتقديرهُ : أليسَ قد ظَلمهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ وَقِيْلَ : تقديرُ الجواب : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ } أفَأَمِنُوا عقوبةَ اللهِ ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } يعني المعانِدين بعدَ الوضُوحِ والبيانِ يَحرِمُهم اللهُ الهدايةَ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ؛ أي قالَ الكفارُ مِن بني أسَدٍ وغطَفان وأشجَعَ لِمَن أسلمَ من جُهينَةَ ومُزَيْنَةَ وأسْلمَ وغِفَارٍ : (لَوْ كَانَ هَذا) يعنُونَ القرآنَ (خَيْراً) مما نحنُ عليهِ لَمَا سبقَ رعاةُ الشاةِ ونحن أرفعُ منهم ، { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } ؛ مع ظُهورهِ ووضُوحهِ ، { فَسَيَقُولُونَ } مع ذلك ، { هَـاذَآ } ؛ القرآنُ ؛ { إِفْكٌ قَدِيمٌ } ؛ كذِبٌ متقَادِمٌ أتَّبعَهُ مُحَمَّدٌ وأحِبَّاؤهُ في عصرهِ.
يقول اللهُ تعالى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً } ؛ أي ويشهدُ للقرآن كتابُ موسَى قبلَهُ إمامٌ يُقتدَى ونجاةٌ من العذاب لِمَن آمنَ به ، { وَهَـاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ } وَهَذَا القرآنُ مُصَدِّقٌ لِمَا في التوراةِ. وقولهُ تعالى : { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } ؛ أي بلسانٍ عربيٍّ تَعقِلونَهُ. ويجوزُ أن يكون منصوباً على الحالِ ، ويكون (لِسَاناً) توكيداً ، كما يقالُ : جاءَنِي زيدٌ رجلاً صالحاً ، يريدُ : جاءَنِي زيدٌ صالحاً ، وقال الزجَّاجُ : (قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِمَاماً } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ) تَقْدِيرُهُ : وَتَقَدَّمَهُ كِتَابُ مُوسَى عليه السلام إمَاماً.
وَفِي الْكَلام محذوفٌ تقديرهُ : إمَاماً ورحمةً فَلَمْ يَهْتَدُوا بهِ ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } وذلك أنَّ المشرِكين لم يهَتدُوا بالتوراةِ فيترُكوا عبادةَ الأصنامِ ويعرِفُوا منه صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ثم قالَ تعالى : { وَهَـاذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ } ؛ غيرَ الكُتب التي قبلَهُ { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } منصوبٌ على الحالِ ؛ أي مصَدِّقٌ لما بين يَدَيهِ عَرَبيّاً. ومعنى قولهِ تعالى : { كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً } أي يُقتدَى بهِ ؛ يعني التوراةَ ، { وَرَحْمَةً } من اللهِ للمؤمنين به ؛ قِيْلَ : القرآنُ.
وعن عروة عن أبيه قالَ : (كَانَتْ زنِّيرَةُ أمْرَأةً ضَعِيفَةَ الْبَصَرِ ، فَلَمَّا أسْلَمَتْ كَانَ الأَشْرَافُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ بهَا وَيَقُولُونَ : وَاللهِ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ خَيْراً مَا سَبَقَتْنَا إلَيْهِ زنِّيرَةُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيْهَا وَفِي أمْثَالِهَا { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـاذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } أيْ أسَاطيرُ الأَوَّلِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُنذِرَ } ؛ أي أنزلناهُ لِتُخَوِّفَ ، { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ، يعني مُشرِكي مكَّة. ومَن قرأ بالياءِ أسندَ الفعلَ إلى الكتاب. وقولهُ تعالى : { وَبُشْرَى } أي وهو بُشْرَى ، { لِلْمُحْسِنِينَ } ؛ الموحِّدين ، يعني الكتابَ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
(0/0)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } ؛ في الآيةِ دليلٌ على أنَّها نزَلت في رجُلٍ بعينهِ ؛ لأنَّ الناسَ كلَّهم لا يكون حَملُهم ورضاعُهم ثلاثون شَهراً ، ولا يقولون إذا بلَغُوا أربعين سَنةً : { رَبِّ أَوْزِعْنِي }. وجاءَ في التفسيرِ : أنَّها نزَلت في أبي بكرِ الصدِّيق رضي الله عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } ؛ أي على كُلْفَةٍ ومشَقَّةٍ ، وأرادَ به الحملَ في البطنِ إذا ثَقُلَ عليها الولدُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } ؛ يريدُ شدَّةَ الطَّلْقِ ومشقَّةَ الوضعِ. قرأ أهلُ الكوفة { إِحْسَاناً } وهي قراءةُ ابنِ عبَّاس رضي الله عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً } ؛ أي حَملهُ سِتَّةُ أشْهُرٍ ورضاعهُ أربعَةٌ وعشرون شهراً. ورَوى عكرمةُ عن ابنِ عبِّاس رضي الله عنه قال : (إذا حَمَلَتِ الْمَرْأةُ تِسْعَةَ أشْهُرٍ أرْضَعَتْهُ أحَدَ وَعِشْرِينَ شَهْراً). وقال مقاتلُ وعطاء والكلبيُّ : (هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ رضي الله عنه ، وَكَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ هَذا الْقَدْرَ) ، ويدلُّ على صحَّة هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ... } ثم إلى آخر الآية. وقرأ الحسنُ ويعقوب (وَفَصْلُهُ) بغيرِ ألفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (أشُدَّهُ بضْعٌ وَثَلاَثوُنَ سَنَةً) وقال : (ثَمَانِي عَشَرَةَ سَنَةً). وذلك أنه صَحِبَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثَمانِي عشرةَ سنةً ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنُ عشرين سَنة في تجارتهِ إلى الشامِ ، وكان لا يفارقهُ في أسفارهِ وحضورهِ. فلما { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } ؛ ونُبئَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دعا ربَّهُ ، { قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ } ؛ أي ألْهِمْنِي شُكْرَ نِعمَتِكَ ، { الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } ؛ بالهدايةِ والإيمانِ حتى لم أُشرِكْ بكَ شيئاً ، { وَعَلَى وَالِدَيَّ } ؛ أبي قُحَافَةَ عثمان بنِ عُمر وأُمِّي أمُّ الخيرِ بنت صخرِ بن عمر ، قال عليٌّ رضي الله عنه : (هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ أسْلَمَ أبَوَاهُ جَمِيعاً ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالْمُهَاجِرِينَ أبَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَأوْصَاهُ اللهُ بهِمَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } ؛ فأجابَ اللهَ وأعتقَ تسعةً مِن المؤمنين يعذبون في اللهِ ولم يُرِدْ شيئاً من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ اللهُ عليه ، واستجابَ اللهُ في ذُريَّتهِ حين قال : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } ؛ فلم يبقَ له ولدٌ ولا والدٌ إلاَّ آمَنُوا باللهِ وحدَهُ ، قال موسى بنُ عُقبةَ : (لَمْ يُدْركْ أرْبَعَةٌ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هُمْ وَأبْنَاؤُهُمْ إلاَّ هَؤُلاَءِ : أبُو قُحَافَةَ ، وَأبُو بَكْرٍ ، وَابْنُهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ ، وَأبُو عَتِيقِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أبي بَكْرِ رضي الله عنه). قال البخاريُّ : (أبُو عَتِيقٍ أدْرَكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم).
قولهُ { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي } أي اجعَلْ أولاَدِي كُلَّهم صالِحين وقولهُ : { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ؛ أي إنِّي أقبَلْتُ إلى كلِّ ما يجبُ وأسلمتُ لكَ بقلبي ولسانِي وإنِّي من المخلِصين ، فأسلمَ أبوهُ وأُمُّهُ ولم يبقَ له ولدٌ إلاَّ أسلمَ.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } ؛ أي أهلَ هذه الصِّفةِ الذين يَتقبَّلُ عنهم أحسنَ ما عمِلُوا وهو الطاعاتُ ، { وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } ؛ التي سَبقت في الجهلِ ، وقولهُ تعالى : { فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ } ؛ أي يدخُلون في أصحاب الجنَّة وَعْداً صِدْقاً من اللهِ تعالى : { الَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ؛ به في الدُّنيا على ألسِنَةِ الرسُلِ.
(0/0)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } ؛ نزَلت في عبدِالرَّحمنِ بن أبي بكر ، قالَ لأَبيه وأُمه قبلَ أن يسلمَ حين كانا يدعُوَانهِ إلى الإسلامِ ، ويُخبرانهِ بالبعثِ بعد الموت وهو يأبَى ويُسِيءُ القولَ لهما ، فقالَ لهما : { أُفٍّ لَّكُمَآ } أي أُفٍّ قذفاً لكما ، كما يقالُ عند شمِّ الرائحةِ الكريهة ، { أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي } ؛ أي تُخوِّفانِني أن أخرَجَ من القبرِ وقد مضَتِ القرونُ مِن قبل ولم يخرج أحدٌ منهم من قبرهِ ، أين عبدُالله بن جَدعان ؟ أين فلان وأين فُلان؟! { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ اللَّهَ } ؛ يعني أبَويهِ يدعُوانِ الله له بالْهُدَى ويقولان له : { وَيْلَكَ آمِنْ } ؛ أي صدِّقْ بالبعثِ ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ، بالبعثِ ، { فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ فيقولُ لَهما : ما هذا الذي تقُولانِ إلاَّ أكاذيبُ الأوَّلين.
والاستغاثةُ باللهِ دعاؤُكَ اللهَ ليُغِيثَكَ على ما نَابَكَ ، والجارُّ محذوفٌ ، تقديرهُ : يستغِيثان باللهِ. وقرأ القُرَّاء والأعمشُ (أنْ أخْرُجَ) بفتحِ الألف وضمِّ الراءِ.
قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا ألَحَ عَلَيْهِ أبَوَاهُ فِي دُعَائِهِ إلَى الإِيْمَانِ ؛ قَالَ لَهُمَا : أحْيُوا لِي عَبْدَاللهِ بْنَ جَدْعَان ، فَإنَّهُ كَانَ شَيْخاً صَدُوقاً ، وَأحْيُوا لِي عَامِرَ بْنَ كَعْبٍ ، وَمَشَايخَ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى أسْأَلَهُمْ عَنْ مَا تَقُولاَنِ ، وَأخْرِجَا لِي بَعْضَ آبَائِي وَأجْدَادِي مِنْ قُبُورهِمْ لأَسْأَلَهُمْ ، فَإنْ صَدَّقُوكُمَا آمَنْتُ).
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أي وجبَتْ عليهم كلمةُ العذاب في أُمَمٍ قد مضَتْ من قبلِهم ، { مِّنَ } ؛ كفار ، { الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } ؛ الإيمانَ. ثم أسلمَ عبدُالرحمنِ وحَسُنَ إسلامهُ ، وكان من أفاضلِ المؤمنين.
وذهب الحسنُ إلى أنَّ الآيةَ نزلت في كافرٍ عاقٍّ لوالديهِ مكَذِّبٍ للبعثِ ، ماتَ على كُفرهِ ، قالَ : (لأَنَّ قَوْلَهُ { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } إعْلاَمٌ بأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) وإلى هذا القولِ ذهبَ الزجَّاجُ.
ويُروى أن معاويةَ كتبَ إلى مروان : (لَتَأْخُذنَّ عَلَى النَّاسِ الْبَيْعَةَ لِيَزِيدَ) فَكَرِهَ ذلِكَ عَبْدُالرَّحْمَنِ وَقَالَ : (أتَأْخُذُونَ الْبَيْعَةَ لأَبْنَائِكُمْ؟!) قَالَ مَرْوَانُ : هَذا الَّذِي يَقُولُ اللهُ فِيْهِ{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ }[الحاقة : 17] فَلَمَّا بَلَغَ ذلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ : (كَذبَ مَرْوَانُ! وَاللهِ مَا هُوَ بهِ ، إنَّمَا أنْزَلَ اللهُ ذلِكَ فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَلَوْ شِئْتُ أنْ أُسَمِّيَهُ لَسَمَّيْتُهُ لَكُمْ ، وَلَكِنْ أشْهَدُ أنَّ اللهَ لَعَنَ أبَاكَ وَأنْتَ فِي صُلْبهِ ، فَهُوَ فِي قَصَصِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ).
(0/0)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } ؛ أي ولكلِّ الفريقَين من الكافرِين والمؤمنين منازلُ مما عمِلُوا ، { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ أي لا يُنقَصُ من حسناتِهم ولا يُزَادُ في سيِّئاتِهم.
(0/0)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
وقولهُ تعالى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ } ؛ أي وأنذِرهُم يومَ يُعرَضُ كفَّارُ مكَّة على النار ويقالُ لَهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } ؛ أي أذهَبتُم أموالَكم ، وَقِيْلَ : قوَّتَكم وشبَابَكم في لذاتِكم في الدُّنيا ، لا في طلب رضَى اللهِ ، بل في وُجوهٍ مُحرَّمَةٍ ، وانتقَصتُم بطيِّباتكم في الدُّنيا ، { وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } ؛ (فَـ) ليس لكم ، { فَالْيَوْمَ } ؛ ههنا حسناتٍ ، وإنما { تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ أي الْهَوَانِ الشديدِ باستكباركم في الأرضِ بالباطلِ ، وخُروجِكم من أمرِ الله تعالى إلى المعصيةِ.
وعن ابنِ عبَّاس : " أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (أُدْعُ اللهَ أنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ ، فَقَدْ وَسَّعَ اللهُ عَلَى فَارسَ وَالرُّومَ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أوَفِي شَكٍّ أنتَ يَا ابْنَ الْخَطَّاب؟! أوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا " ".
ورُوي : " أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : (دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِ حَفْصَةٍ وَإنَّهُ لَمُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ ، وَإنَّ بَعْضَهُ لَعَلَى التُّرَاب ، وَتَحْتَ رَأسِهِ وسَادَةٌ مَحْشُوَّةٌ لِيْفاً ، فَسَلَّمْتُ ثُمَّ جَلَسْتُ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أنْتَ نَبيُّ اللهِ وَصَفْوَتُهُ وَخِيْرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَكِسْرَى وَقَيْصَرَ عَلَى سُرُر الذهَب وَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : يَا عُمَرُ ؛ إنَّ أُوْلَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ وَهِيَ وَشِيكَةُ الانْقِطَاعِ ، وَإنَّا أُخِّرَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا " ) ".
وعن سالِم بن عبدِالله بن عمر كان يقولُ : (وَاللهِ مَا نَعْبَأُ بلَذاتِ الْعَيْشِ بأَنْ نَأْمُرَ بصِغَار الْمِعْزَى فَتُسْمَطَ لَنَا ، وَنَأْمُرَ بِلبَاب الْحِنْطَةِ فَيُخْبَزُ لَنَا ، وَنَأْمُرَ بالنَّبيذِ فَيُنْبَذُ لَنَا ، حَتَّى إذا صَارَ مِثْلَ عَيْنِ يَعْقُوبَ أكَلْنَا هَذا وَشَرِبْنَا هَذا ، وَلَكِنَّا أرَدْنَا أنْ نَسْتَبْقِيَ طَيِّبَاتِنَا لأَنَّا سَمِعْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَذْكُرُ قَوْماً فَقَالَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا }.
وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه قالَ : (رَأى عُمَرُ رضي الله عنه فِي يَدَيَّ لَحْماً مُعَلَّقاً فَقَالَ : مَا هَذا يَا جَابرُ ؟ قَالَ : اشْتَهَيْتُ لَحْماً فَاشْتَرَيْتُهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : وَكُلَّمَا اشْتَهَيْتَ يَا جَابرُ اشْتَرَيْتَ ؟ أمَا تَخَافُ هَذِهِ الآيَةَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا }.
وعن محمَّد بن مَيسَرة قالَ : قال جابرُ بن عبدِالله : (اشْتَهَى أهْلِي لَحْماً فَشَرَيْتُهُ وَمَرَرْتُ بعُمَرَ ، فَقَالَ : مَا هَذا يَا جَابرُ ؟ قُلْتُ : اشْتَهَى أهْلِي اللَّحْمَ فَاشْتَرَيْتُ هَذا اللَّحْمَ بدِرْهَمٍ ، فَقَالَ : أوَكُلَّمَا اشْتَهَى أحَدُكُمْ شَيْئاً جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ ، أمَا تَخْشَى أنْ تَكُونَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } ).
وعن عِمَارَةَ بن القَعْقَاعِ عن أبي زَرعَةَ قالَ : (دَخَلَ عُتْبَةُ بْنُ فَرْقَدَ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَهُوَ يُكَوِّمُ كَعْكاً شَامِيّاً وَيَتَفَوَّقُ لَبَناً حَازراً فَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أمَرْتَ أنْ يُصْنَعَ لَكَ طَعَامٌ ألْيَنُ مِنْ هَذا ؟ فَقَالَ : يَا ابْنَ فَرْقَد ؛ أتَرَى أحَداً مِنَ الْعَرَب أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنِّي ؟ فَقَالَ : مَا أحَدٌ أقْدَرُ عَلَى ذلِكَ مِنْكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْتُ اللهَ تَعَالَى عَيَّرَ أقْوَاماً فَقَالَ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَـاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } وَاللهِ لَوْ شِئْتُ أنْ أكُونَ أصْلَبَكُمْ طَعَاماً وَأحْسَنَكُمْ ثِيَاباً لَفَعَلْتُ ، وَلَكِنْ أسْتَبْقِي دُنْيَايَ لآخِرَتِي).
(0/0)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ } ؛ أي اذكُرْ يا مُحَمَّدُ لقومِكَ أهلِ مكَّة أخَا عادٍ وهو هودٌ عليه السلام ، { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ } ؛ أي إذْ خَوَّفَ قومَهُ وحذرَهم عذابَ اللهِ إن لم يُؤمِنُوا بالأحقافِ ، وهو جمعُ حُقْفٍ وهو المستطيلُ الْمُعْوَجُّ من الرَّملِ ، قال عطاءٌ : (رمَالُ بلاَدِ الشَّعرِ) ، وقال مقاتلُ : (هِيَ بالْيَمَنِ فِي حَضْرَمَوْتٍ) ، وقال ابنُ عبَّاس : (وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهرة) وَإلَى مُهْرَةَ يُنْسَبُ الْجِمَالُ الْمَهْرِيَّةُ.
وقال قتادةُ : (ذُكِرَ لَنَا أنَّ عَاداً كَانُوا حَيّاً بالْيَمَنِ أهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الشَّعر ، وَكَانُواْ مِنْ قَبيلِ إرَمَ). وقال ابنُ زيد : (الأَحْقَافُ : مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ وَأشْرَفَ كَهَيْئَةِ الْجَبَلِ ، وَلَمْ يَبْلُغُ أنْ يَكُونَ جِبَالاً ، وَجَمْعُهُ حُقُفٌ ، وَالأَحْقَافُ جَمْعُ الْجَمْعِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ؛ أي وقد مضَتِ الرسُلُ من قبلِ هودٍ ومن بعدهِ إلى قومِهم ، { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } ؛ أي لَمْ يُبعَثْ رسولاً قبلَ هودٍ ولا بعدَهُ إلاَّ بالأمرِ بعبادة اللهِ وحدَهُ ، وهذا كلامٌ اعترضَ بين إنذار هود وكلامهِ لقومه ، ثم عادَ إلى كلامِ هودٍ لقومه بقوله : { إِنَّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ؛ تقديرُ الكلامِ : إذ أنذرَ قومَهُ بالأحقافِ وقال : إنِّي أخافُ عليكم عذابَ يومٍ عظيم ، ويحتملُ أن يكون المرادُ بهذا العذاب عذابَ الدُّنيا ، ويحتمل عذابَ الآخرةِ.
(0/0)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } ؛ أي قالوا : يا هودُ أجِئتَنا لتَصرِفَنا عن عبادةِ آلهتنا بالإفكِ ، { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } ؛ من العذاب ، { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } إنَّ العذابَ نازلٌ بنا ، { قَالَ } ؛ لَهم هودٌ : { إِنَّمَا الْعِلْمُ } بمجيءِ العذاب ، { عِندَ اللَّهِ } ؛ يعلمُ متى يأتيكم العذابُ وَأنا { وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ } ؛ إليكم من الوحيِ والإنذار ، والمعنى : إنما أنا مُبَلِّغٌ ، والعلمُ بوقتِ العذاب عند الله ، { وَلَـاكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } ؛ أي أمرَ اللهِ وعقابه.
(0/0)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } ؛ معناهُ : فلمَّا رأوا العذابَ الذي خوَّفُوا به عارضاً كهيئةِ السَّحاب تستقبلُ أودِيَتَهم التي كانوا إذا رأوا الغيمَ من نواحِيها كانت سَنتهم سَنة خصبٍ ، ظنُّوهُ سحابَ خيرٍ ، { قَالُواْ هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } ؛ أي هذا الذي وعَدتَنا به سحابٌ قد عرضَ في السَّماء مُمطِرُنا ، فقال لَهم هود : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي ريحُ الدَّبُور جاءت من قِبَلِ المغرب فيها عذابٌ أليم وجيع لكم.
قال المفسِّرون : كان عادٌ قد حُبسَ عنهم المطرُ أيَّاماً ، فَسَاقَ اللهُ إليهم سحابةً سوداء فخرَجت عليهم من وادٍ لهم يقالُ له : الْمُغِيثُ ، فلمَّا رأوهُ مستقبلَ أودِيتهم استَكبَروا وقالوا : { هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } غَيمٌ فيه مطرٌ ، فقال هودُ : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ } ثُم بيَّنَ ما هو ؛ فقالَ : { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(0/0)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } ؛ أي تُهلِكُ كلَّ شيءٍ مرَّت به من الناسِ والدواب والأموالِ { فَأْصْبَحُواْ } ؛ يعني عاداً ؛ { لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } ؛ قال الزجاج : (معناهُ لا ترَى شيئاً إلاَّ مساكنَهم ، والمعنى : لا ترَ أيُّها المخاطَبُ إلاَّ مساكِنَهم ، لأنَّ السُّكَّانَ والأنعامَ بادت بالريحِ).
قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ) ، وعن ابنِ عبَّاس قالَ : (لَمَّا رَأوا الْعَارضَ قَامُواْ ، فَأَوَّلُ مَا عَرَفُوا أنَّهُ عَذابٌ رَأوا مَا كَانَ خَارجاً مِنْ دِيَارهِمْ مِنَ الرُّعَاةِ وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بهِ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَرَأوا الْفَسَاطِيطَ وَالضَّعَائِنَ تُرْفَعُهَا الرِّيَاحُ كَأَنَّهَا جَرَادٌ فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَأغْلَقُوا عَلَى أنْفُسِهِمُ الأَبْوَابَ ، فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَقَلَعَتْ أبْوَابَهُمْ وَاحْتَمَلَتْهُمْ إلَى عَنَانِ السَّمَاءِ ، ثُمَّ هَرَعَتْهُمْ وَأهَالَتْ الرِّمَالَ ، فَكَانُواْ تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أيَّامٍ حُسُوماً لَهُمْ أنِينٌ ، ثُمَّ أمَرَ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْ بهِمْ فِي الْبَحْرِ).
وقرأ الأعمشُ وحمزة وعاصم ويعقوب (فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى) بياءٍ مضمومة (إلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) بالرفع أي لا ترَى الناسُ إلاَّ مساكنَهم لأنَّهم كانوا تحتَ الرَّملِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي هكذا نَجزِي مَن أجرمَ جُرمَهم بمثلِ ما جازَيناهم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا رَأى الرِّيحَ فَزِعَ ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بهِ ، وَأعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بهِ " وَكَانَ يَقُومُ وَيَقْعُدُ وَيَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ ، فَيَقُولُ لَهُ : مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَيَقُولُ : " إنِّي أخَافُ أنْ تَكُونَ مِثْلَ قَوْمٍ هُودٍ حَيْثُ قَالُوا : هَذا عَارضٌ مُمْطِرُنَا " ".
(0/0)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } ؛ الخطابُ لأهلِ مكَّة ، والمعنى : ولقد مكَّنا عَاداً فيما لم نُمكِّنْكُم فيه من البَسطَةِ في المالِ والولدِ وزيادة القوَّةِ والقامَةِ وشدَّة الأبدانِ ، قال المبرِّدُ : (مَا) فِي قَوْلِهِ (فِيمَا) بِمَنْزِلَةِ (الَّذِي) و(إنْ) بمَنْزِلَةِ (ما).
وتقديرهُ : ولقد مكنَّاهم في الذي ما مكنَّاكم فيه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً } ؛ أي قُلوباً يعقلون بها فلم ينفَعهم ذلك من عذاب الله إذ نزلَ بهم بسبب أنَّهم ، { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ } ؛ دلائلِ الله ، { وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ أي نزلَ بهم عقابُ استهزائِهم بالرُّسلِ ، أخبرَ اللهُ أنَّهم أعرَضُوا عن قبولِ الْحُجَجِ والتفكُّر فيما يدلُّهم على التوحيدِ ما أعطاهم اللهُ من الحواسِّ التي تدرَكُ بها الأدلَّة.
(0/0)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)
قَوْلُه تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى } ؛ هذه زيادةُ التخويفِ لأهل مكَّة ، والمعنى : ولقد أهلَكنا ما حولَكم من أهلِ القُرَى مثلَ عادٍ وقوم تُبَّعٍ باليمنِ وقومِ صالح بالحِجْرِ وقوم لوطٍ على طريقكم بالشَّام ، أرادَ بالقُرَى الْمُهلَكَةِ باليمنِ والشَّام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ وبَيَّنَا لكم الآياتِ في كلِّ وجهٍ لكي تَرجِعُونَ من الكفرِ إلى الإيمانِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وبيَّنا الآياتِ لعلَّ أهلَ القُرْى يرجِعون.
(0/0)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
وقولهُ تعالى : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ } ؛ فهلاَّ حين نزلَ بهم العذابُ أعانَهم الذين عبَدُوهم من دونِ الله ليُقرِّبوهم إلى اللهِ في زَعمِهم ، وقولهُ تعالى : { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } ؛ أي بل ما نفَعُوهم ، وقولهُ تعالى : { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } ؛ أي إنَّ دُعاءَهم آلهتَهم هو إفْكُهم وافتراؤُهم ، { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ يعني اتِّخاذهم الآلهةَ من دون اللهِ هو كَذِبُهم وافتراؤُهم على اللهِ أنَّها آلهة.
(0/0)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } ؛ معناهُ : اذكُر إذ وجَّهنا نفَراً من الجنِّ ؛ " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا آيَسَ مِنْ إسْلاَمِ أهْلِ مَكَّةَ ، خَرَجَ إلَى الطَّائِفِ لِيَدْعُوَهُمْ إلَى الإسْلاَمِ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ مِنَ الطَّائِفِ رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ وَوَصَلَ بَطْنَ نَخْلَةَ ، قَامَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ ، فَمَرَّ بهِ نَفَرٌ مِنْ أشْرَافِ جِنِّ نَصِيبينَ مِنَ الْيَمَنِ فَاسْتَمَعُواْ الْقُرْآنَ ".
قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا تِسْعَةَ نَفَرٍ) ، وقال الكلبيُّ ومقاتل : (كَانُوا سَبْعَةً صُرِِفُوا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَمِعُواْ مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ). وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ }.
فلمَّا انتهَوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ بعضُهم لبعضٍ : اسكتُوا حتى تَستَمِعوا قراءَتهُ ، وذلك معنى قولهِ تعالى : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ } ؛ أي فلما فرغَ من التلاوةِ قال بعضُهم لبعض : اسكُتوا حتى تَستمعوا قراءته ، وإما قالوا ذلك لأنهم سَمعوا شيئاً لم يسمعوا مثلَهُ ، فلما فرغَ من القرآنِ انصرَفُوا إلى قومِهم مخوِّفين لهم بالقرآن ، وذلك معنى قوله تعالى : { فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } ، أي فلما فرغَ من التلاوةِ انصرفوا إلى قومهم مُنذرين ؛ أي محذِّرين إياهم عذاباً إن لم يُؤمنوا ، وهذا قاله سعيدِ بن جُبير وجماعةٍ من أئمَّة الخبرِ.
وقالَ آخَرُون : بل " أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُنذِرَ الجنَّ ويدعُوَهم إلى اللهِ ، فقرأ عليهم القرآنَ ، فصرفَ اللهُ نفَراً من الجنِّ وجَمَعهم له ، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ : " إنِّي أُمِرْتُ أنْ أقْرَأ عَلَى الْجِنِّ اللَّيْلَةَ ، فَأَيُّكُمْ تَبعَنِي " فَأَطْرَقُوا ، فَقَالَ لَهُمْ مَرَّةً ثَانِيَةً ، فَأَطْرَقُواْ ، فَقَالَ لَهُمْ مَرَّةً ثَالِثَةً ، فَاتَّبَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ : (لَمْ يَحْضُرْ مََعَهُ أحَدٌ غَيْرِي ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إذا كُنَّا بأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم شِعْباً يُقَالُ لَهُ شِعْبُ الْحِجَوْنِ ، وَحَطَّ لِي ثُمَّ أمَرَنِي أنْ أجْلِسَ فِيْهِ ، وَقَالَ : " لاَ تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أدْعُوَ إلَيْكَ ".
ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ ، فَجَعَلْتُ أرَى أمْثَالَ النُّور تَهْوِي ، وَسَمِعْتُ لَفْظاً شَدِيداً حَتَّى خِفْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَغَشِيَتْهُ سَوْدَةٌ كَبيرةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا سَمِعْتُ صَوْتَهُ ، ثُمَّ طَفِقُواْ يَتَقَطَّعُونَ أمْثَالَ قِطَعِ السَّحَاب ذاهِبينَ.
فَفَزِعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْفَجْرِ ، وَقَالَ : " أنِمْتَ ؟ " قُلْتُ : لاَ وَاللهِ ؛ وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَاراً أنْ أسْتَغِيثَ بالنَّاسِ حَتَى سَمِعْتُكَ تُفْزِعَهُمْ بعَصَاكَ تَقُولُ : " اجْلِسُوا " فَقَالَ : " لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أنْ يخْتَطِفَكَ بَعْضُهُمْ " ثُمَّ قَالَ : " هَلْ رَأيْتَ ؟ " فَقُلْتُ : نَعَمْ ؛ رَأيْتُ رجَالاً سُوداً.
قَالَ : " أُوْلَئِكَ جِنُّ نَصِيبينَ ، سَأَلُونِي الْمَتَاعَ فَمَنَعْتُهُمْ بكُلِّ عَظْمٍ حَلِيلٍ وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَذِّرُهَا لِلنَّاسِ عَلَيْنَا ، فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يُسْتَنْجَى بالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى عليه وسلم وَمَا يَعْنِي ذلِكَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : " إنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ عَظْماً إلاَّ يَجِدُونَ عَلَيْهِ لَحْمَةً يَوْمَ أُكِلَ ، وَلاَ رَوْثَةً إلاَّ وَجَدُواْ فِيْهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَتْ ".
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ سَمِعْتُ لَفْظاً كَثِيراً شَدِيداً ، قَالَ : " إنَّ الْجِنَّ تَدَارَتْ فِي قَتِيلٍ قُتِلَ بَيْنَهُمْ ، فَتَحَاكَمُوا إلَيَّ فَقَضَيْتُ بَيْنَهُمْ ". ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : " هَلْ مَعَكَ مَاءٌ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رسُولَ اللهِ مَعِي نَبيذُ تَمْرٍ فِي إدْاَوةٍ ، فَاسْتَدْعَاهُ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضََّأَ بهِ وَقَالَ : " ثَمَرَةٌ طيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ " ".
(0/0)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ } ؛ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ فاستجابَ لهم من قومِهم نحو من سبعينَ رجُلاً من الجنِّ ، فرجَعُوا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فواقَفوهُ بالبطحاءِ ، فقرأ عليهم القرآنَ ، فقال بعضُهم : أمَرَهم ونَهاهم.
واختلفَ العلماءُ في مؤمني الجنِّ ، فقال بعضُهم : ليس لِمُؤمِني الجنِّ إلاَّ نجا منهم من النار ، وتأوَّلوا فيه ، قوله : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وعن الليث أنه (الجنُّ ثوابُهم أن يُجَارُوا من النار ، ثم يقالُ لَهم : كونوا تُراباً مثلَ البهائمِ). وقال آخرون : إذا كان عليهم العقابُ في الإساءة ، وجبَ أن يكون لهم الثوابُ في الإحسانِ مثل الإنسِ ، وعن الضحَّاك قال : (الْجِنُّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ).
(0/0)
وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ } ؛ أي لا يعجِزُ اللهَ ولا يفوتهُ ، { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ أُوْلَئِكَ } ؛ الذين لا يُجِيبُونَ الرسُلَ ، { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } ؛ أي لم يُضِعفْ عن إبداعِهنَّ ، { بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِـيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ والمعنى : أليسَ اللهُ بقادرٍ على إحياءِ الموتَى فيما ترَون يا أهلَ مكَّة ، فإنَّ خلقَ السموات والأرضِ بما فيهنَّ من العجائب والبدائعِ أعظمُ من إعادةِ الحياة في الميِّت بعدَ ما كانت فيه.
(0/0)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَـاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ؛ الآيةُ ظاهرة المعنى.
(0/0)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
وقولهُ تعالى : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } ؛ وهم خمسةٌ أُولُوا الكتب والشرائع : مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ونوح وإبراهيم وموسَى وعيسى صَلواتُ اللهِ عليهم ، وَقِيْلَ : إنَّهم رسلٌ سُلِخُوا من جلودِهم فلم يجزَعُوا.
وَقِيْلَ : أرادَ بأُولِي العزمِ الأنبياءُ كلَّهم ، وحرف (مِنْ) على هذا القولِ لِتَبيين الجنسِ كما في قوله{ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ }[الحج : 30] ، قال ابنُ يزيد : (كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُوْلِي عَزْمٍ).
وقال بعضُهم : كلُّ الأنبياءِ أُولُوا عزمٍ إلاَّ يونسَ عليه السلام ، ألاَ ترَى أنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم نُهي عن أنْ يكون مثلَهُ لخِفَّة وعجلةٍ ظهرت منهُ حين ولَّى مُغَاضِباً لقومهِ ، فابتلاهُ الله بالحوتِ فابتلعَهُ ، وَقِيْلَ : أُولُوا العزمِ نُجبَاءُ الرُّسلِ المذكورون في سُورةِ الأنعامِ وهم ثمانيةُ عشر ، قَالَ اللهُ تَعَالَى فيهم{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ }[الأنعام : 90].
وقال مقاتلُ : (أُوْلُوا الْعَزْمِ سِتَّةٌ : نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أذى قَوْمِهِ وَكَانُواْ يَضْرِبُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ ، وَإبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّار ، وَإسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذبْحِ ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذهَاب بَصَرِهِ ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبئْرِ وَالسِّجْنِ ، وأيُّوبَ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ). قال ابنُ عبَّاس : (الْعَزْمُ : الصَّبْرُ) ، وقال القَرَظِيُّ : الرَّأيُ وَالصَّوَابُ).
وقال الحسنُ : (أُوْلُوا الْعَزْمِ أرْبَعَةٌ : إبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَدَاوُدَ وَعِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، أمَّا إبْرَاهِيمُ فَعَزْمُهُ أنَّهُ قِيلَ لَهُ : أسْلِمْ ، َفَقَالَ أسْلَمْتُ لِرَب الْعَالَمِينَ ، وَابْتُلِيَ فِي وَلَدِهِ وََمَالِهِ وَنَفْسِهِ ، فَوُجِدَ صَادِقاً وَافِياً فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة : 124] ، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى }[النجم : 37] ، وَأمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ أنَّ قَوْمَهُ كُلَّمَا قَالُوا لَهُ : إنَّا لَمُدْرَكُونَ ، قَالَ : كَلاَّ إنَّ مَعِي رَبي سَيَهْدِينِ. وَأمَّا دَاوُد عليه السلام فَعَزْمُهُ أنَّهُ أخْطَأَ خطِيئَةً فَبَكَى عَلَيْهَا أرْبَعِينَ سَنَةً. وَأمَّا عِيسَى فَعَزْمُهُ أنْ لَمْ يَضَعْ لَبنَةً عَلَى لَبنَةٍ زُهْداً فِي الدُّنْيَا).
فكأنَّ اللهَ تعالى قال لنَبيِّه صلى الله عليه وسلم : فاصبرْ كما صبرَ أُولُوا العزمِ من الرُّسلِ ؛ أي كن صَادقاً فيما ابتُلِيت به مثلَ صدقِ إبراهيمَ عليه السلام ، وكُن واثقاً بنصرِ مَولاَكَ مثلَ ثقةِ مُوسَى عليه السلام مُهتَمّاً بما سلفَ من هفَوَاتِكَ مثل اهتمامِ داودَ عليه السلام ، زاهداً في الدُّنيا مثلَ زُهدِ عيسى عليه السلام ، فقالَ الشاعرُ : أُوْلُواْ الْعَزْمِ نُوحٌ وَالْخَلِيلُ كِلاَهُمَا مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبيُّ مُحَمَّدُفلمَّا نزلت هذه الآيةُ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " واللهِ لأَصْبرَنَّ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، وَأجْهَدُ كَمَا جَهِدُوا ، ولاَ قُوَّةٍ إلاّ بالله ".
وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ضَجِرَ بعضَ الضَّجرِ من كُفرِهم ، وأحبَّ أن ينْزِلَ العذابُ بمَن أبَى منهم الإسلامَ ، فأُمِرَ بالصَّبرِ وتركِ الاستعجالِ ، ثم أخبرَ أنَّ العذابَ منهم قريبٌ ، فقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ } ؛ من العذاب في الآخرة ؛ { لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } ؛ أي إذا عايَنُوا العذابَ صارَ طولُ لُبثِهم في الدُّنيا والقبور كأنَّهُ ساعةٌ ، لأنَّ ما مضَى كأنَّهُ لم يكن وإنْ كان طَويلاً.
وتَمَّ الكلامُ ، ثم قال تعالى : { بَلاَغٌ } ؛ أي هذا القرآنُ وما فيه من البيانِ بلاغٌ عن الله إليك ، والبلاغُ بمعنى التبليغِ بلَّغَكم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم عن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } ؛ أي لا يقعُ العذاب إلاَّ بالعاصِين الخارجين عن أمرِ الله تعالى ، وَقِيْلَ : معناهُ : ما يهلكُ إلاَّ مشركٌ أو منافقٌ.
(0/0)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
{ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } ؛ معناهُ : الذين كفَرُوا بتوحيدِ الله وصَدُّوا الناسَ عن الإسلامِ ، يعني كفارَ مكَّة أضلَّ أعمالَهم ؛ أي أبطَلَها وأذهبَها فلا أجْرَ لهم فيها وكأنَّها لم تكن ، وأرادَ بأعمالِهم إطعامَهم الطعامَ وصِلَتهم الأرحامَ.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ؛ أي صدُّقُوا بالقرآنِ الذي نزلَ على مُحَمَّدٍ ، { وَهُوَ الْحَقُّ } ؛ أي الصدقُ ، { مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } ؛ أي غفَرَها لهم فلا يُحاسَبون عليها ، { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } ؛ أي حالَهم ، قال المبرِّدُ : (الْبَالُ : الْحَالُ). وقال ابنُ عبَّاس : (عَصَمَهُمْ أيَّامَ حَيَاتِهِمْ حَتَّى لَمْ يُمْنَعُوا).
وَقِيْلَ : معناهُ : وأظهرَهم على أعدائِهم وقوَّاهم من ضَعفِهم ، قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (الَّذِينَ كَفَرُواْ صَدُّواْ عَنْ سَبيلِ اللهِ أهْلُ مَكَّةَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِلأَنْصَار).
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ اتَّبَعُواْ الْبَاطِلَ } ؛ أي ذلك الإضلالُ والإصلاحُ باتِّباعِ الذين كفَرُوا الشِّركَ ، { وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبَعُواْ الْحَقَّ مِن رَّبِّهِمْ } ؛ واتِّباعُ المؤمنين التوحيدَ والقرآن ، فالشِّركُ هو الباطلُ ، والتوحيدُ هو الحقُّ والقرآن. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } ؛ معنى أنَّ مَن كان كَافراً أضلَّ اللهُ عملَهُ ، ومَن كان مُؤمناً كفَّرَ اللهُ سيِّئاته وأصلحَ بالَهُ.
(0/0)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
وقولهُ تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ } ؛ أي إذا لَقِيتمُوهم في القتالِ فاضْرِبُوا رقابَهم ؛ أي اقتلُوهم ، والمعنى : فاضرِبُوا الرقابَ ضَرباً ، وهذا مصدرٌ أُقِيمَ مقامَ الأمرِ ، كما في قولهِ{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }[البقرة : 92] ، وَقِيْلَ : انتصبَ قولهُ { فَضَرْبَ } على الإغراءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الْوَثَاقَ } ؛ أي حتى إذا أكثَرتُم القتلَ فيه وغلَبتُموهم وبالَغْتُم في قتلِهم فاستوثَقُوهم بالأسرِ ، ولا يكون الأسرُ إلاَّ بعد المبالَغةِ في القتلِ ، كما قال اللهُ{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ }[الأنفال : 67] ، والمعنَى حتى إذا قَهرتُموهم وغَلبتُموهم وصَاروا أسَارَى في أيدِيكم فشُدُّوا وثاقَهم كَيلاَ يَهربُوا ، يقال : أوْثَقَهُ أيْ إيْثَاقاً إذا شدَّ أسْرَهُ لِئَلاَّ يُفْلِتَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } ؛ معناهُ : فإما أن تَمُنُّوا عليهم بعد أن تَأسِرُوهم وتطلقوهم بغيرِ فداءٍ ، وإما تُطلِقُوهم يُفْدَوْنَ بأَسرَاكُم عندَهم أو بمالٍ ، والمعنى فإمَّا بعدَ أن تأسِرُوهم إما مَنَنْتُمْ عليهم مَنّاً فأطلقتُموهم بغيرِ عِوَضٍ ، وإما أنْ تُفَدُوا فِدَاءً.
وعن ابنِ عبَّاس قال : (هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ{ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[التوبة : 5]). وَإلَيْهِ ذهَبَ أبُو حَنِيفَةَ وقالَ : (لاَ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى الأَسِيرِ وَلاَ الْفِدَاءُ بالْمَالِ وَلاَ بغَيْرِ الْمَالِ مِنَ الأُسَارَى ، وَلاَ يُبَاعُ السَّبْيُ مِنْ أهْلِ الْحَرْب).
ولم يختلف أهلُ التفسيرِ في أنَّ التوبةَ نزلت بعدَ سُورَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، ولا خلافَ بين العلماءِ في جواز قتل الأسيرِ وجواز قِسمَةِ الأُسَارَى بين المسلمِين إذا لم يكن الأُسارَى من العرب ، وإنما اختَلَفُوا في جواز الْمَنِّ عليهم في مَفَادَاتِهم بالمالِ أو النفس.
قال الشافعيُّ : (يَجُوزُ المَنُّ عَلَيْهِمْ لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَنَّ عَلَى أبي عَزَّةَ الشَّاعِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَ ، فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ ذلِكَ لِلْقِتَالِ فَأُسِرَ ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقَتْلِهِ). فأجابَ أصحابُنا عن هذا إنَّما مَنَّ عليه كما مَنَّ العربُ ، وكان لا يجوزُ استرقاقهُ ، وقال أبو يوسف ومحمَّد : (تَجُوزُ مُفَادَاةُ الأَسِيرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي حتى يضعَ أهلُ الحرب أسلِحتَهم ، والأوْزَارُ في اللغة : الأَثْقَالُ ، وَقِيْلَ : المرادُ بالأوزار هنا الآثَامُ ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أيْ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). وقال مجاهدُ : (حَتَّى لاَ يَكُونَ دِينٌ إلاَّ الإسْلاَمُ).
وَقِيْلَ : حتى تضعَ حربُكم وقتالُكم أوزارَ المشركين وقبائحَ أعمالِهم بأنْ يُسلِمُوا فلا يبقَى دينٌ غيرُ الإسلامِ ، ولا يُعبَدُ وثنٌ. وقال الفرَّاءُ : (مَعْنَاهُ : حَتَّى لاَ يَبْقَى إلاَّ مُسْلِمٌ أوْ مُسَالِمٌ).
وَقِيْلَ : معناهُ : حتى تضعَ أهلُ الحرب آلتَها وعُدَّتَها ، وآلَتُهم أسلِحَتُهم فيُمسِكُوا عن الحرب ، وحربُ القومِ الْمُحاربُونَ كالرَّكْب والشُّرب ، ويقال أيضاً للكِرَاعِ : أوْزَارٌ ، قال الشاعرُ وهو الأعشَى :
(0/0)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } ؛ أي بَيَّنها لهم حتى عرَفُوها من غيرِ استدلالٍ ، وذلك أنَّهم إذا دخَلُوا الجنةَ تعرَّفُوا إلى منازلِهم. وَقِيْلَ : معناهُ : طيَّبَها لَهم من العُرْفِ وهي الرائحةُ الطيِّبة ، وطعامٌ مُعَرَّفٌ ؛ أي مطَيَّبٌ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ } ؛ أي إن تَنصُروا دينَ اللهِ ونبيَّهُ صلى الله عليه وسلم ينصُرْكُم بالتوفيقِ والكفاية والإظهار على الأعداءِ ، { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ؛ عندَ القتالِ بتقوِيَةِ قُلوبكم ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } ؛ أي فمَكرُوهاً لهم وسوءاً ، والتَّعْسُ في اللغة : الانحطاطُ والعثُورُ ، يقال : تَعَسَ يَتْعَسُ إذا انْكَبَّ وعَثَرَ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ : فِي الدُّنْيَا الْعَثْرَةُ ، وَفِي الآخِرَةِ التَّرَدِّي فِي النَّار).
وانتصبَ قولهُ { فَتَعْساً لَّهُمْ } على الدُّعاء ؛ أي أتْعَسَهُمُ اللهُ تَعْساً ، قال الفرَّاءُ : (هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَر) ، وأصلُ التَّعْسِ في الدوَاب والناسِ ، وهو أن يُقالَ للعاثرِ : تَعْساً ؛ إذا لَمْ يُرِيدُوا قِيَامَهُ ، وضِدُّهُ لَعَّا إذا أرَادُوا قِيامَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } ؛ أي أبْطَلَها وأحبَطَها لأنَّها كانت في طاعةِ الشيطان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } ؛ أي ذلك التَّعْسُ والإضلالُ بأنَّهم كَرِهُوا ما أنزلَ اللهُ على نبيِّه صلى الله عليه وسلم وبيَّن من الفرائضِ من الصَّلاة والزكاةِ ، { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } ؛ لأنَّها لم تكن في إيمانٍ.
(0/0)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ يعني أهلَ مكَّة ، { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ من الأُمم المكذِّبة ، { دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ؛ منازَلهم وأهلكَهم بالعذاب ، والتدميرُ : الهلاكُ ، ثم يوعِدُ مشركِي مكَّة فقال : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } ؛ إنْ لم يُؤمِنُوا ؛ أي أمثالُ عقُوبَتِهم وأشباهُ عقوباتِ مَن كان قبلَهم.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
وقولُه تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي ذلك النَّصرُ للمؤمنين والهلاكُ للكافرين بأنَّ الله ولِيُّ الذين آمَنُوا يلِي أمرَهم ويتولَّى نصرَهم ، { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ } ؛ أي ليس لَهم ولِيٌّ يُعِينُهم ولا ناصرَ يُنْجِيهم من العذاب.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ ظاهرُ المعنى ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ } ؛ في الدُّنيا ، { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ } ؛ تأكلُ وتشرَبُ ولا تدري ما في غدٍ ، كذلك الكفارُ لا يلتَفِتُونَ إلى الآخرة ، { وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } ؛ أي منْزِلُهم ومُقَامُهم ومصيرُهم.
وأرادَ بالتمتُّعِ التعيُّشَ في الدنيا في الجهلِ ، وشبَّهَ أكلَ الكافرِ بأكلِ الأنعام لأنَّهم يأكلُون للشَّبَعِ لا يَهمُّهم ما في غدٍ ، والمؤمنُ هِمَّتُهُ مصروفةٌ إلى أمرِ دينه يأكلُ للقيامِ بعبادة اللهِ لا للشَّبع ، ويكون قصدهُ من التَّمتُّع إعفافَ نفسه وزوجتهِ ، وابتغاءَ ما كُتِبَ من الولدِ.
وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَا مَلأَ ابْنُ آدَمَ وعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ ، فَإنْ كَانَ لاَ بُدَّ : فَثُلُثاً لِلطَّعَامِ وَثُلُثاً لِلشَّرَاب وَثُلُثاً لِلنَّفَسِ " وقال الحسنُ : (وَهُوَ أنَّكُمْ إذا أشْبعْتُمْ عَصَيْتُمْ شِئْتُمْ أوْ أبَيْتُمْ).
(0/0)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ } ؛ هذا تحذيرٌ لأهلِ مكَّة بقولهِ : كم أهلَكنا من أهلِ قريةٍ مَن كان أكثرَ عَدداً وأبسطَ مُلكاً ويَداً من أهلِ قريتِكَ ؛ يعني مكَّة التي أخرجَتْكَ أهلُها ، { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } ؛ فلم يكن لَهم ناصرٌ يُنجِيهم من عذاب الله ، فحَذِّرْ قومَكَ يا مُحَمَّدُ مثلَ حالَتِهم.
(0/0)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ } ؛ معناهُ : حالُ مَن كان على نصرهِ من ربهِ ويقين كحالِ مَن زُيِّنَ له قُبْحُ عملهِ فيعبُدوا الأوثانَ ، { وَاتَّبَعُواْ أَهْوَاءَهُمْ } ؛ في عبادتِها.
(0/0)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
قَوْلُهُ تَعَلَى : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } ؛ أي صِفَةُ الجنَّة التي وُعِدَ المتَّقون الشركَ والكبائرَ ، { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } ؛ أي مُتغيِّر طَعمهُ وريحهُ ، يقالُ : آسَنَ الماءُ يَأْسَنُ أُسُونَا وَأسَناً إذا تغيَّرَ ، وهو الذي لا يشتهيه مِن نَتَنِهِ فهو آسِنٌ وأسِنٌ ، مثلُ حَاذِرٍ وحَذِرٍ. وَقِيْلَ : إن الآسِنَ ما يعرَضُ أن يتغيَّر ، والأَسِنُ بالقَصْرِ ، ما تغيَّرَ في الحالِ ، وقرأ ابنُ كثير (آسِنٍ) بالقصرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } ؛ أي لم يَحْمَضْ كما تَحْمَضُ وتتغيَّرُ ألبانُ الدُّنيا ؛ لأنه لم يخرُجْ من ضُروعِ الأنعامِ ، { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } ؛ بخلاف خمرِ الدُّنيا ؛ فإنَّها لا تخلُو من المرارةِ ، وعن ما يحدثُ فيها من أنواعِ المرضِ ومن العقوبةِ في الدُّنيا والآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } ؛ أي مُصَفَّى من الأقذار ، من العِكْرِ والكَدَر ، بخلافِ عسلِ الدُّنيا الذي يكون من بطونِ النَّحل ، فإنه لا يخلُو من الشَّعرِ وغيرهِ. قال مقاتلُ : (أنْهَارُ الْجَنَّةِ الْمَذْكُورَةُ تَتَفَجَّرُ مِنَ الْكَوْثَرِ إلَى الْجَنَّةِ). ويقالُ : إنَّها تتفجرُ من تحتِ شجرة طُوبَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ؛ أي ولَهم في الجنَّة من جميعِ أنواع الثَّمرَاتِ والفواكهِ مما عَلِموهُ وما لَمْ يعلموهُ ، ومما سَمعوهُ وما لَمْ يسمعوهُ ، ظاهرُها مثلُ باطِنها ، لا يخالِطُها قشرٌ ولا رذالٌ ولا نَوَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ؛ أي ولَهم مع ذلك النعيمِ المقيم مغفرةٌ مِن ربهم لذُنوبهم ، فلا يُذكَرُ شيءٌ من معاريضِهم في الجنَّة ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ستَرَها عليهم فهي بمنْزِلة ما لَمْ يُعمَلْ ، { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } ؛ أي مَن كان في هذا النعيمِ كمَنْ هو خالدٌ في النار { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً } شَديدَ الحرِّ تسْتَعرُ عليه جهنَّم منذُ خُلِقت { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } في الجوفِ من شدَّة الحرِّ ، والأمعاءُ : جميعُ ما في البطنِ من الحوايَا ، واحدُها مِعَاءٌ ، كما قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ }[الحج : 20].
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إذا شَرِبَهُ صَاحِبُهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ " وعن محمَّد بن عبدِالله الكاتب قال : قَدِمْتُ مِنْ مَكَّةَ ، فَلَمَّا صِرْتُ إلَى طِيزنَابَاذ ذكَرْتُ بَيْتَ أبي نُؤَاسٍ : بطِيزْنابَاذ كَرْمٌ مَا مَرَرْتُ بهِ إلاَّ تَعَجَّبْتُ مِمَّنْ شَرِبَ الْمَاءَفَهَتَفَ بهِ هَاتِفٌ أسْمَعُهُ وَلاَ أرَاهُ : فِي الْجَحِيمِ حَمِيمٌ مَا تَجَرَّعَهُ خَلْـ قٌ إلاَّ مَا بَقِيَ لَهُ بَطْنُ أمْعَاءِ
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً } ؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعَابَ الْمُنَافِقِينَ فيِ خُطْبَتِهِ ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالُواْ لِعَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ : مَاذا قَالَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْمِنْبَرِ السَّاعَةَ ؟ فَقَدْ سَمِعْنَا قَوْلَهُ وَلَمْ نَفْهَمْهُ ، كَأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ تَهَاوُنٍ وَاسْتِخْفَافٍ.
والآنِفُ : السَّاعَةُ ؛ مِن قولِكَ : اسْتَأْنَفْتُ الشَّيءَ إذا ابتدأتَهُ ، والمعنى : ومِن هؤلاءِ الكفَّار مَن يستمعُ إليك : المنافِقُون يستمِعون قولَكَ فلا يَعُونَهُ ولا يفهمونَهُ تَهَاوُناً منهم بذلكَ وتثَاقُلاً ، فإذا خرَجُوا قالوا للَّذين أوُتُوا العلمَ من الصحابةِ : مذا قالَ مُحَمَّدٌ الآنَ ، وذلك أنَّهم سأَلُوا ابنَ مسعودٍ وابنَ عبَّاس عمَّا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم استهزاءً وتَهاوُناً وهذا كالرجُلِ يستمعُ إلى غيرِ سماعٍ استخفافاً ، ثم يقولُ بعدَ ذلك لأصحابهِ : أليس الذي كانَ يقولُ فلانٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ؛ أي خَتَمَ عليها بالكُفرِ فلا يعقِلُون الإيمانَ ، والطبعُ هو الْخَتْمُ على القلب بسِمَةٍ تعلَمُها الملائكةُ بأنَّه جاحدٌ لا يفلحُ أبداً ، { وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ في الكفرِ والنِّفاقِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } ؛ أي والذين اهتدَوا بالإيمانِ بكَ والاستماعِ إلى خُطبَتِكَ زادَهم اللهُ بصيرةً في دِينهم ، وألْهَمَهُم تركَ المعاصِي واجتنابَ المحارمِ. ويجوزُ أن يكون زادَهم إعراضُ المنافقين هدًى ، وأعطَاهم اللهُ ثوابَ تَقَوَاهُم في الآخرةِ.
(0/0)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } ؛ أي ما ينتظرُ هؤلاءِ الكفارُ والمنافقون إلاَّ أنْ تأتِيَهم الساعةُ فجأةً على غِرَّةٍ منهم ، { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } ؛ أي علاَماتُها ، ومِن أشراطِها خروجُ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ، فإنَّهَا تَأتِيهِمْ بَغْتَةً في آخرِ الزمان ، قالَ صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ أنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنٍ " ، ومِن أشراطِها أيضاً بيعُ الْحُكْمِ وقطيعةُ الرَّحمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } ؛ أي مِن أين لَهم التوبةُ ؟ ومِن أين لَهم أن يتذكَّروا أو يتُوبُوا إذا جاءَتْهم الساعةُ حين لا ينفَعُهم ذلكَ.
(0/0)
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ بهِ غيرُ. والمعنى : إذا جاءَتْهم الساعةُ فاعلم أنَّه لا قاضيَ حينئذٍ إلاَّ اللهُ ، ولا مخرجَ يومئذٍ إلاَّ إليهِ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد كان عَلِمَ ذلك ، ولكن هذا خطابٌ يدخلُ فيه الناسُ.
والمعنى : مَن عَلِمَ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ فليَقُمْ على العلمِ ويَثبُتْ عليهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } ؛ أي استَعصِمْ مِن مُواقعَةِ ذنبٍ يُوجِبُ الاستغفارُ. ويقالُ : معناهُ : استَغفِرْ لصَغَائِرِكَ ؛ فإنه لا صغيرةَ مع الإصرار ، { وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } ؛ واستغفِرْ لذُنوب المؤمنين والمؤمناتِ ، وهذا إكرامٌ من اللهِ لهذه الأُمة حين أمرَ نبيَّهم أنْ يستغفرَ لهم وهو الشفيعُ الْمُجَابُ فيهم.
وقوله تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } ؛ أي مُتصرَّفَاتِكم في الدُّنيا من أوَّلِ ما ينقلِبُون من ظهرٍ إلى بطنٍ إلى أن تَخرُجوا من دُنياكم إلى قُبوركم ، ويعلمُ أينَ مَثْوَاكُمْ في الآخرةِ ، قال عكرمةُ : (مَعْنَاهُ : واللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ مِنَ أصْلاَب الآبَاءِ إلَى أرْحَامِ الأُمَّهَاتِ ، وَمَثْوَاكُمْ مَقَامَكُمْ فِي الأَرْضِ). وقال مقاتلُ : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُنْتَشَرَكُمْ بالنَّهَار وَمَأْوَاكُمْ باللَّيْلِ). والمعنى : إنَّهُ عالِمٌ بجميعِ أحوالِكم ، لا يخفَى عليه شيءٌ منها.
(0/0)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ الْمُؤْمِنِينَ سَأَلُواْ رَبَّهُمْ أنْ يُنْزِلَ سُورَةً فِيهَا ثَوَابُ الْقِتَالِ فِي سَبيلِ اللهِ). وَقِيْلَ : إنَّ المؤمنين كانُوا يَشتَاقُون إلى تَواتُرِ نزولِ القرآن ، وكانوا يَستَوحِشُونَ إذا أبطأَ الوحيُ ، وهو قولُهم { لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي هلاَّ نُزِّلتْ سورةٌ ، يقولُ اللهُ تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } ؛ أي بالأحكامِ التي لا يجرِي عليها النسخُ ، يعني لا يُنسَخُ منها شيءٌ ، قال قتادةُ : (كُلُّ سُورَةٍ يُذْكَرُ فِيْهَا الْجِهَادُ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ وَهِيَ أشَدُّ السُّوَر عَلَى الْمُنَافِقِينَ).
والمعنى : أنَّ المؤمنِين قالُوا : هلاَّ أُنزِلَتْ سورةٌ تأمُرنا بالجهادِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ } { وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ } ؛ أي إيجابُ القتالِ ، { رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ؛ وهم المنافِقُون ، { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } ؛ عندَ ذكرِ القتالِ كنظَرِ الذي هو في غَشَيَانٍِ من الموتِ ، كراهةً منهم للقتالِ مخافةَ أن يُقتَلوا في الحرب. قال الزجَّاجُ : مَعْنَاهُ : رَأيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَشْخَصُونَ نَحْوَكَ بأَبْصَارهِمْ ، وَيَنْظُرُونَ إلَيْكَ نَظَراً شَدِيداً ، شَزِراً بتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ كَرَاهَةً مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَوْلَى لَهُمْ } ؛ كلمةُ وعيدٍ لهم ، ومعناهُ : وَلِيَهُم المكروهُ والعقابُ أولَى لهم ، وهذا كما قالَ تعالى : { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى }[القيامة : 34] ، قال الأصمعيُّ : (مَعْنَى قَوْلِهِ : أوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ؛ أيْ وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ).
(0/0)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } ؛ ابتداءٌ وخبرهُ محذوف ، تقديرهُ : طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمثَلُ وأحسنُ ، والمعنى على هذا : أنَّ اللهَ تعالى قالَ : لو أطَاعُوا وقالوا قَوْلاً مَعْرُوفاً كان أمثلَ وأحسنَ. ويجوز أنْ يكون هذا متَّصلاً بما قبلَهُ على معنى : فأَوْلَى لَهم طاعةٌ لله ولرسولهِ وقولٌ معروف بالإجابةِ والطاعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ } ؛ فإذا وُجِدَ الأمرُ ولَزِمَ فرضُ القتالِ ، نَكَلُوا وكذبوا فيما وعَدُوكَ من أنفسهم ، { فَلَوْ صَدَقُواْ اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ؛ أي صدَّقوا اللهَ في إيمانِهم وجِهَادِهم لكان خيراً لَهم من المعصيةِ والكراهة والمخالفةِ.
(0/0)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
وقولهُ تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي فلعَلَّكم إن انصَرفتُم من مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعن ما يأمُركم به أنْ تعودُوا إلى مثلِ ما كُنتم عليه من الكفرِ والفسادِ في الأرضِ من وَأدِ البناتِ ، ومن قَتْلِ بعضِكم بعضاً كفعلِ الجاهليَّة ، وَقِيْلَ : معناهُ : لعلَّكم إنْ توَلَّيتُم أمرَ هذه الأُمة بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنْ تُفسِدُوا في الأرضِ بالقتال ، { وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ } ؛ بالبغْيِ ، فيقتلُ قريشٌ بني هاشِمَ ، وبنو هاشمٍ قُريشاً.
وذهبَ كثيرٌ من الناسِ إلى أنَّ هؤلاءِ بنُو أُميَّة ، والمعنى : فلعلَّكم إنْ أعرَضتُم عن الإيمانِ والقرآن ، وفارَقتم أحكامَهُ أن تُفسِدُوا في الأرضِ فتَعُودُوا إلى ما كُنتم عليه في الجاهليَّة من الفسادِ وقتلِ بعضكم بعضاً ، وتُقَطِّعُوا أرْحَامَكُمْ بسَفكِ الدماءِ بعد ما جَمَعكم اللهُ بالاسلامِ والأُلفة ، فتَعُودوا إلى ما كُنتم عليه في جاهلِيَّتكم من القتلِ والبغيِ وقطيعة الرَّحم. وقال المسيَّب بن شُريك : (مَعْنَاهُ : فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أمْرَ النَّاسِ أنْ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بالظُّلْمِ ، نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَفِي بَنِي هَاشِمٍ).
قرأ يعقوبُ وأبو حاتمٍ : (وَتَقْطَعُوا) مُخفَّفاً من القطعِ اعتباراً بقولهِ{ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ }[البقرة : 27] ، وقولُ الحسن (وَتَقَطَّعُواْ) بفتح الحروف المشدَّدة اعتباراً بقوله{ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ }[المؤمنون : 53] ، وقرأ الكافَّة (وَتُقَطِّعُواْ) بضمِّ التاء وتشديدِ الطاء وكسرِها من القطعِ على التكثيرِ لأجل الأرحامِ.
ثم ذمَّ اللهُ تعالى مَن يريدُ ذلك فقالَ تعالى : { أَوْلَـائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } ؛ فلاَ يَسمعون الحقَّ ولا يهتَدون للرُّشدِ ، يعني المنافقِين الذين يُفسِدون في الأرضِ ، ويُقطِّعون أرحامَهم ، ونسَبَهم اللهُ تعالى إلى الصَّمَمِ والعمَى لإعراضِهم عن أمرِ الله تعالى ، وأمَّا في مُشاهدَتِهم فإنَّهم لا يكونون صُمّاً ولا عُمياناً ، ومثلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ }[الأحقاف : 26].
(0/0)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
قولهُ : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ؛ فتَعرِفُوا ما يُوعَدون للمُتمَسِّكِ بالقرآن ، { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } ؛ يعني الطَّبْعَ على القلب ، وهذا استعارةٌ لإغلاقِ القلب عن معرفةِ الإسلامِ والقرآن ، وكأنَّ على قُلوبهم أقفَالاً تَمْنَعُهُمْ من الاستدلالِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } ؛ قال قتادةُ : (هُمْ كُفَّارُ أهْلِ الْكِتَاب ، كَفَرُواْ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ وَيَجِدُونَ صِفَتَهُ فِي كِتَابهِمْ ، وَنَعْتَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ). فمعناهُ : إنَّ الذين رجَعُوا كفَّاراً من بعدِ ما ظهرَ لهم أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بنَعتهِ وصفتهِ في كتابهم ، { الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ } ؛ أي زَيَّنَ لهم القبيحَ ، { وَأَمْلَى لَهُمْ } ؛ اللهُ تعالى ؛ أي أمْهَلَهُمْ مَوَسِّعاً عليهم ليتَمَادَوا في طُغيانِهم ، ولم يُعجِّلْ عليهم بالعقوبةِ.
ويُحْسَنُ الوقوفُ على قولِ : { سَوَّلَ لَهُمْ } لأنه فِعلُ الشيطانِ ، والإملاءُ فعلُ اللهِ تعالى ، على قولِ الحسنِ : لاَ يُحْسَنُ الْوُقُوفُ ؛ لأنَّهُ يُقَالُ فِي تَفْسِيرِهِ : { وَأَمْلَى لَهُمْ } : مَدَّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي الْعَمَلِ.
وقرأ أبو عمرٍو (وَأُمْلِي لَهُمْ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ ، وهو حسنٌ للفصلِ بين فعلِ الشَّيطان وفعلِ الله تعالى ، ونعلمُ يقيناً أنَّهُ لا يُؤَخِّرُ أحدٌ مدَّة أحدٍ ولاَ يُوَسِّعُ فيها إلاَّ اللهُ تعالى. وقرأ مجاهدُ (وَأُمْلِي) بضمِّ الهمزةِ وإسكانِ الياء على معنى : وأنَا أُمْلِي لَهم.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ } ؛ معناهُ : ذلكَ الإملاءُ لليهودِ بأنَّهم قالُوا للمُشرِكين : سَنُطِيعُكُمْ في بعضِ الأمُور ؛ أي في التَّعاوُنِ على عداوةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، قالُوا ذلك فيما بينَهم ، فأخبرَ اللهُ تعالى عنهم وأعلمَ أنه يعلمُ ذلك فقالَ : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } ؛ وقرأ بكسر الألفِ على المصدر ؛ أي إسْرَارَهُمْ بكسر الألف ، والمعنى : وَاللهُ يعلَمُ أسرارَ اليهودِ والمنافقين.
(0/0)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } ؛ أي كيف يكونُ حالُهم إذا قبَضت أرواحَهم الملائكةُ ، { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } ؛ وظُهورَهم بمَقَامِعِ الحديدِ عند قبضِ الأرواح.
ثم ذكرَ سببَ ذلك الضَّرب : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُواْ مَآ أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } ؛ بما كتَمُوا من التوراةِ ، وكفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وكَرِهُوا ما فيهِ رضوانُ اللهِ وهو الطاعةُ والإيمانُ { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } ، معنى ما كان من برٍّ وصلةٍ وخير عَمِلوهُ في غيرِ الإيمان بكُفرِهم.
(0/0)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } ؛ أظَنَّ المنافقون ؛ { أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ } ؛ يعني أنْ لَنْ يَتْلُوا شيئاً يُظْهِرُ فيه حِقدَهم للمسلمين وضَغْنَهُمْ عليهم ، فأمرَ اللهُ تعالى بالقتالِ والنَّفقةِ ، فبَخِلَ المنافقون بالمالِ فظهرَ نفاقُهم ، والضَّغْنُ : هو الحقدُ الذي يُضمِرهُ الإنسانُ بقلبهِ ولا يُظهِرهُ لغيرهِ.
(0/0)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ } ؛ أي لعرَّفنَاكَهُمْ وأعْلَمْنَاكَهُمْ ، { فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } ؛ أي بالعلامةِ القبيحةِ التي نظهرها عليهم ، قال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ عَلاَمَةً ؛ وَهِيَ السِّيمَاءُ ؛ فَلَعَرَفْتَهُمْ بتِلْكَ الْعَلاَمَةِ).
وقولهُ تعالى : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } ؛ أعلمَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُطلِعَهُ على نفاقِهم في فَحْوَى كلامِهم ، فكان لا يتكلَّمُ بعدَ نُزولِ الآية منافقٌ عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ عُرِفَ بكلامهِ وبما يعتذرون إليه به مِن المعاذيرِ الكاذبة.
قال المفسِّرون معنى قولهِ { فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } أي في فَحْوَى القولِ ، ومعناهُ : ومَقْصَدِهِ ، ويقالُ : فلانٌ لَحَنَ بحُجَّتهِ ولاَحَنَ في كلامهِ ، وفي الحديث : " لَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بحُجَّتِهِ " أي أذْهَبُ بها في الجهاتِ لقوَّتهِ على تصريفِ الكلام ، وإذا قِيْلَ : لَحَنَ في كلامهِ أو ألْحَنَ ؛ فمعناهُ : ذهبَ بالكلامِ إلى خلافِ جهة الصَّواب. ولَحَنَ القارئُ إذا تركَ الإعرابَ الصَّوابَ وعدلَ عنه. وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ } ؛ أي يعلمُ ظَواهِرَها وبوَاطِنَها.
(0/0)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ } ؛ لنُعامِلُكم معاملةَ المختَبر فيما نأمُركم به من الجهادِ حتى نُمَيِّزَ المجاهدينَ منكم من غيرِهم ، والصابرِين في القتالِ من الذين لا يصبرُون.
وإنما كَنَّى بالعلمِ عن التمييزِ ؛ لأنه يُتَوَصَّلُ بالعلمِ إلى التمييزِ ، فكان اللهُ تعالى عالِماً بكلٍّ منهم قبلَ أنْ خَلَقَهم ، ولكن أرادَ بالعلمِ في هذه الآية العلمَ الذي يجبُ به الجزاءُ ، وهو علمُ الشهادةِ لا علمُ الغيب.
وقولهُ تعالى : { وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ؛ أي نَختَبرُ بما نأمرُكم به وننهاكم عنه أخبارَكم وأحوالكم حتى يظهرَ للناسِ ، وكان الفضيلُ بن عِيَاضٍ إذا أتَى على هذه الآيةِ بَكَى وقالَ : (إنَّكَ إنْ بَلَوْتَ أخْبَارَنَا وَفَضَحْتَنَا وَهَتَكْتَ أسْتَارَنَا).
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ يعني بنِي قُريظَةَ والنَّضيرِ ، { وَشَآقُّواْ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } ؛ في التوراةِ ، { لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً } ؛ بتَركِهم الهدَى ، إنما يضُرُّون أنفُسَهم ، { وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ } ؛ فلا يُرِيدُونَ لها في الآخرةِ ثوَاباً.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ } أي أطِيعُوا اللهَ في الفرائضِ وأطِيعُوا الرسولَ في السُّنن ، { وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ } بالشِّركِ والربا ، فإن الشركَ يُبطِلُ العملَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر : 65] ، والرِّياءُ يُحبطُ العملَ بالمعصيةِ ، وَقِيْلَ : بالْعُجْب ، وقال عطاءُ : (بالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ) ، قال الحسنُ : (بالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ).
ويستدلُّ بظاهرِ هذه الآيةِ : على أنَّ مَنْ شَرَعَ في قُربَةٍ نحوَ الصلاةِ والصومِ والحجِّ ، لم يَجُزْ له الخروجُ منها قبلَ إتْمَامِها ؛ لِمَا فيه من إبطالِ عَمَلِها.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ؛ وإنما ذُكِرَ الموتُ على الكفرِ ؛ لأن الكفارَ قبلَ الموتِ يُفْرَضُ أن يُؤمِنَ فيُغفَرَ له ، وإذا ماتَ على كُفرهِ حَبطَ عملهُ حُبُوطاً لا يلحقهُ التداركُ والتَّلافِي.
(0/0)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } ؛ أي لا تَعطِفُوا عن قتالِ الكفَّار وتدعُوهم إلى الصُّلحِ { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } بما وعدَكم اللهُ من النصرِ في الدُّنيا والثواب والكرامةِ في الأُخرَى. قال الزجَّاجُ : (مَنَعَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَدْعُوا الْكُفَّارَ إلَى الصُّلْحِ وَأمَرَهُمْ بحَرْبهِمْ حَتَّى يُسْلِمُواْ) { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } أي الغَالِبُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } ؛ أي بالعَوْنِ والنُّصرَةِ على عدُوِّكم بثَوَابَي حِفظِكم ، { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } ؛ أي لن يَنْقِصَكم شيئاً من ثواب أعمالكم ، وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّهُ لا يجوزُ للإمامِ أن يدعُوا الكفارَ إلى الصُّلحِ ، ولا أنْ يُجِيبَهم إلى الصُّلح في حالِ ما تكون الغَلَبَةُ للمسلمين ، فإنَّ الواوَ في قولهِ : { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } واوُ الحالِ ، كما يقالُ : لا تُسَلِّمْ على فُلانٍ وأنتَ راكبٌ ؛ أي في حالِ ما كُنتَ راكباً.
(0/0)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْحَيَاوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ؛ أي الدُّنيا بما فيها من زينَتِها باطلٌ وغُرورٌ ، تفنَى وتزولُ عن قريبٍ ، واللَّعِبُ : العملُ الذي لا تتعلَّقُ به فائدةٌ ، واللَّهْوُ : هو الفرحُ الذي لا يبقَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ } ؛ أي تُؤمِنُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ، وتتَّقُوا الفواحشَ والكبائرَ ، يُؤتِكُمْ ثوابَ أعمالكم كافياً وَافِياً ، { وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } ؛ كلَّها في الإنفاقِ في سَبيلهِ ، بل يأمرُكم بالإيمانِ والطاعة ليُثِيبَكم الجنَّةَ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ }[الذاريات : 57].
وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يسأَلُكم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أموالَكم ، وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يسأَلُكم اللهُ ورسولهُ أموالَكم كلَّها ، إنما يسألُكم رُبُعَ العُشرِ ، فطِيبُوا نَفْساً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } ؛ معناهُ : إنْ يُجهِدْكُم في المسألةِ ، ويُلِحَّ عليكم ويسألُكم جميعَ أموالِكم ، فبَخِلُوا بها ويمنَعُوا الواجبَ.
وقوله : { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } التي تحدثُ في القلوب بسبب البُخلِ ، قال قتادةُ : (قَدْ عَلِمَ اللهُ أنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْمَالِ خُرُوجَ الأَضْغَانِ). وقوله { أَضْغَانَكُمْ } أي بَغضَكم وعداوَتَكم للهِ ولرسوله ، ولكن فَرَضَ عليكم يَسِيراً وهو رُبُعُ العُشرِ. والإحْفَاءُ في المسألةِ : هو الإْلحَاحُ والتشديدُ. وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : ولا يسألُكم أموالَكم لنفسهِ ، بل يسألُكم ليُؤتِكُمْ أجُورَكم.
(0/0)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَا أَنتُمْ هَـاؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ يعني ما فَرَضَ عليهم في أموالِهم من الزكاةِ ، { فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } ؛ بذلك ، { وَمَن يَبْخَلْ } ؛ بذلكَ ، { فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } ؛ عاقبةُ بُخلِهِ تعودُ عليه في العقاب ، فيصيرُ بُخلهُ على نفسهِ ، { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ } ؛ عن ما عندَكم من الأموالِ وعن أعمالِكم ، { وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ } ؛ وأنتم مُحتَاجُونَ إلى اللهِ وإلى ما عندهِ من الجزاءِ والرَّحمةِ والمغفرة ، ثم يأمرُكم بالإنفاقِ لحاجتهِ ولا لِجَرِّ منفعةٍ ولا لدفعِ مضَرَّة ، وإنما أمرُكم بذلك لمصالِحكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } ؛ أي وإنْ تُعرِضُوا عن طاعةِ الله يَسْتَبْدِلْ قَوماً لا يَعْصُونَ ويفعلون ما يُؤمَرون ، وَقِيْلَ : معناهُ : وإنْ تُعرِضُوا عن الإسلامِ وعمَّا افتَرَضَ عليكم من حقٍّ يستبدِلْ قوماً غيرَكم أطوعَ للهِ منكم ، { ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } ؛ بل يكون أمثلَ منكم وأطوعَ. قال الكلبيُّ : (هُمْ كِنْدَةُ وَالنَّخْعُ) ، وقال الحسنُ : (هُمُ الْعَجَمُ) ، قال عكرمةُ : (هُمْ فَارسُ وَالرُّومُ).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ؛ فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ إنْ تَوَلَّيْنَا اسْتُبْدِلُواْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أمْثَالَنَا ؟ فَضَرَبَ رَسُولُ اللهِ فِي صَدْر سَلْمَانَ الْفَارسِيَّ - وَقِيلَ : عَلَى فَخِذِهِ - وَقَالَ : " هَذا وَأصْحَابُهُ ". وَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ، لَوْ كَانَ الإيْمَانُ مُعَلَّقاً بالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رجَالٌ مِنْ أبْنَاءِ فَارسَ " قال الكلبيُّ فِي قَوْلِهِ : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } قَالَ : (لَمْ يَتَوَلَّوْا وَلَمْ يَسْتَبْدِلْ بهِمْ).
(0/0)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)
{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ؛ " وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إلَى مَكَّةَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ ، وَتَجَهَّزَ مَعَهُ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنْ أصْحَابهِ وَمَعَهُمُ الْهَدْي يَسُوقُونَهَا مَعَ أنْفُسِهِمْ ، فَبَلَغَ ذلِكَ قُرَيْشاً فَاسْتَعَدُّواْ لِيَصُدُّوهُ وَأصْحَابَهُ ، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْحُدَيْبيَةِ ، فَزِعَ الْمُشْرِكُونَ بنُزُولِهِ صلى الله عليه وسلم ، فَبَعَثُوا إلَيْهِ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيّ لِيَأْتِيَهُمْ بالْخَبَرِ ، فَلَمَّا أتَاهُمْ عُرْوَةُ أبْصَرَ قَوْماً عُمَّاراً لَمْ يَأْتُواْ لِلْقِتَالِ ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَأخْبَرَهُمْ بذلِكَ وَهُوَ كَارهٌ لِصَدِّهِمْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكَعْبَةِ ، فَشَتَمُوهُ وَاتَّهَمُوهُ.
ثُمَّ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ ، فَقَالَ النَّبيُّ : " ابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وُجُوهِهِمَا وَلَبُّوا " فَلَمَّا رَجَعَ الرَّجُلاَنِ إلَيْهِمْ قَالاَ لَهُمْ مِثْلَ مَا قَالَ عُرْوَةُ. فَبَعَثُوا سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو أحَدَ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم حِينَ أبْصَرَهُ : " هَذا رَجُلٌ فَاجِرٌ ، وَمَا أرَى إلاَّ قَدْ سَهُلَ أمْرُكُمْ ". فَلَمَّا أتَاهُمْ سُهَيْلُ تَذاكَرُواْ الْمُهَادَنَةَ وَالْمُوَادَعَةَ.
فَلَمَّا كَانَ فِي وَسَطِ النَّهار ، أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالْبَيْعَةِ ، فَنَادَى مُنَادِيهِ فِي الْعَزْمِ : " الآنَ رُوحُ الْقُدُسِ جِبْرِيلُ عليه السلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَمَرَهُ بالْبَيْعَةِ " فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ جَلَسَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَبَايَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وكَادَتْ تِلْكَ الْبَيْعَةُ فِي صُدُور الْمُشْرِكِينَ.
فَلَمَّا أمْسَوا وَهُمْ عَلَى ذلِكَ ، رَمَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ باللَّيلِ فِي أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ بالْحِجَارَةِ فَرَمَواْ أعْدَاءَ اللهِ حَتَّى أدْخَلُوهُمُ الْبُيُوتَ وَهَزَمُوهُمْ بإذْنِ اللهِ. وَأقْبَلَ أشْرَافُهُمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ هَذا لَمْ يَكُنْ عَنْ رضًى مِنَّا وَلاَ مُمَالأَةً ، وَإنَّمَا فَعَلَهُ سُفَهَاؤُنَا ، وَعَرَضُوا الصُّلْحَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَبلَهُ ، وَلَمْ يُعْطِهِمُ الْمُشْرِكُونَ الصُّلْحَ حَتَّى قَهَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَيْرِ قِتَالٍ بالرَّمْيِ بالْحِجَارَةِ.
فَاصْطَلَحَ الْفَرِيقَانِ عَلَى أنْ يَتَوَادَعُوا سِنِينَ ، عَلَى أنْ يَرْجِعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ تِلْكَ السَّنَةَ ، فَمَنْ لَحِقَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَقْبَلْهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ ، وَمَنْ لَحِقَ بالْمُشْرِكِينَ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ مِنْهُمْ. عَلَى أنَّ الْمُسْلِمِينَ إذا شَاؤُا اعْتَمَرُوا الْعَامَ الْقَابلَ فِي هَذا الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِيْهِ ، عَلَى أنْ لاَ يَحْمِلُواْ بأَرْضِهِمْ سِلاَحاً.
فَصَالَحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلِكَ ، وَكَتَبُواْ كِتَابَ الْقَضِيَّةَ بَيْنَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَهُمْ ، فَوَجَدَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذلِكَ الشَّرْطِ وَجْداً شديداً ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَنْ لَحِقَ بنَا مِنْهُمْ لَمْ نَقْبَلْهُ ، وَمَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَهُوَ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أمَّا مَنْ لَحِقَ بهِمْ مِنَّا فَأَبْعَدَهُمُ اللهُ ، وَأمَّا مَنْ أرَادَنَا مِنْهُمْ فَسَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ مَخْرَجاً ، وَإنْ يَعْلَمِ اللهُ مِنْهُ الصِّدْقَ يُنَجِّيهِ مِنْهُمْ ".
فَلَمَّا فَرَغُواْ مِنْ كِتَاب الْقَضِيَّةِ ، أقْبَلَ جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ وَهُوَ يَرْشِفُ فِي قُيُودِهِ ، وَكَانَ أبُوهُ قَدْ أوْثَقَهُ حِينَ خَشِيَ أنْ يَذْهَبَ إلَى رَسُولِ اللهِ ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ ظَهْرَانِ المُسْلِمِينَ ؛ وَقَالَ : إنِّي مِنْكُمْ وَإنِّي أعُوذُ باللهِ أنْ تُرْجِعُونِي إلَى الْكُفَّار.
فَأَرَادَ رجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنْ يَمْنَعُوهُ ، وَنَاشَدَهُمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الْعَهْدَ وَالْمِثَاقَ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ؛ فَسَيُنَجِّيهِ اللهُ مِنْهُمْ ". فَانْطَلَقَ بهِ أبُوهُ ، وَكَانَ مَاءُ الْحُدَيْبيَةِ قَدْ قَلَّ مِنْ كَثْرَةِ مَنْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأُتِيَ بدَلْوٍ مِنَ الْمَاءِ ، فَتَوَضَّأَ مِنْهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَمَضْمَضَ ثُمَّ مَجَّهُ فِي الدَّلْوِ ، ثُمَّ أمَرَهُمْ أنْ يَجْعَلُوهُ فِي الْبئْرِ ، فَامْتَلأَتِ الْبئْرُ مَاءً حَتَّى جَعَلُواْ يَغْرِفُونَ مِنْهُ وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَةِ الْبئْرِ ، وََكَانَ هَذا شَأْنُ الْحُدَيْبيَةِ.
ولَبثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَهراً وَصَيْفاً فوعَدَهم اللهُ خَيراً أنْ يفتحَها لَهم ، فلَمَّا رجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةِ نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ، والفتحُ الْمُبينُ : ما كان من استعلاءِ المسلمين عليهم حتى غلَبُوهم بالحجارةِ وأدخَلُوهم بيوتَهم ، وتيسير الصلحِ أيضاً من الفتحِ المبين وظهور النبيِّ صلى الله عليه وسلم على خَيبرَ من الفتحِ.
قال : (وَأنْجَى اللهُ أبَا جَنْدَلَ بْنَ سُهَيْلٍ مِنْ أيْدِيهِمْ ، وَخَرَجَ مِنْهُمْ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلاً كَرِهُواْ أنْ يَقْعُدُواْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَعَلِمُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَقْبَلُهُمْ حَتَّى تَنْقَضِي الْمُدَّةُ ، فَجَعَلُواْ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، فَأَرْسَلَ الْمُشْرِكُونَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُنَاشِدُونَهُ أنْ يَقْبضَهُمْ إلَيْهِ ، وَقالُواْ : أنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنِ اخْتَارَكَ عَلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ ؛ فَإنَّهُمْ إنْ يَكُونُوا مَعَكَ كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا ، فَلَحِقُوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ".
(0/0)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } ؛ قال ابنُ الأنباريِّ : (سَأَلْتُ أبَا عَبَّاسٍ عَنِ اللاَّمِ فِي قَوْلِهِ { لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ } ، فَقَالَ : هُوَ لاَمُ كَيْ ، مَعْنَاهَا : إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبيْناً لِكَيْ يَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْمَغْفِرَةِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْفَتْحِ ، فَلَمَّا انْضَمَّ إلَى الْمَغْفِرَةِ حادثٌ واقعٌ حَسُنَ مَعْنَى (كي).
وقولهُ تعالى : { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } المرادُ بالذنب ههُنا الصغائرُ ، فأما الكبائرُ فالأنبياء معصُومون منها أبداً ؛ لأنَّهم الأُمَناء على الوحيِ والرسالةِ. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : " كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ حَتَّى تَدْمَى قَدَمَاهُ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أتَصْنَعُ هَذا وَقَدْ جَاءَكَ مِنَ اللهِ أنْ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ : أفَلاَ أكُونُ عَبْداً شَكُوراً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } ؛ أي بالنبوَّة والمغفرةِ ، والمعنى ليجتمعَ لكَ مع الفتحِ تَمامُ النِّعمة بالمغفرةِ والهداية إلى صراطٍ مستقيم وهو الإسلامُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } ؛ أي ينصُرَك بالحجَّةِ والسيفِ على عدُوِّك نصراً قوياً لا ذُلَّ معه.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ قِيْلَ : السَّكينةُ هي ما أسكنَ اللهُ قلوبَهم من التعَظُّيم للهِ ولرسولهِ والوَقَار لئَلاَّ تُزعَجَ نفوسُهم لِمَا يَرِدُ عليهم. وقوله تعالى : { لِيَزْدَادُواْ إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ } ؛ أي ليَزدَادُوا تَصديقاً إلى تصدِيقهم السابقِ. قال الكلبيُّ : (لَمَّا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَصَدَّقُوا بَها ازْدَادُواْ تَصْدِيقاً إلَى تَصْدِيقِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي جُمُوعُ أهلِ السَّموات والإرضِ ، يعني الملائكةَ والإنس والشياطين ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } ؛ بمصالِحِ خَلقهِ ، { حَكِيماً } ؛ فيما يأمُرهم به وينهاهُم عنه.
قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا نَزَلَ{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }[الفتح : 1-2] قَالَ الصَّحَابَةُ : هَنِيئاً لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أعْطَاكَ اللهُ ، فَمَا لَنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً } ؛ أي نجاةً عظيمةً من النار وظَفَراً بالجنَّة.
(0/0)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ } ؛ معناهُ : إنَّا فتَحنا لكَ ليُدخِلَ اللهُ المؤمنين والمؤمناتِ جنَّاتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ ولِيُعَذِّبَ المنافقين من الرِّجال والمنافقاتِ من النساءِ ، وهُم أظهَرُوا الإيمانَ باللِّسان وأسَرُّوا الكفرَ من أهلِ المدينة ، { وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ } ؛ مِن أهلِ مكَّة ، { الظَّآنِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ } ؛ ومعنى ظنُّهم السوءَ : أنَّهم ظَنُّوا أن مُحَمَّداً صلى الله عليه لا يُنصَرُ عليهم وأنَّهم هم الذين ينصرُهم اللهُ على رسولهِ ، وذلك قبيحٌ لا يجوز في صفةِ الله تعالى : وقوله : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } ؛ أي العذابُ والهلاكُ ، { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } أي وطردَهم عن رحمتهِ ، { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ } ؛ في الآخرةِ ، { وَسَآءَتْ مَصِيراً }.
(0/0)
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ ليس على وجهِ التِّكرار ؛ لأنَّ الأولَ في أعانةِ المؤمنين ، وهذا متَّصلٌ بذكرِ المنافقين في الانتقامِ منهم ، ومعنى ذلك : أنَّ في الأولِ { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } فاللهُ قادرٌ على أن يُسَخِّرهم لينتقمَ بهم من أعدائهِ مِن كلِّ ما دبَّ ودرجَ من ذلك حتى البرغوث والعقربَ ؛ لأنَّ اللهَ لم يأمُرِ المسلمين بالقتالِ لأجلِ هلاك المشركين ، وإنما أمَرَهم بالقتالِ ليُعوِّضَهم بذلكَ جزيلَ الثواب الذي لا يُنَالُ إلاَّ بالقتالِ ، وههنا متَّصل ذكرُ الانتقامِ من المنافقين.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } ؛ أي لم يَزَلْ مَنِيعاً مستغنياً من الكفَّار ، حَكِيماً في أمرهِ وقضائه.
(0/0)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ؛ معناهُ : إنا أرسلناكَ يا مُحَمَّدُ شَاهداً على أُمَّتِكَ بتبليغِ الرسالة ، وَقِيْلَ : شاهدٌ على أقوالِهم وأفعالهم فإنَّها تُعرَضُ عليه ، { وَمُبَشِّراً } بالجنةِ للمطيعين ، { وَنَذِيراً } أي مُخَوِّفاً بالنار لِمَن عصَى اللهَ تعالى.
(0/0)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ } ؛ أي قُرِئ بالتاءِ في الأربعةِ على معنى قولِهم : لتُؤمِنَ باللهِ ورسوله ، وقُرئ بالياءِ في الأربعة أيضاً ؛ يعني : مَن آمنَ به وصدَّقَهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتُعَزِّرُوهُ } راجعٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أي يُعِينُوهُ ويَنصرُونَهُ بالسَّيْفِ واللسان ، وقرأ محمَّد بن السُّمَيقِعِ : (وَتُعَزِّزُوهُ) بزائين ، وقولهُ { وَتُوَقِّرُوهُ } أي وتُعَظِّموهُ وتُبجِّلوهُ ، وهذا وقفٌ تامٌّ.
وقولهُ تعالى : { وَتُسَبِّحُوهُ } ؛ أي وتسَبحون اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ، { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ؛ أي يُصَلُّونَ له بالغَداةِ والعشِيِّ ، وفي قراءةِ ابن عبَّاس : (وَتُسَبحُوا اللهَ بُكْرَةً وَأصِيلاً).
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ } ، يعني بيعةَ الرِّضوان بالحديبيةِ ، { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ } بايَعُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم على أنْ لا يفِرُّوا ويقاتِلُوا ، بايعَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرةٍ استظلَّ بها بالحديبيةِ ، وكان الذين بايعوهُ نحوَ ألفِ رجُلٍ وخمسمائة رجل ، بايعوهُ على النُّصرَةِ والنُّصحِ والسمعِ والطاعة ، وأن لا يفِرُّوا من العدوِّ.
ومعنى الآيةِ : إنَّ الذين يُبايعونكَ يا مُحَمَّدُ بالحديبيةِ على أن لا يفِرُّوا ، إنما يُبايعُون في ذاتِ الله ، ليس أنتَ المرادُ بذلك ، بل المرادُ به القيامُ بعبادةِ الله. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك أنَّهم بَاعُوا اللهَ أنفُسَهم بالجنَّة.
وقولهُ تعالى : { يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ، أي نِعمَةُ اللهِ في الهدايةِ فوقَ أيديهم في الطاعة ، يعني إحسانَ اللهِ إليهم بأن هدَاهُم للإيمانِ أبلغُ وأتَمُّ من إحسانِهم إليكَ بالنُّصرة والبيعةِ ، وقال ابنُ كَيسان : (مَعْنَاهُ : قُوَّةُ اللهِ وَنُصْرَتُهُ فَوْقَ أيْدِيهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ ؛ أي اتَّقِ باللهِ وَنُصْرَتِهِ لَكَ لاَ بنُصْرَتِهِمْ ، وَإنْ بَايَعُوكَ) ، وقال : مَعْنَاهُ : يَدُ اللهِ فِي الثَّوَاب وَالْوَفَاءِ لَهُمْ فَوْقَ أيْدِيهِمْ في الوفاء ، فَإنَّهُمْ لَوْ وَفَّوا بمَا ضَمِنُوا فَاللهُ أوْفَى بمَا ضَمِنَ ، وَأقْدَرُ عَلَى ذلِكَ). واليدُ ههنا هي القُدْرَةُ.
قولهُ : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } ؛ أي مَن نقضَ عقدَ البيعةِ فضررُ نقضهِ عائدٌ عليه ، وليس له الجنَّةُ ولا كرامةٌ ، { وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ } ؛ مِن البيعة فتَمَّ على ذلك واستقامَ ، { فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ؛ فسيعطيهِ اللهُ في الآخرةِ ثَواباً عظيماً في الجنة.
ورُوي أنَّ هؤلاء المبايعين لم ينقُضْ أحدٌ منهم البيعةَ ؛ لأنَّهم كانوا مُخلِصين ، ولذلك قالَ اللهُ{ لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ }[الفتح : 18] رضاهُ عنهم دليلٌ على أنَّهم كانوا مُؤمنين على الحقيقةِ ، أولياءَ الله أهلَ النُّصرة ، والذي لَمْ يدخُلْ معهم في البيعةِ يومئذٍ إلا رجلٌ من المنافقِين يقال له جَدُّ بن قيسٍ ، اختبأ يومئذ تحتَ إبطِ بَعيرهِ ولم يدخُلْ في بيعتِهم ، أماتَهُ اللهُ على نفاقهِ.
(0/0)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } أخبرَ اللهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجعَ من الحديبيةِ إلى المدينةِ ، أتاهُ الأعرابُ الذين يخلِفُون عنه بغيرِ عُذرٍ ، ولم يَخرُجوا معه وهم مُزَينَةُ وجُهَيْنَةُ وغطَفَانُ وقومٌ من الدَّيلِ ، فيقولون له : شَغَلَتْنَا أموالُنا وأهلُونا عن الخروجِ معك يا محمد ، أي شغلَتنا النساءُ والذراري فلم يكن لنا مَن يخلِفُنا فيهم ، { فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } ؛ من التخلُّفِ عنكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } ؛ أي يسأَلُون المغفرةَ بأَلسِنَتِهم { مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني : لأنَّهم لا يُبَالُونَ أسْتَغْفَرْتَ لَهم أمْ لم تستغفِرْ لَهم.
وقد كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ أرَادَ الْمَسِيرَ إلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبيَةِ ، اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الأَعْرَاب وَأهْلِ الْبَوَادِي لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذراً مِنْ قُرَيْشٍ أنْ يُحَاربُوهُ وَيَصْرِفُوهُ عَنِ الْبَيْتِ ، وَأحْرَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بالْعُمْرَةِ وَسَاقَ الْهَدْيَ لِيُعْلِمَ النَّاسَ أنَّهُ لاَ يُرِيدُ حَرْباً ، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الأَعْرَاب وَقَالُواْ : نَذْهَبُ مَعَهُ إلَى قَوْمٍ قَدْ جَاءُوا يَقْتُلُونَ أصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ ، فَتَخَلَّفُوا عَنْهُ ، وَاعْتَلُّوا بالشُّغْلِ ، فأنزلَ اللهُ تعالى : { سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا } الآيةُ.
قًوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } ؛ معناهُ : مَن يمنعُكم من عذاب الله إنْ أقَمتُم على الكفرِ والنفاق ، { بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ؛ معناهُ : بل كان اللهُ عالِماً بتخلُّفِكم عن القتالِ من غير عُذرٍ.
قرأ حمزةُ والكسائي وخلفٌ (ضُرّاً) بضم الضاد وهو سُوءِ الحالِ ، وقرأ الباقون (ضَرّاً) بفتح الضادِ لأنه قابَله بالنفعِ ، وأرادَ بالنفعِ الغنيمةَ. وذلك أنَّهم ظَنُّوا أن تَخلُّفَهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يدفعُ عنهم الضُّرَّ ، ويعجِّلُ لهم النفعَ بالسلامةِ في أنفسهم وأموالِهم ، فأخبرَهم اللهُ تعالى أنه إنْ أرادَ بهم شيئاً لم يقدِرْ أحدٌ على دفعهِ عنهم.
(0/0)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أظهرَ اللهُ نفاقَهم ، وبيَّن أنَّ تخلُّفَهم عنه لم يكن بسبب أموالهم وأهلِيهم ، ولكن كانوا يقُولون فيما بينهم : يَسْتَأْصِلُ مُحَمَّداً وأصحابَهُ عدُوُّهم في هذِه الكرَّة فلا يرجِعون إلى المدينةِ أبداً فنَستريحُ منهم.
وقولهُ تعالى : { وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ } ؛ أي زَيَّنَ الشيطانُ لكم ذلك الظنَّ في قُلوبكم ، { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ } ؛ أي ظنَنتُم نبيَّ اللهِ وأصحابَهُ أنَّهم لن يرجِعُوا من سفَرِهم هذا وأنَّهم سيهلَكُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } ؛ أي هَلْكَى فاسدِي القلُوب لا تَصلُحون لخيرٍ ، والبَوَارُ الهلاكُ ، وما بعدَ هذا ، { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيراً * وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ، ظاهرُ المعنى.
(0/0)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ } ؛ يعني هؤلاءِ المخَلَّفين سيقولون لرَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ : { إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ } ، خيرٍ ، { لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } ؛ نخرُجْ معَكم ، فأمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَمنَعَهم من ذلك بعدَ تخلُّفهم من غزوةِ الحديبية.
فلما رجعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الحديبيةِ وانطلقَ إلى خيبرَ ، قال هؤلاءِ المخلَّفون { ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ } قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ اللَّهِ } ؛ أي أنَّ اللهَ تعالى خصَّ أهلَ الحديبيةِ بمغانمِ خَيبرَ ، وأمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن لا يَأْذنَ للمنافقين أن يُخرِجُوهم معهم إلاَّ متطوِّعين ليس لهم من المغانمِ شيءٌ. فأرادَ المنافقون أن يُشاركوا فيها ليُبطِلُوا حكمَ اللهِ تعالى : { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَالِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ } ؛ يعني : أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ لا يُسَيِّرَ معه منهم أحداً.
ومعنى قوله { مِن قَبْلُ } أي قالَ اللهُ في ذلك بالحديبيةِ قبلَ خيبرَ ، وقبلَ خروجنا إليكم : أنَّ غينمةَ خيبر لِمَن شَهِدَ الحديبيةَ ، { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } ؛ أي سيقُولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يأمُرْكم اللهُ بذلك ، ولكن تحسُدُونَنا أن نُشاركَكم في الغنيمةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي لا يعلَمُون عن اللهِ ما لهم وعليهم مِن الدين إلاَّ قليلاً منهم ، وهو مَن صدَّقَ الرسول ولم يُنافِقْ.
(0/0)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ } ؛ أي قُل لهؤلاء المخلَّفين عن الحديبيةِ : { سَتُدْعَوْنَ } ؛ بعدَ موتِ النبي صلى الله عليه وسلم { إِلَى } ؛ قتالِ ؛ { قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } ؛ أي أهلِ اليمَامَةِ ، قال الزهريُّ : (هُمْ أهْلُ الْيَمَامَةِ بَنُو حَنِيفَةَ أتْبَاعُ مُسَيْلَمَةَ ، فَأَتَاهُ أبُو بَكْر ٍ رضي الله عنه) ، قال رافعُ بن خَديج : (كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ وَلاَ نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أنَّهُمْ هُمْ).
وقال ابنُ جُريج : (سَيَدْعُوكُمْ عُمَرُ رضي الله عنه إلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ) { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } ؛ معناهُ : تُقاتِلُوهم أن يكون منهم الإسلام ، { فَإِن تُطِيعُواْ } ؛ أبَا بكرٍ وعمر ، { يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً } ؛ عَظيماً في الجنَّة ، { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } ؛ عن طاعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في المسيرِ إلى الحديبية ، { يُعَذِّبْكُمْ } ؛ في الآخرةِ ، { عَذَاباً أَلِيماً } ؛ شَديداً.
قرأ أُبَيُّ (أوْ يُسْلِمُوا) بحذفِ النُّون ؛ أي حتى يُسلِمُوا ، وكقولِ امرئِ القيسِ : (أوْ نَمُوتَ) ، وقرأ الكافَّة بإثباتِ النُّون في محل الرفعِ عطفاً على { تُقَاتِلُونَهُمْ }.
(0/0)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } ؛ أي ليس على هؤلاءِ إثْمٌ في قُعودِهم عن القتالِ لعَجزِهم عنه ، { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ عائدٌ إلى مَن يلزمهُ الجهادُ ، { وَمَن يَتَوَلَّ } ؛ عن الجهادِ مع قُدرتهِ عليه ، { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً }.
(0/0)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } ؛ يعني بيعةَ الرُّضوانِ بالحديبيةِ ، وإنما سُميت بيعةُ الرضوانِ بهذه الآية ، وكان سببُ هذه البيعةِ : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَارَ يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَلَمَّا بَلَغَ الْحُدَيْبيَةَ وَقَفَتْ نَاقَتُهُ ، فَزَجَرَهَا فَلَمْ تَنْزَجِرْ وَبَرَكَتْ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا هَذا بعَادَةٍ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابسُ الفِيْلِ ".
وَدَعَا عُمَرَ رضي الله عنه لِيُرْسِلَهُ إلَى أهْلِ مَكَّةَ ، فَيَأْذنُوا لَهُ بأَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَيُحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا لِي بهَا حَمِيمٌ وَلَيْسَ بمَكَّةَ مِنْ بَنِي عَدِيُّ بْنُ كَعْبٍ يَمْنَعُنِي ، وَإنِّي أخَافُ قُرَيْشَ عَلَى نَفْسِي لأَنَّهَا قَدْ عَلِمَتْ عَدَاوَتِي إيَّاهَا ، وَلَكِنْ أدُلُّكَ عَلَى رَجُلٍ أعَزُّ بهَا مِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ ، قالَ : " صَدَقْتَ ". فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عُثْمَانَ بْنُ عَفَّانٍ فَأَرْسَلَهُ.
فَجَاءَ الشَّيْطَانُ وَصَاحَ فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : بأَنَّ أهْلَ مَكَّة قَتَلُواْ عُثْمَانَ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الشَّجَرَةِ فَاسْتَنَدَ إلَيْهَا ، وَبَايَعَ النَّاسَ عَلَى قِتَالِ أهْلِ مَكَّةَ.
قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ مَعْقِلٍ : كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذلِكَ الْيَوْمَ ، وَبيَدِي غُصْنٌ مِنَ الشَّجَرَةِ أذبُّ بهِ عَنْهُ وَهُوَ يُبَايعُ النَّاسَ ، كَانَ أوَّلُ مَنْ بَايَعَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ يُقَالُ لَهُ أبُو سِنَانِ بْنِ وَهَبٍ ".
واختلَفُوا في عددِ أهلِ البيعة ، فقال قتادةُ : (كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً) ، وقال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ) ، وقال جابرُ : (كَانُوا ألفاً وَأرْبَعَمِائَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } ؛ أي فعَلِمَ اللهُ ما في قلوبهم من الصِّدق والوفاءِ والإخلاصِ والعزمِ على القتال ، { فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ } ؛ يعني الطُّمَأنِينَةَ والصبرَ والرضا حين بايَعُوا على أن يُقاتِلوا ولا يفِرُّوا ، { وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } ؛ أي وأعطَاهم فتحَ خيبرَ.
(0/0)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } ؛ معناهُ : ومغانِمَ كثيرةً يأخذُونَها من أموالِ يهود خيبرَ ، وكانت خيبرُ ذات عقارٍ وأموالٍ ، { وَكَان اللَّهُ عَزِيزاً } ؛ أي غَالباً ، { حَكِيماً } ؛ في أمرهِ ، حكَمَ لهم بالغنيمةِ ، ولأهلِ خيبرَ بالسَّبي والهزيمةِ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه : " وأنَا رَدِيفَ أبي طَلْحَةَ يَوْمَ أتَيْنَا إلَى خَيْبَرَ ، فَصَبَّحَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أخَذُواْ مَسَاحِيهِمْ وَفُؤُسَهُمْ وَغَدَوا عَلَى حُرُوثِهِمْ ، فَلَمَّا رَأوْنَا ألْقَواْ ما بأَيْدِيهِمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " اللهُ أكْبَرُ ، خَرِبَتْ خيْبَرُ ، إنَّا إذا نَزَلْنَا بسَاحَةٍ قَوْمٍ فَسٍَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذرينَ " ".
وعن عبدِاللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبيِهِ قَالَ : " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى خَيْبَرَ ، سَرَيْنَا لَيْلاً وَعَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ مَعَنَا وَكَانَ شَاعِراً ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ : ألاَ تُسْمِعُنَا يَا عَامِرُ ، فَنَزَلَ يَحْدُوا بالْقَوْمِ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ لَوْلاَ أنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَاهُمُ الَّذِينَ بَغَواْ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَافَاغْفِرْ بفَضْلِكَ مَا أتَيْنَا وَثَبتِ الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَاوَألْقِيَنَّ السَّكِينَةَ عَلَيْنَا " قَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ هَذا ؟ " قَالُوا : عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ ، قَالَ : " قَدْ غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ يَا عَامِرُ " فَقَالَ رَجُلٌ : لَوْ أمْتَعْتَنَا بهِ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم). وإنما قالَ ذلكَ ؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما استغفرَ لرجُلٍ قطُّ إلاَّ استُشهِدَ.
قالَ : (فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ وَتَصَافَّ الْقَوْمُ ، خَرَجَ يَهُودِيٌّ فَخَرَجَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الأَكْوَعِ وَهُوَ يَقُولُ : " قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنِّي عَامِرُ شَاكِي السِّلاَحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ " وَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَيْنِ ، فَوَقَعَ سَيْفُ الْيَهُودِيِّ فِي تِرْسِ عَامِرٍ ، وََوَقَعَ سَيْفُ عَامِرٍ عَلَى رُكْبَةِ نَفْسِهِ وَسَاقِهِ فَمَاتَ مِنْهَا. قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ : فَمَرَرْتُ عَلَى نَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ : بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ ، فَأَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأنَا أبْكِي فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ ، فَقَالَ : " كَذبَ مَنْ قَالَ ذلِكَ ، بَلْ لَهُ أجْرُهُ مَرَّتَيْنِ ".
ثُمَّ عَادَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً رضي الله عنه وَكَانَ حِيْنَئِذٍ أرْمَدَ قَدْ عَصَبَ عَيْنَهُ بشِِقِّ بُرْدٍ ، قَالَ سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ : فَجِئْتُ بهِ أقُودُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا لَكَ يَا عَلِيُّ ؟ " قَالَ : رَمَدْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " أُدْنُ مِنِّي " فَدَنَا مِنْهُ ، فَتَفَلَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرِئَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَمَا وُجِعَتْ عَيْنَاهُ بَعْدَ ذلِكَ أبَداً حَتَّى مَضَى سَبيلُهُ. ثُمَّ أعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الرَّايَةَ فَهَدَى بهَا وَعَلَيْهِ حُلَّةُ أُرْجُوَانٍ حَمْرَاءُ ، فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ ، فَخَرَجَ مَرْحَبُ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأسِهِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ : "
(0/0)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } ؛ أي وعدَكم اللهُ في المستقبلِ من زمانٍ غنائمَ كثيرةً تأخُذونَها ، قال مقاتلُ : (مَنْ قَاتَلَ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَـاذِهِ } ؛ يعني غنيمةَ خيبر ، { وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ } ؛ أي مَنَعَ أسَداً وغطفانَ من قتالِكم ، وكانوا حُلفاء لأهلِ خيبرَ ، وذلك أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَصَدَ خَيْبَرَ وَحَاصَرَ أهْلََهَا ، هَمَّتْ قَبَائِلُ مِنْ أسَدٍ وَغَطَفَانَ أنْ يُغِيرُواْ عَلَى عِيَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذرَاريهِمْ بالْمَدِينَةِ ، فَكَفَّ اللهُ أيْدِيَهُمْ بإلْقَاءِ الرُّعْب فِي قُلُوبهِمْ.
وقولهُ تعالى : { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي ولتكون غنيمةُ خيبرَ دلالةً على المؤمنين على صدقِكَ يا مُحَمَّدُ ، حيث إنَّ اللهَ تعالى أخبرَ أنَّهم يُصيبونَها في المستقبلِ ، ثم وجدَ المخبر على وفق الخبر ، وقولهُ تعالى : { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } ؛ أي ويُثِيبَكم على دينِ الإسلامِ ، ويُرشِدَكم إلى الأدلَّة في الدينِ.
(0/0)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } ؛ أي وعدَكم فتحَ بلدةٍ أُخرى لم يقدِرُوا عليها الآن ، { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } ؛ يفتَحُها عليكم ، قال الفرَّاءُ : (حَفِظَهَا لَكُمْ وَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ).
واختلَفُوا فيها ، فقالَ ابنُ عبَّاس وابن أبي ليلى والحسن ومقاتل : (هِيَ فَارسُ وَالرُّومُ) وَكَانَتِ الْعَرَبُ لاَ تَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ فَارسَ وَالرُّومَ ، وَفَتْحِ مَدَائِنِهَا حَتَّى قَدِرُواْ عَلَيْهَا بالإسْلاَمِ. وقال قتادةُ : (هِيَ مَكَّةُ) ، وقال عكرمةُ : (هِيَ خَيْبَرُ). وقولهُ تعالى { قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا } أي أحاطَتْ قدرتهُ بها وبأهلِها ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } ؛ كلِّ شيءٍ من فتحِ القُرَى والنصرِ وغير ذلك قديرٌ.
(0/0)
وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ قَـاتَلَكُمُ الَّذِينَ كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأَدْبَارَ } ؛ يعني أسَداً وغطفانَ الذين أرَادُوا نَهب ذراري المسلمين فانْهَزَمُوا عنكم لأنَّ الله ينصرُكم عليهم ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ؛ قال ابنُ عباس : (مَنْ تَوَلَّى غَيْرَ اللهِ خَذلَهُ اللهُ وَلَمْ يَنْصُرْهُ).
(0/0)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ } ؛ أي سُنة اللهِ التي قد خلَتْ من قبلُ في نَصرِ أوليائهِ وقهرِ أعدائه ؛ أي هذه سُنَّتي في أهلِ طاعةٍ وأهلِ معصية أنصُر أوليائي وأخذلُ أعدائي ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ } ؛ لحكمِ الله ، { تَبْدِيلاً } ؛ تغييراً.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ يدلُّ على أنَّ اللهَ تعالى منعَ أيدِي أهلِ مكَّة يومَ الحديبيةِ عن قتالِ المسلمين بالرُّعب ، ومنعَ أيدينا عن قتالِهم بالنَّهي.
وَقِيْلَ : إنَّ المؤمنين لم يُنهَوا عن قتالِهم يومئذٍ ، ولكن لم يقدِّرْ الله ذلك للمؤمنين إبقاءً للمؤمنين المستضعَفين الذين كانوا في أيدِي المشركين كما قال تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ }.
وقولهُ تعالى : { مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } ، قال أنسُ رضي الله عنه : (وَذلِكَ أنَّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ جَبلِ التَّنْعِيمِ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ مُتَسَلِّحِينَ ، يُرِيدُونَ غِرَّةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ ، فَأَخَذهُمْ رَسُولُ اللهِ وَأعْتَقَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ }.
وقال ابنُ عبَّاس : (بَعَثَتْ قُرَيْشُ أرْبَعِينَ رَجُلاً أوْ خَمْسِينَ رَجُلاً مِنْهُمْ ، وَأمَرُوهُمْ أنْ يَطُوفُواْ بعَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْحُدَيْبيَةِ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أصْحَابهِ أحَداً ، فَأُخِذُواْ فَأُتِيَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ ، فَعَفَا عَنْهُمْ وَخَلَّى سَبيلَهُمْ ، وَقَدْ كَانُوا رَمَوا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ بالْحِجَارَةِ وَالنَّبْلِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). { هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي همُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ والقرآنِ ، يعني كفَّارَ مكة ، وصَدُّوكم عن المسجدِ الحرام أن تطُوفوا به للعُمرة ويحلوا من عمرتِكم.
وقولهُ تعالى { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً } أي وصَدُّوا الهديَ مَمْنُوعاً أن يبلغَ مَحِلَّهُ الذي إذا صارَ إليه حلَّ نحرهُ وهو الحرمُ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم ساقَ في ذلك العام سَبعين بَدْنَةً إلى مكَّة. { مَعْكُوفاً } في اللغة هو الممنوعُ عن الذهاب في جهته بالإقامةِ في مكانه ، يقالُ : عَكَفَ على الأمر عكوفاً ، واعْتَكَفَ في المسجدِ إذا أقامَ به.
ومعنى الآيةِ : هم الذين كفَرُوا وصدُّوكم عن المسجدِ الحرام ، وصدُّوا الهديَ وهي البُدْنُ التي ساقَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكانت سَبعين بَدْنَةً معكوفاً أي مَحْبُوساً أن يبلُغَ مَحِلَّهُ أي مسجدَهُ ، وهذه الآيةُ دلالةٌ على أن محِلَّ الهدي الحرمُ ، ولو كان محلهُ غيرُ الحرمِ لَمَا كان مَعْكُوفاً عن بلوغِ محلَّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ } ؛ معناهُ : ولو تطَأُوا رجالاً مُؤمِنين ونساءً مُؤمِنات مُقِيمَات بمكَّة لم تعلَمُوهم فتقتلوهم ، { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ } ؛ قِبَلَهم ، { مَّعَرَّةٌ } ؛ أي عَيْبٌ ومسَبَّة في العرب بأنَّكم قتَلتُم أهلَ دينِكم ، ويقالُ : أراد بالْمَعَرَّةِ الغَمَّ والجزعَ. وجوابُ (لَوْلاَ) محذوفٌ تقديرهُ : لولا ذلك لدَخلتُم على أهلِ مكَّة ولوطأتموهم لَيْلاً ولضَربتُم رقابَ المشركين بنَصرِنا إيَّاكم ، ولكنَّ اللهَ منعَ من ذلك كراهةَ وطئِ المؤمنين المستضعَفين الذين كانوا بمكَّة ، والمؤمناتِ بالقتلِ لأنَّهم لو دخَلُوا مكَّة لم يتميَّز لهم المؤمنون من الكفَّار ، فلم يأْمَنوا أن يَقتُلوا المؤمنين.
(0/0)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ } قال مقاتلُ : (إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْحُدَيْبيَةَ وَمَعَهُ الْهَدْيُ ، قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ : قَتَلَ مُحَمَّدٌ أبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنَا ، ثُمَّ أتَانَا يَدْخُلُ عَلَيْنَا فِي مَنَازلِنَا ، فَتُحَدِّثُ الْعَرَبُ أنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ آنَافِنَا ، واللاَّتِ وَالعُزَّى لاَ يَدْخُلُ عَلَيْنَا. فَهَذِهِ الْحَمِيَّةُ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ؛ حتى لم يدخُلوا ، { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى } ؛ وهو كلمةُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، الكلمةُ التي يُتَّقَي بها من الشِّرك.
والحميَّةُ في اللغة : هي الأَنَفَةُ التي تَحمِي الإنسانِ كأنَّ قُلوبَهم حَمِيَّةٌ لِمَعصِيَةِ اللهِ ، فأنزلَ اللهُ بدلُّ ذلك على قلب نَبيِّهِ عليه السلام وعلى قلوب المؤمنين من الطُّمأنينةِ والسُّكون والوقَار والهيبةِ ، وألزَمَهم توحيدَ اللهِ والإيمان برسولهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } ؛ أي كانُوا أحَقَّ بكلمةِ التوحيد من كفَّار مكَّة وكانوا أهلَها في علمِ الله تعالى مستحقِّين لها في الدُّنيا ، { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ } ؛ من أمرِهم ، { عَلِيماً }.
وعن وعثمانِ بن عفان رضي الله عنه قال : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا عَبْدٌ حَقّاً مِنْ قَلْبهِ إلاَّ حَرَمَهُ عَلَى النَّار " ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : (أنَا أُحَدِّثُكَ بهَا ، هِيَ كَلِمَةُ الإخْلاَصِ الِّتِي ألْزَمَهَا اللهُ مُحَمَّداً وَأصْحَابَهُ وَهِيَ كَلِمَةُ التَّقْوَى).
وقال عطاءُ الخراساني : (هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ). وعن عليٍّ رضي الله عنه أنْ سُئِلَ عَنْ كَلِمَة ِالتَّقْوَى فَقَالَ : (هِيَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَاللهُ أكْبَرُ) ، وهو قولُ ابنِ عمر. وقال عطاءُ بن رَباح : (هِيَ لاَ إلََهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وَقِيْلَ : إنَّ الْحَمِيَّةَ التي جعلَها الكفارُ في قلوبهم ، هي مَا رُوي : " أنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا سَأَلُواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَكْتُبَ لَهُمْ بكِتَاب الصُّلْحِ ، قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : " أكْتُبْ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ : أمَّا الرَّحْمَنُ فَلاَ نَدْري مَا هُوَ ، وَلَكِنِ اكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللهِ لاَ يَكْتُبُهَا إلاَّ بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ : " أُكْتُبْ : باسْمِكَ اللَّهُمَّ ، ثُمَّ اكْتُبْ : هَذا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ". فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : وَاللهِ لَوْ نَعْلَمُ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلاَ قَاتَلْنَاكَ ، لَكِنِ اكْتُبْ باسْمِكَ وَاسْمِ أبيكَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لَرَسُولُ اللهِ وَلَقَدْ كَذبْتُمُونِي ".
وَقَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : " أمْحُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم " فََقَالَ عَلِيٌّ : لاَ أمْحُوكَ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَمَحَاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ قَالَ : " أكْتُبْ : هَذا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِاللهِ سُهَيْلَ ابْنَ عَمْرٍو عَلَى وَضْعِ الْحَرْب بَيْنَ النَّاسِ بكَفِّ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ ، عَلَى أنَّهُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مِنْ أصْحَاب مُحَمَّدٍ حَاجّاً أوْ مُعْتَمِراً أوْ يَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللهِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ. وَمَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ قُرَيْشٍ مُجْتَازاً إلَى مِصْرَ أو الشَّامِ فَهُوَ آمِنٌ عَلَى دَمِهِ وَمَالِهِ " ".
(0/0)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّءْيَا بِالْحَقِّ } ؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأى فِي الْمَنَامِ وَهُوَ بالْمَدِينَةِ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَى الْحُدَيْبيَةِ كَأَنَّهُ هُوَ وَأصْحَابُهُ حَلَقُواْ وَقَصَّرُواْ ، فَأَخْبَرَ بذلِكَ أصْحَابَهُ فَفَرِحُوا وَحَسِبوا أنَّهُمْ دَاخِلُوا مَكَّةَ عَامَهُمْ ذلِكَ ، وَقَالُواْ : إنَّ رُؤْيَةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ.
فَلَمَّا رَجَعَ وَأصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبيَةِ وَلَمْ يَدْخُلُواْ مَكَّةَ ، قَالَ الْمُنَافِقُونَ : وَاللهِ مَا حَلَقْنَا وَلاَ قَصَّرْنَا وَلاَ دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. فأنزلَ اللهُ الآيةَ وأخبرَ أنه أرَى رسولَ الله الصِّدقَ في منامهِ ، وأنَّهم يدخلونَهُ فقالَ اللهُ : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } ؛ يعني العامَ المقبل ، { إِن شَآءَ اللَّهُ } ؛ قال أبو عُبيدة : (إنَّ مَعْنَى : إنْ شَاءَ اللهُ) حَيْثُ أُريَ رَسُولَ اللهِ فِي الْمَنَامِ. وقال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى : (اسْتَثْنَى اللهُ فِيْمَا يَعْلَمُ ، ليَسْتَثْنِي الْخَلْقُ فِيْمَا لاَ يَعْلَمُونَ).
وَقِيْلَ : معناهُ : بمشيئةِ اللهِ ، وقال بعضُهم : هذا اللفظُ حكايةُ الرُّؤيا التي رَآها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّهُ رأى في المنامِ أنَّ ملَكاً يُنادي : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ }. وَقِيْلَ : إنما كان ذلك تَأدِيباً للعبادِ ليَدخُلوا كلمةَ الاستثناءِ فيما يُخبرونَ عنه في المستقبلِ من نفيٍ وإثبات ، قوله : { آمِنِينَ } ؛ أي آمِنين من العدوِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } ؛ قَريباً أنَّهم يدخُلون مكَّة إلى أنْ يبلُغوا آخرَ النُّسُكِ ، { لاَ تَخَافُونَ } ؛ العدوَّ ، بخلافِ عامِ الحديبية. فيه دليلٌ أن الحلقَ والتقصيرَ قُرْبَةٌ في الإحرامِ من حيث إن الإحلالَ يقعُ بهما ، وفيه دليلٌ أن المحرِمَ بالخيار عند التحليلِ من الإحرام إنْ شاءَ حَلَقَ وإنْ شاء قصَّرَ. وفي الحديثِ : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاَثاً ، وَلِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَخَافُونَ } أي لا تخافُون من المشركين ، { فَعَلِمَ } ؛ اللهُ ما في تأخيرِ الدُّخول عامَ الحديبيةِ من الخير والصَّلاحِ ، { مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } ؛ أنتم ، { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } ؛ أي من قبلِ الدُّخول ، { فَتْحاً قَرِيباً } ؛ يعني فتحَ خيبر.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ؛ أي أرسلَ رسولَهُ بالطريقِ المؤدِّي إلى الجنَّة ودينِ الإسلامِ ليُظهِرَ دينَ الإسلامِ على الأديانِ كُلِّها بالحجَّة والغلَبَة ، { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } ؛ على نبُوَّتكَ ورسالتكَ إنْ لم يشهَدْ سُهَيلُ وأمثالهُ.
(0/0)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } ؛ هذا مبتدأ وخبرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ } ؛ أي والَّذين معَهُ من المؤمنينِ أشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار ، غِلاَظٌ عليهم ، والأشِدَّاءُ جمعُ الشَّديدِ ، وهو قويُّ في دينِ الله تعالى ، القويُّ على أعداءِ الله ، كانوا لا يَمِيلُونَ إلى الكفَّار لقَرابَةٍ ولا غيرِها ، بل أظهَرُوا لهم العداوةَ في الدينِ ، وكانوا على الكفَّار كالأَسَدِ على فرسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ؛ أي مُتَوادِدُون فيما بينَهم ، مُتعَاطِفُون حتى أنَّهم كانوا بعضَهم لبعضٍ كالوالدِ لولدهِ ، والعبدِ لسيِّدهِ ، وقولهُ تعالى : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } ؛ أي رَاكعين وساجِدين يُكثرون الصلاةَ للهِ ، { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً } ؛ يعني الجنَّةَ ، ورضَى اللهِ تعالى.
قولهُ : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } ؛ أي علامةُ التهَجُّد ظاهرةٌ على وجوهِهم من كَثرَةِ السُّجود بالليلِ ، والمعنى يتبيَّن في وُجوهِهم أثرُ السَّهَرِ ، قال الضحَّاك : (إذا سَهِرَ أصْبَحَ مُصْفَرّاً) وقال عطيَّةُ : (مَوَاضِعُ السُّجُودِ أشَدُّ بَيَاضاً فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وقال مجاهدُ : (يَعْنِي الأَثَرُ : الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ). وقال عكرمةُ : (هُوَ التُّرَابُ عَلَى الْجِبَاهِ لأَنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَاب لاَ عَلَى الثِّبَاب).
وقال الحسنُ في وصفِهم : (إذا رَأيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى ، وَمَا بالْقَوْمِ مَرَضٌ ، وَيَقُولُ : لَعَلَّهُمْ خُولِطُواْ فِي عُقُولِهِمْ ، وَاللهِ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أمْرٌ عَظِيمٌ). يريدُ بذلك ما في قلوبهم من خوفِ الآخرةِ.
وقال بعضُهم : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } هو نورٌ يجعلهُ الله في وجوهِهم يومَ القيامةِ ، يُعرَفون بتلك العلامةِ أنَّهم سجَدُوا في الدُّنيا كما قالَ اللهُ{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }[آل عمران : 106] ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " تُحْشَرُ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَار الْوُضُوءِ ".
وقال منصورُ : (سَأَلْتُ مُجَاهِدَ عَنْ قَوْلِهِ : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قَالَ : لَيْسَ هُوَ الأَثَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي جَبْهَةِ الرَّجُلِ مِثْلَ رُكْبَةِ الْبَعِيرِ ، فَقَدْ يَكُونُ ذلِكَ برَجُلٍ هُوَ أقْسَى قَلْباً مِنَ الْحِجَارَةِ ، وَلَكِنْ هُوَ نُورٌ فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ الْخُشُوعِ). وقال ابن جُريج : (هُوَ الْوَقَارُ) ، وقال سَمُرة : (هُوَ الْبَهَاءُ) ، وقال سفيانُ : (يُصَلُّونَ باللَّيْلِ ، فَإذا أصْبَحُوا عُرِفَ ذلِكَ فِي وُجُوهِهِمْ ؛ بيانهُ قولهُ عليه السلام : " مَنْ كَثُرَتْ صَلاَتُهُ باللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بالنَّهَار " ورُوي في بعضِ الأخبار : " أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِِيَامَةِ : يَا نَارُ أنْضِجِي ، يَا نَارُ أحْرِقِي وَمَوْضِعَ السُّجُودِ لاَ تقرَبي ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ } ؛ أي ذلك الَّذي ذكرَهُ في القرآنِ مَن وصفَهم هو ما وُصِفوا به في التَّوراةِ ، { وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ } ؛ أيضاً ، ثم ذكَرَ اللهُ وَصْفَهم في الإنجيلِ : { كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } ؛ أي سبيلَهُ ، وقال ابنُ زيدٍ : (أوْلاَدَهُ). والشَّطْأُ : فِرَاخُ الزَّرعِ ، يقالُ : الشَّطْأُ الزَّرْعُ أنْ يُخْرِجَ سَبْعاً أو ثَمَانياً أو عَشْراً ، وهذا مثَلٌ ضربَهُ اللهُ لأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، يعني أنَّهم يكُونون قَليلاً ثم يَزدَادون ويَكثَرون ويَقْوَوْنَ ، قال قتادةُ : (مَكْتُوبٌ فِي الإنْجِيلِ : أنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ ، يَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي لا تقطَعُوا أمراً دونَ اللهِ ورسولهِ ، ولا تعجَلُوا بهِ ، وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا في قولهِ { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } : (أيْ تَصُومُواْ قَبْلَ أنْ يَصُومَ نَبيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم) { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ في تَضييعِ حقِّه ومخالفةِ أمرهِ ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } ؛ لأقوالِكم ، { عَلِيمٌ } ؛ بأفعالِكم ، وقال جابرٍ (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } فِي النَّهْيِ عَنِ الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى قَبْلَ الصَّلاَةِ).
وقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : " نَزَلْنَ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشُّكِّ) ، وعن مسروقٍ قالَ : (دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي يَوْمِ الشُّكِّ ، فَقَالَتْ لِلْجَاريَةِ : اسْقِيهِ ، فَقُلْتُ : إنِّي صَائِمٌ ، فَقَالَتْ : قَدْ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنْ صَوْمِ هَذا الْيَوْمِ ، وَفِيْهِ نَزَلَ { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }.
وعن الحسنِ البصريِّ قال : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الذبْحِ يَوْمَ الأَضْحَى ، كَأَنَّهُ قَالَ : لاَ تَذْبَحُواْ قَبْلَ ذبْحِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَذلِكَ أنَّ نَاساً مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذبَحُواْ قَبْلَ صَلاَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : فَأَمَرَهُمْ أنْ يُعِيدُواْ الذبْحَ).
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه قال : (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَهْطاً مِنْ أصْحَابهِ وَهُمْ سَبْعٌ وَعُشْرُونَ رَجُلاً ، وَأمَّرَ عَلَيْهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو ، وَأمَرَهُمْ أنْ يَسِيرُوا إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وَأنْ يَمُرُّواْ عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ ، فَبَاتُوا عِنْدَهُمْ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الرَّحِيلِ ، أضَلَّ أرْبَعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعِيراً لَهُمْ ، فَاسْتَأْذنُوا الْمُنْذِرَ أنْ يَتَخَلَّفُواْ عَنْهُ حَتَّى يَطْلِبُوهُ ، فَأَذِنَ لَهُمْ.
وَسَارَ الْمُنْذِرُ بمَنْ بَقِيَ مَعَهُ ، وَكَانَتْ بَنُوا سُلَيْمٍ دَسَّتْ إلَى بَنِي عَامِرِ خَبَرَ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَاسْتَعَدُّواْ لِقِتَالِهِمْ وَاجْتَمَعُواْ لَهُمْ ، فَسَارَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى بئْرِ مَعُونَةَ ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالاً شَدِيداً وَقُتِلَ الْمُنْذِرُ وَأصْحَابُهُ ، وَقُتِلَ أحَدُ الأَرْبَعَةِ وَرَجَعَ الثَّلاَثَةُ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ خَارجَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُواْ : مِمَّا أنْتُمَا ؟ فَقَالاَ : مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، فَقَالُواْ : إنَّهُمَا مِنْ عَدُوِّنَا ، فَقَتَلُوهُمَا وَأخُذوْا سَلْبَهُمَا.
وَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذكَرُوا لَهُ الْقِصَّةَ ، فَقَالَ لَهُمْ صلى الله عليه وسلم : " بئْسَمَا فَعَلْتُمْ ، إنَّهُمَا مِنْ أهْلِ مِيثَاقِي مَنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَهَذا الَّذِي مَعَكُمْ مِنْ سَلْبهِمَا مِنْ كِسْوَتِي ".
وَجَاءَ السُّلَيْمِيُّونَ يَطْلُبُونَ الْقَوَدَ ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه سلم : " إنَّ صَاحِبَيْكُمْ اعْتَزَمَا إلَى عَدُوَِّنَا ، فَلاَ قَوَدَ فِيهِمَا وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إلَيْكُمُ الدِّيَةَ " فَأَمَرَ عليه السلام أنْ تُقْسَمَ دِيَتَهُمَا عَلَى أهْلِ مِيثَاقِهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ) ".
والمعنى : لا تُقدِّموا بقولٍ ولا فعلٍ حتى يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يأمُركم في ذلك.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ؛ رُوي : " أنَّ رَهْطاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَدِمُوا عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، مِنْهُمُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابسٍ وَعُطَاردُ ابْنُ الْحَاجِب وَالْحَارثُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُمْ ، فَقَامُوا عَلَى بَاب الْمَسْجِدِ ، فَنَادَى الأَقْرَعُ ابْنُ حَابسٍ : يَا مُحَمَّدُ أتَأْذنُ لِي فِي الْكَلاَمِ ؟ فَوَاللهِ إنَّ حَمْدِي لَزَيْنٌ وَذمِّي لَشَيْنٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " كَذبْتَ! ذلِكُمُ اللهُ تَعَالَى ".
ثُمَّ أذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُواْ ، فَقَالَ : " يَا مُحَمَّدُ أتَأْذنُ لِخَطِيبنَا ؟ " فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أُدْعُوا إلَيَّ ثَابتَ بْنَ قَيْسٍ بْنِ شَمَّاسٍ " فَدُعِيَ لَهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لِيَتَكَلَّمْ صَاحِبُكُمْ " فَتََكَلَّمَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : " أجِبْ يَا ثَابتَ " فَأَجَابَهُ.
فَقَالَ الأَقْرَعُ : " إئْذنْ لِشَاعِرِنَا يَا مُحَمَّدُ " فَقَالَ عليه السلام : " أُدْعُوا إلَيَّ الْقَارعَةَ " يَعْنِي حَسَّانَ ، فَلَمَّا جَاءَ حَسَّانُ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " لِيَتَكَلَّمْ شَاعِرُكُمْ " فَلَمَّا تَكَلَّمَ ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : " أجِبْهُ يَا حَسَّانُ " فَأَجَابَهُ ، فَقَالَ عُطَاردُ لِلأَقْرَعِ : وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً الْمُؤْتَى لَهُ - أيْ أُعْطِيَ كُلَّ شَيْءٍ - فَإنَّ خَطِيبَهُ أخْطَبُ مِنْ خَطِيبنَا ، وَشَاعِرُهُ أشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا.
وَعَلَتِ الأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ ، وَكَانَ أشَدَّهُمْ صَوْتاً وَأعْلاَهُمْ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ ، وَكَانَ بهِ صَمَمٌ لاَ يَكَادُ يَسْمَعُ إلاَّ أنْ يُصَاحَ بهِ فَيُجِيبُ بمِثْلِهِ. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ، ونُهوا أن يَرفَعُوا أصواتَهم على صوتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تَعظِيماً له ؛ لأن رفعَ الصَّوت على الإنسانِ يُوهِمُ الاستخفافَ به في ظاهرِ الحال ".
وعن جابرِ بن عبدِالله قال : " لَمَّا جَاءَ بَنُو تَمِيمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَوا عَلَى الْبَاب : أُخْرُجْ يَا مُحَمَّدُ ؛ فَإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ وَذمَّنَا شَيْنٌ ، قَالَ : فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَقَالَ : " إنَّمَا ذلِكُمْ اللهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذمُّهُ شَيْنٌ " قَالُوا : نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، جِئْنَا بشَاعِرِنَا وَخَطِيبنَا لِشَاعِرِكُمْ وَنُفَاخِرُكَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا بالشِّعْرِ بُعِثْتُ وَلاَ بالْفَخَار أُمِرْتُ ، وَلَكِنْ هَاتُوا ". فَقَالَ : لِشَابٍّ مِنْ شَبَابهِمْ : قُمْ يَا فُلاَنُ فَاذْكُرْ فَضْلَكَ وَفَضْلَ قَوْمِكَ ، فَقَامَ فَقَالَ :
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا خَيْرَ خَلْقِهِ ، وَآتَانَا أمْوَالاً نَفْعَلُ فِيْهَا مَا نَشَاءَ ، فَنَحْنُ مِنْ خَيْرِ أهْلِ الأَرْضِ وَأكْثَرِهِمْ عُدَّةً وَسِلاَحاً وَمَالاً ، فَمَنْ أنْكَرَ عَلَيْنَا قَوْلََنَا فَلْيَأْتِ بقَوْلٍ هُوَ أحْسَنُ مِنْ قَوْلِنَا ، وَفِعَالٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ فِعَالِنَا.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لثابتِ بن قَيسٍ ، وَكَانَ خَطِيبَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " قُمْ " فَقَامَ فَقَالَ : الْحَمْدُ للهِ أحْمَدُهُ وَأسْتَعِينُهُ وَأُؤْمِنُ بهِ وَأتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ، وَأشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، دَعَا الْمُهَاجِرِينَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أحْسَنَ النَّاسِ وُجُوهاً فَأَعْظَمَهُمْ أخْلاَقاً فَأَجَابُوهُ ، وَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنَا أنْصَارَهُ ، وَرَدَّ اللهُ لِرَسُولِهِ وَعَزَّ الْمَدِينَةَ. فَنَحْنُ نُقَاتِلُ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُواْ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، فَمَنْ قَالَهَا مَنَعَ مِنَّا مَالَهُ وَنَفْسَهُ ، وَمَنْ أبَاهَا قَتَلْنَاهُ ، وَكَانَ قَتْلُهُ فِي اللهِ عَلَيْنَا هَيِّناً ، أقُولُ قَوْلِي وَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
فَقَالُواْ لِشَابٍّ مِنْهُمْ : قُمْ يَا فُلاَنُ فَقُلْ أبْيَاتاً تَذْكُرُ فِيْهَا فَضْلَكَ وَفَضْلَ قَوْمِكَ ، فَقَامَ الشَّابُّ وَقَالَ : "
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } ؛ أي أخلصَها واصطفَاها واختبرهَا ، كما يُمتحَنُ الذهبُ بالنار فيخرجُ خَالصاً ، وقال ابنُ عبَّاس : " مَعْنَاهُ : أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أكْرَمَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). وَقِيْلَ : أذهبَ الشهواتِ عنها.
قال الزجَّاجُ : أمَرَ اللهُ بتَبْجِيلِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَأنْ يَغُضُّواْ أبْصَارَهُمْ عِنْدَمَا يُخَاطَبُونَ بالسَّكِينَةِ وَالْوَقَار ؛ لِئَلاَّ تَحْبَطَ أعْمَالُهُمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فلذلك قال : فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ فِي حَرْب مُسَيْلَمَةَ ، قَاتَلَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ وَسَالِمُ مَوْلَى أبي حُذيْفَةَ قِتَالاً شَدِيداً حَتَّى قُتِلاَ ، وَاسْتُشْهِدَ ثَابتُ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ } الغَضُّ النَّقْصُ مِن كلٍّ شيءٍ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ }[لقمان : 19] ، وقولهُ تعالى : { امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى } أي أخلَصَها للتَّقوى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ؛ أي فِي الجنَّة.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ؛ وذلك : أنَّ قَوْماً مِنْ بَنِي الْعَنْبَرِ وَهُمْ حَيٌّ مِنْ تَمِيمٍ ، بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ سَرِيَّةُ ، وَأمَّرَ عَلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْفَزَّاريُّ ، فَهَرَبُوا فَسَبَى ذرَاريهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَجَاءَ بهِمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَجَاءَ رجَالُهُمْ لِيُفَادُوا ذرَاريهِمْ ، فَدَخَلُواْ الْمَدِينَةَ عِنْدَ الْقَيْلُولَةِ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَائِمٌ.
فَلَمَّا أبْصَرَهُمُ الْعِيَالُ بَكَوا عَلَيْهِمْ ، فَنَهَضُواْ وَعَجَّلُواْ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ : يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إلَيْنَا ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم حِينَئِذٍ نَائِماً ، فَتَأَذى بأَصْوَاتِهِمْ ، وَلَمْ يَعْلَمُوْا فِي أيِّ حُجْرَةٍ هُوَ ، فَجَعَلُواْ يَطْرِقُونَ عَلَى جَميعِ حُجُرَاتِهِ ، وَكَانَ لِكُلِّ امْرَأةٍ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُجْرَةٌ وَبَيْتٌ ، فطَافُوا عَلَى جَمِيعِ الْحُجُرَاتِ وَهُمْ يُنَادُونَ : اخْرُجْ عَلَيْنَا.
وقولهُ تعالى : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وصَفَهم اللهُ بالجهلِ وقلَّة العقلِ وقلَّة الصبرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ؛ يعني ولَو أنَّهم صبَرُوا حتى تخرجَ إليهم للصَّلاة لَخَلَّى سبيلَهم بغيرِ فداءٍ ، فلما نادَوهُ وأيقظوهُ أعتَقَ نصفَ ذرَاريهم وفادَى نِصفَهم بقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } كُنتَ تَعِيقُ كُلَّهم ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ لِمَن تابَ منهم.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } ؛ وذلك : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَّدِّقاً إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أحَنَةٌ ، فَلَمَّا اتَّصَلَ خَبَرُهُ بهِمْ وَسَمِعُواْ بهِ اجْتَمَعُواْ لِيَتَلَقَّوهُ ، فَفَرَّ مِنْهُمْ وَكَرَّ رَاجِعاً إلَى الْمَدِينَةِ ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إنَّهُمْ قَدْ مَنَعُواْ الزَّكَاةَ وَارْتَدُّوا عَنِ الإسْلاَمِ وَقَصَدُواْ قَتْلِي.
فَبَعَثَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي جَيْشٍ ، وَقَالَ لَهُ : " انْزِلْ بسَاحَتِهِمْ لَيْلاً ، فَإنْ رَأيْتَ مَا يَدُلُّ عَلَى الإسْلاَمِ مِنَ الأَذَانِ لِلصَّلاَةِ وَالتَّهَجُّدِ أمْسِكْ عَنْ مُحَارَبَتِهِمْ ، وَطَالِبْهُمْ بصَدَقَاتِهِمْ ".
فَلَمَّا سَارَ إلَيْهِمْ خَالِدُ لَيْلاً سَمِعَ فِيهِمْ الأَذانُ وَالتَّهَجُّدَ ، فَكَفَّ عَنْهُمْ إلَى أنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَى وَجْهِ قِتَالٍ ، وَقُالُواْ : قَدِ اسْتَبْطَأْنَا رسَالَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّدَقَاتِ ، فَسَلَّمُوهَا إلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ".
وسَمَّى الوليدَ بن عُقبة فَاسقاً ، لِكَذِبهِ الذي وقعَ به. الأغَرُّ أو الفاسقُ : الخارجُ عن طاعةٍ بارتكاب كثيرٍ من الذُّنوب. وَقِيْلَ : الفاسقُ الذي لا يَستَحِي من اللهِ. وَقِيْلَ : هو الكذابُ الْمُعلِنُ بالذنب. والنَّبَأُ : الخبرُ عمَّا يَعظُمُ شأنهُ فيما يعملُ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَبَيَّنُواْ } ؛ قد ذكَرنا قِراءَتين فيه في سُورة النساءِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ } ؛ أي لِئَلا تُصيبوا قَوماً وهم مُسلمون ، { فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }.
(0/0)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ } معناهُ : إعْلَمُوا أنَّ رسولَ الله لو يُجِيبُكم في كثيرٍ مما سألتموهُ لوقَعتُم في العَنَتِ وهو الإثمُ والمشقَّة. وَقِيْلَ : اتَّقُوا أن تَكذِبُوا رسولَ اللهِ وتقولوا بَاطلاً ، فإنَّ اللهَ يخبرهُ فتُفتَضَحُوا ، ثم قال : لو يُطِيعُكم الرسولُ في كثيرٍ مما تُخبرونَهُ فيه بالباطلِ لَعَنِتُّمْ ؛ أي لوقَعتُم في العَنَتِ وهو الإثْمُ والهلاكُ.
ثم خاطبَ المؤمنين الذين لا يَكذِبُون فقالَ : { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ } ؛ أي جعلَهُ أحبَّ الأديان إليكم ، { وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } ؛ حتى اختَرتُموهُ ، { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } ؛ أي بَغَّضَ إليكم هذه الأشياءَ : الكفرُ ظاهر المعنى ، والفُسُوق وَالكَذِبُ والخروجُ عن أمرِ الله ، والعصيانُ : جمعُ معاصِي الله.
ثم عادَ إلى الخبرِ عنهم فقال : { أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } ؛ أي المهتَدُون إلى محاسنِ الأمُور. ثم بيَّنَ أنَّ جميعَ ذلك تفضُّلٌ من اللهِ تعالى فقالَ : { فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً } ؛ أي تَفَضُّلاً مِن اللهِ ورحمةً ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بما في قُلوبهم ، { حَكِيمٌ } ؛ فيهم بعِلمهِ.
(0/0)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } ؛ " نزلَ ذلك في الأَوْسِ والخزرَجِ بسبب الكلامِ الذي جرَى بين عبدِالله بن أُبَي رأسِ المنافقين وعبدِالله ابن رَوَاحة لَمَّا اسْتَبَّا جَاءَ قوْمُ هَذا فَاقْتَتَلُواْ بالنِّعَالِ وَالتَّرَامِي بالْحِجَارَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ سَيْفٌ.
وَسَبَبُ اخْتِصَامِهِمَا أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الأَنْصَار وَهُوَ عَلَى حِمَارهِ ، فبَالَ حِمَارُهُ وَهِيَ أرْضٌ سَبْخَةٌ ، فَأَمْسَكَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٌّ آنْفَهُ وَقَالَ : إلَيْكَ عَنِّي فَوَاللهِ لَقَدْ آذانِي نَتَنُ حِمَاركَ. فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ : وَاللهِ لَنَتَنُ حِمَار رَسُولِ اللهِ أطْيَبُ ريْحاً مِنْكَ.
فَغَضَّبَ لعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهٍ ، وغَضِبَ لابْنِ رَوَاحَةَ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ ، فَاسْتَبُّواْ وَتَحَامَلَ أصْحَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِعَ أصْحَاب الآخَرِ ، فَتَجَادَلُواْ بالأَيْدِي وَالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاصْطَلَحُواْ وَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَأقْبَلَ بَشِيرُ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَاريُّ مُشْتَمِلاً عَلَى سَيْفِهِ فَوَجَدَهُمْ قَدِ اصْطَلَحُواْ ، فَقَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ : أعَلَيَّ تَشْتَمِلُ بالسَّيْفِ يَا بَشِيرُ ؟ قَالَ : نَعَمْ وَالَّذِي أحْلِفُ بهِ لَوْ جِئْتُ قَبْلَ أنْ تَصْطَلِحُواْ لَضَرَبْتُكَ حَتَّى أقْتُلَكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } أي الدُّعاء إلى حُكم اللهِ والرِّضا بما في كتاب اللهِ لهما وعليهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى } ؛ أي طَلبت ما ليس لها ولم ترجِعْ إلى الصُّلح ، { فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } ؛ حتى ترجعَ عن البغيِ إلى كتاب اللهِ ، والصُّلح الذي أمر اللهُ تعالى به.
والبغيُ هو الاستطالَةُ ، والعدولُ عن الحقِّ وعمَّا عليه جماعةُ المسلمين. والطائفةُ الباغِيَةُ هي التي تطلبُ ما ليس لها أنْ تَطْلُبَهُ ، قولهُ { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ } أي حتى ترجعَ إلى طاعةِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ } ؛ أي واعدِلُوا في الإصلاحِ بينهما ، وفي كلِّ حكمٍ ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ؛ أي يحبُّ الذين يَعدِلُون في حُكمِهم وأهلِيهم وما تولَّوهُ ، الإقْسَاطُ في اللغة هو العَدْلُ ، يقالُ : أقسَطَ الرجلُ إذا عَدَلَ ، وقَسَطَ إذا جَارَ ، ومنه قولهُ{ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن : 15].
وعن ابنِ عُمر رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ ؛ هَلْ تَدْري كَيْفَ حُكْمُ اللهِ فِيمَنْ يَفِيءُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " ؟ قَالَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ ، قالَ : " لاَ يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهَا وَلاَ يُقْتَلُ أسِيرُهَا وَلاَ يُطْلََبُ هَاربُهَا وَلاَ يُقْسَمُ فِيْهَا ".
(0/0)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ؛ يعني في الدُّنيا والولايةِ ، { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } ؛ يعني بين كلِّ مُسلِمين تَخَاصَما وتقاتَلاَ واختلَفا ، قرأ ابنُ سيرين (بَيْنَ أخَوَيْكُمْ) بالجمعِ ، وقرأ حسن (بَيْنَ إخْوَانِكُمْ) بالألف والنُّون.
وقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ولا تُخالفوا أمرَهُ ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : (الْمُسْلِمُ أخُو الْمُسْلِمِ ؛ لاَ يَظْلِمُهُ ؛ وَلاَ يَعِيبُهُ وَلاَ يَخْذِلُهُ ، وَلاَ يَتَطَاوَلُ عَلَيْهِ بالْبُنْيَانِ فَيَسْتُرُ عَنْهُ الرِّيحَ إلاَّ بإذْنِهِ ، وَلاَ يُؤْذِيهِ بقِتَار قِدْرهِ إلاَّ أنْ يَغْرِفَ لَهُ مِنْهُ ، وَلاَ يَشْتَرِي لِبَيْتِهِ الْفَاكِهَةَ فَيَخْرِجُونَ بهَا إلَى أوْلاَدِ جَارهِ إلاَّ أنْ يُطْعِمُوهُمْ مِنْهَا).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ } ؛ أي لا يَستَهزِئُ الرجلُ من أخيهِ فيقولُ : إنَّكَ رَدِيءُ المعيشةِ لَئِيمُ الْحَسَب وأشباهُ ذلك مما يَنتَقِصهُ به وهو خيرٌ منه عندَ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يُعَيِّرْ قومٌ قوماً لعلَّ المسخُورَ منه أفضلُ عندَ الله تعالى من السَّاخِرين ، { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } ؛ ولا يُعَيِّرُ نساؤُنا نساءَنا لعلَّ الْمَسخُورَةَ منهنَّ أفضلُ من السَّاخرتاتِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يسخَرْ غَنِيٌّ من فقيرٍ لفَقرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } ؛ أي لا تُعِيبُوا إخوانَكم الذين هم كأَنفُسكم ، { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ } ؛ أي لا يَدْعُ بعضُكم بعضاً باللَّقَب الذي يكرههُ صاحبهُ ؛ لأن عليه أنْ يخاطِبَ أخاهُ بأحَب الأسماءِ إليه.
وقال قتادةُ : (مَعْنَاهُ : لاَ تَقُلْ لأَخِيكَ الْمُسْلِمِ : يَا فَاسِقُ وَيَا مُنَافِقُ ، وَلاَ يَقُولُ لِلْيَهُودِيِّ بَعْدَ أنْ آمَنَ : يَا يَهُودِيُّ) وذلك معنى : { بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ } ؛ قال عطاءُ : (هُوَ كُلُّ شَيْءٍ أغْضَبْتَ بهِ أخَاكَ كَقَوْلِكَ : يَا كَلْبُ ؛ يَا خِنْزِيرُ ؛ يَا حِمَارُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } ؛ أي مَن لَمْ يَتُبْ ممن التَّنابُزِ { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ وقال : (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ } فِي نِسَاءِ رَسُولِ اللهِ عَيَّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بالْقِصَرِ). ويقالُ : نزلَت في عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أشَارَتْ بيَدِهَا فِي أُمِّ سَلَمَةَ أنَّهَا قَصِيرَةٌ.
ورَوى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس : " أنَّ صَفِيَّةَ بنْتَ حَييِّ بْنِ أخْطَبَ أتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : إنَّ النِّسَاءَ يُعَيِّرْنَنِي يَا يَهُودِيَّةُ بنْتُ يَهُودِيَّينِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " هَلاَّ قُلْتِ : أبي هَرُونُ وَعَمِّي مُوسَى وَأنَّ زَوْجِي مُحَمَّدٌ " " فَأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } أي لا يَغتَبْ بعضُكم بعضاً ولا يطعَنْ بعضُكم على بعضٍ.
وَقِيْلَ : اللَّمْزُ العيبُ في الْمَشْهَرِ ، والْهَمْزُ فِي الْمَغِيب ، وقال محمَّدُ بن زيدٍ : (اللَّمْزُ يَكُونُ باللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالإِشَارَةِ ، وَالْهَمْزُ لاَ يَكُونُ إلاَّ باللِّسَانِ) ، قال الشاعرُ : إنْ لَقِيتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً وَإنْ أغِبْ فَلأَنْتَ الْهَامِزُ اللُّمَزَهْ
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } " وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا غَزَا أوْ سَافَرَ ، ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إلَى رَجُلَيْنِ مُوسِرَيْنِ يَخْدِمُهُمَا وَيُهَيِّءُ لَهُمَا طَعَامَهُمَا وَشَرَابَهُمَا ، وَيُصِيبُ مِنْ طَعَامِهِمَا ، فَضَمَّ سَلْمَانَ إلَى رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابهِ فِي بَعْضِ أسْفَارهِ ، فَتَقَوَّمَ سَلْمَانُ مَعَهُمَا.
فَاتَّفَقَ ذاتَ يَوْمٍ أنَّهُ لَمْ يُعِدَّ لَهُمَا شَيْئاً فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ ، فَلَمَّا قَدِمَا قَالاَ لَهُ : مَا صَنَعْتَ شَيْئاً ؟ قَالَ : لاَ ، قَالاَ : وَلِمَ ؟ قَالَ : غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ ، فَقَالاَ : انْطَلِقْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُ طَعَاماً وَإدَاماً - وَقِيْلَ : إنَّهُمَا قَالاَ لَهُ : انْطَلِقْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَاسْأَلْهُ لَنَا فَضْلَ إدَامٍ إنْ كَانَ عِنْدَهُ - فَذهَبَ فَسَأَلَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنْطَلِقْ إلَى الْخَازنِ فَلْيُطْعِمُكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ " وَكَانَ الْخَازنُ يَوْمَئِذٍ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ، فَانْطَلَقَ إلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ شَيْئاً.
فَرَجَعَ إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا بذلِكَ ، فَقَالاَ : إنَّهُ بَخيلٌ يَأْمُرُهُ رَسُولُ اللهِ وَيَبْخَلُ هُوَ عَلَيْنَا ، فَقَالاَ فِي سَلْمَانَ : لَوْ بَعَثْنَاهُ إلَى بئْرٍ سَمِيحَةٍ لَقَالَ : لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ! ثُمَّ جَعَلاَ يَتَجَسَّسَانِ هَلْ كَانَ عِنْدَ أُسَامَةَ مَا أمَرَ لَهُمَا بهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الإدَامِ. فَلَمَّا جَاءَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُمَا : " مَا لِي أرَى حُمْرَةَ اللَّحْمِ عَلَى أفْوَاهِكُمَا ؟ " قَالاَ يَا رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا تَنَاوَلْنَا يَوْمَنَا هَذا لَحْماً ؟ فَقَالَ : " ظَلْتُمَا تَأْكُلاَنِ لَحْمَ سَلْمَانَ وَأُسَامَةَ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } ؛ والظنُّ الذي هو الإثْمُ : أن يُعرَضَ بقلب الإنسان في أخيه ما يوجبُ الريبةَ فيحقِّقهُ من غيرِ سببٍ يوجبهُ ، كما رُوي في الخبرِ : " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإنَّ الظَّنَّ أكْذبُ الْحَدِيثِ " ".
وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } التَّجَسُّسُ : البحثُ عن عيب أخيهِ الذي سترَهُ اللهُ عليه. ومعنى الآيةِ : خُذوا ما ظهرَ ودَعُوا ما سترَ اللهُ ولا تتَّبعوا عوراتِ الناس ، قال صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَجَسَّسُواْ ؛ وَلاَ تَحَاسَدُواْ ؛ وَلاَ تَبَاغَضُواْ ؛ وَلاَ تَدَابَرُواْ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَاناً ".
ورُوي : أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه قَالَ لَهُ : (إنَّ فُلاَناً يُوَاظِبُ عَلَى شُرْب الْخَمْرِ ، فَقَالَ لَهُ : إذا عَلِمْتَهُ يَشْرَبُهَا فَأَعْلِمْنِي. فَأَعْلَمَهُ فَذهَبَ مَعَهُ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارهِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَالَ : أنْتَ الَّذِي تَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ فَقَالَ : وَأنْتَ تَتَجَسَّسُ عُيُوبَ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : تُبْتُ أنْ لاَ أعُودَ ، فَقَالَ الرَّجُلُ : وَأنَا تُبْتُ لاَ أعُودُ).
وروى زيدُ بن أسلمَ : (أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه خَرَجَ ذاتَ لَيْلَةٍ وَمَعَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إذْ شَبَّتْ لَهُمَا نَارٌ ، فَأَتَيَا الْبَابَ فَاسْتَأْذنَا فَفُتِحَ لَهُمَا فَدَخَلاَ ، فَإذا رَجُلٌ وَامْرَأةٌ تُغَنِّي وَعَلَى يَدِ الرَّجُلِ قَدَحٌ ، فَقَالَ عُمَرُ لِلرَّجُلِ : وَأنْتَ بهَذا يَا فُلاَنُ ؟ فَقَالَ : وَأنْتَ بهَذا يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ عُمَرُ : مَنْ هَذِهِ مَعَكَ ؟ قَالَ : امْرَأتِي ، قَالَ : وَفِي الْقَدَحِ ؟ قَالَ : مَاءٌ زُلاَلٌ ، فَقَالَ لِلْمَرْأةِ : وَمَا الَّذِي تُغَنِّينَ ؟ فَقَالَتْ : أقُولُ :
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } ؛ نزَلت في نفَرٍ من قريشٍ قالوا حِينَ سَمعوا أذانَ بلالٍ : أمَا وجدَ مُحَمَّدٌ مؤذِّناً غيرَ هذا الغُراب ؟ والمعنى : يا أيُّها النَّاسُ إنا خلَقنَاكم من آدمَ وحوَّاء ، فكلُّكم مُتساوون في النَّسب ، لأنَّ كلَّكم يرجعُ إلى أبٍ واحد وأُمٍّ واحدةٍ. ومعنى الآيةِ : الزَّجرُ عن التفاخُر بالأنساب ، قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّمَا أنْتُمْ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَامْرَأةٍ وَاحِدَةٍ ، لَيْسَ لأَحَدٍ عَلَى أحَدٍ فَضُلٌ إلاَّ بالتَّقْوَى ".
ثُم ذكرَ أنه إنما فرَّقَ أنسابَ الناسِ ليتعَارفُوا لا ليتفَاخَرُوا فقالَ تعالى : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ } ؛ الشُّعوب جمعُ شَعبٍ بفتح الشِّين ؛ وهو الحيُّ العظيمُ مثل رَبيعةَ ومُضَرَ ، والقبائلُ دونَها وهو كبَكرٍ من ربيعةَ ، وتَميم من مُضر ، هذا قولُ جماعةٍ من المفسِّرين.
ورَوى عطاءُ عن ابن عباس أنه قال : " يُرِيدُ بالشُّعُوب الْمَوَالِي ، وَبالْقَبَائِلِ الْعَرَبَ) وإلى هذا ذهبَ قومٌ فقالوا : الشُّعوب من العجَمِ مَن لا يُعرَفُ لهم أصلُ نَسَبٍ كالهندِ والتُّرك ، والقبائلُ من العرب. وَقِيْلَ : معناهُ : وجعلَكم متشَعِّبين مفرَّقين نحو العرب وفارسَ والرُّوم والهند وقبائلِ العرب وبيوتات العجَمِ. والشِّعبُ بكسرِ الشين : الطريقُ في الجبلِ ، وجمعه شِعَابٌ.
والحاصلُ أنَّ الشعوبَ رُؤوسُ القبائلِ مثلَ رَبيعةَ ومُضر والأوسَ والخزرجَ ، والقبائلُ دُونَ الشُّعوب وهم كبكرٍ من ربيعةَ وتَميم من مُضر ، ودونَ القبائلِ العَمَائِرُ ؛ واحدَتُها عَمَارَةٌ بفتحِ العين ، وهم كشَيبان من بكرٍ ودَارمِ من تَميم ، ودونَ العمائرِ البطونُ ؛ واحدُها بطنٌ وهو كبَني غالبٍ ولُؤَي من قريشٍ ، ودونَ البُطونِ الأفخاذُ ؛ واحدُها فَخْذٌ وهم بني هاشمٍ وبني أُمية من لُؤي ، ثم الفصَائِلُ واحدها فَصِيلَةٌ وعشيرةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتَعَارَفُواْ } أي ليَعرِف بعضَكم بعضاً في النَّسَب لا لتُفاخِرُوا فيما بينَكم ، كما أنَّ اللهَ تعالى خَالَفَ بين خَلقِكم وصُوَركم لتَعرِفُوا بعضَكم بعضاً ، وقرأ الأعمشُ (لِتَعَارَفُوا) وقرأ ابنُ عبَّاس (لِتَعْرِفُوا) بغير ألفِ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ؛ { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ } بفتحِ الألفِ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } ؛ معناهُ : إنَّ أكرمَكم في الآخرةِ اتقَاكُم للهِ في الدُّنيا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ قَدْ أذْهَبَ نَخْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعْظِيمِهَا بالآبَاءِ ، النَّاسُ مِنْ آدَمَ ؛ وَآدَمُ مِنَ التُّرَاب ؛ أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ ، لاَ فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إلاَّ بالتَّقْوَى ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللهَ " وقَالَ : " كَرَمُ الرَّجُلِ دِينُهُ وَتَقْوَاهُ ، وَفَضْلُهُ عَقْلُهُ ، وَحَسَبُهُ خُلُقُهُ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إلَى صُوَركُمْ وَلاَ إلَى أقْوَالِكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبكُمْ وَأعْمَالِكُمْ ، وَإنَّمَا أنْتُمْ بَنِي آدَمَ ، أكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكُمْ ".
وقال ابنُ عبَّاس : (كَرَمُ الدُّنْيَا الْغِنَى ، وَكَرَمُ الآخِرَةِ التَّقْوَى) ، وقال الشاعرُ : مَا يَصْنَعُ الْعَبْدُ بعِزِّ الْغِنَى وَالْعِزُّ كُلُّ الْعِزِّ لِلْمُتَّقِيمَنْ عَرَفَ اللهَ فَلَمْ تُغْنِهِ مَعْرِفَةُ اللهِ فَذاكَ الشَّقِي
(0/0)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا } ؛ نزَلت في نفرٍ من بني أسَدٍ بن خُزيمة قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ ، وَأظْهَرُواْ شَهَادَةَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ ، وَأفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بالعَذرَاتِ وَأغْلَوْا أسْعَارَهَا ، وَكَانُوا يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِي إيْمَانِهِمْ ، وَلَمْ يَكُونُوا كَذلِكَ ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : يَأْتِيكَ الْعَرَبُ بأَنْفُسِهَا عَلَى ظُهُور رَوَاحِلِهَا وَأتَيْنَاكَ بالأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ وَالذرَاري ، يَمُنُّونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا تُقَاتِلُكَ بَنُو فُلاَنٍ وَبَنُو فُلاَنٍ ، وَيُرِيدُونَ بذلِكَ الصَّدَقَةَ وَيَقُولُونَ : أعْطِنَا. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
والمعنى : أنَّهم قالوا صدَّقنا باللسانِ والقُلوب ، قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لَمْ تُؤْمِنُوا ؛ أي لَمْ تُصدِّقوا بقُلوبكم كما صدَّقتم بأَلسِنَتِكم { وَلَـاكِن قُولُواْ } اسْتَسْلَمْنَا وأنقَدْنا مخافةَ السَّبي والقتلِ : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ في السِّر كما أطَعتُم في العَلانية ، فتُتوبوا من الكفرِ والنفاق ، { لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } ؛ أي لا يَنقِصْكُم من ثواب أعمالكم شيئاً ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لِمَن تابَ ، { رَّحِيمٌ } ؛ بمَن ماتَ على التوبةِ.
ومن قرأ (لاَ يَأْلِتْكُمْ) بالهمزةِ فهو من ألَتَ يَأْلِتُ ألَتاً إذا نَقَصَ ، ويقال : لاتَ يَلِيتُ لَيْتاً بهذا المعنى ، وكِلا القراءَتين بمعنىً واحدٍ.
(0/0)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي هم الذين أقَرُّوا وصدَّقوا بوحدانيَّةِ اللهِ ونُبوَّة رسولهِ ، { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } ؛ أي لَمْ يَشُكُّوا في دينِهم بعدَ الإيمانِ ، { وَجَاهَدُواْ } ؛ العدوَّ ، { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ طاعةً ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ } ؛ في الإيمانِ.
فلمَّا نَزلت هذه الآيةُ جاءَ القومُ يحلِفون لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّهم يُؤمنون في السرِّ والعلانيةِ ، وقد عَلِمَ الله منهم غيرَ ذلك ، فأنزلَ اللهُ :
قولَهُ تعالى : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ معناهُ : كيف يُعلِّمونَ اللهَ بالدِّين الذي أنتُم عليه ، وهو عالِمٌ بكلِّ شيءٍ من كلِّ وجهٍ ، وكيف يجوزُ أن يُعَلَّمَ مَن كان بهذه الصِّفة.
وقوله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ } وذلكَ أنَّ هؤلاءِ المنافقين كانوا يقُولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : قَاتَلَتْكَ العربُ بأسيافِهم ونحنُ جِئناك بالأهلِ والذراري والأثقالِ ، ولم نُقاتِلْكَ كما قاتَلَك بنو فلانٍ ، فقال اللهُ تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ؛ { أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } ؛ فإنَّ إجَابَتَكم إلى الإسلامِ لم تكن إلاَّ لاجابتكم على أنفُسِكم لاَ إنَّكم أنعَمتُم على مَن دعاكُم إلى ذلك.
ومِن المعلومِ أنَّ حقَّ الداعِي إلى الهدايةِ أعظمُ من حقِّ المطيعِ بالإجابةِ ، فليس للمطالِب أن يُطالِبَ بالحقِّ الذي لَهُ وينسَى الحقَّ الأعظمَ الذي عليهِ ، ولذلك قالَ اللهُ : { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } ؛ وأخرجَكم من الضَّلال ، { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ؛ في مَقالَتِكم.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ فيه بيانُ أنه لا ينفعُ المنافقَ عندَ اللهِ كتمانُ الكفرِ ؛ لأنه تعالَى عالِمٌ به.
فإن قِيْلَ : كيف تجوزُ الْمِنَّةُ من اللهِ تعالى والمنَّةُ مما يُكَدِّرُ الصنيعةَ ؟ قِيْلَ : إنَّ الْمِنَّةَ عمَّن يُستغنى عنه تكدِّرُ الصنيعةَ ، وأمَّا اللهُ تعالى ليس من أحَدٍ إلاَّ وهو محتاجٌ إليه ، فليس في مِنَّتِهِ تكديرٌ للنعمةِ لاستحالةِ أن يُستغنى بغيرهِ عنه. وقد يقالُ : إذا كُفرت النعمةُ حَسُنَتِ الْمِنَّةُ ، وباللهِ التوفيقُ.
(0/0)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
{ ق } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ أقْسَمَ بهِ) ، وقال القرطبيُّ : (هُوَ افْتِتَاحُ اسْمِهِ : قَدِيرٌ ؛ وَقَادِرٌ ؛ وَقَاهِرٌ ؛ وَقَابِضٌ) ، وقال عكرمةُ والضحَّاك وجماعةٌ المفسِّرين : (هُوَ اسْمُ جَبَلٍ مُحِيطٍ بالدُّنْيَا مِنْ زُبُرْجُدٍ أخْضَرٍ اخْضَرَّتِ السَّمَاءُ مِنْهُ ، وَهُوَ وَرَاءَ الْحِجَاب الَّذِي فِيهِ تَغِيبُ الشَّمْسُ مِنْ وَرَائِهِ بمَسِيرَةِ سَنَةٍ ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ بَلَدٌ إلاَّ وَتَحْتَهَا عِرْقٌ مِنْ عُرُوقِ ذلِكَ الْجَبَلِ ، فَإذا أرَادَ اللهُ أنْ يُزَلْزِلَ تِلْكَ الأَرْضَ حَرَّكَ عِرْقَهُ ذلِكَ فَزَلْزَلَ ، وَإذا أرَادَ اللهُ بأَهْلِ مَدِينَةٍ هَلاَكاً أمَرَهُ فَحَرَّكَ عِرْقَهُ فَخُسِفَ بهِمْ).
قال وهبُ : (إنَّ ذا الْقَرْنَيْنِ أتَى عَلَى جَبَلِ قَاف ، فَسَأَلَهُ : هَلْ وَرَاءَكَ شَيْءٌ ؟ قَالَ : وَرَائِي أرْضٌ مَسِيرَةَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فِي عَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ مِنْ جِبَالِ الثَّلْجِ يَخْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضاً ، وَمِنْ وَرَائِكَ أيْضاً أرْضٌ مِثْلُهَا مِنْ الْبَرَدِ ، لَوْلاَ ذلِكَ الثَّلْجُ وَالْبَرَدُ لاحْتَرَقْتَ مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ).
وقال بعضُهم : معنى قوله تعالى { ق } قُضِيَ الأمرُ ما هو كائنٌ ، وقال أبو بكرٍ الورَّاق : (مَعْنَاهُ : قِفْ عِنْدَ أمْرِنَا وَنَهْينَا وَلاَ تُعَدِّيهِمَا). وَقِيْلَ : معناهُ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } ؛ أي الشَّريفِ الكريمِ على اللهِ. واختلفَ العلماءُ في جواب القسَمِ ، فقال أهلُ الكوفةِ جوابهُ : { بَلْ عَجِبُواْ } ، وقال الأخفشُ : (جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ ؛ تَقْدِيرُهُ : وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُ).
وَقِيْلَ : جوابهُ{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ }[ق : 18]. وَقِيْلَ : جوابهُ{ قَدْ عَلِمْنَا }[ق : 4] كما قالَ اللهُ{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }[الشمس : 1] إلى أنْ قالَ{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }[الشمس : 9] فذلكَ جوابُ القسَمِ ، إلاَّ أن اللامَ حُذفت منه ، ويجوزُ أن تُجعل (بَلْ) في جواب القسَمِ موضعَ (لَقَدْ).
وجواباتُ القسَمِ سِتَّةٌ :
1. (إنَّ) شديدةٌ كقوله{ وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ }[الفجر : 1-2] إلى أنْ قالَ : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر : 14].
2. و(مَا) في النَّفي كقولهِ{ وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ }[الضحى : 1-3].
3. و(لا) أي النافية ، واللامُ مفتوحةٌ كقوله{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[الحجر : 92].
4. و(إنْ) الخفيفةُ كقوله{ تَاللَّهِ إِن كُنَّا }[الشعراء : 97].
5. و(لاَ) كقوله{ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ }[النحل : 38].
6. و(قَدْ) كقوله{ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا }[الشمس : 1] إلى أنْ قالَ{ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا }[الشمس : 9].
7. و(بَلْ) كقولهِ { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُواْ }.
(0/0)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ } ، أي مُخَوِّفٌ يَعرِفُون حسَبَهُ ونسَبَهُ وصِدقَهُ وأمانتَهُ ، { فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَـاذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } ؛ عَجِبُوا لكونِ مُحَمَّدٍ رسُولاً إليهم ، فأنكَرُوا رسالتَهُ وأنكروا البعثَ بعد الموتِ ، وهو قولهُ : { أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } ؛ أي أنُبعَثُ إذا مِتنا ؟ قالوا ذلك متعجِّبين أنَّهم إذا ماتُوا وصارُوا تُراباً كيف يُبعثون بعدَ ذلك ؟ وقالوا : { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } ؛ أي الردُّ إلى الحياةِ بعيدٌ غيرُ كائنٍ أبداً ، استبعَدُوا بجهلهِم أنْ يُبعثوا بعدَ الموتِ.
(0/0)
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ } ؛ أي ما تأكلُ الأرضُ من لُحومِهم ودِمائهم وأشعَارهم ، والمعنى : لا يخفَى علينا شيءٌ مما تأخذُ الأرض من أبدانِ الموتَى ، فمَن عَلِمَ ذلك فهو قادرٌ على إعادةِ ذلك الخلقِ بعَينهِ إلى الحياةِ.
وقوله : { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } ؛ أرادَ به اللوحَ المحفوظَ ، حُفِظَ من الزِّيادة والنُّقصان ، عِندَنا كتابٌ حافظٌ لعِدَّتِهم وأسمائِهم ، وقد أثبَتنا فيه ما يكون من جميعِ الأشياء المقدَّرة.
(0/0)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قَْوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ } ؛ أي كذبُوا بالقرآنِ لَمَّا جاءَهم بدلائلِ الله ، { فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ } ؛ أي مُختَلطٍ مُلتَبسٍ عليهم ، لا يَثُبتون على شيءٍ واحد ، مرَّةً يشُكُّون وأُخرى يجحَدُون ، ومرَّة يقولون في النبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّهُ ساحرٌ ، ومرَّة يقولون : هو شاعرٌ ، ومرَّة يقولون : مُعَلَّمٌ مجنونٌ ، وتارةً يقولون للقرآنِ : هو سِحرٌ يؤثَرُ ، وتارةً يقولون : هو أساطيرُ الأوَّلين ، وتارةً يقولون : سِحرٌ مُفتَرى.
وقال الحسنُ : (مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إلاَّ مَرَجَ أمْرُهُمْ) ، وقالَ قتادةُ : (مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ رَأيُهُ ، وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ) ، ومن ذلك الْمَرْجُ لاختلاطِ أشجَارها بعضُها من بعضٍ.
(0/0)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } ؛ ودلَّهم بهذا على قُدرتهِ بعظيمِ خَلقهِ ، فقالَ : أفَلَمْ ينظُروا كيف بَنَيناها وزيَّناها بالكواكب وما لَها من فُتُوقٍ وشُقوقٍ وصُدوعٍ.
(0/0)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } ؛ أي بسَطناها ، { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } أي جِبَالاً ، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ؛ أي من كلِّ لونٍ حَسَنٍ منظَرهُ.
(0/0)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } ؛ أي فَعَلنا ذلك الذي ذكرنَاهُ ليُبصَرَ به ويُتَذكرَ به ، فهو تذكيرٌ وعِظَةٌ وتنبيهٌ لكلِّ عبدٍ مُنِيبٍ يرجعُ إلى اللهِ ويتفكَّرُ في قُدرتهِ.
قال أبُو حاتم : (قَوْلُهُ { تَبْصِرَةً } مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَر) يعني تَبصِيراً وتَذكيراً وتَنبيهاً له ؛ لأن مَن قَدَرَ على خَلقِ السَّموات والأرضِ والنبات قَدَرَ على بعثهِم.
(0/0)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
قَوْلهُ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } ؛ أي بساتينَ ، { وَحَبَّ الْحَصِيدِ } ؛ يعني الزرعَ الذي من شأنهِ أن يُحصدَ حَصِيداً ، حُصد أم لم يُحصَدْ ، وذلك البُرُّ والشعيرُ وسائرُ الحبوب التي تُحصَدُ وتدَّخَرُ وتُقتَاتُ. وإضافةُ الحب إلى الحصيدِ وهما واحدٌ لاختلافِ اللَّفظين ، كما يُقال مسجدُ الجامعِ ، وربيعُ الأوَّل ، وخُفُّ البعيرِ ، وحبلُ الوريدِ ونحوُها.
(0/0)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } ؛ معناهُ : وأنبَتنا النخلَ طِوَالاً ، يقالُ : بَسَقَتِ النَّخلَةُ إذا طَالَتْ. والطَّلعُ النَّضِيدُ : هو الكُفُرِّيُّ ما دامَ في أكمَامِها ، فهو مَنضُودٌ بعضهُ فوقَ بعضٍ ، وإذا خرجَ من أكمَامِها فليس بنَضيدٍ.
(0/0)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } ؛ انتصبَ على وجهَين : أحدِهما : رَزَقَنَاهُم هذهِ الأشياءَ ، والثاني : انبَتنَاها للرِّزقِ ، فهو منصوبٌ ؛ لأنه مفعولٌ لَهُ ؛ ولأنه مصدرُ فعلٍ محذوف.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } ؛ أي أحيَينا بالمطرِ مَكاناً مَيْتاً لا نباتَ فيه ، فكما أحيَينا هذه الأرضَ الْمَيتَة بالماءِ ، وأنبَتنا هذه الأقواتَ من الحبوب الياسبةِ ، { كَذَلِكَ الْخُرُوجُ } ؛ أي كذلك تَنبُتُونَ بالمطرِ في قُبوركم ثم تُخرَجون للبعثِ ، والقدرةُ على إعادةِ النَّبات دليلٌ على القدرةِ على إعادةِ الحياة إلى الميْت.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } ؛ فيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يقولُ : إنَّ هؤلاءِ الكفار سَلَكوا التكذيبَ طريقةَ مَن قبلِهم من الأُمم المكذِّبة لرُسلِهم ، وقد رأيتُم كيف كان إنْكَاري عليهم ، وكيف أهلَكناهُم.
والرَّسُّ : برزون اليَمَامَةِ ، والنبيُّ هو حَنظَلُ بن سِنَان. وأصحابُ الأيْكَةِ قومُ شُعيب عليه السلام ، والأَيكَةُ غَيْظٌ. وأما قومُ تُبَّعٍ فقد تقدَّم أن تُبَّعَ اسمُ ملكٍ حِميَر ، وقد ذُكر ذلك في قولهِ تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ }[الدخان : 37].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ } ؛ أي كلٌّ مِن هؤلاءِ المذكُورين كذبَ الرُّسل ، { فَحَقَّ وَعِيدِ } ؛ أي فوجبَ عليهم عذابهُ ، وحقَّ عليهم كلمةُ العذاب.
وسُمي تُبَّعاً لكثرةِ أتباعهِ وكان يعبدُ النارَ فأسلمَ ودعَا قومَهُ إلى الإسلامِ وهم حِميَرُ فكذبوهُ ، قال حاتِمُ الرقَّاشي : كَانَ أسْعَدُ الْحِمْيَرِيُّ مِنَ التَّتَابعَةِ ، آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أنْ يُبْعَثَ بسَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَقَالَ : شَهِدْتُ عَلَى أحْمَدَ أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَاري النَّسَمْفَلَوْ مَدَّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزيراً لَهُ وَابْنُ عَمْقال قتادةُ : (ذمَّ اللهُ قَوْمَ تُبَّعٍ وَلَمْ يَذُمَّهُ ، وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، فَسَارَ بالْجُيُوشِ وَافْتَتَحَ الْبلاَدَ وَقَصَدَ مَكَّةَ لِيَهْدِمَ الْبَيْتَ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّ لِهَذا الْبَيْتِ رَبّاً يَحْمِيهِ ، فَنَدِمَ وَأحْرَمَ وَدَخَلَ مَكَّةَ وَطَافَ بالْبَيْتِ وَكَسَاهُ ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ).
(0/0)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ } ؛ هذا جوابٌ لقولِهم (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ). والمعنى : أعَجِزْنَا حين خلَقنَاهم أوَّلاً ولم يكونوا شَيئاً ، فكيف عن بعثِهم ، وهذا تقريرٌ لهم لأنَّهم اعترَفُوا بأنَّ اللهَ الخالقُ أنكَرُوا البعثَ. ثم ذكَرَ أنَّهم في شَكٍّ من البعثِ ، فقالَ اللهُ تعالى : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ أي بل هُم في شَكٍّ من البعثِ.
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ } ؛ أي ولقد خلَقنا لبنِي آدمَ ونعلمُ ما يُحدِّثُ به قلبهُ ؛ أي نعلَمُ ما يُخفِي ويُكِنُّ في نفسهِ ، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } ؛ بالعلمِ بأحوالهِ وبما في ضَميرهِ ، { مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } ؛ وهو عِرْقٌ في باطنِ العُنقِ بين العَليا والْحُلقُومِ ، وهما وَريدان عن يَمين ثغرَةِ النَّحرِ ويسارها ، يتَّصِلان من نَاحِيَتي الحلقِ والعاتقِ ، ينصَبَّان أبداً من الإنسانِ. وقال الحسنُ : (الْوَريدُ : الْوَتِينُ ؛ وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بهِ الْقَلْبُ ، وَاللهُ تَعَالَى أقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ قَلْبهِ).
ومعنى الآيةِ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } أي أعلَمُ به وأقدَرُ عليه مِن بعضهِ ، وإنْ كان بعضهُ له حجابٌ فلا يحجِبُنا شيءٌ ؛ أي لا يحجبُ عِلمُنا عنه شيءٌ.
ثم ذكرَ أنه مع علمهِ وَكَّلَ به مَلَكين يكتُبان ويحفَظان عليه عملهُ إلزاماً للحجَّة ، فقالَ : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } ؛ قال مقاتلُ : (هُمَا مَلَكَانِ يَتَلَقَّيَانِ عَمَلَ ابْنِ آدَمَ وَمَنْطِقِهِ) أي يَأخُذان ذلك ويُثبتانه في صحائِفهما ، أحدُهما عن يمينِ يكتبُ الحسَنات ، والثاني عن شِمالٍ يكتبُ السيِّئات ، فذلك قولهُ { وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } ولم يقل قَعِيدَان ؛ لأنه أرادَ عن اليمينِ قعيدٌ وعن الشمالِ قعيدٌ ، فاكتفَى من أحدِهما عن الأُخرى ، كقولِ الشَّاعر : نَحْنُ بمَا عِندَنَا وَأنْتَ بمَا عِنْدَكَ رَاضٍ وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُأي نحنُ بما عندَنا رَاضُون. والقعيدُ مثل قاعدٍ كالسَّميع والعليمِ والقدير ، وقال أهلُ الكوفةِ : أرَادَ قُعُوداً.
رُوي : " أنَّ اللهَ تَعَالَى وَكَّلَ بالإنْسَانِ مَلَكَيْنِ باللَّيلِ ، وَمَلَكَيْنِ بالنَّهَار يَحْفَظَانِ عَمَلَهُ ، أحَدُهُمَا يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ ، وَالثَّانِي يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ ، فَإذا تَكَلَّمَ الْعَبْدُ بحَسَنَةٍ كَتَبَهَا الَّذِي عَلَى الْيَمِينِ عَشْراً ، وَإذا تَكَلَّمَ بسَيِّئَةٍ قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِلآخَرِ : أنْظِرْهُ ، فَنَظَرَهُ سِتَّ سَاعَاتٍ أوْ سَبْعَ سَاعَاتٍ ، فَإنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ لَمْ يَكْتُبْهَا ، وَإنْ لَمْ يَتُبْ كَتَبَ عَلَيْهِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً " هكذا قال صلى الله عليه وسلم.
وعن أنسٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَكَّلَ بعَبْدِهِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ ، فَإذا مَاتَ الْعَبْدُ قَالاَ : يَا رَب قَدْ قَبَضْتَ عَبْدَكَ ؛ أفَتَأْذنُ لَنَا أنْ نَصْعَدَ إلَى السَّمَاءِ ؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى : سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلاَئِكَتِي يُسَبحُونَ ، فَيَقُولاَنِ : أنُقِيمُ فِي أرْضِكَ ؟ فَيَقُولُ : إنَّ أرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يَعْبُدُونَنِي ، فَيَقُولاَنِ : أيْنَ نَذْهَبُ ؟ فَيَقُولُ : قُومَا عَلَى قَبْرِ عَبْدِي وَهَلِّلاَنِي وَكَبرَانِي وَاكْتُبَا ذلِكَ لِعَبْدِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَعِيدٌ } أي رَصِيدٌ حافظٌ حاضر ملازمٌ لا يبرحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ؛ أي حافظٌ حاضر { عَتِيدٌ } أي مُعْتَدٌّ لَهُ.
(0/0)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } ؛ أي جاءَت غمَرَاتُ الموتِ وأهوالهُ وشدَّتُها التي تَغشَى الإنسانَ وتَغلِبُ على عقلهِ ، { بِالْحَقِّ } أي بما يصيرُ إليه من أمرِ الآخرةِ من شَقاوَةٍ أو سَعادةٍ تُحَقَّقُ عليه عندَ الموتِ. ويقالُ له : { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } ؛ أي تميلُ وتَهربُ وتَكرَهُ ، قد أيقَنْتَ أنه الآنَ ، يقالُ : حاجَ عنِ الشيء يَحِيدُ عنهُ حَيْداً ؛ إذا مَالَ وزَاغَ ونَكَصَ ، وقرأ أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْحَقِّ بالْمَوْتِ).
(0/0)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ } ؛ يريدُ نفخةَ البعثِ ، يكون يومُ القيامةِ وهو يومٌ يتحقَّقُ فيه الوعيدُ ، وهو اليومُ الموعُود للأوَّلين والآخِرين يجتَمعون فيه. وَقِيْلَ : معناهُ : ذلك الذي وعدَ اللهُ الكفارَ أنْ يُعذِّبَهم فيه.
(0/0)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } ؛ أي سائِقٌ يَسُوقُها إلى الْمَحْشَرِ ، وشاهدٌ يَشهَدُ عليها بما عَمِلَتْ قال الكلبيُّ : (السَّائِقُ هُوَ الَّذِي يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ ، وَالشَّهِيدُ هُوَ الَّذِي يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ) ، والمرادُ بالنَّفْسِ ههُنا نفس الكافر ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا } ؛ اليومِ في الدُّنيا ، { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } ؛ الذي كان في الدُّنيا يغشَى قلبَكَ وسمعَكَ وبصركَ ، { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } ؛ أي فأنتَ اليومَ عالِمٌ نافذُ البصرِ ، تُبصِرُ ما كنتَ تُنكِرُ في الدُّنيا. وَقِيْلَ : معناهُ : { فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي فعِلمُكَ نافذٌ ، وهو من البَصِيرَةِ لا بصرَ العينِ ، كما يقالُ : فلانٌ بصير بهذا الأمرِ ؛ عالِمٌ به. وَقِيْلَ : معناهُ : فبصرُكَ اليوم شاخصٌ لِمَا ترى من الْهَوْلِ.
(0/0)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـاذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } ؛ يعني الْمَلَكَ الذي يكتبُ عملَهُ السَّيِّءَ في الدُّنيا يقول : هذا الذي كَتَبتهُ من عملهِ مُعَدٌّ محفوظٌ مُحصَى ، يعني أن الملَك يقولُ : لديه هذا الذي وكَّلتَني به قد أحضَرتهُ ، فيقولُ الله تعالى لقَرينهِ : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } ؛ إطرَحا فيها ، { كُلَّ كَفَّارٍ } ؛ بالله وبنعمتهِ ، { عَنِيدٍ } ، مُعرضٍ عن الإيمانِ والقرآنِ إعراضَ المضَادِّ له. وهذا خطابُ الواحدِ بلفظ التَّثنِيَةِ على عادةِ العرب ، يقولون للواحدِ : ارحلاها وآزجراها. وَقِيْلَ : الخطابُ لخازنِ النَّار ، ومخاطبَةُ الواحدِ بلفظ الاثنين من فصيحِ كلامِ العرب ، ومنه قولُهم للواحد في الشِّعر (خَلِيلَيَّ) ، قال امرؤُ القيسِ : خَلِيلَيَّ مُرَّا بي عَلَى أُمِّ جُنْدَب نُقَضِّ لُبَانَاتٍ لِلْفُؤَادِ الْمُعَذبوقالَ : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبيبٍ وَمَنْزِلِ بسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِوقال الفرَّاءُ والسديُّ وأبو ثروان : فَإنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفَّانَ أنْزَجِرْ وَإنْ تَدَعَانِي أحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَاومنه قولُ الحجَّاج : (يَا حَرَسِيُّ إضْرِبَا عُنُقَهُ) ، قال الزجَّاجُ : (تَثْنِيَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَالْخِطَابُ لِلْمُتَلَقِّينَ مَعاً ، وَالسَّائِقُ وَالشَّهِيدُ جَمِيعاً) ، وقرأ الحسنُ : (ألْقَيْنَ) بنونِ التأكيد كقوله تعالى : { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ }[العلق : 15].
(0/0)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } ؛ أي لا يُنْزِلُ خَيراً ولا يُعطي شيئاً من حقِّ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُعْتَدٍ } ؛ أي ظالِمٍ لا يُقِرُّ بتوحيدِ الله ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّرِيبٍ } ؛ أي شَاكٍّ في البعثِ والتوحيد. قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ أي شَريكاً ، { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } ؛ أي إطرحاهُ في النار.
(0/0)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
وقولهُ : { قَالَ قرِينُهُ } ؛ أي شَيطانهُ : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } ؛ أي ما أغوَيتهُ ، ما أضلَلتهُ ؛ أي لم أتَوَلَّ ذلك. وَقِيْلَ : معناهُ : قال قَرينهُ الذي يشهَدُ عليه من الملائكةِ : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } أي ما عجِلتُ عليه في الكتابةِ وما كتبتُ عليه إلاَّ ما قالَ وفعلَ ، { وَلَـاكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ } ؛ خطأ ، { بَعِيدٍ } ؛ من الصَّواب. وإنما يقولُ الملَكُ هذا القولَ بعدَ ما يقولُ الكافرُ : يا رب عليَّ كتبَ ما لَمْ أقُلْ ولم أفعَلْ وما أنظَرَني ، ولكن عجَّلَ في الكتابةِ عليَّ.
(0/0)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ؛ أي يقولُ اللهُ تعالى : لا تَختَصِمُوا عندِي كما تختَصِمُوا عند مُلوكِ الدُّنيا ، فإنِّي مَلِكٌ لا يُكرَّرُ الكلامُ عندي ، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم } ؛ على ألْسِنَةِ الرسُلِ بالوعدِ و ؛ { بِالْوَعِيدِ } ؛ لا ينفعكُم الاختصامُ بعدَ أن أخبَرتُكم على ألسِنَةِ الرُّسل بعذابي في الآخرةِ لِمَن كفرَ.
(0/0)
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } ؛ أي لا خَلَفَ لوَعدِي ووعيدي ، وقد قَضيتُ ما أنَا قاضٍ عليكم من العذاب ، لا تبديلَ له. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يُكذبُ عندي ولا يغيَّرُ القولُ من جُملتهِ ؛ لأنِّي أعلمُ الغيبَ وأعلمُ كيف ضَلُّوا وكيف أضْلَلتُموهم ، ولا يقدرُ أحدٌ أن يُشقِي أحداً مِمَّن أسعَدتُّهُ ، ولا يُسعِدُ أحدٌ ممن أشقَيتهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } ؛ أي لا أعاقِبُ أحداً من غيرِ جُرمٍ ، ولا أخذُل أحداً من غيرِ ذنبٍ ، ومَن عَمِلَ سيِّئةً فلا يُجزَى إلاَّ مِثلَها.
(0/0)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } قرأ نافعُ (يَقُولُ) بالياءِ على معنى : يقولُ اللهُ. والمعنى : أنذِرْهُمْ يومَ يقولُ لجهنَّم : هَلِ امْتَلأْتِ كما وعَدتُّكِ ، فتقولُ : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي لَمْ يبقَ موضعٌ لم يمتلئ فلا مزيدَ ، على هذا قال المفسِّرون : أرَاها اللهُ تصديقَ قوله{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ }[الأعراف : 18] فلمَّا امتَلأَتْ قالَ لَها : هلِ امتلأْتِ ؟ فتقولُ : هل مِن مزيدٍ على هذا الامتلاءِ ؟ وهذا استفهامُ إنكار ؛ أي قدِ امتلأتُ ولم يبقَ فِيَّ موضعٌ خالٍ. هذا قولُ عطاء ومجاهد. وقال ابنُ عبَّاس في رواية أبي صالِح : (أنَّها تَسْتَزِيدُ إلَى مَا فِيهَا) ووجهُ هذا القولِ أنَّ هذا السؤالَ في قوله { هَلِ امْتَلأَتِ } كان قبلَ دُخولِ جميعِ أهلها فيها. ويجوزُ أن يكون المعنى : أنَّها طَلبت أن تُزَادَ في سِعَتها لتَضَايُقِها بأهلِها.
(0/0)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } ؛ أي قريبٍ ، وأدِّيت الجنةُ للمتَّقين الشِّركَ غيرَ بعيدٍ ، ينظُرون إليها قبلَ دخُولِها ، ويقالُ لَهم عندَ تَقرِيبها : { هَـاذَا } ؛ الذي تَرونَهُ ، { مَا تُوعَدُونَ } ؛ في الدُّنيا على ألسِنَةِ الرُّسل ، { لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } ؛ أي لكلِّ رجَّاعٍ عن معاصِي اللهِ إلى طاعةِ الله ، حافظٍ لحدُودِ اللهِ من الخروجِ إلى ما لا يجوزُ.
قال مجاهدُ : (الأَوَّاب الَّذِي يَذْكُرُ اللهَ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ) ، وَقِيْلَ : هو الذي يُذنِبُ ثم يتوبُ ، ثم يُذنِبُ ثم يتوبُ. وَقِيْلَ : الأوَّابُ الْمُسَبحُ مِن قوله{ ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ }[سبأ : 10]. وَقِيْلَ : هو الذاكرُ للهِ ، وقال مقاتلُ : (الْمُطِيعُ). وَقِِيْلَ : هو الذي لا يقومُ من محلِّه حتى يستغفرَ اللهَ ، وقال أبو بكرٍ الورَّاق : (هُوَ الْمُتَوَكِّلُ عَلَى اللهِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ، لاَ يَهْتَدِي إلَى غَيْرِ اللهِ). وَقِيْلَ : هو الذي لا يشتَغِلُ إلاَّ باللهِ.
(0/0)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـانَ بِالْغَيْبِ } ؛ صفةٌ للأَوَّاب الحفيظِ ، والمعنى : مَن خافَ اللهَ وخَافَ من عذابهِ وأطاعَهُ ولم يَعْصِهِ ، وعبدَهُ حيث لا يراهُ إلاَّ اللهُ ، وهو معنى قولهِ { بِالْغَيْبِ } { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } ؛ أي جاءَ بقَلبٍ مُخلِصٍ راجعٍ عن معاصِي الله إلى طاعتهِ ، والقلبُ الْمُنِيبُ : هو التَّائِبُ ، وموضِعُ { مَّنْ خَشِيَ } الخفضُ على نعتِ الأوَّاب.
(0/0)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
وقولهُ تعالى : { ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } ؛ يعني سلامة من الهمومِ والعذاب وأمانٍ من كلِّ مكروه ، { ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ } ؛ في الجنَّة لأنه لا موتَ فيها ولا فناءَ ولا انقطاعَ ، { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } ؛ من أنواعِ النَّعيم ، { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } ؛ أي نَزِيدُهم من عندِنا ما لم يسألوهُ ، ولا خَطَرَ على قلوبٍ ، ولا بلغَتهُ أفهامُهم ، وقال جابرُ : " الْمَزِيدُ هُوَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللهِ الْكَرِيمِ بلا كَيْفٍ).
(0/0)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } ؛ هذا تخويفٌ لأهلِ مكَّة ؛ أي كم أهلَكنا من قومٍ هُم أشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً ، { فَنَقَّبُواْ فِي الْبِلاَدِ } ؛ أي سَارُوا وتَقلَّبُوا وطافُوا في البلادِ. وأصلهُ من النَّقَب وهو الطريقُ ؛ وكأنَّهم سلَكُوا كلَّ طريقٍ فلم يجِدُوا مَخْلَصاً عن أمرِ الله.
قال الزجَّاجُ : (لَمْ يَرَوا مَخْلَصاً مِنَ الْمَوْتِ ، كَأَنَّهُمْ ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ مَعَ شِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ وَبَطْشِهِمْ ، وَفِي هَذا إنْذارٌ لأَهْلِ مَكَّةَ أنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبيلِهِمْ لاَ يَجِدُونَ مَفَرّاً مِنَ الْمَوْتِ ، يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إلَى عَذاب اللهِ).
قرأ الحسنُ : (فَنَقَبُوا) بالتخفيف ، وقرأ السُّلَمي على اللفظِ الأمرِ على التهديدِ والوعيد ؛ أي أقبلُوا في البلادِ وأدبرُوا يا أهلَ مكَّة وتصرَّفُوا منها كلَّ مُتَصَرَّفٍ ، وسِيرُوا في الأرضِ فانُظروا ، { هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى } ؛ أي إنَّ ما صُنِعَ بهم من هلاكِ القُرى لعِبرَةً وعِظَةً ؛ { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ؛ عقلٌ وحَزْمٌ وبصيرة ، { أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ } ؛ أي استمعَ ما يقالُ له على جهة التَّفَهُّمِ ، يقولُ العربُ : ألْقِ سَمْعَكَ ؛ أي اسْتَمِعْ مِنِّي ؛ { وَهُوَ شَهِيدٌ } ؛ أي شاهِدُ القلب حاضرهُ غير غافلٍ ولا سَاهٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ؛ واللُّغُوبُ هو التَّعَبُ ، وذلك أنَّ اليهودَ لَعَنَهُمُ اللهُ قالُوا : خلقَ اللهُ السمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّام ، أوَّلُها يوم الأحَدِ ، وآخرُها يومُ الجمعةِ ، فأَعَيا واستراحَ يومَ السبتِ! فذلكَ لا يُعمَلُ فيهِ شيئاً. فأكذبَهم اللهُ بقولهِ { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ، واللُّغُوبُ هو التعبُ ، وسُبحانَ اللهِ أن يُوصَفَ بتَعَبٍ أو نصَبٍ.
(0/0)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } ؛ أي إصبرْ يا مُحَمَّدُ على ما يقُولون من الأذى والتكذيب ، وهذا قبلَ أن يؤمَرَ بالقتال ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ؛ أي صَلِّ بأَمرِ ربكَ واحْمَدْهُ ، { قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } ؛ أرادَ بذلك صلاةَ الفجرِ وصلاةَ العصرِ. وَقِيْلَ : معناهُ : قبلَ الغروب : الظهرَ والعصرَ ، { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } ؛ يعني : صلاةَ المغرب والعشاءِ. وسُمِّيت الصلاةُ تَسبيحاً لِمَا فيها من التسبيحِ : (سُبْحَانَ رَبيَ الْعَظِيمِ ، وَسُبْحَانَ رَبيَ الأَعْلَى).
وقولهُ تعالى : { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } ؛ يعني الرَّكعتين بعدَ المغرب وقبلَ الوترِ. وَقِيْلَ : التسبيحُ في أواخرِ الصَّلاة ، يُسَبحُونَ اللهَ ثلاثاً وثلاثين ، ويَحمَدُون ثلاثاً وثلاثين ، ويُكَبرُونَ ثلاثاً وثلاثين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي آخِرِ صَلاَتِهِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ... } إلَى آخرِ السُّورة ".
وعن الشعبيِّ والأوزاعيِّ أنَّهما قالا : (أدْبَارُ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِب ، وأدْبَارُ النُّجُومِ : الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ). وقال ابنُ زيدٍ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } وَهُوَ النَّوَافِلُ ، وَأدْبَارُ الْمَكْتُوبَاتِ).
قرأ الحسنُ وأبو عمرٍو ويعقوبُ وعاصم والكسائيُّ وابنُ عامرٍ : (وَأدْبَارَ) بفتحِ الألف جمعُ الدُّبُرِ. وقرأ الباقون بالكسرِ على المصدر مِن أدْبَرَ يُدْبرُ إدْبَاراً.
(0/0)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } ؛ أي استمِعْ يا مُحَمَّدُ صيحةَ القيامةِ والبعثِ والنَّشرِ ، ويومَ النداءِ هو يومُ صَيحَةِ إسرافيلَ ، وهو يومُ النَّفْخَةِ الأخيرةِ ، يقومُ فيه على صخرةِ بيتِ المقدسِ فينفخُ في الصُّور ، والصَّخرةُ أقربُ مكانٍ من الأرضِ إلى السَّماء باثْنَي عشر مِيلاً كذا قال الكلبيُّ.
وفي الحديثِ : " أنَّهُ يُنَادِي : أيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ ، وَالْعُرُوقُ الْمُتَمَزِّقَةُ ، وَالشُّعُورُ الْمُتَفَرِّقَةُ ، أُخْرُجْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ فِيَكُنَّ ، فَيَخْرُجُونَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ".
(0/0)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
وقوله تعالى : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ } ؛ أي بالبعثِ ، وَقِيْلَ : إنَّها كائنةٌ بالحقِّ ، { ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } ؛ أي مِن القبور إلى المحشَرِ.
(0/0)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ } ؛ أي نُحيي الأمواتَ ونُمِيتُ الأحياءَ ، { وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ } ؛ في الآخرةِ للجَزاءِ.
(0/0)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
وقولُه تعالى : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً } ؛ أي تتصَدَّعُ عنهم مُسرعين ، والمعنى يوم تشَقَّقُ الأرضُ عنهم خارجين سِرَاعاً يُسرِعُونَ إلى الدَّاعي ، { ذَلِكَ } ؛ الحشرُ ، { حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } ؛ أي هَيِّنٌ وسَهْلٌ.
(0/0)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } ؛ يا مُحَمَّدُ مِن تكذيبكَ من أمرِ البعث وغيرِ ذلك ، يعني كفَّارَ مكَّة ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } ؛ أي بُمسَلَّطٍ قَهَّارٍ تُجبرُهُمْ على الإسلامِ ، إنما بُعِثتَ مُذكِّراً مُحَذِّراً ، وذلك قبلَ أن يُؤمَرَ بالقتالِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ } ؛ أي عِظْ به ، { مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ؛ وإنما خَصَّ الخائفِين بالوعظِ ؛ لأنَّهم همُ الذي يَنتَفِعُونَ بذلك ، والمعنى : ذكِّرْ بالقُرآنِ مَن يخافُ ما وعَدتُ مَن عصَانِي من العذاب.
(0/0)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)
{ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً } ؛ يعين الرِّياحَ تَذرُوا الترابَ ، وتَهشِمُ النباتَ ، أي تُفَرِّقهُ ، وهي مخفوضةٌ على القسَمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْحَامِلاَتِ وِقْراً } ؛ يعني السَّحابَ تَحمِلُ ثُقْلاً من ماءِ المطرِ ، فتصيرُ كالْمُوقَدَةِ ، والوِقْرُ بكسرِ الواو الْحِمْلُ ، والوَقْرُ بفتح الواو الثُّقلُ في الأُذن.
(0/0)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
قَوْلٌُهُ تَعَالَى : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً } ؛ يعني السُّفن تجرِي في الماءِ جَرْياً سَهْلاً مع عِظَمِها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً } ؛ يعني الملائكةَ يَقسِمُونَ الأمُورَ بين الخلقِ على ما أُمِرُوا به من الأرزاقِ وغيرِها.
أقسمَ اللهُ بهذه الأشياءِ لِمَا فيها من الدَّلالةِ على صَنعَتِهِ وقُدرتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } ؛ يعني إنَّ الذي تُوعَدون من الثَّواب والعقاب لصَادِقٌ ، { وَإِنَّ الدِّينَ } ؛ أي الجزاءَ ، { لَوَاقِعٌ } ؛ كائنٌ يومَ القيامةِ.
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ ذاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَةٍ : (سَلُونِي فَوَاللهِ لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إلاَّ وَسَأُخْبرُكُمْ بهِ. فَقَالَ رَجُلٌ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَا الذاريَاتِ ذرْواً ؟ فَقَالَ : الرِّيَاحُ : وَقَالَ : مَا الْحَامِلاَتِ وقْراً ؟ قَالَ : السَّحَابُ. قَالَ : مَا الْجَاريَاتِ يُسْراً ؟ قَالَ : السُّفُنُ. قَالَ : مَا الْمُقَسِّمَاتِ أمْراً ؟ قَالَ : الْمَلاَئِكَةُ).
وعن الأعرجِ قال : بَلَغَنَا أنَّ مَسَاكِنَ الرِّيَاحِ تَحْتَ أجْنِحَةِ الْكُرُوبيِّينَ حَمَلَةِ الْكُرْسِيِّ ، فَتَهِيجُ مِنْ ثَمَّ فَتَقَعُ بعَجَلَةِ الشَّمْسِ ، ثُمَّ تَهِيجُ مِنْ عَجَلَةِ الشَّمْسِ فَتَقَعُ برُؤُوسِ الجِبَالِ ، ثُمَّ تَهِيجُ مِنْ رُؤُوسِ الجِبَالِ فَتَقَعُ فِي البَرِّ ، وأمَّا الشِّمَالُ فإنَّهَا تَمُرُّ بجَنَّةِ عَدْنٍ ، فَتَأْخُذُ مِنْ عَرْفِ طِيبهَا ، فَتَمُرُّ عَلَى أرْوَاحِ الصِّدِّيقِينَ ، ثُمَّ يَكُونُ مَهَبُّهَا مِنْ كُرْسِي بَنَاتِ نَعْشٍ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ ، وَتَهُبُّ الدُّبُورُ مِن مَغْرِبِ الشَّمْسِ إلى مَطْلَعِ سُهَيْلٍ ، وَتَهُبُّ الصَّبَا مِنْ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إلى مَغْرِبِ بَنَاتِ نَعْشِ ، لاَ تَدْخُلُ هَذِهِ فِي حَدِّ هَذِهِ ، وَلاَ هَذِهِ في حَدِّ هَذِهِ).
(0/0)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْحُبُكِ } ؛ هذا قسَمٌ آخرُ ، ومعناهُ : والسَّماءِ ذاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ المستَوِي ، هذا قولُ عكرمةَ ، قالَ : (ألَمْ تَرَ إلَى النَّسَّاجِ إذا نَسَجَ الثَّوْبَ فَأَجَادَ نَسْجَهُ ، قِيْلَ : مَا أحْسَنَ حَبْكَهُ!) ، وبهِ قالَ ابنُ عبَّاس وقتادةُ والربيع. وقال سعيدُ بن جبير : (وَمَعْنَاهُ : ذاتِ الزِّينَةِ).
وقال مجاهدُ : (وَالسَّمَاءِ ذاتِ الْبُنْيَانِ الْمُتْقَنِ). وقال الضحَّاكُ : (ذاتِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُرَى فِيهَا كَحُبُكِ الْمَاءِ إذا ضَرَبَتْهُ الرِّيَاحُ ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ إذا سَفَّتْهُ الرِّيحُ ، وَحُبُكِ الشَّعْرِ الْجَعْدِ ، وَحُبُكِ الثَّوْب الْحَسَنِ النَّسِيجِ).
والْحُبُوكُ في اللغة : مَا أُجِيدَ عَمَلُهُ ، وواحدُ الْحُبُكِ حِبَاكٌ ، مثلُ مِثَالٍ ومُثُلٍ. ويجوزُ أن يكون واحدةُ حَبيكَةٍ مثلُ طَرِيقَةٍ وَطُرُقٍ. وَقِيْلَ : الْحُبُكُ طَرِيقُ الملائكةِ ، وقال الحسنُ : (حَبَكَهَا زَيَّنَهَا بالنُّجُومِ). وَقِيْلَ : (ذاتِ الْحُبُكِ) أي ذاتِ الْخَلْقِ الشَّديدِ ، قال تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً }[النبأ : 12].
(0/0)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
وقولهُ تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ؛ هذا جوابُ القسَمِ الثانِي ، والمعنى : إنَّكم يا أهلَ مكَّة لَفِي قولٍ مُختَلِفٍ من بين مُصَدِّقٍ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم ومُكذِّبٍ به ، ومُتوَقِّفٍ في أمرهِ ، وبعضُكم يقولُ في مُحَمَّدٍ : هو شاعرٌ ، وبعضكم يقول : مجنونٌ ، وفي القرآنِ يقول بعضُكم : هو سحرٌ ، وبعضكم يقول : هو كهَانَةٌ ، وبعضكم يقولُ : هو أساطيرُ الأوَّلين.
(0/0)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } ؛ أي يَنصَرِفُ عن الإيمانِ مَن صُرِفَ حتى يُكَذِّبَ بهِ ، يعني بذلك مَن حَرَمَهُ اللهُ الإيمان بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ.
(0/0)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ } ؛ أي لُعِنَ الكَذابُونَ ، وقال ابنُ عبَّاس : (الْمُرْتَابُونَ) ، والقَتْلُ إذا أُخبرَ به عن اللهِ كان بمعنَى اللَّعْنِ ؛ لأنَّ مَن لَعَنَهُ اللهُ فهو بمنْزِلة المقتولِ الهالكِ ، كما قالَ اللهُ{ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ }[عبس : 17] أي لُعِنَ. والْخَرَّاصُونَ : همُ الكذابُونَ.
قال الفرَّاء : (وَالْمُرَادُ بهِمْ هَهُنَا الَّذِينَ قَالُوا : مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ وَكَذابُ وَمَجْنُونٌ وَسَاحِرٌ). والْخَارصُ : هو الذي يقطعُ في الأمور والْحُكمِ بمقدارهِ بالتَّخمِينِ ، يعني مِن غير علمٍ ، ومنه خَارصُ الذي يقطعُ في مقدارهِ بغيرِ حقيقةٍ.
(0/0)
الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } ؛ نَعْتٌ لهم ، والغَمْرَةُ هي الجهلُ ، ومنه الغَمْرُ الجهلُ ، والسَّاهِي هو الغافلُ عن أمرِ الآخرة. والمعنى : الذين هُم في غفلةٍ وعمًى وجهالةٍ عن أمرِ الآخرة ، سَاهُونَ لاَهُونَ.
(0/0)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ } ؛ أي يسأَلون متى يكونُ الجزاءُ على وجهِ الإنكار ، يقولون : يا مُحَمَّدُ متى يومُ الجزاءِ ، تَكذيباً منهم واستهزاءً ، فأُجِيبُوا بما يَسُوءُهم ، فقيل : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ } ؛ أي يُحرَقون ويُنضَجون ويعذبون بها.
يقالُ : فَتَنْتُ الذهبَ إذا أحرقتُ الغشَّ الذي فيه ، والكفارُ غِشٌّ كلُّهم فيُحرَقون ، ويقولُ لَهم خَزَنَةُ النار : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } ؛ أي حَرِيقَكم وعذابَكم ، { هَـاذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } ؛ في الدُّنيا تَكذيباً به. وإنَّما لم يقُل : فِتنَتَكم هذهِ ؛ لأنَّ الفتنةَ ههُنا بمعنى العذاب ، فردَّ الإشارةَ إلى المعنَى.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي قَابلين ما أعطَاهُم ربُّهم من كرامةٍ في الجنَّة. وَقِيْلَ : معناهُ : عَامِلين بما أمَرَهم ربُّهم في الدُّنيا ، وقولهُ تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } ؛ في الدُّنيا في أعمالِهم ، وقولهُ تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ؛ أي ما ينَامُون ، هذا بيانُ إحسانِهم.
والْهُجُوعُ : النَّومُ باللَّيلِ دون النَّهار ، و(مَا) زائدةٌ ، والمعنى : كانُوا يَهجَعُونَ قليلاً من اللَّيلِ ويُصَلُّونَ أكثرَ اللَّيلِ. وَقِيْلَ : معناهُ : قَلَّ ليلةً أتت عليهم هَجَعُوها كلَّها ، وقال مجاهدُ : (كَانُوا لاَ يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ).
واختارَ قومٌ الوقفَ على قولهِ { كَانُواْ قَلِيلاً } على معنى : كَانُوا من الناسِ قَليلاً ، وهو قولُ الضحَّاك ومقاتل. ثم ابتدأ فقالَ : { مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } وهذا على نفيِ النومِ عنهم البتَّةَ. وَقِيْلَ : معناهُ : كانوا لا ينَامُون حتى يُصَلُّوا الْعَتْمَةَ ، وقال أنسُ بن مالكٍ رضي الله عنه : (يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشَاءِ). وعن جعفرَ بن محمَّد أنه قال : (مَنْ لَمْ يَهْجَعْ مَا بَيْنَ الْمَغْرِب وَالْعِشاءِ فَهُوَ مِنْهُمْ) ، عن أبي ذرٍّ قال : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ : أيُّ صَلاَةِ اللَّيْلِ أفْضَلُ ؟ قَالَ : " نِصْفُ اللَّيْلِ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ؛ قال الحسنُ : (كَانُوا يَمُدُّونَ الصَّلاَةَ إلَى الْعَصْرِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ فِي الاسْتِغْفَار بالأَسْحَار).
(0/0)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وقولهُ تعالى : { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ } ؛ يعني بذلك الحقِّ الزكاةَ ، فليس عليهم مِن سِوَاها ، والسائلُ : هو الذي يسأَلُ الناسَ ، والْمَحْرُومُ : هو الذي لا يسألُ ، يَحْرِمُ نفسَهُ بتركِ سُؤالهِ ، ويحرِمهُ الناسُ بتركِ إعطائهِ.
وقال إبراهيمُ : (الْمَحْرُومُ : هُوَ الَّذِي لاَ سَهْمَ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ) ، وقال زيدُ بن أسلَم : (هُوَ الْمُصَابُ ثَمَرُهُ أوْ زَرْعُهُ أوْ نَسْلُ مَاشِيَتِهِ) ، ويقالُ : هو صاحبُ الحاجةِ بذهاب مالهِ بدليلِ قوله{ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ }[الواقعة : 66-67].
عن أبي قُلابة قال : كَانَ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الْيَمَامَةِ لَهُ مَالٌ ، فَجَاءَ سَيْلٌ فَذهَبَ مَالُهُ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم هَذا الْمَحْرُومُ فَأَقْسَمَ لَهُ). وقال قتادةُ والزهري : (هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لاَ يَسْأَلُ) ، وقد ذكرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقالَ : " لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ ، وَلاَ يُفْطَنُ لِحَاجَتِهِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ".
وعن عبدِالله بن عمرَ والشعبيِّ والحسن ومجاهد أنَّهم قالوا : (فِي الْمَالِ حَقٌّ وَاجِبٌ سِوَى الزَّكَاةِ) ، وَهِيَ الْحُقُوقُ الَّتِي تَلْزَمُ عِنْدَمَا يُعْرَضُ مِنَ الأَمْوَالِ مِنَ النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ إذا كَانَا فَقِيرَيْنِ ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَمَا يَجِبُ مِنْ إطْعَامِ الْمُضْطَرِّ وَحَمْلِ الْمُنْقَطِعِ وَغَيْرِ ذلِكَ.
(0/0)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } ؛ آياتُ الأرضِ جِبالُها وأنْهارُها واختلافُ نباتِها وبحارها وأشجارها ، بذلك كلِّه دلائلُ توحيدِ الله لِمَن أيقنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ؛ معناهُ : وفي أنفُسِكم آياتٌ إذ كانت نطفةً ثم علقةً ثم مُضغةً ثم عَظْماً إلى نَفْخِ الروحِ.
وقال عطاءُ : (يَعْنِي اخْتِلاَفَ الأَلْسِنَةِ وَالصُّوَر وَالأَلْوَانِ وَالطَّبَائِعِ). وقال ابنُ الزُّبير : (هُوَ أنْ يَأْكُلَ وَيَشْرَبَ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ يَخْرُجُ بَعْدَ ذلِكَ مِنْ مَكَانَيْنِ ، مَكَانِ الْغَائِطِ وَمَكَانِ الْبَوْلِ ، حَتَّى أنَّهُ لَوْ شَرِبَ لَبَناً مَحْضاً خَرَجَ مَاءً). وقولهُ تعالى { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أي أفَلا تنظُرون بقُلوبكم نظرَ مَن كان يرَى الحقَّ بعَينهِ.
(0/0)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } ؛ يعني المطرَ الذي هو سببُ النباتِ ، والنباتُ هو مما قَسَمَهُ اللهُ تعالى للعبادِ وكَتبَهُ في السَّماء ، أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ أرزاقَ العبادِ حيث لا يأكلهُ السُّوس ولا تنالهُ اللُّصوصُ ، فقال تعالى : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ }.
وعن واصل الأحدب أنَّهُ قرأ هذه الآيةَ فقال : (إنِّي أرَى رزْقِي فِي السَّمَاءِ وَأنَا أطْلُبُهُ فِي الأَرْضِ ، فَدَخَلَ خَرِبَةً فَمَكَثَ فِيهَا لَيَالِيَ لاَ يُصِيبُ شَيْئاً ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الرَابعِ إذْ هُوَ خُوصٍ صُرَّةٍ مِنْ دَوْخَلَّةٍ رُطَب ، فَلَمْ يَزَلْ كَذلِكَ حَتَّى مَاتَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تُوعَدُونَ } ؛ قال عطاءُ : (مَعْنَاهُ : وَفِي السَّمَاءِ مَا تُوعَدُونَ مِنَ الثَّوَاب وَالْعِقَاب مَكْتُوبٌ) ، وقال الكلبيُّ : (وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ). وقال مجاهدُ : (الْجَنَّةِ وَالنَّار).
(0/0)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } أقسَمَ اللهُ تعالى بنَفسهِ ، والذي بَيَّنَهُ مِن أمرِ الرِّزقِ وغيرِه (لَصِدْقٌ) كان نِطقُكم الذي هو الصدقُ من كلمةِ التَّوحيدِ ونحوِها حقٌّ قرأهُ أهلُ الكوفة (مِثْلُ مَا أنَّكُم) برفعِ (مِثْلُ) على أنَّهُ صفةٌ لقوله (لَحَقٌّ). وقرأ الباقون بالنصب على التركِ على معنى إنه يَحِقُّ حَقّاً { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } ، وَقِيْلَ : تقديرهُ : كَمِثْلِ ما أنَّكم تَنطِقُونَ.
وقالَ بعضُ الحكماء : معنى قولهِ : { مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } أي كما أنَّ كلَّ إنسانٍ لا ينطقُ بلسانِ غيرهِ ، كذلك لا يأكلُ إنسانٌ رزقَ غيرهِ والذي قُدِّرَ له ، ولا يأكلُ إلاَّ رزقَ نفسهِ ، كما لا يتكلَّمُ إلاَّ بلسانِ نفسه.
قال الحسنُ : (بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : " قَاتَلَ اللهُ أقْوَاماً أقْسَمَ لَهُمْ رَبُّهُمْ بنَفْسِهِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُ " ، وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رزْقِهِ لَتَبعُهُ كَمَا يَتْبَعُهُ الْمَوْتُ " ، قال الشاعرُ : أسْعَى لأَطْلُبَهُ وَالرِّزْقُ يَطْلُبُنِي وَالرِّزْقُ أكْثَرُ لِي مِنِّي لَهُ طَلَبَا
(0/0)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ } ؛ أي قد أتاكَ يا مُحَمَّدُ أضيافُ إبراهيم عليه السلام الذي أكرَمَهم بخِدمَتهِ وقيامهِ بين أيديهم ، قال ابنُ عبَّاس ومقاتل : (مَعْنَى الآيَةِ : قَدْ أتَاكَ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذاكَ آتَاكَ إيَّاهُ) ، وقولهُ تعالى { الْمُكْرَمِينَ } يعني عندَ اللهِ.
وذكرَ ابنُ عبَّاس : (أنَّ أضْيَافَ إبْرَاهِيمَ : إسْرَافِيلُ وَجِبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ). وقال مقاتلُ : (يَعْنِي بقَوْلِهِ { الْمُكْرَمِينَ } أيْ أكْرَمَهُمْ إبْرَاهِيمُ فَأَحْسَنَ عَلَيْهِمُ الْقَياَم ، وَكَانَ لاَ يَقُومُ عَلَى رَأسِ ضَيْفٍ ، فَلَمَّا رَأى هَيْئَتَهُمْ حَسَنَةً قَامَ هُوَ وَامْرَأتُهُ سَارَةُ لِخِدْمَتِهِمْ). وقال الكلبيُّ : (أكْرَمَهُمْ بالْعِجْلِ). قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخرِ فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَسْكُتْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ } ؛ وهم جِبرَائِيلُ ومعه مِن الملائكةِ ، قال ابنُ عبَّاس ومقاتلُ : (كَانُوا اثْنَى عَشَرَ مَلَكاً) ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ : (كَانُوا سَبْعَةً مَا خَلاَ جِبْرَائِيلَ) ، وقال عطاءُ : (كَانُوا ثَلاَثَةً : جِبْرَائِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإسْرَافِيلُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ؛ معناهُ : سَلَّمُوا عليه سَلاَماً. وَقِيْلَ : قالوا أسْلِمْ سَلاماً ؛ كأنَّهم آنَسوهُ من الوَجَلِ. فقال سلامٌ مِنكُم ؛ أي أمِنتُ بما جاءَني من السَّلام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي إنه لم يَعرِفْهم لأنه ظنَّ أنَّهم من الإنسِ.
(0/0)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ } ؛ أي عدَلَ ومالَ إلى سارة من حيث لم يَعلَمْ أضيافهُ لأيِّ شيءٍ عدَلَ ، { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } ؛ أي كَثِيرِ الشَّحمِ فَوَضَعَهُ بين أيدِيهم ، قال قتادةُ : (وَكَانَ عَامَّةَ مَالِ إبْرَاهِيمَ الْبَقَرُ) { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } ؛ ليَأكلوهُ ، فلم يأكُلوا ، { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } ؛ من طعامِي ، { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } ؛ أي فأَضمرَ في نفسهِ خيفةً منهم حيث لم يأكلُوا من طعامهِ ، ظنَّ أنَّهم يُريدون به سوءً ، فلمَّا عَلِموا خوفَهُ ، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } ؛ إنَّا رسُلُ ربكَ ، { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } ؛ حَليمٍ في صِغَرِهِ ، عليمٍ في كِبَرِهِ وهو إسحقُ عليه السلام.
(0/0)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } ؛ أي في ضجَّةٍ وصَيحَةٍ ؛ أي أخذتْ تُوَلْوِلُ ؛ أي تقولُ : يَا وَيْلَتَا. وَقِيْلَ : الصَّرَّةُ جماعةُ النساءِ ، مأخوذٌ من الصَّرَّةِ التي هي مجمَعُ الدراهمِ ، ومنه الشَّاةُ الْمُصْرَاةُ ، وقولهُ تعالى : { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } ؛ قال مقاتلُ والكلبي : (جَمَعَتْ أصَابعَهَا فَضَرَبَتْ جَنْبَيْهَا تَعَجُّباً).
ومعنى الصَّكِّ : الضربُ للشيءِ بالشيء العريض ، والصَّرةُ مأخوذٌ من الصَّرِّ وهو الصوتُ ، كأنَّها جاءت بشِدَّة الصياحٍ فلطَمَتْ وجهَها وهي تقولُ : أألِدُ وأنا عجوزٌ عاقرةٌ ، وكانت يومَ البُشرى بنتَ ثَمان وتسعين سَنة ، وكان إبراهيمُ أكبرَ منها بسَنةٍ.
ومعنى قولهِ تعالى : { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } ؛ تقديرهُ : أتَلِدُ عجوزٌ عقيم ، وكانت سَارَةُ لَمْ تَلِدْ قبلَ ذلك ، وكان بين البشَارَةِ والولادةِ سنةٌ ، فولدَت سارةُ وهي بنتُ تسعٍ وتسعين سَنة ، وإبراهيمَ يومئذ ابنُ مائةِ سَنة.
(0/0)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ } ؛ أي كما قُلنا لكِ إنَّكِ ستَلِدِينَ غُلاماً عليماً ، { إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ } ؛ الحكيمُ من العَقيمِ بالولد وغيرِ العقيم ، العليمُ بمصالحِ العباد. والعقيمُ في النِّساء هي التي لا تأتِي بالولدِ ، وفي الرِّياح هي التي لا تأتِى بالمطرِ ، ولا يكون فيها الخيرُ.
(0/0)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } ؛ أي قالَ إبراهيمُ : ما شَأنُكم وفيما أُرسِلتُم ، { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } ؛ كافرِين لنُهلِكَهم بكُفرِهم وعمَلِهم الخبيثِ ، أرادُوا بذلك قومَ لوطٍ.
(0/0)
لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } ؛ أرادَ به الحجارةَ المطبوخةَ كالآجُرِّ ، { مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } ؛ والْمُسَوَّمَةِ الْمُعَلَّمَةِ. رُوي : أنَّها كانت مُخَطَّطَةً بسَوَادٍ في حُمرَةٍ ، وكان على كلِّ حجرٍ اسمُ مَن جُعِلَ إهلاكهُ. والْمُسْرِفُ هو الخارجُ من الحقِّ ، والشِّركُ أسْرَفُ الذنوب وأعظَمُها.
(0/0)
فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أرادَ به لُوطاً ومَن كان معه آمَن وهُما ابنتاهُ ، وهما زَعُورَا و ريثَا ، أمرَهم اللهُ تعالى بأنْ يخرجُوا بقِطَعٍ من الليلِ ، ومعنى قولهِ تعالى { مَن كَانَ فِيهَا } أي في قرية لوطٍ ، وذلك قولهُ{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ }[هود : 81] أمرَ اللهُ لوطاً بأنْ يخرُجَ هو ومَن معه مِن المؤمنين لئَلاَّ يُصيبَهم العذابُ.
(0/0)
فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ } ؛ أي غيرَ أهلِ بيتٍ مِن المسلمين ، يعني لُوطاً وبنتَيهِ ، وصَفَهم اللهُ بالإيمانِ والإسلام جميعاً ؛ لأنه مَا مِن مؤمنٍ إلاّ وهو مسلمٌ ، والمرادُ بالإسلامِ هَهُنا الإيمانُ.
(0/0)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً } ؛ أي وتَركنا في مدينةِ قومِ لوطٍ عليه السلام علامةً ، { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } ؛ تدُلُّهم على أنَّ اللهَ أهلكَهم فيخَافُون مثلَ عذابهم ، فإن اقتلاعَ البُلدان لا يقدرُ عليه أحدٌ إلاَّ اللهُ.
(0/0)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ أي وفِي خبرِ موسى عليه السلام وقضِيَّتهِ مع فرعون آيَةٌ أيضاً ، وقولهُ تعالى { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي بحُجَّةٍ ظاهرةٍ وهي العصَا واليد.
(0/0)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ } ؛ أي أعرضَ فرعونُ عن الإيمان به بجَمعهِ وجُندهِ الذين يتَقَوَّى كالرُّكن الذي يتقوَّى به البنيان ، { وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } ؛ ونَسَبَ موسى إلى السِّحر والجنون مع ظُهور حُجَّتهِ عليه.
(0/0)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } ؛ أي فعاقَبناهُ وجُموعَهُ فطَرحَناهُم في البحرِ وأغرقناهم ، { وَهُوَ مُلِيمٌ } ؛ أي وهو مُستَوَجِبٌ الْمَلاَمَةَ ؛ لأنه أتَى بما يُلامُ عليه حين أدَّعَى الرُّبوبيَّةَ وكذبَ الرُّسلَ.
(0/0)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ } ؛ أي وفي خَبرِ قومِ هودٍ آيةٌ أيضاً ، حين أرسَلنا عليه الدُّبُورَ والعقيمَ التي لا خيرَ لَهم فيها ولا بركةَ ولا تلقَحُ شَجراً ولا تحمِلُ مَطراً ، إنما هي ريحُ الهلاكِ ، وكانت تلك الريحُ التي أُهلِكَتْ بها عادٌ ريحَ الدُّبُور ، قال صلى الله عليه وسلم : " نُصِرْتُ بالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدُّبُور ".
(0/0)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وقولهُ تعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ } ؛ معناهُ : ما تتركُ من شيءٍ مرَّت عليه مِن أنفُسِهم وأنعامِهم إلاَّ جعلتْهُ كالْحَطِيمِ البَالِي الْمُنْسَحِقِ. ويقالُ : الرَّمِيمُ : هو الورقُ اليَابسُ المتحَطِّم مثل الْهَشِيمِ الذي يَسِيرُ كالْهَبَاءِ بأَيسَرِ ما تجرِي عليه.
قال قتادة : (مَعْنَاهُ : إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الشَّجَرِ) ، وقال أبو العاليةِ : (كَالتُّرَاب الْمُدَقَّقِ) ، وقال ابنُ عبَّاس : (كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ) ، وفي الحديثِ : " أنَّ تِلْكَ الرِّيحَ كَانَتْ تَتْبَعُ مُسَافِرِيهِمْ وَمَا شُدَّ مِنْ مَتَاعِهِمْ فَتَحْمِلُهُ فَتُلْقِيَهُ فِي وَادِي صَنْعَاءَ ، وَلَمْ تَضُرَّ غَرِيباً لَيْسَ مِنْهُمْ ".
(0/0)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حَتَّى حِينٍ } ؛ أي في خبرِ ثَمود وإهلاكِهم آيةٌ أيضاً ، إذ قِيْلَ لَهم تَمَتَّعُوا إنْ أطَعتُم اللهَ إلى آجالِكم ، { فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } ؛ فأعرَضُوا عن قَبولِ أمرِ الله ، فأخذهم العذابُ الْمُحْرِقُ وهم ينظُرون إلى أنفُسِهم وإلى قومهِم يحترِقُون في العذاب. وَقِيْلَ : معناهُ : لما عَقَرُوا الناقةَ قالَ لهم صالِحُ : تَمتَّعُوا ثلاثةَ أيامٍ ، وهو قولهُ { حَتَّى حِينٍ } ، والتَّمَتُّعُ : التَّلَذُّذُ بأسباب اللَّذة من المناظرِ والروائح الطيِّبة وأشباهِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ } ؛ يعني بعدَ مُضِيِّ ثلاثةِ أيَّام. والصَّاعِقَةُ : كلُّ عذابٍ مُهلِكٍ ، وقرأ الكسائيُّ (الصَّعْقَةُ) وهي الصوتُ الشَّديد ، { وَهُمْ يَنظُرُونَ } ؛ ذلك عَيَاناً ، { فَمَا اسْتَطَاعُواْ مِن قِيَامٍ } ؛ ما قَدَروا على النُّهوض من مقامِهم حين غَشِيَهم العذابُ فيَرُدُّوهُ ، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } ؛ أي مَا كانت لهم قوَّةٌ يَمتَنِعُونَ بها مِنَّا ، ولا كانوا طَالِبين نَاصراً لهم يمنعُهم من عذاب الله.
(0/0)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } ؛ فيه قراءَتان ، قرأ أبو عمرٍو وحمزةُ والكسائي وخلَف (وَقَوْمِ) بالخفضِ ؛ أي وفِي قومِ نوحٍ وهلاكهم بالطُّوفان آيةٌ أيضاً ، وقرأ الباقون بالنَّصب على معنى : وأهلَكنا قومَ نوحٍ من قبلِ عادٍ وثمود. وَقِيْلَ : نُصب على تقديرِ : وَاذكُرْ قومَ نوحٍ من قبلِ عادٍ وثمود وقومِ فرعون ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ؛ أي خارجين من طاعةِ الله. وَقِيْلَ : انتصبَ قولهُ { وَقَوْمَ نُوحٍ } على قراءةِ النصب عَطفاً على الهاءِ والميم في قوله{ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ }[الذاريات : 40] كأنه قالَ وأغرَقنا فرعونَ وجنودَهُ ، وأغرَقنا قومَ نوحٍ من قبلُ.
(0/0)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } ؛ أي بقُدرَةٍ وقوَّة ، { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } ؛ في السَّماء على الأرضِ في كلِّ جهاتٍ ، ونحن نقدرُ على أكثرَ من ذلك ، ولم يكن هذا جهدُ قوَّتنا ، وقال الحسنُ : (وَإنَّا لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ فَوْقَهَا وَمَنْ تَحْتَهَا).
(0/0)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا } ؛ أي بسَطنَاها على الماءِ ، { فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } ؛ الفارشُون ، والْمَاهِدُ في اللغة : هو الْمُوَظِّبُ للشَّيءِ الْمُهَيِّءُ لِمَا يصلحُ الاستقرارُ عليه.
(0/0)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } ؛ أي ومِن كلِّ شيءٍ خَلقنا مِن الحيوان ذكراً أو أُنثى ، { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ؛ وَقِيْلَ : المرادُ بالزَّوجين صِنفَين ولَونَين من حلوٍ وحامض وأبيض لكي يعتَبروا ويتَّعظوا بذلك ، ويعلموا أنه ليس مع اللهِ تعالى إلهٌ غيره.
(0/0)
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
قولهُ تعالى : { فَفِرُّواْ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي اهرُبوا من عقابهِ إلى رَحمتهِ بالإخلاصِ في طاعته وتركِ ما يشغَلُكم عن أوامرهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : فَفِرُّوا إلى الله مِن ذُنوبكم واهرُبوا من الكفرِ إلى الإسلامِ ، ومِن العصيان إلى الطاعةِ ، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أُنذرُِكم العقابَ على الكفرِ والمعصيةِ وأُخَوِّفُكم عذابَ الله بلُغَةٍ تَعرِفُونَها متى تركتم الفرار إلى الله من الله ، { وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ أي تَصِفُوهُ بالشَّريك والولدِ ، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ رسولٌ أُخَوِّفُكم لِتَمتنِعُوا أنْ تجعَلُوا مع اللهِ إلهاً آخرَ غيرهُ.
(0/0)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } ؛ أي كمَا نَسَبَكَ قومُكَ إلى السِّحر مرَّةً والجنونِ أُخرى ، هكذا ما أتَى الذين من قبلِ قَومِكَ من رسولٍ دعَاهُم إلى اللهِ إلاَّ قالوا لذلك الرسُولِ : هو { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }.
(0/0)
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)
يقولُ اللهُ تعالى : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } ؛ معناهُ أتَواصَوا بهذا القولِ فتوافَقُوا عليهِ وأوصَى كلُّ قوم مَن بعدَهم أنْ يقولوا مثلَ هذا لرسُولهم ، هذا اللفظُ لفظُ الاستفهامِ ، ومعناهُ : التوبيخُ والإنكار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ؛ يعني أهلَ مكَّة قومٌ طاغُونَ.
(0/0)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } ؛ أي أعرِضْ يا مُحَمَّدُ عن هؤلاءِ المشرِكين ، فما أنتَ عندنا بمَلُومٍ ، فأنَّكَ قد بلَّغتَ وأنذرتَ ، { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي وعِظْ أهلَ مكَّة بالقرآنِ ، فإن العِظَةَ بالقرآن تنفعُ المؤمنين وتَزيدُهم صَلاحاً ، يعني تنفعُ مَن عَلِمَ اللهُ أنْ يُؤمِنَ منهم. وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : عِظْ بالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ ، فَإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ).
(0/0)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } ؛ يعني : ما خَلقتُهم لجرِّ منفعةٍ ولا لدفعِ مضَرَّة ولا الاستكثار بهم من قلَّة ، وما خلَقتُهم إلاَّ لآمُرَهم بعبادَتِي وأنْهَاهُمْ عن مَعصِيَتي ، ولو أنَّهم خُلِقُوا لعبادةِ ربهم لَمَا عَصَوا ربَّهم طرفةَ عينٍ. وقال ابنُ عبَّاس : (هَذِهِ الآيَةُ خَاصَّةٌ لأَهْلِ طَاعَةِ اللهِ لأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ }[الاعراف : 179]).
وقرأ ابنُ عبَّاس : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ : (مَعْنَى الآيَةِ : مَا خَلَقْتُهُمْ إلاَّ لآمُرَهُمْ لِيَعْبُدُونِي وَأدْعُوَهُمْ إلَى عِبَادَتِي).
(0/0)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } ؛ أي لم يكلِّفهُم أن يرزُقوا أنفُسَهم ، ولا أحَداً من خلقِي ، ولم أكلِّفهُم أن يَرزقُونِي ، ولا يُعِينُونِي على عطاءِ الرزقِ لعبادِي.
والمعنى : ما أريدُ منهم أن يَرزُقوا أحَداً من خلقِي ، ولا أنْ يرزُقوا أنفُسَهم ، وما أريدُ أن يُطعِمُوا أحداً من خَلقِي ، ولا أنْ يُطعِمُوا أنفسهم ، وإنما أسندَ الإطعامَ إلى نفسهِ ؛ لأن الخلقَ عيالُ اللهِ ، فمَن أطعمَ عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } ؛ معناهُ : إنَّ اللهَ هو الرزَّاقُ جميعَ خَلقهِ ، ذو القوَّة والاقتدار على جميعِ ما خلقَ ، { الْمَتِينُ } يعني القوِيُّ. قرأ العامَّة (الْمَتِينُ) بالرفعِ (ذُو) أو هو اللهُ سبحانه ، وقرأ الأعمشُ (الْمَتِينِ) بالخفضِ على نعتِ القوَّة ، وكان مِن حقِّه أن يقولَ : الْمَتِينَةِ ، وإنما ذكرَهُ لأنه ذهبَ به إلى الشيء الْمُبْرَمِ الْمُحْكَمِ.
(0/0)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أخبرَ اللهُ تعالى بهذا أن لِمُشرِكي مكَّة من العذاب مثلَ ما لغيرِهم من الأُمم الكافرةِ. والمعنى : فإنَّ للذين كفَرُوا نَصيباً من العذاب مثلَ نصيب أصحابهم الذين هلَكُوا نحوُ قومِ نوحٍ وعاد وثمود.
وأصلُ الذنوب الدَّلْوُ المملوءَـةُ بالماءِ ، قال ابنُ قتيبة : (كَانُوا يَسْقُونَ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ ذنُوبٌ) ، فجعل الذنوبَ مكان الحظِّ والنصيب ، قال الشاعرُ : لَنَا ذنُوبٌ وَلَكُمْ ذنُوبُ فَإنْ أبَيْتُمْ فَلَنَا الْقَلِيبُوقال آخرُ : لَعَمْرُكَ وَالْمَنَايَا طَارقَاتٌ لِكُلِّ بَنِي أبٍ مِنْهَا ذنُوبُوقولهُ تعالى : { فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } أي لا يستَعجِلُونِي بالعذاب ، فإنِّي قد أخَّرتُهم إلى يومِ القيامة ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعََالَى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ } ؛ يعني يومَ القيامةِ.
(0/0)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)
{ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } ؛ الطورُ هو الجبلُ الذي كلَّم اللهُ موسَى وهو بمَدْيَنَ بالأرضِ المقدَّسة ، واسمهُ زُبَيْرُ ، وكلُّ جبلٍ فهو طورٌ بالسِّريانية ، قال أبو عُبيدة : (الطُّورُ الْجَبَلُ بالْعَرَبيَّةِ ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ }[النساء : 154]) والكتابُ المسطور : هو اللَّوحُ المحفوظُ المتضَمِّن كلَّ الأمُور.
(0/0)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
وقولهُ تعالى : { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ } ؛ يعني اللَّوح أيضاً تنشرهُ الملائكةُ للدراسةِ وليعلَمُوا ما فيهِ. وَقِيْلَ : الكتابُ المسطورُ : صحائفُ أعمالِ بني آدمَ يومَ القيامةِ ، فيُعطى كلُّ واحدٍ كتابَهُ بيمينهِ أو بشِمالهِ ، ونظيرهُ{ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ }[التكوير : 10] وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً }[الاسراء : 13].
(0/0)
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } ؛ هو بيتٌ في السَّماء الرابعةِ بحِيَالِ الكعبةِ ، معمورٌ لِحُسْنِ الثناءِ وزيارةِ الملائكة ، حُرمَتهُ في السَّماء كحُرمَةِ الكعبةِ في الأرض ، ما بينَهُ وبين الكعبةِ إلى نجومِ الأرض السابعةِ حَرَمٌ يدخلهُ كلَّ يومٍ سَبعون ألفَ ملَك ، ثم لا يعُودون إليه أبَداً ، لو سقطَ منه حجرٌ لوقعَ على ظهرِ الكعبة. ويقال : البيتُ المعمور هو الكعبةُ ، مَعْمُورٌ بزيارةِ الناس إياهُ.
(0/0)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ } ؛ يعني السَّماء ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً }[الأنبياء : 32] سَمَّاها سَقْفاً ؛ لأنَّها للأرضِ كالسِّقفِ للبيتِ.
(0/0)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } ؛ يعني الموقَدِ الْمَحْمِيِّ ، بمنْزِلة التَّنُّور المسجُور ، كأنه قالَ : والبحرِ المملوءِ بالنَّار الموقَدة ، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ : (هُوَ بَحْرٌ حَارٌّ يُفْتَحُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ) ، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " لاَ يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلاَّ حَاجٌّ أوْ مُعْتَمِرٌ أوْ مُجَاهِدٌ فِي سَبيلِ اللهِ ، فَإنَّ تَحْتَ الْبُحُور نَارٌ ".
وقال قتادةُ : (الْمَسْجُورُ : الْمَمْلُوءُ) ، وفي الحديثِ : " أنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْعَلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبحَارَ كُلَّهَا نَاراً ، فَيَسْجُرُهَا فِي جَهَنَّمَ " وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (الْمَسْجُورُ الْمَحْبُوسُِ).
وعن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ : (الْبَحْرُ الْمَسْجُورُ بَحْرٌ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ ، عُمْقُهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابعَةِ إلَى الأَرْضِ السَّابعَةِ وَهُوَ بَحْرٌ غَلِيظٌ ، سُمِّيَ الْحَيوَانُ يُحْيي بهِ اللهُ الْخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْبَعْثِ تُمْطَرُ أرْبَعِينَ صَبَاحاً فَيَنْبتُونَ بهِ فِي قُبُورهِمْ).
أقسمَ اللهُ بهذه الأشياءِ لِمَا فيها من الدَّلالة الواضحةِ على وحدَانِيَّة اللهِ تعالى وعِظَم قُدرتهِ على أنَّ تعذيبَ المشركين حقٌّ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } ؛ أي كائنٌ في الآخرةِ واقعٌ بأهلهِ ، { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } ؛ يدفعهُ عنهم.
ثُم بيَّن متى يقعُ بهم ذلك العذابُ فقال : { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَآءُ مَوْراً } أي تَدُورُ دَوَراناً وتضطربُ وتتحرَّكُ ، والْمَوْرُ في اللغة : الذهابُ والْمَجِيءُ والترَدُّد والدورانُ. قِيْلَ : إنَّها تدورُ كما تدورُ الرَّحَى ، ويَمُوجُ بعضُها في بعضٍ.
(0/0)
وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً } ؛ أي تسيرُ الجبال على وجهِ الأرض كما يسيرُ السَّحابُ في الدُّنيا فيَستَوِي بالأرضِ. وَقِيْلَ : معناهُ : تزولُ الجبالُ عن أمَاكِنها وتصيرُ هَباءً مَنثوراً ، { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ؛ أي فشِدَّةُ العذاب يومئذ للمُذنِبين ، { الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } ؛ يخوضُون في حديثِ مُحَمَّدٍ بالتَّكذيب والاستهزاءِ ، يَلْهُونَ بذكرهِ.
(0/0)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } ؛ أي يُدفَعون إلى نار جهنَّم دَفْعاً على وُجوهِهم يَحُفُّونَهُ ، قال مقاتلُ : (تُغَلُّ أيْدِيهِمْ إلَى أعْنَاقِهِمْ وَتُجْمَعُ نَوَاصِيهِمْ إلَى أقْدَامِهِمْ ، ثُمَّ يُدْفَعُونَ إلَى نَار جَهَنَّمَ دَفْعاً عَلَى وُجُوهِهِمْ ، حَتَّى إذا دَنَوا مِنْهَا قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا : ذُوقُوا عَذابَ النَّار الَّتِي كُنْتُمْ بهَا تُكَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا).
وَالدَّعُّ : هو الدفعُ بشِدَّة وعُنفٍ ، تدفَعُهم الملائكةُ فيُلقُونَهم في النار على وجه الاستخفافِ ، ويقولون لَهم : { هَـاذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ }. قرأ أبُو رجاء العطاردي : (يَوْمَ يُدْعَوْنَ إلَى نَار جَهَنَّمَ دَعَا) بالتخفيفِ من الدُّعاء.
وتقولُ لهم ملائكةُ العذاب : { أَفَسِحْرٌ هَـاذَا } ؛ كما كُنتم تَزعُمون في الدُّنيا وتَنسُبون الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلى ذلك ، { أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } ؛ أي قد غَطَّى على أبصاركم ، وهذا على وجهِ التَّوبيخِ ، والمعنى : أتُصَدِّقُونَ الآنَ أنَّ عذابَ الله واقعٌ ، ويقالُ لَهم : { اصْلَوْهَا } ؛ أي اصْلَوا النارَ ، الْزَمُوها وقَاسُوا شدَّتَها ، { فَاصْبِرُواْ } ؛ على العذاب ، { أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } ؛ الصبرُ والجزَعُ ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ مِن الكفرِ والتكذيب.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } ؛ أي فَاكِهين ؛ أي ذوُوا فَاكِهَةٍ كثيرةٍ ، وفَكِهين متَعَجِّبين نَاعِمين ، { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } ؛ أي ضُرَّهُ عنهم ، يقالُ لَهم : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ أي كُلوا أكْلاً هنيئاً ، واشرَبُوا شُرباً هَنيئاً ، مأمونَ العافيةِ من التُّخمة والسَّقم.
وَقِيْلَ : انتصبَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَنِيئَاً } لأنه في صفِة المصدر ؛ أي هَنِئتُمْ هَنِيئاً ، وهو أنْ يكون خَالصاً من جميعِ الآفاتِ وأسباب التَّنغيصِ.
قال زيدُ بن أرقمِ : " جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا أبَا الْقَاسِمِ ؛ تَزْعُمُ أنَّ أهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ. فَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ إنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيُؤْتَى قُوَّةَ مِائَةِ رَجُلٍ فِي الأَكْلِ وَالشُّرْب وَالْجِمَاعَ " قَالَ الرَّجُلُ : فَإنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ يَكُونُ مِنْهُ الْغَائِطُ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " ذاكَ عَرَقٌ يَفِيضُ مِثْلَ ريحِ الْمِسْكِ ، فَإذا كَانَ ذلِكَ ضَمُرَ لَهُ بَطْنُهُ " ".
(0/0)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } ؛ في ذِكْرِ حالهم معناهُ : جالِسين جلسةَ الْمُلُوكِ على سُررٍ قد صُفَّ بضعُها إلى بعضٍ ، وقوبلَ بعضُها ببعضٍ ، { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } ؛ الْحُورُ : الْبَيْضَاءُ نَقِيَّةُ البياضِ من الْحُسْنِ والكمالِ ، والْعِينِ : الواسعاتِ الأَعُينِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } ؛ يعني أولادَهم الصِّغار والكبار ؛ لأن الكبارَ يتبَعُون الآباءَ بإيمانِهم منهم ، والصغارَ يتبَعون الآباءَ بإيمانٍ من الآباءِ ، والولدُ يُحْكَمُ له بالإسلامِ تَبعاً للوالدِ ، { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ؛ يُرفَعون إليهم لتَقَرَّ بهم أعيُنهم وإنْ كانوا دُونَهم في العملِ تكرُمَةً لآبائهم.
وعن عليٍّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْمُؤمِنِينَ وَأوْلاَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ ، وَالْمُشْرِكِينَ وَأوْلاَدُهُمْ فِي النَّار " ورُوي : " أنَّ خَدِيجَةَ بنْتَ خُوَيْلِدٍ سَأَلَتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " هُمَا فِي النَّار " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } ؛ أي لَمْ نُنْقِِصْ الآباءَ من الثواب حين ألَْحَقْنَا بهم ذُرِّيَّتهم.
قرأ أبو عمرٍو (وَأتْبَعْنَاهُمْ) بالألفِ والنُّون (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالألف وكسرِ اليَائَين لقولهِ { أَلْحَقْنَا } و(مَا ألَتْنَا) لئلا يكون الكلامُ على نسقٍ واحد. وقرأ الباقون (وَاتَّبَعَتْهُمْ) بالتاء من غيرِ ألف.
واختلَفُوا في قوله (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالتاءِ فقرأ نافعُ الأولَ (ذُرِّيَّتُهُمْ) بالتاءِ وضمَّها بغيرِ ألفٍ ، وقرأ الثانِي (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالألف وكسرِ التاء. وقرأ ابنُ عامر (ذُرِّيَّاتِهِمْ) بالألف فيهما وكسرِ التاء ، وقرأ الباقون بغير ألفٍ فيهما وفتحِ الثانية.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ امْرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } ؛ أي كلُّ امرئٍ كافرٍ بما عَمِلَ من الشِّرك مُرتَهَنٌ في النار ، والمؤمنُ لا يكون مُرتَهناً لقولهِ : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ }[المدثر : 38-39] واستثنى المؤمنين.
(0/0)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } ؛ معناهُ : نَزِيدُهم في كلِّ وقتٍ مِن ألوانِ الفاكهة ، ومن كلِّ لَحمٍ مما يشتَهُون من الأنعامِ والطُّيور المطبوخِ والمشويِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } ؛ أي يتعَاطَون ويتناوَلون فيها آنيةً مملوءة من الخمرِ ، هذا من يدِ ذاك ، وذاكَ مِن يدِ هذا ، ولا يكون الكأسُ في اللغة إلاَّ إذا كان مَمْلُوءاً ، فإذا كان فَارغاً فليس بكأسٍ.
(0/0)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } ؛ أي لا يجرِي بينَهم كلامُ لغوٍ ولا باطلٍ ، ولا تخاصُمَ ، { وَلاَ تَأْثِيمٌ } ؛ أي لا يكون منهم في حالِ شُربها ما فيه إثْمٌ كما يكونُ في خمرِ الدُّنيا ، وقال ابنُ قتيبة : (مَعْنَاهُ : لاَ تَذْهَبُ بعُقُولِهِمْ فَيَلْهُوا وَيَرْفُثُوا كَمَا يَكُونُ مِنْ خَمْرِ الدُّنْيَا ، وَلاَ يَكُونُ مِنْهُمْ مَا يُؤْثِمُهُمْ) ، والمعنى : أنَّ تلكَ الكأسَ لا تجعلُهم آثِمينَ.
(0/0)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ } ؛ أي يطوفُ عليهم الْخَدَمَةُ بالفواكهِ والأشربةِ وصَفاء { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ } ؛ في الْحُسْنِ والبياضِ ، { مَّكْنُونٌ } ؛ مَصُونٌ لا تَمسُّهُ الأيدِي.
قال قتادةُ : (ذُكِرَ لَنَا : أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا نَبيَّ اللهِ ، هَذا الْخَادِمُ فَكَيْفَ الْمَخْدُومُ ؟ فَقَالَ : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ إنَّ فَضْلَ الْمَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِب " ). قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنَْهَا : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ مَنْ يُنَادِي الْخَادِمَ مِنْ خَدَمِةِ ، فَيُجِيبُهُ ألْفٌ يَقُولُونَ كُلُّهُمْ : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ".
(0/0)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ أي أقبلَ بعضُهم على بعضٍ في الزِّيادة يتحدَّثون في الجنَّة ، ويتذاكَرُون ما كانوا فيهِ من التعب والخوفِ فِي الدُّنيا ، ويتساءَلون عن أحوالِهم التي كانت في الدُّنيا.
(0/0)
قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
وقوله تعالى : { قَالُواْ إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } ؛ معناهُ : إنَّهم يقولون إنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِ أنْ ندخُلَ الجنَّة خائفِين في الدُّنيا من القيامةِ وأهوَالِها ، ومِن النار وعذابها بمعصيةٍ وقَعَتْ منَّا أو تقصيرٍ في طاعتنا ، { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } بالمغفرةِ وَقَبُولِ الطاعةِ ، { وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ } ؛ أي دفعَ عنَّا عذابَ سَمُومِ جهنَّم ، { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } ؛ أي نُوَحِّدهُ ونعبدهُ في الدُّنيا ، { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } ؛ أي هو اللَّطيفُ بعبادهِ ، الرَّحيمُ بهم.
والسَّمُومُ : من أسماءِ جهنَّمَ في قولِ الحسن ، وقال الكلبيُّ : (عَذابُ النَّار) ، وقال الزجَّاجُ : (هُوَ لَفْحُ جَهَنَّمَ وَحَرُّهَا). ومن قرأ (إنَّهُ هَوَ) بكسر الهمزِ فإنه استأنفَ الكلامَ.
(0/0)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
قَوْلُهُ تعَالَى : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } أي فَعِظْ بالقرآن أهلَ مكَّة ، ولا تترُكْ وَعْظَهم لِنسبَتِهم إياكَ إلى الكهانةِ والجنُونِ ، فلستَ بحمدِ الله كما يقولون.
والكاهنُ هو الْمُبْتَدِعُ القولَ الذي يقولُ : معي تابعٌ من الجنِّ ، والمعنى فما أنتَ بنعمةِ ربكَ بإنعامهِ عليكَ بالنُبوَّة بكاهنٍ ، وهو الذي يُوهِمُ أنه يعلمُ الغيبَ ويُخبرُ بما في غدٍ من غيرِ وحيٍ ؛ أي لستَ تقولُ ما تقولهُ كهانةً ولا تنطقُ إلاَّ بالوحيِ.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ } ؛ أي بل يقولون هو شاعرٌ نَنتَظِرُ به نوائبَ الْمَنُونِ فنستريحُ منه ، ورَيْبُ الْمَنُونِ : حوادثُ الدَّهرِ وصُروفهُ ؛ أي ننتظرُ به حَدَثانَ الموتِ وحدَثَان الدَّهرِ ، فيهلَكُ كما هلكَ مَن قبلَهُ من الشُّعراء.
وفي اللغة : مَنَنْتُ الْجَبَلَ ؛ أي قَطَعْتهُ ومَنَتْتُ الشيءَ إذا أنقضتهُ ، والموتُ يقطعُ الأجلَ فسُمِّيَ الْمَنُونَ ، والدهرُ ينقضُ فسُمي المنونُ ، وقد يكون المنونُ بمعنى الْمَنِيَّةِ.
(0/0)
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ } ؛ أي انتَظِروا فِيَّ الموتَ ، { فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } ؛ أي مِن المنتَظِرين عذابَكم ، فعُذِّبوا يومَ بدرٍ بالسَّيف. وَقِيْلَ : معناهُ : قل تَربَّصُوا بيَ الدوائرَ ، فإنِّي معكم مِن المتربصين بكُم.
فأهلكَ اللهُ القومَ الذين قالُوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم هذا القولَ قبل قَبضهِ عليه السَّلام وكان منهم أبُو جهلٍ ، وكانوا يعلَمُون أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليس بشاعرٍ كما عَلِمُوا أنه صلى الله عليه وسلم ليس بمجنونٍ.
(0/0)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَـاذَآ } ؛ معناهُ : أم تأمُرهم عُقُولُهم بهذا ، وذلك أنَّ قريشاً كانوا يُعَدُّونَ في الجاهليَّة أهلَ الأحلامِ ويُوصَفون بالعقلِ ، فأَزْرَى اللهُ بحُلُومِهم حيث لم يُثْمِرْ لَهم معرفةُ الحقِّ من الباطلِ. وَقِيْلَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : (مَا بَالُ قَوْمِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ وَقَدْ وَصَفَهُمُ اللهُ بالْعُقُولِ ؟ فََقَالَ : تِلْكَ عُقُولٌ لَمْ يَصْحَبْهَا التَّوْفِيقُ).
وقولهُ تعالى : { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ؛ أي بَلْ هم قومٌ طَاغُونَ حَمَلَهم الطُّغيانُ على تَكذيبكَ يا مُحَمَّدُ ، وكانوا يزعُمون أنَّ مُحَمَّداً كان لاَ يُوَازيهم في عقُولِهم وأحلاَمِهم ، فقيل لَهم على وجهِ التعجُّب : أتَأْمُرهم أحلامُهم بهذا الذي يفعلونَهُ أم طُغيَانُهم وإفراطُهم في الكفرِ.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } ؛ معناهُ : يقولون إنَّ مُحَمَّداً اختَلَقَ القرآنَ من تَلقَاءِ نفسهِ ، والتَّقَوُّلُ : تكلُّفُ القولِ ، لا يستعمَلُ إلاَّ في الكَذِب ، بل ليس كما يقولون ، { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } ؛ استكباراً. ثم ألزَمَهم الحجَّة فقال تعالى : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } ؛ أي مثلِ القرآن في نَظْمِهِ وحُسنِ بنائهِ ، { إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } ؛ أن مُحَمَّداً تَقَوَّلَهُ في نفسهِ ، فإنَّ اللسانَ لسَانُهم وهم مُستَوُون في السِّربَةِ.
(0/0)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ } ؛ معناهُ : أخُلقوا من غيرِ رَبٍّ ، وتَكَوَّنُوا من ذاتِ أنفُسِهم ؟ أم همُ الخالِقُون فَلا يُسأَلون عن أعمالهم ؟ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أخُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ أُمٍّ وَأبٍ فَهُمْ كَالْجَمَادِ لاَ يَعْقِلُونَ وَلاَ تَقُومُ للهِ عَلَيْهِمْ حُجَّةٌ ، ألَيْسُواْ خُلِقُواْ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ). وقال ابنُ كَيسان : (مَعْنَاهُ : أخُلِقُواْ عَبَثاً فَيُتْرَكُونَ سُدًى ، لاَ يُؤْمَرُونَ وَلاَ يُنْهَوْنَ ، أمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لأَنْفُسِهِمْ ؟ فَلاَ يَجِبُ للهِ عَلَيْهِمْ أمْرٌ).
(0/0)
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ فيكونوا همُ الخالقون ، بل ليس الأمرُ على هذا ، { بَل لاَّ يُوقِنُونَ } ؛ بالحقِّ وهو توحيدُ اللهِ وقدرتهُ على البعثِ.
(0/0)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ } ؛ معناهُ : أبأَيدِيهم مفاتيحُ ربكَ بالرِّسالة ، فيضَعونَها حيث شاءُوا ؟ وَقِيْلَ : معناهُ : أبأَيدِهم مقدُوراتُ ربكَ. وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : خَزَائِنَ الْمَطَرِ وَالرِّزْقِ).
قوله : { أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ } أي أمْ هُم المسَلَّطون على الناسِ ، فلا يكونوا بحيث أمرٍ ولا نَهيٍ يفعَلُون ما شاءُوا. ويقرأ (الْمُصَيْطِرُونَ) بالصادِ ، والأصلُ فيه السِّين ، إلاَّ أنَّ كلَّ سين بعدها (طاء) يجوزُ أن تُقلبَ صاداً. وفي هذه الآيةِ تنبيهٌ على عجزِهم وتلبيسٌ لسوءِ طَرِيقتهم.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } ؛ أي لَهم مَصْعَدٌ ومَرْقَاةٌ يرتَقُون بها إلى السَّماء يستمعون فيه الوحيَ ويعلَمُون أنَّ ما هم عليه حقٌّ ، { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم } ؛ إنْ كان لهم مُستَمِعٌ ، { بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ بحجَّة ظاهرةٍ.
(0/0)
أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ } ؛ هذا إنكارٌ عليهم وتسفيهٌ لأحلامِهم ، ومبالغةٌ لتجهيلِهم حيث يَصِفون البناتِ إلى اللهِ بقولهم : بناتُ اللهِ ، ويُضِيفُونَ البنين إلى أنفُسِهم.
(0/0)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40)
وقولهُ تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } ؛ معناهُ : أتَسأَلُهم يا مُحَمَّدُ على ما جئتهم من الدِّين والشريعة أجْراً ؛ أي جُعْلاً ، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } ؛ أي أثقَلَهم ذلك الغَرمُ الذي سألتَهم ، فمنَعَهم ذلك عن الإسلامِ. والمعنى : أسأَلتَهم أُجرة تُثقِلُهم وتُجدِهُم وتَمنعهم عن الاستماعِ إلى ذلك.
(0/0)
أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون } ؛ قال قتادةُ : (هَذا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ : نَتَرَبَّصُ بهِ رَيْبَ الْمَنُونِ. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى : أعِنْدَهُمُ الْغَيْبُ حَتَّى عَلِمُوا أنَّ مُحَمَّداً يَمُوتُ قَبْلَهُمْ فَهُمْ يَكْتُبُونَ). وَقِيْلَ : معناهُ : أعِندَهم علمُ الغيب حتى عَلِمُوا أنَّ ما يُخبرُهم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من أمرِ القيامة والبعثِ والحساب والثواب والعقاب باطلٌ غيرُ كائنٍ.
(0/0)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ الْمَكِيدُونَ } ؛ أي بل يُريدون بكَ كَيداً ومَكْراً ليَهلَكوا بذلك المكرِ ، وهو كَيدُهم به في دار النَّدوةِ ، فالذين كفَرُوا هم الْمُجَازُونَ على كَيدِهم ، وَيحِيقُ ذلك الكيدُ والمكر بهم ، فقُتِلوا يومَ بدرٍ وأُسِرُوا.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ } ؛ يَمنعُهم من مكرِ اللهِ وعذابهِ ويحفظُهم وينصرهم ، { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ به من آلهةِ ، وسُبحانَهُ عن أن يكون له ولدٌ.
و(أمْ) في هذه السُّورة في خمسةَ عشر مَوضعاً ، عشرةٌ منها ليست إلاَّ على وجهِ الإنكار ، وفي الخمسةِ ما يحتملُ الإنكار ويحتملُ غيرَهُ.
(0/0)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السَّمَآءِ سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } معناهُ : إنَّ هؤلاءِ لا يُؤمنون حتى لو رَأوا قِطَعاً من العذاب سَاقطاً عليهم لطُغيانِهم وعُتُوِّهم ، يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ، قد رُكِمَ بعضهُ على بعضٍ ، فيُلبسُوا على أنفُسِهم بغايةِ جَهلِهم ما يُشاهِدُون.
(0/0)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَرْهُمْ } ؛ أي اترُكْهُم ، { حَتَّى يُلَـاقُواْ } ؛ يُعَاينُوا ، { يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ } ؛ أي يُهلَكون ، والصَّعْقُ : الهلاكُ بما يَصْدَعُ القلبَ ، وَقِيْلَ : المرادُ بالصَّعقِ ههنا اليومَ الذي فيه النفخةُ الأُولى. قرأ الأعمشُ وعاصم وابنُ عامرٍ (يُصْعَقُونَ) بضمِّ الياء ؛ أي يُهلَكُون من أصعَقَهم الله إذا أهلَكَهم ، { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ؛ وذلك اليومُ لا ينفعُهم كيدهم ولا يَمنَعُهم من العذاب مانعٌ.
(0/0)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } ؛ معناهُ : إنَّ لهؤلاء الكفَّار عذاباً دون عذاب الآخرة ، يعني القبرَ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ لكُفَّار مكَّة عذاباً في الدُّنيا قبلَ عذاب الآخرة ، يعني القتلَ ببدرٍ ، وقال مجاهد : (الْجُوعُ وَالْقَحْطُ) ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ ما هو نازلٌ بهم.
(0/0)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } ؛ أي اصبرْ لِحُكمِ ربكَ إلى أن يقعَ بهم العذابُ ، وَقِيْلَ : اصبرْ على تبليغِ الوَحِي والرسالةِ إلى أن يَقضِي لكَ ذلك ربُّكَ فيهم ، { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } ؛ أي فإنَّكَ بحيثُ نراكَ ونحفظُكَ ونرعاكَ ، وإنَّهم لا يَصِلُونَ إلى مكرُوهِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } ؛ يعني تقومُ من النَّومِ ، كما رُوي : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا انْتَبَهَ قَالَ : " الَْحَمْدُ للهِ الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَمَا أمَاتَنَا وَإلَيْهِ النُّشُورُ ".
وعن الربيعِ بن أنس : (أنَّ الْمُرَادَ بهِ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ ، وَهُوَ مَا يُقَالُ عِنْدَ تَكْبيرَةِ الافْتِتَاحِ " سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ ، وَتَعَالَى جَدُّكَ ، وَلاَ إلَهَ غَيْرُكَ " ).
وَقِيْلَ : المرادُ بهذه الآية صلاةُ الفجرِ عند القيامِ من النَّوم ، ويقالُ المرادُ منه التسبيحُ عند القيامِ من كلِ مجلسٍ ، كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " كَفَّارَةُ الْمَجَالِسِ كَلِمَاتٌ جَاءَنِي جِبْرِيلُ بِهِنَّ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبحَمْدِكَ ، أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ ، أسْتَغْفِرُكَ وَأتُوبُ إلَيْكَ. فَإنْ كَانَ مَجْلِسَ ذِكْرٍ ، كَانَ كَالطَّابعِ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإنْ كَانَ مَجْلِسَ لَغْوٍ ، كَانَ كَفَّارَةً لِمَا كَانَ قَبْلَهُ ".
والأقربُ إلى الظاهرِ من هذه التَّأويلاتِ : أنه صلاةُ الفجرِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَقَّبَهُ بقولهِ : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ } ؛ والمرادُ به صلاةُ المغرب والعشاء ، وأما ، { وَإِدْبَارَ النُّجُومِ } ؛ فرَكعَتان قبلَ فريضةِ الفجرِ ، كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ : (إدْبَارُ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِب ، وَإدْبَارُ النُّجُومِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ الْفَجْرِ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَألَ : " رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ".
(0/0)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى } ؛ اختلَفُوا في القسَمِ الذي في أوَّلِ هذه السُّورة ، وقال بعضُهم - وهو الأظهر - : أنَّ النجمَ اسمُ جنسٍ أُريدَ به النُّجومَ كلَّها إذا هَوَتْ للأُفُولِ.
فائدةُ القسَمِ بها ما فيها من الدلالةِ على وحدانيَّة اللهِ تعالى ؛ لأنه لا يَملِكُ طُلوعَها وغروبَها إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فالقسَمُ قسَمٌ بربَها. وجوابُ القسَمِ : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم ؛ أي ما ضلَّ عن طريقِ الْهُدَى وعن الصَّواب فيما يُؤَدِّيهِ عنِ الله تعالى.
وعن مجاهد : (أنَّهُ أرَادَ بالنَّجْمِ الثُّرَيَّا إذا سَقَطَتْ وَغَابَتْ) ، والعربُ تُسمِّي الثُّريا نَجماً وإنْ كانت في العددِ نُجوماً ، قال أبو بكرٍ الدينوري : (هِيَ سَبْعَةُ أنْجُمٍ ، فَسِتَّةٌ ظَاهِرَةٌ ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا خَفِيٌّ يَمْتَحِنُ النَّاسُ فِيْهِ أبْصَارَهُمْ).
وقال الضحَّاك : (مَعْنَاهُ : وَالْقُرْآنُ إذا نَزَلَ ثَلاَثَ آيَاتٍ أوْ أرْبَعَ آيَاتٍ وَسُورَةً ، كَانَ أوَّلُ الْقُرْآنِ وَآخِرَهُ ثَلاَثٌ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، أقْسَمَ اللهُ بالْقُرْآنِ إذْ نَزَلَ نُجُوماً مُتَفَرِّقَةً عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم).
وذلك : أنَّ كُفَّارَ مكَّة قالوا : إنَّ مُحَمَّداً يقولُ القرآنَ من تَلقاءِ نفسهِ ، فأقسمَ اللهُ بالقرآن ونزولهِ نَجْماً بعد نجمٍ ، أنَّ مُحَمَّداً لم ينطِقُ إلاَّ عن وحيٍ يُوحَى ، وإنه لم ينطِقْ به من هوَى نفسهِ.
(0/0)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
وقولهُ تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى } ؛ يعني جبريلَ عليه السلام هو شديدُ البُنيَةِ والْخِلقَةِ ، ومن قوَّة جبريلَ : أنه أدخلَ جناحَهُ تحت قَريَاتِ قومِ لُوطٍ فقَلَعَها من الماءِ الأسوَدِ ورفعَها إلى السَّماء ، ثم قلَبَها فأقبلَتْ تَهوي من السَّماء إلى الإرضِ ، وكان من شدَّتهِ أيضاً أنه أبصرَ إبليس وهو يكلِّمُ عيسَى عليه السلام على بعضِ أعتاب الأرض المقدَّسةِ ، فنفخَهُ بجناحهِ نفخةً ألقاهُ إلى أقصَى جبَلٍ بالهندِ ، وكان من شدَّته أيضاً أنه أهلكَ بصَيحَتهِ ثمودَ فأصبَحُوا جاثِمين.
(0/0)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى } ؛ أي جبريل عليه السلام ذو قوَّةٍ وشدَّةٍ في خَلقهِ. وَقِيْلَ : ذُو مَنظَرٍ حسَنٍ ، قال قطرب : (يَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ جَزِلِ الرَّأيِ حَصِيفِ الْعَقْلِ : ذُو مِرَّةٍ). قال الشاعرُ : قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لِقَائِكُمْ ذا مِرَّةٍ عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ مِيزَانُهُوكان من جَزَالَةِ رأيه وحصافة عقلهِ إنَّ اللهَ تعالى ائتمنَهُ على تبليغِ وَحيهِ إلى جميعِ رُسلهِ.
وقولهُ تعالى : { فَاسْتَوَى } يعني جبريلَ ، وَقِيْلَ : المعنى : { ذُو مِرَّةٍ } أي ذُو مُرورٍ في الجوِّ مُنحَدرٍ أو صاعدٍ على السُّرعة. وقولهُ تعالى : { فَاسْتَوَى } أي فانتصبَ وَاقعاً على صورةِ الملائكةِ التي خلقَهُ اللهُ عليها ، فرآهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُنتَصباً في السَّماء بعدَ أن كان مُسرِعاً ، فاستوَى في أفُقِ المشرقِ في رَأيِ العينِ ، كما رُوي في الحديثِ : " أنَّهُ طَبَقَ الأُفُقَ كُلَّهُ بكَلْكَلِهِ ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ فِيهَا ألْوَانٌ زَاهِرَةٌ ، وَتَتَنَافَرُ مِنْهُ الدُّرَرُ " وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى } ؛ يعني جانبَ المشرقِ وهو فوق جانب المغرب.
(0/0)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } ؛ أي دنَا جبريلُ عليه السلام بعدَ استوائهِ بالأُفق الأَعلى ، { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } ؛ قال المفسِّرون : وذلك أنَّ جبريلَ كان يأتِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم في صُورَةِ الآدمِيِّين ، فسألَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُرِيَهُ نفسَهُ على صورتهِ التي خُلق عليها ، فأراهُ نفسَهُ مرَّتين ، مرَّةً في الأرضِ ومرةً في السَّماءِ.
فأمَّا في الأرضِ ففِي الأُفق الأعلى ، يعني أفُقَ المشرقِ ، وذلك أنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كان بحِرَاء فطلَعَ له جبريلُ من المشرقِ فسَدَّ الأُفُقَ إلى المغرب ، فخَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَغْشِيّاً عليه ، فنَزلَ جبريلُ عليه السلام في صُورةِ الآدميِّين وضَمَّهُ إلى نفسهِ ، وهو قولهُ { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } أي قَرُبَ بعدَ بُعدهِ وعُلُوِّهِ في الأُفق الأعلى.
والمعنى : نَزَلُ جبريلُ عليه السلام بعدَ استوائهِ ، فدَنا إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتَدَلَّى اليه بأنْ نَكَّسَ رأسَهُ فرآهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَدَلِّياً كما رآهُ مُنتصباً حتى بينَهُ وبينَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قدرَ قاب قَوسَينِ مِن قِسِيِّ العرب أو أدنَى ، معناهُ : وأقربُ في رأي العينِ.
قال الزجَّاجُ : (كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِقْدَارَ قَوْسَيْنِ ، وَإنَّمَا خُصَّ الْقَوْصُ فِي الآيَةِ ؛ لأنَّ مِقدَارَهَا فِي الأَغْلَب لاَ يَتَفَاوَتُ بزِيَادَةٍ وَلاَ نُقْصَانٍ). ويقالُ : إنَّ المرادَ بالقوسِ هنا الذراعُ ، وسُمي الذراعُ قًوْساً لأنه تُقَاسُ به الأشياءُ ، قال ابنُ مسعودٍ : (مَعْنَاهُ : فَكَانَ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ أوْ أدْنَى مِنْ ذِرَاعَيْنِ).
وأما دخول (أوْ) ههُنا في قولهِ : { أَوْ أَدْنَى } معناهُ : أو أدنَى فيما تقَدِّرون أنتُم واللهُ تعالى عالِمٌ بمقاديرِ الأشياءِ ، ولكنَّهُ يُخاطِبُنا على ما جرَتْ به عادةُ المخاطَبة فيما بيننا.
ومعنى قولهِ تعالى : { قَابَ قَوْسَيْنِ } أي قَدْرَ قَوسَين ، يقالُ (قَابَ قَوْسَينِ) وَقِيبَ قَوسَين وقَيْدَ قَوسَين ، كلٌّ بمعنىً واحد. والتَّدَلِّي في اللغة : هو الامتدادُ إلى جهةِ الأسفَلِ ، ومنه تَدَلَّى القبرُ ، ومنه إدلاءُ الدَّلوِ وهو إرسالُها في البئرِ.
ومن الدليلِ على أنَّ المرادَ بشَدِيدِ الْقِوَى جبريل عليه السلام ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }[التكوير : 19-20]{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ }[التكوير : 23] وهو مَطلِعُ الشَّمسِ.
(0/0)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } ؛ أي فأوحَى جبريلُ عليه السلام إلى عبدِالله مُحَمَّدٍُ صلى الله عليه وسلم ما أمرَهُ اللهُ أن يُوحِيَهُ إليه ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : فأوحَى اللهُ إلى عبدهِ ما أوحَى ، قال سعيدُ بن جبير : (أوْحَي إلَيْهِ : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَىا... }[الضحى : 6-7] إلى قولهِ{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ }[الإنشراح : 4]. وَقِيْلَ : أوحَى إليه (أنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الأَنْبيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا ، وَعَلَى الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ).
(0/0)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } ؛ أي ما كَذبَ فؤادُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيما رآهُ ببَصَرِهِ من صورةِ جبريل عليه السلام ، ومن عجائب السَّموات ؛ يَكُ قَبلَ القَلْب ذلك ، وأيقنَ أنَّ ما رآهُ حقٌّ ، كما هو لم يشُكَّ فيه ولا أنكرَهُ ولم يعتقِدْ عن تَخَيُّلٍ ولا أخبَرَ عن توهُّم. وقرأ الحسنُ وأبو جعفر وقتادة وابن عامر : (مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ) بالتشديد ؛ أي ما كذَّبَ قلبُ مُحَمَّدٍ ما رأى بعَينهِ تلك الليلةَ ، بل صدَّقَهُ وحقَّقه.
وَقِيْلَ : هذا إخبارٌ عن رؤيةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراجِ رَبَّهُ! قال ابنُ عبَّاس : (رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ بفُؤَادِهِ وَلَمْ يَرَهُ بعَيْنِهِ ، وَيَكُونُ ذلِكَ عَلَى أنَّ اللهَ جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ أوْ خَلَقَ لِفُؤَادِهِ بَصَراً حَتَّى رَأى رَبَّهُ رُؤْيَةً غَيْرَ كَاذِبَةٍ كَمَا يُرَى بالْعَيْنِ). وقال عكرمةُ : (إنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بعَيْنِهِ!) وكان يحلفُ باللهِ لقد رأى مُحَمَّد ربَّهُ.
ومذهبُ ابنِ مسعود وعائشة في هذه الآية : (أنَّهُ رَأى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا). وَالْفُؤَادُ دعاء القلب ، فما ارتيابُ الفؤادِ فيما رأى الأصلُ وهو القلبُ.
(0/0)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى } ؛ من آياتِ الله ، قرأ عليٌّ وابنُ مسعود وابن عبَّاس وعائشة ومسروق والنخعيّ وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب : (أفَتَمْرُونَهُ) بفتح التاءِ من غير ألفٍ على معنى أفَتَجْحَدُونَهُ ، تقولُ العربُ : مَرَيْتَ الرَّجُلَ حَقَّهُ إذا جَحَدْتَهُ.
وقرأ سعيدُ بن جبير وطلحة وابن مصرف (أفَتُمْرُونَهُ) بضمِّ التاءِ من غير ألفٍ ؛ أي تُشَكِّكُونَهُ. وقرأ الباقون (أفَتُمَارُونَهُ) أي أفَتُجَادِلُونَهُ. وفي الحديثِ : " لاَ تُمَارُوا في الْقُرْآنِ ، فَإنَّ الْمِرَاءَ فِيْهِ كُفْرٌ ".
وعن الشعبيِّ عن عبدِالله بن الحارث قال : (اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ : إنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَرَّتَيْنِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أتَعْجَبُونَ أنْ تَكُونَ الْخُلَّةُ لإبْرَاهِيمَ وَالْكَلاَمُ لِمُوسَى وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
وقال الشعبيُّ : (فَأَخْبَرَنِي مَسْرُوقُ أنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ : يا أُمَّاهُ ؛ هَلْ رَأى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَطْ ؟ قَالَتْ : إنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً لَيَقِفُ مِنْهُ شَعْرِي ، قَالَ : قُلْتُ : رُوَيْداً فَقَرَأ عَلَيْهَا{ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىا... }[النجم : 1] إلَى قَوْلِهِ{ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى }[النجم : 9]. فَقَالَتْ : أيْنَ يَذْهَبُ بكَ! إنَّمَا رَأى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ ، مَنْ حَدَّثَكَ ِأنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ فَقَدْ كَذبَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ }[الأنعام : 103].
وفي الرؤية قالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : (مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً رَأى رَبَّهُ فَقَدْ أعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّهُُ يَعْلَمُ الْخَمْسَ مِنَ الْغَيْب فَقَدْ كَذبَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ }[لقمان : 34] ، وَمَنْ حَدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ كَذبَ) ، قال عبدُالرزاق : (فَذكَرْتُ هَذا الْحَدِيثَ لِمَُعَمَّرٍ فَقَالَ : مَا عَائِشَةُ عِنْدَنَا بأَعْلَمَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ).
(0/0)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
قَوْلُهُ َتَعَالَى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى } ؛ أي رأى مُحَمَّدٌ جبريل مرَّة أُخرى ، فسمَّاها { نَزْلَةً أُخْرَى } على الاستعارةِ ، وذلك أنَّ جبريلَ رآهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على صُورَتهِ التي خُلق عليها مرَّتين ، مرَّةً في الأرضِ بالأُفق الأعلى ، ومرَّةً في السماءِ عند سِدرَةِ المنتهى ، ولأنه قال { نَزْلَةً أُخْرَى } تقديرهُ : ولقد رَآهُ نَازلاً نزلةً أُخرى.
والسِّدرَةُ : هي شَجَرَةُ النَّبَقِ ، وههنا شجرةٌ في السَّماء السابعةِ ، قِيْلَ : إنَّها شجرَةُ طُوبَى ، وقال الكلبيُّ : (هِيَ شَجَرَةٌ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابعَةِ ، نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرٍ وَوَرَقُهَا مِثْلُ آذانِ الْفِيَلَةِ ، يَخْرُجُ مِنْ بَاطِنِهَا نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ.
أمَّا الْبَاطِنَانِ فَفِي الْجَنَّةِ ، وَهُمَا التَّسْنِيمُ وَالسَّلْسَبيلُ - وَقِيْلَ : التَّسْنِيمُ وَالْكَوْثَرُ. وَأمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ ، وَهِيَ تَحْمِلُ لأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَجَمِيعَ الثِّمَار ، وَسُمِّيَتِ الْمُنْتَهَى ؛ لأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا كُلُّ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَنَبيٍّ مُرْسَلٍ ، لاَ يَعْلَمُ مَا وَرَاءَهَا إلاَّ اللهُ سُبْحَانَهُ).
وقال ابنُ مسعودٍ : (سُمِّيَتِ الْمُنْتَهَى ؛ لأَنَّهُ يَنْتَهِي إلَيْهَا مَا يُصْعَدُ بهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ فِيهَا ، وَإلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بهِ مِنْ فَوْقِهَا ، فَيُقْبَضُ فِيهَا). وَالْمُنْتَهَى : مَوْضِعُ الانْتِهَاءِ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : " لَمَّا أُسْرِيَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَانْتَهَى بهِ إلَى السِّدْرَةِ ، فَإذا هِيَ شَجَرَةٌ يَخْرُجُ مِنْ أصْلِهَا أرْبَعَةُ أنْهَارٍ : نَهْرٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ، ونَهْرٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ، وَنَهْرٌ مِنْ خَمْرٍ لَذةٍ لِلشَّاربينَ ، وَنَهْرٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى. وَهِيَ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَاماً لاَ يَقْطَعُهَا ، وَالْوَرَقَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا تُغَطِّي الأُمَّةَ كُلَّهَا ".
وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ ؛ قالت : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَذْكُرُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى قَالَ : " يَسيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ " وقال مقاتلٍ : (هِيَ شَجَرَةٌ لَوْ أنَّ وَرَقَةً مِنْهَا وُضِعَتْ فِي الأَرْضِ أضَاءَتْ لأَهْلِ الأَرْضِ كُلِّهِمْ ، تَحْمِلُ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَالثِّمَارَ وَجَمِيعَ الأَلْوَانِ ، وَهِيَ طُوبَى الَّتِي ذكَرَهَا اللهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ).
(0/0)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } ؛ معناه : عندَ سدرةِ المنتهى جنةُ المأوَى ، وهي جنةٌ يأوي إليها جبريلُ والملائكة ، وقال مقاتلُ والكلبي : (جَنَّةٌ تَأْوي إلَيْهَا أرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
(0/0)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى } ؛ أي يغشَى السِّدرةَ من النور والبَهاء والْحُسنِ والصَّفاء ما ليس لوصفهِ مُنتهَى. " وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا يَغْشَى السِّدْرَةَ فَقَالَ : " يَغْشَاهَا جَرَادٌ مِنْ ذهَبٍ " ورُوي " فَرَاشٌ مِنْ ذهَبٍ " وعن ابنِ عبَّاس : (أنَّهُ يَغْشَاهَا مَلاَئِكَةٌ أمْثَالُ الْغِرْبَانِ حَتَّى يَقَعْنَ عَلَى الشَّجْرَةِ). قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " رَأيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْ وَرَقِهَا مَلَكاً قَائِماً يُسَبحُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ " وَقِيْلَ : يغشَى من جهةِ الله عَزَّ وَجَلَّ فاستنَارَتْ.
(0/0)
مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } ؛ أي ما مالَ بصرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَميناً ولا شِمالاً ولا طغَى ولا تجاوزَ ما رأى ، وهذا وصفُ أدَبهِ في ذلك المقامِ إذ لم يلتفِتْ جَانباً ، ولم يُمِلْ بصرَهُ ولم يَمُدَّهُ أمامَهُ إلى حيث ينتهِي.
(0/0)
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } ؛ لقد رأى تلكَ الليلةِ من عجائب ربه عجيبةً عظماءَ ، وهي جبريلُ على صورتهِ ، وقال ابنُ مسعود : (رَأى رَفْرَفاً مِنَ الْجَنَّةِ أخْضَرَ قَدْ سَدَّ الأُفُقَ). وَقِيْلَ : هي الآياتُ العظمى التي رآهَا تلكَ الليلةِ.
(0/0)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } قرأ مجاهدُ وأبو صالح (اللاَّتَّ) بتشديد التاء ، وقالوا : كان رجُلاً يَلُتُّ السَّوِيقَ للحاجِّ ، فلما ماتَ عكَفُوا على قبرهِ يعبدونَهُ. وروَى السديُّ عن أبي صالح : (أنَّهُ كَانَ رَجُلاً بالطَّائِفِ يَقُومُ عَلَى آلِهَتِهِمْ وَيَلِتُّ لَهُمُ السَّوِيقَ بالزَّيْتِ ، فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ). وقال الكلبيُّ : (هُوَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ بْنُ عُمَرَ ، كَانَ يَسْلِي السَّمْنَ فَيَضَعُهُ عَلَى صَخْرَةٍ ، فَتَأْتِي الْعَرَبُ فَتَلُتُّ بهِ أسْوِقَتَهُمْ).
" وأما العُزَّى فقال مجاهدُ : (شَجَرَةٌ لِغَطَفَانَ يَعْبُدُونَهَا) وَهِيَ الَّتِي بَعَثَ إلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا ، وَجَعَلَ خَالِدُ يَضْرِبُهَا بالْفَأْسِ وَيَقُولُ : يَا عُزَّى كُفْرَانَكِ لاَ سُبْحَانَكِ ، إنِّي رَأيْتُ اللهَ قَدْ أهَانَكِ. فَخَرَجَتْ مِنْ تَحْتِهَا شَيْطَانَةٌ عَرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا ، دَاعِيَةٌ بوَيْلِهَا ، وَاضِعَةٌ يَدَهَا عَلَى رَأسِهَا ، فَقَتَلَهَا خَالِدٌ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بذلِكَ ، فَقَالَ : " تِلْكَ الْعُزَّى ، وَلَنْ تُعْبَدَ أبَداً " ".
وأما مَنَاة فهو صنمٌ لخزاعة ، وقال الضحَّاك : (مَعْنَاهُ : صَنَمٌ لِهُذيْلَ) ، وقال : (إنَّ مَنَاةَ صَنَمٌ كَانَتْ لِهُذيْلَ وَخُزَاعَةَ يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله). وقال بعضُهم : اللاَّتُ والعُزَّى ، ومناةُ أصنامٌ من حجارةٍ كانت في جوفٍ الكعبةِ.
والمعنى : أخبرُونا عن الآلهةِ التي تَعبُدونَها من دونِ الله ، هل لها قدرةٌ تُوصَفُ بها كما يوصَفُ اللهُ بالقدرةِ والعَظَمةِ ، وهي أسماءُ أصنامٍ يَعبدونَها ، وانتقَوا لها اسماً من أسماءِ الله تعالى ، فقالوا : مِن الله اللاَّت ، ومن العزيزِ العزَّى ، ومن المنَّانِ مناةُ بالهاءِ.
وقال الزجَّاجُ : (الْوَقْفُ عَلَيْهَا بالتَّاءِ لاتِّبَاعِ الْمُصْحَفِ) ، وكان ابنُ كثيرٍ يقولُ : (وَمَنَأَةَ) بالمدِّ والهمزةِ ، والصحيحُ : قراءةُ العامَّة بالقصرِ ، و(الثَّالِثَةَ) نعتٌ لِمَنَاة ، يعني الثالثةَ للصَّنمين في الذِّكرِ ، والأُخرى نعتٌ لها أيضاً.
(0/0)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى } ؛ هذا إنكارٌ عليهم في أنَّهم كانوا يزعُمون أنَّ هذه الأصنامَ بناتُ الله ، فقيل لَهم : كيف جعَلتُم هذه الأشياءَ المؤنَّثة أولادَ اللهِ وأنتم لا تَرضَون لأنفُسِكم الإناثَ وتكرَهونَها ؟ وقوله تعالى : { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى } ؛ أي قِسمَةٌ جَائِرَةٌ غيرُ عادلةٍ ، يقالُ : ضَازَهُ يَضِيزُهُ إذا نقصَهُ حقَّهُ.
(0/0)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } ؛ معناهُ : وما هذهِ اللاَّتُ والعُزَّى ومَناة إلاّ أسماءٌ سَمَّيتُموها أنتم وآباؤُكم الذين مَضَوا قبلَكُم ، { مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } ؛ وبرهانٍ ؛ أي لم يُنْزِلْ كِتَاباً لكم حجَّة بما تقولون أنَّها آلهةٌ ، والمعنى : ما أنزَلَ اللهُ بعبادَتِها من سُلطان ، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ } ؛ في قولِهم : إنَّها آلهةٌ ، وقولِهم : هذه بناتُ الله.
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } ؛ معناهُ : ولقد جاءَهم من ربهم الكتابُ والرسولُ والبيانُ أنَّها ليست بآلهةٍ ، وأنَّ العبادةَ لا تصلحُ لَها ، وإنما تصلحُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ. والمعنى : أنَّهم يَعقِلُون ذلك بعدَ أنْ جاءَهم الهدَى ، وذلك أبلَغُ في الذمِّ.
(0/0)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى } ؛ أي ما اشتَهى ، والمرادُ بالإنسانِ الكافرُ ، وكان الكفَّارُ يعبُدون الأصنامَ ، ويزعُمون أنَّها تشفعُ لَهم عند اللهِ ، ويتمَنَّون على اللهِ الجنَّة. والمعنى : أيَظُنُّونَ أنَّ لهم ما يتَمنَّون من شَفاعةِ الأصنامِ ، وليس كما يظُنُّون ويتمنون ، بل { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى } ؛ لاَ يُعطِي أحداً شَيئاً بالتمنِّي ، وإنما يعطِي بالحكمةِ وعلى سبيلِ الاستحقاق ، فيزيدُ مِن فَضلهِ مَن يشاءُ. وَقِيْلَ : معناهُ { فَلِلَّهِ الآخِرَةُ والأُولَى } أنْ لا يملِكَ فيهما أحدٌ شيئاً إلاَّ بإذنهِ ، يُعطي مَن يشاءُ ويَحرِمُ مَن يشاءُ.
(0/0)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَى } ؛ جمعَ الكنايةَ لأن المرادَ بقوله { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ } الكثرةُ ، والمعنى : لا تُغني شفاعتُهم أحداً إلاَّ مِن بعدِ أنْ يأذنَ اللهُ لهم في الشَّفاعةِ ، ويرضَى بشفَاعتِهم. ويقالُ : ويرضَى المشفوعُ له ، وهذا كقولهِ{ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }[الأنبياء : 28].
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى } يعني أنَّهم قالوا : إنَّ الملائكةَ بناتُ اللهِ ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواً كَبيراً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } ؛ أي ما لَهم بتلك التَّسميةِ مِن علمٍ وما يستبقون أنَّهم إناثٌ ، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } ؛ أي لا يقومُ الظنُّ مقامَ الحقِّ ، وهذا يدلُّ على أن الظَّانَّ غيرُ عالِم ، وأنَّ العبادةَ بالظنِّ لا تدفعُ من عذاب الله شيئاً.
(0/0)
فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا } ؛ أي أعرِضْ يا مُحَمَّدُ عمَّن أعرضَ عن القرآنِ ، { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ؛ أي ولَمْ يُرِدْ بعلمهِ إلاَّ الحياةَ الدُّنيا وزينتَها ، وهذا مما نَسَخَتْهُ آيةُ القتالِ ، وقولهُ تعالى : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ } ؛ أي لم يبلِغُوا من العلمِ إلاَّ ظنَّهم أنَّ الملائكةَ بناتُ الله ، وأنَّها تشفعُ لَهم ، فاعتمَدُوا ذلك وأعرَضُوا عن القرآنِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ غايةَ عِلمِهم أنْ آثَرُوا الدُّنيا على الآخرةِ ، وهذا غايةُ الجهلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } ؛ إي إنه عالِمٌ بهم ، فهو يُجازيهم ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى } ؛ أي إنه عالِمٌ بالفَرِيقين.
(0/0)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ إخبارٌ عن قُدرتهِ وسِعَةِ مُلكهِ ، ليَجزِيَ في الآخرةِ المحسنَ والمسيءَ ، معناهُ : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ } ؛ أي أشرَكُوا ، { بِمَا عَمِلُواْ } ؛ من الشِّركِ ، { وَيِجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُواْ } ؛ أي وحَّدُوا ربَّهم ، { بِالْحُسْنَى } ؛ أي بالجنَّة.
ثم نعتَهم فقال : { الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ } ؛ فكبائرُ الإثمِ وهو كلُّ ذنبٍ خُتِمَ بالنار ، والفواحشُ ، كلُّ ذنبٍ فيه حَدٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ اللَّمَمَ } ؛ هذا استثناءٌ منقطعُ ليس الكبائرَ والفواحشَ.
وقال ابنُ عبَّاس : (أشْبَهُ شَيْءٍ باللَّمَمِ مَا قَالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أنَّهُ قَالَ : " إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى ، وَهُوَ الله يُدْركُ ذلِكَ لاَ مَحَالَةَ ، فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ ، وَزَنَى اللّسَانِ النُّطْقُ ، وَزنَى الشَّفَتَيْنِ التَّقْبيلُ ، وَزنَى الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ ، وَزنَى الرِّجْلَيْنِ الْمَشْيُ ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلِكَ كُلَّهُ أوْ يُكَذِّبُهُ ، فَإنْ تَقَدَّمَ بفَرْجِهِ كَانَ زَانِياً وَإلاَّ فَهُوَ اللَّمَمُ " ).
وفي هذا دليلٌ أن الأشياءَ إذا وُجدت على التعمُّدِ لم تكن مِن اللَّمَمِ ، واللَّمَمُ ما يكون من الفلتات النادرةِ التي لا يملِكُها ابنُ آدمَ من نفسهِ ؛ لأنَّ الأُمَّة اجتمعَتْ على أنَّ مُتَعَمِّدَ النظرِ إلى ما لا يحلُّ فاسقٌ.
واللَّمَمُ في اللغة : هو مُقَارَبَةُ الشَّيءِ من غيرِ دُخولٍ فيه ، يقالُ : ألَمَّ بالشَّيءِ يَلِمُّ إلْمَاماً إذا قاربَهُ. وعن هذا يقالُ : صغائرُ الذُّنوب كالنَّظرة والقُبلَةِ والغَمزَةِ ، وما كان دُون الزِّنى ، وقال ابنُ عبَّاسَ : " اللَّمَمُ : النَّظْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ وَهُوَ مَغْفُورٌ ، فَإنْ أعَادَ النَّظَرَ فَلَيْسَ بلَمَمٍ وَهُوَ الذنْبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } ؛ أي إنَّ رحمةَ ربكَ تسَعُ جميعَ الذُّنوب ، { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } معناهُ : هو أعلمُ بكم مِن أنفُسِكم إذ خلق أبَاكُم آدمُ من الترابٍ. والجنينُ : ما كنتم صِغَاراً في أرحامِ أُمَّهاتِكم عَلِمَ عند ذلك ما يستَحصِلُ منكم ، والأَجِنَّةُ : جمعُ جَنِينٍ ، والمعنى : عَلِمَ اللهُ مِن كلِّ نفسٍ ما هي صَانِعَةٌ ، وإلى ما هي صائرةٌ ، { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } ؛ بما ليسَ فيها ولا تُبَرِّؤُونَها من العيُوب التي فيها.
وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُزَكُّوا أنفُسَكم بما عَمِلتم ، لا يقولَنَّ رجلٌ : عملتُ كذا ، وتصدَّقتُ بكذا ؛ ليكون أبلغَ بالخضُوعِ وأبعدَ من الرِّياء. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تُبَرِّؤُا أنفُسَكم من الآثامِ وتَمدَحُونَها بحُسنِ عملِها ، { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } ؛ الشِّركَ وآمَنَ وأطاعَ وأخلصَ العملَ.
(0/0)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى } ؛ يعني الوليدَ بنَ المغيرةِ ، أعرضَ عن التصديقِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأعطَى قليلاً من الحقِّ بلسانهِ ثم قطعَ ، وكان الوليدُ قد اتَّبعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على دينهِ ، فغيَّرهُ بعضُ المشرِكين فتركَ دينَهُ ، فقالَ : إنِّي خشيتُ من عذاب اللهِ ، فضمنَ الذي عاينَهُ إنْ هو أعطاهُ شيئاً من مالهِ ورجعَ إلى شِركهِ ، أن يتحمَّلَ عنه العذابَ ، ففعلَ. يعني رجعَ إلى الشِّرك وأعطاهُ ذلك الرجلُ بعضَ ما كان ذكَرَ له من المالِ ومنعَهُ تَمامَهُ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً } أي أدبرَ عن إيمانهِ وأعطَى صاحبَهُ قَليلاً من المالِ الذي وعدَهُ به { وَأَكْدَى } أي بَخِلَ بالباقِي.
قال المفسِّرون : (أكْدَى) أي قطعَهُ ولم يُتِمَّ عليهِ ، وأصله من الكِدْيَةِ ، وهو حجَرٌ يظهرُ في البئرِ ويمنَعُ من الحفرِ ويُؤِسَ من الماءِ ، قال الكلبيُّ : (يُقَالُ : أكْدَى الْحَافِرُ وَأجْبَلَ ؛ إذا بَلَغَ فِي الْحَفْرِ الْكِدْيَةَ وَالْجَبَلَ).
(0/0)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى } ؛ أي يعلَمُ أن صاحبَهُ يتحمَّلُ عنه عذابَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } ؛ معناهُ : ألَمْ يُخبَرْ بما كان مَكتوباً في صُحف ، موسَى ؛ يعني التوراةَ ، وما فِي صُحف إبراهيم { الَّذِي وَفَّى } أي تَمَّمَ وأكملَ ما أُمِرَ بهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وإبراهيمَ الذي بلَّغَ قومَهُ وأدَّى إليهم ما أُمِرَ به.
وَقِيْلَ : أكملَ ما يجبُ للهِ عليه من الطاعةِ في كلِّ ما أُمر به وامتُحِنَ به كما في قولهِ تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ }[البقرة : 124]. وَقِيْلَ : معنى ذلك : أنَّهُ كان عَاهدَ أنْ لا يسألَ مَخلوقاً قطُّ خَوْفاً بذلك ، حتى قالَ له جبريلُ في الوقتِ الذي أرادَ قومهُ أنْ يُلقوه في النار : هَلْ لَكَ حَاجَةٌ ؟ أجَابَهُ : أمَّا إلَيْكَ فَلاَ. وَقِيْلَ : معناهُ : وفي رُؤياه وقَدِمَ بذبحِ ابنه. وَقِيْلَ : أدَّى الأمانةَ ووفَّى شأنَ المناسكِ.
(0/0)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؛ هذا بيانٌ لِمَا في صُحف موسَى وإبراهيمَ الذي وفَّى ، ومعناهُ : لا تَحمِلُ حَامِلَةٌ حملَ أُخرى ؛ أي لا تُعذبُ نفسٌ بذنب غيرها ، هذا إبطالٌ لقولِ مَن ضَمِنَ الوليد أنْ يحملَ عنه الإثمَ ، وهذا عامٌّ في كلِّ شريعةٍ.
وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنه قالَ : (كَانُوا قَبْلَ إبْرَاهِيمَ يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بذنْب غَيْرِهِ ، وَيَأْخُذُونَ الَوَلِيَّ فِي الْقَتْلِ بابْنِهِ وَأخِيهِ وَأبيهِ وَعَمِّهِ وَخَالِهِ ، وَالزَّوْجَ يُقْتَلُ بامْرَأتِهِ ، وَالسَّيِّدُ بعَبْدِهِ ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَهَاهُمْ عَنْ ذلِكَ وَبَلَّغَهُمْ أنْ لاَ تَزِرَ وَازرَةٌ وزْرَ أُخْرَى).
يقال : وَزَرْتُ الشَّيْء آزُرُهُ إذا حَمَلْتَهُ ، والأَوْزَارُ : الأحمالُ ، ويسمَّى الإثمُ وزْراً ؛ لأن الإثمَ يُثقِلُ صاحبَهُ ، كما قال تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ }[الانشراح : 2-3]. ويسمَّى الوزيرُ وزيراً ليَحمِلَ ثقلَ الملكِ في قيامهِ بالتدبُّر.
(0/0)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } ؛ أي ليس له إلاَّ جزاءُ ما عَمِلَ من خيرٍ وشَرٍّ ، وهذا عطفٌ على قولهِ تعالى { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ } وهو أيضًا مما في صُحف موسَى وإبراهيمَ.
(0/0)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
وقولهُ تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى } ؛ معناهُ : وإنَّ عملَهُ سوف يُرى في الأُخرى في ديوانهِ وميزانه ، { ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى } ؛ لا يُنقَصُ من ثواب عَمَلهِ شيءٌ.
(0/0)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } ؛ أي مُنتهى العبادِ ومَصِيرُهم ، وهو مجازيهم بأعمالهم. وَقِيْلَ : منه ابتداءُ الْمِنَّةِ وإليه انتهاءُ الآمالِ.
ون أُبَي بن كعبٍ " عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في قولهِ تعالى { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } قال : " لاَ فِكْرَ فِي الرَّب " والشاهدُ في هذا الحديثِ قولهُ صلى الله عليه وسلم : " إذا ذُكِرَ اللهُ فَانْتَهُوا ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : " خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أصْحَابهِ وَهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ، فَقَالَ : " فِيمَ أنْتُمْ تَتَفَكَّرُونَ ؟ " قَالُواْ : نَتَفَكَّرُ الْخَالِقَ ، فَقَالَ : " تَفَكَّرُواْ فِي الْخَلْقِ وَلاَ تَتَفَكَّرُواْ فِي الْخَالِقِ ، فَإنَّهُ لاَ يُحِيطُ بهِ الْفِكْرُ ، تَفَكَّرُواْ فِي أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَات سَبْعاً وَالأَرْضَ سَبْعاً ثِخَانَةً ؛ كُلُّ أرْضٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ أرْضَينِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، وَثِخَانَةُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ ، مَا بَيْنَ كُلِّ سَمَائَيْنِ خَمْسُمِائَةٍ ، وَفِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ بَحْرٌ عُمْقُهُ مِثْلُ ذلِكَ كُلِّهِ ، فِيْهِ مَلَكٌ قَائِمٌ لَمْ يُجَاوز الْمَاءُ كَفَّيْهِ " ".
(0/0)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)
قَوله : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى } ؛ أي أضحَكَ مَن شاءَ من خَلقهِ ، وأبكَى مَن شاءَ منهم ، وقال الكلبيُّ : (أضْحَكَ أهْلَ الْجَنَّةِ فِيْهَا ، وَأبْكَى أهْلَ النَّار فِيْهَا). وقال عطاءُ : (مَعْنَاهُ : وَإنَّهُ هُوَ أفْرَحَ وَأحْزَنَ). وقال الضحَّاكُ : (أضْحَكَ الأَرْضَ بالنَّبَاتِ ، وَأبْكَى السَّمَاءَ بالْمَطَرِ). وقِِيلَ : أضْحَكَ الأَشْجَارَ بالأَثْمَار ، وَأبْكَى السَّحَابَ بالأَمْطَار).
وقال ذُو النُّون : (أضْحَكَ قُلُوبَ الْعَارفِينَ بشَمْسِ مَعْرِفَتِهِ ، وَأبْكَى قُلُوبَ الْعَاصِينَ بظُلْمَةِ نُكْرَتِهِ وَمَعْصِيَتِهِ). وقال سهلٌ : (أضْحَكَ الْمُطِيعَ بالرَّحْمَةِ ، وَأبْكَى الْعَاصِي بالسُّخْطِ). وسُئِلَ ظاهرُ المقدسيُّ : أتَضْحَكُ الْمَلاَئِكَةُ ؛ فَقَالَ : (مَا ضَحِكَتْ مِنْ دُونِ الْعَرْشِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ جَهَنَّمَ).
وَقِيْلَ لِعُمَرَ رضي الله عنه : هَلْ كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ يَضْحَكُونَ ؟ قَالَ : (نَعَمْ ، وَالإِيْمَانُ وَاللهِ أثْبَتُ فِي قُلُوبهِمْ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي). وقال محمَّد بن علي الترمذي : (مَعْنَى الآيَةِ : هُوَ أضْحَكَ الْمُؤْمِنَ فِي الآخِرَةِ وَأبْكَاهُ فِي الدُّنْيَا ، وَأضْحَكَ الْكَافِرَ فِي الدُّنْيَا وَأبْكَاهُ فِي الآخِرَةِ).
(0/0)
وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ؛ أي أماتَ في الدُّنيا وأحيَا في البعث للجزَاءِ. وَقِيْلَ : أماتَ الآباءَ وأحيَا الأبناءَ. وَقِيْلَ : أماتَ الكافرَ بالنكدةِ والقطيعةِ ، وأحيَا المؤمنَ بالمغفرةِ ، والوَصلَةِ ، قال اللهُ{ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ }[الأنعام : 122].
(0/0)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى } ؛ أي خلَقَ الصِّنفين الذكر والأُنثى من كلِّ حيوانٍ من نُطفَةٍ إذا تقذفُ في الرَّحِمِ لتقديرِ الولد ، والمعنى : ما يقدَّرُ منه الولدُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى } ؛ يعني بالنَّشأَةِ الأُخرى الخلقَ الثانِي للبعثِ يومَ القيامةِ يُعِيدُهم أحياءً.
(0/0)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } ؛ قال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ : أغْنَى بالذهَب وَالْفِضَّةِ وَصُنُوفِ الأَمْوَالِ كَالإِبلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ). وقال الحسنُ وقتادة : (أغْنَى وَأخَدَمَ).
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (أغْنَى وَأرْضَى بمَا أعْطَى). وَقِيْلَ : معناهُ : أغنَى وأفقرَ ، وَقِيْلَ : أغنَى ؛ أي أكثرَ ، وأقنَى أي أقَلَّ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ }[الروم : 37].
وقال الأخفشُ : (أقْنَى : أفْقَرَ وَأجْوَعَ) ، وَقِيْلَ : أقْنَى بأرباحِ الأموالِ وفُروعِها ، وأقنَى بأُصُولِها ، فالأُولى : مثلُ الذهب والفضَّة ، يتصرف بهما ويربحُ عليهما ، والثانيةُ : مثلُ الضِّياعِ والأنعامِ ، يستبقِي الإنسانُ أُصولَها وينتفعُ بما يحصلُ له منها.
(0/0)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى } ؛ وهو كوكبٌ خلفَ الجوزاءِ ، كان يعبدهُ أناسٌ من خُزَاعَةَ ، قال اللهُ : أنا ربُّ الشِّعرَى فاعبُدونِي ، يقالُ للشِّعرى : مِرْزَم الجوزاء. وهما شِعرَتَانِ ؛ أحدُهما : العَبُورُ ؛ والأخرى : الغُمَيصَاءُ ، وأراد ههنا الشِّعرَى العَبُورُ ، أعلمَ اللهُ تعالى أنه ربُّ الشِّعرَى وخالِقُها ، وأنه هو المعبودُ لا معبودَ سواهُ.
(0/0)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى } ؛ معناهُ : وأنه أهلكَ قومَ هودٍ بريحٍ صَرْصَرٍ ، وهم أوَّلُ عادٍ كانوا ، وأوَّل عادٍ الأُخرى فاقتَتَلوا فيما بينهم فَتَفَانَوا بالقتلِ ، كانت عادٌ الأُخرى من نسلِ عادٍ الأُولى.
وقرأ نافعُ وأبو عمرٍو ويعقوبُ : (عَاداً الأُولَى) مُدغَماً ، وهمزَ الواوَ نافعُ ، وقرئَ بإسكانِ اللام وإثباتِ الهمز وهي الأصلُ في الكلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَى } وأهلكَ قومَ صالح بالصَّيحة فما أبقَى منهم أحداً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } ؛ أي وأهلَكنا قومَ نوحٍ من قبلِ عادٍ وثمودَ ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى } ؛ من غيرِهم ، لأنَّ نوحاً عليه السلام لَبثَ فيهم ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسين عَاماً فما آمَنَ منهم إلاَّ أنفسٌ يَسِيرَةٌ.
(0/0)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى } ؛ معناهُ : وقُرَى قومِ لوطٍ الأربعُ رفَعَها جبريلُ إلى السَّماء الدنيا فأَسقَطَها إلى الأرضِ. والمعنى : أهوَاهَا جبريلُ إلى الأرضِ بعدَ ما رفعَها ، وأتبَعَهم اللهُ الحجارةَ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى } ؛ يعني الحجارةَ والجزاءَ والنِّكَالَ. وسُميت الْمُؤْتَفِكَةُ من قولِهم : أفَكْتُهُ ؛ أي قَلَبْتُهُ ، والمؤتفكةُ هي الْمُنْقَلِبَةُ.
(0/0)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى } ؛ أي فبأيِّ نِعَمِ ربكَ أيُّها الإنسان تَتَشَكَّكُ وتَرتَابُ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ : فَبأَيِّ نِعَمِ رَبكَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تُشَكِّكُ وَتُكَذِّبُ يَا وَلِيدُ) يعني الوليدَ بن المغيرةِ.
وذلك أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا عدَّدَ ما فعلَهُ مما يدلُّ على و حدانيَّتهِ قال { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى }. فإنْ قيلَ : ما معنى ذِكْرِ النِّعَمِ ههنا وقد تقدَّمَ ذِكرُ الإهلاكِ ؟ قُلْنَا : إنَّ النِّعَمَ التي عُدَّتْ قبلَ هذه نِعَمٌ علينا لِمَا نَالَنَا فيها من المزاجِرِ ، كيلاَ يَسْلِكَ منا أحدٌ مَسالِكَها.
(0/0)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُوْلَى } ؛ يعني مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من النُّذُر الأُولَى من الرُّسُلِ قبلَهُ ، والمعنى : هذا الرسولُ نَذِيرٌ لكم مَجْرَاهُ في الإنكار مَجْرَى من تَقدَّمَهُ من الأنبياءِ عليهِمُ السَّلامُ.
(0/0)
أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
وقولهُ تعالى : { أَزِفَتِ الآزِفَةُ } ؛ أي دَنَتِ القيامةُ واقتربَتْ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } ؛ أي ليس للقيامةِ إذا غَشِيَتِ الخلقَ شدَائِدُها أحدٌ يكشِفُ عنهم ، وهذا قولُ عطاءٍ والضحَّاك وقتادةُ وثابت ، (كَاشِفَةٌ) على تقديرِ : ليس لها نفسٌ كاشفةٌ ، ويجوزُ قوله { كَاشِفَةٌ } مصدراً كالجاثيةِ والعاقبةِ ؛ أي { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } أي لا يكشِفُ عنها غيرهُ ، ولا يعلَمُ متى هو إلاَّ هو ، وهذا كقولهِ{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ }[الأعراف : 187].
(0/0)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } الخطابُ لِمُشرِكي قريشٍ ، والمعنى : أفَمِنْ هذا القرآنِ الذي يُتلَى عليكم تَعجَبُونَ من إنزالهِ على مُحَمَّدٍ تَكذيباً ، وتضحَكُون استهزاءً ولا تَبْكُونَ مما فيه من الوعيدِ والزَّواجرِ والتخويفِ.
(0/0)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
قَوْلُه تَعَالَى : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } ؛ أي لاَهُونَ غافلون عنه ، يقال : دَعْ عنك سُمُودَكَ ؛ أي لَهْوَكَ ، قال أُميَّةُ : ألاَ أيُّهَا الإنْسَانُ إنَّكَ سَامِدُ لاَ تَفْنَى وَلاَ أنْتَ هَالِكُوالسُّمُودُ : هو الغفلَةُ والسَّهوُ عن الشيءِ ، وقال الكلبيُّ : (السَّامِدُ : الجِدُّ بلِسَانِ قُرَيْشٍ ، وَبلِسَانِ الْيَمَنِ : اللاَّهِي) ، قال الضحَّاكُ : (سَامِدُونَ : أيْ أشِرُونَ بَطِرُونَ) ، وقال مجاهدُ : (سَامِدُونَ ؛ أيْ مُبَرْطِمُونَ) ، والبَرْطَمَةُ : أن يُدلِي الإنسانُ شَفَتَهُ من الغضب ، وفي لُغة اليمنِ : أسْمِدْ لنَا ؛ أي أعِنْ لَنَا.
وعن أبي هريرة قالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { أَفَمِنْ هَـاذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } بكَى أهْلُ الصُّفَّةِ حَتَّى جَرَتْ دُمُوعُهُمْ عَلَى خُدُودِهِمْ ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَنِينَهُمْ بَكَى مَعَهُمْ فَبَكَيْنَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مَعَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ، وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ ، وَلَوْ لَمْ تُذْنِبُواْ لَجَاءَ اللهُُ بقَوْمِ يُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ ".
(0/0)
فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
(0/0)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } ؛ معناهُ : دنَتِ القيامةُ وحدَثَ عَلَمٌ من أعلامِها ، وهو انشقاقُ القمرِ ، { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً } ؛ يعني أهلَ مكَّة علامةً تدلُّهم على وحدانيَّة اللهِ ونُبوَّةِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، { يُعْرِضُواْ } ؛ أي يَجحَدُوا ، { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } ؛ أي شديدٌ قويٌّ من الْمِرَّةِ وهي القوَّةُ.
(0/0)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وقولهُ تعالى : { وَكَذَّبُواْ وَاتَّبَعُواْ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ أي كذبُوا الرُّسُلَ وثَبَتوا على التكذيب وعَمِلُوا بهَوَى أنفُسِهم في عبادةِ الأصنام ، { وَكُلُّ أَمْرٍ } ؛ بما أخبرَ اللهُ به من الأمُور الماضيةِ والمنتظَرَةِ ، { مُّسْتَقِرٌّ } ؛ أي ثابتٌ لا تلحقهُ الزيادةُ والنقصان والتغيير والتبديلُ.
وسببُ نزولِ هذه الآياتِ ، هو ما رُوي : " أنَّ أهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم آيَةً وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حِينَ قَالَ أبُو جَهْلٍ : وَاللآتِ وَالْعُزَّى! لَئِنْ أتَيْتَ آيَةً كَمَا أتَتْ بهِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ لَنُوْمِنَنَّ لَكَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَمَاذا عَلَيْكَ لَوْ حَلَفْتَ باللهِ الْعَظِيمِ ؟ " فَقَالَ : وَرَب هَذِهِ الْكَعْبَةِ لَئِنْ أتَيْتَ بآيَةٍ كَمَا أتَتْ بهِ الرُّسُلُ قَبْلَكَ لآمَنَّا بكَ ".
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : " اجْتَمَعَ الْمُشْرِكُونَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : إنْ كُنْتَ صَادِقاً فَشُقَّ لَنَا الْقَمَرَ ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنْ فَعَلْتُ تُؤْمِنُونَ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ ، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَبَّهُ أنْ يُعْطِيَهُ مَا قَالُواْ ، فَانْشَقَّ الْقَمَرُ فِرْقَتَيْنِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا فُلاَنُ ؛ وَيَا فُلاَنُ ؛ وَيَا فُلاَنٌ : إشْهَدُوا " ".
وعن ابن مسعودٍ قالَ : " أشَارَ إلَى الْقَمَرِ فَانْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ ، فَكَانَتْ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْجَبَلِ ، وَالأُخْرَى أسْفَلَ مِنَ الْجَبَلِ حَتَّى رَأى الْجَبَلَ بَيْنَ فِلْقَتَي الْقَمَرِ ، وَقَالَ : " اشْهَدُوا " فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : إنَّ مُحَمَّداً سَحَرَ الْقَمَرَ! ثُمَّ قَالَ أبُو جَهْلٍ لأَصْحَابهِ : ابْعَثُوا بالرُّسُلِ إلَى الْبلاَدِ فَإنْ عَايَنُواْ مِنْ ذلِكَ مَا عَايَنَّا فَهُوَ آيَةٌ ، وَإلاَّ فَهُوَ سِحْرٌ. فَبَعَثُواْ الرُّسُلَ إلَى جَمِيعِ الْبلاَدِ ، فَإذا النَّاسُ يَتَحَدَّثُونَ بانْشِقَاقِ الْقَمَرِ ، فَلَمَّا رَجَعُواْ إلَيْهِمْ وَأخْبَرُوهُمْ بهِ قَالُوا : إنَّ هَذا سَاحِرٌ دَاهِي "
(0/0)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأَنبَآءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } ؛ يعني أهلَ مكَّة جاءَهم من أخبار الأُمم المكذِّبة في القرآنِ ما فيه مُنتهَى لهم عمَّا هم فيه من الكُفرِ والفُسوقِ.
(0/0)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } ؛ بدلَ من (مَا) والمعنى : جاءَهم حِكمَةٌ في نِهايَةِ الْحُكْمِ والصَّواب. وَقِيْلَ : المرادُ بالحكمةِ البالغةِ القرآنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } ؛ ما تُغنِي الرُّسُل صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ عن قومٍ لا يتَدبَّرون ولا يتَفكَّرون في الآية والنُّذر.
(0/0)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } ؛ أي أعرِضْ عنهم فليسَ عليكَ إجبارُهم على الدِّين ، وإنَّما عليكَ إقامةُ الْحُجَّة وقد بالَغْتَ فيها ، وهذه الآيةُ منسوخةٌ بآيةِ القتالِ. وهذا وقفٌ تامٌّ ، وقوله تعالى { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } ابتداءُ الكلامِ كلام.
قال مقاتلُ : (أرَادَ بالدَّاعِي إسْرَافِيلَ يَنْفُخُ قَائِماً عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) { إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ } ؛ أي إلى أمرٍ فَظِيعٍ لَمْ يرَوا مِثلَهُ فينكرونَهُ استِعظَاماً ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ }. وقوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ } منصوبٌ على معنى واذْكُرْ.
(0/0)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } ؛ نُصِبَ على الحالِ مِن يخرجُون ، وذلك دليلٌ على تقدُّم الحالِ على الفعلِ المتصَرِّف ، وكذلك يقالُ : رَاكباً جاءَ زيدٌ كما يقالُ جاء زيد راكباً ، وتقديرهُ : ويُخرَجُون من الأجداثِ خُشَّعاً أبصارُهم.
قرأ أبو عمرٍو ويعقوب وحمزةُ والكسائي وخلف : (خَاشِعاً) بالألفِ ، وقرأ الباقون : (خُشَّعاً) على الجمعِ. قال الفرَّاءُ : (يَجُوزُ فِي أسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إذا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّأْنِيثُ ، يُقَالُ : مَرَرْتُ بشَبَابٍ حَسَنٍ أوْجُهُهُمْ ، وَحِسَانٍ أوْجُهُهُمْ ، وحَسَنَةٍ أوْجُهُهُمْ). وفي قراءةِ عبدِالله : (خَاشِعَةً أبْصَارُهُمْ) أي ذليلةً خاضعةً عند رُؤية العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } ؛ أي يَخرُجون عندَ النَّفخةِ من القُبور فَزِعِينَ لا يَهتَدُون إلى شيءٍ ، يحولُ بعضُهم إلى بعضٍ مثلَ الجرادِ المنتشرِ. والمعنى : أنَّهم يخرُجون فَزِعين لا جهةَ لأحدٍ منهم فيقصِدُها ، والجرادُ لا جهةَ له تكون أبداً مختلفةٌ بعضها فوقَ بعضٍ.
(0/0)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ } ؛ أي مُنقَلِبينَ إلى صَوتِ إسرافيلَ نَاظِرين مُتحيِّرين مُسرِعين إليه ، { يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَـاذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } ؛ أي صَعْبٌ شديدٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (عَسِرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَسَهْلٌ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ). والإهْطَاعُ : الإِسْرَاعُ.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } ؛ أي كذبت قبلَ قومِكَ قومُ نوحٍ كما كذبَكَ قومُك ، ونَسَبُوا نوحاً إلى الجنُونِ ، كما نسبَكَ قومُكَ إلى الجنون ، { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ } ؛ أي فكذبُوا عَبدَنا نُوحاً وقالوا : مجنونٌ وَزَجَرُوهُ عن دُعَائِهم إياهُم إلى الإيمانِ بالشَّتمِ والوعيدِ ، فـ{ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ }[الشعراء : 116].
(0/0)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } ؛ معناهُ : فدَعَا نوحُ ربَّهُ أنِّي مغلوبٌ بينَهم ومقهورٌ ، فانتَقِمْ لِي مِمَّن كذبَني ، ومعنى قولهِ تعالى { فَانتَصِرْ } أي فَانتَقِمْ منهُم لدِينِكَ ، وإنما دعَا عليهم بالهلاكِ بعد ما أُذِنَ له في الدُّعاء.
فأجابَ اللهُ دعاءَهُ فقالَ : اللهُ تعالى : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } أي بماءٍ سَيلٍ مُنْصَبٍّ انْصِبَاباً شَديداً لا ينقطعُ ، متدفِّقٌ مع كثرةٍ شديدة ، قال الكلبيُّ : (إنْصَبَّ أرْبَعِينَ يَوْماً). وقُرئ (فَفَتَّحْنَا) بالتشديدِ على تكثيرِ الفعل ، وذكرُ الأبواب في الآية على معنى أنَّ إجراءَ الماءِ كان بمنْزِلة جَرَيانهِ كأنَّهُ فُتِحَ عنه باباً كان مانِعاً له.
(0/0)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً } ؛ أي شقَّقنا الأرضَ عُيوناً ، { فَالْتَقَى المَآءُ } ؛ ماءُ السَّماء وماءُ الأرضِ ؛ { عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } ؛ في اللَّوح المحفوظِ وهو هلاكُ القومِ ، وقرأ الحجدري : (فَالْتَقَى الْمَاءَانِ).
(0/0)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } ؛ معناهُ : وحَملنا نُوحاً ومَن آمَنَ معه على سفينةٍ ذاتِ ألواحٍ وهي خشَبَاتُها ، { وَدُسُرٍ } يعنِي المساميرَ يُشَدُّ بها الألواحُ واحدها دِسَارٌ ، والمعنى على سفينةٍ ذات ألواحٍ ومَسامِيرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } ؛ أي تجرِي بحِفظِنا ، ووَحينا وأمرِنا حتى لا يقعَ فيها شيءٌ من الماءِ وتتكسَّرُ ولا تغرَقُ ، وقوله تعالى : { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } ؛ أي فعَلنا ذلك مِن إنجائهِ وإغراقِهم ثَواباً لِمَن كُفِرَ به وجُحِدَ أمرهُ ، وهو نوحُ عليه السلام كفرَهُ قومهُ وجَحَدُوا به ، وقرأ مجاهدُ (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ) بفتحِ الكافِ والفاء ، يعني كان الغرقُ جَزاءً لِمَن كفرَ باللهِ وكذبَ رسولَهُ.
(0/0)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
قولهُ تعالى : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } ؛ يعني ترَكنا هذه الفعلةَ ، ويقالُ : السفينةُ التي يصنَعُها الناسُ على مثالِ سفينة نُوحٍ عليه السلام علامةٌ للناسِ ليَعتَبروا ويستَدِلُّوا بها على توحيدِ الله ، { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؛ فهل من مُتَّعظٍ مُعتَبرٍ متدَبرٍ متفَكِّرٍ يعلمُ أنَّ ذلك حقٌّ فيعتبرُ.
(0/0)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } ؛ معناهُ : فَانظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف كان عُقوبَتي فيمَن أنذرَهم الرسلُ فلم يُؤمنوا ، وهذا استفهامٌ ومعناهُ : التعظيمُ لذلكَ العذاب ، وهذا تخويفٌ لِمُشرِكي مكَّة.
(0/0)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } ؛ أي سهَّلنَاهُ للحِفْظِ والقراءةِ والكتابة ، وقال سعيدُ بن جُبير : (لَيْسَ كِتَابٌ مِنْ كُتُب اللهِ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِراً إلاَّ الْقُرْآنُ) ، وقولهُ تعالى : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؛ أي فهَلْ ذاكِرٌ يذكرهُ وقَارئٌ يقرؤهُ ، ومعناه : الحثُّ على قراءةِ القرآن ودَرسهِ وتعلُّمهِ ، ولولا تسهيلُ اللهِ علينا ذلك لم يستطِعْ أحدٌ أن يَلْفِظَ بهِ.
(0/0)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } ؛ أي باردةٍ شَديدَةِ البردِ وشديدةِ الْهُبُوب ، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } ؛ أي يومٍ مَشْؤُومٍ عليهم ، دائمِ الشُّؤمِ ، رُوي : أنه كان يومَ الأربعاءِ الذي في آخرِ الشَّهر لا يدورُ. ويقال : معنى قولهِ { مُّسْتَمِرٍّ } استمرَّ بهم العذابُ إلى نار جهنَّم.
(0/0)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ؛ أي تَقلَعُ الناسَ من الأرضِ من تحتِ أقدامِهم ، ثم تَرمِي بهم على رُؤوسِهم فتدقُّ رقابَهم وتقطعُ أعناقَهم ، فتُبقِي أجسادَهم كأنَّها أعجازُ نخلٍ مُقَطَّعٍ.
ويقالُ في معنى { تَنزِعُ النَّاسَ } لأنَّهم ضُرِبُوا بأرجُلِهم في الأرضِ فغَيَّبوها إلى قريبٍ مِن رُكوبهم وقالوا : قُل للرِّيحِ حتى يرفَعنا ، فجُعلت الريحُ تدخلُ تحتَ أقدامِهم وترفعُ كلَّ اثنين وتضرِبُ بأحَدِهما إلى الآخرِ في الهواء ، ثم تُلقِِيهما في الوادِي ، والباقون ينظُرون إليهم حتى رفَعتهم كُلَّهم وصيَّرتْهم في الأرضِ { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } أي سَاقِطٍ ، ثم رَمَت بالتُّراب عليهم ، فكان يُسمَعُ أنِينُهم من تحتِ التُّراب.
يقالُ : قَعَرَ النَّخلةَ إذا قلَعتَها من أصلِها حتى تسقُطَ ، شبَّهَهم في طُولِهم حين صرَعتهم الريحُ وكَبَّتْهُم على وُجوهِهم بالنَّخلة الساقطةِ على الأرضِ التي ليس لها رُؤوس ، وذلك أنَّ الريح قَلعَتْ رُؤوسَهم أوَّلاً ثم كبَّتهم على وُجوهِهم.
(0/0)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؛ إنما كرَّرَهُ لأنه ذكر في كلِّ فَصلٍ نَوعاً من الإنذار والتَّعذيب ، انعقدَ التذكيرُ شيء شيء منه على التفصيلِ.
قال ابنُ الأنبَاريِّ : (وَسُئِلَ الْمُبَرِّدُ عَنْ ألْفِ مَسْأَلَةٍ هَذِهِ مِنْ جُمْلَتِهَا : وَهُوَ أنَّ السَّائِلَ قَالَ لَهُ : مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ{ جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ }[يونس : 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً }[الأنبياء : 81] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ }[القمر : 20] و{ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }[الحاقة : 7] ، فَقَالَ : كُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْ هَذا الْبَاب فَلَكَ أنْ تَرُدَّهُ إلَى اللَّفْظِ تَذْكِيراً ، وََلَكَ أنْ تَرُدَّهُ إلَى الْمَعْنَى تَأْنِيثاً).
(0/0)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ } ؛ أي بالإنذار الذي جاءَهم به صالِحُ عليه السلام ، { فَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } ؛ أي هو آدَمِيٌّ مِثلُنا وهو واحدٌ فلا نكون له تَبعاً ، { إِنَّآ إِذاً } ؛ إنْ فعَلنا ذلك ، { لَّفِي ضَلاَلٍ } ؛ وذهابٍ عن الحقِّ ، { وَسُعُرٍ } ؛ أي وشقاءٍ وشدَّةِ عذابٍ مما يُلزِمُنا من طاعتهِ ، وقال عطاءُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { وَسُعُرٍ } أيْ وَجُنُونٍ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ ؛ إذا كَانَ بهَا جُنُونٌ مِنَ النَّشَاطِ ، وَهُوَ مِنْ سُعُرِ النَّار إذا الْتَهَبَتْ).
(0/0)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَءُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا } ؛ أنْكَروا أنْ يكون الوحيُ يأْتِيهِ ، فقالوا : كيف خُصَّ مِن بيننا بالنُّبوَّة والوحيِ ، { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } ؛ فيما يقولُ ، { أَشِرٌ } أي بَطِرٌ متَكَبرٌ يريدُ أن يتكبَّرَ علينا بالنبوَّةِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً } ؛ حين ينْزِلُ بهم العذابُ ، يعني يومَ القيامةِ ، { مَّنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ } ؛ أهُمْ أمْ صَالِحُ؟.
(0/0)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ } ؛ أي إنَّا مُخرِجو الناقةِ من الصَّخرة تَشديداً عليهم في التكليفِ ، وذلك أنَّهم تَعَنَّتُوا صَالحاً فسأَلُوا أن يُخرِجَ لَهم من صخرةٍ حمراءَ عشراءَ ، وقوله : { فَارْتَقِبْهُمْ } ؛ أي فانتظِرْهم ما هم صَانِعون ، { وَاصْطَبِرْ } ؛ على أذاهُم ولا تَعْجَلْ حتى يَأْتِيَهُمْ أمرِي.
(0/0)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
قوله : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي أخبرهُم أنَّ الماءَ مقسومٌ بين الناقةِ ووَلَدِها وبينهم وبين مَواشِيهم ، يومٌ لَهُما ويومٌ لَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } ؛ أي كلٍّ منهم يحضرُ نَوبَتَهُ ، فتحضرُ الناقةُ وولدُها يومَ نَوبَتِهما ، ويحضرُ القومُ يومَ نَوبَتهم. والشِّرْبٌ : نصيبٌ من الماءِ ، والشُّرْبُ - بضم الشِّين - : فعلُ الشَّارب.
(0/0)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ } ؛ أي نادَوا قُدَارَ بنَ سَالِفٍ عَاقِرَ الناقةِ ، { فَتَعَاطَى فَعَقَرَ } وذلكَ أنَّهم لَمَّا مكَثُوا قسمةَ الماء زَماناً ، ثم ضاقَ عليهم الأمرُ على مواشِيهم بسبب الناقة ، غلبَ عليهم الشَّقاءُ ، وتوَطَأَ طائفةٌ منهم على قَتلِها ، فنادَوا صاحبَهم الذي كَمَنَ لهما.
وذلك أنه رمَاها رجُلٌ منهم يقالُ له : مصدع بن دَهْرٍ بسَهمٍ فضَرَبَها على سَاقِها ، فنادَوا قُدَارَ بن سالف ، وقالوا له : دونَكَ الناقةُ قد مرَّتْ بكَ فاضرِبْها ، فتعاطَى قُدارُ عقرَ الناقةِ ، فعقَرَها بأنْ ضربَ ساقَها الأُخرى فسَقطَتْ على جَنبها ، وقطَّعُوا لَحمَها وقسَموهُ ، فعاقبَهم اللهُ بصيحةٍ فأَهلَكَهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ } ؛ قال عطاءُ : (يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عليه السلام أسْمَعَهُمُ الله إيَّاهَا فَهَلَكُواْ ، وَصَارُواْ كَالْوَرَقِ الْمُتَهَشِّمِ الَّذِي يَجْمَعُهُ صَاحِبُ الْحَضِيرَةِ إذا يَبسَ غَايَةَ الْيُبْسِ ، وَتَحَطَّمَ غَايَةَ الانْحِطَامِ).
قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ رَجُلٌ يَجْعَلُ الْغَنَمَةَ حَظِيرَةً بالشَّجَرِ وَالشَّوْكِ لِيَحْرُسَهَا مِنَ السِّبَاعِ ، فَمَا سَقَطَ مِنْ وَرَقِ ذلِكَ الشَّجَرِ وَيَبسَ ، وَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ وَتَحَطَّمَ وهَوَ الْهَشِيمُ). وقال ابنُ زيدٍ : (الْهَشِيمُ هُوَ الشَّجْرُ الْبَالِي الَّذِي تَهَشَّمَ حَتَّى ذرَّتْهُ الرِّيحُ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطِباً فَيَبسَ فَهُوَ هَشِيمٌ) { وَلَقَد يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } ؛ أي ريحاً تَرمِيهم بالْحَصْبَاءِ ، والحصباءُ : هي الحجارةُ التي هي دُونَ مِلْءِ الكَفِّ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ مَا صُبُّوا بهِ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ الْحِجَارَةِ) ، وقولهُ تعالى : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } ؛ يعنِي بنْتَيْهِ وزَوجتَهُ المؤمنةُ ، نَجَّاهم اللهُ من العذاب ، { نِّعْمَةً مِّنْ عِندِنَا } ؛ بأَنْ أمَرَهم بالخروجِ في وقت السَّحَر ، وكانت نَجَاتُهم نعمةً من اللهِ عليهم ، { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ } ؛ وكذلك يَجزِي اللهُ كُلَّ مَن عرفَ إنعَامَهُ وقابلَهُ بالشُّكرِ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36)
قَوْلُهُ تعَالَى : { وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } ؛ أي خوَّفَهم لوطُ عذابَنا ، { فَتَمَارَوْاْ بِالنُّذُرِ } ؛ فشَكُّوا في الإنذار ؛ أي فتَدافَعوا بالْحِجَاجِ البَاطِلِ ، ويقالُ : جادلوهُ في أمرِ الرِّسالةِ ولم يُصدِّقوهُ.
(0/0)
وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } ؛ أي طلَبُوا أن يُسَلِّمَ إليهم أضيافَهُ وهم الملائكةُ قَصْداً منهم إلى عمَلِهم الخبيث ، فأمرَ اللهُ جبريلَ أن يَصْفِقَ بجناحهِ فأعمَاهُم فبَقوا حَيارَى ، ومعنى : { فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ } ؛ أي أعمَينَاهُمْ وصيَّرناهم كسائرِ الوجهِ لا يُرَى له شَقٌّ ، فكانوا عُمياناً متحيِّرين لا يهتدون إلى الباب ، فقيل لَهم : { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } ؛ يقال : فلانٌ مَطمُوسُ البصَرِ إذا كان موضعُ عَينَيه أملسَ ، لا أثرَ به للعَينِ من الْجَفْنِ والْحَدَقَةِ.
(0/0)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً } ؛ أي أتَاهم العذابُ صَباحاً ، يعني أخَذهم عند الصُّبحِ ، { عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } ؛ عذابٌ دَائِمٌ متَّصِلٌ بعذاب الآخرةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ } ؛ قد مضَى تفسيرهُ.
(0/0)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ } ؛ قِيْلَ : إنَّ المرادَ بالنُّذُر : موسَى عليه السلام وهارون ، وأسماءُ الجمعِ يطلَقُ على الاثنين. وَقِيْلَ : أرادَ به الآياتِ التي فيها الإنذارُ ، وَقِيْلَ : المواعظُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ } ؛ أي فأخذنَاهم بالعذاب ، { أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ } ؛ غالبٍ في انتقامه ، متقدرٍ قادرٍ على إهلاكِهم ، والعزيزُ القويُّ الذي لا يلحقهُ ضَعْفٌ ولا عجزٌ ، ولا يعتَريهِ منعٌ ولا دفعٌ.
(0/0)
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } ؛ معناهُ : أكُفَّارُكم يا أهلَ مكَّة أشدُّ وأقوَى من أُولَئِكُمْ الذين قصَصنا ذِكرَهم ، وهذا استفهامٌ ومعناهُ الإنكارُ ؛ أي لَيسُوا أقوَى من قوم نوح وعادٍ وثَمود. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزُّبُرِ } ؛ معناهُ : ألَكُمْ براءةٌ من العذاب في الكُتب لن يُصيبَكم ما أصابَ الأُمم الخاليةَ.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } ؛ معناهُ : أم يقولون نحنُ جميعٌ واحد ومتَّفِقُون على الانتصار من أعدائنا ، ووُحِّدَ المنتصرُ للفظِ الجميع وهو واحدٌ في اللفظِ.
(0/0)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
قَالَ اللهُ تَعَالَى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } ؛ أي سيُهزَمُ الجمعُ كفَّارُ مكة يومَ بدرٍ ، ويُوَلُّونَ الدُّبُرَ مُنهَزِمِين. ومعنى الآية : أنَّ كفار مكَّة يقولون : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } أي جماعةٌ لا تُضَامُ ولا تُرَامَ ، ولا يصُدُّنا أحدٌ بسوءٍ ولاء ، ولا أحدٌ يفَرِّقُ جَمعَنا ، وكان من حقِّه أن يقولَ : نحنُ جميع منتصرون ؛ إلاَّ أنه تَبعَ رؤوسَ الآيِ. وقوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ } قراءةُ الكافَّة بالياءِ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ. وقرأ يعقوبُ بالنون وكسرِ الزاي (الْجَمْعَ) بالنصب.
وإنما وحَّدَ الدًُّبر لأجلِ رُؤوسِ الآي ، قال مقاتلُ : (ضَرَبَ أبُو جَهْلٍ فَرَسَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَتََقَدَّمَ الصَّفَّ ، وَقَالَ : نَحْنُ نَنْتَصِرُ الْيَوْمَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأصْحَابهِ ، فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى).
(0/0)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } ؛ فيه بيانُ ما نزَلَ بهم من القتلِ والأسرِ ببدرٍ لم يكن كَافياً في عُقوبَتهم ، بلِ القيامةُ موعِدُهم ، والقيامةُ أعظَمُ في الدَّهاءِ وأشَدُّ مَرارةً من القتلِ والأسرِ في الدُّنيا ، وكلُّ دَاهِيَةٍ فمعناها الأمرُ الشَّديدُ.
(0/0)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } ؛ أرادَ بالضَّلال الذهابَ عن الصَّواب في الدُّنيا ، وبالسُّعُرِ عذابَ النار في العُقبَى.
(0/0)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
وقولهُ تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } ؛ يوم تَجُرُّهم الملائكةُ في النار على وُجوهِهم فيقولُ لهم : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ؛ وسَقَرُ اسمٌ من أسماءِ دَرَكَاتِ جهنَّم.
قال أبو أُمَامَةَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْقَدَريَّةِ : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ".
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الْقَدَريَّةُ ، وَهُمُ الْمُجْرِمُونَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللهُ { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } ".
وعن هشامِ بن حسَّان قالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ : (وَاللهِ لَوْ أنَّ قدرياً صَامَ حَتَّى يَصِيرَ كالْجَبَلِ ، ثُمَّ صَلَّى حَتَّى يَصِيرَ كَالْوَتَرِ ، ثُمَّ أُخِذ ظُلْماً وَزُوراً حَتَّى ذُبحَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، لَكَبَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى وَجْهِهِ فِي سَقَرٍ ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ : ذُقْ مَسَّ سَقَرْ).
(0/0)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ؛ معناهُ : كلُّ ما خلَقْنا فمَقدورٌ ومكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ قبل وُقوعهِ.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ وَتَدَبَّرَ التَّقْدِيرَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ عليه السلام بأَلْفَي عَامٍ " وَقَالَ عليه السلام : " الإيْمَانُ بالْقَدَر يُذْهِبُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ " وانتصبَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلَّ شَيْءٍ } بفِعلٍ مُضمَرٍ ؛ كأنه قالَ : إنَّا خلَقنَا كلَّ شيءٍ بقَدَرٍ.
وعن عمر رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إذا جَمَعَ اللهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَادَى مُنَادٍ يَسْمَعُهُ الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ : أيْنَ خُصَمَاءُ اللهِ ؟ فَتَقُومُ الْقَدَريَّةُ فَيُقَالُ لَهُمْ : ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرٍ ".
(0/0)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } ؛ معناهُ : وما أمرُنا بقيامِ السَّاعة أو غيرِ ذلك إلاَّ كلمةً واحدةً لا تُثنَّى كطَرفِ البصرِ ، بل هو أسرَعُ ، ومعنى اللَّمْحِ : النَّظرُ بالعجَلةِ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } ؛ معناهُ : ولقد أهلَكنا أشبَاهَكُم ونُظرَاءَكم في الكُفرِ من الأُممِ الماضية ، { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ، هل من مُتَّعِظٍ يتَّعِظُ بهم.
(0/0)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } ؛ ومعناهُ : كلُّ شيءٍ فعَلوهُ وقالوا مِن خيرٍ أو شرٍّ ؛ يعني الأشياعَ ؛ مكتوبٌ في اللَّوحِ المحفوظِ قبلَ أنْ يفعلوهُ ، { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } ؛ من الذُّنوب والخلقِ والأعمال ، { مُّسْتَطَرٌ } ؛ مكتوبٌ على فَاعلهِ قبلَ أنْ يفعلوهُ ، تكتبهُ الملائكةُ في ديوانٍ ليَجزِيَهم اللهُ على أفعالِهم.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين يتَّقُونَ الشِّركَ والكبائرَ والفواحشَ في بساتين وأنْهَار جاريةٍ من الماءِ والخمرِ واللَّبن والعسلِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } ؛ أي مجلسٍ حَسَنٍ وموضعٍ قرارٍ وأمنٍ من وُقوعِ الحوادثِ ، { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } ؛ أي عند مَلِيكٍ قادرٍ على الثَّواب والعقاب ، قادرٍ لا يعجزهُ شيءٌ وهو الله عَزَّ وَجَلَّ ، ومَقْعَدُ الصِّدقِ هو الجنَّةُ ، مدحَ اللهُ المكان بالصِّدقِ ، ولا يقعدُ فيه إلاَّ أهلُ الصِّدقِ.
وإنما قال (وَنَهَرٍ) مُوَحِّداً لأجلِ رُؤوسِ الآيِ كقوله تعالى : { وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر : 45] ، وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ : فِي فَضَاءٍ وَسِعَةٍ وَنُورٍ وَمِنْهُ النَّهَارُ ، وَمِنْ ذلِكَ نَهَرْتُ الْفِضَّةَ إذا وَسَّعْتَهَا) ، وقرأ الأعرجُ وطلحة (وَنُهُرٍ) بضمَّتين كأنه جمعُ نَهَارٍ لا ليلٍ.
(0/0)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ } ؛ هذا جوابٌ لقول كفَّار قُريش حين قالوا : إنَّ مُحَمَّداً يقولُ ما يقول من تِلقاء نفسهِ ، ولم يُوحَ إليه شيءٌ ، ومنهم مَن كان يقولُ : إنما يعلِّمهُ بشَرٌ ، فردَّ اللهُ عليهم مقالتَهم وبيَّن أنه هو الذي عَلَّمَ مُحَمَّداً القرآنَ على لسانِ جبريلَ عليه السلام.
(0/0)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ } ؛ قِيْلَ : المرادُ منه آدمُ عليه السلام علَّمَهُ اللهُ جميعَ اللُّغات وأسماءَ كلِّ شيءٍ ، وكان آدمُ عليه السلام يتكلَّمُ سبعَمائة ألف لُغة أفضَلُها العربيةُ.
ويجوز أنْ يكون الإنسانُ اسمُ جنسٍ بمعنى جميعَ الناسِ ، { عَلَّمَهُ البَيَانَ } وهو المنطِقُ والكتابةُ والحِفْظُ والفهمُ والإفهام حتى عرَفَ الإنسانُ ما يقول وما يُقال له.
وَقِيْلَ : معنى البيانِ : بيانَ الحلالِ والحرامِ ، وبيان الخيرِ والشرِّ ، وما يأتِي وما يذرُ. وقال أبو العاليةِ : (يَعْنِي الكَلاَمَ). الْحَسَنُ (النُّطْقَ وَالتَّمْييزَ) ، وَقِيْلَ : الكتابةُ بالقلمِ ، وقال السديُّ : (عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بهِ).
(0/0)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } ؛ معناهُ : والنجمُ في السَّماء ، والشجرُ في الأرضِ يسجدُان لله تعالى. وَقِيْلَ : معناهُ : النباتُ والشجرُ يسجُدان ، فإنَّ النَّجْمَ ما نبتَ على غيرِ ساقٍ ، والشجرَ ما نبتَ على ساقٍ في اللغة ، كما يقالُ في كلِّ ما طلعَ : إنه نجمٌ ، ومن ذلك نَجْمُ القرآنِ.
ومعنى سُجودِهما ؛ أي يُسَبحوهُ ظِلاَلُهما كقولهِ{ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ }[النحل : 48]. وَقِيْلَ : يسجُدان للهِ على الحقيقةِ ، إلاّ أنَّنا لا نَفْقَهُ على سُجودِهما كقولهِ تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ }[الحج : 18].
(0/0)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } ؛ معناهُ : رفعَ السماءَ فوقَ الأرضِ ليُستَدَلَّ على وحدانيَّة اللهِ تعالى وكمالِ قُدرتهِ ، وقولهُ تعالى { وَوَضَعَ الْمِيزَانَ } قال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : وَأمَرَ بالْعَدْلِ) ، وقال الضحَّاكُ وقتادةُ : يَعْنِي الْمِيزَانَ الَّذِي يُوزَنُ بهِ لِيُتَوَصَّلَ بهِ إلَى الإنْصَافِ وَالانْتِصَافِ ، وَلَوْلاَ الْمِيزَانُ لَتَعَذرَ الْوُصُولُ إلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ).
وقال بعضُهم : أنزلَ اللهُ الميزانَ على هَيئَتهِ في زمنِ نُوحٍ عليه السلام ولم يكن قبلَ ذلك. وقال بعضُهم : عرَّفَ اللهُ الناسَ ذلك على لسانِ بعضِ الأنبياء ، وَقِيْلَ : إلهامٌ الْهَمَهُمْ كيف يتَّخِذُون الميزانَ ويِزِنُون.
(0/0)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ } ؛ معناهُ : لئِلاَّ تَمِيلُوا وتَضِلُّوا وتُجاوزُوا الحدَّ في الميزان. وَقِيْلَ : معناهُ : لئلا تظلِمُوا وتأخُذوا الأكثرَ وتُعطوا الأقلَّ. وقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ } ؛ أي سَوُّوا الميزانَ بالعدلِ والإنصافِ ، { وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ } ؛ وَقِيْلَ : معناهُ : أقِيمُوا ساقَ الميزانِ بالقسطِ ولا تَخونُوا من وَزْنَتِهِمْ له ، ولا تبخَسُوا الوزنَ ، وكلُّ شيءٍ نقَصتَهُ فقد أخسَرتَهُ.
(0/0)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } ؛ معناهُ : والأرضَ بسَطَها على الماءِ لجميعِ الخلق مِن الجنِّ والإنسان ، مكَّنَها للأحياءِ ، ويُدفَنُ فيها الموتَى ، تدلُّ على وحدانيَّة اللهِ ، وقال الشعبيُّ : (الأَنَامُ : كُلُّ ذِي رُوحٍ).
(0/0)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهَا فَاكِهَةٌ } ؛ أي في الأرضِ ألوانُ الفاكهةِ ، وقولهُ تعالى : { وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ } ؛ أي ذاتُ الأغطيَةِ ، وهي أوعيةُ التمرِ ، وأكمامُ النَّخلَةِ فإغطاءِ ثَمَرِها يكون في غُلفٍ ما لم يُشَقُّ. ومِن ذلك يقالُ للقُلُنْسُوَةِ : الأَكَمَةُ ؛ لأنَّها تُغَطِّي الرأسَ ، وقال الحسنُ : (أكْمَامُهَا لِيفُهَا) ، وقال ابنُ زيدٍ : (أكْمَامُهَا : طَلْعُهَا قَبْلَ أنْ يَنْفَتِقَ) ، والحاصلُ أنَّ كلَّ ما يسترُ شيئاً فهو كُمُّ وَكُمَّةٌ ، ومنه كُمُّ القميصِ.
(0/0)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } ؛ يريدُ جميعَ الحبوب مما في الأرضِ من الحنطة والشعيرِ وغيرهما ، وقولهُ تعالى { ذُو الْعَصْفِ } أي ذُو الورَقِ الأخضرِ الذي يصيرُ تِبْناً وتُقْتَاتُ به البهائمُ ، ويسمَّى ورقُ الزرعِ عَصْفاً لِخِفَّتِهِ ، وعصُوفُ الريحِ به مع ثُبوتِ الحب في مكانهِ. وَقِيْلَ : سُمي عَصْفاً لأنَّ الريحَ تذهبُ به في وقتِ حَاجَتهِم إلى تَمْييزِهِمْ الحبَّ من التِّبنِ.
وقوله تعالى : { وَالرَّيْحَانُ } يعني الورقَ في قولِ الأكثرين ، وقال الحسنُ : (هُوَ رَيْحَانُكُمُ الَّذِي يُشَمُّ) ، وقال مقاتلُ : (الرَّيْحَانُ هُوَ الْوَرَقُ بلُغَةِ حِمْيَرَ) ، كأنه قالَ : والحبُ ذو العَصْفِ والورَقِ ، وقال سعيدُ بن جبير : (الرِّيْحَانُ : الزَّرْعُ وَيَكُونُ فِي سُنْبَلٍ).
وأما الْحَبُّ المذكورُ في الآيةِ ، فهو ما يُلقَى في الأرضِ من البَذْر ، والرَّيحانُ هو ما يُخلَقُ من الحب في سُنبُلٍ رزْقاً للعبادِ ، وقد يُذكَرُ الرَّيحانُ بمعنى الورَقِ كما يقولُ العربُ : خرَجنا نطلبُ ريحانَ اللهِ ؛ أي رزقَهُ. والعَصْفُ : هو التِّبْنُ ، والرِّيحانُ هو ثَمَرَتُهُ. وعن ابنِ عبَّاس : (الرَّيْحَانُ هُوَ خُضْرَةُ الزَّرْعِ).
قرأ العامةُ : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) كلٌّ بالرفعِ عطفاً على الفاكهةِ ، والمعنى فيها الحبُّ وفيها الرَّيحانُ ، ونصَبَها كلَّها ابنُ عامرٍ على معنى خلقَ الإنسانَ وخلقَ هذه الأشياءَ.
وقرأ أهلُ الكوفة إلاَّ عاصِماً : (وَالرَّيْحَانِ) بالكسرِ عطفاً على (الْعَصْفِ) كأنه قال : والحبُّ ذو العصفِ وذو الرَّيحانِ ، وهو الرزقُ الذي يخلَقُ في السُّنبل ، فالريحانُ رزْقُ الناسِ ، والعصفُ رزق الدواب ، فذكرَ قوتَ الناسِ والأنعامِ.
ثم خاطبَ الجنَّ والإنسَ فقال : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؛ وإنَّما قالَ الخطابُ للجنِّ والإنس ؛ لأن تلك الأيامَ فيما مضَى تشتملُ على الجنِّ والإنس ، والمعنى : فبأَيِّ نعمةٍ من نِعَمِ ربكُما تُكذِّبان من هذه الأشياءِ المذكورة ، فإنَّها كلَّها مما أنعمَ اللهُ بها عليكم ، من دلالتهِ إيَّاكم على توحيدهِ ، ومن رزقهِ إيَّاكم ما به قِوَامُكم.
وإنما خاطبَ الجنَّ والإنسَ لأنَّهما مُشتَرِيكان في الوعدِ والوعيدِ. وإنما كُرِّرَتْ هذه الآيةُ في هذه السُّورة تقديراً للنِّعمةِ وتأكيداً للتذكيرِ بها على عادةِ العرب في الإبلاغ والاتِّباع.
وقال الحسينُ بن الفضلِ : (التِّكْرَارُ لِطَرْدِ الْغَفْلَةِ وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ). وَقِيْلَ : لَمَّا عدَّدَ اللهُ نعمةً بعد نعمةٍ ، كرَّرَ هذا القولَ ترغيباً في الشُّكر ، وتحذيراً من الكُفرِ والتكذيب بنِعَمِ اللهِ.
وهذه على وجهِ الحقيقة ليس بتكرارٍ ؛ لأنه ذكَرَ كلَّ واحدٍ منها عُقيبَ نعمةٍ لم يتقدَّمْ ذِكرُها. وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ : " قَرَأ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا ، ثُمَّ قَالَ : " مَا لِي أرَاكُمْ سُكُوتاً ؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أحْسَنَ مِنْكُمْ رَدّاً ، مَا قَرَأتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } إلاَّ قَالُوا : لاَ بشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ " ".
(0/0)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } ؛ أي خلَقَ أصلَ الإنسانِ وهو آدمُ من طينٍ يابسٍ إذا نُقِرَ صَلَّ ؛ أي صَوَّتَ كالفخَّار وهو الْخَزَفُ الذي طُبخَ بالنار ، يُسمَعُ منه الصوتُ إذا نُقِرَ وإذا اصْطَكَّ بعضهُ ببعضٍ. والمعنى : مِن طينٍ يابسةٍ كالْخَزَفِ.
(0/0)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } ؛ معناهُ : وخلقَ أصلَ الجنِّ وهو الْجَانُّ أبو الجنِّ من مارجٍ من نارٍ ، وهو الصَّافِي من لَهَب النار ، لا دُخَّانَ فيه. وَقِيْلَ : من لَهَب من نارٍ مختلطٍ بسوَادِ النار. وَقِيْلَ : إنه لسانُ النار الذي يكون في طرَفِها إذا التَهَبت.
وقال مجاهدُ : (هُوَ مَا اخْتَلَطَ بَعْضُهُ ببَعْضٍ مِنَ اللَّهَب الأَحْمَرِ وَالأَصْفَرِ وَالأَسْوَدِ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إذا أُوْقِدَتْ ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَرَجَ إذا اخْتَلَطَ). وَقِيْلَ : إنه نارٌ لا دخانَ لها تكون بين السَّماء الدُّنيا وبين حجاب دونَهما فأديمُ السَّماء يُرَى من ذلكَ الحجاب ، ومن تلك النار تكون الصواعقُ. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ } ؛ أي مَشرِقُ الشَّمسِ في الشِّتاء ، ومشرِقُها في الصَّيفِ ، ومغرِبُها في الشِّتاء ومغربُها في الصَّيف ، ويعني هو ربُّ المشرِقَين وربُّ المغربَين. وَقِيْلَ : معناهُ : هو ربُّ مشرقِ الشمس والقمرِ ومغرِبُهما. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } ؛ أي أرسلَ البَحرَين العذبَ والمالِحَ بالإجراءِ في الأرضِ. ومَرَجْتَ الدابَّةَ إذا أرسَلتَها ترعَى ، ويجوزُ أن يكون معنى مَرَجَ : خَلَطَ ، ومنه الْمَرْجُ لاختلاطِ أشجارهِ ، وقولهُ تعالى { يَلْتَقِيَانِ } أي يُلاقِي أحدُهما صاحبَهُ ، { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } ؛ أي بينهم حاجزٌ من قُدرَةِ اللهِ لا يبغِي العذبُ على المالحِ فيكونان عَذْباً ، ولا يبغِي المالِحُ عليه فيكونان مالحاً.
والمعنى : أنَّ اللهَ ذكرَ عظيمَ قُدرتهِ حيث خَلاَ البحرَ من العذب والمالح يلتقيان ، وجعلَ بينَهما حاجزاً من قُدرتهِ وحِكمَتِهِ ، لا يبغِي أحدُهما على صاحبهِ ، فلا الملحَ يبغِي على العذب فيُفسِدهُ ولا العذبُ على الملحِ فيخلَطُ بهِ. وقيل معنى قولهِ { لاَّ يَبْغِيَانِ } أي لا يَطغِيَانِ على الناسِ بالغرَقِ. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } ؛ فيه بيانُ نِعَمِ البحرِ ، واللُّؤلؤ معروفٌ وهو الكبارُ من جنسِ اللُّؤلؤ ، والْمَرْجَانُ : صِغَارُهُ ، وإنما يخرُجان من الملحِ دونَ العذب ، كاللُّقاحِ للملحِ ، إلاّ أنه قالَ { يَخْرُجُ مِنْهُمَا } لأن ذلك لا يوجَدُ إلاَّ بحيث يكون العذبُ والملحُ جميعاً. وَقِيْلَ : المرجَانُ : ضربٌ من الجوهرِ كالقُضْبَانِ يخرجُ من البحرِ.
وقال ابنُ عبَّاس : (يَخْلِقُ اللهُ اللُّؤلُؤَ وَالْمَرْجَانَ مِنْ قَطْرِ الْمَطَرِ ، وذلك أنَّ السماءَ إذ أمطَرَتْ فتحتِ الأصدافُ أفوَاهها على وجهِ الماء في البحرِ الملح ، فما وقعَ من المطرِ في أفواهِها نزلَ إلى صدرها فانعقدَ لُؤلؤاً).
وقال السديُّ : (الْمَرْجَانُ الْخَرَزُ الأَحْمَرُ). وعن ابنِ مسعودٍ : (أنَّ الْمَرْجَانَ حَجَرٌ). وذكرَ إنْ كانت في جوفهِ صدفةٌ ، فأصابت قطرةٌ بعضَ النواةِ ولم تُصِبْ بعضَها ، فكان حيث أصابَ القطرةَ من النواةِ لؤلؤةٌ وَسَائِرُهُ نَواةٌ.
وسائرُ القرَّاء على أنَّ (يُخْرِجُ) بضمِّ الياء وفتحِ الراء ، وهو اختيارُ أبي عُبيدة وأبي حاتم ؛ لأنه يُخرَجُ ولا يخرَجُ بنفسهِ. وقرأ (يَخْرُجُ) بفتحِ الياء وضمِّ الراء ؛ لأنه إذا أُخرِجَ خرجَ.
فإن قِيْلَ : كيف قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرجُ من أحدِهما وهو الملحُ ؟ قِيْلَ : هذا جائزٌ في كلامِ العرب أن يذكر شَيئان ثم يخصُّ أحدَهما وهو يفعلُ دون الآخرِ كقوله تعالى{ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ }[الأنعام : 130] والرُّسل من الإنسِ دون الجنِّ. قال الكلبيُّ : (وَكَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً }[نوح : 16] وَإنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا). وَقِيلَ : يخرجُ من ماءِ السَّماء ماءٌ وماء البحر. و { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ } ؛ فيه بيانُ نِعَمِ الله تعالى بالسُّفن العظَامِ التي ينتفعُ بها للتِّجاراتِ وغيرها ، الْمُنْشَآتُ : المرفوعاتُ الشِّراع ، وما لم يُرفَعْ منها شِرَاعها فلا تكون مُنشَأَةً. وَقِيْلَ : المنشآتُ هي اللَّواتي ابتدأ بهِنَّ في الجريِ ، والأعلامُ الجبالُ العظام ، شبَّهَ السُّفن في البحرِ بالجبال في البرِّ.
وقرأ حمزةُ (الْمُنْشِآتُ) بكسر الشِّين ، يعني المبتدئاتُ في السَّير اللاتي انسابَ جريُهن وسيرُهنَّ { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } ؛ أي كلُّ مَن على الأرضِ يَفنَى ، وهذه كنايةٌ عن غيرِ مذكورٍ ، ومعنى الآية : كلُّ مَن دبَّ ودرجَ على الأرضِ من حيوانٍ فهو هالكٌ ، وفي هذا منعٌ من الرُّكون إلى الدُّنيا والاغترار بها. قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ : هَلَكَ أهْلُ الأَرْضِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص : 88] فَأَيْقَنَتِ الْمَلاَئِكَةُ بالْهَلاَكِ).
(0/0)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } ؛ معناهُ : ويبقَى ربُّكَ ، والوجهُ يُذكَرُ على وجهَين : أحدُهما : بعضُ الشَّي كوجهِ الإنسانِ ، والآخر : يقتضِي الشيءَ العظيمَ في الذِّكر كما يقالُ : هذا وجهُ الرَّأي ووجهُ التَّدبيرِ ، ولَمَّا ثبتَ أنَّ الله تعالى ليسَ بجسمٍ ، كان المعنى : ويبقَى اللهُ الظاهرُ بأدلَّته كظُهور الإنسانِ بوجههِ.
وقولهُ تعالى : { ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } أي ذُو العَظَمةِ والكبرياءِ واستحقاقِ المدحِ بإحسانهِ وإنعامهِ. والإكرامُ : إكرامهُ أنبياءَهُ وأولياءَهُ ، فهو مُكرِمُهم بلُطفِه مع جلالهِ وعظَمتهِ.
وعن معاذ بنِ جبل قال : " مَرَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم برَجُلٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَقُولُ : يَا ذا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ : " قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ " وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الِظُّوا بيَا ذا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ " { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي لا يستغنِي عنهُ أهلُ السَّماء ولا أهلُ الأرضِ ، قال أبو صالح : (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ الرَّحْمَةَ ، وَيَسْأَلُهُ مَنْ فِي الأَرْضِ الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ ، وَالْكُلُّ يَلْجَأُونَ إلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ).
وقوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } ؛ قال المفسِّرون : مِن شأنهِ أنه يُحيي ويُميتُ ، ويرزُقَ ، ويُعِزَّ ويُذِلَّ ، ويُشفي مريضاً ، ويجيبُ داعياً ، ويعطِي سائلاً ، ويغفِرُ ذنباً ، ويكشِفُ كَرْباً إلى ما لا يُحصَى من أفعالهِ وإحداثهِ في خلقهِ ما شاءَ. وعن أبي الدَّرداءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } قَالَ : " مِنْ شَأْنِهِ أنْ يَغْفِرَ ذنْباً وَيُفَرِّجَ كَرْباً وَيَرْفَعَ قَوْماً وَيَضَعَ آخَرِينَ ".
وقال مجاهدُ : (هُوَ مِنْ شَأْنِهِ أنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَنَا ، وَيُعْطِي سَائِلَنَا ، وَيُشْفِي سَقِيمَنَا ، وَيَغْفِرُ ذُنُوبَنَا وَيَتُوبُ عَلَى قًوْمٍ ، وَيُشْقِي آخَرِينَ). وَقِيْلَ : شأنهُ يخرِجُ كلَّ يوم وليلة ثلاثة عساكرَ : عسكراً من أصلاب الآباءِ إلى الأرحامِ ، وعسكراً من الأرحامِ إلى الدُّنيا ، وعسكراً من الدنيا إلى القبور ، ثم يرحَلون جميعاً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
وحُكي : أنَّ بعضَ الملوكِ سألَ وزيرَهُ عن معنى هذه الآيةِ ، فاستمهلَهُ إلى الغدِ ، ورجعَ الوزيرُ إلى دارهِ كَئيباً لم يعرِفْ ما يقولُ : فقالَ له غلامٌ أسودُ من غِلمَانِهِ : يا مولايَ ما أصابَكَ ؟ فزجرَهُ ، فقالَ : يا مولاي أخبرْني فلعلَّ اللهَ يُسهِّلُ لك الفرجَ على يديَّ ، فأخبرَهُ بذلك ، فقالَ : عُدْ إلى الملكِ فقل له : إنَّ لي غُلاماً أسودَ إنْ أذِنْتَ له فسَّرَ لكَ هذه الآيةَ ، ففعلَ ذلكَ. فدعَا الملكُ الغلامَ فسألَهُ عن ذلك ، فقالَ : أيُّها الملِكُ ؛ شأنُ اللهِ تعالى أنه يولِجُ الليلَ في النهار ويولِجُ النهارَ في الليلِ ، ويُخرِجُ الحيَّ من الميِّت ، ويخرجُ الميتَ من الحيِّ ، ويُشفِي مَريضاً ويُسقِمُ سَليماً ، ويَبتَلِي معافًى ، ويُعافِي مُبتَلِياً ، ويذِلُّ عزيزاً ويُعِزُّ ذليلاً. فقال له الملكُ : أحسنتَ يا غلامُ فرَّجتَ عني. ثم أمرَ الوزيرَ فخلعَ ثيابَ الوزراء فكسَاها الغلامَ ، فقال : يا مولاي هذا شأنُ اللهِ تعالى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ } ؛ هذا وعيدٌ من اللهِ تعالى للخلقِ بالمحاسبة ، كقولِ القائلِ : لأَتَفَرَّغَنَّ لكَ وما به شغلٌ ، وهذا قولُ ابنِ عباس والضحَّاك ، وقال الزجاجُ : (مَعْنَاهُ : سَنَقْصُدُ لِحِسَابكُمْ بَعْدَ التَّرْكِ وَالإمْهَالِ ، وَنَأْخُذُ فِي أمْرِكُمْ وَنَجْزِيَكُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ بَعْدَ طُولِ الإمْهَالِ). وهذا على وجهِ التهديدِ على ما جرَتْ به العاداتُ في استعمالِ هذا اللفظِ ، كما يقولُ الرجُل : سأَفرُغُ لغُلامِي ، يريد سأجعلُ قَصدِي له ، ولا يريدُ بذلك الفراغَ من شُغلٍ هو فيه.
قرأ أُبَي (سَنَفْرُغُ إلَيْكُمْ). وقرأ الأعمشُ (سَيُفْرَغُ لَكُمْ) بياءٍ مضمومة وفتحِ الرَّاء. وقرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف بياءٍ مفتوحة وبضمِّ الراء ، وقرأ الباقون بنونٍ مفتوحة وضمِّ الراء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ } الثَّقَلان الجنُّ والإنسُ ، يدلُّ على ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى بعد ذلك ، سُمِّيا ثقلين لأنَّهما ثقَلٌ على الأرضِ أحياءً وأمواتاً ، قال الله تعالى{ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا }[الزلزلة : 2]. وقال جعفرُ الصَّادق : (سُمِّيَ الْجِنُّ وَالإنْسُ ثَقَلَيْنِ ؛ لأَنَّهُمَا مُثْقَلاَنِ بالذُّنُوب). { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ } ؛ في هذا بيانُ ضَعفِ الخلائقِ عن دفعِ ما ينْزِلُ بهم من قضاءِ الله وعذابهِ ، يقولُ : إنْ قَدَرْتُم على الخروجِ من نواحِي السَّموات والأرضِ فَاخرُجوا هَرباً مما ينْزِلُ بكم في الدُّنيا ، لا تقِدرُون أن تخرجُوا إلاّ بسُلطان يعطيكم الله من قوَّةٍ وحُجةٍ ، فحيث ما كُنتم شاهَدتُم بسُلطان اللهِ تعالى ، وذلك يدلُّكم على وحدانيَّة اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ إن استطعتُم أن تَهربُوا من الموتِ بالخروجِ من أقطار السموات والأرض فاهربُوا واخرجوا. والمعنى : أنَّكم حيث ما كنتم أدرَكَكم الموتُ ، ولن تستطِيعُوا أن تَهربوا منه.
وُقوله تعالى : { لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } ؛ أي لا تنفُذون إلاَّ بمُلكي ، أي حيث ما كنتم وحيث ما توجَّهتم فثَمَّ مُلكِي وقُدرَتِي. وأقطارُ السموات والأرضِ : أطرَافُهما ونواحيهما. وَقِيْلَ في معنى هذه الآيةِ : يأمرُ الله تعالى الملائكةَ يومَ القيامةِ أن تَحُفَّ بأقطار السموات والأرضِ ، ثم يقالُ للجنِّ والإنس : إنِ استطعتُم أن تَنفذُوا من أقطار السَّموات والأرضِ هَرباً من الحساب والعقاب فاهرُبوا. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ } ؛ أي يرسِلُ على مَن استحقَّ منكما بمعاصيهِ لهبٌ من النار ، والشُّوَاظُ : اللهبُ الذي لا دخانَ فيه. وقرأ ابنُ اكثير (شِوَاظٌ) بكسر الشين وهي لغةُ أهلِ مكة ، قال حسانُ يهجو أُميَّة بن أبي الصَّلت : هَجَوْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ لَهَا بذُلٍّ بقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِقَوْلُهَ تَعَالَى : { وَنُحَاسٌ } ؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو : (وَنُحَاسٍ) بالخفض عَطفاً على النار ، وقرأ الباقون بالرفعِ عطفاً على الشُّواظ. واختلَفوا في معنى النُّحاسِ ، قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ الدُّخانُ) وأكثرُ القراءةِ فيه بالرفعِ عَطفاً على (شُواظٌ) ، والمعنى : يرسلُ عليكما شِوَاظٌ ، ويرسل نحاسٌ ؛ أي يرسِلُ هذا مرَّة وهذا مرَّةً ، ويجوز أن يُرسَلا معاً من غيرِ أن يمتزجَ أحدُهما بالآخرِ. وَقِيْلَ : النحاسُ هو الصُّفْرُ المذابُ يُصَبُّ على رُؤوسِهم ، وقال مقاتلُ : (هِيَ خَمْسَةُ أنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ مُذابٍ تَجْرِي عَلَى رُؤُوسِ أهْلِ النَّار) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَنتَصِرَانِ } ؛ أي فلا تَمتَنِعَانِ عن ما يرادُ بكما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؛ وجهُ إنعامِ الله تعالى علَينا في إنزالِ آيات الوعيدِ : أنه تعالى لَمَّا حذرَنا من العذاب بأبلَغِ أسباب التحذيرِ حتى نتَّقِي المعاصِي خوفاً من عذابهِ ، ونرغَبُ في الطاعاتِ طَعماً في ثوابهِ ، كان ذلك نعمةً منه علينا فلذلك قالَ تعالى { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ } ؛ معناهُ : إذا انشقَّت وذابَتْ حتى صارَتْ حمراءَ كلَونِ الوردةِ الحمراء أو كالدُّهنِ الأحمر من نار جهنَّم مع عِظَمِ السَّماء وكبرها ، فكيف بأبدانِكم الضَّعيفة في ذلك اليوم ، وهذا كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه : أنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْحَدَّادِينَ فَقَالَ : (أمَّا أنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْحَدَّادِينَ أحَقُّ النَّاسِ بالاتِّعَاظِ وَالاعْتِبَار ، أمَا تَرَوْنَ تَأْثِيرَ هَذِهِ النَّار الضَّعِيفَةِ فِي هَذا الْحَدِيدِ الشَّدِيدِ ؟ فَكَيْفَ تَأْثِيرُ تِلْكَ النَّار الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الأَبْدَانِ الضَّعِيفَةِ).
ويقالُ في تشبيهِ السَّماء بالوردةِ : أنَّها تتكوَّنُ في ذلك اليومِ ، قال الحسنُ : (إنَّ السَّمَاءَ أوَّلَ مَا تَنْشَقُّ تَحْمَرُّ ثُمَّ تَصْفَرُّ ثُمَّ تَخْضَرُّ كَالْفَرَس الْوَرْدِ ، تَكُونُ فِي الرَّبيعِ وَرْدَةً إلَى الصُّفْرَةِ ، فَإذا اشْتَدَّتْ كَانَ الشِّتَاءُ كَانَتْ وَرْدَةً حَمْرَاء ، فَإذا كَانَ الْخَرِيفُ كَانَتْ وَرْدَةً أغْبَرَ).
وشبُّهَها بالدهانِ المختلفة التي تُصَبُّ بعضُها على بعضٍ ، والدُّهْنُ والدِّهَانُ واحدٌ ، قال قتادةُ : (إنَّ السَّمَاءَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَسَتَكُونُ يَومَ الْقِيَامَةِ حَمْرَاءَ كَالدِّهَانِ). وَقِيْلَ : إنَّ الدهانَ جمعُ الدُّهن ، قال عطاءُ : (يَعْنِي عَصِيرَ الذائِب) ، وقال ابن جُريج : (مَعْنَاهُ : أنَّ السَّمَاءَ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّهْنُ الذائِبُ وَذلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ نَار جَهَنَّمَ). { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } ؛ يُسأَلُ سُؤالَ استفهامٍ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُظهِرُ على كلِّ مُجرِمٍ علامةً تدلُّ على معصيتهِ ، وعلى كلِّ مُطيعٍ علامةً على إطاعتهِ ، لأنَّ اللهَ تعالى قال بعدَ هذه الآية : { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } ؛ أي بعَلامَتِهم من سَوادِ الوُجوهِ وزُرقَةِ الأعيُنِ ، { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ } ؛ فيُجعَلُ أقدامُهم مغلولةً إلى نواصِيهم مِن خَلْفٍ ويلقَونَ في النار كذلك ، والناصيةُ : شَعرُ مقدمِ الرَّأسِ ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
ويقال للمجرمين عندما يُقذفون في النار : { هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ } ؛ يعني المشرِكين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } ؛ معناهُ : يطُوفون بين أطباقِ النِّيران وبين ماءٍ حارٍّ قد انتهَى حرُّهُ ، إذا استغَاثُوا من الحميمِ من النار ، جُعِلَ غِيَاثُهم الحميمُ الآخر ، وإذا استغَاثُوا من الحميمِ جُعِلَ غِياثُهم النارُ ، فيُطاف بهم مرَّة إلى الحميمِ ومرَّةً إلى النار.
يقال : آنَى يَأْنِي أناً فهو آنٍ ، إذا انتهَى في النُّضجِ والحرارةِ ، قال قتادةُ : (طُبخَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ). حدَّثنا المردوية الصانع قال : صلَّى بنا الإمامُ صلاةَ الصُّبح ، فقرأ فيها سُورةَ الرَّحمن ومَعَنَا عليُّ بنُ الفُضَيلِ ، فلما قرأ { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ } خَرَّ مَغشِيّاً عليه حتى فَزِعنَا من الصَّلاة ، فقُلنا له بعدَ ذلك : يا عليُّ أمَا سَمِعتَ الإمامَ يقولُ : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ }[الرحمن : 72] قالَ : شغَلَنِي عنها { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ؛ معناهُ : ولِمَن خافَ وُقوفَهُ في عرَضَاتِ القيامةِ بين يَدَي اللهِ تعالى ، فتَركَ المعصيةَ رهبةً من اللهِ تعالى له جنَّتان بُستَانَانِ من الياقوتِ الأحمرِ والزمُرُّد الأخضرِ ، تُرَابُهما الكافورُ والعنبَرُ ، وحصَاهُما المسكُ الأَذْفَرُ ، كلُّ بستانٍ منهما مسيرةُ مائةِ سنة ، في وسطِ كلِّ بستانٍ دارٌ من نورٍ ، وقال محمَّد بن علي الترمذي : (جَنَّةٌ دَاخِلَ قَصْرِهِ لِخَوْفِهِ وَجَنَّةٌ خَارجَ قَصْرِهِ لِتَرْكِهِ) ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وفي الحديث : " أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَإذا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَقَدَرَ عَلَيْهَا وتَذكَّرَ مَا فِي ارْتِكَابهَا مِنَ الْعِقَاب ، وَمَا فِي تَرْكِهَا مِنَ الثَّوَاب ، فَتَرَكَهَا فَلَهُ جَنَّتَانِ " هذه صِفتُهما : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ؛ أي ذواتَا أغصانٍ ، واحدُها فَنَنٌ وهو الغصنُ المستقيم طُولاً. وقال الزجَّاحُ : (الأَفْنَانُ : الأَلْوَانُ وَالأَغْصَانُ) أي ذواتَي الألوانِ وأصنافٍ من الفاكهةِ لا يُعدَمُ فيه لونٌ من ألوانِها ، واحدُها فَنٌّ ، وجمعَ عطاءُ بين القولَين فقالَ : (يُرِيدُ فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ) ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
وفي ذكرِ الأغصان بيانُ كَثرَةِ الأشجار ، وبكثرةِ الأشجار تمامُ حالِ البُستان ، فإنَّ البستانَ لا يكملُ إلاَّ بكثرةِ الأشجار ، والأشجارُ لا تحسُن إلاَّ بكثرةِ الأغصانِ ، { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ؛ أي في البساتينِ عَينان تجريان ، إحداهما : السَّلْسَبيلُ ، والأُخرى : التَّسْنِيمُ ، تجرِيان في غيرِ شِقٍّ ولا أُخدُودٍ. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } ؛ أي نَوعَان وصِنفَان ، حلوٌ وحامضٌ ، وأحمرٌ وأصفرٌ ، ورَطبٌ ويابسٌ. ويقال : صِنفَان : صنفٌ عَهِدُوهُ في الدُّنيا ، وصنفٌ لم يَعهَدوهُ ولا خطرَ في قلوبهم ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } ؛ أي جالسِين جلسةَ الملوكِ مُكرَمِين على فُرُشٍ بَطَائِنُها من استبرقَ ، البطَانَةُ : الصَّفحَةُ مما يلِي الأَرضَ في البطانةِ ، والاستبرقُ : الدِّيبَاجُ المنسوجُ بالذهب.
وإنما ذُكرت البطائنُ من استبرقَ لتعرف أنَّ البطائنَ إذا كانت هكذا ، فالظاهرُ لا شكَّ أنَّها أشرفُ منها على ما عليهِ العادةُ ، وقال أبو هريرة رضي لله عنه : (هَذِهِ الْبَطَائِنُ ؛ فَمَا ظَنُّكُمْ بالظَّوَاهِرِ). وقيل لسعيدِ بن جُبير : الْبَطَائِنُ مِنْ اسْتَبْرَقَ فَمَا الظَّوَاهِرُ ؟ قَالَ : (هَذا مِمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ }[السجدة : 17]). وقال ابنُ عبَّاس : (وَصَفَ الْبَطَائِنَ وَتَرَكَ الظَّواهِرَ ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الأَرْضِ أحَدٌ يَعْرِفُ مَا الظَّوَاهِرُ؟).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } ؛ أي ثَمَرُهما قريبٌ مُتَنَاوَلُهُ ، يناوَلهُ القائمُ والقاعد والمضطجعُ ، يأخذهُ كيف ما أرادَ ، ويدنُو إلى أفواهِهم حتى يناولونَهُ بالأفواهِ ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } ؛ أي في هاتَين الجنَّتين وما حولهما من الجنانِ حورٌ غاضَّاتُ الأعيُن ، قد قَصَرْنَ أطرَافَهُنَّ على أزواجِهن لا ينظُرنَ إلى غيرِهم ولا يَبغِينَ بهم بدَلاً.
والطَّرْفُ : جَفْنُ العينِ ، ويجوز أن يكون معنى { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي في الفُرُشِ التي بَطائِنُها من استبرقَ ، وقال زيدٌ : (إنَّ الْمَرْأةَ مِنَ الْحُور الْعِينِ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ تَقُولُ لِزَوْجِهَا : وَعِزَّ رَبي مَا أرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْكَ ، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنِي زَوْجَكَ وَجَعَلَكَ زَوْجِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } ؛ أي لم يَفْضُضْهُنَّ ، والطَّمْثُ : هو النكاحُ بالتدميةِ ، وامرأةٌ طَامِثَةٌ ؛ أي حائضٌ ، وطَمَثْتَ الجاريةَ إذا افْتَرَعتَها ، والمعنى : لم يَغْشَهُنَّ ولا يُجامِعهُنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌّ ؛ لأنَّهن خَلقَهُنَّ في الجنَّة ، وَقِيْلَ : الطمثُ هو الْمَسُّ ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } ؛ أي كأنَّهن في صَفاءِ الياقوتِ وبياضِ المرجان ، والمرجانُ : هو صغارُ اللُّؤلؤ وهو أشدُّ بيَاضاً من كبارهِ. وعن عبدِالله بن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّ الْمَرْأةَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ يُرَى بَيَاضُ مُخِّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ " ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ } ؛ أي ما جزاءُ مَن أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إليه في الآخرةِ ، قال ابنُ عباس : (هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَعَمِلَ بمَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إلاَّ الْجَنَّةُ). وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " هَلْ جَزَاءُ مَنْ أنْعَمْتُ عَلَيْهِ بمَعْرِفَتِي وَتَوْحِيدِي إلاَّ أنْ أُسْكِنَهُ جَنَّتِي وَحَضِيرَةَ قُدْسِي برَحْمَتِي " { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63)
قوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } ؛ معناهُ وله جنَّتان سِوَى الجنَّتين الأَوليَين ، وهما دون الأُوليين. قال بعضُهم : أرادَ بالجنَّتين الأُولَين جنَّتين في العُلُوِّ ، وأراد بهذين جنَّتين في السُّفلِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " هُمَا جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ " وَقِيْلَ : معناهُ : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } أي أقربُ إلى قصرهِ ومَجَالسهِ من الجنَّتين الأُوليين ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُدْهَآمَّتَانِ } ؛ أي خَضرَاوَانِ تضربُ خُضرَتُهما من الرَّائي إلى السَّواد ، وذلك أحسنُ ما يكون في الْخُضرَةِ أولاهم الأسودُ ، يقال : ادْهَامَّ الزرعُ إذا علاهُ السَّواد رَياً. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } ؛ أي فوَّارَتان بالماءِ من الامتلاءِ ، تنضخُ على أولياءِ الله بالمِسْكِ والعنبرِ والكافور والخير والبركة ، بخلافِ العَينين للأُوليين ، والنضخُ أكثر من النضح ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ؛ أي فيهما ألوانُ الفاكهةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرُمَّانٌ } يستدلُّ لأبي حنيفة أنَّ النخلَ الرُّمان ليسَا من الفاكهةِ ؛ لأن الشيءَ لا يعطفُ على نفسهِ ، وعند أبي يوسفَ ومحمَّد هما من الفاكهةِ ، وإنَّ عَطفَهما على الفاكهةِ لزيادةِ معنى فيهما لا يوجدُ في سائرِ الفواكهِ ، كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ }[البقرة : 98]. ورُوي : أنَّ نخيلَ الجنةِ ، عُروقُها من فضَّة ، وجذوعُها ذهبٍ ، وسقفها حُلَلٌ ، وثمرُها أحلَى من العسلِ وأليَنُ من الزُّبد ، ليس له عجمٌ ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } ؛ قرأ أبو رجَاء (خَيِّرَاتٌ) بالتشديدِ ، وما لُغتان مثل هَين وهَيِّنٍ ولِينِ ولَيِّنٍ ، وعن أُمِّ سلمَةَ قالت : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخْبرْنِي عَنْ قَوْلِهِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } قَالَ : " خَيِّرَاتُ الأخْلاَقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ " وَقِيْلَ : خيِّراتٌ فاضلات مختاراتٌ ليس بذربَاتٍ ولا دَفواتٍ ولا بَحِراتٍ ولا مُتسَلِّطاتٍ ولا طمَّاحَاتٍ ولا طوَّافات في الطُّرق ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؛ .
(0/0)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ } ؛ الحورُ البيضُ الحسانُ البياضِ ، والمقصوراتُ هن المحجوباتُ المحبوسات والْمَصُونَاتُ. والخِيَامُ : جمعُ خيمةٍ ، وهي خيمةٌ من دُرَّةٍ مجوَّفةٍ فيها أربعةُ آلافِ مِصرَاعٍ من ذهبٍ ، طولُ الخيمةِ في السَّماء ستُّون ميلاً ، في كلِّ زاويةٍ أهلٌ لا يرَاهم الآخَرُون. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } ؛ يعني أنَّ صِفَتَهُنَّ كصفةِ القاصرات الطَّرفِ. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)
وقولهُ تعالى : { مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } ؛ قال أبو عُبيدة : (الرَّفْرَفُ : الْبُسُطُ) قاله الضحَّاكُ ومقاتلُ والحسن. وقال الزجَّاجُ : (الرَّفْرَفُ هَهُنَا ريَاضُ الْجَنَّةِ). وَقِيْلَ : الرَّفرَفُ الوسائدُ. وأما العبقريُّ : فهو البُسُطُ من الزَّرَابيِّ وغيرِها ، وكلُّ ما بُولِغَ في وَصفهِ فهو عبقريٌّ ، وأصلهُ أنَّ عَبْقَرِيَّ اسمُ بلدٍ كان يُوَشَّى فيها البُسُطُ ، وكانت العربُ تعتقدُ أنَّ أفضلَ البُسُطِ ما نُسِجَ بعَبْقَرَ ، فأضافَهُ اللهُ تعالى على عادَتِهم. { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }.
(0/0)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ } ؛ أي عَظُمَتِ البركةُ في اسمِ ربكَ ، فاطلبُوا البركةَ في كلِّ شيء يُذكَرُ فيه اسمهُ ، قرأ ابنُ عامر (ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ).
(0/0)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)
{ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : إذا قَامَتِ الْقِيَامَةُ) ، والواقعةُ اسمُ القيامةِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : إذا نزَلتِ الصَّيحَةُ وتلك النفخةُ الآخرة.
(0/0)
لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } ؛ أي لِمَجِيئها وظُهورها كاذبةٌ ولا ردٌّ ولا خلاف ، وقوله { رَّافِعَةٌ } أي تخفِضُ ناساً وترفعُ آخَرين ، قال عطاءُ : (تَخْفِضُ أقْوَاماً كَانُواْ فِي الدُّنْيَا مُرَفَّعِينَ ، وَتَرْفَعُ أقْوَاماً كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُتَّضِعِينَ). وَقِيْلَ : تخفضُ قوماً إلى النار ، وترفعُ آخَرين إلى الجنَّة.
(0/0)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً } ؛ أي زُلزِلَتِ الأرضُ ورُجِّعَتْ وتحرَّكت حركةً شديدة حتى ينهدمَ كلُّ بناءٍ على وجهِ الأرض. قولهُ : { وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً } ؛ أي فُتَّتْ فَتّاً فصارت كالدَّقيق الْمَبْسُوسِ وهي المبلولُ ، والبَسِيسَةُ عند العرب الدقيقُ والسَّوِيقُ يُلَتُّ ويُتَّخذ زَاداً. قِيْلَ : إنَّ الجبالَ تصيرُ يومئذٍ كالدَّقيق أو السَّويق.
(0/0)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)
وقوله تعالى : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } ؛ أي صَارَتْ غُباراً متفَرِّقاً كالذي يسفعُ من حوافرِ الدَّواب ، ويحولُ في شُعاعِ الشَّمسِ إذا دخلَ من الكُوَّةِ وهو الهباءُ ، فيَقبضُ القابضُ فلا يحصِّلُ بيدهِ ، وقرأ النخعيُّ (مُنْبَتّاً) بالتاء أي مُنقَطِعاً.
(0/0)
وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } ؛ معناهُ : وكنتم يومئذٍ أصْنَافاً ثلاثةً ، ثم فسَّرَهم فقالَ اللهُ : { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } ؛ يعني الذين يُعطَون كُتُبَهم بأَيمانِهم. وَقِيْلَ : همُ الذين يُسلَكُ بهم ذاتَ اليمينِ إلى الجنَّة.
(0/0)
وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } ؛ هم أصحابُ الشُّؤْمِ والتكذيب ، وَقِيْلَ : هم الذين يُعطَون كُتبَهم بشِمَالهم ، ويُسلَكُ بهم طريقَ الشِّمال إلى النار ، ويقالُ لليد اليُسرى الشَّوْمَاءَ ، قال الشاعرُ : الشَّتْمُ وَالشَّرُّ فِي شَوْمَاءِ يَدَيْكَ لَهُمْ وَفِي يَمِينِكَ مَاءُ الْمُزْنِ وَالضَّرْبومنه الشَّامُ واليمنُ ؛ لأن اليمنَ على يمينِ الكعبةِ ، والشامُ على شِمَالِها إذا دخلتَ الحِجْرَ تحت الميزاب. وَقِيْلَ : هم الذين كانوا على شِمَالِ آدمَ عندما أخرجَ الذُّريةَ ، وقال اللهُ لَهم : " هَؤُلاَءِ فِي النَّارِ وَلاَ أبَالِي ".
وقولهُ تعالى : { مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ } و { مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ } تعجيبٌ لشأنِ أصحاب الْمَيمَنَةِ في الخيرِ ، والترغيبُ في طريقتِهم كما يقالُ : فقيهٌ أيُّ فقيهٍ ، وتعظيمٌ لشَرِّ أصحاب المشأَمة والتحذيرُ عن طريقتِهم.
(0/0)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } ؛ بيانٌ للصنِّفِ الثالثِ ، والمعنى : والسَّابقون في الدُّنيا إلى الطاعاتِ ، هم السَّابقون في العُقبَى إلى الدرجاتِ ، وَقِيْلَ : همُ الذين سَبَقوا إلى توحيدِ الله والإيمانِ برسوله.
وقال ابنُ سِيرين : (هُمُ الَّذِينَ صَلَّواْ إلَى الْقِبْلَتَيْنِ ، وَشَهِدُواْ بَدْراً) ، دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ }[التوبة : 100] ، وقال ابنُ عبَّاس : (هُمُ السَّابقُونَ إلَى الْهِجْرَةِ) ، وقال عليٌّ رضي الله عنه : (هُمُ السَّابقُونَ إلَى الصَّلوَاتِ الْخَمْسِ) ، وقال ابنُ جبير : (الْمُسَارعُونَ إلَى التَّوْبَةِ وَإلَى أعْمَالِ الْبرِّ) ، ونظيرهُ{ سَابِقُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }[الحديد : 21] ، وقال{ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }[المؤمنون : 61].
(0/0)
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ؛ أي همُ المقرَّبُون إلى كرامةِ الله تعالى وجزيلِ ثَوابهِ في أعلَى الدرجاتِ ، ثم أخبرَ أين محِلُّهم فقالَ { فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ } ؛ أي جماعةٌ من أوائلِ الأُمم مِمَّن صدَّق بالنبيِّين من ولدِ آدم إلى زمانِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ } ؛ أي مِن هذه الأُمَّة ، وذلك أنَّ الذين عَايَنُوا جميعَ النبيِّين وصدَّقُوا بهم أكثرُ ممن عايَنَ نبيَّنا صلى الله عليه وسلم ، ألاَ ترَى إلى قولهِ تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }[الصافات : 147] هؤلاءِ سِوَى مَن آمنَ بجميعِ الأنبياء وصدَّقَهم ، والثُّلَّةُ في اللغة : هي الْقِطْعَةُ ، الكثرةُ من النَّاسِ ، والجماعةُ الذين لا يُحصَى عدَدُهم.
(0/0)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } ؛ أي على سُرُرٍ منسُوجَةٍ بقُضبَانِ الذهب والفضة والجواهرِ ، قد أُدخِلَ بعضُها في البعضِ مضاعفةً. قال الأعشَى : وَمِنْ نَسْجِ دَاوُودَ مَوْضُونَةً تُسَاقُ مَعَ الْحَيِّ عِيراً فَعِيرَاوإنما قالَ { عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } لأنَّها إذا كانت على هذهِ الصِّفة ، كانت أنعمَ وألينَ من السُّرُر التي تُعمَلُ من الخشب ، قال الكلبيُّ : (طُولُ كُلِّ سَرِيرٍ ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ ، فَإذا أرَادَ الْعَبْدُ أنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا تَوَاضَعَتْ ، فَإذا جَلَسَ عَلَيْهَا ارْتَفَعَتْ). وقال الضَّحاكُ : (مَوْضُونَةٌ : أيْ مَصْفُوفَةٌ) ، يقالُ : آجُرٌّ مَوْضُونٌ إذا صُفَّ بعضهُ على بعضٍ.
(0/0)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } ؛ أي جَالِسين عليها جلسةً الملوكِ للرَّاحةِ مُتقَابلِينَ ، يقال بعضُهم بعضاً في الزِّيادة : إذا اشتهَى أحدُهم حديثَ صاحبهِ ، ألقَى اللهُ في نفسِ الآخرِ مثلَ ذلك ، وأمَرَ كلُّ واحدٍ منهم بسَرِيرِه فأُخرِجَ على باب مَنْزلهِ ، ثم جلَسَا على سَريرَيهِما يتحدَّثان ، يسمعُ كلُّ واحدٍ منهما حديثَ صاحبهِ وإن بَعُدَ عنهُ ، وإذا شاؤوا سارَتْ سريرُهم إلى حيث يشَاؤونَ.
(0/0)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } ؛ أي يطوفُ عليهم للخِدمَةِ غِلمَانٌ لا يهرَمُون ولا يتغيَّرون ولا يموتون ، خُلِقُوا للخُلودِ وهم دَائِمُون ، ويقالُ : معنى { مُّخَلَّدُونَ } مقرَّطُون مُسَوَّرونَ من الْخِلْدَةِ وهي الْحُلِيُّ ، يقالُ : خَلَّدَ جَاريَتَهُ إذا أحْلاَها بالْخُلْدِ وهو القُرْطُ.
(0/0)
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ } ؛ الأكوابُ جمعُ كُوبٍ ، وهي الكيزانُ العِظَامُ المدوَّرَةِ الرؤوس التي لا آذانَ لها ولا خرطومَ ولا عُرًى ، والأباريقُ والأوانِي التي لها عُرًى وخراطيمُ ، واحدها إبريقٌ ، وهو الذي يَبرِقُ من صفائهِ وحُسنهِ وبريقِ لَونهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } ؛ الكأسُ : الإناءُ الذي فيه الشَّرابُ ، والْمَعِينُ : الخمرُ الذي يجرِي من العُيون الظَّاهرةِ لا في الأُخدُودِ ، والمعنى : وكأسٍ من خمرٍ جارية. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } ؛ أي لا يُصِيبُهم من شربها صداعٌ كما يكون في شُرب خمرِ الدُّنيا ، ولا تَنْزِفُ عقُولُهم ، يقال للرَّجُلِ إذا سَكِرَ : نَزَفَ عقلهُ ، والنَّزِيفُ هو السُّكرَانُ.
(0/0)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ } ؛ معناه : ويُؤتَونَ بفاكهةٍ مما يتخيَّرون ليس لها فناءً ولا نَوَى ، ظاهرُها مثلُ باطِنها ، وباطِنُها مثلُ ظاهِرها.
(0/0)
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } ؛ يُؤتَون بلحمِ طيرٍ مما يتمَنَّون ، كما رُوي في الحديثِ : " أنَّهُمْ إذا اشْتَهَوا لَحْمَ الطَّيْرِ وَقَعَ بَيْنَهُمْ مَشْوِيّاً ، فَيَتَنَاوَلُونَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ ، ثُمَّ يَطِيرُ كَمَا كَانَ " وهذا لأنَّ الذبحَ لا يكون إلاَّ بإراقةِ الدمِ ، وذلك لا يكون في الجنَّة.
وعن أبي سعيدٍ الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْراً فِيْهِ تِسْعُونَ ألْفَ ريشَةٍ ، يَجِيءُ فَيَقَعُ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ يَنْتَفِضُ فَيَخْرُجُ مِنْ كُلِّ ريشَةٍ لَوْنُهُ أبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ وَألْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ وَأعْذبُ مِنَ الشَّهْدِ ، لَيْسَ فِيْهِ لَوْنٌ يُشْبهُ الآخَرَ ، ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ ".
(0/0)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُورٌ عِينٌ } ؛ قرأ أبو جعفرٍ وحمزةُ والكسائي (وَحُورٍ) بالخفضِ على معنى ويُنَعَّمُونَ بحُورٍ عينٍ ، ويجوزُ أن يكون خَفْضاً على الْمُجَاوَرَةِ ؛ لأنه معطوفٌ على قولهِ { وَفَاكِهَةٍ... وَلَحْمِ طَيْرٍ }.
والْحُورُ : الْبيضُ الْحِسَانُ ، والعِينُ : الواسعةُ الأَعيُنِ حِسَانُها ، وقرأ النخعيُّ وأشبهَ العقلي (وَحُوراً عِيناً) بالنصب على معنى ويُزَوَّجُونَ حُوراً عِيناً ، وبالرفع على معنى : ولهم حورٌ عين.
(0/0)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } ؛ معناهُ : أنَّ صفاءَ هذه كصَفاءِ الدُّرِّ حين يخرجُ من صَدَفِهِ قبلَ أن تُصِيبَهُ أو هواءٌ أو شمس أو غبارٌ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " خُلِقَ الْحُورُ الْعِينُ مِنْ زَعْفَرَانٍ " وعن أبي أُمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ وَهُوَ مُزَوَّجٌ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً ، لَيْسَ مِنْهُنَّ امْرَأةٌ إلاَّ وَلَهَا قُبُلٌ شَهِيٌّ ، وَلَهُ ذكَرٌ لاَ يَنْثَنِي ".
وعن ابنِ مسعودَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " سَطَعَ نُورٌ فِي الْجَنَّةِ ، فَقَالُواْ : مَا هَذا ؟ قَالُواْ : ضَوْءُ ثَغْرِ حُورٍ تَبَسَّمَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا ".
ويُروى : أن الحورَ إذا مشَتْ سُمِعَ تقديسُ الْخَلاَخِلِ وتمجيدُ الأَسَاور في سَاعِدَيها ، إن عِقْدَ الياقوت في نَحرِها ، في رجلَيها نَعلاَنِ من ذهبٍ شِراكُهما من اللُّؤلؤ يَصِيرَّانِ بالتسبيحِ والتحميدِ.
(0/0)
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ فيه بيانُ أنَّ هذه الأشياءَ جزاءٌ لهم على أعمالِهم الصالحةِ التي كانوا يعملونَها في الدُّنيا.
(0/0)