إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } ؛ معناه : إلاّ التائبينَ منهم ، ويجوزُ أن يكون نَصْباً استثناءً من غيرِ الأوَّل على معنى لكِنْ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولا ينقصونَ من حسناتِهم.
(0/0)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَـانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ } ؛ أي بساتينَ إقامةٍ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْغَيْبِ } يعنِي أنَّهم غابُوا عن ما فيها ، وانتصبَ قولهُ { جَنَّاتِ } ؛ لأنه بدلٌ من الجنةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } ؛ أي مُوعُودهُ آتِياً كائناً ، وإنَّما لَم يقل آتِياً ؛ لأنه كلَّ ما أتاكَ فقد أتيتَهُ.
(0/0)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } ؛ أي لا يسمعونَ في الجنَّةِ كَلاماً ساقطاً ، ولا يسمعونَ إلاّ سلاماً ، يُسَلِّمُ بعضُهم على بعضٍ ، والسَّلاَمُ هو الكلامُ الذي لا لغوَ فيهِ ولا إثْمَ. وَقِيْلَ : معناه : لا يسمعونَ في الجنةِ كلاماً بَاطلاً وفحشاءَ وهدرًا وفُضولاً من الكلامِ. وقال مقاتلُ : (يَمِيْناً كَاذِبَةً وَلاَ يَسْمَعُونَ إلاَّ سَلاَماً ، يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ ، وَيُرْسِلُ إلَيْهِمْ الرَّبُّ بالسَّلاَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ، قال المفسِّرون : ليس في الجنَّةِ بُكْرَةً وعشيَّةً ، ولكنَّهم يؤتَون رزقَهم على مقدار ما يعرفون من الغَذَاءِ والعشاءِ ، قال قتادةُ : (كَانَ الْعَرَبُ إذا حَصَلَ لأَحَدِهِمْ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ أُعْجِبَ بهِ ، فأخبرَ اللهُ تعالى أنَّ لَهم في الجنَّةِ رزْقَهم بكرةً وعشيّاً على قدرِ ذلك الوقتِ) ؛ أي يُجْمَعُ لَهم الطعامُ في هذين الوقتينِ كما يكونُ في الدُّنيا ، ويأكلونَ فيما عدَا هذين الوقتينِ ما يشتهون كما في الدُّنيا.
(0/0)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } ؛ أي هذه الجنةُ التي وصَفَها اللهُ تعالى هي التي نورثُ من اتَّقَى معصيةَ الله ، وعَمِلَ بالطاعةِ والإيْمانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نُورِثُ } أي نُعطي ، وإنَّما قال { نُورِثُ } ؛ لأن اللهَ تعالى أوْرَثَهم من الجنةِ مساكنَ أهلِ النار لو اطَّلَعُوا. وَقِيْلَ : لأنه تَمليكٌ في حالِ مبتدأ بعدَ انقضاءِ أجَلِ الدُّنيا.
(0/0)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } ؛ وذلك " أن جبريلَ عليه السلام أبْطَأَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالوحيِ ، فلَّما أتاهُ قالَ لهُ : " مَا زُرْتَنَا حَتَّى اسْتَبْطَأْنَاكَ ". وَقِيْلَ : قَالَ لَهُ : " مَا يَمْنَعُكَ يَا جِبْرِيْلُ أنْ تَزُورَنَا أكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا ". فأنزلَ اللهُ عُذْرَ جبريلَ " والمعنى : قُلْ لهُ وما نَتَنَزَّلُ مِن السَّماء إلاَّ بأَمْرِ رَبكَ. وَقِيْلَ : " اسْتَبْطَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جِبْرِيْلَ ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ : " يَا جِبْرِيْلُ أبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى سَاءَ ظَنِّي فاشْتَقْتُ إلَيْكَ " فَقَالَ لَهُ : إنِّي كُنْتُ إلَيْكَ أشْوَقَ ، وَلَكِنِّي عَبْدٌ مَأْمُورٌ ، إذا بُعْثْتُ نَزَلْتُ ، وَإذا حُبسْتُ احْتَبَسْتُ. فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلِكَ } ؛ أي لهُ ما بينَ أيدينا من أمرِ الدُّنيا وما خلفَنا من الآخرةِ ، وَمَا بَيْنَ ذلِكَ ؛ يعني : ما بينَ النَّفختَين وبينَهُما أربعون سَنةً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ؛ أي وما كان ربُّكَ ليَتْرُكَكَ ، وإن تأخرَ عنك رسولهُ.
(0/0)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ } ؛ أي إصبرْ على أمرهِ ونَهْيهِ حتى الموتِ ، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ؛ أي شَبيهاً ومِثْلاً يُعْبَدُ ، وَقِيْلَ : هل تَعْلَمُ مَن يستحقُّ الإلهيَّةَ سواهُ ، وَقِيْلَ : هل تعلمُ أحداً يُسَمَّى اللهَ غيرَهُ ، وَقِيْلَ : هل تعلمُ مِن أحدٍ سُمِّيَ ربَّ السَّمواتِ والأرضِ.
(0/0)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجَمْحِيُّ ، قَالَ هَذا الْقَوْلَ إنْكَاراً لِلْبَعْثِ). وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } أي أُخْرَجُ من القبرِ حيّاً ؛ استهزاءً وتكذيباً منه للبعثِ.
(0/0)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } ؛ قرأ نافعُ وابن عامر وعاصم : (أوَلاَ يَذْكُرُ) بالتخفيف ، وقرأ الباقون بالتشديدِ وهو الاختيارُ ؛ أي أوَلاَ يَتَّعِظُ ويتفكَّرُ ، وعلى القراءةِ الأُولى (يَذْكُرُ) بالتخفيفِ ضد النِّسيانِ ، والمعنى : أوَلاَ يَتَّعِظُ الإنسانُ أنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نطفةٍ ، { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } ؛ موجُوداً ، فيُستَدلُّ بالابتداءِ على الإعادة.
(0/0)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } ؛ يعني المنكرينَ للبعثِ ، أقْسَمَ اللهُ تعالى على نفسهِ لنَحْشُرَنَّهُمْ مِن قبورِهم مع الشياطينِ الذين أضَلُّوهم ، { ثُمَّ } لَنَجْمَعَنَّهُمْ ، { لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } ؛ بَارِكِيْنَ على الرُّكَب ؛ لأن المحاسبةَ إنَّما تكونُ بقُرْب جهنَّمَ ، يُقْرَنُ مع كلِّ كافرٍ شيطانٌ في سِلْسِلَةٍ.
(0/0)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَـانِ عِتِيّاً } ؛ أي ثُم لَنُخْرِجَنَّ مِن كلِّ فرقةٍ وجماعة أيُّهمِ أشدُّ على الرَّحمنِ تَمَرُّداً وجُرْأةً وفُجُوراً وكُفْراً بدءاً بالأَعْتَى فالأعتَى ، والأكثرُ جُرماً. قالَ قتادةُ : (الْمَعْنَى : لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ وَأهْلِ دِيْنٍ قَادَتَهُمْ وَرُؤَسَاءَهُمْ فِي الشَّرِّ).
والشِّيْعَةُ : الْجَمَاعَةُ المعاونونَ على أمرٍ من الأمور. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيُّهُمْ } رُفِعَ على الاستثناءِ ، و { لَنَنزِعَنَّ } يعملُ في موضعِ { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } ، هذا قولُ يونسَ. وقال الخليلُ : على معنى الذين يقالُ لَهم أيُّهم أشدُّ فَلَنُخْرِجَ.
(0/0)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً } ؛ أي نحنُ أعلمُ بالأَوْلى بدخولِ النار وشدَّة العذاب ، وأحقُّهم بعظيمِ العقاب. والصِّلِيُّ : هو اللُّزُومُ ، من قولِهم صَلِيَ بالنارِ صِلِيّاً.
(0/0)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ؛ اختلَفُوا في الخطاب الذي في أوَّل هذه الآيةِ ، قال بعضُهم : هو راجعٌ إلى الكفارِ ؛ لأنه تقدَّمَه قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً }[مريم : 70] ، وقالَ الأكثرون : هذا خطابٌ مبتدَأ لجميعِ الخلقِ ، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ } ؛ أي نُنْجِي مِن الواردينَ مَنِ اتَّقَى.
ثُم اخْتَلَفَ هؤلاءِ أيضاً في معنى الْوُرُودِ ، قال بعضُهم : هو الدُّخُولُ كما في قولهِ تعالى{ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ }[هود : 98] أي أدْخَلَهم النارَ ، وقالوا : إلاّ أنَّها تكونُ على المؤمنينَ بَرْداً وسَلاماً ، واستدلُّوا بما روى جابرٌ رضي الله عنه : أنَّهُ أهْوَى بيَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَقَالَ : صُمَّتا إنْ لَمْ أكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " الْوَرُودُ الدُّخُولُ ، لاَ يَبْقَى بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ إلاَّ دَخَلَهَا ، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ بَرْداً وَسَلاَماً ، كَمَا كَانَتْ عَلَى إبْرَاهِيْمَ ، حَتَّى أنَّ لِلنَّارِ ضَجِيْجاً بوُرُودِهِم " ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثةُ أوْلاَدٍ لَمْ يَلِجِ النَّارَ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ ، ثُمَّ قَرَأ : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ".
ومعنى القَسَمِ : أن أولَ هذه الآيةِ فيها إضمارُ القَسَمِ ؛ تقديرهُ : وَاللهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَارِدُهَا ، ورُويَ عن ابنِ مسعود أنهُ قال : " الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ ، تَمُرُّ عَلَيْهِ الطَّائِفَةُ الأُوْلَى كَالْبَرْقِ ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيْحِ ، وَالثَّالِثَةُ كَالْجَوَادِ السَّابقِ ، وَالرَّابعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ سَلِّمْ ؛ اللَّهُمَّ سَلِّمْ "
وعن أبي هريرةَ : أنَّهُ أوَى إلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ : (يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي ، فَقَالَتِ امْرَأتُهُ مَيْسَرَةُ : إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أحْسَنَ إلَيْكَ ، هَدَاكَ إلَى الإسْلاَمِ. قَالَ : أجَلْ ؛ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا أنَّا لَوَارِدُونَ النَّارَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أنَّا خَارجُونَ مِنْهَا).
وقال بعضُهم : الورودُ هو الإشرافُ على النار بلا دخولٍ ؛ لأن موضعَ المحاسبةِ يكون قريباً من النار ، وقد قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ }[القصص : 23] ولَم يكن موسى دَخَلَ الماءَ ، واستدَلُّوا بما روي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَاحِدٌ شَهِدَ بَدْراً أو الْحُدَيْبيَةَ ".
وعن مجاهدٍ أنهُ قالَ : (الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ). فعلَى هذا مَن حَمَّ مِن المسلمينَ فقد وَرَدَهَا ، لأن الْحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَّم.
" وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَادَ مَرِيْضاً مِنْ وَعَكٍ كَانَ بهِ ، فَقَالَ لَهُ : " أبْشِرْ ؛ إنَّ اللهَ يَقُولُ : هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّار ".
قال الزجَّاجُ : (وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ }[الأنبياء : 101-102]) وهذهِ حُجَّةٌ لا معارضَ لَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } ؛ الْحَتْمُ : القطعُ بالأمرِ ، والمقضيُّ هو الذي قَضَى بأنه يكونُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَواْ } ؛ أي الذينَ اتَّقوا الشركَ وصدَّقوا ، { وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } ؛ أي وَنَذرُ المشركينَ فيها جِثِيّاً على الرُّكب.
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ معناهُ : وإذا تُتْلَى على الكفَّار آياتُ القُرْآنِ الْمُنَزَّلَةِ قالُوا { لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ } ؛ أي الدِّينين ، { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } ؛ خيرٌ مَسْكناً وخيرٌ مجلساً في الدُّنيا ، فكذلكَ يكون في الآخرةِ.
يعني أنَّ مشركي قريشٍ كانوا يقولون لفقراءِ المؤمنين : أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً ؛ نُحْنُ أم أنتم ؟ والْمَقَامُ والمسكن والمنْزِلُ والنَّدِيُّ والنادي : مجلسُ القوم ومجتمعُهم ، وكانوا يلبسون أحسنَ الثِّياب ، ثُمَّ يقولون مِثْلَ هذا للمؤمنين.
فأجابَهم اللهُ تعالى بقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } ؛ أي وَكَمْ أهلكنا قبلَ قُريشٍ مِن الأمم الخاليةِ هُم أحسنُ أموالاً وأحسنُ منظراً ، والأثاثُ : المالُ ، جَمْعُ الإبلِ والغنمِ والعبيد والمتاعِ ، وقال الحسنُ : (الأَثَاثُ : اللِّبَاسُ ، وَالرِّئِيُّ : الْمَنْظَرُ).
وقُرِئَ (وَرِياً) بغيرِ همزٍ من الرَّيِّ الذي هو ضدُّ العطشِ ، والمرادُ : أن منظَرَهم مُرْتَوٍ من النعمةِ كأنَّ النعيمَ بيِّن فيهم ؛ لأن الرِّيَّ يتبعهُ الطَرَاوَةُ ، كما أنَّ العطشَ يتبعهُ الذُّبولُ.
(0/0)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَـالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَـانُ مَدّاً } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : مَن كان في العمايةِ عن التوحيدِ ، ودِين الله فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ ؛ أي لِيَزِدْ في مالهِ وعُمره وولدهِ ، ويقالُ : لَيَدَعُهُ اللهُ في طُغيانه حتى إذا وصلَ الآخرةَ لَم يكن له فيها نصيبٌ. وهذا اللفظُ أمْرٌ ؛ ومعناهُ الخبرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ } ؛ يعني الذين مَدَّهُمُ اللهُ في الضلالةِ. وأخبرَ عن الجماعةِ لأنَّ لفظَ (مَنْ) يصلحُ للجماعةِ.
ثُم ذكرَ ما يوعدون ، فقال : { إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ } يعني القتلَ والأسرَ والقيامةَ والخلود في النارِ ، { فَسَيَعْلَمُونَ } ؛ حينئذ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } ؛ أي أهُمْ أمِ المؤمنونَ ؛ لأن مكانهم جهنمُ ، ومكانَ المؤمنين الجنَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَضْعَفُ جُنداً } ؛ هذا ردٌّ عليهم في قولِهم : أيُّ الْفرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً ، وَأحْسَنُ نَدِيّاً.
(0/0)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى } ؛ أي يَزيدُهم هذا بالإيْمانِ والشَّرائع ، ويزيدُهم هُدًى بالأدلَّة والحجَجِ والطاعاتِ التي تَدْعُو إلى الحسناتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُها ، سُميت باقياتٍ ؛ لبقاء ثوابها للإنسانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } ؛ أي أنفعُ من مقاماتِ الكفَّار التي يفتخرون بها ، { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } ؛ أي وأفضلُ مَرْجِعاً في الآخرةِ ، وأفضلُ ما يُرَدُّ على صاحبهِ.
(0/0)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } ؛ أنزلت هذه الآيةُ في العَاصِ بْنِ وَائِلٍ ، قال خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ : (كَانَ لِي دَيْنٌ عَلَى الْعَاصِ ابْنِ وَائِلٍ ، فَحَسِبَ دَيْنَهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : لاَ أقْضِيْكَ حَتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ ، قال : لاَ وَاللهِ ؛ لاَ أكْفُرُ بمُحَمَّدٍ حَيّاً وَلاَ مَيِّتاً وَلاَ حِيْنَ أُبْعَثُ ، قَالَ : فَدَعُ مَالَكَ ، فَإذا بُعِثْتُ أُعْطِيْتُ مَالاً وَوَلَداً وَأُعْطِيْكَ هُنَالِكَ - قالَ ذلكَ مستهزءاً - قَالَ : فَذكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة).
وقال الحسنُ : (نَزَلَتْ فِي الْوَلِيْدِ بَنِ الْمُغِيْرَةِ) ، ومعنَى : لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً : لَئِنْ كَانَ ما يقولُ مُحْمَّدٌ في الآخرةِ حَقّاً لأُعَطَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً فِي الآخِرَةِ. ومَن قرأ (وَوُلْداً) بالضمِّ ؛ فمعناهُ واحدٌ ، كالْحُزْنِ والْحَزَنِ ، وَقِيْلَ : إنه جمعُ الولدِ كما يقالُ أسَدٌ وَأُسْدٌ.
(0/0)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْداً } ؛ أي أعَلِمَ ذلكَ غيباً أمْ عَهِدَ اللهُ إليهِ عهداً بما تَمنَّى؟! وقال ابنُ عبَّاس : (وَمَعْنَاهُ : مَا غَابَ عَنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ أفِي الْجَنَّةِ هُوَ أمْ لاَ). وقال الكلبيُّ : (أنَظَرَ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْداً } ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ أمْ قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ فَأَرْحَمُهُ بهَا). وقال قتادةُ : (أقَدَّمَ عَمَلاً صَالِحاً يَرْجُوهُ) ، { كَلاَّ } ؛ أي ليس الأمرُ على ما قال : أنه يولِّي المالَ والولد. ويجوزُ أن يكون معناهُ : كَلاَّ إنَّهُ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ ، وَلَمْ يتَّخذْ عندَ الرحمن عهداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } ؛ أي سَنَأْمُرُ الْحَفَظَةَ بإثباتِ ما يقولُ لنجازيَهُ بهِ في الآخرة ، { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً } ؛ أي نزيدهُ عذاباً فوق العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } ؛ أي نَرِثُهُ المالَ والولدَ بعد إهلاكنا إياهُ ، فلا يعودُ بعد ذلكَ إليه ، كما لا يعودُ المال إلى مَن خَلْقَهُ بعد موته ، { وَيَأْتِينَا } ؛ في الآخرةِ ، { فَرْداً } ؛ أي وَحِيْداً خالياً من المالِ والوَلَدِ.
(0/0)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } ؛ أي واتَّخَذ أهلُ مكة مِن دون اللهِ أصناماً آلِهَةً ؛ ليكونوا لَهم أعْوَاناً وشُفعاء في الآخرةِ. والعِزُّ : الامتناعُ من الضمِّ ، فَهُمُ اتخذوا هذه الآلهةَ ؛ ليصيروا بها إلى العزِّ في زَعْمِهِمْ فلا يصيبُهم سوءٌ ، وذلك أنَّهم رَجَوا منها الشفاعةَ والنُّصرةَ والمنعَ من عذاب الله.
(0/0)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَلاَّ } ؛ أي لا يَمنعُهم منِّي شيءٌ ، { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } ؛ أي يَجْحَدُ الآلِهَةُ عبادةَ المشركين لَها كما قالوا : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ }[القصص : 63]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } ؛ أي يصِيرون أعوَاناً عليهم يكذِّبونَهم يلعنونَهم يتبرَّأون منهم.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } ؛ أي ألَم تَعْلَمْ أنَّا خَلَّيْنَا بينَ الشياطين والكفار وسلطانِهم عليهم ، فلَمْ نعصم الكفارَ من القبول منهم ، وتسمَّى التخليةُ إرسالاً في سَعَةِ اللغة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } أي تُزعِجُهم إلى معصيةِ الله تعالى إزعاجاً ، وتغرِيهم إغراءً. وقال القتيبيُّ : (تُحَرِّكُهُمْ إلَى الْمَعَاصِي). وأصلهُ الحركةُ والغَلَيَانُ ، ومنهُ الحديث المرويُّ : " وَلِجَوْفِهِ أزِيْزٌ كَأَزِيْزِ الْمِرْجَلِ ".
(0/0)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } ؛ أي لا تَعْجَلْ بمسألة إهلاكهم ، { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } ؛ أي نَعُدُّ أنفاسَهم نَفَساً بعد نَفَسٍ ، كما نَعُدُّ أيَّامَهم وآجالَهم.
(0/0)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَـانِ وَفْداً } ؛ أي اذْكُرْ لَهم يا مُحَمَّدُ اليومَ الذي نجمعُ فيه مَن اتَّقَى اللهَ في الدُّنيا ؛ أي اجتنبَ الكبائرَ والفواحش إلى دارِ الرَّحْمَنِ ؛ وهي موضعُ الكرامةِ والثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفْداً } أي رُكْبَاناً ، قال ابنُ عبَّاس : (يُؤْتَوْنَ بنُوقٍ لَمْ تَرَ الْخَلاَئِقُ مِثْلَهَا ، عَلَيْهَا رحَالُ الذهَب وَأزِمَّتُهَا الزُّبُرْجُدُ ، فَيَرْكَبُونَ عَلَيْهَا حَتَّى يَقْرُبُوا أبْوابَ الْجَنَّةِ) ، وإنَّما وحَّدَ الوفدَ لأنه مصدرٌ.
(0/0)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ } ؛ أي يحثُّهم على السيرِ إلى جهنم ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وِرْداً } ؛ أي عَطَاشَى مشاةً حفاة عُراةً قد تقطَّعت أعناقُهم من العطشِ ، والوِرْدُ : الجماعةُ التي تَرِدُ الماءَ ، ولا يردُ أحدٌ الماءَ إلاّ بعدَ العطشِ.
(0/0)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ } ؛ أي لا يقدرون على الشفاعةِ ، { إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَـانِ عَهْداً } ؛ أي لكن مَن اتَّخذ عند الرحمنِ عهداً وهم المؤمنون ، فإنَّهم يَملكون الشفاعةَ. قال ابنُ عبَّاس : (شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ). و(مَنْ) في موضعِ نصبٍ على الاستثناء المنقطعِ. قال ابنُ عبَّاس : (لاَ يَشْفَعُ إلاَّ مَنْ قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَتَبَرَّأ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَيْهِ ، وَلاَ يَرْجُو إلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ).
وعن ابن مسعودٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذاتَ يَوْمٍ : " أيَعْجَزُ أحَدُكُمْ أنْ يَتَّخِذ كُلَّ صَبَاحٍ وَمَسَاءٍ عِنْدَ اللهِ عَهْداً؟! " قَالُواْ : كَيْفَ ؟ قَالَ : يقولُ : " اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، إنِّي أعْهَدُ إلَيْكَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بأَنِّي أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ وَحْدَكَ لاَ شَرِيْكَ لَكَ ، وَأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، وَأنَّكَ إنْ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي ، تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ ، وإنِّي لاَ أثِقُ إلاَّ برَحْمَتِكَ ، فَاجْعَلْهُ لِي عَهْداً تُوَفِّينَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. فَإذا قَالَ ذلِكَ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهِ بطَابِعٍ وَوُضِعَ تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ، نَادَى مُنَادٍ : أيْنَ الَّذِيْنَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ".
(0/0)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } ؛ أي قالَ المشركون : الملائكةُ بناتُ اللهِ ، وقالت النَّصارَى : المسيحُ ابنُ اللهِ ، وقالتِ اليهودُ : عزيرٌ ابنُ الله. يقالُ لَهم : { لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } أي مُنكراً عظيماً.
(0/0)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } ؛ أي يَتَشَقَّقْنَ من عِظَمِ هذا القولِ ، { وَتَنشَقُّ الأَرْضُ } ؛ فَتَصَّدَّعُ ، { وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً } ؛ أي يسقطُ بعضُها على بعضٍ بشدَّة صوتٍ ، بأن سَمَّوا ، { أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـانِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } ؛ قرأ أهلُ الحجازِ والكسائي : (يَتَّفَطَّرْنَ) بالتاء مشدَّدةً ، وقرأ نافعُ (يَكَادُ) بالياء لتقدُّمِ الفعل. قال المفسرون : اتخذ الرحمنُ ولداً ، اقشَعَرَّتِ الأرضُ ، وغضبت الملائكةُ ، وأُسْعِرَتْ جهنمُ ، وفَزِعَتِ السمواتُ والأرض والجبالُ.
(0/0)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَـانِ عَبْداً } ؛ أي ما مِن أحدٍ في السَّموات والأرضِ إلاّ سيأتِي الرحمنَ مُقِرّاً بالعبودية ، ويأتيهِ يومَ القيامة عَبْداً ذليلاً. يعني أن الخلقَ كلَّهم عبيدهُ ، وأن عيسى والعُزَيْرَ مِن جملة العبيدِ.
(0/0)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } ؛ أي لقد عَلِمَ عددَهم وأفعالَهم ، ولا يخفَى عليه شيءٌ منهم مع كثرتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } ؛ لا أنْصَارَ لَهم أعوانَ ولا مالَ ولا ولد ، كلُّ امرِيءٍ مشغولٌ بنفسه لا يهمُّهُ غيرهُ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـانُ وُدّاً } ؛ أي يُحِبُّهُمْ في الدُّنيا ، ويُحَببُهُمْ إلى عبادهِ المؤمنين من أهلِ السَّموات وأهلِ الأرضين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " إذا أحَبَّ اللهُ الْعَبْدَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : يَا جِبْرِيْلُ إنِّي قَدْ أحْبَبْتُ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيْلُ ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أهْلِ السَّمَوَاتِ : إنَّ اللهَ قَدْ أحَبَّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْمَحَبَّةُ فِي الأَرْضِ. وَإذا أبْغَضَ الْعَبْدَ قَالَ مِثْلَ ذلِكَ. وَمَا أقْبَلَ عَبْدٌ بقَلْبهِ عَلَى اللهِ إلاَّ أقْبَلَ اللهُ بقُلُوب الْمُؤْمِنِيْنَ إلَيْهِ حَتَّى يَرْزُقُهُ اللهُ مَوَدَّتَهُمْ وَمَحَبَّتَهُمْ ".
(0/0)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ } ؛ أي يَسَّرْنَا قراءةَ القُرْآنِ على لسانِكَ ، { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ } أي بالقُرْآنِ ؛ { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } أي قَوْماً ذوِي جَدَلٍ بالباطلِ ، واللُّدُّ جَمْعُ الألَدِّ : شَدِيْدُ الْخُصُومَةِ ، نظيرهُ الأصَمُّ.
(0/0)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } ؛ أي كَمْ أهلكنا يا مُحَمَّدُ قبلَ قومِك من قرونٍ ماضية ، { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ } ؛ أي هل تَرَى منهم مِن أحدٍ ؟ { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } ؛ أي صَوتاً.
والإحساسُ مأخوذٌ من الْحِسِّ ، يقالُ : هل أحْسَسْتَ فُلاناً ؛ أي هل رأيتَهُ. والرِّكْزُ : هو الصوتُ الْخَفِيُّ الذي لا يُفْهَمُ ، ومنهُ الرِّكَازُ : وهو الْمُغَيَّبُ في الأرضِ.
قال الحسنُ في معنى الآية : (ذهَبَ الْقَوْمُ فَلاَ يُسْمَعُ لَهُمْ صَوْتٌ). وقال قتادةُ : (مَعْنَاهُ : هَلْ تَرَى مِنْ عَيْنٍ أوْ تَسْمَعُ مِنْ صَوْتٍ).
وعن أُبَيِّ بنِ كعب عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ مَرْيَمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بزَكَرِيّا وَيَحْيَى وَمَرْيَمَ وَعِيْسَى وَهَارُونَ وَإبْرَاهِيْمَ وَإسْمَاعِيْلَ وَإسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَإدْريْسَ ، وَبعَدَدِ مَنْ كَذَبَهُمْ ، وَبعَدَدِ مَنْ دَعَا للهِ وَلَداً ، وَبعَدَدِ مَنْ وَحَّدَ اللهَ تَعَالَى ".
(0/0)
طه (1)
{ طه } ؛ قرأ أبو عمرٍو ووَرْشٌ بفتحِ الطَّاء وكسرِ الْهَاء ، وقرأ حمزةُ والكسائي وخَلَفٌ بكسرِ الطَّاء والْهَاء ، وقرأ الباقون بالتفخيمِ فيهما. واختلفوا في معناهُ ، فقالَ أكثرُ المفسِّرين : إنَّ معناهُ : يا رَجُلُ ؛ يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو قولُ ابن عبَّاس والحسن وعكرمة وابنِ جُبير والضحَّاك وقتادة ومجاهد ، إلاّ عكرمةَ قال : (هُوَ بلِسَانِ الْحَبَشَةِ) ، وقال قتادةُ : (إنَّمَا يَقُولُ هَذِهِ اللُّغَةَ أهْلُ السِّرْيَانِيَّةِ).
وروَى السُّدِّيُّ عن أبي مَلَكٍ معنى قولهِ طه : (يَا فُلاَنُ) ، قال الكلبيُّ : (بلُغَةِ عَكَّ : يَا رَجُلُ) ، قال ابنُ الأنباريِّ : (وَلُغَةُ قُرَيْشٍ وَافَقَتْ تِلْكَ اللُّغَةَ أيْضاً فِي هَذا الْمَعْنَى ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُخَاطِبْ نَبيَّهُ إلاَّ بلِسَانِ قُرَيْشٍ. قَالَ : الشَّاعِرُ : إنَّ السَّفَاهَةَ طَه فِي خَلاَئِقَكُمْ لاَ قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ الْمَلاَعِيْنيريدُ : يا رجلُ ، وقال آخرُ : هَتَفْتُ بطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوَائِلاَوقُرئ (طَهْ) بتسكينِ الْهَاء ، ولهُ معانٍ ؛ أحدُها : أن تكون الْهَاءُ بدلاً من همزةِ الطَّاء كقولِهم في : أرْقْتُ هَرَقْتُ. والآخرانِ : أن يكون على تركِ الهمزة طَا يا رجلُ بقدمِكَ الأرضَ ، ثم يدخلُ الْهاءُ للوقفِ ، فإنه رُويَ : " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْتَهِدُ فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ بمَكَّةَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ ، فَكَانَ إذا صَلَّى رَفَعَ رجْلاً وَوَضَعَ أُخْرَى ". فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (طَهَ) أيْ طَأ الأَرْضَ بقَدَمِكَ.
وقال بعضُهم : أولُ السُّورة قَسَمٌ ؛ أقْسَمَ اللهُ بطولهِ وهدايته. وقال بعضُهم : الطاءُ من الطَّهارةِ ، والْهاءُ من الهدايةِ ، كأنهُ تعالى قالَ لنبيِّه صلى الله عليه وسلم : يَا طَاهِراً مِنَ الذُّنُوب ، وَيَا هَادِياً إلَى عَلاَّمِ الْغُيُوب.
(0/0)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } ؛ أي لِتُجْهِدَ نفسكَ وتتعبَ ، وذلك أنه لَمَّا نزلَ عليه الوحيُ اجتهدَ في العبادةِ ، حتى أنه كان يُصلِّي على إحدى رجْلَيْهِ لشدَّة قيامهِ وطوله ، فأمَرهُ اللهُ أن يُخَفِّفَ على نفسهِ ، وذكرَ له أنهُ ما أنزلَ عليه القُرْآنَ ليتعبَ ذلك التعبَ ، ولَم يُنْزِلْهُ ، { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى } ؛ قال مجاهدُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِسَبَب مَا كَانَ يَلْقَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّعَب وَالسَّهَرِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ).
وقال الحسنُ : (هَذا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِيْنَ ، وَذلِكَ أنَّ أبَا جَهْلٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالاَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : وَإنَّكَ لَتَشْقَى ، لِمَا رَأواْ مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ " قَالُوا : بَلْ أنْتَ شَقِيٌّ ، " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } وَلَكِنْ لِتَسْعَدَ وَتَنَالَ الْكَرَامَةَ بهِ في الدُّنيا والآخرةِ).
والشَّقَاءُ في اللغة : احمرارُ ما شُقَّ على النفْسِ من التعب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } ؛ نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي نَزَلْنَاهُ تَنْزِيلاً. والعُلَى : جمع العَلْيَاءِ.
(0/0)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الرَّحْمَـانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ؛ وقد تقدَّم تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } ؛ أي له ما لهُ في السَّموات وما في الأرضِ ، وما بينَهما من الخلقِ ، ومعناهُ : أنهُ مَالِكُ كلِّ شيءٍ ومُدَبرُهُ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا بَيْنَهُمَا } يعني الهواءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } أي وما تحتَ التُّراب. والمفسِّرون يقولون هو الترابُ النديُّ تحت الأرضِ السُّفلى ، وَقِيْلَ : تحتَ الصخرةِ التي عليها الثورُ ، ولا يعلمُ ما تحتَ الثَّرى إلاّ اللهُ.
(0/0)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } ؛ معناهُ : ما حاجتُكَ إلى الجهرِ ، فإن اللهَ لا يحتاجُ إلى جهرِكَ ليَسْمَعَ ، فإنه تعالَى يَعْلَمُ السِّرَ وَأخْفَى منهُ. قال ابنُ عبَّاس : (السِّرُّ مَا أسْرَرْتَ بهِ فِي نَفْسِكَ ، وَأخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ تُحَدِّثْ بهِ نَفْسَكَ مِمَّا يَكُونُ فِي غَدٍ ، عِلْمُ اللهِ فِيْهِمَا سَوَاءٌ) وَالتَّقْدِيْرُ : وَأخَفَى مِنْهُ ، إلاّ أنهُ حُذِفَ للعلمِ بهِ.
وعن سعيدِ بن جُبير قال : (السِّرُّ مَا تُسِرُّهُ فِي نَفْسِكَ ، وَأخْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ وَهُوَ كَائِنٌ ، فَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا خَفِيَ عَنِ ابْنِ آدَمَ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قَبْلَ أنْ يَفْعَلَهُ).
(0/0)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى } ؛ أي له الصفاتُ العليا.
(0/0)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } ؛ هذا استفهامُ تقريرٍ بمعنى الخبرِ ، قد أتاكَ حديثُ موسى ، { إِذْ رَأَى نَاراً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَاَنَ مُوسَى عليه السلام رَجُلاً غَيُوراً لاَ يَصْحَبُ الرِّفْقَةَ ؛ لِئَلاَّ يَرَى أحَدٌ امْرَأتَهُ ، فَأَخْطَأَ الطَّرِيْقَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ ، فَرَأى نَاراً مِنْ بَعِيْدٍ). { فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ } ؛ أي قالَ لامرأتهِ : أقيموا مَكَانَكُمْ ، { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } ؛ أي رأيتُها وأبصرتُها ، { لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } ؛ أي بشُعلةٍ ، { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } ؛ أي مَن يدلُّني على الطريقِ. قال الفرَّاء : (أرَادَ هَادِياً ، فَذُكِرَ بلَفْظِ الْمَصْدَرِ). قال السديُّ : (لأنَّ النَّارَ لاَ تَخْلُو مِنْ أهْلٍ لَهَا وَنَاسٍ عِنْدَهَا).
كانت رؤيتهُ للنارِ في ليلةِ الجمعة ، وكان قد استأذنَ شُعيباً عليه السلام في الرجوعِ إلى والدتهِ فأذِنَ لهُ ، فخرجَ بامرأتهِ ، فولدت في الطريقِ في ليلةٍ باردة مثلجة ، وقد حادَ عن الطريقِ ، فقدحَ فلم يرَ نورَ المقدحة شيئاً ، فبينما هو في مداولةِ ذلك إذ أبصرَ ناراً عن يسار الطريق ، فقال لامرأتهِ : امْكُثُوا - أي أقِيمُوا مكانَكم - إنِّي أبصرتُ ناراً ، لَعَلِّي آتِيْكُمْ مِنْهَا بقَبَسٍ ، أوْ أجِدُ عَلَى النَّار مَن يدلُّني على الطريقِ.
(0/0)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يامُوسَى } ؛ أي فلمَّا أتَى النارَ أي شجرة خضراءَ من أسفلها إلى أعلاها كأنَّها نارٌ بيضاءُ تَتَّقِدُ ، فسمِعَ تسبيحَ الملائكة ، ورأى نُوراً عظيماً ، فخافَ وتعجَّبَ ، وألقِيَتْ عليه السكينةُ ، ثُم نودي يا موسى ، { إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ } ؛ وإنَّما كرَّرَ الكنايةَ ؛ لتوكيدِ الدلالة ، وإزالة الشُّبهة ، وتحقيقِ المعرفة. قُرِئَ (إنِّي أنْ رَبُّكَ) بفتحِ الهمزة وكسرِها ، فمن فتحَ فعلى معنى بأَنِّي ، ومَن كسرَ فعلى معنى الابتداء.
قال وهبُ : (نودي من الشجرةِ ، فقيل : يا موسى ، فأجابَ سريعاً لا يدري مَن دعاهُ ، فقال : إنِّي أسمعُ صوتَكَ فلا أرى مكانكَ ، فأين أنتَ ؟ قال : أنا فوقكَ ومعك وأمامكَ وخلفك وأقربُ إليك من نفسك ، فعَلِمَ أن ذلك لا ينبغي إلاّ لرَبهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فأيقنَ به). قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } ؛ قال الحسنُ : (إنَّمَا أُمِرَ بخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيَنَالَ قَدَمَاهُ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ ، وَيُبَاشِرَ تُرَابَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بقَدَمِهِ ، فَيَنَالُهُ بَرَكَتُهَا) وقَوْلُهُ تَعَالَى : { الْمُقَدَّسِ } أي الْمُطَهَّرِ. قال عكرمةُ : (كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيْتٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى } ؛ المقدَّس : هو المطهَّر ، وَقِيْلَ : المباركُ ، ولا يستدلُّ بما قالَهُ عكرمةُ على أنَّ جلودَ الميتة لا تَطْهُرُ بالدِّباغ ؛ لأنه إنْ كانَ كذلك فهو منسوخٌ بقولهِ عليه السلام : " إيَّمَا إهَابٍ دُبغَ طَهُرَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى : { طُوًى } هو اسم الوادي.
(0/0)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } ؛ أي اخترتُكَ للرسالة ؛ لكي تقومَ بأمرِي ، فاستمِعْ لِما يوحَى إليك ، فاحفظْهُ حتى تؤدِّيَهُ للناسِ. وقرأ حمزةُ : (وإنَّا اخْتَرْنَاكَ) بالتشديدِ في (إنَّا) على التعظيمِ.
(0/0)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي } ؛ ولا تعبُدْ غَيرِي ظاهرُ المعنى ، { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } ؛ أي لتَذْكُرَنِي بها بالتسبيحِ والتعظيم كذا قال مجاهدُ والحسن ، وَقِيْلَ : لأَنْ أذْكُرَكَ بالثناءِ والمدح ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : إذا نَسِيْتَ الصَّلاَةَ ، فَأَقِمْهَا إذا ذكَرْتَهَا) ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا ؛ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكَرَهَا ، فَإنَّ ذلِكَ وَقْتُهَا " ثُمَّ قَرَأ { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي } ".
(0/0)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أنَّ الْقِيَامَةَ كَائِنَةً أكَادُ أُخْفِيْهَا عَنْ نَفْسِي ، فَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لِغَيْرِي) ، قال الْمُبَرِّدُ : (هَذا عَلَى عَادَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَب ؛ يَقُولُونَ إذا بَالَغُواْ فِي كِتْمَانِ السِّرِّ : كَتَمْتُهُ مِنْ نَفْسِي ؛ أيْ لَمْ أطْلِعْ عَلَيْهِ أحَداً).
والمعنى : أنَّ اللهَ تعالى بَالَغَ في إخْفاءِ السَّاعةِ ، فذكَرَهُ بأبلغِ ما تعرفُ العرب. قال قتادةُ : (هِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَةِ : أَكَادُ أُخْفِيْهَا مِنْ نَفْسِي ، وَلَعَمْرِي لَقَدْ أخْفَاهَا اللهُ عَنِ الْمَلاَئِكَةِ الْمُقَرِّبيْنَ وَالأَنْبيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيِّ وعَبْدِاللهِ : أكَادُ أُخْفِيْهَا مِنْ نَفْسِي ، فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ؟).
ومعنى الآية : أكَادُ أُخْفِيْهَا عن عبادي ؛ كَي لا تأتيَهم إلاّ بَغْتَةً ، والفائدةُ في إخفائِها عن العبادِ : التهويلُ والتخويف ، وفي ذلك مصلحةٌ لَهم ؛ لأنَّهم إذا لَم يعلموا متى قيامُها كانوا على حَذرٍ منها في كلِّ وقتٍ ، خائفين من الموتِ ، مستعدِّين لذلكَ بالتوبةِ والطاعة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } ؛ أي بسَعْيهَا ، إما الثوابُ وإما العقابُ. وقرأ الحسنُ وابن جبير : (أكَادُ أخْفِيْهَا) بفتحِ الهمزة ؛ أي أُظْهِرُهَا وَأُبْرِزُهَا ، يقالُ : خَفَيْتُ الشَّيْءَ إذا أظهرتهُ ، وأخفيتهُ إذا سَتَرْتُهُ.
(0/0)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } ؛ أي فلا يَصْرِفَنَّكَ عن الإيْمانِ بالسَّاعة مَن لا يصدِّقُ بها ، { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } بالإنكارِ { فَتَرْدَى } ؛ أي فَتَهْلَكَ ، وهو خطابٌ لِموسى عليه السلام ، ونَهيٌ لسائرِ المكلَّفين. والصَّدُّ : هو الصَّرْفُ عن الخيرِ ، يقالُ : صَدَّهُ عن الخيرِ ، وصَدَّهُ عن الإيْمانِ ، ولا يقالُ : صَدَّهُ عن الشَّرِّ ، ولكن يقالُ : صَرَفَهُ عن الشرِّ وَمَنَعَهُ عنهُ.
(0/0)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى } ؛ أي وما التي بيمِينِكَ يا موسى ؟ { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي أعتمدُ عليها إذا أُعْييْتُ ، وإذا مَشَيْتُ ، فلفظُ أوَّلِ الآية استفهامٌ ؛ ومعناه : التقريرُ على المخاطَب ، أن الذي في يدهِ عصا ؛ لكيلا تَهولهُ صارت ثُعباناً.
وَقِيْلَ : كان الغرضُ بهذا السُّؤال إزالةُ الوحشةِ منه ؛ لأن موسَى كان خائفاً مُستوحشاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } ؛ أي أخْبطُ به الشجرَ ؛ ليتناثرَ وَرَقُهُ فيأكلهُ غَنَمِي. وقرأ عكرمةُ : (وَأهُشُّ) بالشِّين ، يعني أزْجُرُ بها الغنمَ ، وذلكَ أنَّ العربَ تقولُ : هَشَّ وقَشَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } ؛ أي حوائجُ أُخرى ، تقولُ : لا إرَبَ لِي في هذا ؛ أي لا حاجةَ لِي فيه ، واحدُ الْمَآرِب مَأْرُبَةٌ بضمِّ الراء وكسرِها وفتحها ، وإنَّما لَم يقل : أُخَرَ ؛ لأجلِ رُؤوسِ الآيِ.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانت مَآرِبُهُ أنه إذا ورد ماء قصر عنه رشاؤه وصله بالْمِحجنِ ، ثم أدلَى العصا وكان في أسفلِها عكَّازةٌ يقاتلُ بها السباعَ ، وكان يُلقي عليها كسائَهُ يستظلُّ تحتَها ، ومن مآربهِ أيضاً أنه كان اذا أرادَ الاستسقاءَ مِن بئرٍ أدلاها ، فطالَتْ على طولِ البشر ، فصارت شُعبتاها كالدَّلو ، وكان يظهرُ على شعبَتَيها الشَّمعتين بالليلِ - يعني : يضيءُ لهُ مد البصرِ ويهتدي بها - واذا اشتهَى ثمرة من الثمارِ رَكَزَها في الأرضِ ، فَتَغَصَّنت أغصانُ تلك الشجرةِ ، وأورقت أورقُها وأثْمَرت).
ثم كان من المعلومِ أنَّ موسى لَمْ يُرِدْ بهذا الجواب إعلامَ اللهِ تعالى ؛ لأن اللهَ تعالى أعلمُ بذلكَ منه ، ولكن لَمَّا اقتضى السؤالُ جواباً لَمْ يكن بدٌّ له من الإجابةِ ، فذكرَ منافعَ العصا إقراراً بالنعمة فيها والتزاماً بما يجبُ عليه من الشُّكر للهِ ، وهكذا سبيلُ أولياءِ الله تعالى في إظهار شُكر نِعَمِ اللهِ تعالى ، وفي هذا جوابٌ عن بعضِ الْمُلْحِدَةِ في باب المسألةِ كانت عن فائدة ما في يده ، ولَم يكن عن منافعِها ، فلِمَ كان الجوابُ عن ما لَم يسأل؟
(0/0)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى } ؛ أي ألْقِهَا من يدكَ ، { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى } ؛ تشتدُّ رافعةٌ رأسَها ، عيناها تتوقَّدان ناراً ، تَمشي بسرعةٍ على بطنِها ، لَها عُرْفٌ كعُرف الفَرسِ ، فلما عاينَ ذلك موسى ولَّى مُدبراً ولَم يُعَقِّبْ هارباً منها ، فنُودِيَ يا موسى : إرْجِعْ ، فرجعَ وهو شديدُ الخوفِ و { قَالَ } ؛ اللهُ له : { خُذْهَا } بيمينِكَ ؛ { وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأُولَى } ؛ عصاً كما كانت.
فلما أمَرَهُ اللهُ بأخذِها أدنَى طَرَفَ ثوبهِ على يده ، وكان عليه مَدْرَعَةٌ من صُوفٍ ، فلما جعل طَرَفَ المدرعةِ على يدهِ ليتناولَها ، قال مَلَكٌ : يا موسى ؛ أرأيتَ لو أنَّ الله قد رَعَاكَ ما تحاذرهُ ؟ أكانت المدرعةُ تُغني عنكَ شيئاً ؟ قال : لاَ ، ولكنِّي ضعيفٌ ومن ضعفٍ.
فأُمِرَ أن يُدخِلَ يدهُ في فَمِها فكشفَ عن يدهِ ، ثُم وضعَها في فمِ الحيَّة ، وإذا يدهُ في الموضعِ الذي كان يضعُها فيه بين الشُّعبتين اللَّتين في رأسِ العصا ، وإنَّما أُمِرَ بإدخالِ يده فمِها ؛ لأنه إنَّما يُخشى من الحيَّة مِن فمِها ، فأرادَ اللهُ أن يُريَهُ من الآيةِ التي لَم يقدر عليها مخلوقٌ. ولئلا يفزعَ منها اذا ألقَاها عند فرعونَ ، فلا يولِّي مُدبراً.
(0/0)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى } ؛ قالَ الفَرَّاءُ : (جَنَاحُ الإنْسَانِ عَضُدُهُ أيْ مِنْ غَيْرِ أصْلِ إبطِهِ) والمعنى : أدْخِلْ يدكَ في جيبكَ تَخرج بيضاءَ ذات شُعاعٍ من غير مَرَضٍ ولا بَرَصٍ آيَةً أُخْرَى نعطيكَها مع العصا ، { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } ؛ سِوَى هَاتَين الآيتين ، فكان عَلَيْهِ السَّلامُ إذا جَعَلَ يدَهُ في جيبهِ خرجت بيضاءَ يغلبُ شعاعُها نورَ الشمس. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ لِيَدِهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيْءُ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأشَدُّ ضَوْءًا).
(0/0)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } ؛ أي جَاوَزَ الحدَّ في العصيان ، وكَفَرَ وتكبَّرَ.
(0/0)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } ؛ أي وَسِّعْ لِي صَدري لأتَمَكَّنَ من تحمُّلِ أثقالِ الرسالة ، والقيامِ بأدائها ومخاصمةِ الناس فيها ، وسَهِّلْ لِي أمرِي برفعِ المشقَّة ووضع الْمَحَبَّةِ. قوله تعالى : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } ؛ أي وَارْفَعْ العُقْدَةَ من لسانِي ؛ ليفقهوا قَولِي : كَلامِي.
وكان سببُ العُقْدَةِ في لِسانِهِ أنه كان في حُجرة فرعونَ ، فأتَى يومٌ فأخذ بلحيتهِ فَنَتَفَ منها شيئاً ، وقال فرعونُ لامرأته آسْيَةُ : إنَّ هذا عَدُوِّي المطلوب وَهَمَّ بقتلهِ ، فقالت له آسْيَةُ : لا تفعل ، فإنه طِفْلٌ لا يعقلُ ، ولا يفرِّقُ بين الأشياءِ ولا يُميز ، وعلامةُ ذلك : أنه لا يُميز بين الدُّرَّةِ والجمرةِ ، ثُم جاءت بطِشْتَيْنِ ، فجعلت في أحدِهما الجمرَ من النار ، وفي الآخرِ الجوهرَ والْحِلِيَّ ، ووضعَتْهُما بين يَدَي موسى ، فأراد مُوسى أن يأخذ شيئاً من الحليِّ ، فأخذ جبريلُ بيدهِ فوضعَها على النارِ ، فأخذ جمرةً ووضعَها في فمهِ حتى أحْرَقَ لسانَهُ ، فكانت في لسانهِ رُتَّةٌ ، فدفعَ عنهُ أكثرَ الضَّررين بأقلِّهما.
وقد اختلفوا في هذه العُقْدَةِ : هل زَالَتْ بأجمعِها في وقتِ نُبُوَّتِهِ ، أم لاَ ؟ قال بعضُهم - وهو الأصحُّ وإليه ذهبَ الحسنُ - : أنَّ الله استجابَ له ، فَحَلَّ العُقدةَ من لسانهِ ؛ لأنه تعالى قال{ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى }[طه : 36] فعلى هذا قولُ فرعونَ{ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ }[الزخرف : 52] أي لا يأتِي ببيانٍ يُفْهِمُ ، وكان هذا القولُ كذباً منهُ ؛ ليصرفَ الوجوهَ عنهُ.
(0/0)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي } ؛ الوزيرُ الذي يُؤَازرُ الأميرَ فيحمِلُ عنه بعضَ ما يحملُ ، فيكون المعنى : واجعل لِي عَوْناً وظَهْراً من أهلي ، وقال الزجَّاج : (اشْتِقَاقُهُ مِنَ الْوِزْر وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي يُعْتَصَمُ بهِ لِيَنْجُو مِنَ الْهَلَكَةِ).
ثُم بَيَّنَ الوزيرَ مَن هو ، فقالَ : { هَارُونَ أَخِي } ، قِيْلَ : هرونُ مَفْعُولُ (اجْعَلْ) ، تقديرهُ : اجْعَلْ هرونَ أخِي وزيراً لِي ، { اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } ؛ أي أُقَوِّي به ظَهرِي ، والأَزْرُ الظَّهْرُ ، لنتعاونَ على الأمرِ الذي أمَرْتَنَا به ، يقالُ : آزَرْتُ فُلاناً إذا عاونتهُ.
(0/0)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } ، أي اجعلهُ شَريكاً لِي في تبليغِ هذه الرسالة. ومن قرأ (أشْدُدْ) بفتح الألفِ و(أُشْرِكْهُ) بضمِّ الألف ردَّ الفعلَ إلى موسى عليه السلام.
(0/0)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } ؛ أي كَي نُصلّي لكَ ، وَقِيْلَ : كي نُنَزِّهَكَ كثيراً ، ونذكرَكَ بالحمدِ والثَّناء كثيراً بما أوْلَيْتَنَا من نِعْمَتِكَ ، ومَنَنْتَ علينا من تحمُّلِ رسالتِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } ؛ أي عالِماً.
(0/0)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى } ؛ أي أُوتِيْتَ ما سألتَ يا موسى ، وأوتيتَ مُرادَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } ؛ أي أنعَمْنا عليكَ كَرَّةً أُخرى قبلَ هذه المرَّة.
ثم بَيَّنَ تلك النعمة ، فقالَ تعالى : { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ } ؛ أي ألْهَمْنَاهَا حين عَنَتْ بأمرِكَ ، وما كان فيه سببُ نَجاتِكَ من القتلِ ، { مَا يُوحَى } ؛ أي ما يُلْهَمُ ، ثم فسَّرَ ذلك الإلْهَامَ فقال : { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } وكان السببُ في ذلك أن فرعونَ كان يقتلُ غِلْمَانَ بنِي إسرائيلَ على ما تقدَّم ذكرهُ ، ثُم خَشِيَ أن يَفْنَى نسلُ بني إسرائيلَ ، فكان يقتلُ بعد ذلك في سنةٍ ولا يقتلُ في سنةٍ ، فوُلِدَ موسى في السَّنة التي يقتلُ فيها الغلمانَ ، فنجَّاهُ الله من القتلِ بأن ألْهَمَ أُمَّهُ أن جعلته في التابوتِ ، وأُطْرِحَ التابوت في اليَمِّ وهو البحرُ ، وأرادَ به النِّيْلَ ومعنى قوله تعالى : { أَنِ اقْذِفِيهِ } أي اجعليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } ؛ لفظهُ لفظ الأمر وهو خبرُ (بتقدير) حتى يلقيه اليَمُّ بالسَّاحل. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } ؛ وأرادَ به فرعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } ؛ وذلك أن أُمَّ موسى لَمَّا اتخذت لِموسى تابوتاً جعلت فيه قُطْناً مَحْلُوجاً ، ووضعت فيه موسَى وألقتْهُ في النِّيلِ ، وكان يشرعُ منه نَهر كبيرٌ في دار فرعون ، فبينما هو جالسٌ على رأسِ البرْكَةِ مع امرأتهِ آسْيَةُ ، إذا بالتابوتِ يَجِيْءُ بالماء.
فلما رأى ذلك أمَرَ الجوارِي والغلمان بإخراجهِ فأخرجوهُ ، فإذا هو صبيٌّ من أحسنِ الناس وَجْهاً ، فلما رآهُ فرعون أحَبَّهُ بحيثُ لَم يتمالك ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قال عطية العوفي : (وَجَعَلَ عَلَيهِ مِسْحَةً مِنْ جَمَالٍ فَأَحَبَّهُ كُلُّ مَن رآهُ).
وقال عطاءٌ عن ابنِ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } أيْ لاَ يَلْقَاكَ أحَدٌ إلاَّ أحَبَّكَ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ) ، وقال عكرمةُ : (ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً ومَلاَحَةً وَحُسْناً) ، فحين أبصرَتْ آسية وجهَهُ قالت لفرعون : قُرَّةَ عَيْنٍ لِي ولكَ. وقال أبو عبيدةُ : (مَعْنَاهُ : جَعَلْتُ لَكَ مَحَبَّةً عِنْدِي وَعِنْدَ غَيْرِي ، أحَبَّكَ فِرْعَوْنُ ، فَسَلِمْتَ مِنْ شَرِّهِ ، وَأحَبَّتْكَ امْرَأتُهُ فَتَبَنَّتْكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } ؛ أي ولِتُرَبَّى وتغذى بمرأى أراكَ على ما أريدُ بك من الرفاهيَةِ في غذائِكَ. وقال قتادةُ : (مَعْنَاهُ : لِتُغَذى عَلَى مَحَبَّتِي).
وأرادَ في قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ } ؛ وذلكَ أن موسى جَعَلَ يبكي ويطلبُ اللَّبَنَ ، فأمَرَ فرعونُ حتى أتَى بالنَّساءِ اللَّواتِي حولَ فرعون ليُرضعْنَ موسى ، فلم يَقْبَلْ ثَديَ واحدةٍ منهن ، وكانت أُخْتُ موسى مُتَّبعَةً للتابوتِ ماشيةً خَلْفَهُ.
فلما حُمل التابوتُ إلى فرعونَ ، ذهبت هي معهُ ، فقالت : هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ؟ أي يرضعهُ ويضمُّه ويحصنهُ ؟ فقالوا : مَن هي ؟ قالت : امرأةٌ قد قُتِلَ ولدُها ، وهي تحبُّ أن تجدَ صبيّاً ترضعهُ.
(0/0)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } ؛ أي اخْتَصَصْتُكَ لوحيي ورسالَتِي ، والاصطناعُ هو الإخلاصُ بالألطافِ. وقال الزجَّاج معناه : (اخْتَرْتُكَ لإقَامَةِ حُجَّتِي ، وَجَعَلْتُكَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي).
(0/0)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } ؛ أي باليدِ والعصا ، { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } ؛ اي لا تُقَتِّرَا في تبليغِ رسالَتِي إلى فرعونَ ، ولا تضْعُفَا عن ذِكري ، وَقِيْلَ : لا تُقَصِّرا ولا تُبْطِئَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ.
(0/0)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } ؛ أي قولاَ لهُ بالشَّفَقة ، ولا تقولاَ له قولاً عَنِيفاً ، فيزدادَ غَيْضاً بغِلَظِ القولِ. قال السديُّ وعكرمةُ : (كَنِّيَاهُ قُولاَ لَهُ : يَا أبَا الْعَبَّاسِ) وَقِيْلَ : يا أبَا الوليدِ ، ويا أيُّها الملكُ. وَقِيْلَ : يعني بالقولِ اللَّينِ : { هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى }[النازعات : 18-19].
وعن السديِّ قال : (الْقَوْلُ اللَّيِّنُ : أنَّ موسَى أتَاهُ فَقَالَ لَهُ : تُؤِمِنُ بمَا جِئْتُ بهِ ، وَتَعْبُدُ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ عَلَى أنَّ لَكَ شَبَابَكَ فَلاَ تَهْرَمُ ، وَأنَّ لَكَ مُلْكَكَ لاَ تُنْزَعُ حَتَّى تَمُوتَ ، وَلاَ تُنْزَعُ عَنْكَ لَذةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب وَالْجِمَاعِ حَتَّى تَمُوتَ ، فَإذا مِتَّ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. فَأَعْجَبَهُ ذلِكَ ، وَكَانَ لاَ يَقْطَعُ أمْراً دُونَ هَامَانَ ، وَكَانَ هَامَانُ غَائِباً ، فَقَالَ فِرْعَونُ : إنَّ لِي ذا أمْرٍ غَائِبٍ ، فَاصْبرْ حَتَّى يَقْدُمَ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ إنَّ مُوسَى دَعَانِي إلَى أمْرٍ فَأَعْجَبَنِي - وَأخْبَرَهُ بالَّذِي دَعَاهُ إلَيْهِ - وَأرَدْتُ أنْ أقْبَلَ مِنْهُ. فَقَالَ هَامَانُ : قَدْ كُنْتُ أرَى أنَّ لَكَ عَقْلاً ، بَيْنَمَا أنْتَ رَبٌّ فَتُرِيْدُ أنْ تَكُونَ مَرْبُوباً ، وَأنْتَ تُعْبَدُ فَتُرِيْدُ أنْ تَعْبُدَ؟. فَغَلَبَهُ عَلَى رَأيهِ فَأَبَى.
رُويَ أنَّ رَجُلاً قَرَأ فِي مَجْلِسِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } فَبَكَى يَحْيَى ابْنُ مُعَاذٍ وَقَالَ : (إلَهِي ، هَذا رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنَا إلَهٌ ، فَكَيْفَ رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنْتَ إلَهِي ، إنَّ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَهْدِمُ كُفْرَ خَمْسِيْنَ سَنَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ؛ أي يَتَّعِظُ أو يخشى العاقبةَ ، وكلمة (لَعَلَّ) للترجِّي والطمعِ ؛ أي اذهبَا على رجائِكُما وطمَعِكُما وأنا عالِمٌ بما يفعلُ ، فإن قيلَ : كيفَ قال { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } وعلمهُ سابقٌ في فرعونَ أنه لا يؤمنُ ، ولا يتذكر ولا يخشَى ؟ قِيْلَ : هذا مصروفٌ إلى غيرِ فرعون ، تقديرهُ : لِكَي يتذكرُ متذكرٌ ويخشَى خَاشٍ إذا رأى بَرِئ ، وألطَافِي بمن خلقتهُ ورزقتُهُ وصحَّحتُ جِسمَهُ وأنعمتُ عليه ، ثم ادَّعى الربوبيةَ دونِي.
قال بعضُ العارفين في قولهِ تعالى : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } : (إذا كَانَ هَذا رفْقُكَ بمَنْ ينافيكَ ، فكيفَ رفقُكَ بمن يصافيكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يعاديكَ ، فكيف رفقُكَ بمن يواليكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يسبُّكَ ، فكيفَ رفقُكَ بمن يحبُّكَ ؟ هذا رفقُكَ بمن يقولُ نداً فكيفَ بمن يقول فرداً ؟ هذا رفقُكَ بمن ضَلَّ ، فكيفَ رفقُكَ بمن زلَّ ؟ هذا رفقُكَ بمن اقترفَ ، فكيفَ رفقُكَ بمن اعترفَ ؟ هذا رفقُكَ بمن أصرَّ ، فكيف رفقُكَ بمن أقرَّ ؟ هذا رفقُكَ بمن استكبرَ ، فكيف رفقكَ بمن استغفرَ؟).
وعن وهب بن منبه قال : (أوحى اللهُ إلى موسى : انطلِقُ إلى فرعونَ برسالتِي ، فمعكَ نَظَرِي وأنتَ جندٌ عظيم من جُنودِي ، بعثتُكَ إلى خلقٍ ضعيف قد عزَّته الدنيا حتى كفرَ وأقسَم بعزي لولا اتخاذُ الحجَّة عليه والعذرَ إليه لبطشتُ به بطشةَ جبارٍ يغضبُ لغضبهِ السَّموات والأرض ، فإن أذنَ للسَّماء صَعَقَتْهُ ، وللأرضِ ابتلعتْهُ ، وللجبال دمَّرتهُ ، وللبحار أغرقته ، ولكنهُ وسعَهُ حِلْمي ، فبلِّغْهُ رسالَتي وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لا يغرُّ بك فألبسه من لباسِ الدُّنيا ، فأحِبْ ربك الذي هو واسعُ المغفرة ، أنه قد أمهلَكَ منذُ خمسمائة سنة لَم تَهرمْ ولَم تسقمْ وَلم تفتَقِرْ ، واعلم أنَّ أفضلَ ما تزينَ به العبادُ الزهدَ في الدنيا ، ومن أهانَ ولِيّاً فقد بارَزَنِي بالْمُحاربةِ).
(0/0)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى } ؛ معناه : قال موسى وهارونُ : رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُ أنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ، قال ابنُ عبَّاس : (يُعَجِّلُ وَالْعُقُوبَةِ) ، وَقِيْلَ : تغليب أو أن يطغَى بتكبُّرٍ ويستعصِي علينا ، ويقالُ : فرَّطَ علينا فلانٌ إذا أعجلَ بمكروهٍ ، وفرَّطَ منه أمري بدر وسبق.
(0/0)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ } ؛ أي معَكُما بالبصيرةِ والعون ، { أَسْمَعُ } ؛ ما يَرُدُّ عليكُما ، { وَأَرَى } ؛ ما يصنعهُ بكما ، وَقِيْلَ : معناهُ : أسْمَعُ دعاءَكما فأجيبهُ ، وأرى ما يريدُ بكما فأمنعهُ ، ولستُ بغافلٍ عنكُما ، فلا تَهتمَّا ، { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } ؛ أرسلنا إليكَ ، { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } ؛ أي أطلِقْهُم من اعتقالِكَ ، ولا تُتْعِبْهُمْ بالأعمالِ الشَّاقة ، { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } ؛ أي بعلامةٍ من ربك وهي اليدُ والعصا ، وهما أوَّلُ آية ، وَقِيْلَ : اليدُ خاصَّة.
وكان فرعونُ قد أتعبَ بنِي إسرائيلَ بالأعمالِ الشَّاقة ، مثلَ اللَّبن والطينِ والبناء ، وما لا يقدرونَ عليه. فلمَّا قال موسى : قَدْ جِئْنَاكَ بآيَةٍ مِنْ رَبكَ ، قال : ما هيَ ؟ فأدخلَ يدَهُ في جيب قميصه ثُم أخرجَها ، فإذا هي بيضاءُ لَها شعاعٌ غَلَبَ نورَ الشمسِ ، ولَم يُرِهِ العصا إلاّ بعدَ ذلك يوم الزِّينة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } ؛ ليس هو بتحيَّةٍ لفرعون ولكن معناهُ : أن مَن اتَّبَعَ الْهُدى سَلِمَ من عذاب الله بدليلِ أنه عَقَّبَهُ بقولهِ تعالى : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى } ؛ أي إنَّما يُعَذِّبُ اللهُ مَن كذبَ بما جئنا به وأعرضَ عنه ، فأمَّا مَن اتَّبَعَهُ فإنه يَسْلَمُ.
(0/0)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى } ؛ أي من إلَهُكما الذي أرسلَكُما ، { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } ؛ أي ربُّنا الذي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ على الْهَيْأَةِ التي ينتفعُ بها ، فأعطاهُ صحَّته وسلامتَهُ وَركَّبَ فيه شهوتَهُ ، ثم هَدَاهُ لمعيشتهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الذي صَوَّرَ كُلَّ جنسٍ من الحيوان على صورةٍ أُخرى ، فلم يجعل خَلْقَ الإنسانِ كخلق البهائمِ ، ولا خَلْقَ البهائمِ كخلق الإنسانِ ، ولكن خَلَقَ كلَّ شيء فقَدَّرَهُ تقديراً.
وقال الضحَّاك : (أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقْهُ ؛ يَعْنِي لِلْيَدِ الْبَطْشَ ، ولِلرِّجْلِ الْمَشْيَ ، وَلِلِّسَانِ النُّطْقَ ، وَلِلْعَيْنِ النَّظَرَ ، وَلِلأُذُنِ السَّمْعَ). وقال سعيدُ بن جبير : (أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ شَكْلَهُ لِلإنْسَانِ زَوْجَةً ، وَلِلْبَعِيْرِ نَاقَةً ، وَلِلْفَرَسِ رَمَكَةً ، وَلِلْحِمَارِ أتَاناً ، وَلِلثَّوْر بَقَرَةً ، { ثُمَّ هَدَى } ؛ أي ألْهمَ وعَرَّفَ كيف يأتِي الذكرُ الأنثى في النِّكاحِ).
(0/0)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى } ؛ قال : ما حالُ ، وما بيانُ الأُممِ الماضية ، لَم يُبعثوا ولَم يُجازَوا على أفعالِهم ، ومعنى البالُ : الشأنُ والحالُ. والمعنَى : مَا حَالُهَا ، فإنَّها لَم تُقِرَّ بالله ، ولكنَّها عبدَتِ الأوثانَ ، ويعني بالقُرُونِ الأُولى ، مِثْلَ قوم نُوحٍ وعاد وثَمودِ ، { قَالَ } موسى : { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } ؛ وإذا عَلِمَ لا بدَّ أن يُجازي. وَقِيْلَ : معناهُ : عِلْمُ أعمالِها عند ربي في كتاب الله ، أراد به اللَّوحَ الْمَحفُوظَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } ؛ أي لا يذهبُ عليه شيءٌ ، ولا يخطئُ ولا ينسى ما كان من أمرِهم حتى يُجازِيهم عليه ، وَقِيْلَ : لا يغفلُ ربي ولا يتركُ شيئاً ، ولا يغيبُ عنه شيءٌ ، وفي هذا دليلٌ أنَّ الله تعالى لَم يكتُبْ أفعالَ العبادِ لحاجتهِ في معرفتها إلى الكتاب ، ولكن لمعرفةِ الملائكة. ويقالُ : كان سؤالُ فرعون عن القرونِ الأُولى : هل بُعِثَ فيهم أنبياءُ كما بُعْثْتَ إلينا ، فأحالَها على ما في المعلومِ من أمرها.
(0/0)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ؛ وقرأ أهلُ الكوفةِ (مَهْداً) بغيرِ ألف ؛ أي فَرْشاً ، والفراشُ : الْمِهَادُ لغةٌ فيه كالفُرُشِ والفِرَاشِ ؛ أي جعلَها مبسوطةً ليمكن القرارُ عليها ، ولَم يجعلها حادَّةً كرؤوسِ الجبال.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي طُرُقاً تذهبون وتجيئُونَ فيها وتسلكونَها. قال ابنُ عبَّاس : (سَلَكَ أيْ سَهَّلَ لَكُمْ فِيْهَا طُرُقاً). { وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى } ؛ أي فأخرَجْنا بالمطرِ أصنافاً من نباتٍ مختلف الألوانِ.
(0/0)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } ؛ أي كُلُوا من نباتِ الأرض ، وارْعَوا أنعامَكم من عُشْبهَا ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى } ؛ أي إنَّما ذكَرْتُ لكم لعلامةٍ دالَّة على البعثِ لذوي العقول من الناس ، وإنَّما سُميت العقولُ (نُهَى) ؛ لأن أصحابَها ينتهون بها عن القبيحِ والمعاصي.
(0/0)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } ؛ أي من الأرضِ خلقنا أباكم آدمُ وكلُّكم من ذريَّته ، { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } ؛ عند الموتِ والدفنِ ، { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } ؛ للبعثِ ، وقد جَرَى ذكرُ الأرضِ في قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً }[النبأ : 6].
(0/0)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } ؛ أي أرَيْنَا فرعونَ آياتنا السَّبع كلَّها فَكَذبَ وَأبَى ، أي قال : ليست هذه مِن الله ، وأبَى أن يُسْلِمَ ويقبلَ ، ونسبَ موسى إلى السِّحر ؛ فـ { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا } ؛ أي مصْرَ ، { بِسِحْرِكَ يامُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ } ؛ أي مِثْلِ ما جِئْتَنَا به ، { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } ؛ أي مِيْقَاتاً وأجَلاً في موضعٍ معلوم ، { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } ؛ أي لا نجاوزهُ ولا يقع منا خَلْفٌ في حضورهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَكَاناً سُوًى } ؛ أي مكاناً مُستوياً يُبَيِّنُ للناسِ ما بيننا ، ويستوي حالُنا من الرِّضى به. وَقِيْلَ : تستوي مسافتهُ على الفريقينِ فتكونُ مسافةُ كلِّ فريقٍ إليه كمسافة الفريق الآخر.
فواعدَهُ موسى يوماً مَعْلُوماً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ } أي يومُ العيدِ الذي لكم. قال سعيدُ بن جبير : (كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ) ، قرأ الحسنُ : (يَوْمَ الزِّيْنَةِ) بنصب الميم ؛ أي فِي يوم. وقرأ الباقون بالرفعِ على الخبرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } ؛ أي ضُحى ذلك اليومِ ، وأراد بالناسِ أهلَ مصر ، ومعنى يُحشرون أي يجتمعون إلى العيدِ ، وإنَّما جعلَ موسى موعدَهم نَهاراً في يومِ اجتماعهم ؛ ليكون أبلغَ في الحجَّة ، وأبعدَ من الرِّيبة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَن يُحْشَرَ } يحتمل أن يكون في موضعٍ رفعٍ على معنى موعدٍ كما حُشِرَ الناسُ وقتَ الضُّحى يوم الزينة ، ويحتملُ أن يكون في موضعِ خَفْضٍ عَطْفاً على الزينةِ ، المعنى يومُ الزينةِ ، ويومُ حشرِ الناس في وقتِ الضَّحوة.
(0/0)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } ؛ أي فأعرضَ فرعونُ عن الحقِّ والطاعة فجمع كَيْدَهُ ومَكْرَهُ ، وذلك جمعهُ السَّحرةَ ثُم أتى الموعدَ ، والمعنى : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي سحرتَهُ ، وَقِيْلَ : كانوا أربعمائةِ ساحرٍ ؛ و { قَالَ لَهُمْ مُّوسَى } ؛ للسحرة : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي لا تُشركوا مع اللهِ أحداً ، ولا تَخْتَلِقُوا عليه كَذِباً بتكذيبي ، { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } ؛ أي فيُهْلِكَكُمْ ويستأصِلَكم بعذاب من عندهِ ، { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } ؛ أي وقد خابَ منِ اخْتَلَقَ على الله كَذباً. ومعنى قولهِ : { وَيْلَكُمْ } أي أُلْزِمُكُمُ الوَيْلَ. قرأ أهلُ الكوفة : (فَيُسْحِتَكُمْ) بضمِّ التاء وكسرِ الحاء ، يقالُ : سَحَتَهُ اللهُ وأسْحَتَهُ ؛ أي أهْلَكَهُ.
(0/0)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى } ؛ أي فتشاورتِ السحرةُ فيما بينهم من فرعون في أمرِ موسى ، وأسرُّوا المناجاةَ ، فقالوا : إن غَلَبَنَا موسى اتَّبَعْنَاهُ وآمَنَّا به فهذا نَجْوَاهُمْ.
(0/0)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ إِنْ هَـاذَانِ لَسَاحِرَانِ } ؛ أي قال الملأُ من قومِ فرعون : إنَّ موسى وهارون لَسَاحرانِ ، { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } ؛ من أرضِ مصرَ ، { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } ؛ أي بدِيْنِكُم الأمثلُ ، وَقِيْلَ : معناه : ويَذْهَبَا بأهلِ طريقتكم.
وأختلفَ القُرَّاء في قولهِ تعالى { إِنْ هَـاذَانِ } ، قرأ أبو عمرو (هَذيْنِ) على اللغة المعروفةِ وهي لغةُ أهلِ الحجاز ، وقرأ نافعُ وابن عامر وحمزةُ والكسائي (هَذانِ) بالألفِ وهي لغَةُ كنانةَ وبني الحارثِ بن كعب وخَثْعَمَ وزيدٍ وقبائلَ من اليمنِ : يجعلون ألِفَ الاثنين في الرفعِ والنصب والخفضِ على لفظٍ واحد ، يقولون : أتانِي الزَّيدان ، ورأيتُ الزَّيدان ، مَرَرْتُ بالزيدان. قال الفرَّاءُ : (أنْشَدَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ ، وَمَا رَأيْتُ أفْصَحَ مِنْهُ : فَأَطْرَق إطْرَاقَ الأُفْعُوَانِ وَلَوْ يَرَى مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَا)ويقولون : كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عُلاَهُ ، يعني يديهِ وعليه ، قال شاعرُهم : تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاه ضَرْبَةً دَعَتْهُ إلَى هَابي التُّرَاب عَقِيْمُأراد بين أُذُنيهِ فقال آخرُ : أيُّ قُلُوصِ رَاكِبٍ تَرَاهَا طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَا أي عليهنَّ وعليها ، وقال آخرُ : إنَّ أبَاهَا وَأبَا أبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَاوقال بعضُهم (إنْ) هنا بمعنى : نَعَمْ. رويَ أنَّ أعرابياً سألَ ابن الزُّبير شيئاً فَحَرَّمَهُ ، فقال : لَعَنَ اللهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : (إنْ وَصَاحِبُهَا) يعنِي نَعَمْ. وقال الشاعرُ : بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبا حِ يَلُمْنَني وَألُومُهُنَّهْوَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ كَ وَقَدْ كَبرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْأي نعم. وقد ذكرَ أهلُ النحوِ لتصحيح هذه القراءةِ وجُوهاً :
أحدُها : ضَعْفُ عملِ (إنْ) لأنَّها تعملُ بالمشبَّه بالفعلِ وليست بأصلٍ في العمل ، ألا ترى أنَّها خُففت لَم تعمل.
والثانِي : أنَّها تشبهُ (اللَّذيْنِ) في البناءِ ؛ لأن (اللَّذيْنِ) في الرفع والنصب والخفض سواءٌ ، ولأنَّ الألفَ في (هَذانِ) ليس ألفَ التشبيهِ لوجودها في الوِحْدَانِ ، وإنَّما زيْدَتْ النونُ في التثنيةِ ليكون فرقاً بين الواحدِ والاثنين ، كما قالواُ (الَّذِيْ) ثُم زادوا نُوناً تدلُّ على الجمعِ ، قالوا (الَّذِيْنَ) في رفعِهم ونصبهم.
والثالثُ : (إنْ) ها هُنا مخففة وليست مضمرة إلاّ أنه حُذفت الهاء.
والرابعُ : أنه لَمَّا حُذفت الألِفُ صارت ألفَ التثنية عِوَضاً منها.
والخامسُ : أنَّ (إنْ) بمعنى نَعَمْ.
(0/0)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } ؛ قرأ أبو عمرو (فَاجْمَعُوا) بوصلِ الألف وفتحِ الميم من الجمعِ ، وتصديقهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَمَعَ كَيْدَهُ }[طه : 60] ، وقرأ الباقونَ (فَأَجْمِعُوا) بقطعِ الألف وكسرِ الميم ، مأخوذٌ من أجْمَعْتُ الأمرَ إذا عزمتُ عليه وأحكمتهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { كَيْدَكُمْ } أي مَكْرَكُمْ وسِحرَكم ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً } ؛ مُجتمعين ؛ ليكونَ أنظَمَ لأُموركم ، وأشدَّ لِهيبَتكم. وَقِيْلَ : معناهُ : ثُم ائتوا الْمُصَلَّى. والعربُ تسمِّي الْمُصَلَّى صَفّاً. قال الزجَّاج : (فَعَلَى هَذا مَعْنَاهُ : ثُمَّ ائْتُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي تَجْتَمِعُونَ فِيْهِ لِعِيْدِكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } ؛ أي قد فَازَ بالفلاحِ والبقاء مَن كانت الغَلَبَةُ لهُ.
(0/0)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } ؛ أي قالتِ السَّحرةُ : يَا مُوسَى إمَّا أنْ تُلْقِيَ عَصَاكَ إلى الأرض ، وَإمَّا أنْ نَكُونَ أوَّلَ مَنْ ألْقَى الْعِصِيَّ والحبالَ ، { قَالَ } لَهم موسى : { بَلْ أَلْقُواْ } ؛ فألْقَوا حبالَهم وعِصِيَّهم.
روي أنَّهم كانوا سبعينَ ألفَ ساحرٍ ، وكان عددُ ما عمِلُوا من الحبالِ والعصيِّ حِمْلَ ثلاثِمائة بعيرٍ ، فألْقَوا ما معهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } ؛ أي تَمشي وتتحرَّكَ ، وكانوا قد احتالُوا فيها بحيلةٍ ، فكان كلُّ مَن رآها مِن بعيد يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها تتحركُ.
قرأ ابنُ عامر : (تُخَيِّلُ) بالتاء ، ردَّهُ إلى الحبالِ والعِصِيِّ ، وقرأ الباقون بالياء ، ردُّوهُ إلى الكيدِ والسِّحر ، وذلك أنَّهم لَطَّخُوا حبالَهم وعصيَّهم بالزِّئبقِ ، فلما أصَابَهُ حرُّ الشمسِ ارتعشت واهتَزَّت ، فظنَّ موسى أنَّها تقصده ، { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى } ؛ أي أحسَّ ووَجَدَ ، وَقِيْلَ : أضْمَرَ في نفسه خِيْفَةً.
فإن قِيْلَ : لِمَ جازَ أمرُهم بالإلقاءِ وهو كفرٌ ؟ قِيْلَ : يجوزُ أن يكون معناهُ : ألْقُوا إنْ كنتم مُحِقِّيْنَ كما زعمتُم ، ويجوزُ أن يكون أمراً بالإلقاءِ على وجه الاعتبارِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ } ، فإن قِيْلَ : ما الذي خَافَهُ موسى ؟ قِيْلَ : خافَ أن يلتبسَ على الناسِ أمرُ السَّحَرَةِ فيتوهَّمون أنَّ حبالَهم وعصيهم بمنْزِلة عصاهُ. وَقِيْلَ : كان خوفهُ خوفَ الطبعِ لِمَا رأى من كثرةِ الحيَّات العِظَامِ.
(0/0)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى } ؛ عليهم بالظَّفَرِ والغلبة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ؛ يعني العصَا ، { تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ } ؛ أي تَلْقَمْ وتَبْلَعْ ما طَرحُوا من العصيِّ والحبالِ ، { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } ؛ أي أنَّ الذي صنعوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ. وقُرئ (كَيْدُ سِحْرٍ) كما قالوا بمعنى حذر ، { وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ؛ أي لا يَغْلِبُ حَقَّكَ بباطلهِ. وَقِيْلَ : لا يُسْعَدُ السَّاحرُ حيث كان.
فألقَى موسى عصاهُ فتلقَّفت جميعَ ما صنعوا ، ثُم أخذها موسى فرجعت عصا كما كانت ، { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } ؛ فما رفَعُوا رؤوسَهم حتى رأوا الجنةَ والنار ، ورأوا ثوابَ أهلِها ، فعندَ ذلك قالوا : (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البيِّنات) يعني الجنةَ والنار ، وما رأوا مِن درجاتِهم.
قال : وكانتِ امرأةُ فرعون تسألُ مَنْ غَلَبَ ؟ فقيل لَها : موسى ، فقالت : آمنتُ برب موسى وهارون ، فأرسلَ إليها فرعونُ ، فقال : انظرُوا إلى أعظمِ صخرة تَجدونَها فأْتُوها ، فإنْ هي رجعت عن قولِها وإلاّ فألْقُوها عليها ، فلما أتَوها رفعت ببصرِها إلى السَّماءِ فرأتِ الجنَّةَ فقالت : { رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ }[التحريم : 11] فانْتُزِعَتْ روحُها ، والصخرةُ على جسدٍ لا روحَ فيه.
(0/0)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ } ؛ بموسى ، { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } ؛ في الإيْمانِ. والفرقُ بين (آمنْتُمْ لَهُ) وآمَنتُم بهِ : أنَّ في (آمَنْتُمْ لَهُ) معنى الاتِّباع لهُ ، وآمنتم به إيْمانٌ بالخبر من اتباع له في ما دعَا اليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } ؛ أي رئيسُكم ومعلِّمُكم ، وإنَّما قال فرعونُ هذه المقالةَ قصداً منه إلى صَرْفِ الناس عن اتِّباع موسى ؛ لأن السَّحرةَ لَم يتعلَّموا من موسى ، وإنَّما كانوا يعلَّمون السحرَ قبل قُدوم موسى وقبل ولادته ، { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ ، { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } ؛ أي على جُذوع النَّخلِ ، أُقيمَ حرفُ (في) مقام حرفِ (على) ، فكان فرعونُ أوَّلَ من قطعَ اليد والرِّجل من خلافٍ وصَلَبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } ؛ أي لتعلمنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى عذاباً ، أنا أمْ ربُّ موسى وهارون.
(0/0)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ } ؛ أي قالتِ السحرةُ لفرعونَ : لن نَخْتَارَكَ على ما جاءَنا من الحقِّ والبراهين يعني اليدَ والعصا. وقال عكرمةُ : (هُوَ لَمَّا رَفَعُواْ رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ رَأوا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ ، وَرَأواْ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي فَطَرَنَا } ؛ أي لن نُؤْثِرَكَ على الله الذي فَطَرَنَا ؛ أي خَلَقَنَا ، ويجوزُ أن يكون قولهُ { وَالَّذِي فَطَرَنَا } قَسَماً ، { فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } ؛ أي إصْنَعُ ما أنتَ صانع ، { إِنَّمَا تَقْضِي هَـاذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَآ } ؛ أي إنَّما تحكمُ علينا في الدُّنيا وهي منقضيةٌ لا محالةَ ، وأما الآخرةُ فليسَ لك فيها حظٌّ.
(0/0)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } ؛ أي إشْرَاكُنا في الجاهليَّة ويغفر لنا { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ فِرْعَوْنُ يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ حَتَّى لاَ يَنْقَطِعَ عَنْهُمْ). وِقِيْلَ : إنه أكْرَهَ هؤلاء السَّحرة على معارضةِ مُوسى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ؛ أي هو خيرٌ ثواباً إنْ أُطِيْعَ ، وأبقى عقاباً إنْ عُصِي. ويقالُ : ما عندَ الله من الكرامةِ والثواب أفضلُ وأدوم مما تعطينا أنتَ من المالِ ، وهذا جوابٌ عن قوله{ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى }[طه : 73] وها هنا انتهى قولُ السَّحرةِ.
(0/0)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } ؛ أي مَن يَأْتِ إلى موضعِ الحساب عَاصِياً ، { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } ؛ فيستريحَ ، { وَلاَ يَحْيَى } ؛ حياةً تنفعهُ ، قال ابنُ عبَّاس : (الْمُجْرِمُ الْكَافِرُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ } ؛ أي قد عَمِلَ الطاعاتِ ، { فَأُوْلَـائِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } ؛ أي الرفيعةُ في الجنَّة.
ودرجاتُ الجنة بعضُها أعلى من بعضٍ ، والعُلْى جمعُ العُلْيَا ، قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْهُمْ كَأَضْوَاءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ ، وَإنَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ ".
(0/0)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى } ؛ أي مَنْ تَطَهَّرَ من الذنوب بالطاعة بدلاً من تَدَنُّسِ النفوسِ بالمعصية.
(0/0)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } ؛ يعني أسْرِ بهم في أوَّلِ الليل من أرضِ مصرَ ، يعني بني إسرائيلَ ، { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } ؛ أي يَابساً ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أيْبَسَ لَهم ذلك الطريقَ حتى لَم يكن فيه ماءٌ ولا طين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى } ؛ أي إنكَ آمنٌ لا تخافُ أن يُدركَكَ فرعونُ ، ولا تخشَ الغرقَ من البحرِ.
وقرأ حمزةُ (لاَ تَخَفْ) على النَّهي مجزوماً ، (وَلاَ تَخْشَى) بالألفِ ، كأنه استأنفٌ ، وتقديرهُ : وأنتَ لا تخشى ، كقولهِ : { يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ }[آل عمران : 111].
(0/0)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } ؛ مَن قرأ (فَأَتْبَعَهُمْ) بالتخفيف فمعناهُ : ألَحَقَ جُنُودَهُ بهم ، والباءُ في (جُنُودِهِ) زائدةٌ ، والمعنى : أمَرَهُم أن يتَّبعُوا موسى وقومَهُ ، ومن قرأ (فَأَتَّبَعَهَمْ) بالتشديدِ ، فالمعنى اتَّبَعَهُمْ بنفسهِ ومعهُ الجنود. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } ؛ أي عَلاَهُمْ وسَتَرَهُمْ من البحرِ ما علاهُم وهو الغرقُ.
وذلك أنَّهُ لَمَّا تَرَاءَى الجمعانِ ، أمرَ اللهُ موسى أن يضربَ بعصاهُ البحرَ ، فضربه فانفلقَ الماءُ في عِرْضِ البحرِ حتى صارَ فيه اثنا عشرَ طريقاً ، وبَقِيَ الماءُ قائماً بين الطريقين كالجبلِ ، فسَلَكَ موسى ، وأخذ كلُّ سِبْطٍ من بني إسرائيل طَريقاً من هذه الطُّرُقُ.
فلما أشرفَ فرعونُ وقومُهُ على البحرِ فرأوهُ مُنْفَلِقاً فيه طُرُقٌ يابسةٌ ، أوْهَمَ قومَهُ أنَّ البحرَ إنَّما انفلقَ من هَيْبَتِهِ! فدخلَ فرعونُ خَلْفَ بني إسرائيلَ ، فصاحَتِ الملائكةُ في القومِ : أنْ الْحَقُوا الْمَلِكَ حتى إذا دَخَلَ آخرُهم ، وهَمَّ أوَّلُهم بالخروجِ أن يخرجَ ، أطبقَ اللهُ تعالى البحرَ عليهم فَغَرِقُوا.
وقال وهبُ : (استعارَ بنُو إسرائيلَ حُلِيّاً كثيراً من القِبْطِ ، ثُم خرجَ بهم موسى من أوَّلِ الليل ، وكانوا سبعينَ ألفاً ، فأُخْبرَ فرعونُ بذلك فركِبَ في ستمائة ألفٍ مِن القِبْطِ يَقُصُّ أثرَ بنِي إسرائيل.
فلما رأى قومُ موسَى رَهَجَ الخيلِ - أي غُبَارَها - قالوا : إنا لَمُدَركون ، قال موسى : كلاَّ ، إنَّ معي ربي سيهدينِ ، فلما قَرُبوا قالوا : يا موسى أينَ تَمضي البحرُ أمامَنا وفرعونُ خَلفَنا؟!
فضربَ البحرَ بعصاهُ فانفلقَ وصار فيه اثنا عشرَ طريقاً يابسةً ، لكلِّ سِبْطٍ طريقٌ ، وصارَ بين كلِّ طريقين كالطَّوْدِ العظيم من الماءِ ، وكانوا يَمُرُّونَ في الطريق ولا يرَى بعضُهم بعضاً ، فاستوحَشُوا وخافوا ، فجعلَ اللهُ الأطوادَ شبَكاتٍ يرَى بعضُهم بعضاً ، ويسمعُ بعضُهم كلامَ بعضٍ.
فلما أتَى فرعونُ الساحلَ ورأى بني اسرائيل قد عَدَوا البحرَ ، جاء جبريلُ على رَمَكَةٍ طالبةٍ للذكَرِ ، وكان فرعونُ على حصانٍ ، فأدخلَ الرَّمَكَةَ في الماء فلم يتمالكِ حصانُ فرعون أن اقْتَحَمَ على إثْرِها ، ودخلَ القِبْطُ عن آخرهم ، فلما وَلَجُوا كلُّهم أوحى اللهُ تعالى إلى البحرِ : أنْ أغرِقْهُمْ عن آخرِهم ، فعلاهم الماءُ فغَرِقُوا).
قال كعبٌ : (فَعَرَفَ السَّامِرِيُّ فَرَسَ جِبْرِيْلَ ، فَحَمَلَ مِنْ أثَرِهِ تُرَاباً ، وَألْقَاهُ فِي الْعِجْلِ حِيْنَ اتَّخَذُوهُ).
(0/0)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } ؛ أي أضلَّهُم حين دعاهُم إلى عبادتهِ ، { وَمَا هَدَى } أي وما أرْشَدَهم حين أورَدَهم مواقعَ الْهَلَكَةِ ، وهذا تكذيبٌ له في قولهِ{ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ }[غافر : 29].
(0/0)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يابَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ } ؛ يعني فرعونَ أغْرَقَهُ بمرأى منهم ، { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ } ؛ قرأ حمزةُ : (نَجَّيْتُكُمْ... وَوَعَدْتُكُمْ... وَرَزَقْتُكُمْ) بغيرِ ألف.
وذلك أنَّ اللهَ وَعَدَ موسى بعد ما أغرقَ فرعون ليأتِي جانبَ الطُّورِ الأيْمَنَ فيؤتيهِ التوراةَ فيها بيانُ ما يحتاجُ إليه. { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } في التِّيْهِ ، { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ؛ أي من حَلاَلِ ما رزقناكم من الْمَنِّ والسَّلْوَى ، واشكروا إنعامِي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } ، أي لا تَبْطَرُوا فيما أنعمتَ فتكونوا طاغينَ ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } ، أي فتجبُ عليكم عقوبَتي. قرأ الأعمشُ والكسائيُّ : (فَيَحُلُّ) أي فينْزِلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } ؛ أي فقد تَرَدَّ في النار. وَقِيْلَ : معناهُ : فقد هَلَكَ وسقط في النارِ. وقرأ الكسائيُّ : (وَمَنْ يَحْلُلْ) بضمِّ اللام ، قال الفرَّاءُ : (وَالْكَسْرُ أوْلَى مِنَ الضَّمَّ ؛ لأنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ وَهَُوَ الْوُقُوعُ ، وَيَحْلِلُ بالْكَسْرِ يَجِبُ ، وَجَاءَ التَّفْسِيْرُ بالْوُجُوب لاَ بالْوُقُوعِ).
(0/0)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى } ؛ أي لِمَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ ، وآمَنَ بالله وعَمِلَ صالحاً ، ثُم استقامَ على معرفةِ الله وأداءِ فرائضه واجتناب مَحَارِمِهِ حتى ماتَ على ذلكَ بتوفيقِ الله.
(0/0)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى } ؛ الآيةُ ، روي : أنَّ موسى لَمَّا ذهبَ مع السبعينَ الذين اختارَهم إلى الميقاتِ ليأخذ التوراة من رَبهِ ، تعجَّلَ إلى الميقاتِ قبل السَّبعين شَوْقاً إلى رَبهِ ، وخَلَفَ أولئكَ السبعين وأمَرَهم أن يلحقوهُ ويتبعوه إلى الجبلِ وهو الطُّورُ والميقاتُ ، فقال اللهُ تعالى لهُ : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى } { قَالَ } ؛ أي موسى : يا رب ، { هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي } ؛ أي هُم أولاء يجيئون بعدي ، { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } ؛ أي لتزدادَ رضىً عنِّي ، والرِّضَى من اللهِ إيجابُ الدرجةِ والكرامة لَهم.
(0/0)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } ؛ أي ابتَلَينا قومَكَ الذين خلفتَهُم مع هارون وكانوا ستمائة ألفٍ. وقال الزجَّاجُ : (مَعْنَى : فَتَنَّا قَوْمَكَ ؛ أيْ ألْقَيْنَاهُمْ فِي فِتْنَةٍ وَمِحْنَةٍ) ، وقال ابنُ الأنباريِّ : (صَيَّرْنَاهُمْ مَفْتُونِيْنَ أشْقِيَاءَ بعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، فَافْتَتَنُواْ بالْعِجْلِ غَيْرَ اثْنَي عَشَرَ ألْفاً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن بَعْدِكَ } أي مِن بعد انطلاقِكَ إلى الجبلِ ، قولهُ { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } أي دَعَاهُمْ إلى عبادةِ العجل وحَمَلهم عليها.
(0/0)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } ؛ أي رَجَعَ من الميقاتِ إلى السبعين ، إلى قومهِ. فلما سَمِعَ صوتَ الفتنةِ رجعَ { غَضْبَانَ أَسِفاً } أي حَزِيناً شديدَ الحزن جَزِعاً مع عصبة و { قَالَ ياقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } ؛ أي ألَمْ يَعِدْكُمْ إنزالَ التوراةِ لتعمَلُوا بما فيها فتستحقُّوا الجنة والكرامة الدائمة ، { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } ؛ مدَّةَ مُفارقَتي إياكم ، { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ بأن يَنْزِلَ بكم بعبادتكم العجلَ ، { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي } ؛ ما وَعَدَ الْمَوْلَى منْ حُسنِ الخلافةِ بعدي.
(0/0)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ } ؛ أي الذين لَم يعبدوا العجلَ ، { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } ؛ ونحنُ نَملكُ من أمرِنا شيئاً ؛ أي لَم نُطِقُ رَدَّ عَبَدَةِ العجلِ مِن ما ارتكبوهُ لكثرَتِهم وقِلَّتِنَا ؛ لأنَّهم اثنا عشر ألفاً ، والذين عَبَدُوا العجلَ خمسُمائة ألفٍ وثَمانية وثَمانون ألفاً ؛ لأنَّهم كانوا جميعاً ستُمائة ألف.
وأكثرَ القُرَّاءُ (بِملْكِنَا) بالكسرِ أي بأمرِنا. ومَن قرأ بفتحِ الميم فهو المصدرُ ، ومَن قرأ بضمِّ الميم فمعناه : بسُلطاننا وقُدرتنا ؛ أي لَم نقدِرْ على ردِّهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ } ؛ أي أثْقَالاً وحمالاً من حِلِيِّ آلِ فرعون ، والوِزْرُ في اللغة : هو الْحِمْلُ الثقيلُ ، وذلك أن موسَى كان أمرَهم أن يستعيرُوا مِن حِلِيِّهم حين أرادوا أن يَسْرُوا ، هكذا روي عن ابنِ عباس. وَقِيْلَ : إنهم كانوا استعارُوها ؛ ليتزيَّنُوا بها في عِيْدٍ كان لَهم ، ثم يردُّوها عليهم عند الخروجِ ، وكان ذلك ذنْباً منهم ، فعلى ذلك يكونُ معناه : حُمِّلْنَا آثاماً مِن حِلِيِّ القوم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَذَفْنَاهَا } ؛ أي فَقَذفْنَا الحِلِيِّ في النارِ ليُذابَ ، { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } ؛ ما معهُ من الحليِّ كما ألقينا ، وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قد وَقَّتَ لِموسى ثلاثينَ ليةً ثُم أتَمَّها بعشرٍ ، فلما مضت الثلاثونَ قال السامريُّ : إنَّما أصابَكم هذا عقوبةً لكم بالحليِّ الذي معكم ، فاجْمَعُوها حتى يجيءَ موسى فيقضي فيها ، فجُمعت لهُ ، فصنعَ منها العجلَ في ثلاثةِ أيَّام ، ثُم قَذفَ فيه القبضةَ التي اتخذها من أثَرِ فرسِ جبريلَ.
(0/0)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ؛ أي أخرجَ لَهم من النار صورةَ عِجْلٍ صاغَها من الحليِّ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُ خُوَارٌ } أي صَوْتٌ كصوتِ العجل.
واختلفوا في هذا الْخُوَارِ ؛ قال مجاهدُ : (خُوَارُهُ حَفِيْفُ الرِّيْحِ إذا دَخَلَتْ جَوْفَهُ ، وَذلِكَ أنَّهُ كَانَ جَعَلَ فِي جَوْفِ الْعِجْلِ خُرُوقاً إذا دَخَلَتْهَا الرِّيْحُ أوْهَمَ أنَّهُ يَخُورُ). قال الحسنُ وقتادة والسديُّ : (كَانَ السَّامِرِيُّ ألْقَى عَلَيْهِ شَيْئاً مِنْ أثَرِ فَرَسِ جِبْرِيْلَ كَمَا قَالَ : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا }[طه : 96] ، فَانْقَلَبَ الْعِجْلُ حَيْوَاناً يَخُورُ) أي وكان معلوماً في ذلكَ الزمانِ أنَّ مَن أخذ من حافرِ دابة مَلَكٍ ، فألقاها على شيءٍ صارَ ذلِك الشيءُ حيواناً.
قالوا : وإنَّما عَرَفَ أن راكبَ تلك الدَّابة جبريلُ ؛ لأنَّها كانت لا تضعُ حافِرَها على موضعٍ إلاّ اخْضَرَّ. ويروَى أن هارونَ مَرَّ بالسامريِّ وهو يصنعُ العجلَ ، فقالَ لهُ : ما تصنعُ ؟ قال : أصنعُ ما ينفع ولا يضرُّ ، ثُم قال لِهارون : ادعُ لِي ، فقال : اللَّهُمَّ أعْطِهِ ما يسألُ كما يحبُّ ، فسألَ اللهَ أن يجعلَ للعجلِ خُواراً ، فكان الخوارُ يخرج من ذلك الجسدِ الْمُجَسَّدِ كما يخورُ الثور ، فأوهَمَهم السامريُّ أنه حَيٌّ فافتتنَ به قومٌ فعبدوه ، ولو رجَعُوا إلى عُقولِهم لعرفوا أنه لا يصلحُ أن يكون إلَهاً ؛ لأنه مصنوعٌ صنعةَ آدميٍّ مخلوقٍ من حُلِيٍّ مخلوقة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالُواْ هَـاذَآ إِلَـاهُكُمْ وَإِلَـاهُ مُوسَى } ؛ أي قال لَهم السامريُّ ذلك ووافقَهُ قومٌ على ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَسِيَ } ؛ أي فَنَسِيَ السامريُّ الإسلامَ ؛ أي فَتَرَكَهُ ، وَقِيْلَ : معناه : قال السامريُّ لِمن وافقَهُ على كُفْرِهِ : إن موسَى أرادَ هذا العجلَ ، فترك الطريق الذي كان يصلُ إليه ؛ أي أن موسى تركَ إلَهَهُ هنا ، وذهبَ يطلبهُ.
(0/0)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } ؛ أفلاَ يرى السامريُّ وأصحابهُ (أنَّهُ) يعني العجلَ لا يَرُدُّ إليهم جواباً ، { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } ؛ جرَّ منفعةٍ ولا دفعَ ضُرِّ شيءٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ؛ وذلكَ أن السامريَّ لَمَّا دعاهُم إلى عبادةِ العجل وقال لَهم : إنَّ هذا إلَهُنا وإلهُ موسى ، وأن موسَى مَعْنِيٌّ في طلبهِ ، وهو ههنا.
فقامَ هرونُ فيهم خطيباً ، وقالَ : يَا قَوْمِ إنَّمَا فُتِنْتُمْ بعبادةِ العجل ، { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَـانُ } ؛ لا العجلُ ، { فَاتَّبِعُونِي } ؛ لِما أدعوكم اليه ، { وَأَطِيعُواْ أَمْرِي } ؛ لا أمرَ السامريِّ ، فَعَصَوْهُ ؛ { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } ؛ أي لا نزالُ مقيمين على عبادتهِ ، { حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى } ؛ ومعنى قولهِ تعالى { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ } أي من قبلِ أن يأتِي موسى.
فلما رجعَ موسى ؛ { قَالَ } ؛ لِهارون : { ياهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } ؛ بعبادةِ العجل ، { أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } ؛ لا زائدةٌ ؛ أي ما منعكَ من اتِّباعي واللحوقِ بي بمن أقامَ على إيْمَانِهِ ، { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } ؛ بإقامتِكَ بينهم وقد كفروا ، ثُم أخذ موسى برأسِ هارون ولِحيَته غضباً منهُ عليه فـ { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } ؛ ولا بشعرِ رأسي ، { إِنِّي خَشِيتُ } ؛ إن فارقتُهم واتبعتك بمن أقامَ على دِينك أن يتفرَّقُوا أحزاباً ، وخشيتُ أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضاً و { أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ } ؛ أي ولَم تحفَظْ ، { قَوْلِي } ؛ وصيَّتي ، ولَم تنتَظِر قُدُومِي وأمري ، فلذلك لَم أتَّبعْكَ بمن أقامَ منهم على دِينك.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ هَارُونُ أخَا مُوسَى لأَبيْهِ وَأُمِّهِ ، وَإنَّمَا قَالَ : يَا ابْنَ أُمِّ ليرفقَهُ ويستعطفه عليه) ، وفي قولهِ (يَا ابْنَ أُمِّ) قِرَاءَتان ، مَن قرأ بفتح الميمِ جعلهُ بمنْزِلة اسمٍ واحد يصلُ الثانِي بالأول ، مثلُ خمسةَ عشر ، ومَن قرأ بالكسرِ فعلى معنى الإضافة ، ودلَّتْ كسرةُ الميم على الياءِ التي بعدها.
فإن قِيْلَ : كيف جازَ أن يأخذ موسى بلحيةِ هارون ورأسه مع أن ذلك يقتضِي الاستخفافَ به ؟ قِيْلَ : لأن العادةَ في ذلك الوقتِ لَم تكن كهذهِ العادة ، بل كان ذلكَ في زمانِهم يجري مجرَى القبضِ على يده ، وَقِيْلَ : لأنه أجرَى هرون مُجرى نفسهِ ؛ لأنه لَم يكن يتَّهم ، كما لا يتهم على نفسهِ ، فقد يأخذُ الإنسانُ بلحيةِ نفسهِ إذا غَضِبَ ، ويقال : (إنَّ عُمَرَ عليه السلام كَانَ إذا غَضِبَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } أي فتركتَ وصيَّتي ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } يعني : ولَم تحفَظْ وصيَّتي حين قلتُ لكَ أخلفني في قومي وأصلِحْ.
فلما اعتذرَ هارونُ بهذا العذرِ أقبلَ موسى السامريِّ ؛ { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ } ؛ أي ما شأنُكَ وما الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ ؟ وَقِيْلَ : معناه : ما هذا الْخَطْبُ الْعظيم الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ ، والْخَطْبُ هو الجليلُ من الأمرِ.
قال قتادةُ : (كَاَنَ السَّامِرِيُّ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ ، مِنْ قَبيْلَةٍ يُقَالُ لَهَا سَامِرَةٌ ، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيْلَ مَرَّ بجَمَاعَةٍ وَهُم يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ وَمَعَهُ بَنُو إسْرَائِيْلَ ، فَقَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ، فَاغْتَنَمَهَا السَّامِرِيُّ فَاتَّخَذَ الْعِجْلَ) ، { قَالَ } ؛ السَّامِرِيُّ مُجيباً لِموسى : { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } ؛ أي رأيتُ ما لَم يَرَوا ، بَصُرْتُ به ، وعرفتُ ما لَم يعرفوا وفطنتُ ما لَم يفطنوا ، قال له موسى : وما الذي بَصُرْتَ به دون بني إسرائيل؟
قال : { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } ؛ من حافرِ فرسِ جبريل ، وكان قد أُلقي في نفسِي أن أقبضها ؛ وما ألقيهِ على شيءٍ إلاّ صارَ له روحٌ ولَحم ودمٌ ، فحين رأيتُ قومَكَ طلبوا منكَ أن تجعل لَهم إلَهاً حدَّثَتني نفسي بذلكَ ، { فَنَبَذْتُهَا } أي فطرحتُها في العجلِ ، { وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } ؛ أي زَيَّنَتْ لِي نَفْسِي) أي أطمَعَتني نفسي في أن العجلَ ينقلبُ حيواناً.
(0/0)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } ؛ أي قال موسَى : فَاذهَبْ مِن بيننا ، فإن لكَ ما دُمْتَ حيّاً أن تقولَ : (لاَ مِسَاسَ) أي لا أمُسُّ ولا أُمَسُّ ولا أخالطُ ، وأمرَ موسى أن لا يؤاكلوهُ ولا يخالطوه ولا يبايعوهُ ، فَحَرَّمَ عليهم مخالطةَ السامريِّ زَجْراً لفعلهِ ، وكان هو يقيمُ في البريَّة مع الوحوشِ والسِّباع.
ويقالُ : إنه ابْتُلِيَ بالوَسْوَاسِ ، ويقال : إنَّ موسى هَمَّ بقتلِ السامريِّ فقال اللهُ : لا تَقتُلْهُ فإنه سخيٌّ! فكان السامريُّ إذا لَقِيَ أحداً يقولُ : لاَ مِسَاسَ ؛ أي لا تَقْرَبْنِي ولا تَمسَّني ، وذلك عقوبة لهُ ولولدهِ ، عَاقَبَهُ اللهُ بذلك حتى أن بقايَاهم اليومَ يقولون كذلكَ. وذُكِرَ أنه إذا مَسَّ واحدٌ من نَسْلِهِ أحداً من غيرهم حَمَّ كلاهُما في الوقت. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } ؛ معناهُ : وإن لكَ يا سامريُّ أجَلاً يُكَافِؤُكَ اللهُ فيه على ما فعلتَ وهو يومُ القيامة.
قرأ الحسنُ وابن مسعود : (نُخْلِفَهُ) وابن كثير وابن عامرٍ (تُخْلِفَهُ) بكسرِ اللام ؛ أي لن يغيبَ عنه بل يوافقهُ ، ولا مذهبَ لك عنه ، وقرأ الباقون بفتحِ اللام بمعنى لن يَخْلَفَهُ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَانظُرْ إِلَى إِلَـاهِكَ } ؛ أي وانظر إلى العجلِ الذي أقمتَ على عبادتهِ ، وزعمتَ أنه إلَهُكَ ومعبودُك ، { الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } ؛ أي مُقيماً تعبدهُ ، تقولُ العرب ظَلْتُ أفْعَلُ كذا بمعنى ظَلَلْتُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (حَرَّقَهُ بالنَّارِ ، ثُمَّ ذرَّاهُ فِي الْيَمِّ) وهذه القراءةُ تدلُّ على أن ذلك العجلَ صار حيواناً لَحماً ودماً لأن الذهبَ والفضَّة لا يُمكن إحراقُهما بالنار.
وذُكِرَ في بعضِ التفاسير : أن موسى أخذ العجلَ فذبَحَهُ فسالَ منه دمٌ ، لأنَّه كان قد صارَ دماً ولحماً ، ثُم أحرقه بالنارِ ثم ذرَّاهُ في البحرِ.
وكان الحسنُ يقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ) بالتخفيف ، ومعناه : لَنَذْبَحَنَّهُ ثم لنحرقنه بالنار ، لأنه لا يجوزُ إحراقُ الحيوانِ قبل الذبحِ كما روي في الخبر : " لاَ تُعَذِّبُوا أحَداً بعَذاب اللهِ ".
وقرأ أبو جعفرٍ وأشهبُ العقيلي : (لَنَحْرُقَنَّهُ) بنصب النونِ وضمِّ الراء ؛ أي لَنَبْرُدَنَّهُ بالْمِبْرَدِ ، يقال : حرقتُ الشيءَ أُحرِقهُ أذا بَرَدْتَهُ ، والْمِحْرَقُ هو الْمِبْرَدُ ، وهذه القراءةُ تدلُّ على أن العجلَ كان ذهباً ، ولكن كان له خُوار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي لَنُذرِّيَهُ في البحرِ تذريةً ، يقالُ : نَسَفَ فلانٌ الطعامَ بالْمَنْسَفِ إذا ذرَّاهُ ليطيرَ عنه قشوره وترابه.
(0/0)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ أي قال لَهم موسى : { إِنَّمَآ إِلَـاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } أي لا معبودَ للخلقِ سواهُ ، فهو الذي يستحقُّ العبادةَ لا العجلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ؛ أي أحاطَ علمهُ بكلِّ شيء ، فلا يخفَى عليه شيءٌ من أعمالِ العباد.
(0/0)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } ؛ أي كما قصَصْنا عليكَ يا مُحَمَّدُ خبرَ موسى وقومِهُ كذلك نقصُّ عليك مِن أخبارِ مَن قد مضَى وتقدَّمَ من أخبارِ الرُّسل وأُمَمِهم ، { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } أي وقد أكرمناكَ بالقُرْآنِ العظيم.
(0/0)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } ؛ أي مَن أعرضَ عن القُرْآنِ فلم يؤمِنْ به فإنه يَحْمِلُ يوم القيامة إثْماً. والوِزْرُ ها هنا : الْحِمْلُ الثقيلُ من الإثْمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهِ } ؛ أي مُقيمين في عقوبةِ ذلك الإثمِ وعذابهِ ، { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } ؛ أي ساء وِزْرُهُمْ ، يومئذ حملاً.
(0/0)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } ؛ قرأ ابو عمرٍو بنون مفتوحةٍ ، وقرأ الباقون بياءٍ مَضمومة غير تسمية الفاعل ، والصُّورُ : قَرْنٌ يُنْفَخُ فيه يومئذٍ ؛ ليقومَ الناسُ من قبورهم مثلَ بُوقِ الرَّحيل وبوقِ النُّزولِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } ؛ قِيْلَ : معناهُ : قد ازْرَقَّتْ أعيُنهم من شدَّة العطشِ ؛ لأن العطشَ إذا اشتدَّ يغيِّرُ سوادَ العين إلى الزُّرقة. وَقِيْلَ : معناهُ : عُمْياً ، ومعنى الزُّرقَةِ الْخُضْرَةُ في سَوادِ العين كعَيْنَي السَّنُّورِ ، والمعنى في هذا : تشويهُ الْخَلْقِ سوادُ الوُجوهِ ، وزُرْقَةُ العيون.
(0/0)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } ؛ أي يَتَشَاوَرُونَ فيما بينهم ، يقولُ بعضُهم لبعضٍ : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } ؛ أي ما لَبثْتُمْ من النَّفخة الأُولى إلى الثانيةِ إلاّ عشرَ ليال ، وذلك أنَّهم يُكَفُّ عنهم العذابُ فيما بين النَّفختين وهو أربعونَ سنةً ، فاسْتَقْصَرُوا مدَّةَ لُبْثِهِمْ لِهولِ ما عاينوا. وَقِيْلَ : معناهُ : يقولون ما لَبثْتُمْ في الدُّنيا إلاّ عشرَ ليالٍ ، وذلك لشدَّة ما يَرَوْنَ من هَوْلِ يوم القيامة يَنْسُونَ ما لَبثوا في الدُّنيا.
(0/0)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } ؛ أعلَمُهم عندَهم ، { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } ؛ نَسَوا مقدارَ لُبْثِهِمْ لشدَّة وهمِهم ، فقالوا هذا القولَ وهو كذبٌ منهم.
(0/0)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } ؛ أي يسألُكَ الكفارُ عن حالِ الجبال يومَ القيامة : أينَ تذهبُ مع عِظَمِهَا. وقال ابنُ عبَّاس : (سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيْفٍ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } ؛ أي يُصَيِّرُها رَمْلاً تسيلُ سَيلاً ، ثُم يرسلُ عليها الرياحَ فتفرِّقُها كتَذْريَةِ الطعامِ من القشُور والتراب ، فيصيِّرُها كالْهَبَاءِ ، وكالصُّوف المنفوشِ.
(0/0)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } ؛ أي أرْضاً ملساءَ مستويةً لا نَبَاتَ فيها ، والصَّفْصَفُ : الأَمْلَسُ الذي لا نباتَ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (الْعِوَجُ : الأَوْدِيَةُ ، وَالأَمْتُ : الرَّوَابي) ، وقال مجاهدُ : (انْخِفَاضاً وَارْتِفَاعاً) ، وقال قتادةُ : (لاَ تَرَى فِيْهَا صَدْعاً وَلاَ أكَمَةً) ، وقال الحسنُ : (الْعِوَجُ : مَا انْخَفَضَ مِنَ الأَرْضِ ، وَالأَمْتُ : مَا يَسْتُرُ مِنَ الرَّوَابي) ، ويقالُ : مَدَّ حَبْلَهُ حتى ما تركَ فيه أمتَاً ، وملأَ سقَاءه حتى ما ترك فيه أمتاً ؛ أي انثناءً.
(0/0)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ } ؛ أي يومئذٍ يتَّبعون داعِيَ اللهِ الذي يدعوهم إلى موقفِ القيامة وهو اسرافيلُ لا عِوَجَ لدعائهِ ، وَقِيْلَ : لا عِوَجَ لَهم عن دعائهِ ؛ أي لا يزيغون عنه ، بل يَتْبَعُونَهُ سَرَايا لا يُعدِلُونَ عن الطريقِ يَميناً ولا شِمالاً ولا يَملكون التأخُّرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـانِ } أي ذلَّتِ الأصواتُ لِهَيْبَةِ الرَّحمنِ ، وَقِيْلَ : سَكَنَتِ الأصواتُ لهُ ، فَوَصَفَ الأصواتَ بالخشوعِ ، والمعنى لأهْلِها ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } ؛ أي إلاَّ صَوتاً خَفيّاً يعني صوتَ نقل الأقدامِ إلى الْمَحْشَرِ.
والْهَمْسُ : الصوتُ الخفيُّ كأخفافِ صوت الإبل في المشيِ. وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى الْهَمْسِ تَحْرِيْكُ الشِّفَاهِ بغَيْرِ مَنْطِقٍ) وهو قولُ مجاهد ، والكلامُ الخفيُّ ، والمعنى على هذا التفسيرِ : سَكَنَتِ الأصواتُ فلا يَجْهَرُ أحدٌ بكلامٍ إلاّ كالمشير مِن الإشارة بالشَّفَةِ ، وتحريكِ الفمِ مِن غيرِ صوتٍ.
(0/0)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَـانُ } ؛ أي لا تنفعُ لأحدٍ من الناس إلاّ مَن أذِنَ اللهُ أن يُشْفَعَ له فذاك الذي تنفعُ الشفاعة ، وَقِيْلَ : لا تنفعُ شفاعةُ أحدٍ إلاّ مَن أُذِنَ له الرَّحمنُ في أن يَشْفَعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } ؛ في الدُّنيا وهم المؤمنونَ ، فإنَّ اللهَ لا يرضَى إلاّ قول المؤمنين.
(0/0)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ؛ هذا كنايةٌ راجعة إلى الَذين يتَّبعون الداعيَ ؛ أي يعلمُ ما قَدَّمُوا واخْلَفُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } ؛ الكنايةُ تعودُ إلى ما في قولهِ { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي هو يعلمُ ذلك.
(0/0)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } ؛ أي ذلَّتِ الوجوهُ وخضعت واستسلَمَت للحيِّ الذي لا يَموتُ ، القائمُ الذي لا نِدَّ لهُ ، والعَانِي في اللغة : هو الأسيرُ ، ومنهُ قولُهم : أخذتَ الشيءَ عُنْوَةً ؛ أي غَلَبَةً بدلٌ الماخوذ منه : قال الشاعرُ : مَلِيْكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمِنٌ لِعِزَّتِهِ تَعْنُو الْوُجُوهُ وَتَسْجُدُوقال الحسنُ : (الْقَيُّومُ : الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بمَا كَسَبَتْ حَتَّى يَجْزِيَهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } ؛ أي خابَ مِن ثواب الله مَن حَمل شِرْكاً ، ومعنى خابَ أي خَسِرَ.
(0/0)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً } ؛ في سيِّئاته ، { وَلاَ هَضْماً } ؛ بالنُّقصان من حسناتهِ ، والْهَضْمُ : النَّقْصُ ؛ يقال : هَضَمَنِي فلانٌ حَقِّي ؛ أي نَقَصَنِي ، وهذا شيءٌ يَهْضِمُ الطعامَ أي ينقصُ نقله.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } ؛ أي وهكذا أنزلناهُ قُرْآناً على اللُّغة العربية ، { وَصَرَّفْنَا فِيهِ } ؛ أي وكَرَّرْنَا فيه ، { مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ؛ وَقِيْلَ : معنى (وَصَرَّفْنَا) أي بَيَّنَّا فِيْهِ مِنَ الْوَعِيْدِ ، يعني الوقائعَ في الأُممِ الْمُكَذِّبَةِ ؛ لكي يَتَّقُوا الشِّركَ بالاتِّعاظ بمن قبْلَهم ، { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } ؛ أي يُحْدِثُ لَهمُ الْقُرْآنُ اعتباراً فيذكروا به عقابَ الله ، وَقِيْلَ : معناهُ : أوْ يُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْراً شَرفاً بإيْمانِهم ، كما قالَ تَعَالَى{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف : 44] أي شَرَفٌ لكَ ولقومك.
(0/0)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ؛ أي ارتفعت صفةُ الرَّحمن فوقَ كلِّ شيء سواهُ ، لأنه أقدرُ من كلِّ قادرٍ ، وأعلمُ من كلِّ عالِم ، وكلُّ قادرٍ وعالِم سواهُ مُحْتَاجٌ إليه ، وهو غَنِيٌّ عنه ، قولهُ { الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي يَحِقُّ له الْمُلْكُ ، وإن كان مَلِكٌ سواهُ يَملكُ بعضَ الأشياء ويبيد مُلْكَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } ؛ قال الحسنُ : " كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ عَجَّلَ بقِرَاءَتهِ مَخَافَةَ نِسْيَانِهِ ، وَكَانَ يَقْرَأُ مَعَ الْمَلَكِ مَخَافَةَ أنْ يَذْهَبَ عَنْهُ ، فَنُهِيَ عَنْ ذلِكَ " فَقَالَ { وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ } أيْ بقِرَاءَتِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ يَفْرَغَ جِبْرِيْلُ مِنْ تِلاَوَتِهِ عَلَيْكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } ؛ أي زدْنِي حِفْظاً لا أنساهُ.
(0/0)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ } ؛ أي أمَرْنَاهُ أن لا يأكلَ مِن الشَّجرةِ مِن قَبْلِ هؤلاء الذين نَقَضُوا عهدي ، وترَكُوا الإيْمانَ بي ، وهمُ الذين ذكَرَهم اللهُ في قولهِ{ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }[طه : 113] ، والمعنى أن هؤلاءِ الذينَ صَرَّفَ لَهم في القُرْآنِ الوعيدَ إذ ضيَّعُوا عهدي وخالَفُوا أمري ، فإنَّ أبَاهُم آدمُ عليه السلام عَهدْنَا إليه أيضاً ، { فَنَسِيَ } ؛ وتركَ عهدِي وما أُمِرَ بهِ ، { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } ؛ أي لَم نَجِدْ له حِفْظاً لِمَا أمَرْنَا به.
وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : وَلَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْراً عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ رَأْياً مَعْزُوماً عَلَيْهِ) ، حيثُ أطاعَ عَدُوَّهُ إبليسَ الذي حَسَدَهُ وأبَى أن يسجُدَ لهُ. قال الحسنُ : (كَانَ عَقْلُ آدَمَ كَعَقْلِ جَمِيْعِ ذُرِّيَّتِهِ) ، قال اللهُ { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }. وجاءَ في الحديث : " لَوْ وُزِنَ حِلْمُ بَنِي آدَمَ مُذْ كَانَ آدَمُ إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لَرَجَحَ حِلْمُ آدَمَ عَلَى حِلْمِهِمْ ، وَقَدْ قالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } ".
(0/0)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هَـاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } ؛ أي لكَ ولامرأتِكَ ، فلا تَميلاَ إليه ، ولا تعيلاَ منهُ ، { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا } ؛ أي فيكونُ ذلك سببَ خروجكما ، { مِنَ الْجَنَّةِ } ؛ إلى شَدائِدِ الدنيا وجُوعِها وعطَشِها وفَقْرِها وتعبها في طلب المعاش ، وهذا معنى قولهِ : { فَتَشْقَى } ؛ أي تتعبُ بالأكلِ من كّدِّ يدِكَ ، وما تكسبهُ لنفسك ، والمعنى : إنَّ عيشَكَ لا يكونُ إلاّ من كَدِّ يَمينك وعرقِ جبينك. قال سعيدُ بن جبير : (أهْبَطَ اللهُ إلَى آدَمَ ثَوْرَيْنِ ، فَكَانَ يَحْرِثُ عَلَيْهِما ، وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبيْنِهِ) فهو شقاؤُهُ الذي قالَ اللهُ تَعَالَى ، وكان مِن حَقِّهِ أن يقولَ : فَيَشْقَيَا أو تَشْقَى أنتَ وزوجُكَ ، لكن غَلَّبَ المذكَّرَ ؛ لأن تَعَبَهُ أكثرُ ، وَقِيْلَ : لأجلِ رُؤُوسِ الآيِ.
(0/0)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى } ؛ أي إنَّكَ ما دُمْتَ مُقيماً في الجنَّة على طاعةِ الله فلا تجوعُ فيه ولا تَعْرَى ؛ أي لكثرة أثْمَارها وأثوابها ونعيمها ، { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا } ؛ أي لا تعطشُ ، { وَلاَ تَضْحَى } ؛ أي ولا تَبْرُزُ إلى الشَّمسِ ؛ لأنه ليس في الجنَّة شَمسٌ ، إنَّما هو ظِلٌّ ممدودٌ. وقرئ : وَإنَّكَ لاَ تَظْمَأُ) بكسرِ الهمزة عطفاً على (إنَّ لَكَ أنْ تَجُوعَ) ، وقرئَ بالنصب عطفاً على (أنْ لاَ تَجُوعَ).
(0/0)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ } ؛ أي وَسْوَسَ لهُ ليأكلَ من الشجرةِ فـ { قَالَ ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } ؛ أي على شجرةٍ مَن أكلَ منها خُلِّدَ ولَم يَمُتْ ، { وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى } ؛ وَيبقى في ملك لا يبلى ولا يفنَى.
(0/0)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَكَلاَ مِنْهَا } ؛ أي أكلَ آدمُ وحوَّاءُ من الشجرة على وجهِ الخطأ في التأويلِ لا تعمُّداً في المعصيةِ إذ الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يُقيمون المعصيةَ ، وهم أشدُّ خوفاً من الله أن يفعلُوا ذلك. لأنَّ بعض المفسِّرين قالَ : إن اللهَ تعالى أشارَ بالنَّهي إلى شجرةٍ بعينِها ، فقال لهُ : لا تَأْكُلْ من هذه الشجرةِ ، وأرادُوا جنسَ تلك الشجرة ، فَنَسِيَ آدمُ الاستدلالَ بذلك على الجنسِ ، فحملَ النهيَ على العينِ. وهذا كما " رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : أنَّهُ أخَذ الذهَبَ بإحْدَى يَدَيْهِ ، وَالْحَرِيْرَ بالأُخْرَى ، وَقَالَ : " هَذانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي ، حِلُّ لإنَاثِهِمْ " وأرادَ به الجنسَ دون العينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } ؛ أي ظهرت لَهما عوراتُهما ، وإنَّما جمع السَّوءَاتِ ولَم يثَنِّهما ؛ لأن كلَّ شيء من شيءٍ فهو جمعٌ في موضعِ التثنية. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا } ؛ أي جعلاَ يقطعان عليهما ، { مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ } ؛ ويجعلانه على سوءاتِهما.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ } ؛ أي عصاهُ بأكلِ الشجرةِ ، { فَغَوَى } ؛ أي فَعَلَ ما لَم يكن لهُ فِعْلُهُ. وَقِيْلَ : ضَلَّ حين طلبَ الْخُلْدَ بأكلِ ما نُهِيَ عن أكلهِ. وَقِيْلَ : الغيُّ الفسادُ ؛ أي فَسَدَ عليه عيشهُ ، وَقِيْلَ : (فَغَوَى) أي أخطأ ، وَقِيْلَ : خابَ في طلبه في أكلِ الشجرة.
(0/0)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } ؛ أي اجتباهُ للرِّسالة ، وَقِيْلَ : قَرَّبَهُ ، { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } ؛ إلى ذِكْرِهِ ، وَقِيْلَ : اصطفاهُ فتابَ عليه وهداهُ حين قال{ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا }[الأعراف : 23] الآيةُ.
(0/0)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } ؛ قد تقدم تفسيره ، قوله تعالى : { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } ؛ يعني آدمَ وذريَّته وإبليسَ وذريَّته ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } ؛ أرادَ به الكتابَ والرَّسُولَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } ؛ أي مَنِ اتَّبَعَ الكتابَ والرسول ، { فَلاَ يَضِلُّ } في الدُّنيا ، { وَلاَ يَشْقَى } في الآخرةِ. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (ضَمِنَ اللهُ لِمَنْ قَرَأ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بهِ أنْ لاَ يَضِلَّ وَلاَ يَشْقَى).
(0/0)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } ؛ أي عن مَوْعِظَتِي ، وَقِيْلَ : عن القُرْآنِ فلم يؤمِنْ به ولَم يَتَّبعْهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ، الضَّنْكُ : الضيِّقُ والشدةُ والصُّعوبَةُ. قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي أنَّ عَيْشَهُ يَكُونُ مُنَغِّصاً عَلَيْهِ غَيْرَ مُوقِنٍ بالْخَلْفِ وَالْجَزَاءِ) ، وقال عبدُالله بنُ مسعودٍ وأبو سعيدٍ الخدريُّ والسديُّ : (مَعَنْى قَوْلِهِ { مَعِيشَةً ضَنكاً } عَذابُ الْقَبْرِ ؛ يَضِيْقُ عَلَيْهِ حَتَّى تَخْتَلِفَ أضْلاَعُهُ) ، وقال الحسنُ : (هُوَ الضَّرِيْعُ وَالزَّقُّومُ فِي النَّارِ) ، قال عكرمةُ : (هُوَ أكْلُ الْحَرَامِ فِي الدُّنْيَا الَّذِي يُؤَدِّيْهِ إلَى النَّار).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " أتَدْرُونَ مَا الْمَعِيْشَةُ الضَّنْكَةُ ؟ " قَالُواْ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ ، قَالَ : " عَذابُ الْكَافِرِ فِي قَبْرِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنَّهُ لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّيْناً ، لِكُلِّ تِنِّيْنٍ سَبْعَةُ رُؤُوسٍ ، يَنْهَشُونَهُ وَيَلْسَعُونَهُ وَيَخْدِشُونَ لَحْمَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَوْ أنَّ تِنِّيْناً نَفَخَ فِي الأَرْضِ لَمْ تُنْبتْ شَيْئاً ". وقال ابنُ زيد : (الْمَعِيْشَةَ الضَّنْكَى : الزَّقُّومُ وَالْغِسْلِيْنُ وَالضَّرِيْعُ) ، وقال الضحَّاكُ : (الْكَسْبُ الْخَبيْثُ) ، وَقِيْلَ : إذا كان العبدُ سَيِّءَ الظنِّ بالله ضاقَ عليه عيشهُ وَضَنِكَ. وقال ابنُ جبير : (معنى قوله : { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي سَلَبَهُ الْقَنَاعَةَ حَتَّى لاَ يَشْبَعَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (عَمَى الْبَصَرِ) ، وقال مجاهدُ : (أعْمَى عَن الْحُجَّةِ ؛ أيْ لاَ حُجَّةَ لَهُ يَهْتَدِي إلَيْهَا) ، { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } ؛ بعَيْنَيَّ ، { قَالَ كَذالِكَ } ؛ تكونُ كَمَا { أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا } ؛ أي فتَرَكْتَهَا وأعرضتَ عنها ، { وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } ؛ أي تُتْرَكُ في النار.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } ؛ أي كما جَزَيْنَا مَن أعرضَ عن القُرْآنِ ، كذلك نَجْزِي مَن أسْرَفَ على نفسهِ بالمعاصي ، { وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } ؛ أي أشدُّ مِن عذاب الدُّنيا وأدومُ ، لأن عذابَ الدُّنيا ينقطعُ.
(0/0)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ } ؛ من قرأ بالياء فمعناهُ : ألَمْ نُبَيِّنْ ، يعني كفَّارَ مكَّةَ كَمْ أهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ ، والمعنى : ألَمْ نُبَيِّنْ لَهم طُرُقَ الاعتبارِ بكثرة إهلاكِنا القرونَ قبلَهم بتكذيب الرسُل فيعتَبروا ويؤمنُوا. وكانت قريشُ تَتَّجِرُ إلى الشَّام فترَى مساكنَ قومِ لُوطٍ وثَمود وعلاماتِ الإهلاك. ومَن قرأ بالنُّون فمعناهُ : ألَمْ نُبَيِّنْ لأهلِ مكة بَيَاناً يهتدون به فيرتَدِعُوا عن المعاصي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى } ؛ أي لِذوي العقولِ.
(0/0)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } ؛ معناهُ : وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبكَ في تأخيرِ العذاب عن هؤلاءِ الكفَّار إلى يومِ القيامة ، قولهُ { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } لكان العذابُ لاَزماً لَهم ، واقعاً في الحالِ. وتقديرُ الآية : وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبكَ وأجَلٌ مُسَمًّى لَكَانَ لاَزِماً ؛ أي لكانَ العذابُ لاَزِماً لَهم في الدُّنيا ، كما لَزِمَ القرونَ الماضية الكافرةَ.
(0/0)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ } ؛ أي فاصبر يا مُحَمَّدُ على ما يقولون من الشَّتمِ والتكذيب فسيعودُ عليهم وَبَالُ ذلكَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ } ؛ أي صَلِّ صلاةَ الفجرِ ، { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } ؛ يعني صلاةَ العصرِ ، { وَمِنْ آنَآءِ الْلَّيْلِ فَسَبِّحْ } ؛ يعني المغرِبَ والعشاءَ ، وآناءُ اللَّيلِ ساعاتهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } ؛ يعني صلاةَ الظهر ، قال قتادةُ : (كَأَنَّهُ ذهَبَ إلَى أنَّهُ آخِرُ النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ طَرَفٌ ، وَأوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي طَرَفٌ). وقال الحسنُ : ((وَقَبْلَ غُرُوبهَا) : الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، (وَأطْرَافَ النَّهَار) : صَلاَةُ التَّطَوُّعِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّكَ تَرْضَى } ؛ قرأ الكسائيُّ وأبو بكر بضَمِّ التاء ؛ أي تُعْطَى الرِّضَى بالدرجاتِ الرفيعة ، يرضاكَ اللهُ ويسمى مَرْضِيّاً ، وتصديقهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً }[مريم : 55]. وقرأ الباقونَ (تَرْضَى) بفتحِ التاء ؛ أي لَعَلَّكَ تَرْضَى بالثَّواب والشَّفاعةِ ، ودليلُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى }[الضحى : 5] ، والمعنى : أقِمْ هذه الصَّلَواتِ لكي تُعطى من الثواب ما ترضَى.
(0/0)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي لا تَنْظُرَنَّ بعينِ الرَّغبة إلَى مَا مَتَّعْنَا بهِ رجالاً منهم زِيْنَةَ الحياةِ الدُّنيا ، { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ؛ أي لِنَخْتَبرَهُمْ في ما أعطيناهم من الزِّينة. وَقِيْلَ : لنجعلَهُ فتنةً لَهم وضَلالاً بأنْ أزيدَ لَهم في النعمةِ ، فيزدادوا كُفراً وطغياناً.
قال أبو رافع : " بَعَثَنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَهُودِيٍّ ، فَقَالَ : " قُلْ لَهُ : إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي إلَيْكَ لِتُسْلِفَهُ كَذا وَكَذا مِنَ الدَّقِيْقِ ، أوْ تَبيْعَهُ وَتَصْبرَ عَلَيْهِ إلَى هِلاَلِ رَجَبٍ " فَأتَيْتُهُ ، فَقَالَ : وَاللهِ مَا أبيْعُهُ وَلاَ أُسْلِفُهُ إلاَّ برَهْنٍ! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ ، فَقَالَ : " وَاللهِ لَوْ بَاعَنِي أوْ أسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ ، وَإنِّي لأَمِيْنٌ فِي الأَرْضِ ، إذهَبْ بدِرْعِي إلَيْهِ " ثُمَّ حَزِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلِكَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كأنه يعزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا "
وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى { أَزْوَاجاً } أي أصْنَافاً من نِعَمِ الدُّنيا وزهرَتِها. قولهُ : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ؛ أي وَرِزْقُ رَبكَ الذي وعدكَ في الجنَّة خَيْرٌ وَأبْقَى مما رُزِقَ هو.
(0/0)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } ؛ أي وَأمُرْ قَوْمَكَ الذين على دِيْنِكَ ، { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } ؛ لِخَلْقِنَا ولا لنفسكَ ، لَم نَخْلُقْكَ لِحاجتنا إليكَ كحاجة السَّادَةِ إلى عبيدِهم ، بل { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } ؛ ونرزقُ جميعَ خَلْقِنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } ؛ أي وَالْعَاقِبَةُ الْمَحمودةُ لِمن يَتَّقِي اللهَ ولا يعصيهِ ، وتقديرهُ : والعاقبةُ لأهلِ التقوى. " وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الضِّيْقِ فِي الرِّزْقِ أمَرَ أهْلَهُ بالصَّلاَةِ ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ } إلى آخِرِها ".
(0/0)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } ؛ أي قالَ المشركون مِن أهلِ مكَّة : هَلاَّ يأتينا مُحَمَّدٌ بآيةٍ من ربه كما أتى بها الأنبياءُ ، نحوُ الناقةِ والعصا ، { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى } ؛ أي بيانُ ما في التَّوراة والإنجيلِ من البشَارَةِ بما وافَقَهُما من صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : معناهُ : أوَلَمْ يأْتِهم ما في الصُّحُفِ الأُوْلَى من أنبياءِ الأُمَمِ الذين أهلكنَاهم لَمَّا سألُوا الآياتِ ثُم كَفَرُوا بها ، فماذا يُؤَمِّنُهُمْ أن يكون حالُهم في سؤالِهم الآيةَ كَحَالِ أولئكَ. وهذا البيانُ إنَّما قُصَّ عليهم في القُرْآنِ.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } ؛ أي لَوْ أنَّا أهلكنَاهُم بعذاب الاسْتِئْصَالِ من قَبْلِ إرسالِ الرُّسل لقالوا : هَلاَّ أرْسَلْتَ إلينا رَسُولاً يُرْشِدُنَا إلى دِينِكَ فنتَّبعَ دلائلكَ ، { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } ؛ في الدُّنيا بالقتلِ ونُفْضَحَ في الآخرةِ بالعذاب. والمعنى : ولو أنَّا أهلكنا كُفَّارَ مكَّة بعذابٍ مِن قَبْلِ بعث مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونُزُولِ القُرْآنِ لقالوا يومَ القيامةِ : ربَّنَا هلاَّ أرسلتَ إلينا رسُولاً يدعُونا إلى طاعتِكَ فنتَّبعَ آياتِكَ من قَبْلِ أن ينْزِلَ العذابُ ، { وَنَخْزَى } ؛ فِي جهنَّمَ.
(0/0)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : كلٌّ منَّا ومنكم مُنْتَظِرٌ ، فانتظروا نحن ننتظر بكم ما وعَدَنا اللهُ فيكم من النَّصرِ والفتح ، وأنتم تنتظرون بنَا أن نَموتَ فتستريحون منَّا ، وذلك أنَّهم كانوا يقولون : نتربَّصُ بمُحَمَّدٍ ريبَ الْمَنُونِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } ؛ فَسَتَعْلَمُونَ بعدَ هذا إذا قامتِ القيامةُ مَن أصحابُ الدِّين المستقيمِ ، ومَن اهتدى إلى الرُّشد والصلاحِ نحنُ أم أنتم!
وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " مَن قَرَأ سُورَةَ طَهَ أُعْطِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوَابَ الْمُهَاجِرِيْنَ وَالأَنْصَارِ ".
(0/0)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } ؛ أي اقتربَ لأهلِ مكَّة حسابُهم ، والمعنى : اقتربَتِ القيامةُ ، واقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ، والْحِسَابُ هنا : إظْهَارُ مَا لِلْعَبْدِ وَمَا عَلَيْهِ لِيُجَازَى عَلَى ذلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } ؛ أي في غفلةٍ عمَّا يفعلُ الله بهم ذلكَ اليوم ، مُعرضون عن التَّأَهُّب له بالإيْمانِ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وهم في غَفْلَةٍ عن قُرْب الحساب والموت ، معرضون عن الفكرةِ في ذلك ، والتَّأَهُّب لهُ ، وهذا مِن اللهِ تنبيهٌ وعِظَةٌ ؛ لئَلاَّ يغفَلُوا عن الآخرةِ.
(0/0)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ } ؛ أي ما يأتيهم من وَحْيٍ ، { مُّحْدَثٍ } ؛ تَنْزِيْلُهُ ، والإحْدَاثُ يعودُ إلى الانزالِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ مُسْتَهْزِئِيْنَ).
(0/0)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ؛ منصوبٌ بقولهِ (يَلْعَبُونَ) ، ومعناهُ : غَافِلَةً قلوبُهم عما يرادُ بهم ، معرضةً عن ذِكْرِ اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى } ؛ أي تَنَاجَوا فيما بينهم سِرّاً.
ثم بَيَّنَ مَنْ هم فقال : { الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي الذين أشْرَكُوا باللهِ ، و(الَّذِيْنَ) في موضعِ الرفع بدلٌ من الضمير في (أسَرُّوا) كما في قولهِ تعالى{ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ }[المائدة : 71] ، ويجوزُ أن يكون (الَّذِيْنَ) خُفِضَ نعتاً للناسِ ؛ أي اقتربَ للناسِ الذين هذا حالُهم.
ثُم بَيَّنَ النَّجْوَى الذي أسرُّوهُ بقوله : { هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } أطْلَعَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم قالوا : هَلْ مُحَمَّدٌ مِثْلُكُمْ ، فإذن تتبعون بشر مثلكم ، { أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } ؛ وأنتم تعلمونَ أنه سِحْرٌ. قال السديُّ : (قَالُوا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدٍ مُتَابَعَةُ السِّحْرِ) ، والمعنى : أتَقْبَلُوا السِّحرَ ، وأنتم تعلمون أنهُ سِحْرٌ.
(0/0)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : ربي الذي أعبدهُ وأدعوا إلى عبادتهِ هو اللهُ الذي يعلمُ ما تُسِرُّهُ العبادُ من القولِ في السَّماء والأرضِ ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ؛ لذلك كلِّه ، العَالِمُ بما يجري عليه ، ومَن هذه صفتهُ ، فهو الذي يَجِبُ أن يُعْبَدَ دون الأصنامِ. وقرأ أهلُ الكوفةِ : (قَالَ رَبي) على الخير. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي السميعُ لأقوالِهم ، العليمُ بأفعالِهم.
(0/0)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } ؛ أي قالَ الكفارُ : إنَّ ما أُتِيَ به مُحَمَّدٌ تَخالِيْطُ رُؤْيَا رآها في الْمَنَامِ ، و (بَلْ) ها هنا انتقالٌ إلى خبرٍ آخرَ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ افْتَرَاهُ } أي قالوا اخْتَلَقَهُ كَذِباً من تلقاءِ نفسه ، ثُم قالوا : (بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) فجعلوا يَنْقِضُونَ أقوالَهم قولَ متحيِّرٍ لا يُمْكِنُهُ الجزمُ على أمرٍ واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ } ؛ بالآياتِ ، نحوُ انقلاب البحر ، وإحياءِ الموتى ، والناقة والعصا.
فقال اللهُ تعالى مُجيباً لَهم : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي ما آمَنَتْ قَبْلَ مشركي مكَّة { مِّن قَرْيَةٍ } يعني أهلَها ، والمعنى : ما آمَنَتْ من قريةٍ مُهْلَكَةٍ بالآياتِ الْمُرْسَلَةِ ، فكيفَ يُؤْمِنُ هؤلاء ؟ والمعنى : أنَّ مَجِيْءَ الآياتِ لو كان سَبَباً للإيْمانِ من غيرِ إرادة الله لكان سَبباً لإيْمانِ أولئكَ ، فلما بَطَلَ ذلك بَطَلَ هذا.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ } ؛ يعني ما أرْسَلْنَا قَبْلَكَ من الرُّسُلِ إلاّ رجَالاً مثلكَ ، وهذا جوابٌ لقولِهم{ هَلْ هَـاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }[الأنبياء : 3] ، فقال اللهُ تعالى : لَمْ أُرْسِلْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ إلاّ رجَالاً من بَنِي آدمَ لا الملائكةَ ، { فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ وأرادَ بأهلِ الذِّكر علماءَ أهلِ الكتاب ؛ لأن اليهودَ النصارى لا ينكرونَ أن الرُّسُلَ كانوا بَشَراً ، وإنْ أنكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : أرادَ بالذِّكر القُرْآنَ ، والمعنى : فاسألوا المؤمنينَ مِن أهلِ القُرْآنِ إن كنتم يا أهلَ مكَّة لا تعلمون. قال عَلِيٌّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ) : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ : (نَحْنُ أهْلُ الذِّكْرِ).
(0/0)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ } ؛ أي وما جعلنا الأنبياءَ ذوي أجسادٍ لا يأكلون الطعامَ ، ولا يشربونَ الشراب ، { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } ؛ لا يَمُوتُونَ ، وذلك أنَّهم قالوا : مَا لِهَذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ؟ فأُعْلِمُوا أن الرُّسُلَ جميعاً كانوا يأكون الطعامَ ، وأنَّهم يَموتون كسائرِ البشر ، وإنَّما وحَّدَ الجسدَ ؛ لأنه مصدرٌ كالخلقِ.
(0/0)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ } ؛ أي ثُم أنْجَزْنَا وعدَ الأنبياءِ في إنْجائنا إياهم ، وإهلاكِ الكفار المكذِّبين بهم ، وأرادَ بالمسرفين الكفارَ ، لأن الْمُسْرِفَ في اللغة هو الذي يتجاوزُ حَدَّ الحقِّ بما تباعدَ عنه ، فالكافرُ أحقُّ بهذه الصفةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنجَيْنَاهُمْ } أي مِن العذاب { وَمَن نَّشَآءُ } يعني الذين صَدَّقُوهُمْ.
(0/0)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } ؛ أي لَقَدْ أنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَاباً يا معشرَ قُرَيْشٍ ، كِتَاباً فيه شَرَفُكُمْ وعِزُّكم أن يَمسكم به يعني القُرْآن ، والذِّكْرُ هو الشَّرَفُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف : 44] أي شَرَفٌ ، يقال : فلانٌ مذكورٌ في العُلاَ ؛ إذا كان رَفِيْعاً. وقال الحسنُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { ذِكْرُكُمْ } أيْ مَا تَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أمْرِ دِيْنِكُمْ) ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ، ما فَضَّلَكُمْ به على غيرِكم ، أنْزَلْتُكُمْ حَرَمِي ، وبعثتُ فيكم نَبيّاً.
(0/0)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } ؛ أي كم أهلكنا مِن قريةٍ كانوا مُشركين ، والْقَصْمُ : الْكَسْرُ وَالدَّقُّ ، { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } ؛ أي وأحْدَثْنَا مِن بعدِ إهلاكهم قوماً آخرين ، فسَكَنُوا دِيَارهم.
(0/0)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } ؛ أي فلمَّا أحسَّ أهلُ القرية الكافرةِ عذابَنا إذا هم منها يهرُبون سِرَاعاً هَرَبَ الْمُنْهَزِمِ مِن عدُوِّه. ومعنى قوله { أَحَسُّواْ } أي رَأوا ، وَقِيْلَ : معناهُ : لَمَّا ذاقُوا. والإحْسَاسُ : هُوَ الإدْرَاكُ بحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
(0/0)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ } ؛ أي قِيْلَ لَهم : لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إلَى مَا نُعِّمْتُمُ فيه وإلى منازلكم ، تقولُ الملائكة ذلكَ استهزاءً بهم وتقريعاً على ما فُرِّطَ منهم بحيثُ يسمعون النداءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } ؛ يقال لَهم ذلكَ على طريق الْهُزْؤِ بهم وهو توبيخٌ في الحقيقةِ ، والمعنى : لكي تُسألوا شيئاً من دُنياكم فأنتم أهل برٍّ ونعمةٍ ، فـ { قَالُواْ } عند ذلك : { ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ لأنفسِنا حيثُ كذبنَا الرُّسلَ ، اعترفوا بالذنب حين رأوا العذابَ ، فقالوا هذا على سبيلِ النَّدمِ ، ولَم ينفعْهم حينئذٍ الندمُ. والوَيْلُ : الوقوعُ في الْهَلَكَةِ.
(0/0)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } ؛ أي فما زالت تلكَ الكلمةُ وهو قولُهم : { ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } لَم يزالوا يردِّدُنَها إلى أن ماتُوا وخَمَدُوا فصاروا كالزَّرْعِ الحصيدِ ، والحصيدُ : هو الزَّرْعُ الْمَحْصُودُ ، والْمَخْمُودُ : وهو الْمَهْمُودُ كَخُمُودِ النَّارِ إذا أُطْفِيَتْ.
قِيْلَ : نزلت هذه الآيةُ في أهلِ خَضُورٍ وهي قريةٌ من اليَمَنِ كان أهلُها من العرب ، بعثَ اللهُ إليهم نبيّاً يدعوهم إلى اللهِ فكَذبوهُ وقتلوهُ ، فسَلَّطَ اللهُ بخْتْنَصِّرَ حتى قَتَلَهُمْ وسَبَاهُم ونَكَّلَ بهم ، فلما أثْخَنَ فيهم القتلَ نَدِمُوا وهربوا وانْهزمُوا ، فقالت لَهم الملائكةُ على طريقِ الاستهزاء : لا تركُضُوا وارجِعُوا إلى مساكنكم وأموالكم ، فَاتَّبَعَهُمْ بخِتْنَصِّرِ وأخذتْهُمُ السيوفُ ، ونادَى مُنَادٍ من السَّماء : يا ثاراتِ الأنبياءِ ، فلمَّا رأوا ذلك أقَرُّوا بالذنوب حيث لَم ينفعهم ، فقالوا : يَا وَيْلَنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِيْنَ ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيْداً بالسيُّوف ، كما يُحْصَدُ الزرعُ ، خَامِدِينَ أي مَيِّتِيْنَ.
(0/0)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَـاعِبِينَ } ؛ أي ما خلقنَاهُما عَبَثاً ولا بَاطِلاً بل خلقنَاهُما لأمرٍ ؛ أي لأُجَازي أوليائي ، وأُعذِّبَ أعدائي. وَقِيْلَ : معناهُ : خلقناهما دلالةً على قُدرتِنا ووحدانيَّتنا ؛ ليعتَبرُوا بخلقِهما ويتفكَّروا فيهما ، فيعلمونَ أن العبادةَ لا تكونُ إلاَّ لخالِقِهما.
(0/0)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } ؛ قال قتادةُ : (اللَّهْوُ بلُغَةِ الْيَمَنِ الْمَرْأةُ) ، وقال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ النِّسَاءَ) ، وَقِيْلَ : جاء طاووسُ وعطاء ومجاهدُ إلى الحسنِ فسألوه عن هذه الآية ، فقالَ : (اللَّهْوُ الْمَرْأةُ). وفي رواية الكلبيِّ : (اللَّهْوُ الْوَلَدُ). وَقِيْلَ : معناهُ : لو أردنا أن نَتَّخِذ شَرِيكاً أو ولَداً أو امرأةً لَم يكن لنتَّخذها مما نسَبتُمونا إليه من الذي لا يسمع ولا يعقلُ ولا مِن هذه النساء والولدان ، بل كما نَتَّخِذُهُ من جنسٍ أشرفَ من هذا الجنسِ كما قَالَ تَعَالَى في آيةٍ أُخرى{ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ }[الزمر : 4]. وَقِيْلَ : معناهُ : لو أردنا أن نتخذ ولداً نَلْهُو به لاتَّخذناهُ عندَنا لا عندكم ؛ لأن ولدَ الرجل وزوجتهُ يكونان عندَهُ وبحضرتهِ.
نزلت هذه الآيةُ في الَّذين قالوا اتَّخَذ اللهُ ولداً ، ولو كان ذلكَ جائزاً في صِفَةِ الله تعالى لَم يتخذ بحيثُ لَم يظهر لكم ، ويسترهُ حتى لا تطَّلعوا عليه ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيْراً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } ؛ أي كُنَّا مِمَّن يفعلُ ذلك ، ولسنا مِمن يفعلهُ ، وَقِيْلَ : (إنْ) هنا بمعنى (مَا) أي مَا كُنَّا فَاعِلِيْنَ.
(0/0)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ } ؛ أرادَ بالحقِّ القُرْآنَ ، وبالباطلِ الكُفْرَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : دَعْ ذاكَ الذي قالوا فإنه كذبٌ وباطل ، بل نَقْذِفُ بالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ من كذِبهم ، { فَيَدْمَغُهُ } أي فيُهْلِكُهُ ويذهِبهُ ، { فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } ؛ أي زائلٌ ذاهب ، والمعنى : إنَّا نُبْطِلُ كذِبَهم مما تبيَّن من الحقِّ حتى يضمحلَّ ويذهبَ ، ثم أوعَدَهم على قولِهم فقال : { وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } ؛ أي لكم العذابُ مما تصفونَ اللهَ تعالى به من الصَّاحبة والولدِ.
ثُم بيَّن أن جميعَ الخلقِ عبيدهُ ، فقالَ : { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ عَبيداً وملكاً ، { وَمَنْ عِنْدَهُ } ؛ يعني الملائكةَ ، { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } ؛ قال الزجَّاج : (إنَّ الَّذِيْنَ ذكَرْتُمُوهُمْ بأَنَّهُمْ أوْلاَدُ اللهِ هُمْ عِبَادُهُ وَلاَ يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ ، وَلاَ يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا) ، { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ؛ أي ينقَطِعون عن العبادة من الإعيَاءِ والتَّعب ، مِن قولِهم : بَعِيْرٌ حَسِيْرٌ اذا أعْيَا وقام.
(0/0)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ } ؛ أي يصَلُّون للهِ تعالى الليلَ والنهار ، { لاَ يَفْتُرُونَ } ؛ أي لا يَضْعُفُونَ عن عبادتهِ ولا يَمَلُّونَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : يُنَزِّهُونَ اللهَ ، وإنَّما يقولون سُبْحَانَ اللهِ لا يَمَلُّونَ. قال الزجَّاج : (مَجْرَى التَّسْبيْحِ مِنْهُمْ كَمَجْرَى النَّفَسِ مِنَّا ، كَمَا لاَ يَشْغَلُنَا عَنِ النَّفَسِ شَيْءٌ فَكَذلِكَ تَسْبيْحُهُمْ دَائِمٌ).
(0/0)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ } ؛ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ ؛ أي أعَبَدَ أهلُ مكة أصناماً يُحيُونَ الموتَى؟! وفيه تقريعٌ لَهم بأنَّهم كاذبون أنَّها آلهةٌ ، لأن الإلهَ يُحيي الموتى ، وهي لا تُحيي ، فكيفَ يستحقُّ العبادةَ ؟ قِيْلَ : معنَى الآيةِ : لِمَ تَتَّخِذُون آلهةً مِن الأرضِ ، وأصنامُهم كانت من الأرضِ ؛ من أيِّ شيء كانت ، من خشبٍ أو حجارةٍ أو فضَّة أو ذهب ، هم يُنْشِرُونَ ، أيُحْيُونَ الْمَوْتَى.
(0/0)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ؛ لخَرَبَتَا وهَلَكَ مَن فيهما ، وعيَّن صفةَ الآلِهَةِ ؛ أي لو كان فيهما آلِهةٌ غيرُ اللهِ ؛ أي لو كانَ في السَّماءِ والأرضِ آلِهةٌ غيرُ الله لَمَا قامتِ السَّمواتُ والأرض ؛ لأنه لو أرادَ أحدُهما اتِّخاذ جسمٍ في مكان ، وأرادَ آخرُ اتِّخاذ جسمٍ آخر في ذلكَ المكان لَمْ يَخْلُ : إما أن يُوجَدَ مرادُهُما أو لا يوجدُ مرادُهما ، أو يوجدُ مرادُ أحدِهما دونَ الآخرِ.
فالأولُ باطلٌ ؛ لأن في وجودُ جِسمَين في مكانٍ واحد. والثانِي باطلٌ ؛ لأنَّ في ذلك كونُهما عاجِزَين ، والعاجزُ لا يستحقُّ الأُلُوهيَّة ، وإن وُجِدَ مرادُ أحدِهما دونَ الآخرِ ، فالذي لا يوجدُ مرادهُ يكون عاجِزاً لا يصلحُ أن يكون إلَهاً.
والمعنى : لَو كانَ فيهما آلِهةٌ غيرُ الله كما يزعمُ المشركون ، هذا قولُ جميعِ النحويِّين ؛ قالوا : (إلاَّ) ليسَ ها هنا باستثناءٍ ، ولكنهُ مع ما بعده صفةٌ للآلِهة في معنى (غَيْرَ). قال الزجَّاج : (فَلذَلِكَ ارْتَفَعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى لَفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا ، قَالَ الشاعرُ : وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ لَعَمْرُو أبيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ أي تَنْزِيهاً عمَّا يقولون عليه من الولدِ والشَّريكِ ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } ؛ أي لا يُسأَلُ عن أفعالهِ وقضائه في خلقِه من إعزازٍ وإذلال ، وهداية وإضلالٍ ، وإسعاد وإشقاء ؛ لأنه الربُّ مالكُ الخلقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } ؛ أي يقالُ لَهم يومَ القيامةِ لِمَ فعلتُمْ كذا ؟ لأنَّهم عبيدٌ يجبُ عليهمُ امتثالُ أمرِ مَوْلاَهُمْ ، واللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس فَوْقَهُ أحدٌ يقول لهُ لشيءٍ فَعَلَهُ لِمَ فَعَلْتَهُ.
(0/0)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً } ؛ هذا إنكارٌ عليهم وتوبيخٌ ، { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ؛ أي حُجَّتَكُمْ بأن رَسُولاً من رُسُلِ الله أنْبَأَ أُمَّتَهُ بأن لَهم إلَهاً غيرَ الله.
قولهُ تعالى : { هَـاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } ؛ معناهُ : هذا الْقُرْآنُ فيه ذكرُ مَن معي لِمَا يلزمهُم من الحلالِ والحرام والخطأ والصَّواب. وَقِيْلَ : خَبَرُ مَن معي على دِينِي بما لَهم من الثواب والعقاب ، وذِكْرُ مَنْ قَبْلِي مِن الأُمم مَن نَجَا منهم بالإيْمَانِ ، وأُهْلِكَ بالشِّركِ. وَقِيْلَ : معناهُ : هذا الْقُرْآنُ الذي هو ذِكْرُ مَن معي ، والتوراةُ والإنجيل هُما ذِكْرُ مَن قبلي ، هل في جميعِ ذلك غيرُ توحيدِ الله تعالى؟
والمعنى : هذا الْقُرْآنُ وهذه الكُتُبُ التي أُنزلت مِن قبلي ، فانظرُوا هل في واحدٍ منهم أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ } ؛ عن النظرِ في دلائلِ الله مقصِّرين على جهلِهم وتقليدهم.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ } ؛ أي ما أرْسَلْنَا مِن قبلك يا مُحَمَّدُ من رسولٍ إلاّ يُوحَى إليه أن يقولَ لقومهِ أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ فَاعْبُدُوهُ أي وحِّدُوهُ.
(0/0)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَـانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } ؛ أراد به قولَهم إنَّ المسيح ابنُ الله ، والملائكةَ بناتُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } ؛ معناهُ : بل هم عبيدٌ أكرمَهم اللهُ بالطاعة واصطفَاهُم.
(0/0)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } ؛ لا يخرجُون بقولِهم عن حدِّ ما أمرَهم ، { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } ؛ قَوْلُهُ : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ؛ أي يعلمُ ما قدَّموا وما أخَّرُوا من أعمالِهم ، ويقالُ : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من الدُّنيا { وَمَا خَلْفَهُمْ } من الآخرةِ ، ويقال : يعلمُ ما عمِلُوا وما هم عامِلُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } ؛ أي لا يشفعونَ إلاّ لِمن رَضِيَ اللهُ عنهُ وارتضى عملَهُ ، قال ابنُ عبَّاس : (لِمَنْ قَالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } ؛ أي وهم مِن خشيتِهم منهُ ، فأضافَ المصدرَ إلى المفعولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُشْفِقُونَ } أي خَائِفُونَ ، لا يأمَنُون مَكْرَهُ ، وفي هذا بيانُ أنّ مَن هذه صفتهُ لا يكون إلَهاً مع اللهِ ولا ولداً لهُ.
(0/0)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَـاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } ؛ أي مَن يقُلْ مِن الملائكة إنِّي إلهٌ من دون اللهِ فذلك يَجْزِيْهِ جهنَّمَ ، قال المفسرون : يعني إبليسَ لأنه أمَرَ بطاعة نفسهِ ، ودعا إلى نفسهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } ؛ أي كما جَزَيْنَاهُ جهنمَ ، نَجزي الظالمين الْمُشْركينَ.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس وعطاءُ والضحَّاك : (يَعْنِي كَانَتَا شَيْئاً وَاحِداً مُلْتَزِقَتَيْنِ ، فَفَصَلَ اللهُ بَيْنَهُمَا بالْهَوَاءِ) ، قال كعبُ : (خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ وَالأَرْضَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ خَلَقَ ريْحاً وَسْطَهُما ، فَفَتَحُمهَا بهَا).
وقال مجاهدُ : (كَانَتِ السَّمَوَاتُ طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا ، فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ ، وَكَانَتِ الأَرْضُونَ مُرْتَفِعَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً فَفَتَقَهَا اللهُ تَعَالَى ، فَجَعَلَهَا سَبْعَ أرْضِيْنَ) ، وقال عكرمةُ : (كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقاً لاَ تُمْطِرُ ، وَالأَرْضُ رَتْقاً لاَ تُنْبتُ ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ بالْمَطَرِ ، وَالأَرْضَ بالنَّبَاتِ).
وأصلُ الرَّتْقِ السِّدُّ ، ومنهُ قيلَ للمرأةِ التي فرجُها ملتحمٌ : رَتْقَاءَ. وأصلُ الفَتْقِ الفتحُ ، وذلك أنَّ السمواتِ والأرضَ كانت مُستويَتين لا فَتْقَ فيهما لِخروج الزَّرْعِ ونزولِ الغيث ، ففُتِقَتِ السماءُ بالمطر ، والأرضُ بالنباتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ؛ أي أحيينا بالمطرِ والنبات كلَّ ما على الأرضِ من حيوانٍ ، يعني أنه سببُ كلِّ شيء. وقال بعضُهم : يعني أنَّ كل شيءٍ حيٍّ فهو مخلوقٌ من الماءِ لقوله تعالى{ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ }[النور : 45].
قال أبو العالية : (يَعْنِي النُّطْفَةَ) ، فعلى هذا لا يتعلقُ هذا بما قَبْلَهُ ، وهو احتجاجٌ على المشركينَ بقُدرةِ الله تعاَلى ، { أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي أفلا يصدِّقُون بالإلهِ الذي فَعَلَ ذلك ؛ ليعلموا أنهُ الإلهُ دونَ غيرهِ. وإنَّما قال (رَتْقاً) ولَم يقل رَتْقَيْنِ ؛ لأن الرِّتْقَ مصدرٌ. المعنى : كانتا ذوَي رَتْقٍ فجعلناهما ذوَاتَي فَتْقٍ.
(0/0)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ } ؛ أي جعلنا فيها جِبَالاً أوْتَاداً فهي راسيةٌ كي لا تَميد بهم الأرضُ ، والْمَيْدُ : الاضطرابُ بالذهاب في الجهات ، قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ الأَرْضَ بُسِطَتْ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ ، فَكَانَتْ تَمِيْدُ بأَهْلِهَا كَمَا تَمِيْدُ السَّفِيْنَةُ ، فَأَرْسَاهَا اللهُ بالْجِبَالِ الثِّقَالِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ؛ أي جعلنا في الأرضِ طُرُقاً واسعةً ليهتدوا إلى مواطِنهم ، والفَجُّ : الطريقُ الواسع بين الجبلَين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبُلاً } تفسيرُ الفِجَاجِ.
(0/0)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } ؛ أي مَحفوظاً من السُّقوط ، وَقِيْلَ : مَحْفوظاً من الشياطينِ بالنُّجوم ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ }[الحجر : 17]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } ؛ يعني المشركينَ يُعرِضُونَ عن آياتِها ، يعني شَمسها وقمرَها ونجومها ، لا يتفكَّرون فيها فيعلمون أن خالِقَها لا شريكَ له.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ؛ أي خلَقَهما بعد رَفْعِ السَّماء عن وجهِ الأرض وَسخَّرَ { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ } ؛ من الشَّمس والقمر في مواضِعها التي رُكِّبَتْ فيها ، { يَسْبَحُونَ } ؛ أي يَجْرُونَ بسرعةٍ كالسَّابحِ في الماء ، وقد قال في مواضعٍ آخر{ وَالسَّابِحَاتِ سَبْح }[النازعات : 3] يعني النُّجومَ ، قال الضحَّاك : (الْفَلَكُ هُوَ الْمَجْرَى الَّذِي يَجْرِي فِيْهِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، ويقالُ : هو موجٌ كغرف يَجريان فيهِ. قال القتيبيُّ : (الْفَلَكُ الْقُطْبُ الَّذِي تَدُورُ بهِ النُّجُومُ ، وَهُوَ كَوْكَبٌ خَفِيٌّ بقُرْب الْفَرْقَدَيْنِ ، وَبَنَاتِ نَعْشٍ عَلَيْهِ تَدُورُ السَّمَاءُ). وقال الحسنُ : (هُوَ الطَّاحُونَةُ كَهَيْأَةِ فَلَكَة الْمِغْزَلِ) ، فالفَلَكُ في كلامِ العرب : هو كلُّ شيءٍ دَائِرٌ ، وجمعهُ أفْلاَكٌ.
(0/0)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } ؛ رويَ أنّ هذا نَزَلَ جواباً لقولِ الكفَّار : ننتظرُ بمُحَمَّدٍ ريبَ المنونِ فنستريحُ منه ، والمعنى : وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ البقاءَ الدائم ؛ يعني أن سَبيْلَهُ سبيلَ من مضى مِن بني آدم في الموت ، { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } ؛ يعني مشركي مكةَ لَمَّا قالوا : نتربصُ بمُحَمَّدٍ ريبَ المنون ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } ، فقيلَ لَهم : إنْ ماتَ فأنتم أيضاً تَموتون ؛ لأن كلَّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ.
قالت عائشةُ : (اسْتَأْذنَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَقَدْ مَاتَ وَأُسْجِيَ عَلَيْهِ الثَّوْبُ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَوَضَعَ فَمَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صَدْغَيْهِ وَقَالَ : وَا نَبيَّاهُ ؛ وَا خَلِيْلاَهُ ؛ وَا صَفِيَّاهُ ، صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } ؛ أي نَبْلُوكُمْ بالشدَّة والرَّخاء ؛ والمرضِ والعافيةِ ؛ والفقر والغنَى ، كلاهُما ابتلاءٌ من الله ، وتشديدٍ في التَّعَبُّدِ ؛ ليظهرَ شكرُهم فيما يُحبُّون ، وصبرُهم فيما يكرهون { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ؛ للجزاءِ.
(0/0)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } ؛ روي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بأَبي سُفْيَانَ وَأبي جَهْلٍ ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ لأبي سُفْيَانِ : هَذا نَبيُّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، كَالْمُسْتَهْزِئ ، فنَزلت هذه الآيةُ ، ومعناها : وَإذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَتَّخِذُونَكَ إلاَّ هُزُواً ، يستهزؤن بكَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَهَـاذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } ؛ أي يقولُ بعضُهم لبعضٍ : أهذا الذي يُعيبُ آلِهَتكم ويلومَكم على عبادتِها ، تقولُ العرب : فلانٌ يذكرُ الناسَ ؛ أي يغتابُهم ويعيبُهم ، وفلانٌ يذكرُ اللهَ ؛ أي يصفهُ بالعَظَمَةِ ويُثني عليهِ ، فيحذفون من الذِّكر ما يُعْقَلُ معناهُ ، فيكون معنى قوله : { يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } أي يذكرُ آلِهتَكم بسوءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَـانِ هُمْ كَافِرُونَ } ؛ أي يَجحدون الألوهيَّة ممن هو منعمٌ عليهم ، الْمُحيي الْمُمِيْتُ ، وهذا في نِهاية جهلهم.
(0/0)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ } ؛ أي خَلَقَ اللهُ الإنسانَ من عَجَلٍ مشتَهياً للعجلةِ فيها هواهُ ، ولذلك تستعجلُ أهلُ مكة الوعدَ والوعيدَ ، يقالُ : فلانٌ خُلِقَ مِن كذا ؛ أي أكثرَ ذلك الشيءَ كما يقال : خُلق فلانٌ من اللعب واللَّهو ، والإنسانُ اسم جنسٍ.
وقال عكرمةُ : (لَمَّا خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَنَفَخَ فِيْهِ الرُّوحَ وَصَارَ فِي رَأسِهِ ، أرَادَ أنْ يَنْهَضَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَ رجِلَيْهِ فَسَقَطَ ، فَقِيْلَ : خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ). وقال السديُّ : (لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ عَيْنَي آدَمَ نَظَرَ إلَى ثِمَار الْجَنَّةِ ، فَلَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي جَوْفِهِ اشْتَهَى الطَّعَامَ ، فَوَثَبَ قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ الرُّوحُ رجْلَيْهِ عَجَلاً إلَى ثِمَار الْجَنَّةِ فَلَمْ يَقْدِرْ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ }. وإذا كان خَلْقُ آدمَ من عجلٍ وُجِدَ ذلك في أولادهِ ، وأورثَ أولاده العجلةَ حتى استعجلوا في كلِّ شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } ؛ يعني القتلَ ببدرٍ ، { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ؛ إنه نازلٌ بكم.
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي يقولُ المشركونَ متَى هذا الوعدُ الذي تَعِدُنَا ، يريدون وعدَهم يومَ القيامة إن كنتَ مِن الصادقين في هذا الوعدِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ؛ أي لو يعلمون ذلكَ ما استعجلوهُ ولا قالوا متَى هذا الوعدُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لو عَلِمُوا ذلكَ لعلموا صِدْقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيما توَعَّدهم به.
(0/0)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً } ؛ معناهُ : بل تأتيهم الساعةُ فُجْأَةً وهم غافلون ، { فَتَبْهَتُهُمْ } ؛ أي تُحَيِّرُهُمْ ، يقال : بَهَتَهُ ؛ إذا واجَهَهُ بشيءٍ فَحَيَّرَهُ ، { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ؛ يُمهلون التوبةَ ، أو عُذراً ، أو صلاحَ عملٍ.
(0/0)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } ؛ أي ولقد استهزأتِ الأمَمُ من قبلك برُسُلهم ، كما استهزأ بك قومُكَ ، { فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ بهم ؛ أي فَحَلَّ بهم وبَالَ استهزائِهم ، وكان ما أرادوهُ بالداعي عائداً عليهم ، كما قال تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }[فاطر : 43] ، وَقِيْلَ في الفَرقِ بين الْهُزْؤ وبين السُّخرِية : أن في السُّخرية طلبَ الذِّلَّةِ ؛ لأن التسخيرَ هو التذليلُ ، وأما الْهُزْؤُ فهو استصغارُ القَدْر بضربٍ من القول.
(0/0)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَـانِ } ؛ أي قُل مَن يحفَظُكم من بَأْسِ الرَّحمن ، وعوارضِ الآفات في الليل والنهار وعقوبات الدُّنيا والآخرة ، { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } ؛ لا يلتفتون إلى شيءٍ من الْحُجَجِ والمواعِظ.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } ؛ مِن عذابنا ، { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } ؛ معناه : أنَّ آلِهتَهم لا يقدرون على الدفعِ عن أنفسهم في دَرْءِ ما يَنْزِلُ بهم من كَسْرٍ أو فساد ، فكان ينصرُهم ويَمنعُ عنهم مل يَنْزِلُ بهم ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } ؛ يعني الكفارَ. قال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : وَلاَ هُمْ مُجَارُونَ مِنْ عَذابنَا) أي لا يُجيرهم منَّا أحدٌ ، لأن الْمُجِيْرَ صاحبُ الْجَار ، يقال : صَحِبَكَ اللهُ ؛ أي حَفِظَكَ اللهُ وأجاركَ. وقال قتادةُ : (مَعْنَاهُ : وَلاَ هُمْ يُصْحَبُونَ مِنَ اللهِ بخَيْرٍ) يقالُ أصْحَبْتُ الرجلَ إذا أعطيتهُ أمَاناً يأمنُ به.
(0/0)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
وقولهُ : { بَلْ مَتَّعْنَا هَـاؤُلاءِ وَآبَآءَهُمْ } ؛ يعني أهلَ مكَّة متَّعَهم اللهُ بما أنعمَ عليهم ، { حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } ؛ فاغْتَروا بذلكَ ، والمعنى ما حَملهُم على الإعراضِ إلاّ الاغترارُ بطول الإمهالِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } ؛ معناهُ : أفلا يُشاهدون أنَّا نفتحُ الآرضَ مِن جوانبها ، وننقصُ من الشِّركِ بإهلاك أهلِها ، فيزدادُ هو كلَّ يوم تَمكُّناً ، وتزدادون ضَعْفاً ونقصاً ؟ والمعنى : ألَم يَرَ المشركون الذين يُحاربون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ويقاتلونَهُ أنا ننقصُهم ، ونأخذ ما حولَهم من قُراهم وأرضهم ؟ أفلا يَرَون أنَّهم هم المنقوصُون والمغلوبون؟
ومعنى قولهِ تعالى : { أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ } أي هم الغالبون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، بل هو الغالبُ لَهم. وعن ابنِ عبَّاس في معنى نقصِها من أطرافها : (أيْ بذهَاب فُقَهَائِهَا وَخِيَار أهْلِهَا ، فَكَيْفَ يَأمَنُ الرُّذالُ؟).
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّما أخوِّفُكم من عذاب الله بالقُرْآنِ الذي يُوحَى إلَيَّ لا مِن قِبَلِ نفسي ، وذلك أنَّ اللهَ أمَرَهُ بإنذارِهم ، كقولهِ{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ }[الأنعام : 51].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ؛ هذا تَمْثِيْلٌ للكفار بالصُّمِّ الذين لا يسمعونَ النِّداءَ ، والمعنى أنَّهم مُعانِدون ، فإذا أسْمَعْتُهُمْ لَم يعملُوا بما سمعوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } أي اذا ما يَخافُونَ.
(0/0)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ أي لو أصابَهم أدنَى عذابٍ لأيقَنُوا بالهلاكِ ، وقال ابنُ كَيسان : (مَعْنَاهُ : وَلَئِنْ مَسَّهُمْ قَلِيْلٌ مِنْ عَذاب اللهِ) ، وقال ابنُ جُريجٍ : (نَصِيْبٌ مِنْ عَذاب اللهِ) ، والمعنى : ولئن مسَّهُم طَرَفٌ من العذاب لأيقنوا بالهلاك ، ودَعَوا على أنفُسِهم بالويلِ مع الإقرار أنَّهم ظلَمُوا أنفُسَهم بالشِّركِ ، وتكذيب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالنَّفْحَةُ : هي الدفعةُ اليسيرة الواقعةُ مِن الشيء دون مُعْظَمِهِ ، يقالُ : نَفَحَهُ نَفْحَةً بالسَّيْفِ ؛ أي ضَرَبَهُ ضربةً خفيفةً.
(0/0)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } ؛ أي نضعُ الموازينَ ذواتِ القسط لأهلِ يوم القيامة. قال الحسنُ : (هِيَ مِيْزَانٌ لَهُ كَفَّتَانِ وَلِسَانٌ ، لاَ يُوزَنُ فِيْهَا غَيْرُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، يُجَاءُ بالْحَسَنَاتِ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ ، وَبالسَّيِّئَاتِ فِي أقْبَحِ صُورَةٍ ، فَلاُ يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتٍ أحَدٍ ، وَلاَ يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِ أحَدٍ). وقال مجاهدُ : (هَذا مَثَلٌ ، وَإنَّمَا أرَادَ بالْمِيْزَانِ الْعَدْلَ).
ويروى : أنَّ داودَ عليه السلام سألَ رَبَّهُ أن يُرِيَهُ الميزانَ ، فلما رآهُ غَشِيَ عليهِ ثُم أفاقَ ، فقال : إلَهِي مَن الذي يقدرُ أنْ يَملأ كفَّته حسناتٍ ؟ فقالَ : يا داودُ إنِّي إذا رضيتُ عن عبدي ملأتُهما بتمرةٍ. ويقالُ : إنَّما يُوزنُ خاتِمَةَ العملِ ، فمَن كان خاتِمةُ عملهِ خيراً ، جُوزيَ بخيرٍ ، ومَن كان شرّاً جُوزيَ بشَرٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا } ؛ وإن كان العملُ الذي عَمِلَهُ وزنَ حبَّة من خَرْدَلٍ أتَيْنَا بهَا للجزاءِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وإنْ كان الظلامةُ مثقالَ حبَّة من خردلٍ أحضرناها للمجازاة حتى لا يبقى لأحدٍ عند أحدٍ ظلامةٌ.
قرأ أهلُ المدينةِ (مِثْقَالُ) بالرفع على (إنْ كَانَ) بمعنى وَقَعَ لا خبرَ لَها ، وقرأ العامةُ بالنصب على معنى وإن كانَ ذلك الشيءُ ، ومثلهُ في لقمان. قوله تعالى : { وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ؛ أي مُحْفِظِيْنَ ، وَقِيْلَ : حافِظِين ؛ لأن مَن حَسَبَ شيئاً عَلِمَهُ وحَفِظَهُ.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ } ؛ أي التوراةَ يُفَرَّقُ بها بين الحقِّ والباطلِ ؛ والحلالِ والحرامِ ، { وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } ؛ مِن صِفَةِ التوراة مثلُ قولهِ تعالى : { هُدًى وَنُورٌ }[المائدة : 44] ، والمعنى : أنَّهم استضاؤُا بها حتى اهتَدَوا في دِينهم ، وقولهُ تعالى : { وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } أي موَعِظَةً للمتقين الكبائرَ والفواحشَ. وعن ابنِ عبَّاس : أنهُ كان يقرأُ (ضِيَاءً) بحذف الواوِ ، وكان يقولُ : (آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاءً).
(0/0)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } ؛ في الدُّنيا غائبين عن الآخرةِ ، { وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } ؛ أي خائفون من أن تلحَقَهم الساعةُ ، مما يَجري فيها من الْمُحَاسَبَةِ قبلَ إصلاح أعمالِهم.
(0/0)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَـاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } ؛ أي هذا القُرْآنُ الذي أنزلناهُ عليكَ يا مُحَمَّدُ ، ذِكْرٌ يَتَبَرَّكُ به قارئهُ فيجزيه الأجرَ العظيم ، { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ؛ يا أهلَ مكَّة ، وهذا توبيخٌ لَهم.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ } ؛ أي مِن قبل بُلُوغِهِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : مِن قَبْلِ مُوسَى وهارون ، والمعنى : آتيناهُ هُدَاهُ وهو صغير حين كان في السِّرْب حتى عرفَ الحقَّ من الباطلِ ، { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } ؛ أي آتيناهُ رُشْدَهُ ، { إِذْ } ، حين ، { قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ } ، في الوقت الذي خرجَ من أي التصاويرُ التي لأجلِها مقيمون عليها ، { مَا هَـاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } بيَّنُوا بهذا الجواب أنه لا حُجَّةَ لَهم في عبادةِ الأصنام إلاَّ تقليدَهم لآبائهم ، فأجابَهم إبراهيم ، { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } ؛ فِي عبادةِ الأصنام ، { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ عن الحقِّ ظاهرٍ.
(0/0)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ } ؛ قالوا له أجَادٌّ أنتَ فيما تقولُ ؟ مُحِقٌّ أم لاعبٌ مازحٌ ؟ وذلك لأنَّهم كانوا يستبعدون إنكارَ عبادتِها ، { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فطَرَهُنَّ } ؛ أي بَلْ إلَهُكم مَالِكُ السَّمواتِ والأرضِ الذي خَلَقَهُن { وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ } ؛ ما قلتُ لكم ؛ { مِّنَ الشَّاهِدِينَ }.
(0/0)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } ؛ أي لأُبْطِلَنَّهَا ولأَكْسِرَنَّهَا ولأَمْكُرَنَّ بها وقتَ مغيبكم عنها ، وذلك لأنَّهم كانوا يعزمونَ على الذهاب إلى عِيدهم ، فقال لَهم عند ذلك هذا القولَ. والكَيْدُ في اللغة : هو الإضْرَارُ بالشَّيءِ ، قال مجاهدُ وقتادة : (إنَّمَا قَالَ إبْرَاهِيْمَ هَذا الْقَوْلَ فِي نَفْسِهِ مِنْ قَوْمِهِ سِرّاً ، وَلَمْ يَسْمَعْ ذلِكَ إلاَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، وَهُوَ الَّذِي أفْشَاهُ سِرَّهُ عَلِيْهِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ : سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيْمُ).
قال الشعبي : (كان لَهم في كلِّ سنةٍ مَجْمَعٌ وَعِيْدٌ ، وكانوا إذا رجعوا من عِيدهم دخلوا على الأصنامِ فسجَدُوا لَها ، فلما كان ذلك العيدُ قال أبو إبراهيمَ لهُ : يا إبراهيمُ لو خرجتَ معنا إلى عيدنا لأَعْجَبَكَ دينُنا! فخرجَ إبراهيمُ معهم ، فلما كان في بعضِ الطريق ألقَى نفسَهُ ، وقال : إنِّي سَقِيْمٌ ؛ أي اشتَكِي رجْلِي ، فربَطُوا رجلَهُ وهو صريع ، فلما مضَوا نادى في آخرِهم : وَتَاللهِ لأَكِيْدَنَّ أصْنَامَكُمْ ، { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ }.
ثُم رجعَ إبراهيمُ إلى بيتِ أصنامهم ، فوجدَ معهم صَنَماً كَبيراً إلى جنبه أصنامٌ أصغَرُ منه ، وإذا هم قد جَمعوا طعاماً فوضعوهُ بين يَدَي الأصنامِ وقالوا : إذا كان وقتُ رجوعِنا رجعنا وقد باركَتِ الآلِهةُ لنا في طعامِنا فأكلنا ، فلما نظرَ إبراهيمُ إليهم وإلى ما بين أيدِيهم من الطعام ، قال لَهم على طريقِ الاستهزاء بهم : ألا تَأْكُلُونَ ؟ فلما لَم يُجيبوهُ ، قال لَهم : مَا لَكُمْ لاَ تَنْطِقُونَ ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بالْيَمِيْنِ ، وجعل يكسِرُهم بفأسٍ في يده حتى لَم يبقَ إلاَّ الصنمُ العظيم ، فعلَّقَ الفأسَ في عُنُقِهِ ثُم خرجَ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } ؛ فإنه لَم يكسرْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } فيه إضمارٌ ؛ أي لَمَّا ولَّوا مدبرينَ جعلَهُم جُذاذاً. قرأ الكسائيُّ بكسرِ الجيم أي كَسْراً وقطعاً ، جمع جَذِيْذٍ وهو الهشيمُ مثل خَفِيْفٍ وخِفَافٍ وكريْمٍ وكِرَامٍ ، وقرأ الباقون بضمِّ الجيم ؛ أي جعلهم حُطَاماً ورُفَاتاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } فإنه لَم يكسره ، { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } فيحتجُّ عليهم إبراهيم ويُبرهِنَ لهمْ على أن أصنامَهم لِمَ لَمْ تقدِرْ على دفع الكسرِ عن أنفُسِها ؟ فلِمَ يعبدُوها ؟ وكيف يكونُ إلَهاً مَن لا يقدرُ على دفعِ ما نَزَلَ به؟. وَقِيْلَ : معناهُ : لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ؛ أي إلى دِين إبراهيم ، وإلى ما يدعوهم إليه بوجوب الْحُجَّةِ عليهم في عبادةِ ما لا يدفعُ الضُّرَّ عن نفسهِ ، وينتهوا عن جهلهم وعِظَمِ خطاياهم.
(0/0)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـاذَا بِآلِهَتِنَآ } ؛ فلمَّا رجعُوا مِن عيدهم ورأوا أصنامَهم مكسَّرةً ، قَالُوا : مَنْ فَعَلَ هَذا بآلِهَتِنَا ؟ { إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي فَعَلَ ما لَم يكن لهُ أن يفعلَ ، فقال الذي سَمع إبراهيمَ ؛ { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } ؛ وذلك أن بعضَهم كانوا قد سَمعوهُ يذكرُ أصنامَهم بالعيب ويقولُ : إنَّها ليست بآلِهة.
فقالوا : ينبغي أن يكون ذلك الفتَى هو الذي كَسَرَها ، { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ } ؛ بذلك الفتَى ، { عَلَى أَعْيُنِ } ؛ أي مَرْأى مِنَ ، { النَّاسِ } ؛ لكي يشهدَ الذين عرفوهُ أنه يعيبُ الأصنامَ. وَقِيْلَ : إنه لَمَّا بلغَ النمرودَ وأشرافَ قومه ما فُعِلَ بأصنامِهم وما قالوهُ ، في إبراهيمَ أنه هو الذي فعلَ ذلك ، قال النمرودُ ومن معه : فَأْتُوا بهِ عَلَى أعْيُنِ النَّاسِ ، { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } ؛ أنه هو الذي فعَلَ ذلك بهم ، وكَرِهُوا أن يأخذوهُ بغيرِ بَيِّنَةٍ. وَقِيْلَ : معناه : لعلَّهم يشهدون ما يُصنَعُ به من العقوبةِ ؛ أي يحضرون.
(0/0)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَـاذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ } ؛ أي فلمَّا أتوا به قالوا : أنتَ فعلتَ هذا الكسرَ بآلِهتنا ، { قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا } ؛ الذي الفأسُ في عُنُقِهِ ، { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } حتى يُخبرُوكم ، وأراد بهذا تقريرهم بأنَّهم ظالِمون في عبادتِهم ما لا يدفعُ عن نفسه ؛ لأن جماعتَهم كانوا يعلمون أن الصنمَ لا يعقلُ ولا ينطق ، فأرادَ إبراهيمُ بذلك تَبْكِيْتَ القومِ وتوبيخَهم على عبادةِ مَن لا يعقلُ ولا يفعل ، ولذلك قال : فاسألوهم إنَّ كانوا يقدرون على النُّطقِ.
(0/0)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ } ؛ أي فرَجَعُوا إلى أنفسهم بالْمَلاَمَةِ ، { فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ في سؤالهِ ؛ لأنَّها لو كانت آلِهةً لَم يَصِلْ إلى كسرِها أحدٌ ؛ { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ } ؛ أي أدركَتْهُم حيرةٌ فَنَكَّسُوا لأجلِها رؤوسَهُم ، وأقرُّوا بما هو حُجَّةٌ عليهم ، فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ } ؛ يا إبراهيم ، { مَا هَـاؤُلاءِ يَنطِقُونَ } ؛ فكسَرْتُهم لذلكَ.
وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : تذكَّروا بقلوبهم ، ورجَعُوا إلى عقولِهم ، فقالوا : ما نراهُ إلاّ كما قالَ إنَّكُمْ أنْتُمُ الظَّالِمُونَ بعبادتِكم آلِهَةً لا تنطقُ ولا تبطشُ ، ثُم أدركَتْهم الشقاوةُ ، فعادوا إلى قولِهم الأوَّل وضلالِهم القديم ، وهو قوله { ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ } أي رُدُّوا إلى الكفرِ بعد أن أقَرُّوا على أنفسِهم بالظُّلم ، فقالوا لإبراهيم : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤلاَء يَنْطِقُونَ فلذلِكَ كسرتَهم.
فلما اتَّجهت الْحُجَّةُ عليهم بإقرارهم ، وبَّخَهُمْ إبراهيمُ و { قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } ؛ ولا يرزقُكم { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } ؛ إذا لَم تعبدوهُ ، { أُفٍّ لَّكُمْ } ؛ أي تَبّاً لكم ، { وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ أنَّ هذه الأصنامَ لا تستحقُّ العبادةَ ، إذ هي أحجارٌ لا حركةَ لَها ولا بيانَ ، أفليس لكم ذهنُ الإنسانيَّةِ.
(0/0)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ } ؛ أي لَمَّا ألزمَتْهُم الحجةُ ، وعجزوا عن الجواب غَضِبُوا فقالوا : حرِّقوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بتحريقهِ ؛ لأنه يعيبُها ويطعنُ فيها ، فإذا حرقتموهُ كان ذلك نصراً منكم إياها. وَقِيْلَ : معناهُ : وانتقموا لآلِهتِكُم وعظِّمُوها ، { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } ؛ في هذا شيئاً.
فاشتَغَلوا بجمعِ الحطب حتى كان الشيخُ الكبير يأتِي بالحطب تقرُّباً إلى آلِهتهم ، وحتى أن المريضَ كان يُوصِي بكذا وكذا من مالهِ فيشتري به حَطَباً فيُلقَى في النار ، وحتى أن المرأةَ لتغزلُ فتشتري به حطباً ، وتلقيه في النارِ. قال ابنُ عمر : (إنَّ الَّذِي أشَارَ عَلَيْهِمْ بتَحْرِيْقِ إبْرَاهِيْمَ رَجُلٌ يُسَمَّى (هِيْزَنَ) فَخَسَف اللهُ بهِ الأَرْضَ ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيْهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فلما أجمعَ النمرودُ وقومه على إحراقِ إبراهيمَ حبسوهُ في بيتٍ وبَنَوا بيتاً كالحظيرةِ ، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ }[الصافات : 97] ثُم جمعوا له أصلابَ الحطب مِن أنواع الخشب ، حتى أن المرأةَ كانت إذا مرَّت تقولُ : إذا عافانِي اللهُ لأجمعنَّ حطباً لإبراهيمَ ، وكانت المرأةُ تنذرُ في بعض ما تطلب لئن أصابته لتحطبنَّ في نار إبراهيم التي يحرقُ فيها احتساباً لدينها.
قال ابنُ اسحق : (كانوا يجمعون الحطبَ شهراً ، فلما أجمعوا الحطبَ شعَلُوا في كلِّ ناحية ناراً ، فاشتعلت النارُ واشتدَّت حتى أن الطائرَ كان إذا مرَّ بها احترقَ من شدَّة وَهَجِهَا ، ثُم عمَدُوا إلى إبراهيمَ وقيَّدوهُ ، ثُم اتخذوا مَنْجَنِيْقاً ووضعوهُ فيه مقيَّداً مغلولاً.
فصاحَتِ السمواتُ والأرض والملائكة صيحةً واحدة : يا ربَّنا إن إبراهيمَ ليس في أرضِكَ أحدٌ يعبدُكَ غيرهُ ، أيُحْرَقُ؟! فَأْذنْ لنا في نُصرتهِ ، فقال اللهُ : إن استعاذ بشيءٍ منكم أو دعاهُ فلينصره ، فقد أذنتُ له في ذلك ، وإن لَم يدعُ أحداً غيري فأنا أعلمُ به ، فأنا وَلِيُّهُ ، فَخَلُّوا بيني وبينَهُ.
فلما أرادوا إلقاءَهُ في النارِ ، أتاهُ خازنُ الماء فقال لهُ : إن أذنتَ أخمدتُ النارَ ، فإن خزائنَ المياه والأمطار بيدي ، وأتاهُ خازن الرِّياحِ وقال : إن شئتَ طيَّرتُ النارَ في الهواء ، فقال إبراهيمُ : لا حاجةَ لِي إليكم ، ثُم رفعَ رأسَهُ إلى السَّماء وقال : اللَّهُمَّ أنتَ الواحدُ في السماء ، وأنا الواحدُ في الأرضِ ، ليس في الأرضِ أحدٌ يعبدك غيري ، حَسْبي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيْلُ).
وروي : أن إبراهيمَ قال حين أوثقوهُ ليلقوه في النارِ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِيْنَ ، لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ ، لاَ شَرِيْكَ لَكَ. قال : ثُم رَمَوا به في المنجنيقِ ، فاستقبلَهُ جبريلُ عليه السلام وقال : يا إبراهيمُ ألَكَ حاجةٌ ؟ قال : أمَّا إليكَ فلا.
قال جبريل : قال : حَسْبي من سؤالِي علمهُ بحالِي ، فقال اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَوْ لَمْ يُتْبعْ بَرْدَهَا سَلاَماً لَمَاتَ مِنْ بَرْدِهَا ، فَلَمْ تَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الأَرْضِ إلاَّ طُفِئَتْ وَخُمِدَتْ).
(0/0)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } ؛ أي وأرادوا الحيلةَ في الإضرارِ ، { فَجَعَلْنَاهُمُ } ؛ الكفارَ الذين أرادوا إحراقَهُ ، { الأَخْسَرِينَ } ؛ بأن لَم يَتِمَّ ما عَزَمُوا عليه ، وتبيَّن عجزُهم عن نصرهم لآلِهتهم ، فخَسِرَ سعيُهم. وقال ابنُ عبَّاس : (هُوَ أنَّ اللهَ سَلَّطَ الْبَعُوضَ عَلَى النَّمْرُودِ وَجُنْدِهِ حَتَّى أخَذتْ لُحُومَهُمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ ، وَوَقَفَتْ وَاحِدَةٌ فِي دِمَاغِهِ حَتَّى أهْلَكَتْهُ).
(0/0)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } ؛ أي نَجَّيْنَا إبراهيمَ من كيدِ النمرود ، ونَجَّينَا لوطاً معهُ ؛ أي ورفعنا إبراهيمَ من الْهَلَكَةِ إلى الأرضِ المباركة وهي أرضُ الشَّام. وسُميت أرضُ الشامِ مباركةً ؛ لكثرةِ الأنبياء الذين بعثَهم اللهُ فيها. وعن أبي العاليةِ : (أنهُ ليس ماءٌ عذب إلاّ وهو يجرِي من الصخرة التي ببيت المقدسِ).
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } ؛ أي ووهَبْنَا لإبراهيمَ وَلَدَهُ اسحقَ وولدهُ يعقوبَ ، سُميَ يعقوبُ (نَافِلَةً) لأنه وَلَدُ وَلَدِهِ ، والنافلةُ في اللغة : زيَادَةٌ على الأصلِ ، ونوافِلُ : الصلاةُ ما تطوَّعَ به المصلِّي. ويقال : إنَّهما جميعاً نافلةٌ ؛ لأنَّهما عطيَّةً زائدةٌ على ما تقدَّم من النِّعَمِ. قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ : (سَأَلَ إبْرَاهِيْمُ رَبَّهُ وَلَداً وَحِداً ، فَقَالَ : رَب هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِيْنَ ، فَأَعْطَاهُ اللهُ اسْحَقَ وَلَداً وَزَادَهُ يَعْقُوبَ) ، قال ابنُ عبَّاس : (نَفَلَهُ يَعْقُوبَ ؛ أيْ زَادَهُ إيَّاهُ عَلَى مَا سَأَلَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } ؛ يعني إبراهيمَ وإسحق ويعقوب ، وجعلناهم أنبياءَ عاملين بطاعتنا.
(0/0)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } أي قَادَةً في الخيرِ ، { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } ؛ أي يدعونَ الخلقَ إلى أمرِنا ودِيننا ، { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ } ؛ أي شرائعَ النبوَّةِ ، وَقِيْلَ : أمَرناهم بفعلِ الخيرات ، { وَإِقَامَ الصَّلاَة وَإِيتَآءَ الزَّكَـاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } ؛ أي خاضِيعين مطيعين. وإنَّما قال (وَإقَامِ الصَّلاَةِ) بغير (هاء) ؛ لأن الإضافةَ صارت عِوَضاً عن الهاءِ.
(0/0)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } ؛ أي وَآتَينا لوطاً النبوَّةَ والعلمَ ، { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ } ؛ يعني سَدُومَ ، كان أهلُها يأتون الذُّكران في أدبارهم ، ويتضارطون في مجالسِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ } ؛ قِيْلَ : إنَّهم كانوا يعملونَ مع ذلك أشياء أُخَرَ من المنكراتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ } ؛ بإنجائِنا إيَّاهُ من القومِ السُّوء وهلاكِهم ، { إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ أي مِن الأنبياءِ.
(0/0)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ } ؛ أي واذكُرْ نوحاً إذْ نَادَى رَبَّهُ من قَبْلِ إبراهيمَ ولوطٍ يعني دعَا على قومه بالهلاكِ ، فقالَ : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }[نوح : 26] ، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ } ؛ ومَن معهُ من غَمٍّ الغرق وَكرْبهِ ، والكَرْبُ أشدُّ الغَمِّ. { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي منعناهُم مِن أن يَصِلوا اليه بسوءٍ ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ } ؛ أي كفاراً ، { فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ بالطُّوفَانِ.
(0/0)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } ؛ أي وأكرَمْنا داودَ وسليمان بالنبوَّة والحكمةِ إذ يحكُمان في الحرثِ ، وقال قتادةُ : (زَرْعاً) ، وقال ابنُ مسعود : (كَانَ كَرْماً قَدْ نَبَّتَ عِنَباً) ، قِيَّدَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ } أي وقعت فيه باللِّيلِ ورَعَتْهُ وأفسدتهُ ، والنَّفْشُ في اللغة : الرَّعْيُ بالليلِ ، يقال : نَفَشَتِ السَّائمةُ بالليلِ ، وهَمَلَتْ بالنهارِ إذا رَعَتْ ، والْهَمَلُ الرعيُ بالنهارِ ، وكلاهما الرعيُ بلا راعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } ؛ أي لا يخفَى علينا منه شيءٌ ، ولا يغيبُ عن علمِنا ، وإنَّما قال (لِحُكْمِهِمْ) بلفظ الجمعِ لإضافة الحكم إلى مَن حَكَمَ وإلى الْمَحكومِ لَهم ، وقد يُذْكَرُ لفظُ الجمعِ في موضع التثنية{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ }[النساء : 11] أي أخَوَانِ.
(0/0)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ؛ أي فَهَّمْنَا القصةَ سليمانَ دون داود ، { وَكُلاًّ } ؛ منهما ؛ { آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } ؛ العلمُ والفصلُ بين الخصومِ.
قال ابنُ مسعودٍ وقتادةُ والزهريُّ : (وَذلِكَ أنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلاَ عَلَى دَاوُدَ عليه السلام ، أحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ ، وَالآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ وَالْكَرْمِ : إنَّ هَذا نَفَشَتْ غَنَمُهُ لَيْلاً فَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي ، فَلَمْ تُبْقِ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ : لَكَ رِقَابُ الْغَنَمِ - وَكَانَا فِي الْقِيْمَةِ سَوَاءً - فَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ بالْحَرْثِ وَخَرَجَا.
فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْنُ أحَدَ عَشَرَ سَنَةً ، فَقَالَ : كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا ؟ فَأَخْبَرَاهُ ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ : نِعْمَ مَا قَضَى ، وَغَيْرُ هَذا كَانَ أرْفَقَ بالْكُلِّ ، وَلَوْ وُلِّيْتُ أمْرَكُمَا لَقَضَيْتُ بغَيْرِ مَا قَضَى. فَأُخْبرَ دَاوُدُ بذلِكَ فَدَعَا فَقَالَ : كَيْفَ تَقْضِي بَيْنَهُمَا ؟ قَالَ : أدْفَعُ الْغَنَمَ إلَى صَاحِب الْحَرْثِ فَيَكُونُ لَهُ نَسْلُهُمَا وَرسْلُهُمَا وَمَنَافِعُهَا وَسَمْنُهَا وَصُوفُهَا إلَى الْحَوْلِ ، وَيَقُومُ أصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْكَرْمِ حَتَّى يَعُودَ كَهَيْأَتِهِ يَوْمَ أُفْسِدَ ، ثُمَّ يَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ غَنَمَهُمْ ، وَيَدْفَعُ هَؤُلاَءِ إلَى هَؤُلاَءِ كَرْمَهُمْ.
فَقَالَ دَاوُدُ عليه السلام : نِعْمَ مَا قَضَيْتَ فِيْهِ ، فَالْقَضَاءُ قَضَاؤُكَ. وَحَكَمَ دَاوُدُ بَيْنَهُمْ بذلِكَ ، فَقُوِّمَ بَعْدَ ذلِكَ الْكَرْمُ وَمَا أصَابُوهُ مِنَ الْغَنَمِ فَوَجَدُوهُ مِثْلَ ثَمَرِ الْكَرْمِ) ، وهكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس.
قال الحسنُ : (كَانَ الْحُكْمُ مَا قَضَى بهِ سُلِيْمَانُ ، وَلَمْ يُعْفِ اللهُ دَاوُدُ فِي حُكْمِهِ) وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ مجتهدٍ يصيبُ ، وإلى هذا ذهبَ بعضُ الناسِ فقالوا : إذا نَفَشَتِ الغنمُ ليلاً في الزرعِ فأفسدتهُ ، كان على صاحب الغنم ضمانُ ما أفسدته ، وإن كان نَهاراً لَم يضمن شيئاً ، واستدلُّوا أيضاً بما رُوي : " أنَّ نَاقَةً كَانَتْ لِلْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَئِطَ رَجُلٍ فَأَفْسَدَتْهُ ، فَقَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أهْلِ الأَمْوَالِ حِفْظَهَا بالنَّهَارِ ، وَعَلَى أهْلِ الْمَوَاشِي حِفْظَهَا باللَّيْلِ ".
وأما أصحابُنا فلا يَرَوْنَ في هذه المسألةِ ضَمَاناً ليلاً ولا نَهاراً ، إذا لَم يكن صاحبهُ هو الذي أرسله فيه ، ولا حُجَّةَ لَهم في هذهِ الآية ؛ لأنهُ لا خلافَ أن مَن نَفَشَتْ إبلهُ أو غنمهُ في حرثِ رجلٍ أنه لا يجبُ عليه أن يُسَلِّمَ الغنمَ ، ولا يسلمُ أولادَها وألبانَها وأصوافها إليه ، فثبتَ أنَّ الْحُكْمَيْنِ اللذين حَكَمَ بهما داودُ وسليمان (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) مَنْسُوخَانِ بشريعةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وقد رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ " وهذا خبرٌ مستعمل مُتَّفَقٌ على استعمالهِ في البهيمة الْمُنْفَلِتَةِ إذا أصابت إنساناً أو مالاً أنه لا ضمانَ على صاحبها إذا لَم يرسلْها هو عليه ، وليس في قصَّة البراءِ بن عازب إيجابُ الضمان ، ولأنّ الأشياءَ الموجبةَ للضمانِ لا تختلفُ بالليل والنهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ } ؛ اي وسخَّرنا الجبالَ والطيرَ يسبحن مع داودَ ؛ أي أن الجبالَ كانت تسيرُ مع داود أين يذهبُ ، ومما يؤيدُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى :
(0/0)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ؛ أي وسخَّرنا لسليمان الريحَ عاصفةً ؛ أي شديدَ الْهُبُوب. قال ابنُ عبَّاس : (إنْ أمَرَ الرِّيْحَ أنْ تَعْصِفَ عَصَفَتْ ، وَإذا أرَادَ أنْ تُرْخَى أرْخَتْ). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ }[ص : 36].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ } أي تجري بأمرِ سُليمان من اصْطَخَرَ إلى الأرضِ التي باركَ اللهُ فيها بالماءِ والشَّجر وهي الأرضُ المقدَّسة. روي : أنَّ الريحَ كانت تجري بسليمانَ وأصحابه إلى حيث شاءَ سليمانُ ، ثُم يعودُ إلى منْزِله بالشَّامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } ؛ بصحَّة التدبيرِ فيه ، عِلمْنا أن ما يُعطى سليمان من تسخيرِ الريح وغيره يدعوهُ إلى الخضوعِ لربهِ.
(0/0)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ } ؛ أي وسخَّرنا له مِن الشياطين في البحرِ لاستخراج ما شاء من لُؤْلُؤٍ ومَرْجَانٍ وغيرِ ذلك من الجواهر. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ } ؛ أي ويعملون دون الغواصة من أعمالِ البناء ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } ؛ أي مِن أنْ يُفسدوا ما عملوا ، ومن أن يَهيجوا على أحدٍ في زمانه.
(0/0)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ } ؛ أي دَخَلَ الضرُّ في جسدِي ، { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ؛ بالعبادِ ، فكان هذا تَعْرِيْضاً منهُ بالدعاءِ لله لإزالة ما بهِ من الضُّرِّ ، { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } دعاءَهُ ، { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } ؛ وقولهُ تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } ؛ قال ابنُ مسعود وقتادة والحسنُ : (أحْيَا اللهُ لَهُ أوْلاَدَهُ الَّذِيْنَ هَلَكُوا فِي الدُّنْيَا بأَعْيَانِهِمْ وَرَدَدْنَا لَهُ مِثْلَهُمْ).
ويقالُ : أبْدَلَهُ اللهُ بكلِّ شيء ذهبَ عنه ضِعْفَ ، " وعن ابنِ عبَّاس قال : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } [ص : 43] فقالَ : " يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، رَدَّ اللهُ امْرَأتَهُ وَزَادَ فِي شَبَابهَا حَتَّى وَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِيْنَ ذكَراً ". قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } ؛ أي فَعَلْنَا ذلك به رحمةً من عندنا ، { وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ } ؛ أي وموعظةً للمطيعين.
قال وهبُ بن مَنبه : (كان أيوبُ عليه السلام رجلاً من الرُّوم من ذريَّة اسحق بن إبراهيمَ وكانت أمُّهُ من ولدِ لُوطٍ ، وكان اللهُ قد اصطفاهُ وبناه وبسطَ عليه الدُّنيا ، وآتاهُ من أصناف المال من البقرِ والإبل والغنم والخيل والْحُمُرِ ما لا يؤتيهِ أحداً ، وكان قد أعطاهُ الله أهلاً ووَلداً من رجالٍ ونساء ، وكان له خمسمائة عبدٍ ، لكلِّ عبدٍ امرأةٌ وولد ومال.
وكان أيوبُ عليه السلام بَرّاً تَقِيّاً رحيماً بالمساكين ، يُكْرِمُ الأراملَ والأيتام ويَكْفُلُهُمْ ، ويُكْرِمُ الضيفَ ، وكان شَاكراً لأنْعُمِ اللهِ ، مؤدِّياً لحقِّ الله ، قد امتنعَ من عدوِّ الله إبليسَ أن يصيبَ منه ما يصيبُ من أهلِ الغِنَى من الفتنةِ والغفلة والشَّهوة والتشاغُلِ عن أمر الله بما هو فيه من الدُّنيا ، وكان كثيرَ الذكرِ لله تعالى مجتهداً في العبادةِ ، وكان إبليسُ لا يُحْجَبُ عن شيءٍ من السَّموات.
ومن هنا وصلَ إلى آدمَ عليه السلام حين أخرجَهُ من الجنةِ ، فلم يزلْ على ذلك يصعدُ في السَّموات حتى رفعَ اللهُ عيسى عليه السلام فحُجِبَ من أربعٍ ، وكان يصعدُ في الثلاثِ ، فلمَّا بعثَ الله مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم جُجِبَ من الثلاثِ الباقيات ، فهو وجنودهُ مَحْجُوبُونَ من جميعِ السموات إلى يوم القيامةِ إلاّ مَن اسْتَرَقَ فأتبعهُ شهابٌ ثاقب.
فلما كان إبليسُ في زمان أيوبَ يصعدُ إلى السَّماء ، سَمِعَ تحاديثَ الملائكة بصلاة أيوبَ ، وذلك حين ذكَرَهُ اللهُ وأثنى عليهِ ، فأدركَهُ الحسدُ بأيوب ، فصعدَ سريعاً حتى وَقَفَ مِن السموات موقفاً كان يَقْفُهُ ، وقال : إلَهي ؛ عبدُكَ أيوبُ قد أنعمتَ عليه فشكركَ ، وعَافَيتَهُ فَحَمِدَكَ ، ولَم تُجَرِّبْهُ بشدَّة ولا بلاءٍ ، وأنا لك زعيمٌ لَئِنْ جرَّبتَهُ بالبلاءِ ليَكْفُرَنَّ بكَ.
فقالَ اللهُ تعالى : انطلق ؛ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ على مالهِ ، فانقضَّ إبليسُ حتى وقعَ على الأرضِ وجَمَعَ عفاريتَ الجنِّ وقال لَهم : ماذا عندَكُم من القوَّة ؟ فإنِّي قد سُلِّطْتُ على مالِ أيُّوبَ ، وهي المصيبةُ الكبرى والفتنةُ التي لا تَصْبرُ عليها الرجالُ ، فقال عفريتٌ من الجنِّ : أعطيتُ من القوةِ ما إذا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إعصاراً من النار ، وأحرقتُ كلَّ شيءٍ أتى عليه ، فقال لهُ ابليسُ : إذهب إلَى الإبلِ ورُعاتِها ، فذهب إلى الإبلِ فوجدَها في المرعى ، فلم يشعُرِ الناسُ حتى ثارَ إعصارٌ تنفخُ منه السَّموم ، لا يدنو منهُ أحدٌ إلاّ احترقَ ، فلم يزل يُحرِقُها ورعاتَها حتى أتى على آخرِها.
(0/0)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } ؛ يعني يُونُسَ بْنَ مَتَّى أحْبَسَهُ الله في بَطْنِ النُّونِ ، وهو الحوتُ ، ومعنى الآية : وَاذْكُرْ ذا الحوتِ إذْ ذهَبَ مُغَاضِباً لقومهِ. روي : أنهُ خرجَ مِن بينهم قَبْلَ أن يؤذنَ له في الخروجِ ، وكان خروجهُ من بينهم خطيئةً ، وإنَّما خرجَ منهم على تركِهم الإيْمانَ به ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس والضحَّاك.
وَقِيْلَ : كان يونسُ وقومُهُ يسكنون فلسطين فعداهم مَلِكٌ فسبَى منهم خَلْقاً كثيراً ، فأوحَى اللهُ إلى أشعيا النبيِّ عليه السلام : إذْهَبْ إلى الملكِ حزقيا فقُل له : تَوِّجْهُ نبيّاً قوياً أميناً ، فإنِّي أُلقِي في قلوب أولئك التخلية حتى يُرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال الملكُ : مَن ترى يرسلُ ؟ وكان في مَملكته خمسةً من الأنبياءِ ، فقال لهُ : أرسِلْ يونسَ فإنه قويٌّ أمين ، فأتى الملكَ يونسُ فأخبرَهُ أن يخرجَ ، فقال يونسُ : هل أمَرَكَ اللهُ بإخراجي ؟ قال : لاَ ، فقال : فهل سَمَّانِي لكَ ؟ قال : لا ، قال : فهنا أنبياءٌ غَيري أثوياءُ أمناءُ ، فألَحَّوا عليه فخرجَ مُغاضِباً للنبيِّ والملكِ ولقومه.
فأتَى بحرَ الرُّوم ، فإذا سفينةٌ مشحونةٌ فرَكِبَ مع أصحابها ، فلما صارت في لُجَّةِ البحرِ انكفأَتْ حتى كادوا يغرَقون ، فقال الملاَّحون : ها هنا عبدٌ آبقٌ عاصٍ ، فاقترِعُوا ، فمَن وقعت عليه القرعةُ ألقيناهُ في البحرِ ، لئن يغرقَ واحدٌ منَّا خيرٌ مِن أن تغرقَ السفينةُ بما فيها. فاقترعوا ثلاثاً فوقعت القرعةُ كلُّها على يونسَ ، فقال يونسُ : أنا الرجلُ العاصي والعبدُ الآبقُ ، وألقَى نفسَهُ في الماءِ. فجاءَ حوتٌ فابتلعه ، ثُم جاء حوتٌ آخر أكبرَ منه فابتلعَ الحوتَ أيضاً. فأوحىَ الله إلى الحوتِ لا تُؤْذِي منه شعرةً ، فإنِّي قد جعلتُ بطَنَكَ سِجْنَهُ ، ولَم أجعلْهُ رزْقاً لكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } ، بالعقوبةِ ، يقال قَدَرَ اللهُ الشيءَ وَقَدَّرَهُ ؛ أي قَضَاهُ. وَقِيْلَ : معناه : فَظَنَّ أن لن نُضَيِّقَ عليه السجنَ ، من قولهِ تعالى : { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ }[الطلاق : 7] أي ضُيِّقَ ، وَقولهِ{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ }[الروم : 37] ، وقد ضَيَّقَ اللهُ على يونس أشدَّ تضييقٍ. وَقِيْلَ : معناهُ : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } ما قَدِرْنَا من كونه في بطنِ الحوت.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ } ؛ قال ابنُ عباس : (هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَظُلْمَةُ الْبَحْرِ وَظُلْمَةُ بَطْنِ الْحُوتِ) ، وقال سالِمُ ابن أبي الْجَعْدِ : (كَانَ حُوتاً فِي بَطْنٍ حُوتٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي الظَّالِمين لنفسِي في خُروجي من قومي قبلَ الإذن. قال الحسنُ : (وَهَذا مِنْ يُونُسَ اعْتِرَافٌ بذنْبهِ ، وَتَوْبَتِهِ مِنْ خَطِيْئَتِهِ ، تَابَ إلَى رَبهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَرَاجَعَ نَفْسَهُ). قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لاَ يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلاَّ فَرَّجَ اللهُ عَلِيْهِ ، كَلِمَةُ أخِي يُونُسَ : لاَ إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ".
(0/0)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } ؛ أي أجَبْنَا دعوته ونَجَّيْنَاهُ من تلكَ الظُّلمات ، { وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ } ؛ إذا دَعَوْنِي ، كما نَجَّينا ذا النُّون. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " اسْمُ اللهِ إذا دُعِيَ أجَابَ ، وَإذا سُئِلَ بهِ أُعْطَي : دَعْوَةُ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ هِيَ لِيُونُسَ خَاصَّةً أمْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِيْنَ ؟ قَالَ : لِيُونُسَ خَاصَّةً ، وَلَهُ وَلِلْمُؤْمِنِيْنَ عَامَّةً ، أُدْعُوا بهَا ، ألَمْ تَسْمَعْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ } ".
واختلفَتِ القراءاتُ في قولهِ { وَكَذالِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ } ، قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ : (نُجِّي الْمُؤْمِنِيْنَ) بنون واحدةٍ وتشديد الجيمِ وتسكين الياءِ. وجميعُ النحويين حَكَمُوا على هذه القراءةِ باللَّفظِ ، وقالوا : هي لَحْنٌ ، ثُم ذكرَ الفرَّاء لَها وجهاً فقالَ : أضْمَرَ الْمَصْدَرَ فِي (نُجِّي) أي نُجِّيَ النِّجاءُ الْمُؤْمِنِيْنَ ، كَقَوْلِكَ : ضَرَبْتُ الضَّرْبَ زَيْداً عَلَى إضْمَار الْمَصْدَر ؛ أي ضُرِبَ الضَّرْبَ زَيْداً ، وقال الشاعر : وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ لَسُبَّ بذلِكَ الْجَرْو الْكِلاَبَاومِمن صوَّبَ هذه القراءةَ أبو عُبيد ، وأما أبو حاتَم السَّجستانِيُّ فإنه لَحَنَهَا ونسبَ قارئَها إلى الجهلِ وقال : (هَذا لَحْنٌ لاَ يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ ، وَلاَ يُحْتَجُّ بمِثْلِ ذلِكَ الْبَيْتِ عَلَى كِتَاب اللهِ ، إلاَّ أنْ تَقُولَ : وَكَذِكَ نُجِّيَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَوْ قَرَأ ذلِكَ لَكَانَ صَوَاباً).
قال أبو علي الفارسيُّ : (هَذا إنَّمَا يَجُوزُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ ، فَإنْ قِيْلَ : لِمَ كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ بنُونٍ وَاحِدَةٍ ؟ قِيْلَ : لأنَّ الثَّانِيَةَ لَمَّا سُكِّنَتْ وَكَانَ السَّاكِنُ غَيْرَ ظَاهِرٍ عَلَى اللِّسَانِ حَذفَهُ ، كَمَا فَعَلَ ذلِكَ فِي (ألاَّ) فَحَذفُوا النُّونَ مِنْ (أنْ لاَ) لخفائها إذا كَانْتْ مُدْغَمَةً فِي اللاَّمِ).
(0/0)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
وقولهُ تعالى : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } ؛ أي وَاذْكُرْ دعاءَ زكريَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ فقالَ رب لا تترُكْني وحيداً ؛ أي ارزُقْنِي ولداً آنسُ به ويعينني على أمرِ الدِّين والدُّنيا ، ويقومُ بأمرِ الدين بعد وفاتِي ، وأنتَ وارثُ جميعِ الخلق ؛ لأنَّ مردَّهم صَائرُون إليكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ } ؛ أي فأَجَبْنَا له دعاءَه هذا ، { وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } ؛ عَقْرَ امرأتهِ ، قال قتادةُ : (كَنَتْ عَقِيْماً فَجَعَلْنَاهَا وَلُوداً) ، وَقِيْلَ : كانت سيِّئة الْخُلُقِ فرزَقَها اللهُ حُسن الْخُلقِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } ؛ أي يُبَادِرُونَ إلى الطاعات مخافةَ أن يَعْرِضَ لَهم ما يَشْغَلُهُمْ عنها ، ويعني بذلكَ زكريَّا وامرأتَهُ ويَحيى ، وقال بعضُ المفسِّرين : الكنايةُ تعود على الأنبياءِ الذين ذكَرَهم اللهُ في هذه السورةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } ؛ أي طَمَعاً في ثوابنا وخَوْفاً من عقابنا ، { وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } ؛ أي خاضِعين حَذِرينَ.
(0/0)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } ؛ وهي مَرْيَمُ بنتُ عِمْرَانَ ، { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } ؛ أي نَفَخَ جبريلُ في جَيْب دِرْعِهَا بأمرِنا ، والمعنى : وَاذْكُرِ التي حَفَظَتْ فرجَها مما لا يحلُّ.
وقولهِ تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي دلالةً للعالَمين من حيث أنَّها جاءت بالولدِ من غير بَعْلٍ ، تكلَّم في المهدِ بما يوجبُ براءةَ شأنِها من العيب ، وفي ذلك دليلٌ على مَقْدُورَاتِ الله ، وعلى هذا لَم يقل آيَتَينِ ؛ لأنَّ شأنَهما في الدلالةِ كان واحداً.
(0/0)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ والحسن : (مَعْنَاهُ إنَّ هَذا دِيْنَكُمْ دِيْنٌ وَاحِدٌ) والأُمَّةُ الدِّيْنُ ، ومنهُ قولهُ{ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ }[الزخرف : 22] أي على دِيْنٍ. الأصلُ أنه يقالُ للقومِ الذين يجتمعون على دِيْنٍ واحد : أُمَّةٌ ، فتقوم الأمَّةُ مقامَ الدِّينِ. وهو نُصِبَ على الحالِ ؛ أي حالَ اجتماعها على الحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ؛ أي لا دِيْنَ سِوَى ديني ولا ربَّ غيرِي.
(0/0)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } ؛ معناهُ : كان أمرُهم في الدِّين واحداً ، ولكن تفرَّقُوا واختلفوا بما لا يجوزُ ؛ وهم اليهودُ والنصارى والْمَجوس. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي جميعُ أهلِ هذه الأديان راجعون إلى حُكْمِنَا يومَ القيامةِ ، فنجزيَهم بأعمالِهم.
(0/0)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ؛ أي لا جُحُودَ لعملهِ ، بل يتقبَّلُها اللهُ ويُثنِي عليها ، والمعنى : لا يَمْنَعُ ثوابَ عملهِ ، ولا يَجْحَدُ إحسانَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } ؛ أي نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ أن يكتُبوا لذلكَ العاملِ عملَهُ لنجازيَهُ عليهِ.
(0/0)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ؛ أي واجبٌ على كلِّ قرية اذا أُهْلِكَتَ لا ترجعُ إلى دُنيَاهَا. قال الكلبيُّ : (يَعْنِي بقَوِلِهِ { أَهْلَكْنَاهَآ } عَذبْنَاهَا أنَّهم لا يرجعونَ إلى الدُّنيا). والمعنى : أنَّ الله تعالى حَكَمَ على مَن أُهْلِكَ أن يبقَى في الأرضِ مدفوناً إلى يومِ القيامة ، وأن لا يرجعَ إلى الدُّنيا. قرأ حمزةُ والكسائي : (وَحِرْمٌ) بكسرِ الحاء وجزمِ الراء من غير ألِفٍ ، وهما لُغتان مثل حِلٍّ وَحِلاَّنٍ.
(0/0)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } ؛ أي إذا فُتحت جهة يأجوجَ ومأجوج ، وفتحُها إخراجُها من السدِّ. قرأ ابنُ عامر ويعقوب : (فُتِّحَتْ) بالتشديدِ على التكثير.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } ؛ أي من كلِّ أكَمَةٍ ورَبْوَةٍ مرتفعةٍ من الأرض يخرجون بإسراع ، والْحَدَبُ : الارتفاعُ ومنه الْحَدَبَةُ خروجُ الظَّهرِ ، وتبيِّنهُ. والنُّسُولُ : هو الخروجُ بسرعةٍ كَنَسَلاَنِ الذِّئْب يعني مشيه اذا أسرعَ فيها.
والمعنى : أنَّهم مِن كلِّ نَشْرٍ من الأرضِ يُسرعون ويتفرَّقون في الأرضِ ، فلا يُرَى أكمةً إلاَّ وفوقَها قومٌ منهم يهبطون منها مُسرعينَ ، فلا يَمرُّونَ بماءٍ إلاّ شَرِبُوهُ ولا بشيءٍ إلاّ أفسدوهُ.
قال المفسِّرون : أولادُ آدمَ عشرةُ أجزاءٍ ، تسعةٌ يأجوجُ ومأجوجُ ، وقد ذكرنا قصَّتَهم في سورةِ الكهف.
(0/0)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } ؛ قِيْلَ : إن الواوَ ها هنا مُقْحَمَةٌ ، والمعنى : حَتَّى إذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ، يكون ذلكَ عندَ اقتراب السَّاعة ، وذكَرَ الوعدَ والمراد به الْمَوْعِدَ.
رُوي عن حذيفةَ رضي الله عنه أنَّهُ قالَ : (لَوْ أنَّ رَجُلاً اقْتَنَى فُلُوّاً بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي تَشْخَصُ أبصارُهم يومَ القيامة نحو الجهةِ التي يتوقَّعون نزولَ العذاب بهم منها. وَقِيْلَ : خَشَعَتْ أبصارُهم من شدَّة الأهوالِ ذلكَ اليوم. قال الكلبيُّ : (شَخَصَتْ أبْصَارُهُمْ فَلاَ تُطِيْقُ تَطْرُفُ مِنْ شِدَّةِ الأَهْوَالِ) ، فأما الضميرُ في قولهِ { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } يعودُ إلى معلومٍ قد بَيَّنَهُ وهو قولهُ { أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، كقولِ الشاعر : لَعَمْرُ أبيْهَا لاَ تَقُولُ ظَعِيْنَتي إلاَّ فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أبي كَعْبفكنى عن الظعينة ثم أظهرها ويكونُ تقديرُ الكلامِ : فإذا الأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ أبْصَارُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا. وَقِيْلَ : يكون قوله (هِيَ) عمادٌ مثلُ قوله{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ }[الحج : 46]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياوَيْلَنَا } ؛ أي قالوا يَا وَيْلَنَا ؛ { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـاذَا } ؛ اليومِ في الدُّنيا ، { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ لأنفُسِنا بالكفرِ.
(0/0)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ؛ معناه : إنَّكم يا أهلَ مكَّة وما تعبدون من الأصنامِ وَقُودُ جهنَّم. والْحَصَبُ في اللغة : هو كُلُّ ما يُرمى بهِ ، يقال : حَصَبَةُ بالْحَصَا إذا رماهُ بها ، وفي القراءةِ الشاذة : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهي قراءةُ ابنِ عبَّاس ، والْحَضَبُ : ما يُهَيَّجُ به النارُ ، ومنه قيلَ لدِقَاقِ النار حَصَبٌ. وقرأ عليٌّ وعائشةُ : (حَطَبُ جَهَنَّمَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } أي فيها خالدون ، والحكمةُ في إدخالِ الأصنام النارَ مع أنَّها لا ذنْبَ لَها في عبادةِ مَن يعبدُها : أن يُقصدَ بإدخالِها تعذيبُ عُبَّادِهَا ، فما كان منها حَجَراً أو حديداً يُحْمَى فَيَلْتَزِقُ بعُبَّادها ، وما كان منها خَشَباً جُعِلَ جَمْرَةً فيعدبون بها ، أو يكون في إدخالِ معبُودِهم معهم في النار زيادةَ ذُلٍّ وصَغَارٍ عليهم.
(0/0)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ هَـاؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } ؛ اسْتِجْهَالاً لَهم في عبادة الأصنامِ ؛ أي لو كان الأصنامُ آلِهَةً كما يزعمُ الكفار ما وَرَدُوهَا ؛ أي دخلَ عابدُوها النارَ ، { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ يعني العابدُ والمعبودُ.
(0/0)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } ؛ الزَّفِيْرُ شِدَّةُ النَّفَسِ بهَوْلِ ما يردُ على صاحبهِ ، وهم فيها لا يَسْمَعُونَ شيئاً ، ولا يرَى أحدٌ منهم أنَّ في النارِ أحداً يُعَذبُ غيرهُ. قال ابنُ مسعودٍ : (يُجْعَلُونَ فِي تَوَابيتَ مِنْ نَارٍ ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابيْتُ فِي تَوَابيْتَ أُخْرَى فَلاَ يَسْمَعُونَ شَيْئاً).
" وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : أنَّهُ أتَى قُرَيْشاً وَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَمِعُونَ وَحَوْلَهُمْ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَماً مَصْفُوفَةً ، لِكُلِّ قَوْمٍ صَنَمٌ لَهُمْ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ " ثُمَّ ذهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَشُقَّ عَلَيْهِمْ ذلِكَ ، فَأَتَاهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبْعَرِىِّ فَرَآهُمْ يَتَهَامَسُونَ ، فَقَالَ : فِيْمَ حَوْصُكُمُ؟! فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيْدُ بْنُ الْمُغِيْرَةِ بمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبْعَرِىِّ : أمَا وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ.
فَدَعَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ ابْنُ الزبعرى : أنْتَ قُلْتَ أنَّا وَمَا نَعْبُدُ فِي النَّار ؟ قَالَ : خَصَمْتُكَ وَرَب الْكَعْبَةِ ، ألَيْسَتِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْراً ، وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيْحَ ، وَبَنِي مَلِيْحٍ يَعْبُدُونَ الْمَلاَئِكَةَ! أفَتَرَى أنَّ هَؤُلاَءِ لاَ يَكُونُونَ فِي النَّار ؟ فَبَيَّنَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ تَعَالَى أرَادَ بهِ الأَوْثَانَ ". وفي الآية ما يدلُّ على ذلكَ ؛ لأنَّ قولَهُ تعالى{ وَمَا تَعْبُدُونَ }[الأنبياء : 98] لا يكون إلاَّ لِمَا لا يعقلُ ، إذ لو أرادَ الملائكةَ والناسَ لقال (وَمَنْ تعبدون). ثُم أنزلَ اللهُ تعالى :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } ؛ معناهُ : أنَّ عيسى وعُزَيراً والملائكةَ هم الذين سَبَقَتْ لَهم مِنَّا الْحُسْنَى ؛ أي وَجَبَتْ لَهم العِدَةُ من اللهِ تعالى بالبُشرى والسعادة.
ويدخلُ في هذه الآية جُملة المؤمنين ؛ لما رُوي لأنَّ عثمان سَمِعَ عليّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ يقرأ هذه الآيةَ { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : (أنَا مِنْهُمْ وَأبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ وَسَعِيْدُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ وَأبُو عُبَيْدَةَ). وقال الجنيدُ : (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللهِ الْعِنَايَةُ فِي الْهِدَايَةِ ، فَظَهَرَتِ الْوِلاَيَةُ فِي النِّهَايَةِ).
(0/0)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ }[الأنبياء : 101] مُنَحَّوْنَ عن النار ، { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } ؛ أي حِسَّهَا وحركةَ تلهُّبها ، والمعنى : لا يسمعون صوتَ النارِ ، { وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } ؛ أي فِي مَا اشْتَهَتْ أنفُسُهُمْ من نعيمِ الجنَّة مقيمون دائمون.
(0/0)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ } ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : يعني إطباقَ جهنَّم على أهلِها ، وقال ابنُ عباس : (النَّفْخَةُ الأَخِيْرَةُ). وَقِيْلَ : هو ذبحُ الموتِ بين الفريقين. وَقِيْلَ : هو حين يؤمرُ بأهلِ النار إلى النار ، وذلك حين يقالُ{ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ }[يس : 59]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ } ؛ أي بالتَّهنئةِ على باب الجنَّة ، فيقولون لَهم : { هَـاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }.
(0/0)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ : (السِّجِلُّ هُوَ الصَّحِيْفَةُ تُطْوَى بمَا فِيْهَا مِنَ الْكِتَابَةِ) وَاللاَّمُ في قوله (لِلْكُتُبِ) : بمعنى (على) ، وقال السديُّ : (هُوَ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالصُّحُفِ ، إذا مَاتَ الإنْسَانُ رُفِعَ كِتَابُهُ إلَيْهِ فَطَوَاهُ). وَقِيْلَ : إن السِّجِلَّ كاتبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. ويقالُ : هو الرجلُ بلغة الحبَشَة.
قرأ أبو جعفرٍ : (تُطْوَى السَّمَاءُ) بالتاء ، ورفعَ (السَّمَاءُ) على ما لَم يُسَمَّ فاعلهُ. وقرأ أهلُ الكوفة : (لِلْكُتُب) على الجمعِ.
والمرادُ بطَيِّ السَّماءِ أنَّ اللهَ تعالى يَطْوِيْهَا ، ثُم يفتحُها ثم يُعيدها ، ولذلك قال : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ؛ أي كما بدأناها أوَّلَ مرَّة ، نعيدُها إلى الحالةِ الأُولى. ويجوزُ أن يكون معنى قولهِ { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } نعيدُ الخلقَ للبعثِ كما بدأناهُ في النُّطفةِ ، ودليلُ هذا القولِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }[الأعراف : 29].
والطَّيُّ في هذه الآيةِ يحتملُ معنَيين ؛ أحدهما : الدَّرْجُ الذي هو ضِدُّ النَّشْرِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ }[الزمر : 67]. والثَّانِي : الإخفاءُ والتَّعْمِيَةُ والْمَحْوُ والطَّمسُ ؛ لأن اللهَ تعالى يَمحُو رسُومَها ويُكْدِرُ نُجومَها. وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } : كما بدأنَاهُم في بطُونِ أمَّهاتِهم حفاةً عُراة غُرْلاً ، كذلك نعيدُهم يومَ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعْداً عَلَيْنَآ } ؛ نُصِبَ على المصدرِ بمعنى : قد وَعَدْنَاهم هذا وَعْداً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } ؛ ما وعَدْنَاكم مِن ذلك ، وَقِيْلَ : فاعلينَ الإعادةَ والبعثَ.
(0/0)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } ؛ أي كَتَبْنَا في زَبُورِ داودَ مِن بعدِ توراةِ مُوسى. وقال ابنُ عبَّاس والضحَّاك : (الذِّكْرُ التَّوْرَاةُ ، وَالزَّبُورُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ بَعْدِ التَّوْرَاةِ). وَقِيْلَ : الزبورُ زبورُ داودَ ، والذِّكْرُ الفرقانُ ، و(بَعْدِ) بمعنى (قَبْلِ) كقولهِ تعالى{ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ }[الكهف : 79] أي أمَامَهُم ، وقولهُ{ وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا }[النازعات : 30] أي قَبْلَ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } يعني أرضَ الجنَّة يرِثُها عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : جميعُ المؤمنينَ العاملين بطاعة الله.
(0/0)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي هَـاذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } ؛ أي إنَّ في هذا القُرْآنِ بلاغاً للكفاية ، والمعنى : أن من اتبع القرآن وعمل به كان بلاغهُ في الجنَّة ، وقولهُ تعالى { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } ؛ قال كعبٌ : (هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِيْنَ يُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ). ورُوي : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأ { إِنَّ فِي هَـاذَا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } ، ثُمَّ قَالَ : " هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ".
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ؛ معناهُ : وَمَا أرْسَلْنَاكَ يا مُحَمَّدُ إلاّ نِعْمَةً للعالَمين. قال ابنُ زيد : (يَعْنِي لِلْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً) ، وقال ابنُ عبَّاس : (هُوَ عَامٌّ ، فَمَنْ آمَنَ بهِ كُتِبَ لَهُ مِنَ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا أصَابَ الأُمَمَ مِنَ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالْغَرْقِ). والمعنى : أنهُ كان إذا أُرْسِلَ نبيٌّ من الأنبياءِ ؛ فإنْ آمَنَ به قومهُ وإلاّ عُذِّبُوا ، وأُرسل النبيُّ صلى الله عليه وسلم فكان كلُّ مَن كفرَ به يؤخَّرُ إلى يومِ القيامة فهو نعمةٌ على الكافرِ إذ عُوفِيَ مما أصابَ الأممَ من المسخِ.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَيَّ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّما يُوحَى إلَيَّ في القُرْآنِ ؛ { أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } وهو اللهُ لا شريكَ له ؛ { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } يا أهلَ مكَّة مُسلمونَ مُخلصون لهُ بالعبادة والتوحيدِ.
(0/0)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } ؛ أي فإنْ اعرضضُوا عن قبولِ قولِكَ ، { فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ } ؛ أي أعلمْتُكم بالوحي من اللهِ على سواءٍ في الإعلامِ ؛ أي لَم أُظْهِرْ بعضَكم على شيءٍ كتمتهُ عن غيرهِ. وَقِيْلَ : عَلَى سَوَاءٍ في العلمِ ، إنِّي حربٌ لكم لا صُلْحَ بيننا ، وإنِّي مخالفٌ لدِينكم فتأهَّبوا لِما يُراد بكم ؛ إذ ليس العِنَادُ من أخلاقِ الأنبياء صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } ؛ أي مَا أدْري متى توعدون به من العذاب.
(0/0)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } ؛ معناهُ : إن اللهَ يعلمُ ما تُعْلِنُونَ به من القولِ ، ويعلمُ ما تَكْتُمُونَ من سرِّكم ، لا يغيبُ مِن عِلْمِهِ شيءٌ منكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } ؛ أي ومَا أدْري لعلَّ تأخيرَ العذاب اختبارٌ لكم ؛ ليَرَى كيفَ صُنْعُكُمْ ، { وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } ؛ آجالِكُم ؛ أي تُمتَّعون إلى انقضاءِ آجالِكم.
(0/0)
قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : رب احْكُمْ بعذاب أهلِ مكَّة الذي هو حقٌّ نازلٌ بهم ، والحقُّ : ها هُنا هو العذابُ ، كأنه استعجلَ العذابَ لقومه ، فعُذِّبُوا يومَ بدرٍ. قال قتادةُ : " كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا شَهِدَ قِتَالاً قَالَ : " رَب احْكُمْ بالْحَقِّ " قال الكلبيُّ : (فَحَكَمَ عَلَيِهِمْ بالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَيَوْمَ الأَحْزَاب ، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَيَوْمَ الْخَنْدَقِ). والمعنى : أفْصِلْ بَيْنِي وبين المشركين بما يظهرُ به مِن الحقِّ للجميعِ.
وقرأ حفصٌ : (قُلْ رَب احْكُمْ بالْحَقِّ) على الخبرِ ؛ أي قالَ الرسولُ ذلك. وقرأ الضحَّاك ويعقوب : (قِيْلَ رَب احْكُمْ بالْحَقِّ) بإثبات الياءِ على وجه الخبرِ ؛ أي هو أحكَمُ الحاكِمين ، وكيفَ يجوزُ أن يسألَهُ أن يَحْكُمَ بالحقِّ ، وهو لا يحكمُ إلاّ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّنَا الرَّحْمَـانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } ؛ أي على كَذِبكُمْ وباطلِكم وقولِكم : ما هَذا إلاَّ بَشَرٌ مثلُكم ، وقولكم : اتَّخَذ الرحمنُ ولَداً. والوَصْفُ بمعنى المكذب كقولهِ تعالى{ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ }[الأنعام : 139] ، وقولهِ{ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ }[الأنبياء : 18].
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ يَا أهْلَ مَكَّةَ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ، وَاحْذرُوا عِقَابَهُ إنَّ زَلْزَلَةَ قِيَامِ السَّاعة شيءٌ عظيمٌ) أي هَوْلٌ عظيم ، لا يوصفُ لفظهُ ، والزَّلْزَلَةُ : شدَّةُ الحركةِ مع الحالِ الهائلة.
(0/0)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } ؛ أي يوم تَرَوْنَ تلك الزَّلْزَلَةَ تَذْهَلُ في ذلك اليومِ كلُّ مُرضعةٍ عمَّا أرْضَعَتْ ؛ أي تَنْسَى. وَقِيْلَ : تَشْتَغِلُ ، وَقِيْلَ : تتركُ ، يقالُ : ذهِلْتُ عن كَذا إذا تركتهُ. وَقِيْلَ : معنى الآية : يوم تَرَوْنَ الزلزلةَ تَشْتَغِلُ كلُّ مرضعةٍ عن ولدِها بغيرِ فطام ، { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } ، وتضعُ الحامل ما فِي بطنِها لغير تَمام. وهذا إنَّما يكون على وجهِ التَّشبيهِ ، والمعنى : أنْ لو كانت ثَمَّ مرضعةٌ لذهِلَتْ عن ولدِها ، وحاملٌ لوضعَتْ حَملَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى } ؛ أي من شِدَّةِ الفَزَعِ والخوف من عذاب الله يتحيَّرون كأنَّهم سُكارى ، { وَمَا هُم بِسُكَارَى } ؛ من الشَّاب ، { وَلَـاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } والمعنى : ترَى الناسَ كأنَّهم سُكارى من ذهُوْلِ عقولِهم لشدَّة ما يمر بهم فيضطَربون اضطرابَ السَّكران ، وسُكَارَى جمعُ سَكْرَانٍ. وقرأ أهلُ الكوفة (سُكْرِي وسُكْرَى) بغيرِ ألف. قال الفرَّاء : هُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ فِي الْعَرَبيَّةِ ؛ لأنَّهُ بمَنْزِلَةِ الْهَلْكَى وَالْجَرْحَى وَالْمَرْضَى).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " يَقُولُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لآدَمَ : يَا آدَمُ ؛ قُمْ فَبْعَثْ بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ ؛ وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ ألْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ ، وَوَاحِدٌ إلَى الْجَنَّةِ. فَعِنْدَ ذلِكَ يَشِيْبُ الصَّغِيْرُ ، وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا فِي بَطْنِهَا ، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بسُكَارَى ".
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ! أيُّنَا ذلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي يَبْقَى ؟ قَالَ : " أبْشِرُوا ؛ إنِّي لأَرْجُو أنْ يَكُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ألْفٌ وَمِنْكُمْ وَاحِدٌ " ثُمَّ قَالَ : " إنِّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا ، ثُمَّ قَالَ : " إنَّي لأَرْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَي أهْلِ الْجَنَّةِ " فَكَبَّرْنَا وَحَمَدْنَا ، ثُمَّ قَالَ : إنِّي لأَرْْجُو أنْ تَكُونُوا ثُلُثَي أهْلِ الْجَنَّةِ ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفّاً ، ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي " ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ ألَفاً بغَيْرِ حِسَابٍ ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ ألْفاً " فَقَالَ عُكَاشَةُ بْنُ مَحِيْصٍ : أُدْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، فَقَالَ : " أنْتَ مِنْهُمْ " فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ الله أُدْعُ اللهَ أنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ ، فَقَالَ : " سَبَقَكَ بهَا عُكَاشَةُ " ".
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارثِ : كَانَ يُكَذِّبُ بالْقُرْآنِ وَيَزْعُمُ أنَّهُ مِنْ أسَاطِيْرِ الأَوَّلِيْنَ ، وَكَانَ كَثِيْرَ الْجَدَلِ ، وَيَقُولُ : الْمَلاَئِكَةُ بَنَاتُ اللهِ ، وَيَزْعُمُ أنَّ اللهَ غَيْرُ قَادرٍ عَلَى إحْيَاءِ الْمَوْتَى). والمعنى : ومِن الناسِ مَن يُخاصِمُ في دِين الله بغيرِ عِلْمٍ ولا حُجَّةٍ ، { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } ؛ أي مُتَمَرِّدٍ على اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ } ؛ أي كُتِبَ عليهِ الشيطانُ إضلالَ مَن تولاَّه ؛ { وَيَهْدِيهِ } وهدايتَهُ إياهُ { إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } ؛ وَقِيْلَ : الهاءُ في قولهِ { كُتِبَ عَلَيْهِ } راجعةٌ إلى مَن يتَّبعِ الشيطانَ فِيتقبَّلَ منهُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ } ؛ معناهُ : يا أهلَ مكة إن كُنتم في شَكٍّ مِنَ البعثِ بعد الموتِ ، فتفكَّرُوا في ابتداءِ خَلْقِكُمْ فإنَّ إعادَتَكم ليست بأشدَّ مِن أوَّل خلقِكم ، ثم بيَّن ابتداء خلقِهم فقالَ : { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي خلَقنا أباكُم آدمَ ، ثُم صوَّرناهُ لَحماً ودَماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } ؛ أي ثُم جعلناكم بعد ذلكَ من النُّطفة التي تكون من الذكر والأنثى ، { ثُمَّ } خلَقنا { مِنْ } تلكَ النطفةِ ؛ { عَلَقَةٍ } ؛ وهي قطعةٌ من الدمِ { ثُمَّ } ؛ جعلنا العلقةَ { مِن مُّضْغَةٍ } ؛ وهي القطعةَ من اللَّحم ، تسمَّى مُضْغَةً ؛ لأنَّها مقدارُ ما يُمضَغُ من اللَّحم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ؛ أي تامَّة الخلقِ وغيرِ تامة الخلقِ ، وَقِيْلَ : مصوَّرةٍ وغيرِ مصوَّرةٍ ، وهي السَّقْطُ. قال عبدُالله بنُ مسعود : " إذا وَقَعَتِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ ؛ بَعَثَ اللهُ مَلَكاً يَأْخُذُهَا بكَفِّهِ فَيَقُولُ : يَا رَب مُخَلَّقَةٌ أوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؟ فَإنْ قَالَ : غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ ؛ مَجَّتْهَا الأَرْحَامُ دَماً ، وَإنْ قَالَ : مُخَلَّقَةٌ ، قَالَ : يَا رَب أذكَرٌ أمْ أُنْثَى ؟ وَمَا رِزْقُهَا وَمَا أجَلُهَا ؟ وَشَقِيٌّ أمْ سَعِيْدٌ ؟ وَبأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ ؟
فَيُقَالُ لَهُ : اذْهَبْ إلَى أُمِّ الْكِتَاب فَإنَّكَ تَجِدُ ذلِكَ ، فَاسْتَنْسِخْ مِنْهُ صِفَةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ ، فَيَنْطَلِقُ فَيَسْتَنْسِخُهَا. فَتُخْلَقُ فَتَعِيْشُ فِي أجَلِهَا ، وَتَأْكُلُ رزْقَهَا ، حَتَّى إذا جَاءَ أجَلُهَا مَاتَتْ ، فَتَذْهَبُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي كُتِبَ لَهَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } ؛ أي لِنُبَيِّنَ لكم كمالَ قُدرَتِنا وحُكمِنا في تصريفِنا في الخلقِ.
وقولهُ تعالى : { وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي ونَتْرُكُ في الأرحامِ ما نشاءُ من الولدِ إلى وقتِ التَّمامِ ولا نُسْقِطْهُ. ورُوي عن عاصمٍ : (وَنُقِرَّ) بالنصب على العطف ، وقراءةُ الباقينَ بالرفع على معنى : ونَحْنُ نُقِرُّ. قولهُ تعالى : { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } ؛ أي ثُم نُخرِجُكم من أُمَّهات شتَّى ، كأنهُ قال : ثُم نَخرجُكم من الأرحامِ طِفْلاً صِغَاراً ، وإنَّما لَم يقل أطفَالاً لأنه لَم يُخْرِجْهُمْ من أُمٍّ واحدة ، ولكن يُخرجهم من أُمَّهات شتَّى ، كأنهُ قال : ثُم نخرجُ كلَّ واحدٍ منكم طفلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ } ؛ أي ثُم لِنُعَمِّرَكُمْ لتبلغُوا أشُدَّكم بمعنى الكمالِ والقوة ، { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى } ؛ قبلَ بلُوغِ الأشُدِّ ، { وَمِنكُمْ مَّن } ؛ يُعَمَّرُ حتى { يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ؛ أي هَوَانِهِ وأخَسِّهِ وهو الْهَرَمُ والْخَرَفُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } ؛ أي لكَيْلاَ يَعْقِلَ مِن بعد عقله الأوَّلِ شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً } ؛ هذه دلالة أخرى تدلهم على إحياءِ الْمَوْتَى بإحياءِ الأرضِ الميتَةِ ، والَهَامِدةُ : هي اليابسةُ الجافَّةُ ، كأنه قال : وتَرَى الأرضَ يابسةً جافَّةً ذاتَ تُرابٍ كالنار إذا اطفئت ورمدت ، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ } ؛ أي على الأرضِ ، { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ } ؛ أي تحرَّكَت بالنباتِ ، وازدادت وأضعَفت النباتَ ، وذلك أن الأرضَ ترتفعُ على النباتِ ، فذلك تحريكُها ، وهو معنى قولهِ { وَرَبَتْ } أي ارتفعَتْ وزَادَتْ وانتفخت للنباتِ ، من رَبَا يَرْبُو إذا ازدَادَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ؛ أي وأخرجت أكَماً من كلِّ لونٍ حَسَنِ البهجةِ ، ومِن كلِّ صنفٍ مؤنق العينِ ، والبهيجُ الحسنُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ }[النمل : 60].
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَى } ؛ أي ذلكَ الذي وصفناهُ من تعريفِ الخلق على هذه الأحوالِ في إحياء الأرضِ الميتة ؛ لتعلَمُوا وتُقِرُّوا بأنَّ اللهَ هو المستحقُّ لصفات التعظيمِ ، وهو الإلهُ الواحد الذي يقدرُ على كلِّ شيء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ يُحْيِـي الْمَوْتَى } أي ويدلُّكم على أنه يُحيي الموتى كما أحيَاكُم ابتداءً ، { وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وبأنهُ على كلِّ شيء من الإيجادِ والإعدام قديرٌ ، وَيدلُّكم { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ } ؛ للحسنات والجزاءِ.
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } ؛ نزلَتْ في النَّضْرِ بن الحارثِ أيضاً ، وَقِيْلَ : نزلت في أبي جهلٍ ، ومعناهُ : يجادلُ ليُحِقَّ الباطلَ ، ويُبطِلَ ما دلَّ عليه الدليلُ بغيرِ معرفةٍ ودليل ولا كتابٍ منير فيه حُجَّةُ ما يقول.
(0/0)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثَانِيَ عِطْفِهِ } ؛ أي لاَوِي عُنُقِهِ متكبراً مُعرضاً عن ما يُدْعُى إليه كِبْراً ، وهو منصوبٌ على الحال ، والمعنى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ متكَبراً شامِخاً بأنْفِه ، { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي عن دِين الله وطاعته.
وقولهُ تعالى : { لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } ؛ أي عقوبةٌ بالْمَذمَّةِ والقتلِ ، { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } ؛ أي عذابَ النارِ ، فقُيِلَ النَّضرُ بن الحارث يومَ بدرٍ أسيراً ، ومَن قال : نزلت في أبي جهلٍ فهو قُتِلَ أيضاً يوم بدرٍ.
(0/0)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } ؛ مبالغةٌ في إضافة الْخِزْي إليه ، { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ } ؛ ظاهرُ المعنى ، فإن قِيْلَ : لِمَ قَالَ اللهُ تَعَالَى { بِظَلاَّمٍ } على صفةِ المبالغة وهو لا يظلمُ مثقالَ ذرَّة ؟ فقيل : تعالَى إنه لو فَعَلَ أقلَّ قليلِ الظُّلم ، لكان عظيماً منهُ.
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَاتُ فِي أُنَاسٍ مِنْ بنِي أسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، أصَابَتهُمْ سَنَةٌ شَدِيْدَةٌ فَأَجْدَبُوا فِيْهَا ، فَمَضَوا بعِيَالِهِمْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِيْنَةِ مُهَاجِرِيْنَ ، فَكَانُواْ إذا أُعْطُواْ مِنَ الصَّدَقَةِ ، وَأصَابُواْ خَيْراً اطْمَأَنُّواْ بذلِكَ وَفَرِحُواْ بهِ ، وَإنْ أصَابَهُمْ وَجَعٌ وآفَةٌ ، وَوَلَدَتْ نِسَاؤُهُمُ الْبَنَاتِ ، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُمُ الصَّدَقَةُ ، قَالُواْ : مَا أصَابَنَا مُذْ كُنَّا عَلَى هَذا الدِّيْنِ إلاَّ شَرٌّ ، فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِيْنِهِ ، وَذلِكَ الْفِتْنَةُ).
ومعنى الآيةِ { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ } أي على ضَعْفٍ في العبادةِ ، لضَعْفِ القيامِ على الأحْرُفِ لا يدخلُ في الدِّين على ثباتٍ وتَمَكُّنٍ. وَقِيْلَ : معناهُ : على شَكٍّ كأنه قائمٌ على حَرْفِ جدارٍ وطرفِ جَبَلٍ ، لا يدخلُ في الدِّين على ثباتٍ ويقين وطُمأنينة ، فهو كالمضطرب على شفا جُرْفٍ ، { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } ؛ رخاءً وعافية وسعة ، { اطْمَأَنَّ بِهِ } على عبادةِ الله بذلك الخيرِ ، { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } ؛ أي مِحْنَةُ تَضْييقِ الْعَيْشِ ونحوِ ذلك ، { انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ } ؛ أي رَجَعَ إلى دينه الأوَّل وهو الشِّرْكُ باللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ } ؛ أي خَسِرَ في الدُّنيا العِزَّ والغنيمة ، وفي الآخرة الجنَّةَ ، { ذلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } ؛ أي الظاهرُ. قرأ الأعرجُ ويعقوبُ : (انْقَلَبَ عَلَى وَجْههِ خَاسِراً الدُّنْيَا والآخِرَةِ) بالألف (وَالآخِرَةِ) بالخفض ، ونَصَبَ (خَاسِرَ) على الحالِ.
(0/0)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } ؛ أي يعبدُ مِن دون الله ما لا يضرُّهُ إن تَرَكَ عبادتَهُ ، ولا ينفعهُ إن عَبَدَهُ ، { ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } ؛ عن الحقِّ والرُّشد ، { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } ؛ أي يدعُو ما لا نَفْعَ له أصلاً ، ومِن عادة العرب أنهم يقولون لشيءٍ لا مَنْفَعَةَ فيه : لَضَرَرُهُ أكثرُ من نفعهِ ، كما يقولون لشيء لا يكونُ أصلاً : هذا بعيدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَبِئْسَ الْمَوْلَى } ؛ أي بئسَ الناصرُ ، وقولهُ تعالى : { وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } ؛ أي بئْسَ الصاحبُ والْمُعاشِرُ ، يعني الصنمَ.
واختلفُوا في اللاَّم في قوله { لَمَنْ ضَرُّهُ } : قيل معناهُ التأخير كأنه قالَ : يدعو مَن والله لَضَرُّهُ أقربُ من نفعهِ ، وإنَّما قُدمَتِ اللامُ للتأكيد ، ونظيرُ هذا قولُهم : عندي لَمَا غيرهُ خيرٌ منه ، معناه : عندي ما لَغَيْرُهُ خيرٌ منه. وقيل { لِمَنْ ضَرُّهُ } كلامٌ مبتدأ وخبرهُ { لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ } ، ويكون المعنى الذي هو الضلالُ البعيد يدعوهُ ، فهذا حدُّ الكلامِ وما بعده كلام مستأنفٌ. وَقِيْلَ : هذه اللامُ صلةٌ ؛ أي يدعو مَن ضَرُّهُ أقربُ من نفعهِ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ ظاهرُ المعنى ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } ؛ بأوليائه وأهلِ طاعته من الكرامةِ ، وبأهلِ معصيته مِن الْهَوَانِ.
(0/0)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ } ؛ الآيةُ ، معناهُ : مَن كان يظنُّ أن لن يَنْصُرَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فليطلُبْ سَبَباً يصلُ به إلى السماءَ ، { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } ؛ نصرةَ اللهِ لِنَبيِّهِ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ } ؛ أي يَتَهَيَّأُ له الوصولُ إلى السَّماء بحيلةٍ ، فكما لا يُمكنه أن يحتالَ في الوصولِ إلى السَّماء ، كذا لا يُمكنه الحيلةُ في قطعِ نَصْرِ اللهِ تعالى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقِيْلَ : معناهُ : مَن كان يظنُّ أن لن يَنْصُرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حتى يظهرَ على الدِّين ، فَلْيَمُتْ غَيْظاً. وَقِيْلَ : إن الْهَاءَ راجعةٌ إلى { مَن كَانَ يَظُنُّ } كأنه قال : مَنْ كان يظنُّ أن لن يرزقَهُ اللهُ فليَمْدُدْ بحبلٍ إلى سقف بيتهِ وأضفَى ذلك على حَلْقهِ مُخنِقاً نفَسَهُ ليذهب غيظُ نفسهِ.
وهذا مَثَلٌ ضُرِبَ لِهذا الجاهلِ ؛ أي مِثْلُ هذا الذي يظنُّ أن لن يرزقَهُ اللهُ على سبيل السَّخَطِ مثلُ مَن فعلَ هذا الفِعْلَ بنفسهِ ، هل كان ذلكَ إلا زائداً في ثلاثةٍ ؟ وهل تذهبُ حقيقة نفسه غَيْظَهُ في رزقهِ ؟ وإنَّما ذكَرَ النُّصْرَةَ بمعنى الرِّزق ؛ لأن العربَ تقولُ : مَن يَنْصُرُنِي نَصَرَهُ اللهُ ؛ أي مَن يُعطيني أعطاهُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا يَغِيظُ } ؛ (مَا) بمعنى المصدر ؛ أي هل يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلتهُ غَيْظَةُ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ؛ أي وكذلكَ أنزلنا القُرْآنَ على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم دلالاتٍ واضحاتٍ ، { وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي } ؛ إلَى النبوَّة ، { مَن يُرِيدُ } ؛ وَقِيْلَ : يَهْدِي إلى الدِّين وإلى الثواب.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ } ؛ أي إنَّ الذين آمَنوا بمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ وجميعِ أصناف الكفَّار من اليهودِ ، { وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } ؛ بين هؤلاءِ الفِرَقِ الخمسِ وبين المؤمنينَ ، { يَوْمَ الْقِيامَةِ } ؛ بأن يُدْخِلَ المؤمنين الجنَّةَ ، وتلكَ الفِرَقَ النارَ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؛ أي عليمٌ بكلِّ شيء من أعمالِ هؤلاء.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ } ؛ ألَم تعلم يا مُحَمَّدُ أنَّ الله يسجدُ له أهلُ السَّموات مِن الملائكة ، { وَمَن فِي الأَرْضِ } ؛ مِن الجِنِّ والإنسِ من المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ } ؛ يَسْجُدُونَ للهِ ؛ أي يَخْضَعُونَ ؛ لأنَّ سجودَ هذه الأشياءِ خضوعُها وانقيادُها لِخالِقِها فيما يريدُ منها. وقال أبو العاليةِ : (مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلاَ شَمْسٌ وَلاَ قَمَرٌ إلاَّ وَهُوَ يَسْجُدُ للهِ حِيْنَ يَغِيْبُ ، ثُمَّ لاَ يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذنَ لَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ } ؛ أي وكثيرٌ من الكفَّار الذين سيُؤمِنُونَ من بَعْدُ ، وانقطعَ ذِكْرُ الساجدين ثُم استثناهُ فقالَ : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } ؛ أي مِمَّن لا يُوَحِّدُهُ وأبَى السجودَ ، وقولهُ تعالى : { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } ؛ أي مَن يُهِنِ اللهُ بالشَّقاءِ ، فما أحدٌ يُكْرِمُهُ بالسعادةِ ، { إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } ؛ من الإهانةِ والكرامة والشَّقاوة والسعادةِ ، وهو الْمَالِكُ للعقوبة والمثوبةِ.
(0/0)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ } ؛ أرادَ بالخصمينِ المؤمنينَ والكفارَ ، وَقِيْلَ : أهلُ الكتاب وأهل القُرْآنِ ، والمعنى : اختَصَمُوا في دِين ربهم ، فقالتِ اليهودُ والنصارى : نحنُ أولَى باللهِ منكم ؛ لأنَّ نبيَّنا قَبْلَ نبيِّكم ، وكتابَنا قبلَ كتابكم ، وقال المسلمونَ : نحنُ أحقُّ باللهِ منكم ، آمَنَّا بكتابنا وكتابكُم ونبيَّنا ونبيِّكم ، وأنتُم كفرْتُم بنَبيِّنَا حَسَداً.
وَقِيْلَ : أرادَ بالخصمينِ الفريقين الذين تَبَرَزُوا يومَ بَدْرٍ. والخصمُ يقع على الواحدِ والجميع ، ألا ترَى أنه جَعَلَ الكفارَ خصماً ، والمؤمنين خَصْماً ، ولِهذا قال (اخْتَصَمُوا) ؛ لأنَّهما جَمْعَانِ وليس برَجُلين. وكان أبو ذرٍّ رضي الله عنه يُقْسِمُ أنَّ هذه الآية نَزَلَتْ في ستَّةِ نَفَرٍ مِن قُريشٍ تَبَارَزُواْ يومَ بدرٍ بثلاثةٍ من المؤمنين وهم : (حَمْزَةُ ؛ وَعَلِيٌّ ؛ وَعُبَيْدَةُ بْنِ الْحَارثِ) وثلاثةٌ مِن المشركين وهُم : (عُتْبَةُ ؛ وَشَيْبَةُ ؛ وَالْوَلِيْدُ بْنُ عُتْبَةَ) ، قال : وقال عليٌّ رضي الله عنه : (إنِّي لأَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّوَجَلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } ؛ أي نُحَاسٌ قد أُذِيْبَ في النار فيُجْعَلُ على أبدانِهم بمَنْزِلَةِ الثياب ، وليس شيءٌ إذا حُمِيَ أشدُّ حَرّاً من النُّحاس ، { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } ؛ وهو الماءُ الحارُّ الذي قد انتَهَى حرُّهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ } ؛ أي يُذابُ بالحميمِ الذي يصبُّ مِن فوقِ رؤوسهم ما في بطونِهم من الشُّحوم حتى يخرجَ من أدبارهم ، وتُذابُ به الجلودُ أيضاً ، فإن جلودَهم تتساقطُ من حرِّ الحميم. والصَّهْرُ الإذابَةُ ، يقالُ : صَهَرْتُ الإلْيَةَ بالنَّارِ أصهرها ؛ أي أذبتُها.
(0/0)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } ؛ الْمَقَامِعُ جمعُ مَقْمَعَةٍ ؛ وهي مِدَقَّةُ الرَّأسِ. رُوي أنَّ الملائكةَ يضربون وُجُوهَهُم بأعْمِدَةٍ من حديدٍ ، فيَهْوُونَ في النَّار سبعينَ خَريفاً. قال مقاتلُ : (تَضْرِبُ الْمَلاَئِكَةُ رَأسَ الْكَافِرِ بالْمَقْمَعَةِ فَيُنْقَبُ رَأسُهُ ، ثُمَّ يُصَبُّ فِيْهِ الْحَمِيْمُ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ ، فينفذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إلَى جَوْفِ الْكَافِرِ ، فَيَسْلُتُ مَا فِي جَوْفِهِ مِنَ الأَمْعَاءِ حَتَّى يُحْرِقَ قَدَمَيْهِ).
(0/0)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } ؛ أي كلما رَفَعَتْهُمُ النارُ بلَهَبهَا فحَاولُوا الخروجَ منها في غَمِّ العذاب أُعِيْدُوا في النارِ بضرب الْمَقَامِعِ ، وَقِيْلَ لَهم : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } ؛ أي الْمُحْرِقِ مثل الأَلِيْمِ بمعنى الْمُؤْلِمِ. " وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في قولهِ تعالى { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } [الحج : 21] قال : " لَوْ وُضِعَ مَقْمَعٌ مِنْ حَدِيْدٍ عَلَى الأَرْضِ ، ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلاَنِ مَا رَفَعُوهُ مِنَ الأَرْضِ ".
ثم ذكَرَ اللهُ الخصمَ الآخر فقال : { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ في سورةِ الكهف.
قرأ أهلُ المدينة وعاصم : (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب على معنى (يُحَلَّوْنَ فِيْهَا لُؤْلُؤاً) ، ومَن قرأ بالخفضِ كان المعنى (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ).
وقولهُ تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ؛ ظاهرُ المرادِ. قال أبو سعيدٍ الخدريُّ : " مَنْ لَبسَ الْحَرِيْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ ، وَإنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَبسَهُ أهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هُوَ "
(0/0)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ } ؛ أي هُدُوا في الدُّنيا إلى القول الطيَّب ، وهو قولُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَقِيْلَ : إلى القُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ } ؛ فاللهُ الحميدُ ، والصِّراطُ : طريقُ الجنَّة. والمعنى : أُرْشِدُوا إلى الإسلامِ. ويجوزُ أن يكون (الْحَمِيْدِ) نعتاً للصراطِ كما في قولهِ تعالى{ حَقُّ الْيَقِينِ }[الواقعة : 95]. وَقِيْلَ : معنى الآية : وأُرْشِدُوا إلى القولِ الطيِّب في الآخرةِ مثلُ قولِ الله تعالى : { الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ }[الزمر : 74].
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ والقرْآنِ { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } عطفُ المضارعِ على المضافِ ؛ لأن المرادَ بالمضارعِ الماضي أيضاً. ويجوزُ أن يكون المعنى الذين كَفَرُوا فيما مَضَى وهُمُ الآن يصدُّون عن سبيلِ الله مع كفْرِهم ، والمعنى : يَمْنَعُونَ الناسَ عن طاعةِ الله وعن الطَّوافِ في { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ؛ وهم أبو سُفيان وأصحابهُ الذين صَدُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبيةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } ؛ معناهُ : الذي جعلناهُ للناسِ كلِّهم ، لَم يخصَّ به بعضَهم دون بعضٍ سِوَى المقيمِ فيه ، والذي يأتِي مِن غير أهلهِ ، وليس الذين صَدُّوا عنهُ بأحقَّ به مِن غيرِهم.
قِيْلَ : المراد بالمسجدِ الحرام في هذه الآية الْحَرَمُ كلُّهُ ، كما في قولهِ تعالى : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }[التوبة : 7] وكان العهدُ بالحديبيةِ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " إنَّ مَكَّةَ لاَ يَحِلُّ بَيْعُ ربَاعِهَا وَلاَ إجَارَةُ بُيُوتِهَا ". وَقِيْلَ : إن المرادَ بالمسجدِ الحرام نَفْسُ المسجدِ سِوَى الْمُعْتَكَفِ فيه : الْمُجَاوِرُ والبادِيُ الذي يكون مُلازماً له في حُرمتَهِ وحقُّ الله عليهما فيه سواءٌ.
قرأ حفصٌ : (سَوَاءً) بالنصب بإيقاعِ الْجَعْلِ عليه ، لأن الجعلَ يتعدَّى إلى مفعُولين. وقرأ الباقون بالرفعِ على الابتداءِ ، وما بعدهُ خبره. وقِيْلَ : (سَوَاءٌ) خبرُ مبتدأ متقدِّم تقديرهُ : العَاكِفُ فِيْهِ وَالْبَادِي سَوَاءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ معناهُ : ومَن يُرِدْ فيه إلحاداً بظُلْمٍ ، وفي هذا دليلٌ أن المرادَ بالمسجد الحرامِ كلَّ الْحَرَمِ ، فإن الذنبَ في الحرمِ أعظمَ منه في غيره ، فعلى هذا يكونُ قوله { سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ } أي سواءً في النَّزول ، فليس أحدُهما أحقُّ بالمنْزِل يكون فيه. وحرَّمُوا بهذه الآية كِرَاءَ دور مكَّة وإجارتَها في أيام الموسم.
قال عبدُالله بن أسباط : (كَانَ الْحُجَّاجُ إذا قَدْمُوا مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ أحَقَّ بمَنْزِلِهِ مِنْهُم) ، رُوِي : (أنَّهَا كَانَتْ تُدْعَى السَّوَائِبُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، مِن احْتَاجَ سَكَنَ ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أُسْكِنَ).
والإلحادُ هو الشِّرْكَ بالله تعالى ، وَقِيْلَ : كلُّ ظالِمٍ فيه ملحدٌ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " احْتِكَارُ الطَّعَامِ بمَكَّةَ إلْحَادٌ ". وأمَّا دخولُ الباء في قوله : (بإلْحَادٍ) فعلى معنى : ومَن إرادتهُ فيه بأنْ يُلْحِدَ بظلمٍ. وَقِيْلَ : الإلحادُ دخول مكة بغيرِ إحرامٍ ، وأخذُ حَمَامِ مكَّة وأشياء كثيرة لا يجوزُ للمُحْرِمِ أن يفعَلَها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } خبرٌ لكل ما تقدَّم من الجملتين من قولهِ تعالى { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ } ، ومِن قولهِ تعالى { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ }.
(0/0)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } ؛ معناه : واذكرُوا إذ جَعَلْنَا البيتَ مَثْوىً لإبراهيمَ ومَنْزِلاً. قال الحسنُ : (بَوَّأنَاهُ نَزَّلْنَاه) ، وقال مقاتلُ : (دَلَلْنَاهُ عَلَيْهِ) ، وَقِيْلَ : هيَّأْنَا ، نظيرهُ{ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ }[آل عمران : 121] ، { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ }[الأعراف : 74] ، { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً }[العنكبوت : 58] ، وَقَيْلَ : معنى (بَوَّأنَا) أي بَيَّنَّا له مكانَ البيت.
قال السديُّ : (لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعَالَى ببنَاءِ الْبَيْتِ لَمْ يَدْرِ إبْرَاهِيمُ أيْنَ يَبْنِي ، فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِ ريْحاً ، فَكَشَفَتْ لَهُ مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَنِ الأَسَاسِ الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ الْبَيْتُ عَلَيْهِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ أيَّامَ الطُّوفَانِ) ، وقال الكلبيُّ : (فَبَعَثَ اللهُ إلَيْهِ سَحَابَةً عَلَى قَدْرِ الْبَيْتِ فِيْهَا رَأسٌ يَتَكَلَّمُ فَقَامَتْ بحِيَالِ الْبَيْتِ ، وَقَالَتْ : يَا إبْرَهِيْمَ إبْنِ عَلَى قَدْرِي) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } أي قلنا له وأوحَينا إليه أن لا تَعْبُدْ معي غيري.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } أي طَهِّرْ مِن ذبائحِ المشركين ، ومما كانوا حولَهُ من الدَّمِ والفَرْثِ ، وَقِيْلَ : طَهِّرْهُ من عبادةِ الأوثانَ ، ومن دخولِ المشركين فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلطَّآئِفِينَ } الذين يَطُوفُونَ حَوْلَهُ ، وأما القائمونَ الرُّكَّعُ السُّجُودُ فهم الْمُصَلُّونَ.
(0/0)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } ؛ أي وعَهِدْنَا إلى إبراهيمَ أيضاً أن أذِّنْ فِي النَّاسِ بالْحَجِّ يَأْتُوكَ رجَالاً ، فقال : يا رب وما يبلغُ صَوْتِي ؟ فقال : عليك الأذانُ وعليَّ البلاغُ ، فصَعَدَ أبا قَبيْسٍ ، ونَادَى في الناسِ : ألاَ إنَّ ربَّكُمْ قد بَنَى بيتاً ، وأمرَكم أن تَحُجُّوهُ فَحَجُّوهُ ، فاسمعَ اللهُ نداءه جميعَ مَن في أصلاب الرجالِ وأرحامِ النِّساء ، وما بينَ المشرق والمغرب ، والبَرِّ والبحرِ ، فَلَبَّاهُ كلُّ حَجَرٍ وَمَدرٍ ، وكلُّ مؤمنٍ ومؤمنة في أصلاب الآباء وأرحام الأُمَّهات ، قالوا : لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، فجعلَ اللهُ التلبيةَ شعاراً للحجِّ ، فكلُّ مَن حَجَّ فهو ممن أجابَ إبراهيمَ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } ؛ معناهُ : يأتوكَ مُشَاةً على أرجُلِهم وعلى كلِّ جَمَلٍ مهزولٍ أضْمَرَهُ السفرُ ، ورجَالٌ جمع رَاجِلٍ ، نحو صاحِبٍ وأصحابٍ. وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي إلاَّ أنِّي لَمْ أحُجَّ رَاجِلاً) ، وقد حَجَّ الْحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا خَمساً وعشرين حَجَّةً ماشياً من المدينةِ إلى مكَّةَ ، وأن النَّجَائِبَ لتقادُ معه.
وعن رسولِ الله صلى عليه وسلم أنهُ قال للحُجَّاجِ : " لِلرَّاكِب كُلُّ خَطْوَةٍ تَخْطُوهَا رَاحِلَتُهُ سَبْعِيْنَ حَسَنَةً ، وَلِلحَاجِّ الْمَاشِي بكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ " قِيْلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ : " الْحَسَنَةُ بمِائَةِ ألْفٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } ؛ أي من بُلدانٍ شتَّى ، مِن كلِّ طريقٍ بعيد ، يقالُ عَمِيقَة إذا كانت بعيدةَ القرارِ. وإنَّما قال (يَأْتِيْنَ) ؛ لأنه في معنى الجمعِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وعلى نَاقَةٍ ضَامِرَةٍ.
وعن بشْرِ بن مُحَمَّدٍ قال : رأيتُ في الطَّوافِ كَهْلاً قد أجهدتْهُ العبادةُ ، واصفَرَّ لونهُ ، وبيدهِ عصا وهو يطوفُ معتمداً عليها ، فتقدَّمتُ إليه لأسألَهُ ، فقال لِي : مِن أين أنتَ ؟ فقلتُ : من خُراسان ، قال : من أيِّ ناحيةٍ هي ؟ قلتُ : من نواحي المشرقِ ، فقال لِي : فِي كم تقطعونَ هذا الطريقَ ؟ قلتُ : شهرين أو ثلاثة ، قال : أفلاَ تَحُجُّونَ في كلِّ عام وأنتم جيرانُ البيتِ ؟ قلتُ : وأنتم كم بينَكُم وبين هذا البيتِ ؟ فقال : مسيرةُ خمسِ سنين ، فقلتُ : والله إن هذا الجهدُ لَبَيِّنٌ ، والطاعةُ الجميلة والمحبة الصادقةُ ، فضَحِكَ في وجهي وأنشأَ يقولُ : زُرْ مَنْ هَوَيْتَ وَإنْ شاطتَ بكَ الدارُ وَحَالَ مَنْ زُرْتَهُ حُجُبٌ وَأسْتَارُلاَ يَمْنَعَنَّكَ بُعْداً مِنْ زِيَارَتِهِ إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يَهْوَاهُ زَوَّارُ
(0/0)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
وقَولهُ تعالى : { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } ؛ أي ليشْهَدوا ما ندبَهم اللهُ إليه مما لهم فيه نفعُ آخِرَتِهم ، ويدخلُ في ذلك منافعُ الدُّنيا من التجارةِ بيعاً ورُخصةً. قال ابنُ جبير : (يَعْنِي بالْمَنَافِعِ التِّجَارَةَ) ، وقال مجاهدُ : (هِيَ التِّجَارَةُ وَمَا يُرْضِي اللهَ مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ).
وعن عمرَ بنِ عبدِالعزيز أنه كان يقول إذا وَقَفَ بعرفةَ : (اللَّهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ إلَى حَجِّ بَيْتِكَ ، وَذكَرْتَ الْمَنْفَعَةَ عَلَى شُهُودِ مَنَاسِكِكَ ، وَقْدْ جِئْتُكَ فَاجْعَلْ مَنْفَعَةَ مَا تَنْفَعُنِي بهِ أنْ تُؤْتِيَنِي فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً ، وَأنْ تقيَني عَذابَ النَّارِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } ؛ قال الحسنُ : (الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ الْعَشْرُ ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشِرِيْقِ) ، وإنَّما قال لَها معدوداتٍ ؛ لأنَّها قليلةٌ ، وَقِيْلَ لتلكَ المعلوماتِ الحرصُ على علمِنا بحسابها من أجلِ وَقْفِ الحجِّ في آخرها ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ.
وقال أبو يوسُفَ : (الأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أيَّامُ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ ، وَالأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أيَّامُ التَّشْرِيْقِ وَهِيَ ثَلاَثَةٌ بَعْدَ الْيَوْمِ الأوَّلِ مْنْ أيَّامِ النَّحْرِ ، فَيَكُونُ الْيَوْمُ الأَوَّلُ مِنْ أيَّامِ النَّحْرِ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ دُونَ الْمَعْدُودَاتِ ، وَالْيَوْمُ الآخِرُ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ مِنَ الْمَعْدُودَاتِ دُونَ الْمَعْلُومَاتِ ، وَيَوْمَيْنِ مِنْ وَسَطِهَا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ والْمَعْدُودَاتِ جَمِيْعاً) ، وكان يستدلُّ على هذا القولِ في الأيَّام بهذه الآية ، فإنه تعالى قالَ : { وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } ، فاقتضى ظاهرهُ أن المرادَ التسميةُ على ما ذُبحَ من بَهيمة بالْمُتْعَةِ والقِرَانِ.
وأما على قول أبي حنيفةَ ، فالمرادُ بالذِّكْرِ إكثارُ الذِّكرِ في أيامِ العَشْرِ ، كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَا مِنْ أيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ أفْضَلَ فِيْهِنَّ مِنْ أيَّامِ التَّشْرِيْقِ ، فَأَكْثِرُواْ فِيْهَا مِنَ التَّحْمِيْدِ وَالتَّكْبيْرِ وَالتَّهْلِيْلِ "
وعلى هذا يكونُ معنى { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } لِمَا رزقتُهم من بَهيمة الأنعامِ ، كما قال{ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ }[البقرة : 185] أي لِما هَدَاكُمْ ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ : الْمَعْلُومَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ وَاحِدٌ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } يعني الهدايا والضَّحايا من الإبلِ والبقرِ والغنم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ } ؛ قال الحسنُ : (وذَلِكَ أنَّ أهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إذا ذبَحُوا لَطَّخُواْ وَجْهَ الْكَعْبَةِ ، وَشَرَّحُوا اللَّحْمَ فَوَضَعُوهُ عَلَى الْحِجَارَةِ حَتَّى تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ ، وَقَالُواْ : لاَ يَحِلُّ لَنَا أنْ نَأْكُلَ شَيْئاً جَعَلْنَاهُ للهِ.
فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ كُنَّا نَضَعُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ألاَ نَضَعُهُ الآنَ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ). { فَكُلُواْ مِنْهَا } يعني الأنعامَ التي تَنْحَرون ، { وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ } وهو الذي قد أصابَهُ ضررُ الجوعِ ، و { الْفَقِيرَ } الذي لا شيءَ لهُ. وَقِيْلَ : البائسُ الذي بَيَّنَ عليه أثرُ البُؤْسِ بأن يَمُدَّ يده إليكَ. وَقِيْلَ : البائسُ الزَّمِنُ. وإنَّما خَصَّصَ البائسَ الفقيرَ ؛ لأنه أحوجُ من غيرهِ.
(0/0)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ؛ قال ابنُ عباس : (التَّفَثُ هُوَ الْمَنَاسِكُ كُلُّهَا) ، والمرادُ ها هنا رَمْيُ الجِمَارِ والْحَلْقُ ، ويقال : قضاءُ التَّفَثِ إزالةُ الشَّعث ، وفي هذا دليلٌ على أن المرادَ بقوله { عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } دمُ الْمُتْعَةِ والقِرَانِ ؛ لأن اللهَ تعالى رَتَّبَ عليه قضاءَ التَّفَثِ والطوافَ بالبيتِ الحرام ، لا دمَ تَرَتَّبَ على هذهِ الأفعال إلاّ دمُ المتعة والقِرَانِ ، فذكرَ هذه الآيةَ في جوازِ الأكل مما يُذْبَحُ. وَقِيْلَ : التَّفَثُ هو الوسخُ والقَذرُ من طولِ الشَّعر والأظفارِ ، وقضاؤه وإذهابهُ وإزالته.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } ؛ يعني نَحْرَ ما نَذَرُوا من البُدْنِ ، وَقِيْلَ : يعني ما نَذَرُوا من أعمال البرِّ في أيامِ الحجِّ ، وربَّما نَذَرَ الرجلُ أن يتصدَّقَ إنْ رَزَقَهُ اللهُ لقاءَ الكعبة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ؛ يعني طوافَ الزِّيارةِ بعد التروية ، أما يومُ النَّحرِ وما بعده فيسمَّى طوافَ الإفَاضَةِ. والعتيقُ القديْمُ ؛ لأنه أولُ بيتٍ وُضِعَ للناسِ. وَقِيْلَ : " أُعْتِقَ من أيدِي الْجَبَابِرَةِ ، فَلاَ يَظْهَرُ عَلِيْهِ جبَّارٌ قَطْ إلاّ أذلَّهُ اللهُ " وعن ابنِ عبَّاس قال : " حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أتَى وَادِيَ عَسَفَانَ قَالَ : " لَقَدْ مَرَّ بهَذا الْوَادِي نُوحٌ وَهُودٌ وَإبْرَاهِيْمُ عَلَى بَكْرَاتٍ حُمْرٍ خَطْمُهُنَّ اللِّيْفُ ، يَحُجُّونَ الْبَيْتَ الْعَتِيْقَ ".
(0/0)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } ؛ أي ذلِكَ الذي أُمِرْتُمْ به ، ومَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ باجتناب ما حَرَّمَ اللهُ تعظيماً للهِ فهو خيرٌ له في الآخرةِ مِن تَرْكِ استعظامهِ. وقال بعضُهم : الْحُرُمَاتُ ها هنا البيتُ الحرامُ والبلد الحرامُ والشهر الحرام والمسجدُ الحرام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } أي قال : المعظِّم خيرٌ له عند رَبهِ من التَّهَاوُنِ ، يعني في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ } ؛ أي رُخِّصَتْ لكم بَهيمة الأنعامِ أن تأكلوها ، { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ؛ في كتاب الله من الْمَيْتَةِ والدمِ وغير ذلك مما بَيَّنَهُ اللهُ في سورة المائدةِ من الْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيْحَةِ ومما لَم يُذْكَر اسمُ الله عليهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأُحِلَّتْ لكم بَهيمةُ الأنعامِ في حال إحرامِكم إلاَّ ما يُتْلَى عليكم من الصَّيدِ ، فإنه حرامٌ في حال الإحرامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ } ؛ أي فَاجْتَنِبُوا عبادتَها وتعظيمَها وأن تذبَحُوا لَها ، كما يفعلُ المشركون ، سَمَّاها رجْساً اسْتِقْذاراً لَها واستخفافاً لَها ، وذلك أنَّ المشركينَ كانوا يَنْحَرُونَ هداياهم ، ويَصُبُّونَ عليها الدماءَ ، وكانوا مع هذه النَّجاساتِ يعظِّمونَها.
ويجوز أن يكون سَمَّاها رجْساً للُزُومِ اجتنابها كاجتناب الأنْجَاسِ. وأما حرفُ (مِنَ) في قولهِ (مِنَ الأوْثَانِ) لتخصيصِ جنسٍ من الأجناس ، والمعنى : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي هو مِن وَثَنٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ } ؛ يعني قولَ الكذب ، ومِن أعظمِ وجُوهِ الكذب الكفرُ بالله ، والكذبُ على الله ، ويدخلُ في ذلك شهادةُ الزُّور ، كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بالإشْرَاكِ باللهِ ". وقال صلى الله عليه وسلم : " شَاهِدُ الزُّورِ لاَ تَزُولُ قَدَمَاهُ مِنْ مَكَانِهَا حَتَّى تَجِبَ لَهُ النَّارُ ".
(0/0)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } ؛ أي مُخلصين للهِ مستقيمين على أمرِهِ غيرَ مشركين في تلبيةٍ ولا حَجٍّ ، وذلكَ أنّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يقولون في تلبيتِهم : لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيْكَ لَكَ لَبَّيْكَ ، إلاَّ شَريكاً تَملكهُ يَعْنُونَ الصَّنمَ. وانتصبَ قولهُ : { حُنَفَآءَ } على الحالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ } ؛ أي سَقَطَ من السَّماءِ ، { فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ } ؛ في الْهَواءِ فَتُمَزِّقُهُ ، أو تذهبُ به الريحُ في موضع بعيدٍ ؛ أي مُنْحَدَرٍ فيقعُ على رأسهِ فيهلَكُ ، أي كما أنَّ الذي سَقَطَ من السماءِ لا يَملك نفعاً ولا دفعَ ضُرٍّ ، وكذلك الذي تَهوي به الريحُ في مكان سَحيقٍ ، وكذلك المشركُ لا ينتفعُ بشيء مِن أحْمَالِهِ ولا يقدرُ على شيءٍ منها.
قرأ أهلُ المدينة (فَتَخَطَّفُهُ الطَّيْرُ) بالتشديد أي فَتَتخْطِفُهُ ، فأُدْغِمَ أحدُ التَّائَين في الأُخرى ، والْخَطْفُ : الأخذُ بسرعةٍ. قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ يَخْطِفُ لَحْمَهُ) ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } ؛ أي تُسْقِطُهُ ، { فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } ؛ أي بعيدٍ. شَبَّهَ حالَ الْمُشْرِكِ بحال هذا الْهَاوِي من السَّماء في أنه لا يَمْلِكُ حيلةً حتى يسقطَ فهو هالكٌ لا محالةَ ، إما بإسْلاَب الطَّيرِ ، وإما بالسُّقوطِ في المكان السَّحيقِ.
(0/0)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } ؛ أي ذلك التباعدُ والهلاكُ لِمَنْ أشْرَكَ بالله ، مَن يُعَظِّمُ شعائرَ اللهِ ؛ أي مَنَاسِكَ اللهِ. وَقِيْلَ : أراد بالشَّعِيْرِة الْبُدْنَ ، فمَن عظَّمَها باستمنانِها واستحسانِها ، { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ } ؛ يعني من صَفَاوَةِ القُلُوب. وإنَّما أضافَ التَّقْوَى إلى القلوب ؛ لأن حقيقةَ التقوى تَقْوَى القلوب.
(0/0)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي لكم في بَهيمة الأنعامِ المنافعُ تركَبُوها ، وتَشرَبُونَ ألبانَها قبلَ أن تشعروها وتسمُّوها هَدْياً إلى أن تقادُوها ، وسموها هدياً ، وأما إذا قلدوها وسَمَّوها هَدْياً انقطعت هذه المنافعُ فلا يجوزُ له حينئذٍ شُرْبُ ألبانِها ولا خَزُّ أصوافِها ولا بيعُ أولادِها.
وأما ركوبُها عند الشافعيِّ يجوزُ إذا لَم يُضِرَّ بها ، وعندنا لا يجوزُ إلاّ اذا اضطرَّ إليه. وعن أبي هريرةَ " عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه رَأى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً ، فَقَالَ لَهُ : " وَيْحَكَ! ارْكَبْهَا " فَقَالَ لَهُ : إنَّهَا بَدَنَةٌ ، فَقَالَ : " وَيْحَكَ! ارْكَبْهَا " وهذا عندنا محمولٌ على أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إنَّما أباحه لضرورة علمه مِن الرجُل فأَذِنَ له في ذلكَ إن لم يجد ظهراً غيرها ، يدلُّ على ذلك أنه لا يجوزُ له أنْ يوجِّهَها للركوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ؛ يعني أنَّ نحرها إلى الْحَرَمِ ، وعبَّر عن الحرمِ بالبيت ؛ لأن حرمةَ الحرمِ متعلقةٌ بالبيت ، كما قالَ تَعَالَى{ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ }[المائدة : 95] ، ومن المعلومِ أنَّهُ لا يُذْبَحُ عند البيتِ.
(0/0)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } ؛ أي لكلِّ أُمَّةٍ مُسْلِمَةٍ سَبَقَتْ قبلَكم جعلنا لها عِيْداً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ } ؛ عند الذبْحِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ولكلِّ أُمَّةٍ جعلنا عِبَادَةً في الذبْحِ. وَقِيْلَ : معناهُ : جعلنا مُتَعَبَّداً يعبدون اللهَ فيه.
قرأ أهلُ الكوفة (مَنْسِكاً) بكسرِ السِّين ؛ أي مَذْبَحاً وهو موضعُ القُرْبَانِ ، وقرأ الباقون بفتحِ السِّين على المصدر مثل الْمَدْخَلِ والْمَخْرَجِ ؛ أي هِرَاقَةُ الدَّمِ أو ذبحُ القُرُبَاتِ ، فمَن فتحَ السين أخذهُ من نَسَكَ يَنْسُكُ مثل دَخَلَ يَدْخُلُ ، ويستوي فيه المكان والمصدرُ ، ومَن كسَرَها أخذهُ من نَسِكَ يَنْسِكُ مثل جَلَسَ يَجْلِسُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ } ؛ أي أخْلِصُوا دِينَكم وأعمالكم للهِ تعالى ، { وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } ؛ أي المتواضعين بالجنَّة ، واشتقاقُ الْمُخْبتِيْنَ مِنَ الْخَبَتِ وهو المكانُ المطمئنُ ، وقال مجاهدُ : (يَعْنِي الْمُخْبتِينَ : الْمُطْمَئِنِّيْنَ إلَى اللهِ) ، وقال الأخفشُ : (الْخَاشِعِيْنَ) ، وَقِيْلَ : الخائفينَ ، وَقِيْلَ : هم الذين إذا ظلموا لا ينصرون.
(0/0)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ؛ أي إذا خُوِّفُوا بالله خَافُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ } ؛ أي وبَشِّرِ الصَّابرِينَ عَلَى مَا أصَابَهُمْ مِن البَلاَيَا والنوائب الشدائد ، وَبَشِّر { وَالْمُقِيمِي الصَّلاَةِ } ؛ في أوقاتِها ، وحُذفت النونُ لطول الاسم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ؛ أي يتصدَّقون من الواجب وغيرهِ.
(0/0)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ } ؛ جمع بَدَنَةٍ وهي الناقةُ والبقرة ، والبَدَانَةُ الضخامةُ ، والمعنى : والإبلَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ من أعْلاَمِ دِيْنِ اللهِ ؛ أي جعلناها لكم فيها عبادةٌ لله من سَوْقِهَا إلى البيتِ وتقلِيدِها وإشعارِها ونَحرِها والإطعامِ منها ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ؛ يعني النفعَ في الدُّنيا والآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ } ؛ أي عند نَحرها ، وصَوَافَّ جمعُ الصَّافَّةِ وهي القائمةُ على ثلاثِ قوائم قد عُقلت ، وكذا السُّنة في الإبلِ ، ومعنى الآية : فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ على نَحْرِهَا قِيَاماً معقولة إحدى يدَيها وهي اليُسرى. وعن يحيى بن سالِم قال : (رَأيْتُ ابْنَ عُمَرَ وَهُوَ يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ ، فَنَحَرَهَا وَهِيَ قَائِمَةٌ مَعْقُولةٌ إحْدَى يَدَيْهَا) يعني اليسرى.
وروِيَ عن ابنِ مسعود كان يقولُ : (صَوَافَّن) بالنون وهي المعقولةُ ، مِن قولِهم : صَفَنَ الفرسُ إذا قامَ على ثلاثِ قوائم ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ }[ص : 31]. وقرأ الحسنُ ومجاهد : (صَوَافِي) بالياء أي صافيَةً خالصةً لله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } ؛ أي سَقَطَتْ بعدَ النحرِ ، فوضعت جنوبُها على الأرضِ وخرجت روحُها ، { فَكُلُواْ مِنْهَا } ؛ ولا يجوزُ الأكلُ من البُدْنِ إلاّ بعد خروجِ الروح ، لأن ما بينَ عن الحيِّ فهو ميتٌ. وأصلُ الوُجُوب الوُقُوعُ ، ومنه وَجَبَتِ الشمسُ إذى وقعت في الْمَغِيْب ، ووجبَ الحائطُ إذا وقعَ ، ووجبَ القلبُ إذا وقعَ فيه الفزعُ ، ووجبَ الفِعلُ إذا وجبَ ما يلزمُ به فعله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلُواْ مِنْهَا } أمَرْنا بإباحةٍ ورُخْصَةٍ مثلُ قوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ }[المائدة : 2] ، وقولهِ تعالى{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ }[الجمعة : 10].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } ؛ اختلَفُوا في معناها ، فرُويَ عن ابنِ عبَّاس ومجاهد : (أنَّ الْقَانِعَ هُوَ الَّذِي يَقْنَعُ وَيَرْضَى بمَا عِنْدَهُ وَلاَ يَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِضُ لَكَ أنْ تُطْعِمَهُ مِنَ اللَّحْمِ) ، يقالُ : قَنَعَ قَنَاعَةً إذا رَضِيَ قانع ، وعَرَاهُ واعْتَرَاهُ إذا سألَهُ ، وكذلك قال عكرمةُ وقتادة : (إنَّ الْقَانِعَ هُوَ الْمُتَعَفِّفُ الْجَالِسُ فِي بَيْتِهِ ، وَالْمُعْتَرَّ السَّائِلُ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ وَيَسْأَلُكَ).
قال سعيدُ بن جبير والكلبيُّ : (الْقَانِعُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرُّ هُوَ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لَكَ ويُرِيكَ نَفْسَهُ وَلاَ يَسْأَلُكَ) ، فعلى هذا يكون القانعُ من القُنُوعِ وهو السُّؤالُ ، يقال منه : قَنَعَ الرجلُ يَقْنَعُ إذا ذهبَ يسأل ، مثل ذهبَ فهو قانعٌ. قال الشمَّاخُ : كَمَالُ الْمَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْنَى مَفَاقِرَهُ أعَفُّ مِنَ الْقَنُوعِأي من السُّؤال. وقال زيدُ بن أسلمَ : (الْقَانِعُ هَوَ الْمِسْكِيْنُ الَّذِي يَطُوفُ فَيَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرُّ الصَّدِيْقُ الزَّائِرُ ، وَالْمُعْتَرُّ الَّذِي يَعْتَرِي الْقَوْمَ لِلَحْمِهِمْ وَلَيْسَ بمِسْكِيْنٍ إلاَّ أنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ ذبيْحَةٌ ، يَأْتِي الْقَوْمَ لأَجْلِ لَحْمِهِمْ).
وقرأ الحسنُ : (وَالْمُعْتَرِي) بالياء من قولِهم : اعْتَرَاهُ إذا غَشِيَهُ لحاجته. وروى عطاءٌ عن ابن عبَّاس : (أنَّ الْقَانِعَ الَّذِي يَسْأَلُ ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَأْتِيْكَ بالسَّلاَمِ ، وَيُرِيْكَ وَجْهَهُ ، وَلاَ يَسْأَلُ) ، وعن مجاهد : (أنَّ الْقَانِعَ جَارُكَ الْغَنِيُّ ، وَالْمُعْتَرَّ الَّذِي يَعْتَرِيْكَ مِنَ النَّاسِ).
فعلى هذا تقتضي الآيةُ : أن المستحبَّ أنْ يتصدَّقَ بالثُّلُثِ ؛ لأن في الآيةِ أمرٌ بالأكلِ وإعطاءِ الغنيِّ وإعطاءِ الفقير السائلِ. " وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في الحرمِ : " الأَضَاحِي كُلُوا وَادَّخِرُواْ " وقال تعالى : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }[الحج : 28] ، فإذا جَمعت بين الآية والخبر جُعِلَ الثلثُ للصدقةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ أي مِثْلَ ما وَصَفْنَا من نَحرِها وقيامها سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ؛ أي ذلَّلْنَاهَا لكم ؛ لتتمكَّنوا من نحرِها على الوجهِ الْمَسْنُونِ ؛ لكي تَشْكُرُوا نِعَمَ اللهِ تعالى.
(0/0)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
قولهُ تعالى : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } قال الكلبيُّ : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَنْحَرُونَ الْبُدْنَ لِلأَصْنَامِ وَيُلَطِّخُونَ الْبَيْتَ بدِمَائِهَا قُرْبَةً إلَى اللهِ فَنَهَى عن ذلِكَ). والمعنى : لن يرفعَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ، ولكن يُرفَعُ إلى اللهِ منكمُ الأعمالُ الصالحة والتَّقْوَى ، وهو ما أُريْدَ به وجهه الكريم.
ويقالُ : إنَّما لاَ يَتَقَبَّلُ الله اللحومَ والدماء لأنها فعلُ الله ، ولكن يتقبلُ التقوى الذي هو فِعْلُ العبدِ ، فيوجبُ الثوابَ على ذلك ، والمعنى : لن يتقبَّلَ اللهُ اللحومَ والدماء اذا كانت من غيرِ تقوى ، وإنَّما يتقبَّلُ منكم التقوَى والطاعةَ في ما أمرَكم به ، بالنيَّة والإخلاصِ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ } ؛ أي ذلَّلَهَا لكم ، { لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ } ؛ أي لِتُعَظِّمُوهُ ، { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ؛ لِدِيْنِهِ ، { وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ } ؛ بالجنَّة يعني الموحِّدين المخلصين. ويقالُ : معنى قوله { عَلَى مَا هَدَاكُمْ } يعني ما بَيَّنَ لكم وأرشَدَكم لِمَعَالِمِ دِيْنِهِ ومناسكِ حَجِّهِ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي إذا ما أُمِرْتُمْ فَعَلْتُمْ به وخالَفْتُم فعلَ الجاهليَّة في نَحْرِهِمْ وإشراكِهم بالله ، فإن اللهَ يدفعُ عنكم غَائِلَةِ المشركينَ وأذاهُم وينصركم عليهم ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي لا يحبُّ كلَّ مُظْهِرٍ للنصيحة مُضْمِرٍ للغشِّ والنِّفاقِ كافر بالله وبنعمتهِ.
قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ الَّذِيْنَ خَانُواْ اللهَ بأنْ جَعَلُواْ مَعَهُ شَرِيْكاً وَكَفَرُواْ نِعَمَهُ) ، قال الزجَّاجُ : (مَنْ ذكَرَ غَيْرَ اسْمِ اللهِ وَتَقرَّبَ إلَى الأَصْنَامِ بذبيْحَتِهِ فَهُوَ خَوَّانٌ كَفُورٌ) ، قرأ أبو عمرٍو وابنُ كثير : (يَدْفَعُ) ، وقرأ الباقون : (يُدَافِعُ) ، وهو بمعنى واحدٍ.
(0/0)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هَذِهِ أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الإذْنِ بالْقِتَالِ ، أذِنَ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِيْنَ الْمُهَاجِرِيْنَ أنْ يُقَاتِلُواْ كُفَّارَ مَكَّةَ بسَبَب مَا ظُلْمُواْ بأَنْ أُخْرِجُواْ مِنْ مَكَّةَ) { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ؛ هذا وَعْدٌ لَهم بالنَصرِ.
وَقِيْلَ : كان مُشرِكُو مكَّة يؤذُونَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلا يزالون مَحْزُونِينَ من " بين " مَشْجُوجٍ ومضروبٍ ، ويَشْكُونَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولُ لَهم : " اصْبرُواْ فَإنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بالْقِتَالِ " حَتَّى هَاجَرُواْ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ بالمدينة.
قرأ نافعُ وأبو عمرٍو وعاصم : (أُذِنَ) بضمِّ الألف وكسرِ الذال ، وقرأ الباقون (أَذِنَ) بالفتح ؛ أي أَذِنَ اللهُ لَهم ، وقوله (يُقَاتَلُونَ) ، قرأ نافع وابنُ عامر وحفص : بفتح التاء ؛ أي أذِنَ للمؤمنينَ الذين يُقَاتِلُهُمُ المشركونَ ، وقرأ الباقون بكسرِها ، يعني أَذِنَ لَهم في الجهادِ يقانلون المشركينَ.
(0/0)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ } ؛ أوَّلُ آيةٍ بَدَلٌ من { الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ } أي أخرَجَهم أهلُ مكة مِن منازلِهم بغيرِ جُرْمٍ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ } معناه : لَمْ يُخرْجُوهم إلاّ بأن كانوا يُوَحِّدُونَ اللهَ تعالى فأخرَجُوهم لتوحيدِهم ، المعنى : لَمْ يُخرجوهم مِن ديارهم إلاّ لقولهم رَبُّنَا اللهُ ، فيكون (أنْ) في موضع الخفضِ رداً على الباء في قولهِ { بِغَيْرِ حَقٍّ } ، ويجوز أن تكون (أنْ) في موضع نصبٍ على الاستثناء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ } ؛ أي لولا أنْ يدفعَ اللهُ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدِمَ في زمنٍ كلُّ شيء ما بُنِيَ للصلاةِ والعبادة نحو الصَّوامعَ ، { يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً }.
قال مجاهدُ والضحَّاك : (يَعْنِي صَوَامِعَ الرُّهْبَانِ) ، وقال قتادةُ : (الصَّوَامِعُ لِلصَّابئِيْنَ ؛ وَهِيَ مُتَعَبَّدَاتُهُمْ ، وَالْبَيعُ جَمْعُ بَيْعَةٍ ؛ وَهِيَ مُتَعَبَّدُ النَّصَارَى ، وَالصَّلَوَاتُ هِيَ كَنَائِسُ الْيَهُودِ ، وَكَانَ الْيَهُودُ يُسَمُّونَهَا بالْعَبْرَانِيَّةِ صَلَوَاتَا ، وَالْمَسَاجِدُ الَّتِي يُصَلِّي فِيْهَا الْمُسْلِمُونَ).
والمعنى : لولا كَفُّ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض بالجهادِ ، وكَفُّ الظُّلم لحربٍ في كلِّ شريعةٍ ، كلٌّ بَنى المكان الذي يُصَلَّى فيه ، فكان لولا الدفعُ لَهُدِمَ في زمنِ موسى عليه السلام الكنائسُ ، وفي زمنِ عيسى عليه السلام الصَّوامِعُ والبيَعُ ، وفي زمن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم المساجدُ. وعن مجاهد أنه قال : (الْبيَعُ لِلْيَهُودِ يُسَمُّونَهَا صَلَوات) ، وقال أبو العاليةِ : (هِيَ مَسَاجِدُ لِلصَّابئِيْنَ). فعلى هذا يكون المعنى : لَهُدِّمَتْ صوامعُ الصلواتِ. ويقال : أرادَ بالصَّلواتِ الصلوات المعهودة التي للمسلمين ، وهَدْمُهَا إبطالُها وإهلاكُ مَن يفعلُها.
والأَوْلَى أنْ يستدلَّ بهذه الآية على أنَّ هذهِ المواضعَ المذكورة التي يجري فيها اسمُ الله تعالى لا يجوزُ أن تُهْدَمَ في شريعةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم على كلِّ مَن كان له ذِمَّةٌ ، أو جهاد من الكفَّار ، فأما في ديارِ الحرب فيجوزُ للمسلمين هدمُها إذا فُتحت دارُهم عنوةً ، ولَم يُقَرُّوا عليها بالجزيةِ ، كما يجوزُ هَدْمُ سائر دورِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : (لَهُدِّمَتْ) الْهَدْمُ هو نَقْضُ البناءِ. قرأ أهلُ الحجاز (لَهُدِمَتْ) بالتخفيف. فإن قِيْلَ : لِمَ قَدَّمَ مُصَلَّيَاتِ الكافرينَ على مساجدِ المؤمنين ؟ قِيْلَ : لأنَّها أقدمُ ، وَقِيْلَ : لقربها من الهدمِ ، وقُرب المساجد من الذِّكْرِ ، كما خُرِّجَ السَّابقُ في قولهِ تعالى{ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ }[فاطر : 32] إلى قولهِ تعالى : { بِالْخَيْرَاتِ }[فاطر : 32].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ } ؛ أي ليَنْصُرَنَّ اللهُ تعالى مَنْ يَنْصُرُ دِيْنَهُ ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ؛ أي لَقَوِيٌّ على أخذِ الأعداء ، عَزِيْزٌ أي مُمتنعٌ بالنعمةِ منهم.
(0/0)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ نعتٌ للذين يُنصرون بدِين الله ؛ أي همُ الذين إنْ مكَّنَهم الله في الأرضِ ينصرُهم الله في عدوِّهم حتى يُمَكَّنُوا في البلادِ ، لَم يعملوا ما عَمِلَهُ الذين الذين مِن قبلِهم ، ولكن أقامُوا الصلاةَ المكتوبة ، { وَآتَوُاْ الزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ } ؛ وأعطوا الزكاةَ المفروضة ، وأمَرُوا بالحقِّ ونَهَوا عن الباطلِ. قال مقاتلُ : (هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم) ، وقال الحسنُ : (هُمْ هَذِهِ الأُمَّةُ أهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ). وقولهُ تعالى : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } ؛ بَطَلَ كلُّ مُلْكٍ سوى مُلْكِهِ ، فتصيرُ الأمور كلها إليه بلا مُنَازعٍ ولا مُدَّعٍ.
(0/0)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } ؛ في هذه الآية تَسْلِيَةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : إنْ يُكَذِّبُوكَ - قومُكَ - فقد كَذبَتِ الأُمَمُ أنبياءهم من قبلِكَ ، وقولهُ : { وَكُذِّبَ مُوسَى } ؛ أي كَذبَهُ فرعونُ ، { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } ؛ أي أمْهَلْتُهُمْ ، وأخَّرْتُ عقوبتَهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } ؛ بالعقوبةِ ، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيفَ كان إنْكَاري عليهم حتى بيدُوا أو خُرِّبَتْ قُراهم ، فأبدلتُهم بالنعمةِ نقمةً ؛ وبالكثرةِ قلَّةً ؛ وبالحياة هلاكاً. قال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ : فَأَنْكَرْتُ أبْلَغَ الإنْكَار).
(0/0)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ؛ أي كَمْ مِن قريةٍ أهلكناها بالعذاب بكُفرِهم. وقُرًى أهلكناها ، والاختيارُ أهْلَكْتُهَا بالتاء لقوله{ فَأمْلَيْتُ }[الحج : 44] ، قولهُ : { فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } ؛ أي ساقطةٌ على سُقُوفِهَا ، وذلك أن السَّقْفَ يقعُ قبلَ الحيطانِ ، ثم تقع الحيطان عليه ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } ؛ أي كم بئر عطلها أربابُها وَكم من { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } ؛ عطَّلَهُ أهلهُ. والْمَشِيْدُ هو الْمُجَصَّصُ ، والشِّيْدُ الْجُصُّ والنُّورَةُ ، ويجوزُ أن يكون معنى الْمَشِيْدِ الرفيعُ ، يقال : شادَ البناءَ وأشَادَهُ إذا أطْلاَهُ بالشِّيدِ.
(0/0)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } ؛ أي أفَلَمْ يَسِرْ قومُكَ يا مُحَمَّدُ في أرضِ اليَمَنِ والشَّام ؛ لينظروا آثارَ الْمُهْلَكِيْنَ ، فِيعقلوا بقلوبهم ما نَزَلَ بمن كَذِب من قبلهم ، ويسمَعُوا بآذانِهم خَبَرَ الأممِ الْمُكَذِّبَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَكُونَ لَهُمْ } نُصِبَ على جواب الْجَحْدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ } ؛ الهاءُ في قوله { فَإِنَّهَا } عمادٌ ، وهو إضمارٌ على شريطةِ التفسير ، والمعنى : فإنَّ الأبصارَ لا تَعْمَى ؛ أي يَرَوْنَ بأبصارهم ، { وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } ؛ قلوبُهم بذهابها عن إدراكِ الحقِّ بما يؤدِّي إليه الدليلُ.
وفي الآية دليلٌ أنَّ العقلَ في القلب بخلاف ما قالَهُ الفلاسفةُ والأطباء : أن مَحَلَّ العقلِ الرأسُ الدماغ ؛ لأن العقلَ لو لَم يكن في القلب لَم يُوصَفِ القلبُ بأن يَعْمَى ، كما لا تُوصَفُ بذلك اليدُ والرِّجل ، وأما وصفُ القلوب بأنَّها في الصُّدور فعلى وجهِ التأكيد ، كما في قولهِ تعالى{ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم }[آل عمران : 167] ، وقولهِ{ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ }[الأنعام : 38].
(0/0)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ } ؛ أي وَيَسْتَعْجِلُونَكَ يا مُحَمَّدُ بالْعَذاب ، كما قالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ }[الشعراء : 187] ، وقالوا{ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ }[الأنفال : 32] ، وَلَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ في إنزال العذاب بهم في الدُّنيا. قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ؛ معناهُ : إنَّهم يستعجلونَ بالعذاب ، وإنَّ يوماً من أيَّام عذابهم في الآخرةِ ألفُ سنةٍ ، فكيفَ يستعجلونه؟! قال الفرَّاء في هذه الآية : (وَعِيْدٌ لَهُمْ بالْعَذاب فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : وإنَّ يوماً عندَ الله وألفَ سنةٍ في قدرته لواحدٌ ، فليس تأخُّرُ العذاب عنهم إلاّ تفضُّلاً من اللهِ عليهم. قال الزجَّاجُ : (أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ لاَ يَفُوتُهُ شَيْءٌ ، وَإنَّ يَوْماً عِنْدَهُ وَألْفَ سَنَةٍ سَوَاءٌ ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ إيْقَاعِ مَا يَسْتَعْجِلُونَهُ مِنَ الْعَذاب فِي تأْخِيْرِهِ فِي الْقُدْرَةِ ، إلاَّ أنَّ اللهَ تَفَضَّلَ بالإمْهَالِ ، فَسَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي الإمْهَالِ يَوْمٌ وَألْفُ سَنَةٍ ؛ لأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ مَتَى شَاءَ أخَذهُمْ) ، قال الكوفيُون وابنُ كثير : (مِمَّا يَعُدُّونَ) بالياء ، وقرأ الباقونَ بالتاء.
(0/0)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد : يا أهلَ مكَّة إنَّما أنا لكم رسولٌ مُخَوِّفٌ بالنار لِمن عصَى اللهَ بلُغَةٍ يعرفونَها ، { فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } ؛ لدينهم ، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ؛ حَسَنٌ في الجنَّة.
(0/0)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } ؛ أي والذينَ أسْرَعُوا في تكذيب آياتِنا ، وإبْطَالِ الدين مُبالِغِين للهِ ظَانِّينَ أن يعودَنا ويفوتَنا بقولِهم أنْ لا جنةَ ولا نار ولا بعثَ ولا نشور ، { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ؛ قال قتادةُ : (ظَنُّوا بجَهْلِهِمْ أنَّهُمْ يُعْجِزُونَ اللهَ فَلاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ ، وَهَيْهَاتَ). وهذا كقولهِ{ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا }[العنكبوت : 4] ، ومَن قرأ (مُعْجِزِيْنَ) فمعناهُ : أنَّهم كانوا يُعْجِزُونَ مع مَن اتبعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أي ينسبونَهم إلى العجزِ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وقولهُ تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس وابن جُبير والضحَّاكُ : (وذلكَ أنَّ الشيطانَ أتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في صُورةِ جبريلَ وهو قائمٌ يصلِّي عند الكعبةِ يقرأ سورةَ{ وَالنَّجْمِ }[النجم : 1] حتَّى اذا انتهَى إلَى قولهِ تعالى{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }[النجم : 19-20] ألقَى الشيطانُ على لسانه (تلكَ الغَرَانِيْقُ العُلى منها الشفاعةُ ترتَجى) ، فلما سمعَ المشركون أعجبَهم ذلك ، فلما انتهى إلى آخرِ السورة سَجَدَ ، وسَجَدَ معه المسلمون والمشركونَ إلاّ الوليدَ بن المغيرة ، فإنه لَم يقدر على السُّجود لكِبَرِهِ ، فقال : ائتونِي بالتُّراب ، فأتوهُ بالتراب فوضعَهُ على كَفِّهِ ، ثم سجد على كفِّه ، فلما نزلَ جبريلُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذكَرَ له ذلكَ ، فقال جبريلُ : ما جئتُكَ بهذه ولا أنزلَهُ اللهُ تعالى ، فقالَ : أتانِي شيءٌ في مثلِ صورتِكَ فألقاهُ علَيَّ).
وهذا حَدِيْثٌ أنْكَرَ أهْلُ الْعِلْمِ إجْرَاءَهُ على ظاهرهِ ، وقالوا : كيفَ يجوزُ أن يجعلَ اللهَ للشيطانِ على رسولهِ هذا السلطانَ ، أوَ يختارُ لرسالته مَن لا يُمَيِّزُ بين وحيِ الله ووساوسِ الشَّيطان؟! ومِن المعلوم أن مَن نَسَبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم به إلى ما يرجعُ إلى تعظيمِ الأصنام فقد كَفَرَ ، إلاّ أنه يحتملُ أن يكون الشيطانُ ألقَى في تلاوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ما لَم يَقُلْهُ ، وخُيِّلَ إلى مَن سَمع تلاوتَهُ مِن الذين كانوا بالبُعْدِ منهُ أنه جرَى على لسانهِ ، وإنَّما هو من لسانِ الشيطان ، وكان ذلك فتنةً للتابعين ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَعْصُوماً مِن أن يَجْرِيَ على لسانهِ ما لَم يُنْزِّلْهُ اللهُ. وقد يُذْكَرُ التَّمَنِّي ويرادُ به القراءةُ كما قال الشاعر : تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أوَّلَ لَيْلِهٍ وَآخِرَهُ لاَقِي حِمَامَ الْمَقَادِروقال جماعةٌ من المفسِّرين : كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَريصاً على إيْمان قومهِ ، وتَمنَّى في نفسهِ مِن الله أن يأتيه ما يقاربُ بينه وبين قومهِ ، فجلسَ ذات مرَّة بهم في مجلسٍ كثيرٌ أهلهُ ، وأحبَّ يومئذ أن يأتيه من اللهِ شيءٌ فقرأ عليهم سُورة النَّجْمِ ، فلما بَلَغَ{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }[النجم : 19-20] ألقَى الشيطانُ على لسانهِ (تلك الغرانيقُ العلى وأن شفاعتهم ترتجى) فلما سَمعت قريشُ ذلك فرِحُوا وقالوا : قد ذكرَ مُحَمَّدٌ آلِهَتنا بأحسنِ الذكر ، ومضَى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قراءتهِ ، فلما خَتَمَ السورةَ سَجَدَ في آخرِها وسجدَ معه المسلمون والمشركون إلاّ الوليدَ بن المغيرةِ وسعيدَ بن العاص فإنَّهما أخذا حفنةً من البطحاءِ ورفَعَاها إلى جبهَتِهما وسجدا عليها ؛ لأنَّهما كانا شَيخين كبيرين لَم يستطيعا أن يسجُدَا.
(0/0)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } ؛ أي ليجعلَ ما يُلقي الشيطانُ في قراءتهِ فتنةً للذين في قلوبهم شَكٌّ ونفاقٌ ؛ لأنَّهم افْتُتِنُوا بما سَمعوا فازدادوا عُتُوّاً ، وظَنُّوا أن مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يقولُ الشيءَ مِن عند نفسهِ فيبطلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } ؛ يعني المشركينَ كذلك ازدَادُوا فتنةً وضلالة وتكذيباً ، سَمَّاهم قاسيةً قلوبُهم ؛ لأنَّها لا تلينُ لتوحيدِ الله ، وقولهُ تعالى : { وَإِنَّ الظَّالِمِينَ } ؛ يعني أهلَ مكَّة ، { لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ؛ أي مشاقَّةٍ بعيدةٍ عن الحقِّ.
(0/0)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ؛ معناه : ولِيَعْلَمَ المؤمنون رُجُوعَكَ إلى الصواب ، إنَّ ذلك حقٌّ من ربكَ فتخضعَ وتَذِلَّ لهُ قلوبُهم. وَقِيْلَ : معناهُ : وَليَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ التوحيدَ والقُرْآنَ.
قال السديُّ : (التَّصْدِيْقُ أنَّهُ الْحَقُّ) أي إنَّ نَسْخَ ذلك وإبطالَهُ حقٌّ من اللهِ ، { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } ؛ وتصديقِ النَّسْخِ ، { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } ؛ أي تَرِقَّ قلوبُهم للقُرْآنِ فينقَادُوا لأحكامه ، بخلافِ المشركين الذين قِيْلَ : لهم{ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ }[الحج : 53].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ فيه بيانُ هذا الايْمَانَ والإخْبَاتَ إنَّما هو بلُطْفِ الله وهدايته إياهم ، والمعنى : وإنَّ اللهَ لَهَادِيْهِمْ إلى دينٍ يرضاهُ.
(0/0)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } ؛ أي في شَكٍّ من القُرْآنِ ، { حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } ؛ يعني سَاعَةَ موتِهم ، { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } ؛ يعني يوم بَدْرٍ في قولِ ابن عباس وقتادة ومجاهد ، سَمَّاهُ اللهُ العقيمَ الذي لا يأتِي بخير. وَقِيْلَ : يومُ القيامةِ سَمَّاهُ الله عَقِيْماً لأنه لا مِثَالَ له في عِظَمِ أمرهِ.
(0/0)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ؛ أي الْمُلْكُ يومَ القيامةِ لله تعالى من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ ، لا يظهرُ الأمر فيه إلاَّ للهِ تعالى ، { فَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا فَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ؛ فيقضي فيه بين المؤمنينَ والكافرين بإدخالِ المؤمنين الجنَّةَ ، وإدخال الكافرين النارَ.
(0/0)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً } ؛ معناهُ : والذين هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا من ديارِهم وأوطانِهم في طاعةِ الله من مكَّة إلى المدينةِ ، ثُم قُتِلُوا أو ماتوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رزقاً حَسَناً وهو نعيمُ الجنة ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }.
(0/0)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } ؛ يعني به المنازلَ التي أعدَّها اللهُ لَهم في الجنَّةِ ، لَهم فيها ما تشتهي الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ ، خالدين فيها لا يَبْغُونَ عنها حِوَلاً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } ؛ أي لَعِيْمٌ بمصالح عباده ونيَّاتِهم ، { حَلِيمٌ } ؛ لا يُعَجِّلُ بعقوبةِ أعدائه.
(0/0)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } ؛ الآيةُ ؛ أي ذلك الأمرُ الذي قَصَصْنَا عليكَ ، ثم قال { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } ، { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ } ؛ نزلت هذه الآيةُ في قومٍ من المشركين لَقُوا جماعةً من المسلمين فقَاتَلُوهُمْ في الشَّهرِ الحرام ، فنَهَاهُمُ المسلمونَ عن ذلك فَأَبَوا ، فلما أبَوْا قاتَلَهم المسلمون فنُصِرُوا ؛ أي ومَن عاقبَ بالقتالِ بمثل ما عُوقِبَ بهِ ؛ أي بالقتالِ في الشهر الحرامِ ثُم بُغِيَ على الدافعِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ على مَن بَغَى عليه ، { إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ } ؛ أي متجاوزٌ عن مَن فاتَ { غَفُورٌ } ؛ لِمن ماتَ على التوبةِ.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ } ؛ أي ذلك النصرُ بأنه القادرُ على ما يشاء ، فمِن قدرتهِ أنه يُولِجُ الليلَ في النهارِ ، { وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } ؛ أي سَمِيْعٌ لِمَنْ دعاهُ بَصِيْرٌ بعبادهِ.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } ؛ أي ذلك الذي نَقَلْتُهُ من نُصْرَةِ المؤمنين بأنَّ اللهَ ذو الحقِّ في فعله وقدرتهِ ، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } ؛ المشركونَ ؛ { مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ } ؛ ليس فيه نفعٌ ولا ضرَرٌ ، { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ } ؛ على كلِّ شيء بقدرتهِ ، { الْكَبِيرُ } ؛ الذي يَصْغُرُ كلُّ شيء سِوَاهُ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً } ؛ أي ألَم تَعْلَمْ وتشاهد أنَّ اللهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ؛ يعني المطرَ ، فتُصْبحُ الأرضُ ذاتَ خُضرةٍ بالنبات ، { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ } ؛ بأرزاقِ عباده واستخراجِ النبات من الأرض ، { خَبِيرٌ } ؛ بما في قلوب العباد وبما يصلحُ لَهم.
(0/0)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ عَبْداً ومَلِكاً ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ } ؛ عن عبادهِ ، { الْحَمِيدُ } ؛ إلَى أوليائهِ وأهلِ طاعته ، وَقِيْلَ : الْغَنِيُّ عن إيْمانِ الخلق وطاعتهم ، الْمَحْمُودُ في أفعالهِ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ } ؛ أي ألَم تَعْلَمْ أنَّ الله ذلَّلَ لكم مَا فِي الأَرْضِ ؛ يعني البهائمَ التي تُرْكَبُ ، وَسَخَّرَ لكم { وَالْفُلْكَ } ؛ أي السُّفُنَ ؛ { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ؛ أي حَبَسَ عنكم السَّماءَ حتى لا تقعَ عليكم فتهلَكُوا. { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي إلاّ بإرادتهِ ، { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي مُتَفَضِّلٌ على عبادهِ ، مُنْعِمٌ عليهم.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } ؛ أي أحيَاكُم في أرحامِ أمَّهَاتِكم ، ولَم تكونوا شيئاً. وَقِيْلَ : معناهُ : أحياكُم بعدَ أن كنتم نطفةً ميتة ، ثُم يُميتُكم بعدَ إنقضاء آجالِكم ، ثُم يحييكم بعدَ الموتِ عند البعث للحساب ، { إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ } ؛ يعني الْمُشْرِكَ الجحودَ لنِعَمِ الله حتى تَرَكَ توحيدَهُ بعد ظهور الآيات الداعية إلى الحقِّ.
(0/0)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ } ؛ أي لكلِّ أهلِ دِين جعلنا شَريعةً هم عاملون بها ، وَقِيْلَ : مَوْضِعاً تعتادُونه لعبادةِ الله ، ومَكَاناً تعيشونه وتعملون الخيرَ فيه. وَقِيْلَ : معناهُ : لكلِّ أُمَّةٍ جعلنا عِبراً. وقال قتادةُ : (مَوْضِعُ قُرْبَانٍ يَذْبَحُونَ فِيْهِ) ، وَقِيْلَ : الْمَنْسَكُ جميعُ العباداتِ التي أمرَ اللهُ بها ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم يومَ الأضحى : " إنَّ أوَّلَ نُسُكٍ فِي يَوْمِنَا هَذا الصَّلاَةُ ثُمَّ الذبْحُ ". وَقِيْلَ : أراد بالمنسكِ في هذه الآية الْمَذْبَحَ الذي يتقرَّبون فيه بذبائحِهم إلى اللهِ تعالى ، كما جعلَ مكاناً منحراً للإنسان ؛ لأن النُّسُكَ إذا أُطْلِقَ أُريد به الذبحُ من جهة القُرْبَةِ ، كما قالَ{ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }[البقرة : 196].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ } ؛ معناه : النَّهْيُ عن المنازعةِ بعد ظهورِ ما يوجبُ نَسْخَ الشرائعِ المتقدِّمة ، كما يقالُ : لا يُخَاصِمُكَ فلانٌ في هذا الأمرِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا ينازعنَّكَ في أمرِ الذبح ، وذلك أن كفارَ قريش خَاصَمُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ في أمرِ الذبيحة ؛ وقالوا : ما لكم تأكلونَ ما قتلتُم بأيديكم ، ولا تأكلونَ ما قَتَلَهُ اللهُ؟
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي أدْعُ إلى دينِ ربكَ وطاعته إنَّكَ على هُدًى مستقيمٍ ، وَقِيْلَ : على دَلاَلَةٍ ودينٍ مستقيم. { وَإِن جَادَلُوكَ } ؛ على سبيلِ المراءِ والتَّعْنُّتِ كما يفعلهُ السفهاء ، { فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ أي إدفَعْهُم بهذا القول ، ولا تُجَادِلْ إلاّ لِتَبْييْنِ الحقِّ ، والمعنى : وإنْ خَاصَمُوكَ في أمرِ الذبيحةِ فَقُلِ اللهُ أعْلَمُ بمَا تَعْمَلُونَ مِن التكذيب فهو يُجازيكم به ، وهذا قَبْلَ الأمرِ بالقتال. وقولهُ تعالى : { اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي يَقْضِي بينَكم يومَ القيامة ، { فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من الدِّين والذبيحةِ.
(0/0)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ أي قد عَلِمْتَ وأيقنتَ ذلك ، وهذا استفهامٌ يراد به التقريرُ ، وَقِيْلَ : معناهُ : ألَمْ تعلم يا مُحَمَّدُ أنَّ الله يعلمُ أعمالَ أهلِ السَّماء والأرضِ وأسرارَهم ؟ { إِنَّ ذلِكَ فِي كِتَابٍ } ؛ يعني ما يَجري في السَّماء والأرضِ ، كلُّ ذلك مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظِ ، { إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ؛ أي أنَّ عِلْمَ اللهِ بجميعِ ذلكَ عليه يسيرٌ سهلٌ.
(0/0)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } ؛ معناهُ : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِه الأصنامَ ما لَم يُنَزِّلْ به كِتَاباً ولا حُجَّةً ، وما ليس لَهم به علمٌ أنَّها آلِهةٌ ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } ؛ أي ومَا للمشركين مِن مانعٍ يَمْنَعُ عذاباً عنهم ، نزلت هذه الآيةُ في أهلِ مكَّة.
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ } ؛ أي وإذا يُقْرَأُ عليهم القُرْآنُ تَعْرِفُ في وجوهِهُمُ الإنكارَ للقُرْآن من الكراهةِ والعُبُوسِ ، { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } ؛ أي يكادون يَسْطُونَ بالمؤمنين ليَردُّوهم. وَقِيْلَ : معناهُ : يكادون يَقِعُونَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِن شدَّة الغيظِ. وَقِيْلَ : يكادون يَسْطُونَ إلى المؤمنينَ أيدِيَهم بالسُّوء. يقالُ : سَطَا فلانٌ على فلانٍ إذا تناولَهُ بالسَّطْوِ والعنف ، وأخذهُ بالشدَّة والإخافةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ أفأُخَبرُكُمْ بشَرٍّ عليكم من غَيْظِكم على التالِي لآياتِ الله وهو { النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ يصيرونَ إليها ، { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ وَقِيْلَ : إنَّ الكفارَ قالوا : واللهِ ما رأينا قَوْماً أقلَّ حَظّاً منك يا أصحَابَ مُحَمَّدٍ ، قالَ اللهُ تَعَالَى : قُلْ يا مُحَمَّدُ : أفأخَبرُكم بشَرٍّ مِنْ ذلِكُمْ ؛ أي بشَرٍّ مما قُلْتُمْ : النارُ مَن دخلَها فحالهُ شرٌّ مِن حالنا.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ } ؛ معناهُ : يا أهلَ مكَّةَ بُيِّنَ مَثَلُ آلِهَتِكُمْ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ من الأصنامِ ، { لَن يَخْلُقُواْ } ؛ أي لن يقدِرُوا أن يخلقوا ، { ذُبَاباً } ؛ مع صُغْرِهِ وقِلَّتِهِ ، { وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ } ؛ العابدُ والمعبُودُ على ذلكَ ، وكان لَهم ثلاثُمائة وستُّون صَنَماً حولَ الكعبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا يَطْلُونَ أصْنَامَهُمْ بالزَّعْفَرَانِ وَالْعَسَلِ ، فَيَأْتِي الذُّبَابُ فَيَحْمِلُهُ فَلاَ يَقْدِرُونَ أنْ يَسْتَرِدُّوهُ مِنَ الذُّبَاب). وقال السديُّ : (كَانُوا يَجْعَلُونَ لِلأَصْنَامِ طَعَاماً ، فَيَقَعُ عَلَيْهِ الذُّبَابُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ إنْقَاذهُ مِنْهُ) فـ { ضَعُفَ الطَّالِبُ } ؛ من الأصنامِ ، { وَالْمَطْلُوبُ } ؛ هو الذبابُ. وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ ضَعُفَ الْعَابدُ وَالْمَعْبُودُ). وَقِيْلَ : معناهُ : ضَعُفَ الذُّبابُ الطالبُ لِما يأخذهُ من الصَّنمِ ، وضَعُفَ المطلوبُ يعني الصَّنَمَ. وَقِيْلَ : ضَعُفَ الطالبُ مِن هذا الصنمِ المتقرَّب إليه ، والصنمِ المطلوب منه ذلك.
وَقِيْلَ : إن المشركينَ كانوا خَرَجُوا في عيدٍ لَهم بأصنامِهم ، وقد زيَّنُوها باليوَاقِيتِ واللآلِئ وأنواعِ الجواهر ، وطيِّبُوها بأنواع الطِّيْب وغَشَّوها بالْحُلِيِّ والْحُلَلِ ، فجاء ذبابٌ فأخذ شَطْبَةً من تلك الزِّينة - أي قِطْعةً - فطارَ بها في الهواءِ ، فأراهم اللهُ تعالى العبرةَ في ضَفْفِهم وضعفِ معبودهم ، فلا أحدٌ مما لا يُمكنه الاستنقاذُ من الضعيفِ.
(0/0)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ؛ أي ما عَرَفُوهُ حقَّ معرفتهِ ، ولا عظَّمُوهُ حقَّ تعظيمه حيث عَدَلُوا به مَن لا يقدرُ أن يَخْلُقَ ذُباباً ، أو يستنفذ مِن ذبابٍ ما ذهبَ به منه ، { إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ؛ أي قَوِيٌّ على خَلْقِهِ ، عَزِيْزٌ في مُلكه ، لا يقدرُ أحدٌ على مُغالبَتهِ.
(0/0)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً } ؛ معناهُ : اللهُ يختارُ من الملائكة رُسُلاً يعني جِبريل وميكائيلَ وإسرافيل ومَلَكَ الموتِ ، { وَمِنَ النَّاسِ } يعني من النبيِّين. أخبرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أنَّ الاختيارَ إليه ، ويختارُ من يشاءُ ممن خَلَقَهُ ، فيجعلُهم رُسُلَهُ وأنبياءَهُ يبعثُهم إلى خَلْقِهِ ، فأطيعوهم واحذرُوا معصيتَهم ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } ؛ بمقالَتِكم ، { بَصِيرٌ } ؛ بأعمالكم وضمائرِكم.
(0/0)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ؛ أي يَعْلَمُ ما بين أيدِي الملائكةِ ورُسُلِهِ قَبْلَ أن يخلِقَهم ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما يكون بعد فنائهم { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } ؛ عواقب الأمور.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ } ؛ أي صَلُّوا ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } ؛ أي بجميعِ العبادات ، { وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ } ؛ من أنواعِ البرِّ مثل صِلَةِ الرَّحم ، وبرِّ الوالدين ، ومكارمِ الأخلاق ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ روي أنَّهم كانوا في أوَّلِ الإسلام يسجدون بغيرِ رُكوع ، حتى نزلت هذه الآيةُ.
(0/0)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } ؛ أي جَاهِدُوا المشركين بحسب الطَّاقة واستفراغِها ، ولا تخافُوا في اللهِ لومةَ لائمٍ ، وقال بعضُ المفسِّرين : معناهُ : اعبدوا اللهَ حقَّ عبادتهِ وأطيعوهُ حقَّ طاعته. قال السديُّ : (هُوَ أنْ يُطَاعَ فَلاَ يُعْصَى) وقال مقاتلُ : (نَسَخَتْهَا آيَةُ التَّغَابُنِ{ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }[التغابن : 16]) ، وَقِيْلَ : هو مجاهدةُ النَّفسِ والهوَى ، وذلك حقُّ الجهاد وهو الجهادُ الأكبر.
وقال بعضُهم : هو حقُّ الجهاد ؛ لِمَا " رُوي عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال حينَ رجعَ من بعضِ غزواته : " رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الأصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الأَكْبَرِ ". وقال بعضُهم : في حقِّ الجهاد أنه " كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ". وقال الحسنُ : (هُوَ أنْ تُؤَدِّيَ جَمِيْعَ مَا أمَرَكَ اللهُ بهِ ، وَتَجْتَنِبَ جَمِيْعَ مَا نَهَاكَ اللهُ عَنْهُ ، وَتَتْرُكَ رَغْبَةَ الدُّنْيَا). وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ : جَهِدُوا بالسَّيْفِ مَنْ كَفَرَ باللهِ ، وَإنْ كَانُواْ الآبَاءَ وَالأَبْنَاءَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ اجْتَبَاكُمْ } ؛ أي اختارَكم لدِينه وجهادِ أعدائه ، والاجْتِبَاءُ : هو اختيار الشَّيء بمَا فِيْهِ مِنَ الصَّلاَحِ ، يقال : الحقُّ يُجْتَبَى ، والباطلُ يُتَّقَى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ؛ أي جعلَ عليكُم في شرائعِ دِينكم من ضِيْقٍ ، وذلك أنه ما يتخلَّص منه بالتوبةِ ، وما يتخلَّص منه برَدِّ المظلمةِ ، ويتخلصُ منه بالقصاصِ ، وليس في دِين الإسلام ما لا سبيلَ إلى الخلاصِ من العقاب به ، بل مَن أَذنبَ ذنباً جعلَ اللهُ له مَخرجاً منه بالتوبةِ والكفَّارات ، ولَم يبقَ في ضِيْقِ ذلك الذنب. وقال مجاهدُ : (يَعْنِي الرُّخَصَ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ كَالْقَصْرِ ؛ وَالتَّيَمُّمِ ؛ وَأكْلِ الْمَيْتَةِ ؛ وَالإفْطَار عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } ؛ أي إلْزَمُوا واتَّبعُوا مِلَّتَهُ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وَسَّعَ عليكم في الدِّين كَمِلَّةِ أبيكم إبراهيمَ ، إلاّ أنه لَمَّا حَذفَ حرفَ الجرِّ نصبَ الْمِلَّةَ ، وإنَّما أمَرَ باتِّباع ملَّة إبراهيمَ ؛ لأنَّها داخلةً في مِلَّةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وإنَّما قال : (أبيْكُمْ إبْرَاهِيْمَ) وإن لَم يكن جميعُهم من نَسَبهِ ؛ لأن حرمةَ إبراهيمَ عليه السلام على المسلمين كحرمةِ الوالدِ على الولد ، وحَقَّهُ كحقِّ الوالدِ ، كما قال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ }[الأحزاب : 6].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } ؛ نزولِ القُرْآنِ ، { وَفِي هَـاذَا } ؛ القُرْآنِ ، كما رُوي أنَّ الله تعالى أوحَى إلى إبراهيمَ : يُبْعَثُ بعدَكَ نبيٌّ فيكون قومُهُ مسلمينَ. وَقِيْلَ : معناهُ : إن إبراهيمَ سَمَّاكم المسلمينَ ، كما قال في دعائهِ{ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ }[البقرة : 128].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ } ؛ أي لِيَكونَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم شَهيداً عليكم يومَ القيامة بطاعةِ مَن أطاعَ في تبليغه ، وعِصيَانِ مَن عَصَى ، { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ } ؛ أنَّ الرُّسُلَ بلَّغَتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ } ؛ أي أدُّوهُما كما وَجَبَتَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ } ؛ أي واعتَصِمُوا بدينِ الله وتَمسَّكوا به. وَقِيْلَ : معناهُ : اتَّقُوا باللهِ وتوكَّلوا عليهِ ، { هُوَ مَوْلاَكُمْ } ؛ أي هو رَبُّكم وحافِظُكم ، { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } ؛ أي فَنِعْمَ الحافظُ لكم ، ونِعْمَ الناصرُ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحَجِّ ؛ أُعْطِيَ مِنْ أجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ اعْتَمَرَهَا بعَدَدِ مَنْ حَجَّ وَاعْتَمَر فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا يَبْقَى ".
(0/0)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ؛ أي فازَ ونَجا وسَعِدَ المصدِّقون بالله ورسولهِ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " لَمَّا خَلَقَ اللهُ جَنَّةَ عَدْنٍ ، فِيْهَا مَا لاَ عَيْنٌ رأتْ ؛ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ ؛ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ ، قَالَ لَهَا : تَكَلَّمِي ، فَقَالَتْ : قَدْ أفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - ثَلاَثاً - ثُمَّ قَالَتْ : أنَا حَرَامٌ عَلَى كُلِّ بَخِيْلٍ وَمُرَاءٍ ". قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف : (قَدْ أُفْلِحَ الْمُؤْمِنُونَ) على الْمَجْهُولِ ؛ أي أُبْقُوا في الثواب ، وحرفُ (قَدْ) في اللُّغة لتزيينِ الكلام وتحسينه ، وَقِيْلَ : لتقريب الحالة الماضية الى الحالةِ الآتية ، فدلَّ على أن فلاحَهم قد حصلَ وهم عليه في الحالِ ، وهو أبلغُ في الصِّفة من تجريدِ ذكر الفعل ، والفَلاَحُ هو البقاءُ والنجاح.
(0/0)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } ؛ أي مُتواضِعُون خائفون ، ويقالُ : سَاكِنُونَ بالقلب والجوارح فلا يَلْتَفِتُونَ يَميناً ولا شِمالاً ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ رَأى رَجُلاً يَعبَثُ بلِحْيَتِهِ فِي الصَّلاَةِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَلَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ " وعنه صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ كَانَ إذا وَقَفَ فِي الصَّلاَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ ، فلمَّا نزلت هذه الآيةُ جعل نَظَرَهُ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ". وحقيقة الخشوع : هو جَمْعُ الْهِمَّةِ لتدبُّر الأفعال والأذكارِ.
وعن الحسن أنه قال : (إنَّ الْخَاشِعِيْنَ هُمْ الَّذِيْنَ لاَ يَرْفَعُونَ أيْدِيَهُمْ فِي الصَّلاَةِ إلاَّ فِي التَّكْبيْرَةِ الأُوْلَى) وقال ابنِ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { خَاشِعُونَ } أيْ أذِلاَّءُ) ، وقال مجاهدُ : الْخُشُوعُ هُوَ غَضُّ الْبَصَرِ وَخَفْضُ الْجَنَاحِ). وكان الرجلُ من العلماءِ إذا قامَ إلى الصلاةِ يخافُ الرحمنَ أن يُسْنِدَ بصرَهُ إلى شيءٍ ، وأن يُحَدِّثَ نفسَهُ بشيءٍ من الدُّنيا. وقال عمرُو بن دينارٍ : (لَيْسَ الْخُشُوعُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ ، وَلَكِنَّهُ السُّكُونُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ فِي الصَّلاَةِ).
وقال عطاءُ : (هُوَ أنْ لاَ تَعْبَثَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِكَ فِي الصَّلاَةِ) ، وعن أبي ذرٍّ قال : قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " إذا قَامَ أحَدُكُمْ إلَى الصَّلاَةِ فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُوَاجِهُهُ ، فَلاَ يُحَرِّكَنَّ الْحَصَى ". وَقِيْلَ : نظرَ الْحَسَنُ إلى رجلٍ يعبثُ ويقول : اللهم زوِّجني مِن الْحُور العِيْنِ ، فقال لهُ الحسنُ : (بئْسَ الْخَاطِبُ أنْتَ ، تَخْطُبُ وَأنْتَ تَعْبَثُ). وقال قتادةُ : (الْخُشُوعُ هُوَ وَضْعُ الْيَمِيْنِ عَلَى الشِّمَالِ فِي الصَّلاَةِ). وقال بعضُهم : (هُوَ جَمْعُ الْهِمَّةِ لَهَا وَالإعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهَا).
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ } ؛ قال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : عَنِ الْمَعَاصِي مُعْرِضُونَ) ، وقال الزجَّاج : (اللَّغْوُ هُوَ كُلُّ بَاطِلٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ وَهَزْلٍ). وقيل : اللَّغْوُ الذي يُعرِضون عنه : هو كلُّ ما لا فائدةَ فيه ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }[الفرقان : 72] أي شَغَلَهُمُ الْجِدُّ فيما أمرَهم اللهُ به عن كلِّ باطلٍ ولَهوٍ ولعب ، وعن كلِّ ما لا فائدةَ فيهِ من قولٍ وفعل. وقال مقاتلُ : اللَّغوُ (هُوَ الشَّتْمُ وَالأَذى).
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ } ؛ أي مؤدُّون ، فعبَّرَ عن التأديةِ بالفعلِ لأنه فعلٌ. قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي بهِ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ) ، وَقِيْلَ : معناهُ : والذينَ هُم للعملِ الصالح فَاعِلُونَ ، ويدخلُ في هذا كلُّ فهلٍ يُذْكَرُ به الإنسانُ ويُحمَدُ عليهِ ، كما يقال ، : ما أعطَى اللهُ أحداً نعمةً إلاّ أوجبَ عليه فيها زكاةً ، فزكاةُ العلمِ نشرهُ وتعليمهُ ، وزكاةُ الْجَاهِ إعانةُ الملهوفِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } ؛ أي يحفظونَها عن الحرامِ ، ويغضُّون البصرَ عما لا يحلُّ لَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } ؛ أي يُلامون في إطلاقِ ما حُرِّمَ عليهم إلاّ على أزواجِهم وإمَائِهم فإنَّهم لا يُلامون فيه. قال مجاهدُ : (يُفْرَضُ عَلَى الرَّجُلِ حِفْظُ فَرْجِهِ إلاَّ مِنَ امْرَأتِهِ وَأمَتِهِ ، فَإنَّهُ لاَ يُلاَمُ عَلَى ذلِكَ).
(0/0)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْعَادُونَ } ؛ أي مَن طَلَبَ للوَطْئِ طريقاً سِوَى ما أحلَّ اللهُ من النساءِ الأربع أو ما مَلكت أيْمانُهم فأولئكَ همُ الْمُجَاوزُونَ من الحلالِ إلى الحرام ، فمَن زنَى فهو عَادٍ.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } ؛ أي الذين هُم لِمَا ائْتُمِنُوا عليه فيما بينَهم وبين الله وبينَ الناس حَافِظُونَ حتى يؤدُّوه على وجههِ. والرَّعْيُ : هو القيامُ على إصلاحِ ما يتولاَّهُ ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ " وقال اللهُ تعالى{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }[النساء : 58]. وقرأ ابنُ كثير : (لأَمَانَتِهِمْ) بالتَّوحيدِ لأنه مصدرٌ واسمُ جنسٍ فيقعُ على الكثيرِ ، والأمانةُ قد تكون بين العبيدِ ، كالودائعِ وأشباهِها ، وتكون بين الله وعبيدهِ كالصِّيام والاغتسال من الجنابة والصَّلاة ، فيجبُ على المؤمنينَ الوفاءُ بجميع حقوقِ الأمانات. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } يشتملُ على طاعةِ الله تعالى التي يجبُ الوفاء بها ، وعلى جميعِ العقود والأيْمَانِ والنُّذورِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ؛ أي يُوَاظِبُونَ على الصَّلواتِ ، ويجتهدون في أوقاتِها المداومون فيها بفرائِضِها وسُنَنِها وآدابها.
(0/0)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفات التي ذكَرَها اللهُ من أوَّل هذه السُّورة إلى هَهُنا هُمُ الْوَارِثُونَ الذين يَرِثُونَ يومَ القيامةِ منازلَ أهلِ النَّارِ من الْجَنَّةِ التي كانت لَهم لو أطاعُوا اللهَ ورسولَهُ. قال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَلَهُ مَنْزِلاَنِ ، مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمْنِزلٌ فِي النَّارِ ، فَإنْ مَاتَ وَدَخَلَ النَّارَ وَرِثَ أهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلَهُ ".
(0/0)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ الفِرْدَوْسُ في اللُّغة : هو الْبُسْتَانُ الْجَامِعُ لِمَحَاسِنِ أجْنَاسِ الْكُرُومِ وَغَيْرِهَا. وقال عكرمةُ : (الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْجَنَّةُ بلُغَةِ الْحَبَشَةِ).
وفي الحديثِ : " أنَّ حَارِثَةَ بَنَ سُرَاقَةَ قُتِلَ يوْمَ بدْرٍ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ : يَا رَسُولَ اللهِ إنْ كَانَ ابْنِي مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ لَمْ أبْكِ عَلَيْهِ ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ بَالَغْتُ فِي الْبُكَاءِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " يَا أُمَّ حَارِثَةَ! إنَّ ابْنكِ قَدْ أصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى مِنَ الْجَنَّةِ ".
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " " لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ عَشْرُ آيَاتٍ مَنْ أقَامَهُنَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ " ثُمَّ قرأ { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } [المؤمنون : 1] إلى آخرِ الآيات العشرِ ". وقال مجاهدُ : (مَنْ حَفِظَ الْعَشْرَ مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَرِثَ الْفِرْدَوْسَ). قال ابنُ عبَّاس : (الْفِرْدَوْسُ خَيْرُ الْجِنَانِ) ، وقالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ غَرَسَ الْفِرْدَوْسَ بيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي ؛ لاَ يَدْخُلُهَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَدَيُّوثٌ " قَالُواْ : مَا الدَّيُّوثُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " الَّذِي يَرْضَى الْفَوَاحِشَ لأَهْلِهِ ".
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } ؛ أي خلقنا آدمَ من سُلالة سُلَّتْ مِن طينٍ ، والسُّلاَلَةُ : ما سُلَّ مِن الشيءِ ؛ أي نُزِعَ واسْتُخْرِجَ منهُ ، يقالُ للنُّطفةِ : سُلاَلَةٌ ، والولدُ سَلِيْلٌ وسُلاَلَةٌ. قال مجاهدُ : (السُّلاَلَةُ مَنِيُّ بَنِي آدَمَ) ، وقال عكرمةُ : (هُوَ الْمَاءُ سُلَّ مِنَ الظَّهْرِ سَلاًّ) ، والمرادُ بالانسانِ وَلَدُ آدمَ ، وهو اسمُ جِنْسٍ يقعُ على الجميعِ. والمعنى : خَلَقْنَا ابْنَ آدَمَ من سُلالةٍ مِن طينٍ ؛ أي من صَفْوَةِ ماء آدم الذي هو من طينٍ.
(0/0)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } ؛ ثُم خلقنا ولدَ آدمَ من نُطفة في موضعٍ حرير يعني الرَّحِمَ ، مَكَنَ فيه الماءُ بأن هُيِّأَ لاستقرارهِ فيه إلى بُلوغِ أمره الذي جُعِلَ لَهُ. وإنَّما سُمي الْمَنِيُّ سُلاَلَةً ؛ لأنه سُلَّ من أصلاب الرجل وتَرائِب النِّساءِ ، ثُم يكون قرارهُ في أرحامِ الأمَّهاتِ.
(0/0)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } ؛ أي صَيَّرْنَا النطفةَ دَماً منعَقِداً ، ثم صيَّرنا الدمَ لَحماً بلا عظمٍ ، والْمُضْغَةُ : هي القطعةُ الصغيرة من اللَّحم. وقولهُ تعالى : { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً } ؛ أي حولنا المضغة عظاماً ، { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً } ؛ أي ثم ألبسنا العظام لحماً ؛ ليكون أبهى في النظر وليكون اللحم وقاية للعظم. وقرأ ابن عامر : (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْماً فَكَسَوْنَا الْعَظْمَ لَحْماً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } ؛ بأنْ جعلنا فيه الرُّوحَ بعد أن لَم يكن ، ثُم جعلناه ذكَراً أو أُنْثَى إلى أن أعطيناهُ الفهمَ والتمييز ليأخذ ثَدْيَ أمِّهِ عند الحاجةِ فيرتضعُ ويشتكي إذا تَضَرَّرَ بشيءٍ. وقال مجاهدُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } يَعْنِي سَوَّيْنَا شَبَابَهُ). وقال قتادةُ : (يَعْنِي أنْبَتْنَا شَعْرَهُ وَأسْنَانَهُ). وَقِيْلَ : معناهُ : أعطيناهُ العقلَ والقوَّةَ والفهمَ ، ورَبَّيْنَاهُ حالاً بعد حالٍ إلى أن بلغَ أن يتقلَّبَ في البلادِ.
وَقِيْلَ : إذا اجتمعَ الماءُ المتخلِّقُ منه الولدُ ، فأولُ الحالاتِ أن يزيدَ ، ثُم يستحيلُ ذلك الماءُ علقةً ، وهو دمٌ غبيطٌ ، ثُم يصيرُ مُضغةً ، وفي تلك الحالةِ تظهرُ الأعضاءُ النَّفِيْسَةُ كالقلب والدِّماغ والكبدِ ، فالقلبُ أول عُضْوٍ مكّوَّنٍ ثُم الدماغُ ثُم الكبد ، ثُم يُنَحَّى بعضُها عن بعضٍ ، وتخطَّطُ الأطرافُ ، ثُم يصير لَحماً على عِظَامٍ ، وعظامُ البَدَنِ مائتان وأربعونَ عَظْماً ، فإذا نُفِخَ فيه الروحُ لأربعةَ أشْهُرٍ انقسمَ دمُ الحيضِ ثلاثةَ أقسامٍ : قسمٌ يتغذى به الولدُ ، وقسم يَحْتَبسُ إلى النِّفَاسِ ، وقسمٌ يصعدُ إلى الثَّدي.
وإنَّما ينفخُ الرُّوحُ في الجنينِ لأربعةِ أشهُرٍ ؛ لأنه يكون نظفةً أربعين يوماً ، ثُم يكون علقةً أربعين يوماً ، ثُم يصير مضغةً أربعين يوماً ، ثُم ينفخُ فيه الرُّوحُ. ويكون الولدُ في بطنِ أُمِّهِ معتمداً على رجليه وراحة يدَيه على رُكبتيه وظهرهُ إلى وجهِ الأم ، ووجههُ إلى ظهرِها حتى لا تتأذى الأمُّ بنَفَسِهِ.
وإنَّما خَلَقَ اللهُ عَيْنَيْهِ في رأسهِ لتكونُ مشرفةً على جميعِ الأعضاء في الجهات كلها ، كالطَّليعةِ للعسكرِ ، وأصلحُ المواضع للطلائعِ المكانُ الْمُشْرِفُ ، وجعلَهُما في كَهْفَين حراسةً لَهما وتوفيراً لضوئِهما ، وجعلَ لَهما الْهُدُبَ ليدفعَ ما نظر إليهما.
وخلقَ اللهُ الأنفَ لينحصرَ فيه الهواءُ الْمُسْتَنْشَقُ لترويحِ الرِّئة والدماغ. وخلقَ الفَمَ وعاءً لجميعِ الكلام ، وخلقَ اللِّسان آلةً للنُّطقِ ، ولتقليب الطعام الممضوغِ ، والمضغُ يكون في جانِبَي الفمِ حراسةً لأداةِ النُّطق. وخلقَ الشَّفَتين غطاءً للفمِ والأسنانِ ، ويَحْجُبَ اللُّعَابَ ، ومُعيناً على الكلامِ ، وجَمالاً في الصُّورة ، والأسنانُ تُقَطِّعُ ؛ والأنبابُ تكسرُ ؛ والأضراسُ تطحَنُ. وخصَّ الفكَّ الأسفلَ بالتحريكِ ؛ لأن تحريكَ الأخفِّ أحسنُ ، لأن الأعلى يشتملُ على الأعضاءِ الشَّريفة فلم يُخاطرها في الحركةِ ؛ لأن الحركةَ تُضْعِفُهَا. وجعلَ ماءَ الأُذُنِ مُرّاً لئلاَّ يقيمَ فيه الْهَوَامُ ، فإذا دخلَ الأُذُنَ دابَّةً لَم يكن لَها هَمٌّ إلاّ الخروجَ. وجعلَ ماءَ العين مالحاً لئلاَّ يذوبَ ، وجعل ماءَ الفمِ عَذِباً ليُطَيِّبَ طعمَ الطعام.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ } ؛ أي بعدَ الحياة والْخَلْقِ الْحَسْنِ والصُّورة الحسنة مَيِّتُونَ عند انقضاءِ آجَالِكُمْ. قرأ أشهبُ العقيليُّ : (لَمَائِتُونَ) بالألفِ ، والْمَيِّتُ وَالْمَائِتُ الذي لَم تفارقهُ الروحُ وهو سيموتُ ، والْمَيْتُ بالتخفيفِ الذي فارقَهُ الروحُ ، فلذلكَ لَم يخفَّف كقول{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر : 30]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } ؛ يعني مِن قُبورِكم للجزاء والحساب.
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ } ؛ أي سبعَ سَمواتٍ ، سُميت طرائقَ ؛ لأن كل شيء فوقَ شيء فهو طريقةٌ ، يقالُ : طَارَقْتُ نَعْلِي إذا جعلتُ جِلداً فوقَ جلدٍ. ويقالُ : سُميت طرائقُ لأنَّها طُرُقُ الملائكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } ؛ أي وما كُنَّا عن حِفْظِ السَّموات ، وعن إنزالِ المطر على العبادِ وقتَ الحاجةِ غافلينَ ، ولو جَازَتِ الغفلةُ لَسَقَطَتِ السَّمواتُ بعضُها على بعضٍ.
(0/0)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } ؛ أي أنزلنا المطرَ من السَّماء بقدر الحاجةِ إليه ؛ أي بقَدْر ما يكفيهم للمعيشةِ ، وَقِيْلَ : بقدرٍ يعلمهُ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ } أي جعلنا سُكْنَاهُ ومستقرُّهُ في الأرضِ مثل العيون والغُدْرَانِ والرَّكَايَا. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " أنْزَلَ اللهُ مِنَ الْجَنَّةِ خَمْسَةَ أنْهَارٍ : سِيْحُون وَهُوَ نَهْرُ الْهِنْدِ ، وَجِيْحُونُ وَهُوَ نَهْرُ بَلَخ ، وَدِجْلَةُ وَالْفُرَاتُ وَهُمَا نَهْرا الْعِرَاقِ ، وَالنِّيْلُ وَهُوَ نَهْرُ مِصْرَ ، أنْزَلَهَا اللهُ مِنْ عَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْ دَرَجَاتِهَا عَلَى جَنَاحَي جِبْرِيْلَ. وَذلِكَ قَوْلُهُ { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ }. فَإذا كَانَ عِنْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أرْسَلَ اللهُ جِبْرِيْلَ فَرَفَعَ مِنَ الأَرْضِ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهَذِهِ الأَنْهَارَ الْخَمْسَةَ ، فَيَرْفَعُ ذلِكَ إلَى السَّمَاءِ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } ؛ فَإذا رُفِعَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ فَقَدَ أهَلُهَا خَيْرَ الدِّيْنِ وَالدُّنْيَا ".
(0/0)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؛ أي أخرَجنا لكم بذلك المطرِ بساتينَ من نخيلٍ وكرومٍ ، وإنَّما خصَّها بالذِّكر لأنَّها أشرفُ الثِّمار ، وقولهُ تعالى : { لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } ؛ سِوَى النخيلِ والأعناب ، { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ؛ بإباحةِ الله لكم تأكلونَها صيفاً وشِتاءً.
(0/0)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ } ؛ أي وأنْبَتْنَا بذلكَ المطرِ شجرةً وهي الزيتونةُ تخرجُ من جبلِ سَيْنَاءَ للبركةِ ، كأنه قالَ : من جبلِ البركةِ. وقُرِئ (طُورِ سَيْنَاءَ) بفتح السِّين. واختلفُوا في المرادِ بالطُّورِ ، قال بعضُهم : هذا الجبلُ الذي نادَى موسَى ربَّهُ عندَهُ. يقالُ : إن أصلَ شجرةِ الزيتون من ذلكَ الجبلِ ؛ أي أوَّلُ ما غُرِسَتْ فيه. وقال بعضُهم : هو جبلٌ بالشَّام كثيرُ الأشجارِ والأثْمارِ. وَقِيْلَ عن الزيتونةِ : أولُ شجرةٍ نَبتَتْ في الأرضِ بعد الطُّوفانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } ؛ قرأ أكثرُ القرَّاءِ (تَنْبُتُ) بفتح التاءِ وضمِّ الباء ؛ أي تنبتُ بثمار الدُّهن يعني الزَّيْتَ. وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بضمِّ التاءِ وكسرِ الباء ، ومعناهُ معنى الأولِ. والباءُ في قولهِ تعالى (بالدُّهْنِ) للتعدِّي ، يقالُ : أنْبَتَهُ وَنَبَتَ بهِ ، وَنَبَتَ الشَّيْءُ وَأنْبَتَ بمعنى واحدٍ ، قال الشاعرُ : رَأيْتُ ذوي الْحَاجَاتِ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ قَطِيْناً لَهُمْ حَتَّى إذا أنْبَتَ الْبَقْلُويجوزُ أن تكون الباءُ زائدةً على قراءةِ من ضَمَّ التاءَ ، كقوله{ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة : 195]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } يعني الإدَامَ ، لأن الزيتَ إدامٌ يُصْبَغُ به الخبزُ ، يقال : صِبْغٌ وصِبَاغٌ كما يقالُ : لِبْسٌ وَلِبَاسٌ.
(0/0)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً } ؛ أي لَعِظَةً ودلالةً على وحدانيَّتنا لو اعتبرتُم واستدلَلْتم ، { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } يعني اللَّبنَ ، { وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ } ؛ مِن الأولادِ والأوتارِ والأصواف والأشعارِ والرُّكوب على الإبلِ ، { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ؛ يعني لُحومَها.
(0/0)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ } ؛ أي تُحملون على الإبلِ في البَرِّ وعلى السُّفن في البحرِ ، وهذا كقولهِ تعالى{ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }[الاسراء : 70] يقالُ : إن اللهَ تعالى جعلَ للناسِ مركَبَين ، مركباً لَيِّناً لسيرِ البَرِّ ، ومركباً يَابساً لسيرِ البحرِ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } ؛ أي أرسلناهُ إليهم ليدعوَهم إلى عبادَتِنا ، { فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } عبادةَ غيرهِ. { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } ؛ أي الأشرافُ منهم والرؤساءُ قالوا لسُفائِهم : { مَا هَـاذَا } ؛ الذي يدعوكُم إلى التوحيدِ ، { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ؛ أي آدَمِيٌّ مثلُكم ، { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } ؛ أي يَتَقَدَّمَ عليكم بدعوَى النبُوَّةِ ليكونَ له الفضلُ عليكم فتكونوا له تَبَعاً ، { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ } ؛ أن يُرسِلَ إلينا رسولاً مِن عنده ، { لأَنزَلَ } ؛ أي لأرسلَ { مَلاَئِكَةً } ؛ مِن عنده ، { مَّا سَمِعْنَا بِهَـاذَا } ؛ بمِثْلِ هذه الدَّعوةِ ، { فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ } ؛ ولا أرْسَلَ إليهم بشراً ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } ؛ أي قالوا : ما نوحُ إلاَّ رجلٌ به جُنُونٌ ، { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ } ؛ أي فانتَظِروا حتى يَموت فنستريحَ منه.
فلما يَئِسَ من إيْمانِهم ؛ { قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } ؛ أي أعِنِّي عليهم بتكذيبهم إيَّايَ وجُحُودِهم نبُوَّتِي ، والمعنى : انصُرْنِي عليهم بإهلاكِهم جَزَاءً لَهم بتكذيبهم.
(0/0)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } ؛ أي وأرسَلْنا إليه جبريلَ أن يُعَلِّمَهُ صنعةَ الفُلْكِ ليصنَعَها بمرأى مِنَّا ، { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } ؛ بنجاتِكَ وإهلاكِهم ، { وَفَارَ التَّنُّورُ } ؛ ونبعَ الماءُ من تنُّورِ الخسارة. وعن عَلِيٍّ رضي الله عنه : (أنَّ مَعْنَى قَوْلِهَ { وَفَارَ التَّنُّورُ } أيْ طَلَعَ الْفَجْرُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } ؛ أي احْمِلْ في السَّفينة من كلِّ ذكَرٍ وأُنثى ، كما رُوي أنَّ اللهَ تعالى حَشَرَ إليه جميعَ الحيواناتِ حتى أخذ مِن كلِّ جنسٍ زوجاً ، ويقرأُ (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) بالتنوينِ ، فعلى هذه القراءةِ يكون الفعلُ واقعاً على زوجَين ، وأما على القراءةِ الثانية فالفعلُ واقعٌ على اثنينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَهْلَكَ } ؛ معناهُ : واحمِلْ فيها أهلَكَ ، { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ؛ أي إلاّ من حَقَّ عليه العذابُ { مِنْهُمْ } ، لكُفْرِهِ وهو ابنهُ كنعان وامرأتهُ وأهلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي لا تسأَلْني نجاةَ الذين ظلَمُوا من أهلِكَ ، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } ؛ مع الأجانب.
(0/0)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ } ؛ أي إذا اعتدَلْتَ في السفينة رَاكباً واستقرَّ بكَ ولِمن معكَ الفلكَ في الماءِ ، { فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ } ؛ أي أحمدُ اللهَ ، { الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً } ؛ أي أنزِلْني من السَّفينة موضِعاً مُباركاً. وقال بعضُهم : أراد به الإنزالَ في السَّفينة وهو الأقربُ ؛ لأنه إنَّما أُمِرَ بهذا الدُّعاء في حال استوائهِ على السفينة ، فاقتضَى أن السفينةَ هي المنْزِلُ دون مَنْزِلٍ آخرَ.
وقرأ العامةُ (مُنْزَلاً) بضمِّ الميم على المصدرِ ؛ أي إنْزَالاً مُباركاً ، وقرأ أبو بكرٍ بفتح الميمِ وكسر الزَّاي ؛ أي مَوْضِعاً مُباركاً ، قال مقاتلُ : (يَعْنِي بالْبَرَكَةِ أنَّهُمْ تَوَالَدُواْ وَكَثُرُوا).
وقولهُ تعالى : { وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ } ؛ أي أنتَ خيرُ المنْزِلين في الدُّنيا والآخرةِ ، وهذا اللفظُ سُنَّةٌ لكلِّ مَن أرادَ أن ينْزِل منْزِلاً.
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ } ؛ معناهُ : أنَّ في أمرِ نوحٍ والسَّفينة وهلاكِ أعداء الله لدلالاتٌ على قُدرةِ الله ووحدانيَّته ، { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي ما كُنَّا إلاّ مُبْتَلِيْنَ بإرسالِ الرُّسُلِ إليهم ؛ أي مختَبرين إيَّاهم كيفَ نرى طاعةَ المطيعين ومعصيةَ العاصين.
(0/0)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } ؛ أي ثُم خلَقْنا من بعدِ هلاك قومِ نوح قوماً آخرين يعنِي : عادًا ، { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } ؛ يعني هُوداً عليه السلام فإنَّ أولَ نَبيٍّ بعدَ نوحٍ هُودٍ عليه السلام فقال لَهم : { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ إلى آخرِ الآية.
(0/0)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
قولهُ تعالى : { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الآخِرَةِ } ؛ أي جَحَدُوا البعثَ والنُّشور ، { وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيـاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي متَّعنَاهُم في الحياةِ الدُّنيا وأعطيناهم من نَعِيْمِ العَيْشِ ووسَّعنا عليهم ونعَّمناهم ؛ أي قال أشرافُ قوم هُودٍ ورؤساؤُهم الذين جَحَدُوا بالبعثِ والنشور ومتَّعناهم في الحياةِ الدُّنيا : { مَا هَـاذَا } ؛ أي ما هو { إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ؛ أي آدميٌّ مثلُكم ، { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } ؛ أي يأكلُ مِن الطعامِ الذي تأكلونَ منه ؛ ويشربُ مِن الذي تشربونَ ، فليس هو بأولَى بالرِّسالة منكم.
(0/0)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } ؛ معناهُ : لئِنْ أطعتُم آدميّاً بَشَراً مثلَكَم إنَّكم إذا لَمبعوثون ، وهذا القولُ منهم دليلٌ على غايَةِ جهلِهم حيث عبَدُوا أصناماً لا تضُرُّ ولا تنفعُ ، ولَم يعدُّوا ذلك خُسراناً ، والأصنامُ أجسامٌ مثلُهم بل دونَهم.
ثُم عَدُّوا عبادةَ الله وطاعتَهُ هو خُسرناً ، قالوا : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ } ؛ أي وصرتُم ، { تُرَاباً وَعِظاماً } ؛ بالية ؛ { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } ؛ أي أن تُخرجوا من قبُورِكم ، { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } ؛ أي بُعْداً بُعْداً لِمَا تُحاوِلون من البعثِ بعدَ الموت ، وهذه كلمةُ استنكارٍ واستبعاد ، ويقرأُ (هَيْهَاتَ) سبعَ قراءاتٍ بالنَّصب والكسرِ والرفعِ والتنوينِ وغير التنوين والسُّكون ، فمَن نصَبَ جعلَها مثل (أيْنَ وكَيْفَ) ، وَقِيْلَ : لأنَّها أداةٌ مثلُ خمسةَ عشرَ وبَعْلَبَكَّ ، ومَن رفعَ جعلَهُ مثلَ (مُنْذُ وَقَطُّ وحَيْثُ) ، ومَن كسرَ جعله مثلُ أمس. قال الشاعرُ : تَذكَّرْتُ أيَّاماً مَضَيْنَ مِنَ الصِّبَا وهَيْهَاتَ هَيْهَاتاً إلَيْكَ رُجُوعُهَاوقال آخر :
لَقَدْ باعَدَتْ أُمُّ الْحَمَارسِ دَارَهَا وَهَيْهَاتَ مِنْ أُمِّ الحمَارسِ هَيْهَاتاً هَيْهَاتومعنى (هَيْهَاتَ) بَعْدَ بَعْدَ الأمرُ جداً حتى امتنعَ ، وهو اسمٌ سُمي به الفعلُ ، وهو بَعْدَ كما قالوا : صَهْ بمعنى اسْكُتْ ، ومَهْ بمعنى لا تَفْعَلْ ، وليسَ له اشتقاقٌ وفيه ضمير مرتفعٌ عائد إلى قولهِ (مُخْرَجُونَ) ، والتقديرُ (هَيْهَاتَ) أي هو الإخراجُ ، والمعنى : بَعُدَ إخراجُكم للوعدِ ؛ أي الذي توعَدُون. قال أبو عمرٍو : (إذا وَقَفْتَ فَقُلْ هَيْهَاه بالْهَاءِ) وقال الفرَّاءُ : (كَانَ الْكَسَائِيُّ يَخْتَارُ الْوَقْفَ عَلَيْهَا بالْهَاءِ ، وَأنَا أخْتَارُ التَّاءَ لأنَّهَا لَيْسَتْ هَاءَ التَّأْنِيْثِ). ورُوي أن سيبويه قال : (هِيَ بمَنْزِلَةِ بَيْضَات) يَعْنِي فِي التَّأْنِيْثِ ، فإذا كَانَ كَذلِكَ كَانَ الْوَقْفُ بالْهَاءِ.
(0/0)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } ؛ أي قالوا مَا هِيَ إلاّ حياتُنا الدُّنيا التي نحنُ فيها ، { نَمُوتُ وَنَحْيَا } ؛ أي يَموت قومٌ ويَحيا قومٌ آخرونَ ، { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ؛ بعدَ الموتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي قالُوا : مَا هُودٌ إلاّ رَجُلٌ اختلَقَ على اللهِ كَذِباً بأنه رسولٌ إلينا ، وأنَّا نُبْعَثُ ، { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بمُصدِّقين فيما يقولُ.
(0/0)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ } ؛ أي قال هودُ : رب أعِنِّي عليهم بتكذيبهم إيَّايَ ، { قَالَ } ؛ اللهُ : { عَمَّا قَلِيلٍ } ؛ على تكذيبهم أي عمَّا قليلٍ من الزَّمان والوقتِ ، يعني عندَ الموتِ وعند نزولِ العذاب بهم ، { لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } ؛ على الكُفر والتكذيب ، { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ } ؛ أي صاحَ بهم جبريلُ صيحةً واحدة فماتُوا عن آخرِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْحَقِّ } أي باستحقَاقِهم العذابَ بكُفرهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً } ؛ أي صيَّرناهم بعدَ الهلاكِ كغُثَاءِ السَّيْلِ ، وهو ما يكونُ على وجهِ السَّيْلِ من القَصَب والحطب والحشيشِ والأشجار اليابسة المتبقِّية الباليةِ ، إذا جرَى السيلُ رأيتَ ذلك مُخالطاً زَبَدَ السَّيلِ ، والمعنى : صيَّرنَاهم هَلَكاً فَيَبسُوا كما يَبسَ الغُثَاءُ مِن نَبْتِ الأرضِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي بُعْداً من رحمةِ الله للقومِ الكافرين.
(0/0)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } ؛ أي ثُم خلَقْنا بعدَ هلاكِ هُودٍ أهلَ أعصَارٍ آخرينَ فسَكَنوا ديارَهم إلى أن هلكوا ، { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } ؛ أي لا تَموتُ أُمةٌ قبل أجلِها ولا يتأخرُ موعدُهم عنه ، وقولهُ تعالى : { مِنْ أُمَّةٍ } مِن ها هُنا صلةٌ.
(0/0)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } ؛ أي بعضُها في إثْرِ بعضٍ مُتَرَادفِين ، { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً } ؛ أي قوماً ، { رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } ؛ في الْهَلاَكِ والتعذيب ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } ؛ لِمَن بَعْدَهم من الناسِ يتحدَّثون بأمرِهم وشأنِهم ويتمثَّلُ بهم في السرِّ. { فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }.
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو : (تَتْراً) بالتنوينِ ، وقرأ الباقونَ بغير تنوينٍ مثل سَكْرَى وشَكْوَى ، فمَن نَوَّنَ كان الألفُ فيه كالألفِ في أنتَ زيداً أو عمراً ، فإذا وقَفْتَ كان ألِفاً ، يعني توقف عليه بالألفِ ، ومَن يُنَوِّنْ كتَبَها بالياءِ.
(0/0)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ } ؛ أي تكبَّرُوا عنِ الإيْمانِ بالله وعبادتهِ ، { وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } ، أي وكانوا قوماً قاهرينَ للناسِ بالبَغْيِ والتَّطاوُلِ عليهم كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ }[القصص : 4] ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { عَالِينَ } أيْ مُتَكَبرِيْنَ عَنْ تَوْحِيْدِ اللهِ).
(0/0)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } ؛ أي ليسَ لَهم فضلٌ علينا ، { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } ؛ يعني بَنِي إسرائيلَ لنا مطيعونَ ، { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ } ؛ بتكذِيبهما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } ؛ يعني التوراةَ ، { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ؛ لكي يهتَدُوا به من الضَّلالة.
(0/0)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } ؛ أي جعلْنَا ولادةَ عيسى من غيرِ أبٍ دلالةً على التوحيدِ والبعثِ ، ولَم يقل : آيَتَيْنِ ؛ لأن معنى الآيةِ فيهما واحدةٌ. وَقِيْلَ : معنى كلِّ واحدٍ منهما آيةٌ ، كما قال{ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا }[الكهف : 33] أي آتَتْ كلُّ واحدةٍ أُكُلَها ، وقال تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ }[المائدة : 90] ولَم يقُلْ أرْجَاسٌ. وَقِيْلَ : معناهُ : جعلنا شأنَهما واحداً ؛ لأن عيسى وُلِدَ من غيرِ أبٍ ، وأمُّهُ ولَدَت من غير مسيسٍ ذكَرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } ؛ أي جعلنَاهُما يَأْوِيَانِ إلى بُقعة مرتفعة ذاتِ استواءٍ واستقرار ، ومكان ظاهر. والرَّبْوَةُ : المكانُ المرتفع من الأرضِ.
واختَلَفُوا في هذه البُقعةِ ، قال قتادةُ : (يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ أرْفَعُ مَوْضِعٍ فِي الأَرْضِ وَأقْرَبُ مَوْضِعٍ إلَى السَّمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيْلاً) ، وقال أبُو هريرةَ : (هِيَ رَمْلَةُ بأَرْضِ فِلِسْطِيْنَ) ، وروى الحسنُ وابنُ المسيِّب : (أنَّهَا دِمَشْقُ). وقولهُ تعالى { ذَاتِ قَرَارٍ } أي مُستَويةٍ ليستقرَّ عليها ساكِنُوها ، وهي مع ذلك ساحةٌ واسعة ، والْمَعِيْنُ الماءُ الجاري الطاهرُ الذي تراهُ العيون ، يقال عَانَتِ الرُّكبة إذا سَالَتْ بالماءِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
قوله : { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } ؛ قال الحسنُ ومجاهد والسديُّ والكلبي وقتادةُ ومقاتل : (الْخِطَابُ فِي هَذِهِ الآيَةِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ ، إلاَّ أنَّهُ ذكَرَهُ بلَفْظِ الْجَمَاعَةِ ، لِمَا فِي الْخِطَاب مِنْ تَضْمِيْنِ أنَّ الرُّسُلَ جَمِيْعاً أُمِرُواْ بهَذا الْخِطَاب ، وَقِيْلَ لَهُمْ : كُلوُا مِنَ الطَّيِّبَاتِ ؛ أيْ مِنَ الْحَلاَلِ ، أمَرَهُمُ اللهُ أنْ لاَ يَأْكُلُواْ إلاَّ حَلاَلاً).
قال الحسنُ : (أمَا وَاللهِ مَا عَنَى بهِ أصْفَرَكُمْ وَلاَ أحْمَرَكُمْ وَلاَ حُلْوَكُمْ وَلاَ حَامِضَكُمْ ، وَلَكْنَّهُ قَالَ : انْتَهُوا إلَى الْحَلاَلِ مِنْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْمَلُواْ صَالِحاً } أي اعمَلُوا ما أمَرَكم به اللهُ وأطيعوه في أمرهِ ونَهيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ؛ ظاهرُ المعنى.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً ، وَإنَّ اللهَ أمَرَ الْمُؤْمِنِيْنَ بَما أمَرَ بهِ الْمُرْسَلِيْنَ ، فَقَالَ تَعَالَى { ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } وقال { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة : 172] ، - ثُم ذكَرَ - الرَّجُلُ يُطِيْلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ : يَا رَب يَا رَب! مَطْعَمُهُ حَرَامٌ ؛ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ؛ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ؛ وَغُذِّيَ بالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟! ". ويُروى عن عيسَى : كان يأكلُ من غَزْلِ أُمِّهِ ، وكان نبيُّنا صلى الله عليه وسلم كان يقولُ : " جُعِلَ رزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي " فبيَّن أن رزْقَهُ من الغَنِيْمَةِ وأطيب الطيِّبات الغنيمةُ.
(0/0)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ هَـاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي دِينُكم ودينُ مَن قبلَكم دينٌ واحد. وَقِيْلَ : جماعتُكم جماعةٌ واحدة كلُّكم عبادُ اللهِ ، { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } ؛ أي فاتَّقُوا عذابي ، وافعلُوا ما أمَرْتُكم به واتركُوا ما نَهيتُكم عنه.
قرأ الكوفيُّون : (وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) بكسرِ الهمزة على الابتداء. وقرأ الباقونَ بفتحِها مع التشديدِ ، وخفَّفَ النونَ ابنُ عامر مع فتحِ الهمزة ، فمَن فتحَ الهمزة وشدَّدَ النون فمعناه : وبأنَّ هذهِ ، وَقِيْلَ : وَاعْلَمُوا إنَّ هذه أمَّتُكم أمةٌ واحدةٌ ، أي مِلَّتُكُمْ ملَّةٌ واحدة وهي دينُ الإسلامِ ، ومَن خفَّفَ مع الفتحِ جعل (أنْ) صلةً ، وتقديرهُ : وهذهِ أُمَّتُكم ، وَقِيْلَ : تكون مخفَّفةً من الثقيلةِ كقوله تعالى{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ }[يونس : 10].
(0/0)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } ؛ معناه : أنتم أهلُ ملَّةٍ واحدة فلا تكونوا كالذين تفرَّقُوا واختلفوا فتقطَّعوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً ؛ أي فِرَقاً ، وَقِيْلَ : معناهُ : كُتُباً مختلفةً ديوانُها ، فكَفَرُوا بما سِوَاها كاليهود آمَنُوا بالتوراةِ وكفرُوا بالإنجيلِ والقُرْآنِ ، والنصارَى آمَنُوا بالإنجيل وكفروا بالقُرْآنِ. وقُرئ (زُبَراً) بفتح الباء ومعناهُ قِطَعاً وجماعاتٍ ، ومنه زُبَرُ الحديدِ قِطَعُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ؛ أي كلُّ طائفةٍ بما عندَهم من الاعتقادِ مُعْجَبُونَ ، فاترُكْهم في ضَلالتِهم وجهالتهم إلى أن يأتيَهم ما وُعِدُوا به من العذاب. وَقِيْلَ : إلى أن يَموتوا فيظهرُ لَهم الحقُّ من الباطلِ عند الْمُعَايَنَةِ في القيامةِ. وَقِيْلَ : كلُّ حِزْبٍ من المشركين واليهودِ والنصارى بما عندَهم من الدِّين رَاضُونَ ، يَرَوْنَ أنَّهم على الحقِّ ، { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ } ؛ أي في ضَلالتِهم وجهالتِهم وغفلتهم حتى يَرَوْنَ العذابَ بالسَّيف أو بالموتِ ، يعني : كفارَ مكَّة.
(0/0)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } ؛ أي يَظُنُّونَ أنَّ إمدادَنا إياهم بالمال والبنينِ مسارعةً منا لَهم في الخيراتِ لكرامتهم علينا ومنْزِلتهم عندنا ، { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أن ذلك استدراجٌ لَهم وإملاءٌ إلى حينٍ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } ؛ أي حَذِرُونَ من عذابهِ ، والإشْفَاقُ هو الخوفُ ، يقالُ : أنا مُشْفِقٌ مِن هذا الأمرِ ؛ أي خائفٌ ، { وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي يصدِّقون بالقُرْآنِ أنه مِن عندِ الله ، { وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } ؛ معهُ غيرَهُ ، { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ؛ أي والذينَ يتصدَّقون بالأموالِ ، ويعملون ما عَمِلُوا من الصَّالحاتِ ، وقلوبُهم فَزِعَةٌ خائفةٌ أن لا يُقْبَلَ منهم ذلكَ. قال مجاهدُ : (الْمُؤْمِنُ يُنْفِقُ مَالَهُ وَقَلْبُهُ وَجِلٌ).
" وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ قالت : سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِهِ { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } ، فَقَالَ : " لاَ يَا ابْنَةَ الصِّدِّيْقِ ، الَّذِيْنَ يَصُومُونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أنْ لاَ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ، وَيُصَلُّونَ وَيَعْرِفُونَ ألاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَعْرِفُونَ ألاَّ تُقْبَلَ مِنْهُمْ ". وقال الحسنُ : (وَالَّذِيْنَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا ؛ أيْ يَعْمَلُونَ مَا عَمِلُواْ مِنَ الْبرِّ وَهُمْ يَرَوْنَ أنَّ ذلِكَ لاَ يُنْجِيْهمْ مِنْ عَذاب اللهِ) ، قال الزجَّاجُ : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ { أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } ؛ أي لأنَّهم يوقنونَ برجوعِهم إلى اللهِ.
(0/0)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة هم الذينَ يُسارعون في الأعمالِ الصالحة ، { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } ؛ أي إليها سَابقُونَ ، يكون (لَهَا) بمعنى إليها ، كقولهِ : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }[الزلزلة : 5] أي إليها. وَقِيْلَ : معناهُ : وَهُمْ لَهَا سَابقُونَ في الجنَّة ؛ أي مِن أجلِ مُسارعتهم في الخيراتِ سابقونَ في الجنَّة.
(0/0)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ؛ أي إلاَّ طَاقَتَهَا من العملِ ، فمَن لَم يستطع أن يصلِّيَ قائماً فيصلِّي قاعداً. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } ؛ أي عندَ ملائكَتِنا المقرَّبين كتابٌ يشهدُ لكم وعليكم ، يريدُ به صحائفَ الأعمالِ ، وَقِيْلَ : يعني اللوحَ الْمَحفوظَ ، فيه كلُّ شيءٍ مكتوبٌ ، سبقَ في علمِ الله ، { يَنطِقُ بِالْحَقِّ } ؛ أي يُبَيِّنُ الصدقَ ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ لا يُنْقَصُونَ من ثواب أعمالِهم ، ولا يزادُ على سيِّئاتِهم.
(0/0)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } ؛ أي قلوبُ أهلِ مكَّة في غفلة وجهالةٍ ، { مِّنْ هَـاذَا } الذي تقدَّم ذكرهُ من أعمال البرِّ. وَقِيْلَ : في غفلةٍ من القُرْآنِ ، { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } ؛ خبيثةٌ لا يرضاها اللهُ مِن المعاصي والخطايا ، { مِّن دُونِ ذلِكَ } ؛ أي من دون أعمالِ المؤمنين ، { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } ؛ ويجوزُ أن يكون قولهُ { مِّنْ هَـاذَا } إشارةٌ إلى الكتاب الذي ينطقُ بالحقِّ ؛ أي قلوبُهم في غفلةٍ من ذلك الكتاب ، وأعمالُهم التي عَمِلُوها مُحْصَاةٌ فيه ، ولَهم أعمالٌ مِن دون ما هم عليهِ لا بدَّ أن يعمَلُوها ، وهو ما سَبَقَ في علمِ الله أنَّهم يعملونَهُ. والغَمْرَةُ : الغفلةُ التي تُغَطِّي القلبَ وتَغْلِبُ عليهِ.
(0/0)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } ؛ أي حتى إذا أخَذْنَا أعيانَهم ورؤساءَهم بالقتلِ يومَ بدرٍ وبما يَرَوْنَ من العذاب وقتَ المعاينة ، وقال الضحَّاك : (بالْجُوعِ حِيْنَ دَعَا عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ سِنِيْنَ كَسِنِيْنِ يُوسُفَ " فَابْتَلاَهُمُ اللهُ بالْقَحْطِ حَتَّى أكَلُواْ الْعِظَامَ وَالْجِيَفَ وَالْكِلاَبَ وَالأَوْلاَدَ وَالْقَذرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي يَصِيحُونَ ويصرخون بالتوبةِ ، وَقِيْلَ : يَجْرَعُونَ ويستغيثونَ. وأصلُ الْجُؤَارِ رَفْعُ الصَّوْتِ بالتَّضَرُّعِ.
(0/0)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَجْأَرُواْ الْيَوْمَ } ؛ وَعِيداً بهم كالاستهزاءِ مثل قولهِ{ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ }[الأنبياء : 13] ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } ؛ أي لا تُمْنَعُونَ من عذابنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } ؛ أي تُقْرَأْ عليكم في الدُّنيا ، يعني الْقُرْآنَ ، { فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } ؛ أي تُوَلُّونَ مُدبرِين وتُعرِضون عن الإيْمانِ به ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } ؛ أي مُتَعَظِّمِينَ ببيتِ الله الكعبة. وَقِيْلَ : بحَرَمِ اللهِ أنهُ لا يظهرُ عليكم أحدٌ ، فالكنايةُ تعودُ إلى الْحَرَمِ وهو كنايةٌ من غيرِ مذكورٍ ، والمعنى : والمستكبرينَ في البيتِ الحرام لأمْنِهم فيهِ مع خوفِ سائرِ الناس في مواضعهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَامِراً تَهْجُرُونَ } ؛ أي سُمَّاراً تَهْجُرُونَ القُرْآنَ والنبيَّ صلى الله عليه وسلم ، والَهَجْرُ : هَجْرُ الحقِّ بالإعراضِ عنه ، وقد يقالُ : هَجَرَ المريضُ إذا هَدَأ في كلامهِ. والسَّمَرُ : الحديثُ باللَّيلِ ، كانوا يتحدَّثون حولَ الكعبة في أوائلِ الليل بالطَّعْنِ في النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي الإسلامِ والمسلمين ، وإنَّما وحَّدَ (سَامِراً) لأنه في موضعِ المصدر.
قال الحسنُ ومقاتل : (الْمَعْنَى : يَهْجُرُونَ الْقُرْآنَ وَيَرْفُضُونَهُ فَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } الآيةُ). ويجوزُ أن يكون معناهُ مِن الْهَجْرِ ؛ وهو الكلامُ القبيح ، يقالُ : هَجَرَ هَجْراً ؛ إذا قالَ غيرَ الحقِّ ، وهو قولُ السديِّ والكلبي وقتادةَ ومجاهدٍ ، وكانوا إذا دخَلُوا البيتَ سَبُّوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنَ. ويقالُ أيضاً في هذا المعنى : أهْجَرَ هَجْراً ؛ إذا أفْحَشَ في مَنْطِقِهِ ، ومنهُ قراءةُ نافع : (تُهْجِرُونَ) أي يَفْحُشُونَ في الكلامِ ، ويقولونَ الْخَنَا ، وذلك أنَّهم كانوا يسبُّون النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، والْهَجْرُ هو الْفُحْشُ مِن الكلامِ ، يقال في الْمَثَلِ : (مَن كَثُرَ هَجْرُهُ وَجَبَ هَجْرُهُ).
(0/0)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ } ؛ أي أفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القُرْآنَ في حُسْنِ لفظه ونَظْمِهِ ، وكثرةِ فوائده ومعانيهِ ، مع سلامتهِ من التناقُضِ والاختلاف ، فتعلَّمُوا أنه مِن عند اللهِ ، ويقالُ : معناهُ : أفَلَمْ يدَّبَّرُوا القُرْآنَ فيعرِفُوا ما فيهِ من العِبَرِ والدَّلالاتِ على صدقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأَوَّلِينَ } ؛ معناهُ : أم جاءَهم أمرٌ بَدِيْعٌ لَم يأتِ آباءَهم ؛ أي ألَم يعلَمُوا أن الرُّسُلَ قد أُرسِلُوا إلى مَن قبلهم ؟ والمعنى : أجاءَهم ما لَم يأتِ آباءهم الأوَّلين فأنكروهُ وأعرضُوا عنه. ويحتملُ أن يكون معناهُ : بل جاءَهم ما لَم يأتِ آباءَهم الأوَّلين فأنكروهُ وتركوا التدبر له. لأن (أمْ) بمعنى : (بَلْ).
(0/0)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } ؛ بالصِّدقِ والأمانة قبلَ إظهار الدَّعوة ؟ { فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ }. قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا يَعْرِفُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم صَغِيْراً وَكَبيْراً صَادِقَ اللِّسَانِ وَفِيَّ الْعَهْدِ) وفي هذا توبيخٌ لَهم بالإعراضِ عنهُ بعدَ ما عرَفُوا صدقَهُ وأمانتَهُ.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } ؛ أي قالوا : إنَّ مُحَمَّداً مجنونٌ لِيَصُدُّوا الوجوهَ ويصرفُوها عنهُ ، وقد كذبوا في ذلكَ ، فإن الْمَجْنُونَ يَهْذِي ويقولُ ما لا يفعلُ ، { بَلْ جَآءَهُمْ } ؛ النبيُّ صلى الله عليه وسلم { بِالْحَقِّ } ؛ أي بالقُرْآنِ الذي لا تَخفى صِحَّتُهُ وحُسْنُهُ على أحدٍ ، { وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ }.
(0/0)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ قال مقاتل والسدي : (الْحَقُّ هَوَ اللهُ) والمعنى : لو جعلَ مع نفسهِ شَريكاً كما تحبُّون ، { لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ } ؛ كقولهِ{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا }[الأنبياء : 22]. وَقِيْلَ : معناهُ : لو وُضِعَ الحقُّ على أهوائِهم لَهَلَكَ أهلُ السَّمواتِ والأرضِ ؛ لأنَّ الحقَّ يدعُو إلى الْمَحَاسِنِ ، والْهَوَى يدعُو إلى الْقَبَائِحِ ، ولو جُعِلَ الْهَوَى مَتْبُوعاً لبَقِيَتِ الأمورُ على الظُّلم والجهالاتِ ، فتُخْلَطُ الأمورُ أقبحَ الاختلاطِ ، ولَم يُوثَقْ بالوعدِ والوعيد ، فأدَّى ذلك إلى الفسادِ ؛ لأن الْهَوَى هو ميلُ النفسِ إلى الْمُشْتَهَى من غيرِ داعي الْهَوى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } ؛ أي أعطَيناهُم القُرْآنِ الذي فيه عِزُّهُمْ وشَرَفُهُمْ ، وأُمِرُوا بالعملِ بما فيه ، { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ } ؛ الْقُرْآنَ ، { مُّعْرِضُونَ } ؛ وهو نظيرُ قولهِ{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }[الزخرف : 44] وقولهِ{ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ }[الأنبياء : 10] والمعنَى : تَوَلَّوا عمَّا جاءَهم به من شَرَفِ الدُّنيا والآخرةِ.
(0/0)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } ؛ معناهُ : أم تسألُهم على تبليغِ الرِّسالة الْجُعْلَ فيتثاقلون لذلك ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَرَاجُ رَبِّكَ } أي ما وَعَدَ اللهُ لكَ من الأجرِ والثواب في الآخرة ، { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ؛ أي أفضلُ الْمُعْطِيْنَ. وأصلُ الْخَرَجِ وَالْخَرَاجِ : الضريبةُ والعلَّة ، كخراجِ الأرض.
وقال النضرُ بن شُميل : (سَأَلْتُ أبَا عَمْرِو بْنِ الْعَلاَء عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ ، فَقَالَ : الْخَرَاجُ مَا لَزِمَكَ وَوَجَبَ عَلَيْكَ أدَاؤُهُ ، وَالْخَرْجُ مَا تَبَرَّعْتَ بهِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي إلى طريقٍ قائم يرضاهُ الله وهو الإسْلاَمُ.
(0/0)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ } ؛ معناهُ : وإنَّ الذينَ لا يصدِّقون بالقيامةِ عن دينِ الحقِّ لَنَاكِبُونَ ؛ أي مائلونَ عَادِلُونَ ، ومنه النَّكْبَاءُ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّهم في الآخرةِ عن صراطِ جهنَّم يسقطونَ يُمْنَةً ويُسْرَةً.
(0/0)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ؛ أي ولو رحِمْنَاهُمْ وكشَفْنا ما بهم من الشدَّة التي أصابت أهلَ مكَّة من الْجُوعِ والقحطِ الذي أخذهم سبعَ سنين لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ ؛ أي لَتَمَادَواْ في ضلالَتِهم يتحيَّرونَ ويتردَّدُونَ. وَقِيْلَ : ولو رحِمنَاهُم في الآخرةِ فردَدْناهُم إلى الدُّنيا لعَادُوا إلى الكُفَرِ كما كانوا. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ }[الأنعام : 28].
(0/0)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ } ؛ يعني الجوعَ الذي أصابَهم بدعوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ سِنِيْنَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ " فَجَاعُوا حتى أكَلُوا الوبَر والدم ، { فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } ؛ أي فما خضعوا لربهم وما تضرَّعُوا ولا انقادُوا في الأمرِ لله وما رَغِبُوا إليه في الدُّعاء ، ولو كشفَ عنهم العذابَ لَم يشكُرُوا ، والاستكانةُ : طلبُ السُّكُونِ ، والتَّضَرُّعُ : طلبُ كَشْفِ البلاءِ مِن القادرِ عليهِ.
(0/0)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } ؛ قِيْلَ : إنه القتلُ يومَ بدرٍ ، وَقِيْلَ : إنه عذابُ الآخرة ، { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } ؛ أي آيسُونَ يتحيِّرون ، والإبْلاَسُ : اليأسُ مع التحيُّر. وَقِيْلَ : لَمَّا أصابَهم من الجوعِ ما أصابَهم ، " جاءَ أبو سفيانَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالَ : أنْشِدُكَ اللهَ وَالرَّحِمَ ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّكَ بُعِثْتَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ ؟ قَالَ : " بَلَى " قَالَ : فَإنَّكَ قَدْ قَتَلْتَ الآبَاءَ بالسَّيْفِ وَالأَبْنَاءَ بالْجُوعِ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالَى هذه الآية.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ؛ أي خلقَ لكم السمعَ تسمعون به ، والأبصارَ تُبصرون بها ، والقلوبَ تعقِلُون بها ، فشُكْرُكم فيما أُعطيَ إليكم قليلٌ ، والأفئدةُ هي القلوبُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي خَلَقَكم في الأرضِ ، { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؛ أي تُجمعون إلى موضعِ الحساب والجزاءِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } ؛ أي يُحييكم في أرحامِ أمَّهاتكم ، ويُمِيتُكم عندَ انقضاء آجالِكم ، { وَلَهُ اخْتِلاَفُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ؛ أي لهُ مُلْكُ اختلافِهما ومُرورهما يوماً بعد ليلةٍ ، وليلةً بعد يومٍ ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ أدِلَّةَ اللهِ تعالى تستدلُّون به على وحدانيَّة اللهِ تعالى.
(0/0)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
قولهُ : { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ } ؛ أي لَم يَعْقِلُوا أدِلَّتَنا ولَم يستدِلُّوا بها علينا ، بل كَذبُوا بالبعثِ كما كذبَ آباؤُهم قبلَهم ، والمعنى : كذبت قريشُ بالبعثِ مثلَ ما كذبَ الأولون ، { قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؛ بعدَ الموتِ.
(0/0)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هَـاذَا مِن قَبْلُ } ؛ أي خُوِّفْنَا بهذا الذي تُخَوِّفُنَا به من قبلِ أن تُخوِّفَنا به ، { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } أي ما هذا الذي تُخوِّفُنا به يا مُحَمَّدُ إلاّ أحاديثُ الأوَّلين.
(0/0)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل } ؛ لَهم يا مُحَمَّدُ : { لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ } ؛ من الخلقِ والعجائب ، أجِيبُوا { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ خالِقَها. ثُم أجابَ اللهُ عنهم لَمَّا عَلِمَ أنَّهم لا يُجيبون فقال : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ } لَهم يا مُحَمَّدُ : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ فتستدِلُّون على أنَّ مَن لهُ مُلْكُ السَّموات والأرضِ وما فيهما قادرٌ على البعثِ والنُّشورِ ، فإنَّ مَن مَلَكَ الأرضَ ومَن فيها مَلَكَ إنشاءَها بعدَ هلاكِها.
(0/0)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ عِقَابَهُ على إنكارٍ البعث. ومن قرأ { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ومعناهُ : كأنه قال : لِمَنِ السَّمواتُ ؟ فقالَ : للهِ.
(0/0)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } ؛ أي مَن ذا الذي لهُ خزائنُ كلِّ شيء وهو يُغِيْثُ ويَمنع من السُّوء ، ولا يَمنع منه مَن أرادَ به سوءً ، أجيبُوا { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } ؛ ملكوتُ كلِّ شيء ، { قُلْ } لَهم يا مُحَمَّدُ { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } ؛ أي تُصْرَفُونَ عن الحقِّ إلى ما ليسَ له أصلٌ ولا حقيقةٌ ، وقد أُلْقِيَ إليكم حقائقَ الأدلة. والمعنى بقوله : { فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي كيفَ يُخَيَّلُ لكمُ الحقُّ باطلاً ، والصحيحُ فاسداً.
(0/0)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ } ؛ أي جِئْنَاهُمْ بالحقِّ وبَيَّنَّا لَهم ، يعني أتينَاهم بالتوحيدِ والْقُرْآنِ ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ فيما يُضِيْفُونَ إلى اللهِ من الولدِ والشَّريك.
(0/0)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ } ؛ هذا ردٌّ على اليهودِ في قولِهم : عُزيرٌ ابن اللهِ ، وعلى النصارى في قولِهم : المسيحُ ابن اللهِ ، وعلى مَن قال مِن المشركين : الملائكةُ بنات الله ، { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَـهٍ } ، هذا ردٌّ على عَبَدَةِ الأوثانِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ } ؛ معناهُ : لو كان معهُ آلِهةٌ لانفردَ كلُّ إلهٍ بخلقهِ ، لا يرضى أن يُضافَ خلقهُ وإنعامه إلى غيرهِ ، { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ؛ أي لطلبَ بعضُهم قَهْرَ بعضٍ ، فلم يَنْتَظِمْ أمرُهما كما لا ينتظمُ أمر بلدٍ فيه ملِكان قاهران.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَ اللَّهِ } ؛ أي تَنْزِيْهاً للهِ { عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ من اتِّخاذِ الولد والشريكِ ، { عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ؛ مَن خَفَضَهُ جعلَهُ نَعْتَ اللهِ ، ومَن رفعه كان خبرَ مبتدأ محذوفٍ تقديرهُ : هو عَالِمُ ، فقراءةُ الخفضِ هي قراءةُ ابنِ كثيرٍ وأبي عمرٍو ، وقراءةُ الباقين بالرفعِ. ومعنى الآيةِ : عَالِمِ ما غابَ عن العبادِ وما عَلِمَهُ العبادُ ، { فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
(0/0)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } ؛ معناهُ : قُلْ يا مُحَمَّدُ رب أرنِي ما يوعدونَ من العذاب والنِّقمة ؛ يعني القتلَ ببدرٍ. وَقِيْلَ : معناهُ : قل يا مُحْمَّد : يا { رَبِّ } ؛ إنْ أرَيْتَنِي ما يوعدونَ من العذاب ، { فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي منهُم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } ؛ أي نحنُ قادرونَ على تعذيبهم ، لكنَّ الإمهالَ لحكمةٍ تقتضي ذلكَ.
(0/0)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } ؛ يعني بالإحسان الإعراضِ والصَّفحِ ، والسَّيِّئَةُ : أذى المشركينَ إيَّاهُ ، وهذا قبل الأمرِ بالقتالِ ، والمعنى : اذكر لَهم الْمُقَاتَلَةَ والحجةَ على طريقِ التلطُّفِ والاستدعاءِ إلى الحق كما قال تعالى{ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً }[طه : 44]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } ؛ أي بما يكذِّبون وبما يقولونَهُ من الشِّرك فيجازيهم عليه.
(0/0)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ } ؛ أي اعْتَصِمُ بكَ وأمتنعُ بكَ مِن هَمَزَاتِ الشَّياطينِ ، وهمزاتُ الشياطينِ : دفعُهم الناسَ إلى المعاصي بالإغواءِ ، ويقال : الْهَمْزَةُ هي الْوَسْوَسَةُ الشَّاغِلَةُ عن أمرِ الله تعالى ، { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } ؛ عندَ القراءةِ وعند الموتِ وعند الغَضَب. وعن الحسنِ : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ إلَى الصَّلاَةِ فَهَلَّلَ وَكَبَّرَ ثلاثاً ؛ وَقَالَ : " أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ ، مِنْ هَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنَفْثِهِ وَنَفَخِهِ " فَسُئِلَ عَنْ هَمْزِهِ ؛ فَقَالَ : " هُوَ أخْذُ الشَّيْطَانِ لِلإنْسَانِ حَتَّى يُصْرَعَ وَيَجِنَّ " وَسُئِلَ عَنْ نَفْثِهِ ؛ فَقَالَ : " هُوَ الشِّعْرُ " وَسُئِلَ عَنْ نَفْخِهِ ؛ فَقَالَ : " إنَّهُ الْكِبْرُ ".
(0/0)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } ؛ أخبرَ اللهُ تعالى أن هؤلاء الكفارِ الذين يُنكرونَ يسألونَ الرجعةَ إلى الدُّنيا عند معاينةِ الموت. والمعنى : حتَّى إذا عَايَنَ أحدُهم الموتَ وأعوانه قال : رِّب ارْجِعُونِ إلى الدُّنيا.
وإنَّما قال : (رَب ارْجِعُونِ) بلفظ الجماعةِ لأن اللهَ تعالى يُخبر عن نفسهِ بما يخبرُ به عن الجماعةِ في قولهِ تعالى{ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِـي وَنُمِيتُ }[ق : 43] وأمثالهِ ، وكذلك العربُ تُخَاطِبُ الرجلَ بلفظِ الجماعة كما يقولُ الرجل لآخر : أنتُم تفعلونَ كذا ونحنُ نفعل كذا ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ }[القصص : 9].
(0/0)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأعْمَلُ طَاعَةَ الله) { فِيمَا تَرَكْتُ } ؛ أي في ما مَضَى مِن عُمري ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { كَلاَّ } لا يرجعُ إلى الدُّنيا ، ولا يجوزُ أن يكون (لَعَلَّ) في هذه الآية للشَّكِّ ؛ لأنه لا معنى لذلكَ مع حرصهِ على الرَّجعة والنجاةِ من الموت والعذاب ، وإنَّما المعنى : لِكَي أعملَ صالحاً ، و(كَلاَّ) كلمة رَدْعٍ وزَجْرٍ وتنبيهٍ أي لا يكونُ له ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا } ؛ أي من مسألةِ الرُّجوع إلى الدُّنيا ، { كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } ، عند موتهِ ولا فائدةَ في ذلكَ ، { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ؛ أي مِن أمَامِهم حَاجِزٌ وحجابٌ بينهم وبين الرُّجوعِ إلى الدُّنيا ، وهم فيه إلى يومِ يبعثون ، فالقبرُ حاجزٌ ، وكل فصلٍ بين شَيئين بَرْزَخٌ.
(0/0)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي النَّفَخَةَ الأُوْلَى). وَقِيْلَ : هي النفخةُ الثانية. وقولهُ تعالى : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ } ، قال الحسنُ : (وَاللهِ إنَّ أنْسَابَهُمْ لَقَائِمَةٌ بَيْنَهُمْ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ }[عبس : 34-35] وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بأَنْسَابهِمْ وَلاَ يَتَعَاطَفُونَ عَلَيْهَا ، فَكَأَنَّهُمْ لاَ أنْسَابَ لَهُمْ).
وَقِيْلَ : معناهُ : لا تَفَاخُرَ بينهم كما يتفاخَرون في الدُّنيا ، ولا يتساءَلون كما تسألُ العربُ في الدُّنيا : مِن أيِّ قَبيْلٍ أنتَ ؟ وَقِيْلَ : لا يسألُ بعضُهم بعضاً عن خبرهِ وحاله كما كانوا في الدُّنيا ؛ لشُغْلِ كلِّ واحد منهما بنفسه ، ولا يسألُ بعضهم بعضاً أنْ يحملَ شيئاً من ذنوبهِ.
(0/0)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } ؛ يعني بالطاعاتِ ؛ { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ وَقِيْلَ : فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازينُهُ بكلمةِ التَّوحيدِ ، فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ، قال صلى الله عليه وسلم : " وَلَوْ وُضِعَتِ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَمَا فِيْهِنَّ وَالأَرْضُ فِي كَفَّةٍ ، رَجَحَتْ بجَمِيْعِ ذلِكَ ".
(0/0)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } ؛ يعني بكلمة الشرك { فأُوْلَـائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى. قوله تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ؛ قِيْلَ : الفَلْحُ هو الإحراقُ ، يقالُ : لَفَحَتْهُ النارُ إذا أحْرَقَتْهُ ، وتأثيرُ الفَلْحِ أعظمُ مِن تأثير النَّفْحِ ، والنفحُ مذكورٌ في قوله{ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ }[الأنبياء : 46]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ؛ الْكُلُوحُ : تَقَلُّصُ الشَّفَتَيْنِ عنِ الأسْنَانِ حتى تبدُو الأسنانُ.
قال الحسنُ : (تَغْلَظُ شِفَاهُهُمْ ، وَتَرْتَفِعُ شَفَتُهُ الْعُلْيَا ، وَتَنْزِلُ شَفَتُهُ السُّفْلَى ، فَتَظْهَرُ الأَسْنَانُ ، فَهُوَ أقْبَحُ مَا يَكُونُ). قال صلى الله عليه وسلم : " وَتَشْوِيَهِ النَّارُ حَتَّى تُقَلِّصَ شَفَتَهُ الْعُلْيَا فَتَبْلُغَ وَسَطَ رَأسِهِ ، وَتَسْتَرْخِي شَفَتُهُ السُّفْلَى حَتَّى تَبْلُغَ سُرَّتَهُ " قال ابنُ مسعود : (ألَمْ تَرَ إلَى الرَّأسِ الْمَسْمُوطِ بالنَّار كَيْفَ بَدَتْ أسْنَانُهُ وَقُلِّصَتْ شَفَتَاهُ).
(0/0)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } ؛ أي تَجحَدُون ، { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } ؛ بكثرةِ معَاصِينا ، { وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } ؛ في الدُّنيا فلم نَهْتَدِ. قرأ الكوفيُّون غيرُ عاصمٍ : (شَقَاوَتُنَا) بالألف وفتح الشِّين ، وهُما بمعنى واحدٍ. الشِّقْوَةُ : هي الْمَضَرَّةُ اللاَّحِقَةُ فِي العَاقِبَةِ ، والسَّعَادَةُ : هي المنفعةُ التي تكون في العاقبةِ. والشَّقْوَةُ بفتحِ الشِّين بمنْزِلَةِ الفَعْلَةِ الواحدةِ ، وكسرُ الشِّين في هذا دالٌّ على الكثرةِ واللُّزومِ.
(0/0)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا } ؛ أي مِن النار إلى الدُّنيا ، { فَإِنْ عُدْنَا } ؛ إلى التَّكذيب والمعاصِي ، { فَإِنَّا ظَالِمُونَ }.
(0/0)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } ؛ { اخْسَئُواْ } كلمةُ إهَانَةٍ وَمَذلَّةٍ ؛ وهي في الأصلِ لطردِ الكِلاب ، تقولُ : خَسَأْتُ الكلبَ إذا طَردْتَهُ ؛ فَخَسَأَ أي تباعَدَ. قال الزجَّاجُ : (مَعْنَاهُ تَبَاعَدُوا تَبَاعُدَ سُخْطٍ ، وَابْعُدُوا بُعْدَ الْكَلْب ، وَلاَ تُكَلِّمُونِ فِي رَفْعِ الْعَذاب عَنْكُمْ ، وَلاَ تَسْأَلُونِ الْخُرُوجَ مِنَ النَّار ، فَإنِّي لاَ أدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذابَ ، وَلاَ أُهَوِّنُهُ عَلَيْكُمْ).
قال عبدُالله بن عَمرو : (أنَّ أهْلَ جَهَنَّمَ يَدْعُونَ مَالِكاً أرْبَعِيْنَ عَاماً فَلاَ يُجِيْبُهُمْ ، ثُمَّ يَقُولُ : إنَّكُمْ مَاكِثُونَ ، ثُمَّ يُنَادُونَ رَبَّهُمْ : رَبَّنَا أخْرِجْنَا مِنْهَا فَإنْ عُدْنَا فَإنَّا ظَالِمُونَ. فَلاَ يُجِيْبُهُمْ مِقْدَارَ عُمْرِ الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ : إخْسَئُواْ فِيْهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ بَعْدَ ذلِكَ ، وَيَكُونُ لَهُمْ زَفِيْرٌ كَزَفِيْرِ الْحَمِيْرِ ، وَشَهِيْقٌ كَشَهِيْقِ الْبغَالِ ، وَعَوِيٌّ كَعَوِيِّ الْكِلاَب).
(0/0)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ } ؛ أي يقالُ لَهم : إنه كان طائفٌ من عِبادي يَقُولُونَ : { رَبَّنَآ آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } ؛ وهم الأنبياءُ والمؤمنون ، وهذا تعليلٌ لاستحقاقِهم العذابَ بما عامَلُوا الأنبياءَ والمؤمنين باتِّخَاذِهم سِخْرِيّاً.
(0/0)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } ؛ أي تَسْخَرُونَ منهم وتَسْتَهْزِئُونَ بهم. قرأ نافعٌ وحمزة والكسائيُّ : بضَمِّ السِّين ها هنا وفي ص ، وقرأ الباقونَ بكسرِها وهُما لُغَتان ، ولَم يختلفوا في الزُّخْرُفِ أنه بالضَّمِّ ؛ لأنه بمعنى التَّسخيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } ؛ لاشْتِغالِكم بالسُّخرية منهم وبالضَّحكِ ، فنَسَبَ الأنبياءَ إلى عبادةِ المؤمنينَ ، وإنَ لَم يفعلوا ؛ لِمَا أنَّهم كانوا السببَ فيه.
(0/0)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ } ؛ على أذِيَّتِكُمْ واستهزَائِكم ، { أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ } ؛ في الجنَّةِ. قرأ حمزةُ والكسائيُّ (إنَّهُمْ) بالكسرِ على الاستئنافِ ، وقرأ الباقونَ بالفتح على معنى جَزَيْتُهُمْ بالْفَوْز.
(0/0)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } ؛ أي كم لبثتم في القبور ؟ وقيل المكث في الدنيا ، يقول الله تعالى للكفار يوم البعث : كَمْ لَبثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ؛ فيَرَوْنَ أنَّهم لَم يلبَثُوا إلاَّ يوماً أو بعضَ يومٍ لعِظَمِ ما هُم فيه من العذاب ، نَسَوا ذلكَ. ويقالُ : يَلْحَقُهُمْ دَهْشَةً وَحَيرةٌ فيَنْسَوْنَ ذلكَ. وقولهُ تعالى : { فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ } ؛ يعنِي الملائكةَ الذين يحفظونَ عليهم آجالَهم. وقرأ ابنُ كثيرٍ : (قُلْ كَمْ لَبثْتُمْ) على فعلِ الأمر ، وقولهُ : { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ في جَنْب لُبْثِكُمْ في العذاب ؛ { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.
(0/0)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } ؛ أي أظَنَنْتُمْ أنْا خَلَقْنَاكُمْ للعَبَثِ تأكلونَ وتشربون وتفعلونَ ما تُريدون وتَموتون ، { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } ؛ أي فلا تُحشرونَ للحساب ، ولا تُرجعون إلى موضعٍ لا تَملِكون فيه لأنفُسِكم ضَرّاً ولا نفعاً؟
قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أفَحَسِبْتُمْ أنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً كَمَا خَلَقْنَا الْبَهَائِمَ ، لاَ ثَوَابَ لها وَلاَ عِقَابَ عَلَيْهَا لَمَا قَالَ{ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى }[القيامة : 36] أي يُهْمَلَ كَمَا تُهْمَلُ الْبَهَائِمُ ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } ؛ أي هو الْمَلِكُ الْحَقُّ الذي لهُ الملكُ ؛ لأنه مَلَكَ غَيْرَهُ ، وكلُّ مَن مَلَكَ غَيْرَهُ فملكهُ مستعارٌ له ، فإنه لا يَملِكُ إلاّ بتمليكهِ الله إياه ، فكأنه لا يعتَدُّ بملكه في ملكِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ؛ سُمي العرشُ كَرِيْماً لكثرةِ خيرهِ بمن حولَهُ ، يقالُ : فلانٌ كريمٌ ؛ أي كثيرُ الخيرِ.
(0/0)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } ؛ أي مَن يَدْعُ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ لَم يَنْزِلْ بعبادتهِ كتابٌ ولا بُعِثَ لَها رسولٌ ولا حُجَّةَ لَهُ عليه ، فإنَّما حسابهُ عندَ ربهِ ، فهو يجازيهِ بما يستحقُّ كما قال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ }[الغاشية : 26] ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ؛ أي لا يُسْعَدُ من جَحَدَ وكَذبَ ، ولا يَأْمَنُ ولا ينجُو من عذاب الله الكافرونَ.
(0/0)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } ؛ يحتملُ أن يكون أمراً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بالاستغفارِ منهُ ، كما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ مَرَّةً " ، ويُروى " مِائَةَ مَرَّةٍ ".
وعن ابنِ مسعود : " أنَّهُ مَرَّ بشَابٍّ مُبْتَلَى ، فَقَرَأت فِي أُذُنِهِ { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [المؤمنون : 115] حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَبَرِئَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَمَاذا قَرَأْتَ فِي أُذُنِهِ ؟ " فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : " وَالَّذِي بَعَثَنِي بالْحَقِّ نَبيّاً ؛ لَوْ أنَّ رَجُلاً مُؤْمِناً قَرَأهَا عَلَى جَبَلٍ لَزَالَ ".
(0/0)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } ؛ أي هذهِ سورةٌ أنزَلْنَا جبريلَ عليه السلام بها ، وقرأ طلحةُ بن مُصَرِّف (سُورَةً) بالنصب على معنى : أنْزَلْنَا سورةً كما يقالُ : زيداً ضربتهُ ، ويجوزُ أن يكونَ نصباً على الإغراءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : (فَرَضْنَاهَا) أي أوْحَيْنَا فيها أحْكَاماً وفرائضَ مختلفة عليكمُ وعلى مَن بعدَكم إلى يوم القيامةِ ، وجَحَدَ من قرأ بالتخفيفِ ، قولهُ{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ }[القصص : 85] أي أحكامَ القُرْآنِ ، والتشديدُ في (فَرَّضْنَاهَا) لكثرةِ ما فيها من الفرائضِ. قال مجاهدُ : (يَعْنِي الأَمْرَ بالْحَلاَلِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْحَرَامِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ؛ أي دلاَلاتٍ واضحاتٍ على وحدانيَّتنا وأحكامِنا لكي تتَّعِظُوا فتعمَلُوا بما فيها.
(0/0)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } ؛ قال سِيْبَوَيْهِ : (مَعْنَاهُ فِي الْفَرَائِضِ عَلَيْكُمْ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ؛ لأنَّهُ لَوْلاَ ذلِكَ لِنُصِبَ بالأَمْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ : { فَاجْلِدُواْ } ). والْجَلْدُ في اللُّغة : ضَرْبُ الْجِلْدِ ، يقالُ : جَلَدَهُ ؛ إذا ضَرَبَ جِلدَهُ ورأسَهُ ، إذا ضَرَبَ رَأسَهُ وَبَطْنَهُ ، إذا ضَرَبَ بَطْنَهُ.
ومعنى الآيةِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إذا كانا حُرَّيْنِ بالِغَين عاقلَين بكْرَين غيرِ مُحصنين ، فَاضْرِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. فأمَّا إذا كانا مَملُوكَين ، فيُحَدُّ كلُّ واحدٍ منهما خمسونَ جلدةً في الزِّنا لقولهِ تعالى في الإمَاءِ : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ }[النساء : 25] يعني إذا عَقِلْنَ فعليهنَّ نصفُ حدِّ الحرائرِ.
وإذا كان الزَّانِي مُحصِناً فحدُّهُ الرجمُ ؛ لأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزَ بنَ مالك الأسلمِيِّ بزِنَاهُ ، وكان قد أحْصَنَ. وكانَ عمرُ عليه السلام يقولُ : (إنِّي لأَخْشَى إنْ طَالَ الزَّمَانُ أنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لاَ نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى ، فَيَضِلُّواْ بتَرْكِ الْفَرِيْضَةِ أنْزَلَهَا اللهُ ، وَقَدْ قَرَأنَا : [الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ] وَرَجَمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، وَلَوْلاَ أنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ : زَادَ عُمَرُ فِي كِتَاب اللهِ لَكَتَبْتُ ذلِكَ عَلَى حَاشِيَةِ الْكِتَاب). واجتمعتِ الأمةُ على رجمِ الْمُحْصَنَيْنِ إذا زَنَيَا إلاّ الخوارجَ.
وأما الإحصانُ في هذا فهو أن يكونَ حُرّاً بالِغاً عاقلاً مُسلماً قد تزوَّجَ قبلَ ذلك نِكاحاً صحيحاً ، ودخلَ بزوجتهِ في وقتٍ كانا جميعاً فيه على صفةِ الإحصانِ ، وهذا قولُ أبي حنيفةَ ومحمَّد ، فإنَّهما يشرُطانِ هذه الشَّرائطَ السبعةَ في إحصانِ الزَّانِي.
وأما أبو يوسُفَ فلا يجعلُ الإسلامَ من شرائطِ الإحصانِ ، ولا يشترطُ كونُهما على صفةِ الإحصانِ وقتَ الدُّخولِ في النكاحِ الصحيح ، فجعلَ الرجلَ البالغَ العاقل المسلمَ مُحْصَناً بالدخولِ بزوجتهِ الأَمَةِ والصبيَّة والكتابيَّة ، ويجعلُ الزوجينِ الرَّقيقين محصَنين بالدخولِ في النكاحِ الذي بينَهم إذا أُعْتِقَا بعدَ ذلك ، فإن لَم يوجد الدخولُ في ذلك النكاحِ بعد العِتْقِ إلى أن زَنَى واحدٌ منهما ، فهُمَا غيرُ محصَنين عندَهُ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه : " أنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعْرَاب جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ : أنْشُدُكَ اللهُ إلاَّ قَضَيْتَ لِي بكِتَاب اللهِ ، فَقَالَ الْخَصْمُ الآخَرُ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اقْضِ بَيْنَنَا بكِتَاب اللهِ ، فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " قُلْ " قَالَ : إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيْفاً عَلَى هَذا ، فَزَنَى بامْرَأتِهِ ، وَإنِّي أُخْبرْتُ أنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ ، فَافْتَدَيْتُهُ بمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيْدَةٍ ، فَسَأَلْتُ أهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أنَّ عَلَى ابْنِي مِائَةَ جَلْدَةٍ وَتَغْرِيْبَ عَامٍ ، وَأنَّ عَلَى امْرَأةِ هَذا الرَّجْمَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بكِتَاب اللهِ ، الْوَلِيْدَةُ وَالْغَنَمُ رَدٌّ عَلَيْكَ ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيْبُ عَامٍ ، وَاغْدُ يَا أنَسُ إلَى امْرَأةِ هَذا ، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " قَالَ : فَغَدَا عَلَيْهَا ، فَاعْتَرَفَتْ ؛ فَأَمَرَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ ".
(0/0)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ ، دَخَلُواْ الْمَدِيْنَةَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَسَاكِنُ وَلا مَالٌ يَأْكُلُونَ مِنْهُ وَلاَ أهْلٌ يَأْوُونَ إلَيْهِمْ ، وَفِي الْمَدِيْنَةِ بَاغِيَاتٌ سَافِحَاتٌ يَكْرِيْنَ أنْفُسَهُمَّ وَيَضْرِبْنَ الرَّايَاتِ عَلَى أبْوَابهِنَّ يَكْتَسِبْنَ بذلِكَ ، وَكَانَ أُوْلَئِكَ الْمُهَاجِرِيْنَ الْفُقَرَاءَ يَطْلُبُونَ مَعَايشَهُمْ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ باللَّيْلِ ، فَقَالُواْ : لَوْ تَزَوَّجْنَا مِنْهُنَّ فَعِشْنَا مَعَهُمْ إلَى يَوْمِ يُغْنِيْنَا اللهُ عَنْهُنَّ ، وَقَصَدُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ وَيَنْزِلُواْ مَنَازِلَهُنَّ ، وَيَأْكُلُواْ مِنْ كَسْبِهنَّ ، فَشَاوَرُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَنُهُواْ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى أنْ يُحِلُّوهُنَّ وَالزِّنَا).
والمعنى : لا يرغبُ في نكاحِ الزانية إلاّ زَانٍ مثلُها ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ }[النور : 26] مَيْلُ الخبيثِ وميلُ الطيِّب إلى الطيب ، وقد يقعُ الطيبُ مع الخبيثِ ، لكن الأعمَّ والأغلبَ ما ذكرنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي حُرِّمَ على المؤمنينَ تزويجُ تلك الباغياتِ المعلِنات بالزِّنا ، وفيه بيانُ أن مَن يتزوجُ بامرأةٍ منهنَّ فهو زَانٍ ، فالتحريمُ كان خاصَّة على أولئكَ دون الناسِ.
ومذهبُ سعيدِ بن المسيَّب : أنَّ التحريمَ كان عامّاً عليهم وعلى غيرِهم ، ثُم نُسِخَ التحريمُ بقولهِ تعالى{ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ }[النور : 32] ، فإن تزوجَ الرجلُ امرأةً وعاينَ منها الفجُورَ لَم يكن ذلك تَحريْماً بينَهما ولا طَلاقاً ، ولكنه يُؤْمَرُ بطلاقِها تَنَزُّهاً عنها ، ويخافُ عليه الإثمَ في إمساكِها ؛ لأن اللهَ تعالى شَرَطَ على المؤمنين نكاحَ الْمُحصَناتِ من المؤمناتِ.
" ورويَ أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ امْرَأتِي لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ! فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " طَلِّقْهَا " فَقَالَ : إنِّي أُحِبُّهَا ، وَأخَافُ إنْ طَلَّقْتُهَا أنْ أُصِيْبَها حَرَاماً ، فَقَالَ لَهُ : " أمْسِكْهَا إذاً ". إلاّ أنَّ هذا الحديثَ فيه خلافُ الكتاب ؛ لأن اللهَ تعالى أذِنَ في نكاحِ الْمُحصَناتِ ، ثُم أنزلَ اللهُ في القاذفِ لامرأته آيةَ اللِّعانِ ، وسَنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم التفريقَ بينهما ، ولا يجتمعان أبداً ، فكيفَ يأمرهُ بالوقفِ على عاهرةٍ لا تَمتنعُ عمَّن أرادَها ، والحديثُ الذي ذُكِرَ لَم يصِحَّ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ثُم إنْ صَحَّ فتأويلهُ أنَّها امرأةٌ ضعيفةُ الرَّأيِ في تضييعِ مال زوجِها ، فهي لا تَمْنعهُ مِن طالبٍ ولا تحفظهُ من سارقٍ ، وهذا التأويلُ أشبهُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأحرَى لحديثهِ. ويحتملُ أن يكون قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } إشارةً إلى الزِّنا.
وعن عمرٍو بن شُعيبٍ عن أبيه عن جدِّه : (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَرْثَدَ الْغَنَوِيِّ ، كَانَ قَدْ أمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يَحْمِلُ ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ ، وَمِنَ الْمَدِيْنَةِ إلَى مَكَّةَ ، وَكَانَتْ لَهُ صَدِيْقَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُقَالُ لَهَا : عِنَاقٌ ، فَلَقِيَتْهُ بمَكَّةَ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا فَأَبَى وَقَالَ : إنَّ الإسْلاَمَ قَدْ حَالَ دُونَ ذلِكَ ، فَقَالَتْ لَهُ : فَانْكَحْنِي ، فَقَالَ : حَتَّى أُشَاوِرَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَعَتْ بهِ إلَى الْمُشْرِكِيْنَ ، فَهَرَبَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأخْبَرَ النِّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَشَاوَرَهُ فِي تَزَوُّجِهَا ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
(0/0)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ؛ أي يرمُونَهم بالزنا ، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ؛ على صحَّة قَذْفِهم إياهُنَّ بالزنا ، { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }. والْمُحْصَنَاتُ : الحرائرُ الْمُسلِماتُ البالغاتُ العاقلات العفيفاتُ عن فعلِ الزِّنا. وفي ذكرِ عدد الأربعةِ من الشُّهود دليلٌ على أن المرادَ القذفُ بصريحِ الزنا ؛ لأن هذا العددَ لا يُشترط إلاّ في الزِّنا ، ولا يقبلُ في ذلكَ شهادةُ النساءِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أن مَن قَذفَ جماعةً من الْمُحصَناتِ لَم يُضرب إلاّ حدّاً واحداً ، وإذا كان القاذفُ عبداً فحدُّهُ النِّصفُ كما بَيَّنَّا في حدِّ الزنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } ؛ يعني المحدودين في القذفِ لا تقبلُ شهادتُهم أبداً ، { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ؛ أي الخارجونَ عن طاعةِ الله برَمْيهِمْ إياهُنَّ زُوراً وكَذِباً.
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ } ؛ أي نَدِمُوا على قَذْفِهم وعَزَمُوا على تركِ الْمُعَاوَدَةِ { وَأَصْلَحُواْ } ؛ أعمالَهم فيما بينَهم وبين ربهم ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لِمَن تابَ منهم ، { رَّحِيمٌ } ؛ لِمَن ماتَ على التوبةِ.
قال ابنُ عبَّاس : (هَذا الاسْتِثْنَاءُ لاَ يَرْجِعُ إلَى الشَّهَادَةِ ، وَإنَّمَا يَرْجِعُ إلَى الْفِسْقِ). وَقِيْلَ : إنَّ توبتَهُ فيما بينه وبينَ اللهِ مقبولةٌ ، وأما شهادتهُ فلا تقبلُ أبداً ، وهو قولُ شُريحٍ والحسن وإبراهيمَ ، وإلى هذا ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ.
وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الاستثناءَ راجعٌ إلى الفسقِ وإلى ردِّ الشهادةِ ، ويكون معنى قولهِ تعالى (أبَدَاً) ما دامَ على القذفِ ولَم يَتُبْ عنهُ. وأجْمَعُوا جميعاً أنَّ هذا الاستثناءَ لا يرجعُ إلى الْجَلْدِ ، وذلك يقتضي أن يكونَ مَقْصُوراً على ما يَلِيْهِ وهو الفسقُ.
وأجْمَعُوا أن المقذوفةَ إذا ماتت ولَم تُطالِبْ بحدِّ القذفِ ولَم يُحَدَّ القاذفُ ثُم تابَ ، فإنهُ يجوز قَبولُ شهادتهِ ؛ لأن على أصْلِنا أنَّ الحاكمَ إذا أقامَ الحدَّ على القاذفِ فكذبَهُ وأبطلَ حينئذٍ شهادتَهُ ، ولو جُعِلَ بطلانُ الشهادةِ حُكماً معلقاً بتسمية الفسق ولم يجعل حكماً على حالهِ مرتَّباً على الجلدِ لبطُلَتْ فائدةُ قولهِ{ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً }[النور : 4] من كتاب الله ؛ لأن كلَّ فاسقٍ لا تقبلُ شهادتهُ إلاّ بعد توبتهِ عن الفسقِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ؛ الآيةُ ، " وذلكَ أنَّ اللهَ سُبحانه لَمَّا أنزلَ الآيةَ التي قبلَ هذه الآيةِ في قذفِ الْمُحصَنات وشَرَطَ فيها الإتيانَ بأربعةِ شهداءَ وإلاّ جُلِدَ ثَمانين جلدةً ، قَرَأهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الْمِنْبَرِ.
فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ : يَا رَسُولَ اللهِ! جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ ، أرَأيْتَ إنْ رَأى رَجُلٌ مِنَّا مَعَ امْرَأتِهِ رَجُلاً عَلَى بَطْنِهَا ، فَأَرَادَ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ فَيَجِيْءَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ ، وَإنْ هُوَ عَجَّلَ فَقَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ ، وَإنْ تَكَلَّمَ بذلِكَ جَلَدْتُمُوهُ ، وَإنْ سَكَتَ ؛ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ شَدِيْدٍ ؟
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " كَفَى بالسَّيْفِ " أرَادَ أنْ يَقُولَ شَاهِداً ، فَأُرْسِلَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ بالسُّكُوتِ ، فَأَمْسَكَ لِئَلاَّ يَتَسَارَعَ أحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إلَى قَتْلِ أزْوَاجِهِمْ. "
وقال ابنُ عبَّاس : [ " لَمَّا نَزَلَتْ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [النور : 4] ، قَرَأهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ - فَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ مَقَالَتَهُ الَّتِي ذكَرْنَاهَا - وَقَالَ : يَا رَسُولَ الله! كَيْفَ لَنَا بالشُّهَدَاءِ وَنَحْنُ إذا الْتَمَسْنَاهُمْ قَضَى الرَّجُلُ حَاجَتَهُ وَخَرَجَ. وَكَانَ لِعَاصِمٍ هَذا ابْنُ عَمٍّ يُقَالُ لَهُ عُوَيْمِرَ ، وَكَانَتْ لَهُ امْرَأةٌ يُقَالُ لَهَا خَوْلَةُ بنْتُ قَيْسِي ، فَأَتَى عُوَيْمِرُ عَاصِماً فَقَالَ : لَقَدْ وَجَدْتُ شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِ امْرَأتِي خَوْلَةَ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ الأُخْرَى ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أسْرَعَ مَا ابْتُلِيْتُ بالسُّؤَالِ الذَِّي سَأَلْتُ فِي الْجُمُعَةِ الْمَاضِيَةِ فِي أهْلِ بَيْتِي ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَمَا ذاكَ ؟ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أخْبَرَنِي عُوَيْمِرُ أنَّهُ رَأى شُرَيْكَ بْنَ سَحْمَاء عَلَى بَطْنِ امْرَأتهِ خَوْلَةَ.
وكَانَ عُوَيْمِرُ وَخَوْلَةُ وَشُرَيْكٌ كُلُّهُمْ بَنِي عَمِّ عَاصِمٍ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بهِمْ جَمِيْعاً ، وَقَالَ لِعُوَيْمِر : " اتَّقِ اللهَ ؛ اتَّقِ الله فِي زَوْجَتِكَ وَخَلِيْلَتِكَ وَابْنَةِ عَمِّكَ فَلاَ تُعَذِّبْهَا بالْبُهْتَانِ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أُقْسِمُ باللهِ أنِّي رَأيْتُ شُرَيْكاً عَلَى بَطْنِهَا. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " اتَّقِ اللهَ وَأخْبريْنِي بمَا صَنَعْتِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّ عُوَيْمِراً رَجُلٌ غَيُورٌ ، وَإنَّهُ رَآنِي وَشُرَيْكاً نَتَحَدَّثُ ، فَحَمَلَتْهُ الْغَيْرَةُ عَلَى مَا قَالَ "
وروى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس : " لَمَّا نَزَل قَوْلُهُ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [النور : 4] قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : وَاللهِ لَوْ أتَيْتُ لُكَاعَ وَقَدْ تَفَخَّذهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِي أنْ أقْتُلَهُ وَلاَ أُهَيِّجَهُ وَلاَ أُخْرِجَهُ حَتَّى آتِيَ بأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ، وَلَمْ يَأْتِ بهِمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ وَيَذْهَبَ! فَإنْ قُلْتُ بمَا رَأيْتُ ضَرَبْتُمْ ظَهْرِي ثَمَانِيْنَ جَلْدَةَ!
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَار ألاَ تَسْمَعُونَ إلَى مَا يَقُولُ سَيِّدُكُمْ! ؟ " قَالُوا : لاَ تَلُمْهُ فَإنَّهُ رَجُلٌ غَيُورٌ ، مَا تَزَوَّجَ امْرَأةً قَطُّ إلاَّ بكْراً ، وَلاَ طَلَّقَ امْرَأةً فَاجْتَرَأ أحَدٌ مِنَّا أنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : يَا رَسُولَ اللهِ! بأَبي وَأُمي أنْتَ ، وَاللهِ إنِّي لأَعْرِفُ أنَّهَا مِنَ اللهِ وَأنَّهَا لَحَقٌّ ، وَلَكِنَّنِي عَجِبْتُ مِنْ ذلِكَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " واللهُ يَأْبَى إلاَّ ذلِكَ ؟ " فَقَالَ : صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ.
فَلَمْ يَلْبَثُواْ إلاَّ يَسِيْراً حَتَّى جَاءَ هِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةً إلَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ أصْحَابهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي جِئْتُ أهْلِي عِشَاءً فَوَجَدْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأتِي يَزْنِي بهَا ، رَأيْتُ بعَيْنِي وَسَمِعْتُ بأُذُنِي. فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أتَى بهِ ، وَثَقُلَ عَلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ ذلِكَ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنِّي لأَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِكَ لِمَا أتَيْتُكَ بهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ أنِّي لَصَادِقٌ وَمَا قُلْتُهُ إلاَّ حَقّاً ، وإنِّي لأَرْجُو أنْ يَجْعَلَ اللهُ لِي فَرَجاً ، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَضْرِبَهُ الْحَدَّ.
وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ وَقَالُواْ : ابْتُلِيْنَا بمَا قَالَ سَعْدُ عُبَادَةَ إلاَّ أنْ يَجْلِدَ هِلاَلاً. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرْيْدُ أنْ يَأْمُرَ بضَرْبهِ ، إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَأَمْسَكُواْ عَنِ الْكَلاَمِ حِيْنَ عَرَفُواْ أنَّ الْوَحْيَ قَدْ نَزَلَ. فَلَمَّا فَرَغَ تَلاَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ... } إلَى آخِرِ الآيَاتِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أبْشِرْ يَا هِلاَلُ ؛ فَإنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكَ فَرَجاً " فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أرْجُو ذلِكَ مِنَ اللهِ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أرْسِلُواْ إلَيْهَا " فَجَاءَتْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ : كَذبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ هِلاَلُ : يَا رَسُولَ اللهِ! مَا قُلْتُ إلاَّ حَقّاً وَإنِّي لَصَادِقٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " اللهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُمَا كَاذِبٌ ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ ؟ " فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا كَذبْتُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَعِنُواْ بَيْنَهُمَا ".
فَقِيْلَ لِهِلاَلِ : اشْهَدْ باللهِ أرْبَعَ مَرَّاتٍ إنَّكَ لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ ، فَقَالَ هِلاَلُ : أشْهَدُ باللهِ إنِّي لَمِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَيْتُهَا بهِ ، قَالَ ذلِكَ أرْبَعَ مَرَّاتٍ. فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ : " اتَّقِ اللهَ يَا هِلاَلُ ، فَإنَّ عَذابَ الدُّنْيَا أهْوَنُ مِنْ عَذاب الآخِرَةِ ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ ، وَإنَّ هَذِهِ الْخَامِسَةُ هِيَ الْمُوجِبَةُ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكُمَا الْعَذابَ ". فَقَالَ هِلاَلُ : وَاللهِ مَا يُعَذِّبُنِي اللهُ عَلَيْهَا ، كَمَا لَمْ يَجْلِدْنِي عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَشَهِدَ الْخَامِسَةَ أنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَا.
ثُمَّ قِيْلَ لِلْمَرْأةِ : اشْهَدِي أنْتِ ، فَقَالَتْ أرْبَعَ مَرَّاتٍ : أشْهَدُ باللهِ إنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبيْنَ فِيْمَا رَمَانِي بهِ مِنَ الزِّنَا. فَقَالَ لَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْخَامِسَةِ : " اتَّقِ اللهَ فَإنَّ الْخَامِسَةَ هِيَ الْمُوجِبَةُ ، وَإنَّ عَذابَ اللهِ أشَدُّ مِنْ عَذاب النَّاسِ " فَسَكَتَتْ سَاعَةً وَهَمَّتْ بالاعْتِرَافِ ، ثُمَّ قَالَتْ : وَاللهِ لاَ أفْضَحُ قَوْمِي ، فَشَهِدَتِ الْخَامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِيْنَ فِيْمَا رَمَاهَا بهِ مِنَ الزِّنَ. فَفَرَّقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى أنَّ الْوَلَدَ لَهَا وَلاَ يُدْعَى لأَبٍ.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِزَوْجِهَا ، وَإنْ جَاءَتْ بهِ كَذا وَكَذا فَهُوَ لِلَّذِي قِيْلَ فِيْهِ ". فَجَاءَتْ بهِ غُلاَماً أحْمَرَ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أوْرَقُ عَلَى الشَّبَهِ الْمَكْرُوهِ ، وَكَانَ بَعْدَ ذلِكَ أمِيْراً عَلَى مِصْرَ لاَ يَدْرِي مَنْ أبُوهُ ".
(0/0)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
قَوْلُهُ : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ } ؛ أي يدفعُ عنها الحدَّ : { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ وقرأ حفصٌ : (وَالْخَامِسَةَ) بالنصب ، كأنهُ قال : وَشَهِدَ الْخَامِسَةَ. وقُرِئ (فَشَهَادَةُ أحَدِهِمْ أرْبَعُ شَهَادَاتٍ) بالرفع في قوله (أرْبَعُ) على أنَّها خبرُ المبتدأ ، ويقرأُ بالنصب على معنى : فَشَهَادَةُ أحَدِهِمْ أنَّ يَشْهَدَ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ.
(0/0)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ؛ محذوفُ الجواب ؛ تقديرهُ : لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَفَضَحَكُمْ بما تركبونَ من الفواحشِ ، ولعجَّلَكم بالعقوبةِ من غيرِ إمهالٍ ، ولَبَيَّنَ الصادقَ من الكاذب ، فيقامُ الحدُّ على الكاذب { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } ؛ أي تَوَّابٌ على من رجعَ عن معاصي الله ، حَكِيْمٌ فيما فرضَ من الحدودِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ وذلكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذا أرَادَ أنْ يَخْرُجَ إلَى سَفَرٍ أقرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا وَهِيَ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطلِقِ ، فَخَرَجَ فِيْهَا سَهْمِي ، فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَذلِكَ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ كُنْتُ أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي ، وَأُحْمَلُ فِيْهِ حَتَّى إذا فَصَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَتِهِ وَرَجَعَ وَدُرْنَا إلَى الْمَدِيْنَةِ.
فَلَمَّا كَانَ ذاتَ لَيْلَةٍ قُمْتُ حِيْنَ آذنُوا بالرَّحِيْلِ ، فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أقْبَلْتُ إلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْري فَإذا عِقْدِي قَدِ انْقَطَعَ ، وَكَانَ مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ ، فَرَجَعْتُ ألْتَمِسُ عِقْدِي وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ.
فَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي ، فَحَمَلُواْ هَوْدَجِي عَلَى بَعِيْرِي الَّذِي كُنْتُ أرْكَبُ عَلَيْهِ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أنِّي فِيْهِ ، وَكُنَّ نِسَاءً إذْ ذاكَ خِفَافاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ ، إنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ ، وَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثُقْلَ الْهَوْدَجِ حِيْنَ رَفَعُوهُ ، وَكُنْتُ جَاريَةٌ حَدِيْثَةَ السِّنِّ ، فَبَعَثُواْ الْجَمَلَ وَسَارُواْ ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيْبٌ ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيْهِ ، وظَنَنْتُ أنَّ الْقَوْمَ يَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إلَيَّ.
فَبَيْنَمَا أنَا جَالِسَةٌ فِي مَجْلِسِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطِّلِ السُّلَمِيُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ ، فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي ، فَرَأى سَوَادَ إنْسَانٍ نَائِمٍ ، فَأَتَى إلَيَّ فَعَرَفَنِي حِيْنَ رَآنِي ، وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إلاَّ باسْتِرْجَاعِهِ حِيْنَ عَرَفَنِي ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بجِلْبَابي ، فَوَاللهِ مَا كَلَّمَنِي بكَلِمَةٍ غَيْرِ اسْتِرْجَاعِهِ ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطَأْتُ عَلَى يَدِهَا وَرَكِبْتُهَا ، وَانْطَلَقَ يَقُودُ فِي الرَّاحِلَةِ حَتَّى أتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُواْ وَقْتَ الظَّهِيْرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلْكَ فِي شَأْنِي ، وخَاضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ وَمُسْطَحُ بْنُ أثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بنْتُ جَحْشٍ الأَسْدِيَّةُ فِي ذلِكَ ، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ.
فَقَدِمْتُ الْمَدِيْنَةَ ، فَأَصَابَنِي مَرَضٌ حِيْنَ قَدِمْتُهَا شَهْراً ، وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أهْلِ الإفْكِ ، وَلاَ أشْعُرُ بشَيْءٍ مِنْ ذلِكَ ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزُورُنِي فِي وَجْهِي لاَ أرَى مِنْهُ اللُّطْفِ الَّذِي كُنْتُ أرَى مِنْهُ إذا مَرِضْتُ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ ، إنَّمَا كَانَ يَدْخُلُ فَيَقُولُ : " كَيْفَ تِيْكُمْ ؟ " فَذلِكَ يُحْزِنُنِي وَلاَ أشْعُرُ بالسِّرِّ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقْهْتُ.
فَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مْسطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهِيَ مُتَبَرَّزُنَا ، وَلاَ نَخْرُجُ إلاَّ مِنْ لَيْلٍ إلَى لَيْلٍ ، وَذلِكَ قَبْلَ أنْ نَتَّخِذ الْكْنُفَ ، وَأمْرُنَا أمْرُ الْعَرَب الأَوَّلِ فِي التَّبَرُّزِ. فَانْطَلَقْتُ أنَا وَأُمُّ مُسْطَحٍ - وَهِيَ عَاتِكَةُ بنْتُ رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمُّهَا بنْتُ صَخْرٍ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيْقُ ، وَابْنُهَا مِسْطَحْ بْنُ أثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب - فَأَقْبَلْنَا حَتَّى فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا ، فَبَيْنَمَا نَحْنُ فِي الطَّرِيْقِ عَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مُرْطِهَا فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٍ! فَقُلْتُ لَهَا : بئْسَ مَا قُلْتُ! أتَسُبيْنَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً ؟ قَالَتْ : أي هَنَتَاهُ ، أي أوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : وَمَاذا قالَ ؟ فَأْخْبَرَتْنِي بقَوْلِ أهْلِ الإفْكِ ، فَازْدَدْتُ مَرَضاً إلَى مَرَضِي.
(0/0)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } ؛ أي هَلاَّ إذْ سَمِعْتُمُوهُ أنَّها العُصبة الكاذبةُ ؛ أي هَلاَّ إْ سَمعتُم قذفَ عائشةَ بصفوان ، ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ من العُصبةِ الكاذبةِ يعني حَمْنَةَ بنْتَ جَحْشٍ وحَسَّانَ ومُسْطَحٍ بأنفُسِهم خَيراً. قال الحسنُ : (بأَهْلِ دِيْنِهِمْ لأَنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ). ألا ترَى ظنَّ المؤمنونَ الذي هُم كنفسٍ واحدة فيما جرَى عليها من الأمور بأنفسهم خيراً ، { وَقَالُواْ هَـاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } ؛ أي كَذِبٌ ظاهرٌ بَيِّنٌ.
ورُوي : أن المرادَ بهذه الآيةِ أبو أيُّوب الأنصاريُّ وامرأتهُ أُمُّ أيوب ، قَالَتْ : أمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ : بَلْ وَذلِكَ الْكَذِبُ الْبَيِّنُ ، أرَأيْتِ يَا أُمَّ أيُّوبَ كُنْتِ تَفْعَلِيْنَ ذلِكَ ؟ قَالَتْ : لاَ ؛ وَاللهِ مَا كُنْتُ أفْعَلُهُ ، قَالَ : فَعَائِشَةُ وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ ، سُبْحَانَ اللهِ! هَذا بُهْتَانٌ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. والمعنى : هلاَّ إذا سَمعتموهُ ظنَّ المؤمنونَ والمؤمناتُ بأنفسِهم خيراً كما فعلَ أبو أيُّوب وامرأتهُ قالاَ فيها خيراً.
(0/0)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ؛ أي هَلاَّ جاءَ العُصبة الكاذبةُ على قذفِهم عائشةَ بأربعةِ شُهَداءَ يشهدون بأنَّهم عايَنُوا منها ذلكَ ، { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ؛ أخبرَ اللهُ تعالى أنَّهم كاذبونَ في قذفِها ، يعني : إنَّهم كاذبونَ في الظاهرِ والباطن ، وكفَى بهذا براءةً لعائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، فمَن جَوَّزَ صِدْقُ أولئكَ في أمرِ عائشة صارَ كافراً باللهِ لا محالةَ ؛ لأنه رَدَّ شهادةَ اللهِ لَها بالبراءةِ.
(0/0)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ معناه : لولاَ مِنَّةُ اللهِ وإنعامه عليكم فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ بتأخيرِ العذاب عنكم ، وقَبُولِ التوبةِ لِمَنْ تابَ لَمَسَّكُمْ فيما خُضْتُمْ فيه من الإفْكِ عذابٌ عظيم هائلٌ في الدنيا والآخرة لا انقطاعَ له.
(0/0)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } ؛ قال الكلبيُّ : (وَذلِكَ أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ : بَلَغَنِي كَذا وَكَذا ، وَيَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّياً) ، قال الزجَّاج : (يُلْقِيَهُ بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ) ، { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ؛ ولا بيانٌ ولا حجَّة ، { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً } ؛ أي تظنُون أن ذلك القذفَ سهلٌ لا إثمَ فيه { وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ } ؛ في الوِزْر والعقوبةِ. قرأ أُبَيُّ : (إذْ تَتَلَقَّوْنَهُ) بتاءَين ، وقرأت عائشةُ (إذْ تَلِقُونَهُ) بكسرِ اللام وتخفيفِ القاف مِن الْوَلِق ، والوَلَقُ الكَذِبُ ، يقالُ : وَلَقَ فلانٌ إذا استمرَّ على الكذب ، ووَلَقَ فلانٌ السِّرَّ إذا استمرَّ بهِ.
(0/0)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـاذَا } ؛ معناه : هَلاَّ قُلْتُمْ حينَ سَمعتُم ذلكَ : لا يحلُّ لنا أن نتكلَّمَ بهذا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَكَ } ؛ أي تَنْزِيْهاً للهِ تعالى أن تكون امرأةُ نَبيِّهِ زانيةً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } ؛ أي كَذِبٌ ، يقالُ : بَهَتَهُ يَبْهَتُهُ بَهْتاً وبُهْتَاناً ؛ إذا أخبرَهُ بالكذب عليه.
(0/0)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
وقولهُ تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } ؛ أي يَنْهَاكُمُ اللهُ ويخوِّفُكم ويحرِّمُ عليكم أن تعودُوا لِمثل هذا القذفِ ، { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ؛ لأن قذفَ الْمُحصَنات لا يكونُ من صفاتِ المؤمنين ، وقولهُ تعالى { لِمِثْلِهِ } أي إلَى مِثْلِهِ. قولهُ تعالى : { وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ } ؛ أي الأمرَ والنهيَ ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بمقالة الكاذِبين في أمرِ عائشةَ ، { حَكِيمٌ } ؛ في ما شَرَّعَ من الأحكامِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ فيه بيانٌ على أن العزمَ على الفسقِ فسقٌ ، وأنَّ على الإنسانِ أن يحبَّ للناسِ ما يحبُّ لنفسهِ ، وأن يكونَ في قلبهِ سلامةٌ للمؤمنين ، كما يكونُ مأموراً بكفِّ اللسان والجوارحِ. ومعنى الآيةِ : إن الذين يُحِبُّونَ أن يَفْشُو ويظهرَ الزِّنا في الذينَ آمَنوا بأن يَنْسِبُوهُ إليهم ويقذِفُوهم به ، { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا } ؛ يعني الجلدَ ، { وَالآخِرَةِ } ؛ يعني عذابَ النار ، يريدُ بذلك المنافقينَ ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ } ؛ ما خُضْتُمْ فيه من الإفكِ ، وما فيه من سَخَطِ اللهِ ، { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ ذلكَ ، فَحَذرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جميعَ قاذِفِي عائشةَ.
(0/0)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ محذوفُ الجواب تقديرهُ : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } لَعَجَّلَ لكمُ العذابَ وعاقَبَكم في ما قُلْتُمْ في أمرِ عائشةَ ومحبَّتكم إشاعةَ الفاحشةِ فيها ، { وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } فلَمْ يُعاقِبْكم في ذلك. قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ مُسْطَحَ وَحَسَّانَ وَحَمْنَةَ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } ؛ أي لا تَسْلُكُوا طُرُقَ الشَّيطانِ ، ولا تعمَلُوا بتزْيينه ووَسْوَسَتِهِ في قذفِ عائشةَ ، { فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ } ؛ يأمرُ بعصيانِ الله وكلِّ ما يكرهُ اللهُ مما لا يُعْرَفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ. وَقِيْلَ : الفحشاءُ : القَبيْحُ من القولِ والعمل ، والمنكرُ : الفسادُ الذي يُنْكِرُ العقلُ صحَّتَهُ ويزجرُ عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } أي ما صَلُحَ منكم من أحدٍ أبداً. وَقِيْلَ : معناهُ : ما طَهُرَ منك أحدٌ يُذْنِبُ ولا صَلُحَ أمرهُ بعد الذي قالَ في عائشةَ ما قالَ ، ولا قَبلَ توبةَ أحدٍ منكم ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } ؛ أي يُطَهِّرُ مَن يشاءُ من الإثمِ بالرحمةِ والمغفرة ، فيوفِّقهُ للتوبةِ ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } ؛ أي سَمِيْعٌ لِمقالَتِكم ، { عَلِيمٌ } ؛ بما في نُفوسِكم من النَّدامةِ والتوبة. وَقِيْلَ : معناهُ : سَمِيْعٌ لِمقالة الخائضِين في أمرِ عائشةَ وصفوان ، عَلِيْمٌ ببَراءتِهمَا.
(0/0)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي لا يَخْلِفُ ذوُو الغِنَى والسَّعَةِ منكم أن يُعطوا ذوي القُربَى والمساكين والمهاجرينَ من مكَّة إلى المدينةِ. نَزَلَ ذلكَ في أبي بَكْرٍ رضي الله عنه حين بَلَغَهُ مقالةُ مُسْطَحٍ وأصحابه في خَوْضِهِمْ في أمر عائشةَ ، حَلَفَ باللهِ لاَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ.
قِيْلَ : إنَّهُ دَعَاهُ وَقَالَ لَهُ : (أغْدُوكَ يَا مِسْطَحُ بمَالِي وَتُؤْذِيْنِي فِي وَلَدِي ؟ وَاللهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْكَ). وكان مِسْطَحُ ابنَ أبي بكرٍ رضي الله عنه ، وكان مِسْطَحُ مِن المهاجرين البدريِّين. فلمَّا نزلت هذه الآيَةُ تَلاَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ : (بَلَى ؛ أُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي ، أُطِيْعُ رَبي وَأُرْغِمُ أنْفِي وَأرُدُّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ).
وقولهُ تعالى { أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى } معناهُ : أن لا يؤتُوا فحذفَ (لا). قال ابنُ عباس : (قَالَ اللهُ لأَبي بَكْرٍ رضي الله عنه : قَدْ جَعَلْتُ فِيْكَ يَا أبَا بَكْرٍ الْفَضْلَ وَالْمَعْرِفَةَ باللهِ وَصِلَةَ الرَّحِمِ ، وَجَعَلْتُ عِنْدَكَ السَّعَةَ فَأُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ ، فَلَهُ قَرَابَةٌ وَلَهُ هِجْرَةٌ وَلَهُ مَسْكَنَةٌ). وقولهُ تعالى : { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ قال مقاتلُ : " قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأَبي بَكْرٍ : " أمَا تُحِبُّ أنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكَ ؟ " قَالَ : بَلَى ، قَالَ : " فَاعْفُ وَاصْفَحْ " قَالَ : قَدْ عَفَوْتُ وَصَفَحْتُ ، لاَ أمْنَعُهُ مَعْرُوفِي بَعْدَ الْيَوْمِ أبَداً ، وَقَدْ جَعَلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ "
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ } ؛ معناهُ : إن الذينَ يقذِفُون العفائفَ الغافلاتِ عمَّا قُذِفْنَ بهِ كغَفْلَةِ عائشةَ عن ما قيلَ فيها ، { الْمُؤْمِناتِ } ، باللهِ ورسوله ، { لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ؛ أي عُذِّبُوا في الدُّنيا بالحدِّ ، وفي الآخرةِ بعذاب النار. وسُمِّيت عائشةُ غافلةً ؛ لأنَّها قُذِفَتْ بأمرٍ لَم يخطُرْ ببالِها ، فأصابَ كلُّ واحدٍ مِن قاذفيها ذاهبةً في الدُّنيا. أمَّا ابنُ أُبَيِّ فقد ماتَ كافراً ونَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ عليهِ ، وأما حَسَّانُ فقد دخلَ على عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهَا بعد ما ذهبَ بصرهُ في آخرِ عمره ، وأنشدَها في بيتِها : حَصَانٌ رزَانٌ مَا تُزَنَّ برِيْبَةٍ وَتَصْبحُ غَرْثى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِقَالَتْ : إنَّكَ لَسْتَ كَذلِكَ ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ، قِيْلَ لِعَائِشَةَ : إنَّ اللهَ وَعَدَهُمْ بعَذابٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ؟ فَقَالَتْ : أوَلَيْسْ : هَذا عَذابٌ ؟ َيَعْنِي ذهابَ بصرهِ.
واختلفَ المفسِّرون في هذه الآية { لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ فقال مقاتلُ : (هَذِهِ الآيَةُ خَاصَّةٌ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ وَرَمْيهِ عَائِشَةَ) ، وقال ابنُ جبير : (هَذا الْحُكْمُ خَاصَّةً فِيْمَنْ فَذفَ عَائِشَةَ ، فَمَنْ قَذفَهَا فَهُوَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ) ، وقال الضحَّاك والكلبيُّ : (هَذا فِي عَائِشَةَ وَفِي جَمِْيْعِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِيْنَ) ، قال ابنُ عبَّاس : (هَذِهِ الآيَةُ فِي شَأْنِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِيْنَ خَاصَّةً لَيْسَ فِيْهَا تَوْبَةٌ ، وَأمَّا مَنْ قَذفَ امْرَأةً مُؤْمِنَةً مِنْ غَيْرِهِنَّ ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُ تَوْبَةً). ثُمَّ قَرَأ{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ }[النور : 4] إلى قولهِ : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ }[النور : 5] ، قَالَ : (فَجَعَلَ اللهُ لِهَوُلاَءِ تَوْبَةً ، وَلَمْ يَجْعَلْ لأُوْلَئِكَ).
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " مَنْ أشَاعَ عَلَى رَجُلٍ كَلِمَةً فَاحِشَةً وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يُرِيْدُ أنْ يَسُبَّهُ بهَا فِي الدُّنْيَا ، كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَدُسَّهُ بهَا فِي النَّارِ. وَإيَّمَا رَجُلٍ جَاءَ فِي شَفَاعَةِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ لَعنَةُ اللهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
(0/0)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ } ؛ قال الكلبيُّ : (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ألْسِنَتُهُمْ بمَا تَكَلَّمُواْ بهِ مِنَ الْفِرْيَةِ فِي قَذْفِ عَائِشَةَ) { وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، قال ابنُ عبَّاس : (تَنْطِقُ بمَا عَمِلَتْ فِي الدُّنْيَا) ، وهذه عامَّةٌ في القاذفِين وغيرِهم. قرأ حمزةُ والكسائيُّ : (يَوْمَ يَشْهَدُ) بالياء لتقدُّمِ الفعلِ.
(0/0)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ } ؛ أي يُوَفِّيهنَّ جزاءَهم الواجبَ على قدرِ أعمالِهم ، { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ؛ أي ويعلمون يومئذٍ أنَّ الله تعالى هو الحقُّ الْمُبيْنُ ، يقضِي بحقٍّ ويأخذُ بحقٍّ ويعطي بحقٍّ.
قال ابنُ عباس : (وَذلِكَ أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ أُبَيَّ بْنَ سَلُولٍ كَانَ يَشُكُّ فِي الدِّيْنِ ، وَيَعْلَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبيْنُ). قرأ مجاهدُ : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهَمُ الْحَقُّ) برفعِ القاف على أنه نعتاً للهِ ، وتصديقهُ قراءةُ أُبَيٍّ (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الْحَقُّ دِيْنَهُمْ). وقولهُ تعالى { الْمُبِينُ } أي يُبَيِّنُ لَهم حقيقةَ ما كان بعدَهم في الدُّنيا.
(0/0)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ } ؛ معناه : الكلماتُ الخبيثات للخبيثينَ من الرِّجال ؛ أي لا يتكلمُ بالكلماتِ الخبيثات إلاّ الخبيثُ من الرجالِ والنساء. وَقِيْلَ : معناهُ : إن الخبيثَ مِن القولِ لا يليقُ إلاّ بالخبيثِ من الناس ، وكلُّ كلامٍ إنَّما يحسنُ في أهلهِ ، فيضافُ سَيِّءُ القولِ إلى مَن يليقُ به ذلك ، وكذلك الطيَّبُ من القولِ ، وعائشةُ لا يليقُ بها الخبيثاتُ ؛ لأنَّها طَيِّبَةٌ فيضافُ إليها طيِّباتُ الكلامِ من الثَّناءِ الحسنِ وما يليقُ بها.
وقال بعضُهم : معنى الآيةِ : الخبيثاتُ من النساءِ للخبيثينَ من الرِّجالِ ، والخبيثونَ من الرجالِ للخبيثاتِ من النساء للمشاكَلَةِ التي بينَهما ، والطيِّباتُ من النساءِ للطيِّبينَ من الرجالِ ، والطيِّبُونَ للطيِّبات من النساءِ. وفي هذا تَبْرِئَةُ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مِن أطيب الطيِّبين ، فلا يكونُ له إلاَّ امرأةٌ طيِّبةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } ؛ يعني أن الطيِّبين والطيبات مُبْرَّؤُنَ مما يقولُ الخبيثونَ ، والْمُبَرَّأُ هو الْمَنْفِيُّ عن صفةِ الْخُبْثِ ، والمرادُ به عائشةُ وصفوان ، فذكَرَهما بلفظِ الجماعة كما في قول تعالى{ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ }[النساء : 11] والمراد أخَوَانِ. وقولهُ تعالى { مُبَرَّءُونَ } أي مُنَزَّهُونَ. وقولهُ تعالى : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } ؛ أي لَهم مغفرةٌ لذنوبهم وثوابٌ حَسَنٌ بإلْحَاقِهِمْ في الجنَّة من الأذِيَّةِ.
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : (لَقَدْ أُعْطِيْتُ تِسْعاَ لَمْ يُعْطَهُنَّ امْرَأةٌ : نَزَلَ جِبْرِيْلُ بصُورَتِي فِي رَاحَتِهِ حِيْنَ أمَرَ النِّبيَّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَتَزَوَّجَنِي ، وَلَقَدْ تَزَوَّجَنِي بكْراً وَمَا تَزَوَّجَ بكْراً غَيْرِي ، وَلَقَدْ قُبضَ وَرَأسُهُ فِي جِحْرِي ، وَلَقَدْ قُبرَ فِي بَيْتِي ، وَلَقَدْ حَفَّتِ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتِي ، وَلَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ إذا نَزَلَ عَلَيْهِ تَفَرَّقْنَ عَنْهُ ، وَكَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَأنَا مَعَهُ فِي لِحَافِهِ ، وَإنِّي لابْنَةُ خَلِيْفَتِهِ وَصَدِيقهِ ، وَلَقَدْ نَزَلَ عُذْرِي مِنَ السَّمَاءِ ، وَلَقَدْ خُلِقْتُ طَيِّبَةً لِعَبْدٍ طَيِّبٍ ، وَلَقَدْ وُعِدْتُ مَغْفِرَةً وَرِزْقاً كَرِيْماً).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا } ؛ في الآيةِ أمرٌ بالتَّحَفُّظِ عن الهجومِ عن ما لا يُؤْمَنُ من العوراتِ ، وإلى هذا " أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم حيث قالَ للرَّجُلِ الذي قالَ لهُ : أسْتَأْذِنُ عَلَى أخَوَاتِي ؟ قَالَ : " إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنُ رَأيْتَ مِنْهَا مَا تَكْرَهُ " أيْ ربَّما تدخلُ عليها وهي منكشفَةٌ فترى ما تكرهُ. ومعنى قولهِ تعالى { حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ } أي حتى تَسْتَأْذِنُّوا ، والاسْتِئْنَاسُ هو الاسْتِعْلاَمُ ليعلمَ مَن في الدارِ ، وذلك يكون بقَرْعِ الباب والتَّنَحْنُحِ وخَفْقِ النَّعْلِ.
وكان أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابن عباس والأعمشُ يقرأونَها (حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أهْلِهَا). وَقِيْلَ : إن في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ تقديرهُ : حتى تُسَلِّمُوا على أهلِها وتَسْتَأْذِنُوا ، وهو أنْ يقولَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ؟.
ورُوي أنَّ " أعرابياً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : ألِجُ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِخَادِمَةٍ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةٌ : " قُومِي إلَى هَذا فَعَلِّمِيْهِ ، فَإنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يَسْتَأْذِنُ ، قُولِي لَهُ : تَقُولُ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ أدْخُلُ ؟ ".
وعن زينبَ امرأةِ ابن مسعود قالت : (كَانَ عَبْدُاللهِ إذا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ فَانْتَهَى إلَى الْبَاب تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ ؛ كَرَاهَةَ أنْ يَهْجُمَ عَلَيْنَا وَيَرَى أمْراً يَكْرَهُهُ). وعن أبي أيُّوب قالَ : (يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بالتَّكْبيْرَةِ وَالتَّسْبيْحَةِ وَالتَّحْمِيْدَةِ ، وَيَتَنَحْنَحُ يُؤْذِنُ أهْلَ الْبَيْتِ).
ويُروى أنَّ أبَا مُوسَى الأَشْعَرِيَّ رضي الله عنه أتَى إلَى مَنْزِلِ عُمَرَ رضي الله عنه فَقَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا عَبْدُاللهِ بْنُ قَيْسٍ ؛ هَلْ أدْخُلُ ؟ فَلَمْ يُؤْذنْ لَهُ ، ثُمَّ قَالَ : السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ؛ هَذا أبُو مُوسَى. فَلَمْ يُؤْذنَ لَهُ ، فَذهَبَ فَوَجَّهَ عُمَرُ بَعْدَهُ مَنْ يَرُدُّهُ ، فَسَأَلَهُ عَمَّا مَنَعَهُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " الاسْتِئْذانُ ثَلاَثٌ ، فَإنْ أُذِنَ لَكَ وَإلاَّ فَارْجِعْ ". فَقَالَ : عُمَرُ رضي الله عنه : لَتَأْتِيَنِّي بالْبَيِّنَةِ وَإلاَّ عَاقَبْتُكَ! فَانْطَلَقَ أبُو مُوسَى وَأتَى بأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأبي سَعِيْدٍ الْخُدْريِّ فَشَهدَا بذلِكَ ، وَقَالَ لَهُ : إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ذلِكَ ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ عَذاباً عَلَى أصْحَاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ : وَمَا فَعَلْتُ؟! إنَّمَا أنَا سَمِعْتُ بشَيْءٍ فَأَحْبَبْتُ أنْ أتَثَبَّتَ.
ورُوي " أنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : أأسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : لَيْسَ لَهَا خَادِمٌ غَيْرِي ، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا كُلَّمَا دَخَلْتُ ؟ قَالَ : " أتُحِبُّ أنْ تَرَاهَا وَهِيَ عَرْيَانَةٌ ؟ " قَالَ : لاَ ، قَالَ : " فَاسْتَأْذِنْ ".
وَعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بغَيْرِ إذْنِهِمْ ؛ حَلَّ لَهُمْ أنْ يَفْقَأُواْ عَيْنَهُ ". وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم
(0/0)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ عن النظرِ إلى ما لا يحلُّ لَهم. واختلفوا في قولهِ تعالى { مِنْ أَبْصَارِهِمْ } فقال بعضُهم : هي صِلَةُ يغضُّوا أبصارَهم. وقال بعضُهم : هي ثابتةٌ في الحكمِ ؛ لأن المؤمنين غيرُ مأمورين بغضِّ البصرِ أصلاً وإنَّما أُمِرُوا بالغضِّ عمَّا لا يحلُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } ؛ يعني عن الحرامِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " اضْمَنُوا لِي شَيْئاً مِنْ أنْفُسِكُمْ أضْمَنُ لَكُمُ الْجَنَّةَ : اصْدُقُوا إذا حَدَّثْتُمْ ، وَأوْفُوا إذا وَعَدْتُمْ ، وَأدُّواْ إذا اؤْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُواْ فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّواْ أبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّواْ أيْدِيَكُمْ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " النَّظَرُ إلَى مَحَاسِنِ الْمَرْأةِ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيْسَ ، فَمَنْ رَدَّ بَصَرَهُ ابْتِغَاءَ ثَوَاب اللهِ أبْدَلَهُ اللهُ بذلِكَ مَا يَسُرُّهُ ". وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ } ؛ أي أطهرُ وأصلحُ عندَ الله ، { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ؛ في الفُروجِ والأبصارِ.
(0/0)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } ؛ أي قُلْ لَهُنَّ يَكْفُفْنَ أبصارَهن عن ما لا يجوزُ ، { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } ؛ عن الحرامِ. وَقِيْلَ : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أي يَسْتَتِرْنَ حتى لا يرَى فروجهن أحدٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } ؛ أي لا يُبدينَ مواضعَ زينتِهنَّ إلاّ ما ظهرَ من موضعِ الزِّينة. والزِّيْنَةُ زينَتَانِ : ظَاهِرَةٌ وباطنةٌ ، فالباطنةُ : الْمَخَانِقُ وَالْمَعَاضِدُ وَالْقِلاَدَةُ وَالْخِلْخَالُ وَالسِّوارُ وَالْقِرْطُ وَالْمَعَاصِمُ. وأما الزينةُ الظاهرةُ : الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْخِضَابُ ، فليس على المرأةِ بحُكْمٍ إلاّ هذا بهِ سَتْرُ وجهِها وكفَّيها في الصلاة.
وفي غيرِ الصلاة يجوزُ للأجانب من الرِّجال النظرُ إلى وجهِها لغيرِ الشَّهوةِ. فأما النظرُ مع الشهوةِ فلا يجوزُ إلاّ في أربعةِ مواضع : إذا أرادَ أن يتزوَّج امرأةً ، أو يشتريَ جاريةً ، أو يتحمَّلَ الشهادةَ لَها أو عليها ، أو القاضي يقضي لَها أو عليها.
وعن ابنِ مسعودٍ : (أنَّ الزِّيْنَةَ الظَّاهِرَةَ : هِيَ الْجِلْبَابُ وَالْمِلاَءَةِ) يَعْنِي الثِّيَابَ لقولهِ{ خُذُواْ زِينَتَكُمْ }[الأعراف : 31] أي ثيابَكم. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ إذا عَرَكَتْ أنْ تُظْهِرَ إلاَّ وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا وَإلَى هَا هُنَا وَقَبَضَ عَلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ } ؛ الْخُمُرُ : جَمْعُ خِمَارٍ ؛ وهُوَ مَا تُغَطِّي بهِ المرأةُ رأسَها ، والمعنى : وَلْيُلْقِيْنَ مَقَانِعَهُنَّ على جيوبهنَّ وصُدورِهن ليَسْتُرْنَ بذلك شُعورَهن ومُرُوطَهن وأعناقَهن ونحورَهن ، كما قال ابنُ عباس : (تُغَطِّي الْمَرْأةُ شَعْرَهَا وَصَدْرَهَا وَتِرَابَهَا وَسَوَالِفَهَا) لأن المرأةَ اذا أسْدَلَتْ خِمارَها انكشفَ ما قدَّامها وما خلفها فوقعَ الاطلاعُ عليها. والجيوبُ : جمعُ جَيْبٍ وهو جيبُ القميصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } ؛ أرادَ به موضعَ الزينةِ الباطنة التي لا يجوزُ كشفُها في الصَّلاةِ ، والمعنى : لا يُظْهِرْنَ موضعَ الزينة التي تكون تحتَ خُمُرِهِنَّ إلاّ لأزواجهِنَّ ، { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } أي لأزواجِهنَّ ، { أَوْ إِخْوَانِهِنَّ } ؛ في النَّسب أو الرَّضاعِ { أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } ؛ وكلِّ ذِي رحمٍ مَحْرَمٍ منهُنَّ ، { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } ؛ يعني نساء أهلِ دِينهنَّ وهُنَّ المسلماتُ ، ولا يحلُّ لِمسلمةٍ أن تنكشفَ بين يدَي يهوديَّة أو نصرانيةٍ أو مجوسية أو مشركة. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك العفائفُ مِن النساءِ اللائي يكن اشكالاً لهن.
ولا ينبغِي للمرأة الصالحةِ أن تنظرَ إلى المرأةِ الفاجرة ؛ لأنَّها تَصِفُها عند الرجلِ ، ولا تضعَ جلبَابَها ولا خِمارَها عندها ، ولا يحلُّ لامراة مؤمنةٍ أن تنكشفَ أيضاً عند مُشركةٍ أو كتابية إلاّ أن تكون أمَةً لَها ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } ؛ ورُوي أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَتَبَ إلَى أبي عُبَيْدَةَ : (أمَّا بَعْدُ : فَقَدْ بَلَغَنِي أنَّ نِسَاءَكُمْ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَهُنَ نِسَاءُ أهْلِ الْكِتَاب ، فَامْنَعْ مِنْ ذلِكَ).
(0/0)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ } ؛ أي تزوَّجُوهم ، والأيْمُ اسمُ المرأةِ التي لا زوجَ لَها ، والرجلُ الذي لا امرأةَ له ، يقال : رجلٌ أيْمٌ وامرأة أيْمٌ ، كما يقالُ : رجل بكْرٌ وامرأة بكْرٌ ، وقال الشاعرُ : فَإنْ تَنْكِحِي أنْكَحْ وَإنْ تَتَأَيَّمِي أكُنْ مَدَى الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكَحِي أتَأيَّمِويقالُ : الأيْمُ في النِّساء كالعُزْب في الرِّجال ، وجمعُ الأيْمِ الأيَامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } ؛ أي وزوِّجُوا عبيدَكم وإمائَكم ، وهذا أمرُ ترغيبٍ واستحباب. وفائدةُ ذِكر الصالحين : أن المقصودَ من النكاحِ العفافُ ، والصالِحُ هو الذي يتعفَّفُ. وَقِيْلَ : الصلاحُ ها هنا الإيْمانُ ، ثُم رجعَ إلى الأحرار فقالَ : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ؛ فيه حثٌّ على النكاحِ ؛ لئلا يَمتنِعُوا منه بسبب الفقر ، فإن اللهَ هو الغنيُّ والْمُغْنِي ، إن يكونوا فقراءَ لا سَعَةَ لَهم في التزويجِ { يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } أي يَوَسِّعُ عليهم عند التزوُّجِ.
واختلَفُوا في الآيةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ } الآيةُ ؛ فقال بعضُهم : هذا الأمرُ على الْحَتْمِ والإيجاب ، أوجبَ اللهُ النكاحَ على مَن استطاعَهُ ، وتأوَّلَهُ الباقونَ على أنه أمرُ استحبابٍ ونَدْبٍ ، وهو المشهورُ الذي عليه الجمهور.
وَقِيْلَ : يجبُ على المرأةِ والرجل أن يتزوَّجَا إذا تاقت أنفسُهما إليه ؛ لأن اللهَ تعالى أمَرَ به ورَضِيَهُ وندبَ إليه ، وبَلَغْنَا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " تَنَاكَحُواْ ؛ فَإنِّي أُبَاهِي بكُمُ الأُمَمَ حَتَّى السَّقْطَ ". وقالَ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بسُنَّتِي " وهو النكاحُ ؛ لأنه ينتفعُ بدعاءِ ولده بعدَهُ ، ومن لَم تَتُقْ نفسهُ إليه فأحبُّ إلينا أن يتخَلَّى لعبادةِ الله.
وعن أبي نَجِيْحٍ السلميِّ ؛ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " مَنْ كَانَ لَهُ مَا يَتَزَوَّجُ بهِ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَيْسَ مِنَّا " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أدْرَكَ وَلَداً وَعِنْدَهُ مَا يُزَوِّجُهُ فَلَمْ يُزَوِّجْهُ فَأَحْدَثَ إثْماً فَالإثْمُ بَيْنَهُمَا " وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا تَزَوَّجَ أحَدُكُمْ عَجَّ الشَّيْطَانُ " تأويلهُ : غَنِمَ ابنُ آدمَ مني ثُلثي دينه. وقال صلى الله عليه وسلم : " مِسْكِيْنٌ مِسْكِيْنٌ رَجُلٌ لَيْسَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ، مِسْكِيْنَةٌ مِسْكِيْنَةٌ امْرَأةٌ لَيْسَ لَهَا زَوْجٌ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ! وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ ؟ قَالَ : " وَإنْ كَانَتْ غَنِيَّةً مِنَ الْمَالِ " وَقَالَ : " شِرَارُكُمْ عُزَّابُكُمْ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " أرْبَعَةٌ يَلْعَنُهُمُ اللهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ : رَجُلٌ يَخْصِي نَفْسَهُ عَنِ النِّسَاءِ فَلا يَتَزَوَّجُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذلِكَ ، وَلاَ يَتَسَرَّى خِشْيَةَ أنْ يُولَدَ لَهُ ، وَرَجُلٌ تَشَبَّهَ بالنِّسَاءِ ، وَامْرَأةٌ تَشَبَّهَتْ بالرِّجَالِ ، وَرَجُلٌ يَتَهَزَّأُ بالْمَسَاكِيْنَ يَقُولُ لَهُمْ : تَعَالَواْ حَتَّى أُعْطِيَكُمْ ، فَإذا جَاءُواْ قَالَ لَهُمْ : لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ ، وَيَقُولُ لِلأَعْمَى : احْذر الْحَجَرَ قِبَلَكَ ، وَاحْذرِ الدَّابَّةَ ، وَلَيْسَ قِبَلَهُ شَيءٌ ".
(0/0)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ؛ أي ليطلبَ الذين لا يجدونَ نكاحاً العِفَّةَ عن الزنا والحرام ، والمعنى : مَن لَم يجد سَعَةً للنكاحِ من مهرٍ ونفقة ، ولا يجدُ شيئاً يشتري به أمَةً فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الزِّنا حتى يجدَ ما يكفيهِ ، كذلك وفي هذا بيانٌ أنه لا عُذْرَ لأحدٍ في السِّفاحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } ؛ معناهُ الذين يطلبون الْمَكَاتَبَةَ من عبيدِكم وإمائكم ، { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } ؛ رُشداً وصَالاحاً وصِدقاً ووفاءً وأمانةً وقدرة على الْمَكْسَب ، وهذا أمرُ استحبابٍ في العبدِ الذي يقدرُ على الاكتساب وترغيبٍ في الكتابةِ. فأما الذي لا يقدرُ على الكسب ولا يرغبُ في الكتابة ، فلا يكون في كتابتهِ إلاّ قطعُ حقِّ المولَى عنه من غيرِ نفع يرجعُ إليه. ومعنى الكتابةِ : أن يُكَتِبَ مملوكَهُ على مالٍ سَلَّمَهُ إليه نُجوماً فيُعْتَقُ بأدائهِ ، وإن كانت الكتابةُ حالَّةً جازت عند أبي حنيفةَ وأصحابهِ ، والشافعي لا يُجَوِّزُ إلاّ مُنجَّماً ، وأقلُّهُ نَجمان فصاعداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } ؛ اختلَفُوا في معنى ذلكَ ، فرُويَ عن عليٍّ رضي الله عنهُ أنهُ قالَ : (يُحَطُّ عَنِ الْمُكَاتَب رُبُعُ مَالِ الْكِتَابةِ). وعن ابن عباس : (يُحَطُّ عَنْهُ شَيْءٌ) ، وعن عبدِالله بن يزيدِ الأنصاريِّ أنه قالَ : (هَذا خِطَابٌ لِلأئِمَّةِ أنْ يُسَلِّمُوا إلَى الْمُكَاتَبيْنَ مَا فَرَضَ اللهُ لَهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَفِي الرِّقَابِ }[البقرة : 177] وهذا أقربُ إلى ظاهرِ الآية ، لأن الإتْيَانَ في اللغة هو الإعْطَاءُ دونَ الْحَطِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بنِ أُبَيِّ سَلُولَ ، كَانَتْ لَهُ جَوَارٍ حِسَانٌ : مِسْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَمَقَارَةُ ، كَانَ يُكْرِهُهنَّ عَلَى الزِّنَا لِيَكْتَسِبْنَ لَهُ بالْفُجُورِ ، وَكَذلِكَ كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ، فَأَتَتِ الْجَوَارِي إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَشْكُونَ إلَيْهِ ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قال مقاتلُ : (نَزَلَتْ فِي سِتِّ جَوَارٍ لِعَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيِّ سلول : مَعاذةُ وَمُسَيْكَةُ وَأُمَيْمَةُ وَعَمْرَةُ وَقُتَيْلَةُ وَأرْوَى ، فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُنَّ ذاتَ يَوْمٍ بدِيْنَارٍ ، وَجَاءَتْ أُخْرَى ببُرْدَةٍ ، فَقَالَ لَهُمَا : ارْجِعَا فَازْنِيَا ، وَكَانَ يُؤَجِّرُهُنَّ عَلَى الزِّنَا ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ قَالَتْ مَعَاذةُ لِمُسَيْكَةَ : إنَّ هَذا الأَمْرَ الَّذِي نَحْنُ فِيْهِ قَدْ آنَ لَنَا أنْ نَدَعَهُ ، فَقَالَ لَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ : إمْضَيَا فَازْنِيَا. فَقَالَتَا : وَاللهِ مَا نَفْعَلُ ذلِكَ قَدْ جَاءَ اللهُ بالإسْلاَمِ وَحَرَّمَ الزِّنا. ثم مَضَيَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَشَكَيَا عَلَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : ولا تُكْرِهُوا إمَاءَكم على البغَاءِ ؛ أي على الزِّنا ، { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ مِن كَسْبهِنَّ وبيعِ أولادِهن.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } يعني إذا أرَدْنَ تَحَصُّناً ، خرجَ الكلامُ على وجهِ الحال لا على وجه الشَّرطِ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
(0/0)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } ؛ أي أنزَلْنَا إليكم القُرْآنَ آياتٍ ظاهرات واضحات لتعملوا بها. وَقِيْلَ : يعني بذلكَ ما ذكَرَ في هذه السُّورة من الحلالِ والحرام. وقولهُ تعالى : { وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ } ؛ أي وأنزلَ فيها مَثَلاً ؛ أي خَبَراً مِن خَبَرِ الذين مَضَوا من قبلِكم لتعتَبروا ، { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } ؛ عن الشِّركِ والفواحشِ.
(0/0)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي اللهُ هادِي أهلِ السَّموات وأهلِ الأرض بالآياتِ المبيِّنات ، لا هاديَ فيهما غيرهُ ، فبنُورهِ الخلقُ يهتدونَ ، وبهداهُ من الضَّلالةِ يَنْجُونَ ، فلا يهتدي مَلَكٌ مقرَّبٌ ولا نبيٌّ مرسل إلاّ بهداهُ.
وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ اللهُ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : اللهُ مُدَبرُ الأُمُورِ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، وقال الحسنُ وأبو العاليةِ : (اللهُ مُزَيِّنُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ) ، يعني مُزَيِّنُ السَّموات بالشمسِ والقمر والنُّجومِ ، ومُزيِّنُ الأرضِ بالأنبياء والعُلماء والمؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَثَلُ نُورِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَثَلُ نُورهِ الَّذِي أعْطَاهُ الْمُؤْمِنِيْنَ) ، وقال السديُّ : (مَثَلُ نُورهِ الَّذِي فِي قَلْب الْمُؤْمِنِ) ، وكان أُبَيُّ يقرأُ (مَثَلُ نُور الْمُؤْمِنِيْنَ). وَقِيْلَ : كان يقرأ (مَثَلُ نُور مَنْ آمَنَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } ؛ الْمِشْكَاةُ في لغة الحبشة : كُوَّةٌ غَيْرُ نَافِذةٍ ، والمصباحُ : هو السِّرَاجُ في القِنْدِيْلِ من الزُّجَاجِ الصَّافِيَةِ. وَقِيْلَ : الْمِشْكَاةُ : عَمُودُ الْقِنْدِيْلِ الذي فيه الفَتِيْلَةُ. وقال مجاهدُ : (هِيَ الْقِنْدِيْلُ) ، قال الزجَّاج : (النُّورُ فِي الزُّجَاجِ ، وَضَوءُ النَّارِ أبَيْنُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَضَوْؤُهُ يَزِيْدُ فِي الزُّجَاجِ وَيَتَضَاعَفُ حَتَّى يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يُقَابلُهُ مِثْلُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } أي سِرَاجٌ ، وأصلهُ من الضَّوءِ ، ومن ذلك الصُّبْحُ ، ورجلٌ صَبيْحُ الوجهِ إذا كان وَضِيئاً ، وفرَّقَ قومٌ بين المصباحِ والسِّراج ؛ فقالوا : المصباحُ دونَ السِّراج ، والسراجُ أعظمُ من المصباحِ ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى الشمسَ سِرَاجاً ، وقال في غيرِها من الكواكب{ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ }[الملك : 5].
ثُم وصفَ اللهُ الزجاجةَ التي فيها المصباحِ ؛ فقالَ : { الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } ؛ شبَّهَ القنديلَ الذي يكونُ فيه السِّراجُ بالكوكب الدُّرِّيِّ ؛ وهو النجمُ الْمُضِيْءُ ، ودَرَاري النُّجومِ كبارُها ، وقولهُ { دُرِّيٌّ } نسبةً إلى أنه كالدُّرِّ في صفائهِ وحُسْنِهِ ، كأنَّ الكوكب دُرَّةٌ بيضاءُ.
قرأ أبو عمرٍو والكسائيُّ : (دِرِّئٌ) بكسرِ الدال مهموزٌ مَمدود ؛ وهو فِعِّيْلٌ من الدَّرْءِ بمعنى الدَّفعِ ، يقالُ : دَرَءَ يَدْرَأ إذا دَفَعَ ، فكأنه تَلأْلُؤٌ يدفعُ أبصارَ الناظرين إليه. ويقالُ : كأنه رَجَمَ به الشياطينَ فدرأهُم ؛ أي دفَعَهم بسرعةٍ في الانقضاضِ ، وذلك أضْوَءُ ما يكونُ.
وقرأ حمزةُ وأبو بكر : مضمومةُ الدالِ مهموزٌ مَمدود ، قال أكثرُ النُّحاة : هو لَحْنٌ ؛ لأنه ليسَ في كلامِ العرب ، فقيل بضمِّ الفاء وكسر العينِ ، وأنكرَهُ الفرَّاءُ والزجَّاج وأبو العباسِ ، وقال : (هَذا غَلَطٌ ؛ لأنَّهُ لَيْسَ فِي كَلاَمِ الْعَرَب شَيْءٌ عَلَى هَذا الْوَزْنِ). وقرأ الباقون بضمِّ الدالِ وتشديد الياءِ من غير همزٍ ، فنسبوهُ إلى الدُّرِّ في صفائه وبَهائهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } ؛ فيه أربعُ قراءاتٍ ، قرأ نافع وابن عامر : بياءٍ مضمومة يعنونَ المصباحَ ، وقرأ حمزةُ والكسائي وخلف : بتاءٍ مضمومة يعنون الزُّجاجةَ ، وقرأ أبو عمرٍو : (تَوَقَّدَ) بالتاء وفتحها وفتح الواو مشدَّدة بمعنى الماضِي ، وقرأ ابنُ محيصن : بتاءٍ مفتوحة وتشديد القاف مثل قراءةِ أبي عمرٍو إلاّ أنه رفعَ الدالَ بمعنى الفعلِ المستقبل بمعنى : تتوقَّدُ الزجاجةُ.
(0/0)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } ؛ يعني ذلك المصباحَ في بُيُوتٍ ، قِيْلَ : معناهُ : تُوقَدُ في بيوتٍ وهي المساجدُ ، أذِنَ اللهُ في رفعِها ؛ أي رَفْعِ بنائها كما قال تعالى{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ }[البقرة : 127] ، ويستدلُّ مِن هذه الآيةِ أن لا يؤذنَ في رفعِ شيء من الأبنية فوقَ الحاجة غيرَ المساجد التي يُصَلِّي فيها المؤمنونَ ، ويستضيءُ بنور قناديلها العابدونَ. وقال الحسنُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ } أيْ تُعَظَّمَ وَتُصَانَ عَنِ الأَنْجَاسِ وَاللَّغْوِ مِنَ الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ وَعَنِ التَّكَلُّمِ بالْخَنَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } ؛ وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " جَنِّبُواْ مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِيْنَكُمْ ؛ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ ؛ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَإقَامَةَ حُدُودِكُمْ ؛ وَجَمِّرُوهَا فِي الْجَمعِ ، وَاجْعَلُواْ عَلَى أبْوَابهَا الْمَطَاهِرَ ". قال ابنُ عبَّاس : (الْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الأَرْضِ ، وَهِيَ تُضِيْءُ لأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا تُضِيْءُ النُّجُومُ لأَهْلِ الأَرْضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } أي ويُذْكَرُ في المساجدِ اسمُ الله تعالى وتوحيدهُ.
وقولهُ تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا } ؛ أي يُصَلِّي للهِ تعالى في تلك البيوتِ الصلاةَ المفروضةَ ، { بِالْغُدُوِّ } ؛ أي صلاة الغداة ، وقولهُ تعالى { وَالآصَالِ } ، يعني العَشِيَّاتِ ، والأصِيلُ ما بين العصرِ إلى الليلِ ، وسُميت الصلاةُ تَسبيحاً لاختصاصها بالتسبيحِ. وقرأ ابنُ عامر : (يُسَبَّحُ) بفتحِ الباء على ما لَم يسمَّ فاعلهُ.
ثُم فسَّرَ مَن يُصلي فقال : { رِجَالٌ } ؛ كأنه قالَ : مَن يُسَبِّحُ ؟ فقيلَ : رجَالٌ { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَـاةِ } ؛ أي لا تشغَلُهم تجارةٌ ، ولا بَيْعٌ عن طاعةِ الله ، وعن إقامةِ الصَّلاة في البيوتِ ، وعن إعطاءِ الزكاة.
قال الفرَّاءُ : (التِّجَارَةُ لأَهْلِ الْجَلْب ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى يَدَيْهِ) وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هُنَا بالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْمَبيْعِ بَعْدَهَا. والمعنى : لا يَمنعُهم ذلك عن حضور المساجد لإقامةِ الصلاة وإتْمَامِها ، وإذا حضرَ وقتُ الزكاةِ لَم يحبسُوها عن وقتِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } ؛ أي يفعلون ذلك خَوْفاً من يومٍ تَرْجِفُ فيه القلوبُ ، وتدورُ حُدَقُ العيونِ حالاً بعد حالٍ من الفَزَعِ والخوفِ رجاءَ أن { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } ؛ فِي دارِ الدُّنيا ، { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ؛ بغيرِ استحقاقٍ ، { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ؛ أي بغيرِ حَصْرٍ ولا نِهايةٍ.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
قولهُ : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } ؛ معناهُ : أن أعمالَ الكُفَّارِ قد أُحبطُوا بكفرِهم ، كسَرَابٍ بأرضٍ مُستوية ملساءَ ، يظنُّهُ العطشانُ ماءً يرجُو به النجاةَ ، حتى إذا جاءَ السرابَ ليشربَ لَم يجدْهُ ماء ، بل رأى أرضاً بيضاءَ لا ماء فيها فيَئِسَ وتحيَّرَ ، كذلكَ الكافرُ في عملهِ ييأسُ في الآخرة عن عمله الذي كان يعتقدهُ يبرئ ، يتقطَّعُ عنه طمعهُ عند شدَّةِ حاجته إليه ، ثم يجدُ عند ذلك من العقاب كما قال تعالى : { وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ } ؛ أي عند عملهِ ، يعني : قَدِمَ على اللهِ ، { فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } ؛ أي جَازَاهُ بعملهِ. والسَّرَابُ : هو الشعاعُ الذي يتراءَى للعين وقتَ الهاجرةِ في الفَلَوَاتِ ، يُرَى من بعيدٍ كأنه ماءٌ وليس بماء. والبقِيْعَةُ : جمعُ بقَاعٍ ، والقِيْعَةُ جمعُ قَاعٍ ، نحوُ جَارٍ وجِيرَةٍ ، وهو ما انبسطَ من الأرضِ وفيه يكون السَّرابُ.
وَقِيْلَ : معناهُ : أنَّ الكافرَ يحسَبُ أن عملَهُ يُغنِي عنه وينفعهُ ، فإذا أتاه الموتُ واحتاجَ إلى عملهِ لَم يجدْهُ شَيْئاً ؛ أي لا منفعةَ فيهِ ووَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ بالمرصادِ عندَ ذلك فوفَّاهُ جزاءَ عملهِ ، { وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ؛ أي سريعٌ حِسَابُهُ كلَمْحِ البصرِ أو أقلَّ ؛ لأنه تَعَالَى لا يتكلمُ بآلةٍ حتى يشغلَهُ سَمعٌ عن سَمعٍ. وسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه : كيفَ يُحَاسِبُهُمْ في حالةٍ واحدة ؟ فَقَالَ : (كَمَا رَزَقَكُمْ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ).
(0/0)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ } ؛ هذا تخير في المثلِ ، والمعنى : أن مَثَلَ أعمالِ الكفار أيضاً في الدُّنيا ، ومثلَ قلوبهم في حياتِهم الدُّنيا كمثلِ ظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ؛ أي عميقٍ كثير الماء يعلوهُ موجٌ ومن فوق ذلك الموجِ الأعلى سحابٌ.
وهذا حدُّ الكلام ، ثُم ايتدأ فقال : { ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ } ، أرادَ به ظلمةَ البحرِ وظُلمةَ الموجِ الأدنى وظلمةَ الموجِ الأعلى وظلمةَ السَّحاب وظلمة الليلِ. قال المفسِّرون : أرادَ بالظُّلماتِ أعمالَ الكفارِ ، وبالبحرِ اللُّجِّيِّ قلبَ الكافرِ ، وبالموجِ ما يغشَى عليه من الجهلِ والشكِّ والحيرة ، وبالسَّحاب الدِّينَ والختمَ والطبعَ على قلبهِ.
قال أُبَيُّ بنُ كعبٍ في هذه الآية : (الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ : فَكَلاَمُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَقَلْبُهُ ظُلْمَةٌ ؛ وَمَصِيْرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى ظُلْمَةٍ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً }[الحديد : 13].
وقولهُ تعالى : { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } ؛ أي إذا أخرجَ يَدَهُ من هذه الظُّلمات لَم يرَها ولَم يُقَارِبْ أن يرَاها من شدَّةِ الظلماتِ ، فكذلك الكافرُ لا يُبْصِرُ الحقَّ والهدى. وقولهُ تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } ؛ أي مَن لَم يهدهِ اللهُ فما له من إيْمَانٍ ، ومَن لَم يجعلِ اللهُ له نوراً في الدُّنيا ، فما له من نورٍ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَنِي مِنْ نُورهِ ، وَخَلَقَ أبَا بَكْرٍ مِنْ نُورِي ، وَخَلَقَ وَخَلَقَ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِنْ نُورِ أبي بَكْرٍ ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنِيْنَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُورِ عُمَرَ ، وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ أُمَّتِي مِنْ نُور عَائِشَةَ. فَمَنْ لَمْ يُحِبَّنِي وَيُحِبَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَائِشَةَ ؛ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ".
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ } ؛ معناهُ : ألَمْ تعلَمْ ؛ { أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ } ؛ أي يُنَزِّهُهُ ؛ { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } مِن العُقَلاَءِ وغيرِهم ، وكَنَّى عن الجميعِ بكلمة (مَنْ) تغليباً للعقلاءِ على غيرِهم. وَقِيْلَ : أرادَ بالآيةِ العقلاءَ ، وهذا عمومٌ أرادَ به الخصوصَ في أهلِ الأرض وهم المؤمنونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ } ؛ أي ويسبحُ له الطيرُ باسطاتٍ أجنِحَتِها في الهواءِ ، والبَسْطُ في اللغة : الصَّفُّ ، والصَّفُّ في اللغة هو البَسْطُ ، ويسمَّى القَدِيْدُ صَفِيْفاً لأنه يُبْسَطُ. وخصَّ الطيرَ بالذِّكرِ من جُملةِ الحيوان ؛ لأنَّها تكون بين السَّماء والأرضِ ، وهي خارجةٌ عن جُملة مَن في السَّمواتِ والأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلٌّ } ؛ أي كلٌّ مِن هؤلاء ، { قَدْ عَلِمَ } ؛ اللهُ ؛ { صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ }. قال المفسِّرون : الصلاةُ لبني آدمَ ، والتسبيحُ عامٌّ لِما سواهم من الخلقِ. وفيه وجوهٌ مِن التأويلِ :
أحدُها : كلُّ مُصَلٍّ ومُسَبحٍ قد عَلِمَ اللهُ تعالى صلاتَهُ وتسبيحَهُ ، والثانِي : أن معناهُ : كُلَّ مُصَلٍّ ومسبحٍ قد عَلِمَ صلاةَ نفسهِ وتسبيحَ نفسهِ ، والثالثُ : قد عَلِمَ كلٌّ منهم تسبيحَ اللهِ وصلاتَهُ ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } ؛ من الطاعةِ وغيرِها. وقولهُ تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له تقديرُهما وتدبيرُهما وتصريفُ أحوالِهما ، { وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ }.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ؛ أي يُنْشِؤُهُ ويَسُوقُهُ سَوْقاً دفِيقاً قِطَعاً قِطَعاً ، { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } ؛ أي يجمعُ بين قِطَعِ السَّحاب المتفرقةِ ، والسَّحَابُ جمعٌ واحدهُ سَحَابَةٌ ، والتَّأْلِيْفُ ضَمُّ بعضٍ إلى بعض حتى يجعلَهُ قطعةً واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } ؛ أي مُتَرَاكِماً بعضهُ فوق بعضٍ ، { فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } ؛ أي ترَى المطرَ يخرجُ من وَسَطِهِ وأثنائهِ ، والْخِلاَلُ جمعُ الْخَلَلِ مثل الجبال والجبل. قال الليثُ : (الْوَدْقُ الْمَطَرُ كُلُّهُ ، شَدِيْدُهُ وَهَيِّنُهُ ، وَخِلاَلُ السَّحَاب مَخَارِجُ الْقَطْرِ مِنْهُ). قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك : (مِنْ خِلَلِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } ؛ أي من جبلٍ في السَّماء ، وتلك الجبالُ من بَرَدٍ. قال ابنُ عبَّاس : (أخْبَرَ اللهُ أنَّ فِي السَّمَاءِ جِبَالاً مِنْ بَرَدٍ) ومفعولُ الإنزالِ محذوفٌ ، تقديرهُ : وينَزِّلُ اللهُ من جبالٍ بَرَدَ فيها ، واستغنَى عن ذكرِ المفعول للدلالة عليه ، ومِن الأُولَى لابتداء الغايةِ ، لأن ابتداءَ الإنزالِ من السَّماء ، والثانية للتبعيضِ ؛ لأن ما يُنْزِلُهُ اللهُ بعض تلك الجبالِ التي في السَّماء ، والثالثةُ لتبيين الجنسِ ؛ لأن جنسَ تلك الجبالِ البَرَدَ ، كما تقولُ : خَاتَمٌ مِن حديدٍ.
وكان عمرُ رضي الله عنه يقول : (جِبَالُ السَّمَاءِ أكْثَرُ مِنْ جِبَالِ الأَرْضِ) ، { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } ؛ أي فيصيبُ بالبَرَدِ مَن يشاءُ فيهلكهُ ويهلِكُ زَرْعَهُ ، { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } ؛ فلا يضرُّهُ في زرعهِ وثَمرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ } ؛ أي كادُ ضَوْءُ برقِ السَّحاب يذهبُ بالأبصارِ من شدَّة ضوئهِ وبريقه ولَمَعَانِهِ ؛ لأن مَن نَظَرَ إلى البرقِ خِيْفَ عليه ذهابُ البصرِ. قرأ أبو جعفر : (يُذْهِبُ بالأَبْصَارِ) بضمِّ الياء وكسر الهاء.
(0/0)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } ؛ أي يقلِّبُها في الذهاب والْمَجِيءِ والزيادةِ والنُّقصان ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ } ؛ أي إنَّ في ذلك التقلُّب ، وفيما ذُكِرَ عِبْرَةً لذوي العقولِ من الناس ، يقالُ : فلانٌ صاحِبُ بَصَرٍ ؛ أي صاحبُ عَقْلٍ.
(0/0)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } ؛ من النُّطفةِ ، من ماءِ الذكر والأُنثى ، والْخَلْقُ من الماءِ أعجبُ ؛ لأنه ليس شيءٌ إلاّ وهو أشدُّ طَوْعاً من الماءِ ؛ لأنَّ الماءَ لا يُمكِنُ إمساكهُ بيدهِ ولا أن يَبْنِي عليهِ ولا أن يتخِذ منهُ شيءٌ. والمعنى : واللهُ خَلَقَ كلَّ حيوانٍ شاهد في الدُّنيا ، ولا تدخلُ الجنُّ والملائكةُ في هذا لأنَّا لا نشاهِدُهم.
وقولهُ تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ } ؛ كالحيَّاتِ والْهَوَامِ والحيتان ، وإنَّما قال فمنهم (مَنْ) تغليباً للعُقَلاءِ ، ولو كان لِمَا لا يعقلُ لقال : فمنهم مَن يَمشي على بطنهِ ، { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ } ؛ كالإنسانِ والطَّيرِ ، { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ } ؛ كالبهائمِ والسِّباعِ. والدَّابَّةُ اسمٌ لكلِّ حيوانٍ مِن مُمَيِّزٍ أو غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ ظاهرُ المعنى ، قرأ الكوفيُّون غير عاصمٍ (وَاللهُ خَالِقُ) على الاسمِ.
(0/0)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } ؛ يعني القُرْآنَ هو مُبَيِّنُ الْهُدَى والأحكامِ ، { وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي يرشدُ مَن يشاءُ إلى دِين الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ وطريقُ رضَاهُ وجَنَّتَهُ.
(0/0)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا } ؛ يعني المنافقينَ يقولون صَدَّقْنَا بتوحيدِ الله وبالرَّسولِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأطَعْناهُما فيما حَكَمَا ، { ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ } ؛ أي ثُم تعرضُ طائفة منهم ، { مِّن بَعْدِ ذلِكَ } ؛ أي مِن بعد قولِهم آمَنَّا ، { وَمَآ أُوْلَئِكَ } ؛ الذين أعرَضُوا عن حكمِ الله ورسوله ، { بِالْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } ؛ معناهُ : إذا دُعُوا إلى كتاب الله ورسوله ليحكُمَ بينَهم الرسولُ فيما اختلفوا فيه ، { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } ؛ عما يُدْعَوْنَ إليه ، نزلت هذه الآياتُ في بشْرِ المنافقِ وخصمهِ اليهوديِّ حين اختصمَا في أرضٍ ، فجعلَ اليهوديُّ يجذبهُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليحكُمَ بينَهما ، وجعلَ المنافقُ يجذبهُ إلى كعب بن الأشرفِ ، يقولُ : إنَّ مُحَمَّداً يَحِيْفُ عليه ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ } عن الكتاب والسُّنةِ.
(0/0)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } ؛ معناهُ : وإن يكن لَهم القضاءُ على غيرِهم يأتونَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُسرعينَ مطيعينَ مُنقادين لحكمهِ. والإذْعَانُ : الإقرارُ بالحقِّ مع الانقيادِ له. قال الزجَّاجُ : (الإذْعَانُ : الإسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ).
(0/0)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ لفظهُ لفظُ الاستفهامِ ، ومعناهُ التوبيخُ ، وذلك أشدُّ ما يكون في الذمِّ كما جاءَ في المبالغةِ في المدح : ألَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأنْدَى الْعَالَمِيْنَ بُطُونَ رَاحٍيَعْنِي أنتُم كذلكَ.
(0/0)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
قولهُ : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ؛ انتصبَ (قَوْلُ) على خبرِ كانَ ، واسْمُها { أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }.
وذلك أن عَلِيّاً رضي الله عنه بَاعَ مِنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه أرْضاً بالْمَدِيْنَةِ لاَ يَنَالُهَا الْمَاءُ ، فَجَاءَ قَوْمٌ عُثْمَانَ فَنَدَّمُواْ عُثْمَانَ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَالُواْ لَهُ : لاَ تَذْهَبْ فِي خُصُومَتِكَ مَعَ عَلِيٍّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإنَّهُ يَحْكُمُ لَهُ! فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ عُثْمَانُ ، وَتَحَاكَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَضَى لِعَلِيٍّ رضي الله عنه ، فَأَبَى قَوْمُ عُثْمَانَ أنْ يَرْضُواْ بقَضَائِهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ رضي الله عنه : { سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي سَمعنا قولكَ يا رسولَ اللهِ وأطَعْنا أمرَكَ ورضينا بحُكمِكَ وقضائِكَ ، وإنْ كان ذلك فيما يكرهونَهُ ويضرُّ بهم. وقولهُ تعالى : { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ يعني الرَّاضِينَ بقضاءِ الله ورسوله.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ أقْبَلَ عثمانُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ : (يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَاللهِ لَئِنْ شِئْتَ لأَخْرُجَنَّ مِنْ أرْضِي كُلِّهَا الَّتِي أمْلِكُهَا وَأدْفَعُهَا إلَيْهِ) فأنزلَ اللهُ تعالى : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ } ؛ معناهُ : ومَن يُطِعِ اللهَ ورسولَهُ فيما ساءَهُ وسرَّهُ ويخشَ الله فيما مضى من ذنوبهِ ويتَّقِ اللهَ فيما بعدُ فلم يَعْصِ اللهَ ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون } ، برضَى الله وحسناتهِ.
(0/0)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
وقولهُ : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } ؛ أي حَلَفُوا باللهِ وبالَغُوا في القَسَمِ ، { لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ } ، مِن مالِهم كلِّه لفَعَلُوا ، { قُل } لَهم : { لاَّ تُقْسِمُواْ } ؛ أي لا تَحْلِفُوا ، وتَمَّ الكلامُ ها هنا. ثُم قالَ : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } ؛ أي هذا القولُ منكم يعني القَسَمَ طاعةٌ حَسَنَةٌ.
وقال بعضُهم : هذه الآيةُ نزلت في المنافقينَ ؛ كانوا يَحْلِفُونَ لئِنْ أمَرَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروجِ إلى الجهادِ ليخرجُنَّ ، ولَم يكن في نيَّتِهم الخروجُ ، فقيلَ لَهم : لا تُقسِمُوا طاعةٌ معروفة مِثْلُ من قَسَمِكُمْ بما لا تصدِّقون ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ يعني عَلِيْمٌ بما تعملون مِن طاعتكم بالقولِ " و " مخالفتكم بالفعل.
(0/0)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
وقولهُ تعالى : { قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ؛ ظاهرُ المعنى ، وقولهُ تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } ؛ أي فإن أعرَضُوا عن طاعةِ الله وطاعةِ رسوله فإنَّما على الرسولِ ما حُمِّلَ من التبليغِ وأداءِ الرسالة ، وعليكم ما حُمِّلْتُمْ من الطاعةِ ، { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } ؛ أي ليس عليهِ إلاَّ أن يُبَلِّغَ ويُبَيِّنَ لكم.
(0/0)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ نزلت هذه الآيةُ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أقَامُوا بمَكَّةَ مدَّةً قبلَ الهجرةِ لا يُمكِنُهم إظهارُ الإسلامِ ، ولا أُذِنَ لَهم في القتالِ ، وكذلك بعدَما هاجَرُوا إلى المدينةِ وَآوَتْهُمُ الأنصارُ ، رَمَتْهُمُ العربُ عن قوسٍ واحدة ، وكانوا لا يَبيْتُونَ إلاّ مع السِّلاحِ ولا يُصبحُونَ إلاَّ فيه.
فجاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَكَذا جَالَدتَّنَا أبَداً ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ } أي لَيُبَوِّأَنَّهُمْ أرضَ المشركين من العرب والعَجَمِ كما استخلفَ بني اسرائيلَ بأرضِ مِصْرَ والشَّام بعدَ إهلاكِ الجبابرة بأَنْ أورَثَهم أرضَهم وديارَهم وجعلهم سُكَّاناً ومُلُوكاً.
وقولهُ تعالى : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ } ؛ أي ولِيُوَسِّعَ لَهم البلادَ حتى يَملكُوها ويُظْهِرَ دِينَهم على جميعِ الأديانِ ، { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً } ؛ وقولهُ تعالى : { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } ؛ يجوزُ أن يكون في موضعِ نصبٍ على الحال ؛ أي لأَفْعَلَنَّ ذلك في حالِ عِبَادتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. وقولهُ تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ ظاهرُ الْمُرَادِ.
(0/0)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي ولا تَحْسَبَنَّ كفارَ مكة يا مُحَمَّدُ فَائِتِيْنَ من عذاب الله أو يفُوتُنَا هَرَباً ، فقدرةُ اللهِ تعالى محيطةً بهم ، { وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ }.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } ؛ أي لِيَسْتَأْذِنْكُمْ في الدُّخولِ عليكم عبيدُكم وإمائكم والذين لَم يبلغُوا الْحُلُمَ منك أي مِن أحرارِكم من الرِّجال والنساءِ ، والمعنى : لَيَسْتَأْذِنْكُمْ عبيدُكم وإمائكم والذين لَم يبلغُوا الْحُلُمَ من صغيرِ أولادِكم من الأحرارِ في الدُّخول عليكم في ثلاثِ أوقاتٍ من الليلِ والنهارِ يكون الغالبُ فيها كشفُ العوراتِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الأوقاتَ الثلاث فقال : { مِّن قَبْلِ صَـلَاوةِ الْفَجْرِ } ؛ أي وقتَ القيامِ مِن المضاجع والتَّهَيُّؤِ للصَّلاةِ بالطهارةِ ، { وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ } ؛ وهو وقتُ القَيْلُولَةِ ، { وَمِن بَعْدِ صَلَاوةِ الْعِشَآءِ } ؛ أرادَ به العشاءَ الأخيرةَ ، وهذه الأوقاتُ الثلاثة : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ } ؛ لأنَّ الإنسانَ يضعُ ثيابه فيها في العادةِ.
من قرأ (ثَلاَثُ) بالرفع ، فمعناه : هذه الأوقاتُ الثلاثة ثلاثُ عوراتٍ لكم. ومَن قرأ (ثَلاَثَ) بالنصب جعلَهُ بدَلاً من قولهِ (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). قال السديُّ : (كَانَ أُنَاسٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يُعْجِبُهُمْ أنْ يُوَاقِعُواْ نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ الثَّلاَثِ لِيَغْتَسِلُواْ ثُمَّ يَخْرُجُواْ إلَى الصَّلاَةِ ؛ فَأَمَرَهُمُ اللهُ أنْ يَأْمُرُواْ الْغِلْمَانَ وَالْمَمَالِيْكَ أنْ يَسْتَأْذِنُواْ فِي هَذِهِ الثَّلاَثِ سَاعَاتٍ إذا دَخَلُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } ؛ أي لا جناحَ عليكم ولا عليهم في أنْ لاَ يستأذِنُوا في غيرِ هذه الأوقات.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } ؛ أي طَوَّافُونَ عليكم يدخلُونَ ويخرجون ويذهبون ويجيئون ويتردَّدُون في أحوالِهم واشتغَالِهم بغيرِ إذنٍ ، يريدُ أنَّهم خَدَمُكُمْ ، شئ فلا بأسَ أن يدخلُوا في غيرِ هذه الأوقات بغيرِ إذن. قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : يَطُوفُ بَعْضُهُمْ وَهُمُ الْمَمَالِيْكُ عَلَى بَعْضٍ وَهُمُ الْمَوَالِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَيَـاتِ } ؛ أي هكذا يُبَيِّنُ اللهُ لكم الدَّلالاتِ والأحكامِ في أمر الاستئذان ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بمصالحِ العباد ، { حَكِيمٌ } ؛ فيما حَكَمَ من استئذانِ الْخَدَمِ في هذه الأوقاتِ الثلاثة.
(0/0)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } ؛ معناهُ : إذا بَلَغَ الأطفالُ مِن أحرارِكم وعبيدكم فليستأذِنُوا في جميعِ الأوقات وفي عمومِ الأحوال ، { كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ المذكورين مِن قَبْلِهم على ما بَيَّنَ اللهُ في كتابهِ ، يعني بقوله ؛ الأحرارُ الكبارُ الذين أُمِرُوا بالاستئذانِ على كلِّ حالٍ في قوله{ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا }[النور : 27] فليس للعبدِ البالغ أن يدخلَ مَنْزِلَ مولاهُ ولا للولدِ البالغِ أن يدخلَ على أُمِّهِ وعلى ذاتِ محارمه في كلِّ وقتٍ بإذن { كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }.
(0/0)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ } ؛ معناهُ : والقَوَاعِدُ من النِّساءِ اللاتِي قَعَدْنَ عن الحيضِ من الكِبَرِ وهنَّ العجائزُ اللاتِي لا يُرِدْنَ النكاحَ لكِبَرِهنَّ ، فليس عليهنَّ حرجٌ فِي ، { أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } ؛ يعني الْجِلْبَابَ والرِّداءَ والقناعَ الذي فوقَ الخِمَارِ لأجلِ الثياب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } ؛ التَّبَرُّجُ : أن تُظْهِرَ المرأةُ مَحَاسِنَهَا مِن وجهِها وجَسَدِها ، والمعنى من غير أنْ يُرِدْنَ بوضعِ الجلباب أن يُرَى زينَتُهن. قال مقاتلُ : (لَيْسَ لَهَا أنْ تَضَعَ الْجِلْبَابَ ، تُرِيْدُ بذلِكَ أنْ تُظْهِرَ قَلاَئِدَهَا وَقِرْطَهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الزِّيْنَةِ).
وقولهُ تعالى : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } ؛ معناهُ : وأن يَسْتَعْفِفْنَ فلا يضعْنَ الجلبابَ في الْمِلاَئَةِ والقِنَاعِ فهو خيرٌ لَهنَّ مِن أن يَضَعْنَ ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } ؛ مقالةَ العبادِ ، { عِلِيمٌ } ؛ بأعمالِهم. يقالُ : امرأةٌ عِدَادٌ أُقْعِدَتْ عنِ الحيضِ ، فإذا قالَ : قَاعِدَةٌ بالهاءِ أراد به جالسةً ، والجمعُ فيهما جميعاً قَوَاعِدُ.
(0/0)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } ؛ وذلك أنَّ المسلمينَ كانوا إذا غَزَوا خَلَّفُوا أزْمانَهم وكانوا يدفعونَ إليهم المفاتيحَ ويقولونَ لَهم قد أبَحْنَا لكم أن تأكُلُوا مِما في بُيُوتِنَا ، فكانوا يتحرَّجُون مِن ذلك ويقولونَ : لا ندخُلُها وهم في غَيْبٍ امتثالاً لقوله تعالَى{ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ }[النساء : 29] فَنَزَلتْ هذه الآيةُ رُخصَةً لَهم.
ومعناها : نَفْيُ الحرجِ عن الزَّمْنَى في أكْلِهم من بيوتِ أقاربهم أو بيوتِ مَن يدفعُ إليهم المفتاحَ إذا خرجَ للغَزْوِ وخَلَفَهُ بحفظِ ماله ؛ لأنَّهم كانوا يتحَرَّجون أن يأكلُوا مما يحفظونَهُ ، فأَعْلَمَهُمُ اللهُ تعالى أنه لا جُنَاحَ عليهم في ذلكَ.
وذهبَ الحسنُ إلى أن معنى الآيةِ : (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيْضِ حَرَجٌ فِي تَرْكِ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } ؛ أي لا حرجَ عليكم أن تأكلوا من بيتكم ، أرادَ بهذا بيوتَ أبنائِكم ونسلهم ، وإنَّما أضافَ بيوتَ الأبناءِ إليهم لأنَّهم مِن أنفسهم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " أنْتَ وَمَالُكَ لأَبيْكَ " ولِهذا قابلَهُ ببيوتِ الآباء ، فقالَ : { أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ } ؛ ولَم يقل بيوتَ أبنائكم ، فعُلِمَ أن المرادَ بقوله : { وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أي بيوتِ أبنائِكم وأزواجِكم ، وبيتُ المرأةِ كبيت الزَّوجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ } ؛ أخرجَ الكلامَ على وفْقِ العادةِ ؛ لأن الغالبَ مِن أحوالِ هؤلاء أن تَطِيْبَ أنفسُهم بذلكَ ، فجازَ الأكلُ مِن بيوتِهم بغيرِ إذنٍ لدلالة الحالِ.
فأمَّا إذا عَلِمَ أن صاحبَ البيت لا تطيبُ نفسهُ بذلكَ ، لا يحلُّ له أن يتناولَ شيئاً من ذلكَ ، { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } ؛ يعني بيوتَ عبيدِكم وإمائكم ، وذلك أن السيِّدَ يَمِلِكُ بيتَ عبدهِ ، أو الْمَفَاتِحُ معناها الخزائنُ ، كقولهِ تعالى{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }[الأنعام : 59] أي خزائنُ الغيب.
ومعناهُ : المفاتيحُ التي يُفْتَحُ بها الخزائنُ ، يعني بذلك الوكلاءَ والأُمَنَاءَ والعبيدَ الذين يَملكون أمرَ الخزائنِ وتكون مفاتِحُها بأيديهم ، فليس عليهم في الأكلِ جُنَاحٌ إذا كان أكْلاً يَسيراً مثل أن يأكُلَ مِن ثَمَرِ حائطٍ يكون قَيِّماً عليه أو يشربَ مِن لبنِ ماشية يكون قَيِّماً عليها. وقال السديُّ : (الرَّجُلُ يُوَلِّي طَعَامَهُ غَيْرَهُ يَقُومُ عَلَيْهِ ، فَلاَ بَأْسَ أنْ يَأْكُلَ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } ؛ يعني صَدِيْقاً يسرُّهُ أن يأكلَ من طعامهِ ، وإنَّما أطلقَهُ على عادةِ الصحابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ كما روي في سبب نزُول هذا : أنَّ مَلِكَ بْنَ يَزِيْدٍ وَالْحَارثَ بْنَ عَمْرٍو كَانَا صَدِيْقَيْنِ ، فَخَرَجَ الْحَارثُ غَازياً وَخَلَّفَ مَالِكاً فِي أهْلِهِ وَخَزَائِنِهِ ، فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْغَزْوِ رَأى مَالِكاً مَجْهُوداً ، قَالَ : مَا أصَابَكَ ؟ قَالَ : لَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ ، وَلَمْ يَحِلَّ لِي أنْ آكُلَ مِنْ مَالِكَ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ }.
(0/0)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } ؛ في الآية ثَنَاءٌ على المؤمنين ، وإذا كانُوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أمرٍ جامع ؛ أي في أمرِ طاعةٍ يجتمعون عليه لِحَقِّ الْجُمُعَةِ وصلاةِ العيدين والْجِهَادِ وأشباهِ ذلكَ ، { لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ }.
قال المفسِّرون : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا صَعَدَ الْمِنْبَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَأرَادَ الرَّجُلُ أنْ يَخْرُجَ لِطَاعَةٍ أوْ عُذْرٍ ؛ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى يَقُومَ بحِيَالِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حَيْثُ يَرَاهُ ، فَيَعْرِفَ أنَّهُ إنَّمَا قَامَ لِيَسْتَأْذنُ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ. قال مجاهدُ : (وَإذا أذِنَ الإمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أنْ يُشِيْرَ بيَدِهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ نزلَتْ في عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه حِيْنَ اسْتَأْذنَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي الرُّجُوعِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } ؛ قِيْلَ : إنَّ هذا منسوخٌ بقوله تعالى{ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }[التوبة : 43] ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ } ؛ أي استغفِرْ لِهؤلاء المستأذِنين إذا استأذنوكَ لعُذرِهم ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ للنَّاسِ ، { رَّحِيمٌ } ؛ بهم.
(0/0)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } ؛ أي ادْعُوهُ بالْخُضوعِ والتعظيمِ ، وقولوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ ويَا نَبيَّ اللهِ ، في لِيْنٍ وتواضعٍ وخَفْضِ صوتٍ ، ولا تقولُوا : يا مُحَمَّدُ! ولا يا أبَا القَاسِمِ! كما يدعُو بعضُهم بعضاً باسْمهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } ؛ أرادَ به المنافقين ، كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَابَهُمْ فِي خُطْبَتِهِ ، فَإذا سَمِعُواْ ذلِكَ نَظَرُواْ يَمِيناً وَشِمَالاً ، فَإنْ أبْصَرَهُمْ أحَدٌ لَمْ يَقُومُواْ ، وَإنْ لَمْ يُبْصِرْهُمْ أحَدٌ قَامُواْ فَخَرَجُواْ مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَسَلَّلُونَ. وَالتَّسْلُّلُ الْخُرُوجُ فِي خِفْيَةٍ.
وَاللِّوَاذُ : أن يَسْتُرَ بعضهُ بعضاً ثُم يَمِضِي ، يقالُ : لاَوَذْتُ بفُلاَنٍ مُلاَوَذةً وَلِوَاذاً. قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ أنْ يَلُوذ بغَيْرِهِ فَيَهْرُبَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذانٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } ؛ أي لِيَحْذر الذين يُعرِضُونَ عن أمرِ الله ويخالِفُون في أمرهِ ، { أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } ؛ أي بَلِيَّةٌ ، { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } في الآخرةِ.
(0/0)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له كلُّ ذلك مُلْكاً وقدرةً وإحاطة ، { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } ؛ أي يعلمُ ما يُبْدِيْهِ كلٌّ منكم وما يخفِيه ، وقولهُ تعالى : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } ؛ معناهُ : يعني يَعْلَمُ يومَ يُبعثونَ متى هو ، { فَيُنَبِّئُهُمْ } ؛ فيهِ ؛ { بِمَا عَمِلُواْ } ؛ أي يجزيَهم بما عملوا في دارِ الدُّنيا ، { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } ؛ من أعمالِ العباد وغيرِ ذلك.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ النُّورِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ فِيْمَا مَضَى وَفِيْمَا بَقِيَ ".
(0/0)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
{ تَبَارَكَ } ؛ أي عَظُمَتْ وكَثُرَتْ بركاتُ اللهِ. والبَرَكَةُ : هي الخيرُ الكثيرُ. وَقِيْلَ : معناهُ : تَبَارَكَ : أي تَعَالَى ، قولهُ : { الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ } ؛ أي الذي نَزَّلَ جبريلَ بالفُرْقَانِ ، { عَلَى عَبْدِهِ } ، مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ؛ { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } ؛ أي مُعْلِماً بموضع المخافةِ. والفُرْقَانُ : البيانُ الذي يُفَرِّقُ بهِ بين الحقِّ والباطلِ ، ويَزْجُرُ عن القبائحِ ، ويدعُو إلى الْمَحاسنِ ، ويعني بالعالمينَ : الْجِنَّ والإنسَ.
(0/0)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي للهِ خزائنُ السَّمواتِ والأرض والقدرةُ على أهلِها ، { وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } ؛ كما قال اليهودُ والنصارى والمشركونَ ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } ؛ فيعاونهُ على مُلكِهِ ، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } ؛ أي قَدَّرَ طُولَهُ وعَرْضَهُ ولونَهُ ورزقَهُ وأجَلَهُ.
(0/0)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ؛ فمعناه : واتخذ كفارُ مكَّة من دونِ الله آلِهَةً يعبدونَها ؛ هي الأصنامُ لا يقدرونَ أن يخلِقُوا شيئاً وهم يُخلقون ، ما مِن شيء يكون منها من ذهبٍ أو فضَّةٍ أو صفر أو خشبٍ إلاّ واللهُ خالِقُها ، { وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } ؛ أي لا يَملكون الأصنامَ لأنفُسِها دفعَ ضُرٍّ ولا جَرَّ نفعٍ ؛ لأنَّها جَمَادٌ لا قدرةَ لَها ، { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً } ؛ أي لا يَملِكُ أن يَموتَ أحدٌ ولا يحيي أحد ، ولا تَملِكُ بعثاً للأمواتِ ، فكيفَ يعبدُ هؤلاء مَن لا يقدرُ على أن يفعلَ شيئاً مِن هذا ؟ ويتركونَ عبادةَ ربهم الذي يَملِكُ ذلك كلَّه. يقالُ : أنْشَرَ اللهُ الأمواتَ فَنَشَرُواْ ؛ أي أحيَاهُم فحَيُوا.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } ؛ أي قال الذينَ كفروا : ما هذا القُرْآنٌ إلاّ كذبٌ اختلقَهُ مُحَمَّدٌ مِن تلقاءِ نفسه وأعَانَهُ عَلَيْهِ قومٌ آخرون مِن أهل الكتاب ، يعنونَ (جَبْراً) مولَى لقريشٍ ، ويسارَ أبا فُكَيهَةَ مولَى لبنِي الحضرميِّ ، وعَدَّاساً مولَى لحويطبَ بنِ عبد العزَّى ، كان هؤلاء يقرأونَ التوراةَ قبل أن يُسْلِمُوا ، فلما أسلَمُوا رأوا التوراةَ تشبهُ القرُرْآنَ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ بهم ويتعاهَدُهم ، فمِن ذلك قال الكفارُ : وَأعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } ؛ أي قال الكفارُ هذه المقالةَ شِرْكاً وكَذِباً ، زعَمُوا أن القُرْآنَ ليس مِنَ اللهِ ، والمعنى : فقد جاءُوا بظُلْمٍ وزوراً فيما قالُوا ، فلمَّا سقطَتِ الباءُ أفضَى إليه الفعلُ فنصَبهُ. والزُّورُ : وضعُ الباطلِ في موضعِ الحقِّ.
(0/0)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي قالَ النَّضرُ بن الحارث وأصحابهُ : هذا القُرْآنُ أحاديثُ الأوَّلين في دَهْرِهم كما كنتُ أحدِّثُكم عن الأعاجمِ ، { اكْتَتَبَهَا } ؛ مُحَمَّدٌ أي أنسَخَها من عداسٍ وجبرٍ ويسار ، { فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ } ؛ فهي تُقْرَأُ عليه ، { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } ؛ أي أمَرَ أن يَكْتُبَ له فهي تقرأ عليه غدوةً وعشيَّة ليحفظَها.
(0/0)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَنزَلَهُ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : أنْزَلَ القُرْآنَ { الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ، لا يخفَى عليه شيءٌ فيهما ، { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً } ؛ لِمَن تابَ وآمنَ ، { رَّحِيماً } ؛ لِمن ماتَ على التوبةِ.
(0/0)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } ؛ أي قال المشركون على وجهِ الذمِّ والتَّعيير للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : ما لِهذا الرسولِ يأكلُ مِما يأكلُ الناس ، ويَمشي في الطُّرُقِ كما نَمشي لطلب المعيشة. والمعنى : أنه ليسَ بمَلَكٍ لأن الملائكةَ لا تأكلُ ولا تشرب ، والملوك لا يسبقون ، { لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } ؛ يكون معهُ شريكاً في النبوَّة ، { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } ؛ ينتفعُ به ، { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } ؛ مِن ثَمرها ، يعني بُستاناً يأكلُ من ثَمره ، ومعنى قولهِ تعالى { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي يَنْزِلُ عليه مالٌ ينفعهُ ولا يحتاجُ إلى طلب المعاش. وقولهُ تعالى { يَأْكُلُ مِنْهَا } قرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلَفُ بالنُّون ؛ أي نَأْكُلُ من جنَّتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } ؛ أي قالَ المشركون للمؤمنينَ : ما تَتَّبعُونَ إلاّ رَجُلاً مَخدُوعاً مغلوباً على عقلهِ قد سُحِرَ وأُزيلَ عنه الاستواءُ.
(0/0)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ } ؛ معناهُ : انْظُرْ يا مُحَمَّدُ كيفَ ضرَبُوا لكَ الأمثالَ ، يعني : مَثَّلُوهُ بالمسحورِ وبالْمُحتاجِ. وَقِيْلَ : معناهُ : انظُرْ كيفَ وصَفُوا لكَ الأشياءَ : إنكَ ساحرٌ وكاهن وكذابٌ وشاعر ومجنونٌ ، فَضَلُّوا عن الصواب والْهُدَى وأخطاؤا النسبةَ ، { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } ؛ أي فلا يَجِدُونَ طريقاً إلى إلزامِ الحجَّةِ ولا مَخْرَجاً لأنفُسِهم بإثباتِ العُذْر في تركِ الإيْمَانِ به ، وذلك أنَّهم جعَلُوا معذرَتَهم في ذلكَ أشياءَ ليست بعُذرٍ.
أما أكلُ الطَّعامِ فإنه كان في الرُّسُلِ قبلَهُ ، فلم يكن ذلك عُذْراً في تركِ الإيْمَانِ به ، ولو أنْزَلَ مَلَكاً لكان يحتاجُ إلى أن يَنْزِلَ من السَّماءِ ويتردَّدُ في الأرضِ لتبليغِ الرسالةِ ، كما قالَ تعالى{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً }[الأنعام : 9] ولو جُعِلَ الْمَلَكُ شَريكاً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مُعاوناً له في الإنذارِ ، أدَّى ذلك إلى استِصْغَارِ كلِّ واحد منهما في أنهُ لا يكون كلُّ واحد منهما قائماً بنفسهِ في أداءِ الرسالة.
وأما الكَنْزُ فإنه قد وَجَدَ كثيرٌ مِن الفراعنةِ ولَم يوجِبْ ذلك اتباعَهم ، وعُدِمَ مع كثير من الأنبياء الذين أقرَّ الخلقُ برسالَتِهم ، وكذلكَ الحياةُ ؛ ولأن الأنبياءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إنَّما يُبعثون لتزهيدِ الناس في الكنُوز والحياة ، وترغيبهم في الآخرةِ ، فكيف يجوزُ أن يَمنَعُوا الناسَ عنه ويشتَغِلوا به هُم؟
(0/0)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَبَارَكَ الَّذِي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " وَذلِكَ أنَّ مَلَكاً أُنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَقَالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّ اللهِ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أنْ يُعْطِيْكَ خَزَائِنَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَفَاتِيْحَ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ قَبْلَكَ ، وَلَمْ يُعْطَهَا أحَدٌ بَعْدَكَ مِنْ غَيْرِ أنْ يُنْقِصَكَ شَيْئاً مِمَّا ادَّخَرَ لَكَ فِي الآخِرةِ ، وَبَيْنَ أنْ يَجْمَعَهَا لَكَ فِي الآخِرَةِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " بَلْ يَجْمَعُهَا لِي فِي الآخِرَةِ) ".
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " خَيَّرَنِي جِبْرِيْلُ بَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً مَلِكاً وَبَيْنَ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً ، فَاخْتَرْتُ أنْ أكُونَ نَبيّاً عَبْداً ؛ أشْبَعُ يَوْماً وَأجُوعُ يَوْماً ، أحْمَدُ اللهَ إذا شَبعْتُ ، وَأتَضَرَّعُ إلَيْهِ إذا جِعْتُ ".
و " كان صلى الله عليه وسلم يَأكُلُ عَلَى الأَرْضِ ، وَيَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ ، وَيَخْصِفُ النَّعْلَ ، وَيُرَقِّعُ الثَّوْبَ ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَاري ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ ذِكْرُ الدُّنْيَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَقُولُ : (وَا عَجَباً كُلَّ الْعَجَب لِلْمُعْتَرِفِ بدَارِ الْخُلُودِ وَهُوَ يَعْمَلُ لِدَارِ الْغُرُور) ".
ومعنى الآية : تَبَارَكَ وتعالى إنْ شاءَ يجعلُ لكَ خيراً مما قالوهُ في الدُّنيا من جناتٍ وقصُورٍ ، وإنْ شاءَ يجعل لكَ قصُوراً في الدُّنيا ؛ أي لو شاءَ جعلَ لك أفضلَ من الكنْزِ والبستان الذي ذكَرُوا ، ويجعل لكَ جناتٍ تجري من تحتِها الأنْهارُ يعني في الدُّنيا ؛ لأنه قد شاءَ أن يعطيَهُ في الآخرةِ.
وقولهُ تعالى { وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } مَن قرأ بالجزمِ ، كان المعنى إن شاءَ جَعَلَ لكَ الجناتِ ويجعل لك قصُوراً في الدُّنيا ، لأنه قد شاءَ ، وإنَّما لَم يجعلِ الحكمةَ التي أوجبت لك. قرأ ابنُ كثير وابن عامر وعاصمُ : (وَيَجْعَلُ) بالرفعِ على الاستئناف بمعنى : وسيجعلُ لكَ قصُوراً في الجنَّةِ في الآخرةِ. والقُصُورُ : هي البيوتُ المشيَّدَةُ ، سُمِّي القَصْرُ قَصْراً ؛ لأنه قُصِرَ ومُنِعَ مِن الوُصولِ إليه.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : " لَمَّا عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْفَاقَةِ فَقَالُواْ : مَا لِهَذا الرَّسُولِ يَأَكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ، وَيَمْشِي فِي الْمَعَاشِ ، تَعِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلِكَ ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام مُعَزِّياً لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ } [الفرقان : 20] لِطَلَب الْمَعَاشِ فِي الدُّنْيَا.
فَبَيْنَمَا جِبْرِيْلُ وَالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَدَّثَانِ إذْ أقْبَلَ رضْوَانُ خَازِنُ الْجِنَانِ فَسَلَّمَ عَلَى النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ مِنْ نُورٍ يَتَلأْلأُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ رَبُّكَ يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ ، وَيَقُولُ لَكَ : هَذِهِ مَفَاتِِيْحُ خَزَائِنِ الدُّنْيَا مَعَ أنَّهُ لاَ يُنْقَصُ حَظُّكَ فِي الآخِرَةِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ، فَنَظَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى جِبْرِيْلَ مُشِيْراً ، ثُمَّ قَالَ : " يَا رضْوَانُ ؛ لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا ، الْعَفْوُ أحَبُّ إلَيَّ وَأنْ أكُونَ عَبْداً صَابراً شَكُوراً حَامِداً مِنَ السَّمَاءِ " فَرَفَعَ جِبْرِيْلُ رَأسَهُ ، فَإذا السَّمَوَاتُ قَدْ فُتِحَتْ أبْوَابُهَا إلَى الْعَرْشِ ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ أنْ تُدْلِي أغْصَانَهَا ، فَإذا غُرْفَةٌ مِنْ زُبُرْجُدَةٍ خَضَرَاءَ لَهَا سَبْعُونَ ألْفَ بَابٍ مِنْ ياقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ بَصَرَكَ ، فَرَفَعَ فَرَأى مَنَازِلَ الأَنْبيَاءِ قَدْ فَصَلَ بهَا مِنْ دُونِهِمْ ، وَإذا بمُنَادٍ : أرَضِيْتَ يَا مُحَمَّدُ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " قَدْ رَضِيْتُ ".
(0/0)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً } ؛ معناهُ : لا يستطيعونَ سَبيلاً إلى إلزامِ الْحجَّةِ وإثباتِ المعذرةِ ، ولكن كَذبُوا بالسَّاعةِ ، وأعْتَدْنَا لِمَنْ كذبَ بقيامِ السَّاعة ناراً مُسَعَّرَةً ، { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ؛ من مسيرةِ خَمسمائةِ عامٍ ، { سَمِعُواْ لَهَا } ؛ للنارِ غَلَيَاناً ، { تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } ؛ كَتَغَيُّظِ بَنِي آدمَ ، وصَوْتاً كالزَّفيرِ عند شدَّةِ التهَابها واضطِرَابها ، وإنَّما قال { إِذَا رَأَتْهُمْ } وهم يرونَها على معنى : كأنَّها تراهمُ رؤيةَ الغَضْبَانِ الذي يَزْفِرُ غَيْظاً. قِيْلَ : إنَّها لَتَزْفِرُ زَفْرَةً لا يبقَى مَلَكٌ مُقَرِّبٌ ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ إلاّ خرَّ لوجههِ.
(0/0)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُور } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُطْبقُ عَلَيْهِمْ كَمَا يُطْبقُ الزَّجُّ فِي الرُّمْحِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ إنَّهُمْ يُسْتَكْرَهُونَ كَمَا يُسْتَكْرَهُ الْوَتَدُ فِي الْحَائِطِ ". والمعنَى : إذا طُرِحُوا في مكانٍ ضَيِّقٍ من النَّارِ مُقَرَّنِيْنَ ؛ أي مَغْلُولِيْنَ قد قُرِّنَتْ أيدِيهم من الجنِّ والإنسِ يقُولُونَ : وَا ثُبُورَاهُ ، وَاهلاكاهُ.
وفي الخبرِ : أنَّهم إذا أُلْقُوا على باب جهنَّمَ ، وتضايقَ عليهم كتضايُقِ الزَّجِّ في الرُّمحِ ، فيزدَحِمونَ في تلكَ الأبواب الضيِّقة ، يرفَعُهم اللَّهَبُ وتخضِعُهم مقامعُ ملائكةِ العذاب ، فعند ذلك يَدْعُونَ بالويلِ والثُّبُورِ ، ويقالُ لَهم : { لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً } ؛ فإنَّ سببَ الثّبُور دائمٌ لا ينقطعُ.
(0/0)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَذالِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } ؛ أي قُلْ أذلكَ العذابُ والسَّعيرُ خيرٌ أم جَنَّةُ الْخُلْدِ التي وُعِدَ الْمُتَقُونَ ، وهذا على طريقِ التعجُّب والتبعيدِ لا على طريقِ الاستفهام ؛ لأنه ليس في السعير خيرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } ؛ أي كانت الجنَّةُ للمتقينَ جزاءً ومرْجِعاً في الآخرةِ ، { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ } ؛ أي لَهم في جنَّةِ الْخُلْدِ ما يشاؤُون ، { كَانَ } ؛ ذلك الْخُلْدُ ، { عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } ؛ وذلكَ أم المؤمنين سأَلُوا ربَّهم في الدُّنيا حين قالوا{ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ }[آل عمران : 194] فقالَ اللهُ تعالى : كان إعطاءُ اللهِ للمؤمنين جنَّةَ الْخُلْدِ وَعْداً وَاجِباً ، وذلكَ أمِ المسؤولُ واجبٌ ، وإن لَم يُسأَلْ كالدَّين ، ونظيرهُ قولُ العرب : أعطيتُكَ ألْفاً وَعْداً مسؤُولاً ، يعني أنه واجبٌ لكَ فَسْأَلْهُ. وَقِيْلَ : معنى الوعدِ المسؤولِ : أنَّ الملائكةَ تسألُ لَهم ذلكَ ، يقولون{ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ }[غافر : 8].
(0/0)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ يعني كفارَ مكَّةَ وسائرَ المشركين مِمَّن كان يعبدُ غيرَ اللهِ ، يعني : الذين يعبدونَ الملائكةَ وعُزيراً وعيسى والأصنامَ ، فيقولُ اللهُ تعالى للكفارِ : لِماذا عبدتُم غَيرِي ؟ فيقولونَ : لأنَّهم أمَرُونا بعبادَتِهم ، { فَيَقُولُ } اللهُ تعالى للملائكة ولعيسى ولعُزَير على وجه التَّنكيتِ والتقريع للكفارِ : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } ؛ حتى عَبَدُوكم وأنتم أمَرْتُموهم بعبادتِكم ، { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ } ؛ وأخطَأوُا الطريقَ بهوَى أنفُسِهم ؟ ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ }[المائدة : 116].
(0/0)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } ؛ أي قالُوا تَنْزِيهاً لكَ مِن أن نعبدَ غيرَك ، وما ينبغِي لنَا ولعابدنا أن نَتَّخِذ مِن دونِكَ من أولياءَ ، فكيفَ جازَ لنا أن نأْمُرَهم يعبدونَنا دونكَ ، { وَلَـاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ } ؛ ولكن طَوَّلْتَ أعمارَهم ووسَّعتَ لَهم في الرِّزقِ وأمهَلَتَهم في الكُفرِ حتى غيَّروا بذلكَ وتركوا التوحيدَ والطاعة ، ونَسُوا القُرْآنَ ، { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } ؛ أي هَلْكَى فَاسِدِي القلوب. والبُوَارُ هو الهلاكُ ، والبَئِرُ الفاسدُ ، والأرضُ البَائِرُ هي التي عُطِّلَتْ عن الزراعةِ. وَقِيْلَ : معناهُ { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } : أي هَالِكين فاسِدين قد غَلَبَ عليهم الشَّقاءُ والْخُذْلاَنُ ، ومنه بَوَارُ السِّلعةِ ، والإثم إذا كَسَدَ فَسَدَ.
قرأ أبو جعفرٍ وابنُ كثيرٍ ويعقوب : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) بالياء ، وقولهُ تعالى (ومَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أنْ نَتَّخِذ) ، قرأ الحسنُ وأبو جعفرٍ (نُتَّخَذ) بضمِّ النون وفتحِ الخاء.
(0/0)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } ؛ أي كذبَكم المعبودُ بقولِكم : إنَّها آلِهَةٌ شركاءُ اللهِ ، ومَن قرأ (بمَا يَقُولُونَ) بالياء ؛ فالمعنى : كذبُوهم بقولِهم{ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ }[الفرقان : 18]. قال عكرمةُ والضحَّاك والكلبيُّ : (يَأْذنُ اللهُ لِلأَصْنَامِ فِي الْكَلاَمِ وَيُخَاطِبُهَا فَيَقُولُ : أنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أمْ أمَرْتُمُوهُمْ بعِبَادَتِهِمْ إيَّاكُمْ ؟ أمْ هُمْ ضَلُّواْ السَّبيْلَ ؟ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أنْ نَتَّخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِيَاءَ ، وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ ؛ أي أطَلْتَ أعْمَارَهُمْ وَوَسَّعْتَ عَلَيْهِمُ الرِّزْقَ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ ؛ أي ترَكُوا القُرْآنَ فَلَمْ يَعْمَلُواْ بمَا فِيْهِ). وَقِيْلَ : نَسُوا الإيْمَانَ والتوحيدَ ، وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ، فيقول اللهُ للمشركينَ : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } ؛ أي لا يقدِرُون على صَرْفِ العذاب عن أنفُسِهم ولا على نَصْرِ أنفسهم ، ودفعِ العذاب والبلاءِ الذي هم فيه ، ولا أن ينتَصِرُوا مِن مَعبُودِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } ؛ أرادَ بالظُّلْمِ الشركَ ، ومَن يُشْرِكْ باللهِ نُذِقَهُ فِي الآخرةِ عَذاباً شَديداً.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ } ؛ أي يأكلونَ كما تأكلُ أنتَ ، ويَمشونَ في الأسواقِ ، وهذا احتجاجٌ عليهم في قولِهم{ مَالِ هَـاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ }[الفرقان : 7].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } ؛ أي بَلِيْهِ ابتلاءُ الشريفِ بالوضِيع ، والعربيِّ بالمولَى ، فإذا أراد الشريفُ أن يُسْلِمَ ورأى الوضيعَ قد أسْلَمَ قَبْلَهُ أبَى وقال : أُسْلِمُ بَعْدَهُ فيكونُ له عليَّ السابقةُ والفضلُ! فيقيمُ على كُفْرِهِ. ويَمتنعُ من الإسلام ، فذلكَ افْتِتَانُ بعضِهم ببعضٍ ، وهذا قولُ الكلبيِّ.
وَقِيْلَ : الفتنةُ ها هنا هي العداوةُ التي كانت بينَهم في الدِّين ، وما كان المؤمنونَ يَلْقَوْنَ من أذى الكُفَّارِ ، { أَتَصْبِرُونَ } ؛ أيُّها الؤمنونَ على أذاهُم حتى تَصِلُوا إلى ثواب الصابرين ، فإنَّ بعضَهم لبعضٍ فتنةٌ ، يقولُ الفقيرُ : لو شاءَ اللهُ أغْنَانِي مثلَ فُلانٍ ، ويقولُ السَّقيمُ : لو شاءَ اللهُ أصحَّني مِثْلَ فُلانٍ ، ويقولُ الأعمَى : لو شاءَ اللهُ أبْصَرَنِي مثلَ فُلانٍ ، { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } ؛ بالأغنياءِ والفُقراءِ وغيرِهم ، أغنَى مَن أوجبَتِ الحكمةُ غِنَاهُ ، وأفْقَرَ مَن أوجبَتِ الحكمةُ فَقْرَهُ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا } ؛ أي قال الَّذينَ لا يَخَافُونَ البعثَ بعدَ الموتِ : هَلاَّ أُنْزِلَ عَلَينَا الملائكةُ رُسُلاً أو نَرَى رَبَّنَا فيُخبرَنا بذلك ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ } ؛ أي لقد تَعَظَّمُواْ في أنفُسِهم حيثُ سأَلُوا مِن الآياتِ ما لَمْ يَسْأَلْهُ أحدٌ قطُّ ، { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ؛ حين قَالُوا { أَوْ نَرَى رَبَّنَا }. والعُتُّوُ : مُجَاوَزَةُ الحدِّ في الظُّلمِ ، وَقِيْلَ : العُتُوُّ : أسدُّ الكفرِ. والمعنى : وجَاوَزُوا الحدَّ مجاوزةً شديدةً.
(0/0)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } ؛ أعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ الوقتَ الذي يَرَوْنَ فيه الملائكةَ هو يومُ القيامةِ ، وأنَّ اللهَ حَرَمَهُمُ البُشْرَى في ذلكَ اليومِ ، فقال { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ } يعني يومَ القيامةِ ، لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للمشركينَ ؛ أي لا بشَارَةَ لَهم بالجنَّةَ والثوابَ ، { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } ؛ أي يقولُ الملائكةُ : حَرَاماً مُحَرَّماً أنْ يدخلَ الجنَّة إلاَّ مَن قالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.
وَقِيْلَ : يقولُ الملائكة للمجرمينَ : { حِجْراً مَّحْجُوراً } أي حَرَاماً مُحَرَّماً عليكم البُشْرَى. وَقِيْلَ : حرامٌ عليكم الجنَّةُ. وَقِيْلَ : تقولُ الملائكةُ : حُرِّمَ عليكم سَمَاعُ البُشْرَى حَرَاماً مُحَرَّماً ، وكانتِ العربُ إذا أرادَ الرجلُ منهم أن يُحَرِّمَ شيئاً يُطْلَبُ منهُ ؛ قال : حِجْراً مَحْجُوراً ؛ لِيُعْلِمَ السائلَ بذلك أنهُ لا يريدُ أن يفعلَ. والْحَجْرُ في اللغة : هو الْمَنْعُ ، ومنهُ الْحَجْرُ على الصبيِّ ، ويجوزُ أن يكون مَحْجُوراً مِن قول الكفَّارِ للملائكةِ ؛ أي قالُوا للملائكةِ بُعْداً بَيْنَنَا وبينَكُم. قال مجاهدُ : (يَعْنِي عَوْذاً مَعَاذاً يَسْتَعِيذُونَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ).
(0/0)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } ؛ أي عَمَدْنَا إلى أعمَالِهم التي عمَلُوها في الدُّنيا التي كانوا يعتَقِدونَها طاعةً ، فجعلناها في الآخرةِ بمنْزِلة الْهَبَاءِ الْمَنْثُورِ وهو ما يقعُ في الكُوَّةِ مِن شُعاعِ الشَّمسِ ، فيقبضُ القابضُ عليه فلا يحصلُ على شيءٍ. وَقِيْلَ : هو الترابُ الذي يصعدُ من حوافرِ الدَّواب ، يُرَى ولكن لا يُقْدَرُ عليهِ. وقال ابنُ شُمَيْلٍ : (الْهَبَاءُ الْمَنْثُورُ الَّذِي تُطَيِّرُهُ الرِّيَاحُ كَأنَّهُ دُخَانٌ) ، فالمعنَى : فجعلناهُ بَاطِلاً لا ثوابَ لهُ ؛ لأنَّهم لَم يعملوهُ للهِ ، وإنَما عِملوهُ للشَّيطانِ.
(0/0)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ؛ أي أصحابُ الجنَّةِ يومئذٍ خيرٌ مُسْتَقَرّاً من هؤلاءِ المشركينَ المتكبرينَ المفتَخِرين بأعمالِهم ، وأحْسَنُ مَوْضِعاً عندَ القَيْلُولَةِ من منازلِ الكفَّار. قال ابنُ مسعودٍ : (لاَ يَنْتَصِفُ النَّهَارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْبلَ هَؤُلاَءِ فِي الْجَنَّةِ وَهَؤُلاَءِ فِي النَّارِ).
(0/0)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ } ؛ قرأ أبو عمرٍو والكوفيُّون بالتشديدِ فيهما على معنى تَتَشَقَّقُ السماءُ عن الغمامِ و(الباء) و(عن) يتعاقَبانِ ، يقال : رميتُ بالقَوسِ وعَنِ القوسِ ، ومعنى الآيةِ : ويَوْمَ تَصَّدَّعُ السَّماءُ لنُزولِ الملائكةِ في الغمامِ بأمرِ الله كما تقدَّمَ ذِكْرُهُ في قولهِ تعالى{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ }[البقرة : 210] وهو غَمَامٌ أبيضُ رقيقٌ مثل الضُّبَابَةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } ؛ أي نُزِّلَ أهلُ كلِّ سَماءٍ على حِدَةٍ منها إلى الأرضِ لإكرام المؤمنينَ وإهانةِ الكفَّار ، وأهوالِ ذلك اليومِ. ويقالُ : إن الغمامَ سحابٌ أبيض فوقَ السَّموات السَّبعِ ، كما رُوي أنَّ دعوةَ المظلومِ تُرفَعُ فوقَ الغَمامِ ، فعلى هذا يكونُ المعنى : ويوم تَشَقَّقُ السمواتُ السَّبعُ ويظهرُ الغَمامُ. قرأ ابنُ كثير : (وَنُنَزِّلُ الْمَلاَئِكَةَ) بنُونَين ونصب الملائكة.
(0/0)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـانِ } ؛ أي الْمُلْكُ الذي هو الْمُلْكُ حقّاً مُلْكُ الرَّحْمَنِ يومَ القيامةِ ، { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً } ؛ أي عَسُرَ ذلك اليومُ لشدَّتهِ ومشقَّتهِ ، ويَهُونُ على المؤمنينَ.
(0/0)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } ؛ نزلت في عُقْبَةَ بْنِ أبي مُعِيْطٍ كان إذا أرادَ أن يُؤْمِنَ فقالَ لهُ أُبَيُّ بنُ خَلَفٍ وكان صَديقاً لهُ : صَبَأْتَ يَا عُقْبَةُ! لَئِنْ آمَنْتَ لَمْ أُكَلِّمْكَ أبَداً ، فامتنعَ عن الإيْمانِ حتى قُتِلَ يومَ بدرٍ كافراً ، وقَتَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُبَيَّ بنَ خَلَفٍ يومَ أُحُدٍ.
وَقِيْلَ : " إنَّ عُقْبَةَ بنَ أبي مُعِيْطٍ كان لا يقْدُمُ من سَفَرٍ إلاّ صَنَعَ طَعَاماً فَدَعَا عَلَيْهِ أشْرَافَ قَوْمِهِ ، وَكَانَ يُكْثِرُ مُجَالَسَةَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِمَ ذاتَ يَوْمٍ مِنْ سَفَرٍ ، فَصَنَعَ طَعَاماً فَدَعَا عَلَيْهِ النَّاسَ ، وَدَعَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا قَرُبَ الطَّعَامُ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا نَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ يَا عُقْبَةُ حَتَّى تَشْهَدَ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ " فَقَالَ عُقْبَةُ : أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وَكَانَ أُبّيُّ بْنُ خَلَفٍ غَائِباً ، فَلَمَّا أُخْبرَ بإسْلاَمِ عُقْبَةَ وَكَانَ صَدِيْقَهُ ، قَالَ لَهُ : أصَبَوْتَ يَا عُقْبَةُ؟! فَقَالَ : لاَ ؛ وَاللهِ مَا صَبَوْتُ وَإنَّ أخَاكَ كَمَا تَعْلَمُ ، وَلَكِنِّي صَنَعْتُ طَعَاماً فَأَبَى أنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِي إلاَّ أنْ أشْهَدَ ، فَاسْتَحْيَيْتُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِي وَلَمْ يَطْعَمْ ، فَشَهِدْتُ لَهُ وَلَيْسَ فِي نَفِسِي ذلِكَ ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ : يَا عُقْبَةُ! مَا أنَا بالَّذِي أرْضَى مِنْكَ أبَداً حَتَّى تَأْتِيَهُ فَتَبْزُقَ فِي وَجْهِهِ! فَفَعَلَ عُقْبَةُ ذلِكَ ".
قال الضحَّاكُ : (لَمَّا بَزَقَ عُقْبَةُ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَادَ بُزَاقُهُ فِي وَجْهِهِ وَلَسَعَهُ لَسْعَةً فَأَحْرَقَ خَدَّيْهِ ، وَكَانَ أثَرُ ذلِكَ فِيْهِ حَتَّى الْمَوْتِ). وعن عطاءٍ عن ابنِ عبَّاس قال : (كَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ يُجَالِسُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَسْمَعُ كَلاَمَهُ مِنْ غَيْرِ أنْ يُؤْمِنَ بهِ ، فَلَمَّا أرَادَ عُقْبَةُ بْنُ أبي مُعِيْطٍ أنْ يُؤْمِنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زَجَرَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ ، وَكَانَ خَلِيْلاً لَهُ ، فَقَالَ لَهُ : وَجْهِي مِنْ وَجْهِكَ حَرَامٌ إنْ بَايَعْتَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم. فَلَمْ يُؤْمِنْ وَاتَّبَعَ رضَى أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ } يعني عقبةَ بن أبي مُعيطٍ ، يعضُّ على يديه تَنَدُّماً وتَحَسُّراً وأسَفاً على ما فَرَّطَ في جنب الله. قال عطاءُ : (يَأْكُلُ يَدَيْهِ حَتَّى يَذْهَبَا إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، ثُمَّ يَنْبُتَانِ ، فَلاَ يَزَالُ هَكَذا دَأبُهُ ، كُلَّمَا نَبَتَتْ يَدُهُ أكَلَهَا نَدَامَةً عَلَى مَا فَعَلَ ، وَذلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُم { يَقُولُ } ، على وجه التحسر : { يالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً } ؛ أي لَيْتَنِي اتبعتُ الرسولَ وسلكتُ طريقته فإنَّها طريقُ الهدى ، { يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } ؛ يعني أُبَيَّ بنَ خلفٍ ، { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } ؛ أي لقد صَرَفَنِي عن القُرْآنِ بعد إذ دعانِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الرَّسُولُ } ؛ أي ويقولُ الرسولُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم : { يارَبِّ إِنَّ قَوْمِي } ؛ يعنِي قُريشاً ، { اتَّخَذُواْ هَـاذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } ؛ هَجَرُوا تلاوتَهُ والعملَ به ، قالوا فيه غيرَ الحقِّ ، وزعَمُوا أنه سِحْرٌ وشِعرٌ ، وقالوا هو أساطيرُ الأوَّلين ، وتركُوا الإيْمانَ به. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ، وَعَلَّقَ مُصْحَفاً وَلَمْ يَتَعَاهَدْهُ وَلَمْ يَنْظُرْ فِيْهِ ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَعَلِّقاً بهِ ، يَقُولُ : يَا رَبَّ الْعَالَمِيْنَ ؛ عَبْدُكَ هَذا اتَّخَذنِي مَهْجُوراً ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ".
(0/0)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
وقولهُ تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي كما جعلنَا لكَ يا مُحَمَّدُ أعداءً من مشركِي قومِكَ كَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ ؛ أي من كفَّارِ قومهِ ، فلا يَكْبُرَنَّ عليك ذلكَ ولا يشقُّ عليك ، فإن الأنبياءَ قبلكَ قد كُذِّبوا ، { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } ؛ لكَ وللخلق وناصراً لك على أعدائِكَ. وانتصبَ قولهُ (هَادياً) على الحالِ أو على التمييز.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } ؛ وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَحدَّاهم بالْقُرْآنِ وأمرَهم أن يأتُوا بسورةٍ من مثلهِ ، فعجَزُوا عن ذلكَ ولزِمَتهم الحجةُ فجعلوا يطلبون الحجَّة بالشُّبهةِ ، فقالوا : لو كانَ نبيّاً لأُنزِلَ عليه القُرْآنُ جملةً واحدةً ، كما أُنزِلَتِ التوراةُ والإنجيل والزَّبورُ.
والمعنى : أن الكفارَ قالوا : هَلاَّ أُنزِلَ عليه القُرْآنُ جملةً واحدة في وقتٍ واحد ، كما أنزِلت التوراةُ على موسى ؛ والإنجيلُ على عيسَى ؛ والزبورَ على داودِ ، فبيَّنَ اللهُ أن ذلك ليس بشبهةٍ ، فقال : { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } ؛ أي كذلكَ أنزلناهُ إليكَ متفرِّقاً لنقوِّي به قلبَكَ ، فتزدادُ به بصيرةً ويسهلُ عليك ضبطهُ وحِفظهُ ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ ولا يكتبُ ، بخلافِ موسى وعيسى. ويقالُ : كأنَّ الله تعالى يعلمُ أن القومَ يسألونَهُ عن أشياء ويؤْذُونه ، فأنزَلَ الجوابَ عَقِبَ السُّؤالِ ليكون أحسنَ موقِعاً وأدعَى إلى الانقيادِ وأبلغَ في إلزام الحجَّة.
وقولهُ تعالى : { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } ؛ أي فرَّقناهُ تفْريقاً ، فقال لو رتل إذا كان متفرِّقاً غيرَ منظومٍ ، وأسنانٌ مرتَّلةٌ : اذا كانت مفلَّجَة ، ومنهُ قوله{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }[المزمل : 4] أي فَرِّق الحروفَ بعضها ببعض. قال ابنُ عباس : (مَعْنَاهُ : وَبَيَّنَّاهُ تَبْييْناً) ، وقال السديُّ : (فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيْلاً).
(0/0)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } ؛ أي لا يأتوكَ بشُبهةٍ للاحتجاجِ بها في إبطالِ أمرِكَ إلاّ جئناكَ بالذي هو الحقُّ ، والذي هو أحسنُ تفسيراً من مثَلِهم.
والمعنى : (لاَ يَأْتُونَكَ) يعني المشركين (بمَثَلٍ) ضربوهُ لكَ في إبطالِ أمرِك ومخاصمتِكَ (إلاَّ جِئْنَاكَ) (بـ) الذي هو (الْحَقِّ) لترُدَّ به خصومتَهم وتُبطِلَ به كيدَهم ، (وَأحْسَنَ تَفْسِيراً) بما أتَوا به من المثلِ. والتفسيرُ : كشفُ المعنى المغطَّى.
(0/0)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ } ؛ فقاتل كفار مكة ، وذلك أنَّهم كانوا قالُوا : إن مُحَمَّداً وأصحابَهُ شرُّ خلقِ الله ، فقالَ اللهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ؛ أي منْزِلاً ومَصيراً وأضلُّ طريقاً من المؤمنين ، وقولهُ تعالى { يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّ } أي يُسْحَبُونَ على وجوهِهم في النارِ.
وعن أنسٍ : أنَّ " رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ ؟ قَالَ : " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رجْلَيْهِ فِي الدُّنْيَا قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيْهِ عَلَى وَجَهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاَثةِ أصْنَافٍ : صِنْفٌ عَلَى الدَّوَاب ، وَصِنْفٌ عَلَى أقْدَامِهِمْ ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ ".
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً } ؛ أي آتَينا موسَى التوراةَ وجعلنا معهُ أخاهُ هارونَ مُعِيناً يُعِينهُ على تبليغِ الوحي ، والوَزيْرُ في اللغة : هُوَ الَّذِي يُرْجَعُ إلى رَأيهِ ، وَالْوِزْرُ : ما يُلْتَجَأُ إليهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ يعني فرعونَ وقومَهُ فادعُوهم إلى الإيْمانِ ، فَفَعَلاَ ذلك فلَمْ يُجِيبُوا أمرَهم ، { فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً } ؛ أي أهلكنَاهم إهلاكاً بما كان فيهِ عِبْرةٌ لِمنِ اعتبرَ.
(0/0)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } ؛ أي واذكُرْ قومَ نُوحٍ حين كذبُوا نُوحاً ومَن قبلَهُ من الرُّسل فأغرَقناهم بالطُّوفانِ ، وجعلنا إهلاكَهم للناسِ عِظَةً وعبرةً ودلالةً على قُدرَتِنا ، { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } ؛ أي الكافرينَ ، { عَذَاباً أَلِيماً } ؛ في الآخرةِ سِوَى عذابهم في الدُّنيا.
(0/0)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ } ؛ أي أهلَكْنا عَاداً وثَموداً وأصحابَ الرِّسِّ. قال قتادةُ : (الرَّسُّ بئْرٌ بالْيَمَامَةِ) ، قال السديُّ : (بَأَنْطَاكِيَّةَ وَنَبيُّهُمْ حَنْظَلَةُ) ، وإنَّما سُمُّوا أصحابَ الرَّسِّ ؛ لأنَّهم قَتلُوا نَبيَّهُمْ ورَسُّوهُ في تلكَ البئرِ ، والرَّسُّ واحدٌ. وقال مقاتلُ والسدي : (هُمْ أصْحًابُ الرَّسِّ ، وَالرَّسُّ بئْرٌ ، فَقَتَلُوا فِيْهَا حَبيْبَ النَّجَّارِ فَنَسَبَهُمْ إلَيْهَا ، وَهُمُ الَّذِيْنَ ذكَرَهُمْ فِي سُورَةِ يس). وَقِيْلَ : هم أصحابُ الأُخْدُودِ فِي قَوْمٌ رَسُّوا لِنَبيِّهِمْ) أي دَسُّوهُ في البئرِ.
رُوي أن رَجُلاً سألَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رضي الله عنه فقالَ : يا أميرَ المؤمنينَ أخبرْنِي عن أصحاب الرَّسِّ ، أينَ كانت منازلُهم ، وبماذا أُهلِكُوا ، ومَن نبيُّهم ، فإنِّي أجدُ في كتاب الله ذِكْرَهم ، ولا أجدُ خَبَرَهم ؟ فقال عليُّ رضي الله عنه : (لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ حَدِيْثٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أحَدٌ قَبْلَكَ ، وَلاَ يُحَدِّثُكَ بهِ أحَدٌ بَعْدِي ، وَكَانَ مِنْ قِصَّتِهِمْ أنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً يَعْبُدُونَ شَجَرَةَ صُنَوْبَرٍ ، كَانَ غَرَسَهَا يَافِثُ بْنُ نُوحٍ عَلَى شَفِيْرِ عَيْنٍ جَاريَةٍ ، وَإنَّمَا سُمَّواْ أصْحَابَ الرَّسِّ ؛ لأنَّهُمْ رَسُّوا نَبيَّهُمْ فِي الأَرْضِ ، وَذلِكَ أنَّهُ قِيْلَ لِسُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد ، وَكَانُوا إثْنَا عَشَرَ قَرْيَةً عَلَى شَاطِئ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ الرَّسُّ مِنْ بلاَدِ الْمَشْرِقِ ، وَكَانَ مَلِكُهُمْ يُسَمَّى تَرْكُولُ بْنُ عَامُورَ بْنِ يَاويْسَ بْنِ شَارب بْنِ نَمْرُودَ بْنِ كَنْعَانَ ، وَكَانَ أعْظَمُ مَدَائِنِهِمْ سِنْدِبَادُ بهَا الْعَيْنُ ، وَالصُّنَوبَرَةُ وهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيْمَةٌ.
وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا مَاءَ الْعَيْنِ وَهِيَ غَزِيْرَةُ الْمَاءِ ، فَلاَ يَشْرَبُونَ مِنْهَا ، وَلاَ يَسْقُونَ أنْعَامَهُمْ ، وَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ ، وَيَقُولُونَ : هِيَ حَيَاةُ آلِهَتِنَا! فَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَنْقُصَ مِنْ حَيَاتِهَا. وَقَدْ جَعَلُواْ فِي كُلِّ شَهْرٍ عِيْداً يَجْتَمِعُ إلَيْهِ أهْلُ كُلِّ قَرْيَةٍ ، وَيَضْرِبُونَ عَلَى الشَّجَرَةِ ثِيَاباً مِنْ حَرِيْرٍ فِيْهَا مِنْ أنْوَاعِ الصُّوَرِ ، ثُمَّ يَأْتُوا بشِيَاهٍ وَبَقَرٍ فَيَذْبَحُونَهَا قُرْبَاناً لِلشَّجَرَةِ ، ثُمَّ يُوقِدُونَ النَّارَ وَيَشْوُونَ اللَّحْمَ ، فَإذا انْقَطَعَ الدُّخَّانُ وَالنَّارُ خَرُّوا سُجَّداً لِلشَّجَرَةِ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إلَيْهَا أنْ تَرْضَى عَنْهُمْ.
وَكَانَ الشَّيْطَانُ يَجِيْءُ فَيُحَرِّكَ أغْصَانَهَا وَيَصِيْحُ فِي سَاقِهَا : إنِّي قَدْ رَضِيْتُ عَنْكُمْ عِبَادِي ، فَطِيْبُوا نَفَساً وَقَرُّوا عَيْناً ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَرْفُعُونَ رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَيَضْرِبُونَ الدُّفُوفَ وَيَشْرَبُونَ الْخُمُورَ.
فَلَمَّا طَالَ كُفْرُهُمْ بَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولاً ، فَلَبثَ فِيْهِمْ زَمَاناً طَوِيْلاً يَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى ، فَلَمَّا رَأى تَمَادِيْهِمْ فِي الْغَيِّ والضَّلاَلِ قَالَ : يَا رَب إنَّ عِبَادَكَ أبَوا وَكَذبُواْ وَعَبَدُواْ شَجَرَةً لاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ ، فَأَيْبسْ شَجَرَتَهُمْ يَا رَب ، فَأَصْبَحواْ وَقَدْ يَبسَتْ شَجَرَتَهُمْ فَهَالَهُمْ ذلِكَ ، وَقَالُواْ : إنَّ هَذا أيْبَسَ شَجَرَتَكُمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ غَضِبَتْ آلِهَتُكُمْ حِيْنَ رَأتْ هَذا الرَّجُلَ يَعِيبَهَا وَيَدْعُوهُمْ إلَى عِبَادَةِ غَيْرِهَا ، فَحَيَتْ وَغَضِبَتْ لِكَيْ تَغْضَبُواْ لِغَضَبهَا وَتَنْصُرُونَهَا. فَاجْتَمَعَ رَأيُهُمْ عَلَى قَتْلِهِ ، فَطَرَحُوهُ فِي بئْرٍ ضَيِّقَةِ الْمَدْخَلِ عَمِيْقَةِ الْقَعْرِ ، وَجَعَلُواْ عَلَى رَأسِهَا صَخْرَةً عَظِيْمَةَ ، وَقَالُواْ : إنَّمَا غَرَضُنَا أنْ تَرْضَى بنَا آلِهَتُنَا إذا رَأتْ أنْ قَدْ قَتَلْنَا مَنْ كَانَ يَعِيْبُهَا وَدَفَنَّاهُ بحُكْمِ كَرْبي ، فَارْحَمْ ضَعْفِي وَقِلَّةَ حِيْلَتِي وَعَجِّلْ قَبْضَ رُوحِي ، وَلاَ تُؤَخِّرْ إجَابَةَ دَعْوَتِي.
(0/0)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } ؛ حين فَرُّوا في آثارِهم فيخافُوا ويعتبروا ، { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } ؛ أي كانوا لا يخافونَ البعثَ والنُّشورَ. أخبرَ اللهُ تعالى أن الذي جرَّأهم على التكذيب أنَّهم لا يصدِّقون بالبعثِ.
(0/0)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } ؛ أي واذا رَأوْكَ كفارُ مكَّة أبو جهلٍ وأصحابهُ ما يتَّخِذُونَكَ إلاّ هُزواً ؛ أي مَهْزُوءً يستهزِؤنَ بكَ ويقولون على وجهِ الاستهزاء : { أَهَـاذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً } ؛ إلينا ، { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } ؛ أي لقد كادَ يصرفُنا عن عبادةِ آلِهتنا ، { لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا } ؛ على عبادتَها. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ؛ يومَ القيامةِ ، { حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } ؛ أي من أخطأُ طَريقاً عن الْهُدَى والدِّين والحجَّة هم أمِ المؤمنونَ.
(0/0)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ } ؛ أي أرأيتَ مَن عَبَدَ الأصنامَ بهوَى نفسهِ ، عَجَّبَ اللهُ تعالى نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم من نِهاية جهلِهم حين عبَدُوا ما دعاهم إليه الْهَوَى ، فقال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـاهَهُ هَوَاهُ }. قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أرَأيْتَ مَنْ تَرَكَ عِبَادَةَ إلَهِهِ وَخَالَفَهُ ، ثُمَّ هَوَى حَجَراً يَعْبُدُهُ مَا حَالُهُ عِنْدِي) ، قال مقاتلُ : (وذَلِكَ أنَّ الْحُرَيْثَ بْنَ قَيْسٍ السَّهْمِيَّ هَوَى شَيْئاً فَعَبَدَهُ) ، وقال سعيدُ بن جبيرٍ : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ الْحَجَرَ ، فَإذا رَأوْا أحْسَنَ مِنْهُ أخَذُوهُ وَتَرَكُوا الْحَجَرَ الأَوَّلَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } ؛ أي كَفِيلاً حافظاً تحفظهُ من اتِّباعِ هواهُ وعبادةِ ما يهوَى ، أي لستَ كذلكَ ، إنَّما بُعِثْتَ دَاعياً لا حَافِظاً.
(0/0)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } ؛ أي أتَظُنُّ يا مُحَمَّدُ أنَّ أكثرَهم يسمعون سَماع تَدْبيْرٍ وتَفَكُّرٍ ، ويعقلونَ ما يُعَاينُونَ من الْحُجَجِ ، { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ } ؛ يسمعونَ الصوتَ ولا يعقلون حقيقتَهُ ، وهذا مِثْلُ قولهِ{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً }[البقرة : 171] وقولهُ تعالى : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } ؛ أي بل هُمْ أضلُّ من الأنعامِ ؛ لأن الأنعامَ إذا زُجِرَتْ انزَجَرَتْ وهم لا يَنْزَجِرُونَ ، ولأن الأنعامَ تفهمُ بعضَ ما تسمعُ ؛ لأنَّها تُنَادَى على صفةٍ فتقِفُ وتنادى على صفةٍ فتسيرُ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } ؛ معناه : ألَم تَرَ إلى صُنْعِ ربكَ كيف بَسَطَ الظلَّ من وقتِ غُروب الشَّمسِ إلى وقتِ طُلوعِها من المشرقِ إلى المغرب. وَقِيْلَ : مِن طلوعِ الفجر إلى طلوعِ الشمس ، ولو شاءَ لجعلَ الظلَّ سَاكناً ؛ أي دائِماً لا يزولُ على أن لا تطلعَ الشمسُ ، { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً } ؛ على الظلِّ بمعنى أنهُ لولاَ الشمسُ لَمَا عُرِفَ الظلُّ ؛ لأن الظلَّ يتبعُ الشمسَ في طولهِ وقِصَرِهِ ، فإذا ارتفعَتِ الشمسُ في أعلى ارتفاعِها قَصُرَ الظلُّ ، وذلك وقتَ صلاةِ الضُّحى إلى أن تبلُغَ الشمسُ في الارتفاعِ مبلَغاً يزولُ عنده الظلُّ ، ولا ينقصُ الظلُّ بعد ذلك ، بل يأخذُ في الزيادةِ فيكون الوقتُ وقتَ صلاةِ العصر ، فما دامَتِ الشمسُ تنحطُّ يصير الظلُّ طويلاً تحتَ ذلك الانحطاطِ. والظلُّ تابعٌ للشمس التي هي دليلهُ ، ويقالُ : معنى الآية : جعلنا الشمسَ مع الظلِّ دليلاً على توحيدِ الله وكمَالِ قدرتهِ.
(0/0)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } ؛ إذا طلعَتِ الشمسُ قَبَضَ اللهُ الظلَّ قبضاً يَسيراً خَفِيّاً ؛ أي سَلَّطْنَا الشمسَ عليه حتى تَنْسَخَهُ شيئاً فشيئاً وتنقصَهُ نقصاً خفِيّاً لا يستدرَكُ بالمشاهدةِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ لِبَاساً } ؛ أي يَسْتُرُ كلَّ شيء تطلبهُ كاللِّباس الذي يسترُ البدنَ ، { وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } ؛ أي راحةٌ لأبدانِكم ، يقالُ : سَبَتَ إذا تمدَّدَ فاستراحَ ، ومن ذلك يومُ السَّبتِ ؛ لأن اليهودَ كانوا يستَرِيحون فيه بقطعِ أعمال الدُّنيا ، والسُّبَاتُ قطعُ العملِ ، { وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً } ؛ أي تَنْشُرُونَ فيه لِمعاشِكم وحوائجِكم ، والنُّشور ها هنا بمعنى التفرُّق والانبساطِ في التصرُّف.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } ؛ أي أرسلَ الرِّياحَ ينشرُ بها الغيمَ ، ويبسطُ في السَّماء قُدَّامَ المطرِ. وإنَّما قِيْلَ في الرحمةِ : رياحٌ ؛ لأنَّها الجمعُ : الجنوبُ والشَّمالُ والصَّبا ، وَقِيْلَ في العذاب : ريْحٌ ؛ لأنَّها واحدٌ وهي الدَّبُّورُ وهو عقيمٌ لا يلقح.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً } ؛ وهو الْمَطَرُ ، وهو طاهرٌ ومُطَهِّرٌ من الأنجاسِ والأحْدَاثِ ، { لِّنُحْيِـيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } ؛ أي لنُحْيي بالمطرِ بلدةً ليس فيها أشجارٌ ولا أثْمَارٌ ولا مرعًى ، { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } ؛ أي نسقِي بذلك الماءَ كثيراً من خلْقِنا من الأنعامِ. والأنَاسِيٌّ : جمعُ إنْسِيٍّ مثل كُرْسِي وكَرَاسِي ، ويقال : جمعُ إنْسَانٍ ، وأصلهُ أنَاسِيْن ، كما يقالُ : بستانٌ وبساتين وسَرْحَانٌ وسراحين.
(0/0)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } ؛ أي صرَّفنا المطرَ فقسَّمناهُ بينَهم على ما توجِّهُ الحكمةُ لتذكُرُوا أنْعُمَ اللهِ فتشكرُوها ، { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } ؛ أي جُحُوداً به كلَّما أنزلَ المطرَ ، يقولون : مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذا.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (مَا عَامٌ بأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ ، وَلَكِنَّ اللهَ يُقَسِّمُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَا سَنَةٌ بأَمْطَرَ مِنْ أُخْرَى ، وَلَكِنْ إذا عَمِلَ قَوْمٌ بالْمَعَاصِي حَوَّلَ اللهُ ذلِكَ إلَى غَيْرِهِمْ ، فَإذا عَصَوا جَمِيْعاً صَرَفَ اللهُ ذلِكَ إلَى الْفَيَافِي وَالْبحَار ".
(0/0)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } ؛ أي لو شِئنا لبعَثنا في كلِّ قريةٍ نَذيراً ينذِرُهم ، ولكن بعثناكَ يا مُحْمَّدُ إلى القُرَى رَسُولاً لعِظَم كرامَتِك علينا ، وليكون كلُّ الثواب والكرامة لك خاصَّةً ، { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ } ؛ فِيما يطلبونَ منكَ أن تعبُدَ آلِهَتهم ، ومداهنَتَهم ، { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } ؛ أي بالقُرْآنِ ، { جِهَاداً كَبيراً } ؛ شَديداً.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } ؛ أي وهو الذي أرسلَ البَحْرَيْنِ في مجارَيهما ، يقالُ : مَرَجْتُ الدَّابَّةَ ؛ أي أرسَلْتُها في الْمَرْجِ ترعَى.
وأرادَ بقوله { هَـاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } النيلُ والأنْهارُ العِظَامُ ، والفراتُ ما يكون في غايَةِ العذُوبَةِ ، وأرادَ بالملحِ الأُجَاجِ الذي يكون ماؤُها في غايةِ المرارة ، ويقالُ : في غاية الحرارةِ ، من قولِهم : أجَّجْتَ النارَ إذا وَقَدْتَها ، وتأجَّجَتِ النارُ إذا توقَّدَت ، ويقالُ : ماءُ مِلْحٌ ولا يقال : مالِحٌ إلاّ لِمَا يُلْقَى فيه الملحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } ؛ أي حَاجِزاً يَمنَعُ كلَّ واحدٍ منهما من تغييرِ الآخر ، وهو ما بين العَذْب والملحِ من الأرض. ويقال : أصلُ الْمَرْجِ الْخَلْطُ ، وَمِنْ ذلِكَ الْمَرْجُ ؛ لأنه يكون فيه أخلاطٌ من النباتِ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ }[ق : 5] أي مُختَلِطٍ بالملحِ والعَذْب في مرأى العينِ مختلِطَان ، وفي قدرةِ الله منفَصِلان ، لا يغيِّرُ أحدُهما طَعْمَ الآخرِ. { بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي حَاجِزاً من قدرةِ الله تعالى ، و { حِجْراً } أي مانعاً يَمْنعُ من اختلاطِهما ، وفسادِ أحدهما بالآخرِ ، ومعنى قولهِ تعالى { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي حَرَاماً مُحَرَّماً أن يُفْسِدَ الملحُ العذبَ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } ؛ أي خَلَقَ من النُّطفةِ إنساناً وخَلْقاً كثيراً ، فجعلَ مِن هؤلاء البَشَرِ أنسَاباً وأصهاراً ، { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } ؛ على ما أرادَ.
(0/0)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ } ؛ إن عَبَدُوهُ ، { وَلاَ يَضُرُّهُمْ } ؛ إنْ ترَكُوا عبادتَهُ ، وتركُوا عبادةَ اللهِ الذي خلَقَهم ورزَقَهم ، { وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً } ؛ أي وكان الكافرُ عَوْناً للشَّيطانِ على رَبهِ بالمعاصِي ؛ لأنه تابعُ الشيطان ويعاونهُ على معصيةِ الله ، لأنَّ عبادتَهم للأصنامِ معلومةٌ للشَّيان. والظَّهِيرُ هو الْمُعِيْنُ. قال المفسِّرون : أرادَ بالكافرِ أبا جَهْلٍ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } ؛ أي مُبَشِّراً بالجنَّة ونذيراً من النَّارِ ، { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } ؛ أي على القُرْآن وتبليغِ الوَحيِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن شَآءَ } ؛ أي لكن مَن شَاءَ ، { أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً } ؛ إنفاقَ المال في طلب مرضَاةِ الله وجنَّتهِ.
(0/0)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ } ؛ أي فَوِّضْ أمورَكَ إليه ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } ؛ أي احْمَدْهُ مُنَزَّهاً عن ما لا يجوزُ في صفاتهِ ، وذلك نحوَ أن يقولَ : الحمدُ للهِ رب العالَمين ، والحمدُ للهِ حَمداً يُوافِي نِعَمَهُ ويكافئُ مزيدَهُ ، ويجوز أن يكون : صَلِّ بأمرهِ هو المحمودُ في توفيقهِ إياكَ ، كما يقالُ : افْعَلْ هذا بحمدِ الله ، { وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } ؛ فهو أولَى مَن يراقِبُ غيرَهُ.
(0/0)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَـانُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } ؛ أي فاسأَلْ لسُؤالِكَ إياهُ خَبيراً ، والخبيرُ ها هنا هو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، ويقالُ : معناهُ : فاسألِ الخبيرَ بذلك ، يعني : ما ذُكِرَ من خَلْقِ السَّمواتِ والأرض والاستواءِ على العرش. وَقِيْلَ في معناهُ : فاسأَلْ عالِماً بمَ تسألهُ عنه ، ولا تسأَلْ غيرَهُ ، وإذا سألتَ حاجتَكَ ؛ فاسأَل عالِماً بما يصلحُكَ ، وإنك إذا سألتَهُ أخبركَ بالحقِّ في صفاتهِ ، وفي كلِّ ما سألتَ عنهُ.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } ؛ أي إذا قِيْلَ لكفَّارِ مكَّة : { اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَـانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَـانُ } ؛ قالُوا : ما نعرفُ إلاّ رَحْمَانَ اليَمَامَةِ ؛ يعنونَ مُسَيْلَمَةَ. وقولهُ تعالى : { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً } ؛ استفهامُ إنكارٍ ؛ أي لا نسجدُ للرَّحمنِ تَباعداً من الإيْمانِ ، كما قالَ تعالى في قصَّة نوحٍ : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِي إِلاَّ فِرَاراً }[نوح : 6].
(0/0)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً } ؛ البُرُوجُ : منازلُ الكواكب السَّبعةِ : الشَّمسُ ؛ والقمَرُ ؛ والمشتَرِي ؛ فالْمِرِّيخُ ؛ وزُحَلُ ؛ وعُطَارِدُ ؛ والزُّهرَةُ ، وهي اثنى عشرَ بُرجاً ؛ فالْحَمَلُ والعَقْرَبُ بَيْتَا المرِّيخِ ، والثَّورُ والميزانُ بيتا الزُّهرةِ ، والْجَوزَاءُ والسُّنبلة بيتَا عُطَارِدَ ، والْجَدْيُ والدَّلْوُ بيتا زُحَلٍ.
وقولهُ تعالى : { وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً } ؛ يعني الشَّمسَ ، { وَقَمَراً مُّنِيراً }. وقرأ حمزة (سُرُجاً) أراد الشِّمسَ والكواكبَ معها. والمعنى : وجعلَ في السَّماء شَمساً تضيءُ بالنهارِ. ويقطعُ كلَّ شهر بُرجاً من البروج الاثني عشرَ ، وجعلَ فيها قمراً يضيءُ بالليل ، ويقطع كلَّ بُرج في يومٍ وثُلُثٍ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } ؛ أي يخلفُ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَهُ ، يذهبُ أحدُهما ويجيءُ الآخر ، فهو عِظَةٌ لِمَن اتَّعَظَ ، وأرادَ أن يشكُرَ أنعَامَ اللهِ.
قال أبو عُبيدة : (الْخِلْفَةُ كُلُّ شَيْءٍ : اللَّيْلُ خِلْفَةٌ لِلنَّهَارِ ، وَالنَّهَارُ خِلْفَةٌ لِلَّيْلِ ؛ لأنَّ أحَدَهُمَا يَخْلُفُ الآخَرَ وَيَأْتِي بَعْدَهُ). وقال مجاهدُ : (جَعَلَ النَّهَارَ خِلْفَةً مِنَ اللَّيْلِ لِمَنْ نَامَ باللَّيْلِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ خِلْفَةً لِمَنِ اشْتَغَلَ بالنَّهَارِ) فَمَنْ فَاتَهُ الْعَمَلُ باللَّيْلِ قَضَاهُ بالنَّهَارِ ، وَمَنْ فَاتَهُ بِالنَّهَارِ قَضَاهُ باللَّيْلِ.
(0/0)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } ؛ أي عبادهُ الذين رَضِيَهم وأثنَى عليهم هم الذين يَمْشُونَ على السَّكينةِ والوَقَارِ الْهُوَيْنَا ، متواضِعين من مخافةِ الله ، حُلَمَاءَ عُقلاءَ لا يجهَلُون وإنْ جُهِلَ عليهم ، وإن كَلَّمَهم الكفارُ والفُسَّاقُ بالسَّفَهِ والفُحْشِ ؛ قالُوا سَدادً مِن القولِ. وَقِيْلَ : يقولون في جواب السَّفيهِ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ. وقال قتادةُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } ؛ أيْ كَانُوا لاَ يَجْهَلُونَ عَلَى أهْلِ الْجَهْلِ). وقال مقاتلُ : (قَالُوا سَلاَماً ؛ أيْ قَوْلاً يَسْلَمُونَ فِيْهِ مِنَ الإثمِ).
قال الحسنُ : (هَذِهِ صِفَةُ نَهَارهِمْ إذا انْتَشَرُواْ فِي النَّاسِ ، وَلَيْلُهُمْ خَيْرُ لَيْلٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } ؛ أي يصَلُّون باللَّيلِ طَلباً للثواب). وعن ابنِ عبَّاس قَالَ : (مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ أوْ أكْثَرَ فَقَدْ بَاتَ للهِ سَاجِداَ أوْ قَائِماً).
(0/0)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
(0/0)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } ؛ لاَزماَ دَائماً. والغَرَمُ : اللُّزُومُ ، يقالُ لصاحب الدَّين : غَرِيْمٌ ؛ لأنَّهُ يلازمُ الْمَدْيُونَ ، ويقالُ للمَدْيُونِ : الغَرِيْمُ ؛ لأنَّ اللُّزُومَ يثبتُ عليهِ ، والْمُغْرَمُ بالنِّساءِ الْمُلاَزمُ لَهُنَّ. قال الزجَّاجُ : (إنَّ عَذابَهَا كَانَ غَرَاماً ، الْغَرَامُ أشَدُّ الْعَذاب). { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } ؛ أي إنَّ جهنَّم بئسَ موضعٍ قَرَاراً وإقامةً هي. قال الحسنُ : (كُلُّ غَرِيْمٍ يُفَارقُ غَرِيْمَهُ إلاَّ غَرِيْمَ جَهَنَّمَ).
(0/0)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ؛ الإسْرَافُ : هو الإنفاقُ في معاصِي اللهِ تعالى ، والْمُقَتِّرُ : مَانِعُ حقِّ اللهِ تعالى ، والقَوَامُ : هو الوسطُ بين الإسرافِ والتَّقتيرِ. قرأ أهلُ المدينةِ والشام بضمِّ الياءِ وكسر التاء ، وقرأ الكوفيُّون (يُقَتَّرُواْ) بفتح التاء وضم الياء ، وقرأ الباقون (يَقْتِرُواْ) بفتح الياء وكسر التَّاء ، وكلُّها لغاتٌ صحيحة. فالإسرافُ : نفقةٌ في معصيةِ الله تعالى وإنْ قَلَّتْ ، والإقْتَارُ : منعُ حقِّ الله.
وعن الحسنِ أنَّ مَعناهُ : (لَمْ يُنْفِقُواْ فِي مَعَاصِي اللهِ ، وَلَمْ يُمْسِكُواْ عَنْ فَرَائِضِ اللهِ). وَقِيْلَ : معناهُ : لَم يضَيِّقُوا في الإنفاقِ ، وكان إنفاقُهم بين الإسرافِ والإقتَارِ ، لا إسْرَافاً يدخلُ به في حدِّ التبذيرِ ، ولا تضيْيقاً يضرُّ به في حدِّ المانع لِمَا يجبُ ، وهذا هو الْمَحمودُ مِن النفقةِ.
وعن عمرَ رضي الله عنه : (مِنَ الإسْرَافِ أنْ لاَ يَشْتَهِيَ الرَّجُلُ شَيْئاً إلاَّ أكَلَهُ) وقال : (كَفَى بالْمَرْءِ سَرَفاً أنْ يَأْكُلَ مَا يَشْتَهِي). وقال قتادةُ : (الإسْرَافُ : النَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَالإقَتَارُ : الإمْسَاكُ عَنْ حَقِّ اللهِ ، وَالْقَوَامُ مِنَ الْعَيْشِ : مَا أقَامَكَ وَأغْنَاكَ).
(0/0)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا آخَرَ } ؛ قِيْلَ : " إنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أيُّ الذنْب أكْبَرُ ؟ قَالَ : " أنْ تَجْعَلَ للهِ نَدّاً وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ : ثُمَّ أيُّ ؟ قَالَ : " أنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَالَ : ثُمَّ أيُّ ؟ قَالَ : " أنْ تَزْنِي بحَلِيْلَةِ جَارِكَ " فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هذِهِ الآيةَ تَصْدِيقاً لذلكَ : { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا آخَرَ } { وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ } ؛ في الحديثِ " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بأَحَدِ ثَلاَثِ مَعَانٍ : زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ، وَكُفْرٌ بَعْدَ إيْمَانٍ ، وَقَتْلُ نَفْسٍ بغَيْرٍ حَقٍّ ". { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } ؛ أي مَن يفعلُ شيئاً ممَّا تقدَّم ذِكره { يَلْقَ أَثَاماً } أي يَلْقَ عقوبةَ فعلهِ ، ويقالُ : الآثَامُ وادٍ في جهنَّم من دمٍ وَقَيْحٍ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أنَّ صَخْرَةً عَسْرَاءَ قُذِفَ بهَا فِي جَهَنَّمَ مَا بَلَغَتْ قَعْرَهَا سَبْعِيْنَ خَرِيْفاً ، ثُمَّ يَنْتَهِي إلَى غَيٍّ وَأثَامٍ " قِيْلَ : وَمَا غَيٌّ وَأثَامٌ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " بئْرَانِ يَسِيْلُ فِيْهِمَا صَدِيْدُ أهْلِ النَّارِ ، وَهُمَا اللَّتَانِ قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } [مريم : 59] ". ورُوي أنَّ أثَاماً وادٍ في جهنَّم فيه حيَّاتٌ وعقاربُ في فَقَار إحداهنَّ مقدار ستِّين قُلَّةً من السُّمِّ ، كلُّ عقرب منهنَّ مثل البغلةِ الموكفة.
(0/0)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } ؛ تفسيرُ الغيِّ الأثَامُ بقولهِ { يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ } الآيةُ ، ومَن رفعَ (يُضَاعَفْ ، وَيَخْلُدْ) وهو ابنُ عامر فهو على الاستئنافِ والقطع عما قبله.
(0/0)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ قال ابن عباس : (نزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بمَكَّةَ ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَالُواْ : مَا يُغْنِي عَنَّا الإسْلاَمُ وَقَدْ عَدَلْنَا باللهِ وَقَتَلْنَا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ وَأتَيْنَا الْفَوَاحِشَ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ).
ومعناها : إلاّ مَن تَابَ عن الكفرِ والمعصية وآمَنَ باللهِ وَعَمِلَ عَمَلاً صالحاً بعدَ الإيْمَانِ والتوبةِ ، فأُولَئِكَ يَمحُو اللهُ سيِّئاتِهم بالتوبةِ ويُثْبتُ لَهم مكانَها حسناتٍ ، وهذا هو معنى التَّبديلِ ، لا تصيرُ السَّيئةُ بعينها حسنةً.
وعن ابنِ عباس أنهُ قال : (قَرَأنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم{ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ }[الفرقان : 68-69] الآيَةُ ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } الآيَةُ ، فَمَا رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرِحَ بشَيْءٍ مِثْلَ فَرَحِهِ بهَا وَبقَوْلِهِ{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح : 1]).
قال قتادةُ : (وَمَعْنَاهَا : إلاَّ مَنْ تَابَ مِنْ ذنْبهِ وَآمَنَ برَبهِ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فِيْمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبهِ). وَقال أيضاً في معنى قوله { فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } : (التَّبْدِيْلُ فِي الدُّنْيَا طَاعَتُهُ بَعْدَ عِصْيَانِهِ ، وَذِكْرُ اللهِ بَعْدَ نِسْيَانِهِ). وقال الحسنُ : أبْدَلَهُمْ اللهُ بالْعَمَلِ إلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ بالشِّرْكِ إخلاَصاً وَإسْلاَماً ، وَبالْفُجُورِ إحْصَاناً ، وَبقَتْلِ الْمُؤْمِنِيْنَ قَتْلَ الْمُشْرِكِيْنَ).
(0/0)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً } ؛ أي مَن تاب من الشِّرك وعَمِلَ صالحاً ، ولَم يكن من القبيلِ الذين قَتَلُوا وزَنَوا ، فإنهُ يتوبُ اللهُ ؛ أي يعودُ عليه بعد الموتِ مَتَاباً حَسَناً يفضَّلُ على غيرهِ بمن قَتَلَ وزَنَى ، فالتوبةُ الأُولى رجوعٌ عن الشِّرك ، والثانيةُ رجوعٌ إلى اللهِ للجزاءِ والمكافأة.
(0/0)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : الزُّورُ ها هنا بمعنى الشِّركِ. قال الزجَّاجُ : (الزُّورُ فِي اللُّغَةِ الْكَذِبُ ، وَلاَ كَذِبَ فَوْقَ الشِّرْكِ باللهِ). وقال قتادةُ : (وَلا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ، لاَ يُسَاعِدُونَ أهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى بَاطِلِهِمْ). وقال محمَّدُ بنُ الحنفيَّة : (لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ : اللَّهْوَ وَالْغِنَاءَ وَاللَّعِبَ وَأعْيَادَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ). وقال عليُّ بن أبي طلحةَ : (شَهَادَةُ الزُّورِ). وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه (يَجْلِدُ شَاهِدَ الزُّورِ أرْبَعِيْنَ جَلْدَةَ ويُسَخِّمُ وَجْهَهُ وَيَطُوفُ بهِ فِي الأَسْوَاقِ). وعن عمرَ بن المنكدرِ أنه قالَ : بَلَغَنِي (أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أيْنَ الَّذِيْنَ مَانُواْ يُنَزِّهُونَ أنْفُسَهُمْ عَنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ وَمَزَامِيْرِ الشَّيْطَانِ ؟ أدْخِلُوهُمْ ريَاضَ الْمِسْكِ. ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ : اسْمِعُوا عَبيْدِي تَحْمِيْدِي وَثَنَائِي وَتَمْجِيْدِي ، وَأعْلِمُوهُمْ أنْ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } ؛ أي إذا مَرُّوا بالقولِ والفعل الذي لا فائدةَ منه مرُّوا مُكرِمين صَائِنين أنفسَهم عن الخوضِ في ذلك ، آمِرِين بالمعروفِ ناهينَ عن المنكرِ بما قَدِرُوا عليه من قولٍ إذا عَجِزُوا عن الفعلِ ، ومِن إظهار كرامةِ وتَعْبيْسٍ وجهٍ إذا عَجِزُوا عن القولِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } ؛ معناهُ : والذين إذا وُعِظُوا بآياتِ ربهم ؛ أي بالقُرْآنِ ؛ لَم يعامِلُوا فيها معاملةَ الأصَمِّ الذي لا يسمعُ ، والأعمَى الذي لا يُبْصِرُ ، ولكنَّهم سَمعوا وبَصروا وانتفعوا بها وخَرُّوا ساجدينَ سامعين باكينَ مبصرين فيما أُمِرُوا به ونُهُوا عنهُ. والْخَرُّ هو السُّقوطُ.
(0/0)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } ؛ الذُّرِّيَّةُ تكونُ واحداً وجَمعاً ، فكونُها الواحد : قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً }[آل عمران : 38] ، وكونُها للجمعِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُرِّيَّةً ضِعَافاً }[النساء : 9]. وقوله تعالى { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } : { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا } أرادَ أتقياءَ. وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : اجْعَلْهُمْ صَالِحِيْنَ فَنُقَرُّ أعْيُناً بذلِكَ). وقال الحسنُ : (مَا مِنْ شَيْءٍ أقَرَّ لِعَيْنِ الْمُسْلِمِ مِنْ أنْ يَرَى وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ مُطِيْعِيْنَ للهِ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } ؛ أي يُقتدَى بنا في الخيرِ ، والمعنى : اجعلنَا صالِحين نأتَمُّ بمن قَبْلَنَا من المسلمينِ حتى يأتَمَّ بنا مَن بعدَنا. قال الفرَّاءُ : (إنَّمَا قَالَ (إمَاماً) وَلَمْ يَقُلْ : أئِمَّةً كَمَا قَالَ : (إنَّا رَسُولُ رَب الْعَالِمِيْنَ) لِلاثَنَيْنِ ، يَعْنِي : إنَّهُ مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُرِيْدُ بهِ الْجَمِيْعَ). وفي الحديثِ : " مَنْ رُزقَ إيْمَاناً وَحُسْنَ خُلُقٍ فَذاكَ إمَامُ الْمُتَّقِيْنَ "
(0/0)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } ؛ أي أهلُ هذه الخِصَالِ همُ الذين يُجِزَوْنَ الْغُرْفَةَ في الجنَّة بصَبْرِهم على الطاعةِ وعن المعصيةِ وعلى مَكَارِهِ الزَّمان ومِحَنِ الدُّنيا. والغُرْفَةُ هي البناءُ العالِي المرتفعُ ، قال مقاتلُ : (يَعْنِي غُرَفَ الْجَنَّةِ). وقال مقاتلُ : (هِيَ غُرْفَةٌ مِنَ الزُّبُرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } ؛ أي وتتلقَّاهمُ الملائكة في تلك الغُرَفِ بالتحيَّة والسَّلامِ مِن اللهِ تعالى. قرأ أهلُ الكوفة (يَلْقَوْنَ) بفتح الياءِ والتخفيف. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } ؛ أي حَسُنَتْ تلك الغُرَفُ في المستقرِّ والْمُقَامِ.
(0/0)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } ؛ أي قُلْ لَهم : ما يصنعُ بكُمْ ربي وهو لا يحتاجُ إليكم لولا دعاؤهُ إيَّاكم إلى الإسلامِ وإلى الطاعةِ لتنتَفِعُوا أنتم بذلكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : أيُّ وَزْنٍ وقَدْرٍ لكم عند ربي لولا دعاؤُكم وعبادتُكم إياه. وَقِيْلَ : معناهُ : ما يفعلُ بكم يا أهلَ مكَّة لولا عبادتُكم غيرَ اللهِ ، { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } ؛ يا أهلَ مكة ، { فَسَوْفَ يَكُونُ } ؛ جزاءُ تكذيبهم ، { لِزَاماً } ؛ أي أُسِروا وأُخِذُوا بالأيدِي. وَقِيْلَ : أراد به يومَ بدرٍ.
واللَّزَامُ بنصب اللام مصدراً أيضاً. والخطابُ بقوله { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } يا أهلَ مكَّة ؛ أي إنَّ الله دعَاكم بالرَّسُولِ إلى توحيده وعبادتهِ ، فقد كَذبْتُمُ الرسولَ ، ولَم تُجيبوا دعوتَهُ ، فسوفَ يكون تكذيبُكم لِزَاماً يلزمكم فلا تعطونَ التَّوبةَ ، فقُتِلُوا يومَ بدرٍ واتَّصَلَ بهم عذابُ الآخرةِ.
(0/0)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } ؛ أولُ السورة قَسَمٌ ؛ وهو من أسماءِ الله تعالى. قال الْقَرَظِيُّ : (أقْسَمَ اللهُ بطَوْلِهِ وَسَنَائِهِ وَمُلْكِهِ) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } أي هذه آياتُ الكتاب المبينِ أنزَلَها على رسولهِ.
(0/0)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ؛ أي لعلَّكَ مُهْلِكٌ نفسَكَ ؛ أي قائلٌ بأنْ لا يكونُوا مؤمنينَ ، وكان صلى الله عليه وسلم حَريصاً على إيْمانِهم ونَجاتِهم من عذاب الله ، وذلكَ أنهُ لَمَّا كذبت قريشٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم شُقَّ عليهِ ذلك ، وكان يحرصُ على إيْمانِهم ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ : لعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ لترْكِهم الإيْمانَ.
(0/0)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } ؛ إعلامٌ مِن الله تعالى أنهُ لو أرادَ أنْ يُنَزِّلَ آيةُ تضطَرُّهم إلى الطاعةِ لقَدِرَ على ذلكَ ، ولكنهُ لَم يفعلْ ؛ لأنه أرادَ منهم إيْمَاناً فيستحقُّون عليه المدحَ والثوابَ ، فإذا جاءَ الإلْجَاءُ ذهَبَ الْمَدْحُ وَالثَّوَابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي أذِلاَّءَ مُنقادِين لا يَلْوُونَ أعناقَهم إلى معصيةٍ. قال قتادةُ : (الْمَعْنَى : لَوْ شَاءَ اللهُ لأَنْزَلَ عَليْهِمْ آيَةً يُذلُّونَ بهَا ، فَظَلَّتْ جَمَاعَتُهُمْ لَهَا خَاضِعِيْنَ). وَالأعْنَاقُ : الْجَمَاعَاتُ ، يقالُ : جاءَنِي عُنُقٌ من الناسِ ؛ أي جماعةٌ ، ولو كان المرادُ الأعناقُ التي هي الخارجةُ لقال : خَاضِعَاتٌ.
(0/0)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَـانِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } ؛ أي ما يأتِي جبريلُ عليه السلام النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ بعدَ شيءٍ من القُرْآنِ إلاّ كانوا مُعْرِضِيْنَ عن ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ } ؛ أي بالقُرْآنِ ، { فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ أي فسيأتِيهم خبرُ ذلك في القيامةِ.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
وقولهُ تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } معناهُ : أولَمْ يرَ أهلُ مكَّةَ إلى الأرضِ كم أخرَجَنا فيها مِن كلِّ صِنْفٍ حَسَنٍ في الْمَنْظَرِ من النَّباتِ بعد أن كانت مَيْتَةً لا نَبَاتَ فيها. والزَّوْجُ : هو صِنْفٌ وأضْرُب الْحُسْنِ ، (والمعنَى : مِن كلِّ زَوْجٍ نَافِعٍ لا يقدرُ على إنباتهِ إلاّ ربُّ العالَمين) ، من أسْوَدٍ وأحمرٍ وأصفرٍ وأخضرٍ ، وحُلْوٍ وحَامضٍ مما يأكلُ الناسُ والأنْعَامُ. (والكريْمُ في اللُّغة : هو الْمَحْمُودُ فيما يُحْتَاجُ إليهِ) ، يقالُ : نخلةٌ كَرِيْمَةٌ إذا طابَ حَمْلُهَا أو كَثُرَ ، وناقةٌ كَرِيْمَةٌ إذا كانت غَزِيْرَةَ اللَّبَنِ.
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؛ إنَّ في اختلافِ ألوان النبات للدلالةً على وحدانيَّة اللهِ وكمال قُدرته ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ } ؛ في عِلْمِ اللهِ ؛ أي قد سَبَقَ في عِلْمِ الله أنَّ أكثرَهم لا يُؤمنون ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ؛ أي الْمُنْتَقِمُ من أعدائهِ الرَّحِيْمُ بأوليائهِ.
(0/0)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي أتْلُ على قومِكَ أو اذكُرْ لقومِكَ : { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى } حين رأى الشجرةَ والنارَ ، وقال لَهُ : يا مُوسَى ائْتِ القومَ الظَّالِمين ، يعنِي الذين ظَلَمُوا أنفُسِهم بالكفرِ والمعصية ، وظَلَمُوا بني إسرائيلَ بأنْ سَامُوهم سوءَ العذاب ، { قَوْمَ فِرْعَوْنَ }.
ثُم أخبرَ عنهم فقال : { أَلا يَتَّقُونَ } ، عِقابي في مقامِهم على الكُفْرِ وتركِ الإيْمانِ. { قَالَ } مُوسَى : { رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } ؛ بالرِّسالةِ ويقولون : لَيْسَتْ مِن عند الله ، { وَيَضِيقُ صَدْرِي } ؛ بتَكْذِيْبهِمْ إيَّايَ ، { وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي } ؛ للعُقْدَةِ التي فيهِ ، { فَأَرْسِلْ } جبريلَ { إِلَى هَارُونَ } ليكون مَعِي معيناً يُؤَازِرُنِي على إظهارِ الدَّعوةِ وتبليغ الرِّسالةِ. { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } ؛ أي دَعْوَى ذنبٍ ؛ يعني الْوَكْزَةَ التي وَكَزَهَا الْقِبْطِيَّ فماتَ منها ، { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } ؛ بوِشايَتهِ.
(0/0)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ كَلاَّ } ؛ أي كَلاَّ لا يقتلونَكَ لأنِّي لا أُسَلِّطُهُمْ عليكَ ، { فَاذْهَبَا } ؛ أنتَ وأخُوكَ ، { بِآيَاتِنَآ } ؛ يعني بما أعطَاهُما من المعجرةِ ، { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } ؛ وإنَّما قالَ (مَعَكُمْ) لأنه أجْرَاها مجرَى الجماعةِ ، والمعنى : أسْمَعُ ما يقولونَهُ وما يُجِيبُونَكَ به.
وَقِيْلَ : إنَّ معنى قولهِ (كَلاَّ) أي قالَ اللهُ لِمُوسَى : إرتَدِعْ عَنْ هذا الظَّنِّ وهذا الخوفِ ، { فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ } أي بدلاَئِلنا { إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } أي شَاهِدُونَ بحفْظِكُم ونَصَرِكُمْ.
(0/0)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي { رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } إليكَ لَتُؤْمِنَنَّ باللهِ وَتُطْلِقَ بَنِي إسْرَائِيْلَ عن الاستعبادِ ، وتُرْسِلَهم معنَا إلى الأرضِ المقدَّسةِ ، والرَّسُولُ يُذْكَرُ ويرادُ به الجمعُ ، كما تقولُ العرب : ضَيْفٌ وَعَدُوٌّ ، ومنهُ قولهُ{ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }[الكهف : 50] ، وَقِيْلَ : إنَّما قالَ { رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ولَم يقُلْ رَسُولاَ ؛ لأنَّهُ أرادَ المصدرَ ؛ أي رسَالَةَ ، وتقديرهُ : ذوُو رسالةِ رَبِ العالمينَ ، كقولِ الشَّاعرِ : لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ بسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ برَسُولِأي برسالةٍ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وكلُّ واحد مِنَّا رسولُ رب العالَمين.
(0/0)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي بأَنْ أرْسِلْ معنا بَنِي إسرائيلَ إلى فِلَسْطِيْنَ ولا تَسْتَعْبدْهُمْ. وكان فرعونُ استعبَدَهم أربعمائة سَنة ، وكانُوا في ذلك الوقتِ ستُّمائة ألفٍ وثلاثين ألفاً ، فانطلقَ موسَى وهارونُ بالرِّسالةِ إلى مِصْرَ ، فلمَّا بلَغُوا دارَ فرعون لَم يُؤْذنْ لَهم بالدُّخولِ عليه إلاّ بعدَ مدَّةٍ ، فدخلَ البوَّابُ ؛ وقالَ لفرعونَ : هذا إنسانٌ يدَّعِي أنه رسولُ رب العالَمين ، فقالَ فرعَونُ : إئْذنْ لهُ لعلَّنا نضحَكُ منه. فدخَلاَ عليه وأدَّيَا رسالةَ اللهِ تعالى.
فعرَفَ موسى ؛ لأنهُ نشأ في بيته ، فـ { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } ؛ أي صبيّاً صغيراً ، { وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } ؛ وهي ثلاثونَ سَنة ، { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } ؛ يعني قَتْلَ قِبْطِيٍّ ، { وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ؛ أي مِن الْجَاحِدِيْنَ لنِعمَتي ، وحقَّ تربيَتي ، فربَّيناكَ فِينَا ولِيداً ، فهذا الذي كافَأْتَنا به أن قَتَلْتَ منَّا نَفْساً ، وكفَرْتَ بنعمَتِنا.
ويروَى أنَّ موسَى لَمَّا انطلقَ إلى مصر لتبليغِ الرِّسالةِ ، وكان هارونُ يومئذٍ بمصْرَ ، التقَى كلُّ واحدٍ منهُما بصاحبهِ ، فانطلَقَا كلاهُما إلى فرعونَ ، أدَّيَا جميعاً الرسالةَ ، وعَرَفَ فرعونُ موسَى ، قال لهُ فرعونُ : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } أي صَغِيْراً ، ومكثتَ عندنا سِنيناً من عُمُرِكَ ، { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ } أي قتلتَ القبطيَّ { وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } أي الجاحدينَ لنِعمَتي وتربيتي.
(0/0)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
{ قَالَ } موسَى : { فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّالِّينَ } ؛ أي فعلتُ تلك الفعلةَ وأنا من الْجَاهِلينَ ، لَم يأتِنِي من اللهِ شيءٌ ، ولا يجوزُ أن يكون المرادُ بهذا الإضلال عنِ الْهُدَى ؛ لأن ذلك لا يجوزُ أن يكون على الأنبياءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأنَا من الْمُخْطِئِيْنَ ، نظيرهُ{ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ }[يوسف : 95]. وَقِيْلَ : مِن النَّاسِينَ ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى }[البقرة : 282].
(0/0)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } ؛ أي هَرَباً منكم إلى مِدْيَنَ لَمَّا خِفْتُكُمْ على نفسِي أن تقتلُونِي بالذي قتلهُ ، { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً } ؛ أي نُبُوَّةً ، وَقِيْلَ : فَهْماً وعِلْماً ، { وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ } ؛ وإنِّي لأُبَلِّغُكم التوحيدَ والشَّرائعَ.
(0/0)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ قال المفسِّرون : هذا إنكارٌ مِن موسى أن يكونَ ما ذكَرَ فرعونُ نعمةً على موسى ، واللفظُ لفظ خبَرٍ وفيه تبكيتٌ للمخاطَب على معنى : إنَّكَ لو كنتَ لَمْ تقتُلْ بنِي إسرائيل كانت أُمِّي مُسْتَغنِيةً عن قذفِي في أليَمِّ ، فكأنَّكَ تَمُنُّ عليَّ بما كان بلاؤُكَ سبباً لهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ فرعونَ لَمَّا قالَ لِمُوسى : ألَمْ نُرَبكَ فِيْنَا وَلِيْداً ؟ قالَ لهُ موسى : تلكَ نِعْمَةٌ تعدُّها عليَّ لأنَّكَ عَبَّدْتَ بَنِي إسرائيلَ ؛ أي استعبَدْتَهم ، ولو لَم تعبدْهم لكفَلَني أهلِي فلم يُلْقُونِي في اليَمِّ. يقالُ : استعبدتُ فلاناً وأعْبَدْتُهُ وَتَعَبَّدْتُهُ وَعَبَّدْتُهُ ؛ أي اتَّخَذْتُهُ عَبداً.
وَقِيْلَ : معنَى الآيةِ : أتَمُنُّ علَيَّ بذلكَ وأنتَ استعبدتَ بني إسرائيلَ ، فأبطلْتَ نعمتَكَ عليَّ بإسَاءتِكَ إليهم باستعبادِكَ إيَّاهم ؟ وبأنْ أخَذْتَ أموالَهم وأنفقتَ على موسى منها ؟ وكانت أُمِّي هي التي ترَبيني ، فأيُّ نعمةٍ لكَ علَيَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ عَبَّدتَّ } في موضِعها وجهان ؛ أحدُهما : النصبُّ بنَزعِ الخافضِ ، والثانِي : الرفعُ على البدلِ مِن (نِعْمَتِي).
(0/0)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي قالَ له فرعونُ : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِيْنَ ؟ أي قالَ له فرعونُ : أيُّ شَيْءٍ رَبُّ العالَمين الذي تدعُونِي إليهِ ، { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ؛ بأنَّ المستحِقَّ للربوبيَّة مَن يكون هذه صفتهُ ، وأنَّ هذه الأشياءَ التي ذكرتُ ليست مِن فِعْلِكم.
فلما قالَ موسى ذلك تَحَيَّرَ فرعونُ ولَم يَرُدَّ جَواباً ينقضُ به القولَ. { قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } ؛ مقالةَ موسَى؟! وَ { قَالَ } موسَى : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأَوَّلِينَ } ؛ بَيَّنَ أنَّ المستحقَّ للربوبية من هو ربُّ أهلِ كلِّ عصرٍ وزمان ؛ أي الذي خَلَقَ آباءَكم الأوَّلين ، وخلَقَكم من آبائِكم.
فلم يَقْدِرْ فرعونُ على جوابهِ ، فـ { قَالَ } فرعونُ لجلسائهِ : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } ؛ أي ما هذا بكلامٍ صحيح إذ يزعمُ أن لَهُ إلَهاً غَيْرِي.
فلم يَشْتَغِلْ موسَى بالجواب عن ما نَسَبَهُ إليه من الجنونِ ، ولكن اشتغلَ بتأكيدِ الْحُجَّةِ والزِّيادةِ ، { قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ؛ توحيدَ اللهِ ، فإن كنتم ذوي عقولٍ لَمْ يَخْفَ عليكم ما أقولُ.
فلم يُجِبْهُ فرعونُ بشيء ينقضُ حجَّته ، بل هدَّدَهُ و { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَـاهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } ؛ أي لأَحْبسَنَّكَ مع مَن حبستهُ في السِّجنِ. ظَنَّ بجهلهِ أم يخافَهُ ويتركَ عبادةَ الله ويتخِذ فرعونَ إلَهاً. وكان سجنُ فرعونَ أشدُّ من القتلِ ؛ لأنه كان إذا حَبَسَ الرجلَ طَرَحَهُ في مكانٍ وحدَهُ لا يسمعُ فيه شيئاً ، ولا يُبْصِرُ فيه شيئاً ، وكان يُهْوَي به في الأرضِ. و { قَالَ } موسَى لفرعونَ حين توعَّدَهُ بالسِّجنِ : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } ؛ يعنِي لو جِئْتُكَ بأمرٍ ظاهر تعرفُ فيه صِدْقِي وكَذِبَكَ. و { قَالَ } ؛ فرعونُ على وجهِ التهزِئَةِ { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ }. { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي حَيَّةٌ صفراءُ ، ذكَرٌ عظيمٌ أعظمُ ما يكون من الحيَّاتِ ، قال فرعونُ : فَهَلْ غَيْرُ هَذِهِ! { وَنَزَعَ يَدَهُ } ؛ مِن جيبهِ ، { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ } ؛ بيَاضاً نُورِيّاً لَها شعاعُ الشَّمسِ ، { لِلنَّاظِرِينَ }.
فإنْ قِيْلَ : كيف سَمَّى العصا ثُعباناً في هذه الآيةِ ، وسَماها جَاناً في آيةٍ أُخرَى حيثُ قال{ كَأَنَّهَا جَآنٌّ }[القصص : 31] والجانُّ الخفيفةُ ؟ قُلْنَا : إنَّما سَمَّاها ثُعباناً لعِظَمِ حسِّها ، وسَمَّاها جَانَاً لسُرعَةِ مِشْيَتِهِ وحركتهِ ، وفي ذلك ما يدلُّ على عِظَمِ الآيةِ.
فلم يكن لفرعونَ دفعٌ لِمَا شاهدَ إلاَّ أنْ قَالَ : هَذا " سِحْرٌ " سَحَرْتُمُوهُ ، فأوهَمَ أصحابَهُ أنه لا صِحَّةَ لهُ ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَكَانَ الْمَلأُ حَوْلَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ أشْرَافِ قَوْمِهِ ، عَلَيْهِمْ الأَسْوِرَةُ) فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ هَذا لَسَاحِرٌ حَذِقٌ بالسِّحْرِ ، { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } ؛ يُلقِي الفرقةَ والعداوة بينَكم فيُخرِجَكم من بلادكم ، { بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } ؛ أي ماذا تُشِيرُونَ عَلَيَّ في أمرهِ ، ولو تَفَكَّرَ هؤلاء الْجُهَّالُ في قولهِ ذلكَ لعَلِمُوا أنه ليس بإلهٍ لافتقارهِ إلى رأيهم ، ولكنَّهم لفَرْطِ جهلِهم مَوَّهَ عَلَيْهِمْ.
(0/0)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ } ؛ أي قال له الملأُ : أخِّرْ أمرَهُ وأمرَ أخيهِ لا يُناظِرُهما إلى أن يبعثَ إلى المدائنِ الشُّرَطَ يحشرونَ السَّحرةَ ، ليصنعَ السَّحرةُ مثلَ ما صنعَ موسى ، ولا يثبتُ له عليكَ حجَّةً.
(0/0)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ؛ أي لِميعاد يومِ زِيْنَتِهِمْ وهو يومُ عيدِهم ، { وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ } ؛ اجتَمِعُوا لتَنْظُرُوا إلى السَّحرةِ ، { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ } ؛ أي نتَّبعُ دِينَهم ، { إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ } ؛ لِمُوسَى ، ويقالُ : أرادُوا بالسَّحرةِ موسى وهارون { إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ } على سِحْرِهم.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً } ؛ أي جُعْلاً ، { إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } ؛ لِمُوسَى. { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ } ؛ مع ما أعطَيتُكم من الأموالِ ، { إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ؛ في المرتبةِ والمنْزِلة وللدخُولِ عَلَيَّ.
(0/0)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } ؛ أي اطْرَحُوا من أيديكم ما تريدونَ طَرْحَهُ من الحبالِ والعصيِّ ، وهذا أمرُ تَهديدٍ لا أمرُ تحقيقٍ ، { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } ؛ أي بمَنَعَتِهِ ، { إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } ؛ لِمُوسَى ، فامتلأَ الوادِي حيَّاتٍ ، فهابَهُ ذلكَ ، فقيلَ لِمُوسَى : ألقِ عصاكَ ، { فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ؛ فألقَاها فصارَتْ حيَّةً عظيمةَ تَلْقَفُ ما صَنَعُوا من السِّحرِ ، ثُم أخذها موسى فعادت عَصَا كما كانت ، ولو لَم يوجد لِمَا تلقَفُهُ أثرٌ.
(0/0)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } ؛ فسجدَتِ السَّحرةُ عندَ ذلك للهِ تعالى لِمَا عَلِمُوا أن ذلك ليس بسِحْرٍ ، وإنَّما هو من عندِ الله ، و { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ قال لَهم فرعونُ : إيَّايَ تَعْنُونَ ؟ قالُوا : { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } ؛ أي صدَّقتُم به قَبْلَ أنْ آمُرَكم بذلكَ ، { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } ، وكان فرعونُ أوَّلَ من قَطَعَ وَصَلبَ. قال ابنُ عبَّاس : (إنَّهُمْ مِنْ سُرْعَةِ سُجُودِهِمْ للهِ كَأَنَّهُمْ أُلْقُواْ).
(0/0)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } ؛ أي قالَتِ السَّحرةُ : لا يضُرُّنا ما تصنعُ بنا في الدُّنيا في جَنْب ثواب الله في الآخرةِ ، إنَّا إذا رجَعْنا إلى ربنا مؤمنينَ لنأخذ حقَّنا من الظالِمِ ، { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } ؛ شِرْكَنَا أي يتجاوزُ تأخُّرَنا ، { أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بأن كُنَّا أوَّلَ المؤمنينَ لِمُوسَى مِن أهلِ الجمع اليومَ ، فكانوا سحرةً في أوَّل النهار شُهَدَاءَ في آخرهِ.
(0/0)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } ؛ أي بَبنِي إسرائيلَ لَيْلاً ، { إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } ؛ وأخبرْهم أنَّ فرعونَ وقومه يتَّبعونَهم ويُنجِيهم اللهُ من ضرَرِهم ، فأسْرَى بهم مُوسى ليلاً إلى البحرِ ، { فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } ؛ يحشرونَ النَّاسَ ويجمعون لَهُ الناس الجيشَ ، ثُم قال فرعونُ لقومهِ : { إِنَّ هَـاؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } ؛ يعني مُوسَى وأصحابه ، والشِّرْذِمَةُ : الْفِئَةُ الْقَلِيْلَةُ ، والشِّرْذِمَةُ في كلام العرب : القليلُ مِن كلِّ شيءٍ من الناسِ والأموالِ.
رُوي أنَّ هؤلاء الذين اشغَلَهم فرعونُ يومئذٍ سـُّمائةِ ألفٍ وسبعون ألفاً ، وكان هَاَمَانُ على مقدِّمةِ فرعونَ ومعه ألْفَا ألفٍ ، وفرعونُ في أكثرِ من خَمسة عشرَ ألفِ ألفٍ.
(0/0)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } ؛ أي لفاَعِلُونَ ما يُغِيْظُنَا لإظهارِهم خلافَ دِيننا ، وأخْذِهم حُبَلَنا وقَتْلِهم أبكارَنا. وذلك أنَّ اللهَ تعالى أوحَى إلى موسى أنِ اجْمَعْ أولادَ بنِي إسرائيلَ كلُّ أهلِ أربعةِ أبياتٍ في بيت ، ثُم اذْبَحُوا الأولادَ واضْرِبُوا بدمائِها على أبوابكم ، فإنِّي سَآمُرُ الملائكةَ لا يدخلون بَيتاً على بابهِ دَمٌ ، وسَآمُرُهم بقتلِ أبكارِ آل فرعونَ ، ثُم أسْرِ بِعبَادِي ، ففعلَ ذلك ، فلما أصبَحُوا ، قال فرعونُ : هذا عملُ موسَى وقومهِ ، قَتَلُوا أبكارَنا وأخذُوا أموالَنا ، فأخذ في طلبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } ؛ قرأ الكوفيُّون وابنُ عامر (حَاذِرُونَ) بالألفِ ؛ أي شَاكُّونَ في السِّلاحِ ، ذوُو أداةٍ وقوَّةٍ وكِرَاعٍ ، وبَنُوا اسرائيلَ لا سلاحَ لَهم. وقرأ الباقون (حَذِرُونَ) أي مُسْقَطُونَ خائفونَ شرَّهُم.
(0/0)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ؛ يعني فرعونَ وقومَهُ مِن بساتينَ وعُيونٍ جارية ، { وَكُنُوزٍ } ؛ أي وخزائنَ مدَّخَرة من الذهب والفضَّةٍ ، { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } ؛ أي مجالسَ رفيعةٍ من مجالسِ الملوك والرؤساء ، { كَذَلِكَ } ؛ فعلنا بهم ، { وَأَوْرَثْنَاهَا } ؛ وأورثنا أرضَهم وديارَهم وأموالهم ، { بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ وذلك أنَّ الله ردَّ بني إسرائيلَ إلى مِصْرَ بعدما أُغْرِقَ فرعونُ وقومه ، وأعطاهم جميعَ ما كان لفرعونَ من الأموالِ والعَقَارِ والمساكنِ.
(0/0)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } ؛ يعني قومَ فرعون أدرَكُوا موسى وقومه حين أشْرَقَتِ الشمسُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } ؛ أي فلَمَّا تَوافى الفريقانِ ، وتقابَلاَ بحيثُ يرى كلُّ فريقٍ صاحبه ، وعايَنَ بعضُهم بعضاً ، قال أصحابُ موسَى : سَيدْرِكُنَا قومُ فرعونَ ، ولا طاقةَ لنا بهم! { قَالَ } لَهم موسى : { كَلاَّ } ؛ أي لن يُدْرِكْنَا ، ارتَدِعُوا وانزَجِرُوا عن هذه المقالةِ ، { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي } ؛ نَاصِري وحَافِظِي ، { سَيَهْدِينِ } ؛ إلى طريقِ النَّجاةِ منهم.
(0/0)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ } ؛ فصارَ اثنا عَشَرَ طريقاً ، لكلِّ سِبْطٍ طريقٌ ، ووقفَ الماءُ لا يجري ، وكان بين كلِّ طريقين قطعةٌ من الماءِ ، { فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } ؛ كالجبلِ العظيم ، وهذا البحرُ بحرُ القَلْزَمِ ، تسلكُ الناسُ فيه من اليمنِ ومكَّة إلى مصرَ.
(0/0)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ } ؛ يعني قومَ فرعون ؛ أي قرَّبناهم إلى الهلاكِ ، وقذفْنَاهم في البحرِ ، وأدْنَيْنَا بعضَهم من بعضٍ ، وجمعنَاهُم فيه بما يسرُّنا لبنِي إسرائيل من سُلوكِ البحرِ ، فكان ذلك سببُ قُرْبهِمْ من البحرِ حين اقتحموهُ. وسُمِّي (الْمُزْدَلِفَةُ) مزدلفةً لاجتماعِ الناس فيها ، فلمَّا تكاملَ جنودُ فرعونَ في البحرِ انطبقَ عليهم فغَرقُوا جميعاً ، { وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ } ؛ مِن الغرقِ ، { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ } ؛ أي فرعونَ وقومه.
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؛ أي إنَّ في ذلك الانْفِلاَقِ الذي صارَ نجاةَ بني اسرائيل ، وفي الانطباق الذي كان سببَ غَرَقِ آلِ فرعونَ لآيةً على توحيدِ اللهِ وصدق نبوَّة موسى ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي لَم يكن قومُ فرعونَ مع وُضُوحِ الأدلةِ على وحدانيَّة اللهِ مصدقين ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } ؛ أي القاهرُ المنتقم من الكفَّار ، { الرَّحِيمُ } ، بعبادهِ ، ولَم يكن آمَنَ مِن أهلِ مصر غيرُ آسْيَةَ بنت مُزاحم ، وحِزقيل الْمُؤمِنُ ، ومريَمُ بنتُ ناموثية التي دَلَّتْ على عظامِ يُوسُفَ ، فلذلكَ قال { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ }. وَقِيْلَ : معنى قوله { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } أي العزيزُ في انتقامهِ من أعدائه حين أغرَقَهم ، الرَّحِيْمُ بالمؤمنينَ حين أنْجَاهُمْ.
(0/0)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ } ؛ أي إقرَأ يا مُحَمَّدُ على قومِك ، { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } ؛ أي فنُقِيمُ عليها عابدينَ ، مُقيِمين على عبادتِها ، قال بعضُ العلماءِ : إنَّمَا { فَنَظَلُّ لَهَا } لأنِّهم كانوا يعبدونَها بالنَّهارِ دون الليلِ ، { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ } ؛ أي هَلْ يسمعونَ دُعاءَكم إن دعَوتُموهم أو ينفَعُونكم إن دعَوتُموهم ، أو يضرُّونَكم إن لَم تدعوهم. وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أوْ يَرْزُقُونَكُمْ أوْ يَكْشِفُونَ عَنْكُمُ الضُّرَّ).
(0/0)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } ؛ فنحنُ نَقْتَدِي بهم ، { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ } ؛ أي قال لَهم إبراهيمُ : أفَرَأيْتُمْ هذا الذي تعبدونَهُ أنتم وآباؤُكم الْمُتَقَدِّمُونَ ، { فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي فإنَّنِي أُعادِيهم ، أتبرَّأُ منهم. وقولهُ تعالى : { إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ }. رُوي أنَّهم كام يعبدونَ اللهَ مع الأصنامِ ، فَتَبَرَّأ إبراهيمُ مِن جميعِ ما يعبدونَهُ إلاّ من عبادةِ الله. وإنَّما قال { عَدُوٌّ لِي } على التوحيدِ في موضع الجمعِ على معنى : أنَّ كلَّ واحدٍ منهم عَدُوٌّ لِي.
ويقالُ : إنَّ قولَهُ تعالى { عَدُوٌّ } في موضعِ المصدر ، كأنَّهُ قالَ ذوُو عداوةٍ ، فوقعت الصفةُ موقعَ المصدرِ ، كما يقعُ المصدرُ موقعَ الصفةِ في رَجُلٍ عَدْلٍ ، ويجوزُ أن يكونَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ } استثناءٌ منقطعٌ ، معناهُ : ولكنَّ ربَّ العالَمين الذي خَلَقَنِي ليس بعدُوٍّ لِي هو يهدينِ ؛ أي يُرشِدنِي إلى الحقِّ ، وذلك أنَّهم كانوا يزعمُونَ أن أصنامَهم هي التي تَهديهم ، فقالَ إبراهيمُ ردّاً عليهم : { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } ؛ إلى الدِّين والرُّشدِ لا ما تعبدون.
(0/0)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } ؛ أي هو رَازِقي ، فِمن عنده طَعَامِي فهو الذي يُشبعني إذا جِعْتُ ، ويَرْوِيني إذا عطشتُ ، { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } ؛ أي يُعافِيني من المرضِ ، وذلك أنَّهم كانوا يقولونَ : المرضُ من الزَّمانِ ، والأغذيةُ والشِّفاء من الأطبَّاءِ والأدوِيةِ ، فأخبَرَ إبراهيمُ أنَّ الذي أمْرَضَ هو الذي يُشْفِي وهو اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، ولَم يقُلْ إبراهيمُ فأَمْرَضْتَنِي ؛ لأنه يقالُ مَرِضْتُ ، وإنْ كان المرضُ بخَلْقِ الله وقضائهِ ، ولا يقالُ أمْرَضَنِي اللهُ.
(0/0)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } ؛ أي هو الذي يُمِيتُني في الدُّنيا ثُم يُحييْنِي في الآخرةِ للبعثِ ، { وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } ؛ معناهُ : والذي أعلمُ وأرْجُوا أن يغفرَ لِي يومَ الحساب. وذكرَهُ بلفظِ الطَّمعِ ؛ لأن ذلكَ أقربُ إلى حُسْنِ الأدب. وقال بعضُ المفسِّرين : يَعْنِي الكذباتِ الثلاث ، قولهُ : إنِّي سقيمٌ ، وقولهُ : بَلْ فَعَلَهُ كبيرُهم هذا ، وقولهُ لسارةَ : هي أُخْتِي. وزاد الحسنُ والكلبيُّ قولَهُ أيضاً للكواكب : هَذا رَبي.
قال الزجَّاجُ : (إنَّ الأَنْبيَاءَ بَشَرٌ يَجُوزُ أنْ تَقَعَ مِنْهُمُ الْخَطِيْئَةُ ، إلاَّ أنَّهُمْ لاَ تَكُونُ مِنْهُمُ الْكَبيْرَةُ ؛ لأنَّهُمْ مَعْصُومُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ الدِّينِ } ؛ أي يومَ الجزاء والحساب.
(0/0)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً } ؛ يريدُ به النبوَّةَ بعد نُبُوَّةٍ ، وإنَّما أرادَ : زِدْنِي عِلْماً إلى علمٍ وفِقْهاً إلى فقهٍ ، { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } ؛ أي بالنبيِّين مِن قَبْلِي في الدرجة والمنْزِلة والثواب. والصلاحُ هو الاستقامةُ على ما أمَرَ اللهُ بهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ } ؛ أرادَ به الثناءَ الحسَنَ ؛ أي اجعَلْ لِي ثناءً حسناً في الدِّين يكونُ بعدي إلى يومِ القيامة. وقد استجابَ اللهُ دعاءَهُ حين أحبَّهُ أهلُ الأديان كلُّهم. وَقِيْلَ : واجعَلْ لِي في ذرِّيتي مَن يقومُ بالحقِّ ويدعو إليه ، وهو مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ومَنِ اتَّبَعَهُ ، فإنَّهم هم الذين أظْهَرُوا شرائعه وفضائلَهُ.
(0/0)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } ؛ أي أدخِلْنِي الجنَّةَ واجعلني مِن الذين يَرِثُونَ الفردوسَ ، { وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ } ؛ أي مِن المشركين ، وإنَّما دَعَا إبراهيمُ لأبيه لِمَوْعِدَةٍ وعَدَها إياهُ ، فلما تَبَيَّنَ له أنه عدوُّ لله تَبَرَّأ منهُ ، وكان هذا الدعاءُ قَبْلَ أن يَتَبَرَّأ منهُ. والضَّالُّ هو الذاهبُ عن طريقِ الحقِّ.
(0/0)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } ؛ أي لا تَفْضَحْنِي ولا تُهْتِكْ سَتْرِي يومَ القيامةِ ، يوم تبعثُ الخلقَ. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا تعذِّبْني يومَ تبعثُ الخلائقَ ، وإنَّما قال ذلكَ مع علمهِ أنه لا يخزيهِ ، إمَّا على طريق التَّعَبُّدِ وإنا حَثّاً لغيرهِ على أن يقتدي بهِ في مِثْلِ هذا الدُّعاء.
ثُم فَسَّرَ ذلكَ اليوم ؛ فقال : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } ؛ أي لا ينفعُ ذا المالِ مالهُ الذي كان في الدُّنيا ، ولا ينفعهُ بَنُوهُ ولا يواسُونَهُ بشيءٍ مِن طاعتِهم ، ولا يحملونَ شيئاً من معاصيهِ ، وقولهُ تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ؛ يعني من الشِّرْكِ والنفاقِ ، فإنه ينفعهُ سلامةُ قلبهِ. وَقِيْلَ : القلبُ السَّليمُ هو الصحيحُ وهو قلبُ المؤمنِ ، وقلبُ الكافرِ المنافقِ مريضٌ.
وقال أهلُ الْمَعَانِي في تفسيرِ هذه الآياتِ أقوالاً غيرُ هذه ، فقال بعضُهم : معنى{ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء : 78] أي الذي خلَقَني في الدُّنيا على فطرتهِ فهو يهدينِ في الآخرة إلى جنَّتِهِ ، وقولهُ تعالى{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ }[الشعراء : 79] أي يُطعِمُني أيَّ طعامٍ شاءَ ، ويسقينِي أيَّ شرابٍ شاءَ.
قال محمَّدُ بن كثير : (صَحِبْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ بمَكَّةَ ، فَكَانَ يَأْكُلُ مِنَ السَّبْتِ إلَى السَّبْتِ كَفّاً مِنَ الرَّمْلِ). وعن الحجَّاج بن عبدِالكريم قالَ : (خَرَجْتُ مِنْ بَلَخَ فِي طَلَب إبْرَاهِيْمَ بْنَ أدْهَمٍ فَوَجَدْتُهُ بحِمْصَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَلَبثْتُ مَعَهُ يَوْمِي ذلِكَ ، فَقَالَ : لَعَلَّ نَفْسَكَ تُنَازِعُكَ إلَى شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَأَخَذ رَمَاداً وَتُرَاباً وَخَلَطَهُمَا وَأعْطَانِيَهُ فَأَكَلْتُهُ ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيَّ وَأنْشَأَ يَقُولُ : اخْلِطِ التُّرَابَ بالرَّمَادِ وَكُلْهُ وَازْجُرِ النَّفْسَ عَنْ مَقَامِ السُّؤَالِوقال أبو بكرٍ الورَّاقُ : (مَعْنَى يُطْعِمُنِي بلاَ طَعَامٍ ، وَيَسْقِينِي بلاَ َشَرَابٍ) يُشْبعُنِي رَبي وَيَرْوِيْنِي مِنْ غَيْرِ علاقة ، كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي أبيْتُ يُطْعِمُنِي رَبي وَيَسْقِينِي ". وقال عليُّ بن قادمٍ : (كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي نُعَيْمٍ لاَ يَأْكُلُ فِي شَهْرٍ إلاَّ مَرَّةً! فَبَلَغَ ذلِكَ الْحَجَّاجَ ، فَدَعَاهُ فَأَدْخَلَهُ بَيْتاً وَأغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً ، ثُمَّ فَتَحَهُ ، وَلَمْ يَشُكَّ أنَّهُ قَدْ مَاتَ ، فَوَجَدَهُ قَائِماً يُصَلِّي ، فَقَالَ : يَا فَاسِقُ أتُصَلِّي بغَيْرِ وُضُوءٍ؟! فَقَالَ : يَا حَجَّاجُ ؛ إنَّمَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ مَنْ يُخْرِجُ وَيَشْرَبُ ، فَأَنَا عَلَى الطَّهَارَةِ الَّتِي أدْخَلْتَنِي عَلَيْهَا هَذا الْبَيْتَ) ، وقال ذُو النُّونُ : (مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ }[الشعراء : 79] أيْ يُطْعِمُنِي طَعَامَ الْمَعْرِفَةِ ، وَيَسْقِيْنِي شَرَابَ الْمَحَبَّةِ. ثُمَّ أنْشَأَ يَقُولُ : شَرَابُ الْمَحَبَّةِ خَيْرُ شَرَاب وَكُلُّ شَرَابٍ سِوَاهُ سَرَابُوقال أبو يزيدٍ البُسطَامِيُّ : (إنَّ للهِ شَرَاباً يُقَالُ لَهُ شَرَابَ الْمَحَبَّةِ ، إدَّخَرَهُ لأَفَاضِلِ عِبَادِهِ ، فَإذا وَصَلُواْ اتَّصَلُواْ ، فَهُمْ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيْكٍ مُقْتَدِرٍ). وقال الْجُنَيْدُ : (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً إلاَّ مَنْ لَبسَ لِبَاسَ التَّقَوَى ، وَجِيَاعاً إلاَّ مَنْ أكَلَ طَعَامَ الْمَعْرِفَةِ ، وَعَطَاشَى إلاَّ مَنْ شَرِبَ شَرَابَ الْمَحَبَّةِ), وقولهُ تعالى{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ }[الشعراء : 80] قال جعفرُ الصَّادِقُ : (إنِّي إذا مَرِضْتُ بالذُنُوب فَهُوَ يَشْفِيْنِي بالتَّوْبَةِ). وقال بسطامُ بن عبدِالله : (إذا أمْرَضَتْنِي مُقَاسَاةُ الْخَلْقِ شَفَانِي بذِكْرِهِ وَالأُنْسِ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء : 81] ، قال أهلُ المعرفةِ : يُمِيتُنِي بالعدلِ ويُحييني بالفضلِ ، يُمِيتُني بالمعصيةِ ويُحييني بالطاعةِ ، يُمِيتُني بالفراقِ ويُحييني بالتَّلاقِ ، يُمِيتُني بالجهلِ ويُحييني بالعقلِ ، يُمِيتُني بالخذلانِ ويُحييني بالتوفيقِ.
(0/0)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ أي قَرُبَتْ وأدنيتُ لَهم حتى نَظَرُوا إليها ، { وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } ؛ أي أُظْهِرَتْ وكُشِفَتْ للضَّالين عن الْهُدَى ، { وَقِيلَ لَهُمْ } ؛ للضَّالِّين في ذلكَ اليومِ على وجه التَّوبيخِ : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي أينَ آلِهتُكم التي تعبدونَها مِن دون اللهِ ؟ هل يدفعونَ العذابَ عنكم ، { هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ } ؛ هل { يَنتَصِرُونَ } ؛ لأنفُسِهم ؛ أي يدفعونَ عن أنفسِهم.
ثُم يُؤْمَرُ بهم فيُلْقَوْنَ في النارِ ، فلذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ } ؛ وقال الزجَّاجُ : (طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) ، وقال ابنُ قتيبةَ : (أُلْقُواْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ) ، وقال مقاتلُ : (قُذِفُواْ فِيْهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ) ، قال السديُّ : (يَعْنِي الآلِهَةَ وَالْمُشْرِكِيْنَ) ، وقال عطاءُ : (هُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَجُنُودُ إبْلِيْسَ أجْمَعُونَ ، يَعْنِي ذُرِّيَّةَ إبْلِيْسَ كُلَّهُمْ).
وَقِيْلَ : معنى (كُبْكِبُوا) : أُجْمِعُواْ وهم كُفَّارُ مكَّة ، وكفارُ الجنِّ والإنسِ وآلِهتُهم وذريَّةُ إبليسَ حتى صَارُوا كُبَّةً واحدةً وطُرِحُوا في النارِ.
(0/0)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
(0/0)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
(0/0)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ } ؛ أي في النارِ مع آلِهتهم ورُؤسائِهم : { تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ وقولهُ تعالى { إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي تَاللهِ ما كُنَّا إلاّ فِي ضلالٍ مُبين حيثُ سوَّينَاكُمْ برَبِّ العالَمين ، فأَعْظَمْنَاكُمْ وعَبَدْنَاكم وعَدَلْنَاكم به ، يُقِرُّونَ على أنفسِهم بالخطأ ، { وَمَآ أَضَلَّنَآ } ؛ عنِ الْهُدَى ، { إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ } ؛ يعني الشَّياطينَ. وَقِيْلَ : أضَلُّونا الذين اقْتَدَيْنَا بهم ، { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } ؛ يشفعُ لنا مِن الملائكةِ والنبيِّين والمؤمنينَ حين يَشْفَعُونَ لأهلِ التوحيدِ ، { وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } ؛ أي ولا ذِي قرابةٍ يهمُّهُ أمرُنا. والْحَمِيْمُ : القريبُ الذي تَوَدُّهُ وَيَوَدُّكَ.
قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ الْمُؤْمِنَ يَشْفَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُؤْمِنِ الْمُذْنِب وَالصَّدِيْقِ الصَّاحِب الَّذِي يَصْدُقُ فِي الْمَوَدَّةِ). وفي الحديثِ : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " إنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ : مَا فَعَلَ صَدِيْقِي فُلاَنٌ ؟ وَصَدِيْقُهُ فِي النَّارِ ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : أخْرِجُواْ لَهُ صَدِيْقَهُ إلَى الْجَنَّةِ ، فَيَقُولُ مَن بَقِيَ : فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِيْنَ ، وَلاَ صَدِيْقٍ حَمِيْمٍ ".
ثُم قالوا : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } ؛ أي رَجْعَةً إلى الدُّنيا ، { فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ المصدِّقين بالتوحيدِ ليحِلَّ لنا الشفاعةَ كما حَلَّتْ لأهلِ التوحيدِ.
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؛ أي فيما أخبرَ من قصَّة إبراهيمَ واختصامِ أهل النَّار ، وتَبَرُّؤُ بعضِهم من بعضٍ لَعِبْرَةٌ للعُقلاءِ مِن بعدِهم ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ؛ أي الغالبُ على تعجيلِ الانتقامِ بالإمهالِ إلى أن يُؤمِنوا ، والْمُنْعِمُ عليهم بعدَ التوبةِ.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } ؛ قال الزجَّاجُ : (دَخَلَتِ التَّاءُ هَا هُنَا ، وَ(قَوْمُ) مُذكَّرٌ ؛ لأنَّ الْمُرَادَ الْجَمَاعَةُ) أي كذبَتْ جماعةٌ قومُ نوحٍ ومَن قبلَهُ من الرُّسل ، { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ عذابَ اللهِ بتوحيده وطاعتهِ ، وكان أخوهُم من النَّسب لا من جهةِ الدِّين ، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } ؛ على الرِّسالةِ فيما بَينِي وبين ربكم.
وَقِيْلَ : معناهُ : كنتُ أمِيناً فيكم قبلَ اليومِ ، فكيفَ تتَّهمُونِي اليومَ ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ فيما أمَرَكم به ، { وَأَطِيعُونِ } ؛ فيما أدعُوكم إليه وأطيعونِي فيما أمُرُكم به من الإيْمان والتوحيد. { وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } ؛ أي على الدُّعاء إلى التَّوحيدِ ، { مِنْ أَجْرٍ } ؛ مَا ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ وَقِيْلَ : ما أسألُكم على تبليغِ الوحي والرِّسالةِ مَالاً فيصدُّكم عن القَبولِ منِّي ، وتعتقدون فِيَّ الطمعَ. وقولهُ تعالى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } ؛ أي اتَّقُوا عقابَ اللهِ ، وأطِيعُوا أمْرِي ، وتكريرُ { فَاتَّقُواْ اللَّهَ } : لأنَّ الأول (اتَّقُوا اللهَ وَأطِيْعُونِ) لأنِّي رسولُ رب العالَمين أمينٌ ، والثانِي (اتَّقُواْ اللهَ وَأطِيْعُونِ) لأنِّي مَا أسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أجْرٍ.
فـ { قَالُواْ } له : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } ؛ أي أنُقِرُّ بكَ ونصدِّقُكَ وقد اتَّبَعَكَ سَفَلَتُنَا وهم الأرْذلُونَ الأقَلُّونَ ، وكان قد آمَنَ بنوحٍ ضُعفاءُ قومهِ وبنُوهُ ، وكان أكثرُ مَن اتَّبعَهُ يخصُّون بصناعاتٍ خَسِيسَةٍ مثل الْحُوَكِ والأسَاكِفَةِ ، فلذلك قال لهُ أشرافُ قومهِ : { وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ } ، ويقرأُ : (وَأتْبَاعُكَ الأَرْذلُونَ) وهي قراءةُ يعقوبَ ؛ أي أشْيَاعُكَ وأهلُ دِينك. قال الزجَّاج : (وَالصِّنَاعَاتُ لاَ تَضُرُّ فِي بَاب الدِّيَانَاتِ) ، وقال عطاءُ : (يَعْنُونَ بالأَرْذلُونَ : الْمَسَاكِيْنَ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ).
(0/0)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي قال نوحُ : ما أعلَمُ أعمالَهم وصنائِعَهم ، ولَم أكَلَّفْ ذلكَ ، وإنَّما كُلِّفْتُ أن أدعُوَهم ، ولا أسألُ عمَّا كانوا يعملونَ ، ولا أطلبُ عِلْمَ صنائعِهم ، وإنَّما العيبُ في المعاصِي لا في خسَاسَةِ الصِّناعة.
(0/0)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } ؛ أي ما حسَابُهم فيما يعملونَ { إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } لو تعلَمُون ما عاقبتموهم بصنائعِهم. وَقِيْلَ : إنَّهم نَسَبُوا قومَهُ الذين آمَنُوا به إلى النِّفاقِ وإضمارِ الكُفْرِ ، فقالَ : { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي } أي ما جزاؤُهم إلاَّ على رَبي { لَوْ تَشْعُرُونَ }.
(0/0)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي لا أطْرُدُهُمْ مِن عندي مع إظهارِهم الإيْمانِ بسبب فَقْرِهم ، وطعنِكُم عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي ما أنَا إلاَّ معكم بموضِعِ المخافة لتحذرُوها ، فمَن قَبلَ قَرَّبْتُهُ ، ومَن رَدَّ باعدتهُ ؛ ولَم أُكَلَّفْ عِلْمَ ما في الضمائرِ.
(0/0)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ } ؛ أي لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عما تقولُ ، { لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } ؛ الْمَقْتُولِيْنَ بالحجارةِ ، { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي فاقضِ بيننا قضاءً يكون بنَجَاتِنا وهلاكِ عدُوِّنا.
(0/0)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ } ؛ في السَّفينةِ المملوءَةِ من الناسِ والبهائم والسِّباع والطيرِ ، فذلك قوله تعالى : { فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } ؛ أي الذي قد مُلِئَ مما ذكرنا من جميعِ الحيوان ، وقولهُ تعالى : { ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } ؛ أي بعد نَجَاةِ نُوحٍ ومَن معه أغْرَقْنَا الآخرينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؛ أي في إغْرَاقِ الكافرينَ ونَجَاةِ المؤمنين في السَّفينة لعلامةً تدلُّ على وحدانيَّة اللهِ وكمالِ قُدرتهِ ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم } ؛ أكثرُ قومِ نُوحٍ ، { مُّؤْمِنِينَ } ؛ مع قيامِ الْحُجَّةِ ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ } ؛ أي القادرُ على أخذِ الأعداء ، الْمُنْتَقِمُ منهم ، { الرَّحِيمُ } ، بالأولياءِ ، الْمُنْعِمُ عليهم.
(0/0)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } ؛ التأنيثُ بمعنى القبيلةِ ، أريد بعَادٍ القبيلةُ ، والمعنى : كذبَتْ عَادٌ هوداً وجَماعة المرسلينَ ، { إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ } ؛ في النَّسب : { أَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ عبادةَ غيرِ الله ، { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } ؛ أرسلنِي اللهُ إليكم وائتَمَنَنِي على الرِّسالةِ ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ } ؛ على تَبليغِ الرِّسالة ، { مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
(0/0)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } ؛ الرَّيْعُ : هو المكانُ المرتفعُ. قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أتَبْنُونَ بكُلِّ شَرْفٍ) ، وقال مقاتلُ والكلبي والضحَّاك : (أتَبْنُونَ بكُلِّ طَرِيْقٍ آيَةً ؛ أيْ بُنْيَاناً وَعَلَماً مُتَمَيِّزاً عَنْ سَائِرِ الأَبْنِيَةِ ، تَعْبَثُونَ بمَنْ يَمُرُّ فِي الطَّرِيْقِ).
والمعنى : بكلِّ طريقٍ ، بالموضعِ المرتفع بُنياناً لتُشْرِفُوا على المارَّةِ فتَسْخَرُوا منهم ، وتعبَثُوا بهم. وَقِيْلَ : معنى قولهِ (تَعْبَثُونَ) أي تَبْنُونَ ما تستغْنُون عنهُ ولا تسكنونَهُ عَبَثاً منكم ، يسمَّى بناؤُهم عَبَثاً ؛ لأنَّهم كانوا يُسْرِفُونَ في البناءِ ، فيَبْنُونَ فوقَ الحاجة ، ويقصُدون بذلك التفاخرَ والتكاثر ، ومن ذلك سُمِّيَ كلُّ لَعِبٍ لا لذةَ فيه عَبَثاً ، والذي يكونُ فيه لَذةٌ لَعِباً. وقال الوالبي عن ابنِ عبَّاس : (بكُلِّ رَيْعٍ ؛ أيْ بكُلِّ شَرْفٍ) ، وقال قتادةُ والضحَّاك : (بكُلِّ طَرِيْقٍ) ، وعن مجاهد : (الرَّيْعُ : الثَّنْيَةُ الصَّغِيْرَةُ) ، وَقِيْلَ : المنظرةُ ، وقال عكرمة : (بكُلِّ وَادٍ).
(0/0)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هِيَ الأَبْنِيَةُ) ، وقال مجاهدُ : (الْمَصَانِعُ قُصُورٌ مُشَيَّدةٌ) ، وَقِيْلَ : هي الْحُصُونُ. وقال عبدُالرزاق : (الْمَصَانِعُ عِنْدَنَا بلُغَةِ الْيَمَنِ : الْقُصُورُ ؛ وَاحِدَتُهَا مَصْنَعَةٌ). وقال الكلبيُّ : (هِيَ الْقُصُورُ وَالْحُصُونُ). وَقِيْلَ : هي الْمَبَانِي التي يصنَعُها الناس من البساتينِ وغيرها. وَقِيْلَ : هي مَجَامِعُ الماءِ وهي الْحِيَاضُ ، وواحدُ المصانعِ مَصْنَعَةٌ.
وقولهُ تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } ؛ أي كأنَّكُم تَخْلُدُونَ ؛ أي سَتَبْقُونَ في بناءِ المصانع ، كأنَّهم يخلُدون فيها فلا يَموتُون. و(لَعَلَّ) تأتِي في الكلامِ بمعنى (كَأَنَّ) مِن قولهِ{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ }[الشعراء : 3] أي كأنَّكَ قاتلٌ نفسَكَ إن لَم يُؤْمِنُوا وَقِيْلَ : معناهُ : تتَّخِذُونَ ذلك رجاءَ أن تَخلُدوا وأنتم لا تَخلُدون.
(0/0)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } ؛ أي إذا بَطَشْتُمْ بمن دُونَكم بَطَشْتُمْ متكبرين ومتجَبرين ، ضَرباً بالسَّوط وبالسَّيفِ ، تقتلُونَ على الغَضْب. والمعنى : إذا عَاقَبْتُمْ قَتَلْتُمْ. والبَطْشُ : هو الأخْذُ بالشِّدَّةِ ، والْجَبَّارُ : هو العَالِي بالقُدرةِ ، يقالُ : نَخْلَةٌ جَبَّارَةٌ إذا كانت مرتفعةً لا تنالُها الأيدي ، وهي صِفَةُ مَدْحِ الله تعالى ؛ لأن هذا المعنَى حقيقةٌ فيهِ ، وهو صِفَةُ ذمٍّ لغيرهِ لأنه كَذِبٌ فيهِ.
(0/0)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } ؛ أي اتَّقُوا عذابَ الله بإصرَارِكم على ما أنتُم عليه ، { وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ } ؛ مِن النِّعمة والخيرِ ، { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ؛ فيه بيانُ بعضِ النِّعم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ؛ أي إنِّي أعلمُ أنه سيَنْزِلُ بكم عذابٌ عظيمٌ إنْ لَم تؤمِنُوا ، يريدُ به العذابَ الذي أُهْلِكُوا بهِ.
(0/0)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
وقولهُ تعالى : { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ } ؛ أي سواءٌ علَينا أوَعَظْتَنَا أم لَم تعِظْنا فلا نتركُ هذه العبادةَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هَـاذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي ما هذا الذي تقولُ يا هودُ إلاَّ كَذِبُ الأوَّلين ، وهذا قولُ ابنِ مسعودٍ ومجاهد. والْخُلُقُ والاخْتِلاَقُ هو الكَذِبُ. ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً }[العنكبوت : 17].
قُرئ (خُلُقُ الأوَّلِيْنَ) بضمِّ الخاء واللام ؛ أي عَادَةُ الأوَّلِيْنَ ، والمعنى : ما هذا الذي نحنُ فيه إلاّ عادةُ الأوَّلين مِن قبلِنا يَعْبَثُونَ ما عاشُوا ثُم يَموتون ولا بَعْثَ ولا حسابَ ، { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ؛ على ما نفعلُ.
(0/0)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَذَّبُوهُ } ؛ بالعذاب في الدُّنيا ، { فَأَهْلَكْنَاهُمْ } ؛ بالرِّيحِ. وقولهُ تعالى { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي كذبُوا هُوداً بعد وُضُوحِ الْحُجَّةِ فأهْلَكْنَاهُمْ برِيْحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } ؛ أي إنَّ في إهلاكِنا إياهم مع شِدَّةِ قوَّتِهم لآيةً بأضْعَفِ الأشياءِ وهي الريحُ للدلالةِ على وحدانيَّتنا وصدقِ نبوَّةِ هُودٍ ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ باللهِ ، فإنه لَم يُؤْمِنُ منهم إلاّ قليلٌ ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
(0/0)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ } ؛ أي قالَ لَهم صَالِحُ : أتُتْرَكُونَ في الدُّنيا آمِنين من الموتِ والعذاب تأكلُونَ وتشربون وتَمتَّعون ولا تُكَلَّفُونَ. وقولهُ تعالى : { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ؛ أي أتَظُنُّونَ أنَّكم تُترَكُونَ في بساتين ومياهٍ ظَاهرة ، { وَزُرُوعٍ } ، وحُرُوثٍ ، { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } ؛ أي ثَمرها نَضِيْجٌ مُدرَكٌ نَاعِمٌ ، والنَّضِيْجٌ : هو الرَّخوُ اللَّيِّنُ اللطيفُ البالِغُ ، { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ } ؛ أي تَنْقُبُونَ في الجبالِ { بُيُوتاً فَارِهِينَ } ؛ أي أشِرِيْنَ بَطِرِيْنَ.
وقرأ ابنُ عامر والكوفيُّون : (فَارِهِيْنَ) بالألفِ أي حَاذِقِيْنَ بنَحْتِهَا ، مأخوذٌ مِن قولِهم : فَرِهَ الرجلُ فَرَاهَةً فهو فَارِهٌ ، ويقالُ : الفَرِهُ وَالْفَارِهُ بمعنى واحد. وَقِيْلَ : إنَّ الهاء من قولهِ (فَرِهِيْنَ) بدلٌ من إلْحَاقِ الفَرَحِ في كلامِ العرب : الأشَرُ والبَطَرُ ، ومنه قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }[القصص : 76] ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }.
(0/0)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ } ؛ أي أمرَ رُؤسَائِكم وكُبَرَائِكم الذين يُفْرِطُونَ في الشِّرك والمعاصِي ، { الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } ؛ قال مقاتلُ : (هُمْ التِّسْعَةُ الَّذِيْنَ عَقَرُواْ النَّاقَةَ ، وَهُمُ الَّذِيْنَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ بالْمَعَاصِي) { وَلاَ يُصْلِحُونَ } ؛ أي ولا يُطيعون اللهَ فيما أمَرَهم.
(0/0)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } ؛ أي قالَ له قومهُ : إنَّما أنتَ مِمَّنْ سُحِرَ مرَّةً بعد مرةٍ ، فلا نؤمنُ بكَ. ويقال : الْمُسَحَّرُ هو الْمُعَلَّلُ بالطعامِ والشَّراب ، والسِّحْرُ مَجرَى الطعامِ ، يقال : انتفخَ سِحْرُهُ ؛ أي رئَتهُ والمعنى : لستَ بمَلَكٍ ، إنَّما أنتَ بشرٌ مثلُنا لا تَفْضُلُنَا في شيءٍ ، لستَ بملَكٍ ولا رسولٍ ، { فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ إنكَ رسولُ اللهِ إلينا.
قال ابنُ عبَّاس : (سَأَلُوهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً حَمْرَاءَ عَشْرَاءَ مِنْ صَخْرَةٍ مَلْسَاءَ ، فَتَضَعُ وَنَحْنُ نَنْظُرُ ، وَتَرِدُ هَذا الْمَاءَ فَتَشْرَبُ. فَخَرَجَ بهِمْ إلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ الَّتِي ذكَرُوهَا ، ثُمَّ دَعَا اللهَ تَعَالَى فَتَمَخَّضَتْ تِلْكَ الصَّخْرَةُ كَمَا تَتَمَخَّضُ الْمَرْأةُ الْحَامِلُ عِنْدَ الْوِلاَدَةِ ، فَخَرَجَتْ مِنْهَا نَاقَةٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا لاَ نَظِيْرَ لَهَا فِي النُّوقِ ، وَكَانَ يَسُدُّ جَنَبَاهَا مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ مِنْ عِظَمِهَا).
فـ { قَالَ } لَهم صالِحُ : { هَـاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } ؛ أي اجْعَلُوا الشِّرْبَ بينها وبينَكم مُنَاوَبَةً ، لَها نَوْبَةٌ يوم لا تحضُرون معها ، ولكُم نوبةٌ يوم لا تحضرُ معَكُم. قال قتادة : (فَكَانَ يَوْمُ شِرْبهَا تَشْرَبُ مَاءَهُمْ كُلَّهُ أوَّلَ النَّهَارِ وَلاَ يَبْقَى لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَتَسْقِيهِمُ اللَّبَنَ حَتَّى تَمْلأَ جَمِيْعَ آنِيَتِهِمْ ، فَإذا كَانَ يَوْمَ شِرْبهم كَانَ الْمَاءُ لَهُمْ وَلِمَوَاشِيهِمْ لاَ تُزَاحِمُهُمُ النَّاقَةُ فِيْهِ). والشِّرْبُ في اللغة : هو النَّصِيْبُ مِن الماءِ ، والشُّرْبُ بضمِّ الشين المصدرُ ، والشَّرْبُ بفتح الشينِ جماعةُ الشَّرَاب.
(0/0)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } ؛ أي تعقِرُوها ولا تؤذُوها ، وذرُوها تأكلُ في أرضِ الله ، فإنَّكم إنْ تَمسُّوها بسوءٍ ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
(0/0)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } ؛ فعَقَرُوها واقتَسَمُوا لَحْمَهَا ، فبلغَ ألْفاً وثَمانَمائةِ منْزِلٍ ، ثُم أصبَحُوا نادمينَ على قَتْلِهَا ، { فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } ؛ في اليومِ الثالث وهو يومُ السَّبت ، صاحَ بهم جبريلُ فمَاتُوا أجمعينَ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي في إخراجِ النَّاقة من الصَّخرةِ ، وفي إهلاكِهم بعَقْرِهَا علامةً وعِبْرَةً لِمن بعدهم ولَم يكن أكثرُهم مؤمنينَ ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
(0/0)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ إلى قوله تعالى { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ } ، ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } ؛ معناه : أتَنْكِحُونَ الذُّكورَ حَرَاماً في أدبارِهم ، وتتركون ما أحَلَّ اللهُ لكم من فروجِ نسائكم ، { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } ؛ أي مُتَجَاوِزُونَ الحدَّ في الظُّلم والحرامِ.
(0/0)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ } ؛ أي لِئِنْ لَم تَسْكُتْ يا لوطُ عن الإنكار علينا وتَقَبْيحْ أفعالِنا لنُخْرِجَنَّكَ من أرضِنا.
(0/0)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170)
{ قَالَ } ؛ لوطُ : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ } ؛ أي لَمِنَ الْمُبْغِضِيْنَ ، والقالِي : هو البَاغِضُ للشَّيءِ التارِكُ له غايةَ الكَرَاهَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } ؛ أي خلِّصنِي وأهلِي من عقوبةِ أعمالِهم الخبيثة حتى لا نراهُم ولا نرَى أعمالَهم الخبيثةَ ، { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } ؛ أي خلَّصنَاهُم من العذاب الذي وقعَ بهم ، وقولهُ تعالى { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي نَجَّينَاهُ وبناتَهُ.
(0/0)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
وقولهُ تعالى : { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ } ؛ يعني امرأتَهُ فإنَّها كانت مِن الغابرينَ ؛ أي مِن الباقينَ في موضعِ العذاب فهلكَتْ معَهم ، وكانت تدلُّ المشركينَ على أضيافهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ } ؛ أي أهلكنَاهُم بالَخَسْفِ والحصب ، وهو أنَّ اللهَ تعالى خَسَفَ بقُرَاهُمْ ، كما رُوي " أنَّ جِبْرِيْلَ رَفَعَهُمْ ببلاَدِهِمْ حَتَّى بَلَغَ بهِمْ إلَى السَّمَاءِ ، فَقَلَبَهُمْ وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ".
(0/0)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } ؛ أي أمطَرْنا على ساكنهم ومُسافِرِيهم حجارةً ، { فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } ؛ أي فبئْسَ مطرُ الذين أُنْذِرُوا فلم يُؤمِنوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي فِي إهلاكِنا إيَّاهم لدلالةً وعبرةً لِمن بعدَهم ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
(0/0)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ } ؛ اختلَفُوا في الأَيْكَةِ ، قال بعضُهم : هو اسمُ مَدْيَنَ ، وقال بعضُهم : الأَيْكَةُ اسمٌ لِمدينة أُخرى غيرُ مَدْيَنَ ، وكان شعيبُ مبعوثاً إلى كلِّ واحدةٍ من المدينَتين ، غير أنَّهُ كان أخَا مَدْيَنَ ، ولَم يكن أخَا الأَيْكَةِ ، فلذلك لَم يقُلْ في هذه الآيةِ : إذْ قَالَ لَهُمْ أخُوهُمْ ، وإنَّما قالَ : { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ وَقِيْلَ : الأَيْكَةُ الغَيْطَةُ ذاتُ الشَّجر الكثيفِ ، وجَمعُهُ إيْكٌ. وَقِيْلَ : الأَيْكُ : شجرُ الدَّومِ وهو الْمُقْلُ ، وكان أكثرُ شجرِهم الدَّوم. وتقرأُ : لَيْكَةِ ، بغير ألف وتفتح.
(0/0)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } ؛ أي أتِمُّوا الكيلَ إذا كِلْتُمْ ، ولا تكونُوا مِن الذين يَبْخَسُونَ حقوقَ الناسِ في الكَيْلِ والوَزْنِ ، { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ } ؛ أي اتَّقُوا اللهَ الذي خلقَكم وخَلَقَ (الْجِبلَّةَ الأَوَّلِيْنَ) أي وخَلَقَ الْخَلْقَ الذين مِن قبلِكُم ، والْجِبلَّةُ بكسر الجيم والباء وبضمهما : الْخَلْقُ الْكَثِيْرُ.
(0/0)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } ؛ أي من الْمُخَوَّفِيْنَ مِثلَنا مِمَّنْ لَهُ سِحْرٌ ، { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } ؛ وما أنتَ إلاّ آدَمِيٌّ مثلُنا ، { وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ } ؛ فيما تقولُ.
(0/0)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي جَانِباً من السَّماءِ ، { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ أنَّكَ مبعوثٌ إلينا ، وأنَّ هذا العذابَ نازلٌ بنا ، وهذا اذا قرأتَ (كِسْفاً) بإسكانِ السِّين ، وأما إذا فتحتَها فهو جمعُ الْكِسْفَةِ وهي القطعةُ.
(0/0)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ أي هو أعلمُ بعمَلِكم ، وبما تستحقُّون مِن العذاب ، وبوقتِ الاستحقاق ، فيُنْزِلُ بكم العذابَ على ما توجِبُ الحكمةُ ، { فَكَذَّبُوهُ } ؛ أي كذبُوا شُعيباً بعد ظهورِ الْحُجَّةِ ، { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ } ؛ انشأَ اللهُ سحابةً عليهم حتى أظلَّتْهُم في يومِ حرٍّ شديدٍ ، فاجتمَعُوا تحتَها مُستَجِيرِينَ بها بما نالَهم من الحرِّ ، فأطبقَتْ عليهم وأمطرَتْ عليهم ناراً فأهلَكَتْهم.
قال المفسِّرون : وذلكَ أن اللهَ تعالى كان قد حَبَسَ عليهم الرِّيحَ سبعةَ أيَّامٍ ، وسَلَّطَ عليهم الحرَّ حتى أخذ بأنفَاسِهم ولَم ينفعهم ظِلٌّ ولا ماءٌ ، وكانوا يدخلون الاسراب ليَبْرَدُوا فيها ، فإذا دخَلُوها وجدوها أشَدَّ حَرّاً من الظاهرِ ، فدخَلُوا أجوافَ السِّرب ، فدخَلَ عليهم الحرُّ وأخذ بأنفاسِهم ، فخرَجُوا هاربينَ الى البَرِّيَّةِ ، فبعثَ اللهُ عليهم سحابةً أظلَّتْهُم من الشَّمسِ فوجدُوا لَها بَرْداً ونَسِيماً ، فنادَى بعضُهم بعضاً حتى اجتمَعُوا كلُّهم تحتَها ، فأمطَرَتْ عليهم نَاراً فاحترَقُوا ، فكان مِن أعظمِ يوم في الدُّنيا ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }.
والظُّلَّةُ : هي السَّحَابةُ التي أظلَّتْهم. قال قتادةُ : (بَعَثَ اللهُ شُعَيْباً إلَى أُمَّتَيْنِ : أصْحَابُ الأَيْكَةِ وَأهْلُ مِدْيَنَ ، فَأَمَّا أصْحَابُ الأَيْكَةِ فَأُهْلِكُواْ بالظُّلَّةِ ، وَأمَّا أهْلُ مِدْيَنَ فَأُهْلِكُواْ بالصَّيْحَةِ ، صَاحَ بهِمْ جِبْرِيْلُ فَهَلَكُواْ جَمِيْعاً).
(0/0)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي وإنَّ القُرْآنَ لإنْزَالُ ربِّ العَالَمِيْنَ ، { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } ؛ قرأ ابنُ كثير ونافعُ وأبو عمرٍو وحفص (نَزَلَ) بالتخفيف ورفع الحاء ، يَعنُونَ نَزَلَ جبريلُ بالقُرْآنِ ، وقرأ الباقون بالتشديدِ والنَّصب ؛ أي نَزَّلَ اللهُ جبريلَ بالقُرْآنِ وهو أمِيْنٌ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى قَلْبِكَ } ؛ أي نَزَلَ به فأودعَهُ قلبَكَ كي لا تنساهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } ؛ أي مِن الْمُعْلِمِيْنَ بموضعِ الْمَخَافَةِ ، { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } ؛ أي لِتُنْذِرَ العربَ بلُغَتِهم فيكونُ ذلك أقربَ إلى فَهْمِهم ، وأقطعَ لعُذْرِهم.
(0/0)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } ؛ يعني أن ذِكْرَ القُرْآنِ مذكورٌ في كُتُب الأوَّلين ، ولَم يُرِدْ به غيرَ القُرْآنِ ؛ لأنه تعالى خصَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بإنْزَالِ القُرْآنِ عليه ، فلو كان مَذكُوراً بعينهِ في الكُتُب لبَطَلَ التخصيصُ ، ولكنَّهُ تعالى ذكرَ في الكُتُب المتقدِّمة أنه سيبعثُ نَبيّاً في آخرِ الزمان صِفَتُهُ كذا ، وسيُنْزِلُ عليه كِتَاباً صفتهُ كذا كما قَالَ اللهُ تَعَالَى{ يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ }[الأعراف : 157] ، وهذا معنى قولَهُ{ إِنَّ هَـاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى }[الأعلى : 18-19] أي مذكورٌ في الصُّحف الأُولى أن الناسَ في الغالب يُؤثِرُونَ الدُّنيا على الآخرةِ ، وأنَّ الآخِرَةَ خَيْرٌ وَأبْقَى.
(0/0)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ رُوِيَ أن سببَ نُزولِها أنَّ أهلَ مكَّة بَعثوا إلى أهلِ الكتَاب يَسْتَخْبرُونَهُمْ عن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وعن ما يدَّعِي من الرِّسالةِ وصدقوهم في بَعْثِهِ وصفتهِ ، فأخبَرَهم أهلُ الكتاب أنَّ ذِكْرَهُ عندَنا وأنه مبعوثٌ فَاتَّبعُوهُ. والمعنى : أوَلَمْ يكن لأهلِ مكَّةَ علامةٌ لنبوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أن يَعْلَمَهُ علماءُ بني إسرائيلَ مثلُ عبدِالله بن سلام وأصحابهِ.
قال الزجَّاجُ فِي قِرَاءَةٍ قَرَأ (آيَةً) بالنَّصْب ، فَقَوْلُهُ { أَن يَعْلَمَهُ } اسْمُ كَانَ ، و(آيَةً) خَبَرُهُ. ومعناهُ : أوَلَمْ يكُن لَهم عِلْمُ علماءِ بني إسرائيل أنَّ مُحَمَّداً نَبيٌّ حَقٌّ ، ودلالةُ نبوَّتهِ. قال عطيةُ : (كَانَ عُلَمَاءُ بَنِي إسْرَائِيْلَ الَّذِيْنَ آمَنُواْ خَمْسَةً : عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ ؛ وَابْنُ يَامِيْنَ ؛ وَثَعْلَبَةُ ؛ وَأسَدُ ؛ وَأُسَيْدُ) ، وقرأ ابنُ عامر : (أوَلَمْ تَكُنْ) بالتاء (آيَةٌ) رفعاً ، قال الفراءُ : (جَعَلَ { آيَةٌ } بَعْدَ الاْسْمَ و { أَنْ يَعْلَمَهُ } خَبَرُ كَانَ).
(0/0)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ } ؛ أي لو نَزَّلْنَا القُرْآنَ على رُجِلٍ أعجمِيٍّ لا يفصحُ ، { فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم } ؛ بغيرِ لُغة العرب ما آمَنُوا بهِ ، وقالوا : مَا نَفْقَهُ هَذا! فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } وفي هذا بيانُ معاندَتِهم. والأعْجَمُ والأَعْجَمِيُّ بمعنى واحدٍ ؛ وهو الَّي في لسانهِ عُجْمَةٌ ، ومنه العَجْمَاءُ ؛ وهي الدَّابةُ. فأما العَجَمِيُّ فهو منسوبٌ إلى العَجَمِ أفصَحَ أو لَم يُفْصِحْ.
وعن ابنِ مسعود : أنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ وَهُوَ رَاكِبٌ نَاقَتَهُ ، فَأَشَارَ إلَى نَاقَتِهِ ، فَقَالَ : (هَذِهِ مِنَ الأَعْجَمِيْنَ) كأنه ذهبَ إلى أنَّ معنَى الآيةِ : أنه لو أنْزَلْنَا القُرْآنَ على البهائمِ فأنطَقْنَاها بهِ ، فقرأتْ عليهم ما آمَنُوا بهِ.
ثُم ذكرَ اللهُ سببَ تركِهم الإيْمانَ فقال : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ } ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : سَلَكْنَا الشِّرْكَ وَالتَّكْذِيْبَ فِي قُلُوب الْمُجْرِمِيْنَ إذا قَرَأهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدُ صلى الله عليه وسلم). قال مقاتلُ : (يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ) ، أخبرَ اللهُ تعالى أنه أدخلَ الشِّركَ في قلوبهم ، فلم يُؤمِنُوا إلاَّ عندَ نزُولِ العذاب حتى لَم ينفَعْهُم ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } ؛ يعني عند الموتِ ، { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ بهِ في الدُّنيا فيَتَمَنَّوا الرجعةَ والنَّظِرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } ؛ فنُؤْمنُ ونصدِّقُ.
فلمَّا أوعَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعذاب قالوا : فَمَتَى العذابُ؟! تَكذِيباً لهُ ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } ؛ معناهُ أفرأيتَ يا مُحَمَّدُ إنْ أمهَلْنا كفارَ مكَّة سنينَ ، يريدُ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الدُّنيا إلى أن تنقضِي ، وَقِيْلَ : مدَّةَ أعمَارِهم ، { ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ } ؛ من العذاب ، { مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } ؛ بهِ في تلك السِّنين.
والمعنى : وإنْ طَالَ تَمتُّعُهم بنعيمِ الدُّنيا ، فإذا أتَاهُم العذابُ لَم يُغْنِ طُولُ التمتُّعِ عنهم شيئاً ، يكون كأنَّهم لَم يكونوا في نَعِيْمٍ قَطْ ، وهذه موعظةٌ ما أبْلَغَهَا! يُحكى أنَّ عمرَ بن عبدالعزيز كان إذا قَعَدَ للقضاءِ كل يومٍ ابتدأ بهذه الآيةِ ، فَوَعَظَ بها نفسَهُ ، ثُم ذكرَ هذه الأبيات : تُسَرُّ بمَا يَفْنَى وَتَفْرَحُ بالْمُنَى كَمَا اغَتَرَّ باللَّذاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُحَيَاتُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لَكَ لاَزِمُ
(0/0)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } ؛ أي ما أهلَكْنَا من قريةٍ بالعذاب في الدُّنيا إلاّ لَها رُسُلاً ينذرونَهم بالعذاب أنهُ نازلٌ بهم. والمعنى : إلاَّ لَهَا مُنذِرونَ قبلَ الْهَلاكِ ، ونظيرهُ{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[الاسراء : 15].
(0/0)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
وقولهُ تعالى : { ذِكْرَى } ؛ أي موعظةً وتَذكِيراً ، { ا وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ فنُعذِّبَ من غيرِ ذنبٍ ونُعاقِبَ من غيرِ تذكيرٍ وإنذار. ويجوزُ أن يكون (ذِكْرَى) في موضعِ نصبٍ على معنَى : إلاَّ لَها مذكِّرُونَ ذِكْرَى ، ويجوزُ أن يكونَ في موضعِ نصبٍ رُفع على معنَى : ذلكَ ذِكْرَى ؛ أي ذلكَ موعظةً لَهم.
(0/0)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
وقولهُ تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } ؛ قالَ مقاتلُ : (قَالَتْ قُرَيْشُ : إنَّمَا يَجِيْءُ بالْقُرْآنِ الشَّيَاطِيْنُ ، فَتُلْقِيهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ } أي بالقُرْآنِ { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } أن يَنْزِلُوا بهِ { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي لا يقدِرُون على ذلكَ ، { إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } ؛ أي أنَّهم عن استماعِ القُرْآنِ لَمَحجُوبونَ ؛ لأنَّهم يُرجَمون بالنُّجوم.
(0/0)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ ، والمعنى : كلُّ مَن دعَا معَ اللهِ إلِهاً آخرَ كان معَ الْمُعذبين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } ؛ أي رَهْطُكَ الأدنَين وهم بنُو هاشمٍ وبنو المطَّلِب خاصَّة.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ " نَادَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " يَا آلَ غَالِبٍ ؛ يَا آلَ لُؤَيِّ بْنِ كَعْبٍ ؛ يَا آلَ مُرَّةَ ؛ يَا آلَ كِلاَبٍ ؛ يَا آلَ قُصَيٍّ ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ " فَأَتَوهُ وَقَالُواْ : مَا تُرِيْدُ؟! قَالَ : " أرَأيْتُمْ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ أنَّ جَيْشاً ظَلَّكُمْ ؛ أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " فَإنِّي نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيْدٍ ، وَإنِّي لاَ أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إلاَّ أنْ تَقُولُواْ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ".
ثُمَّ قَالَ : " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ ؛ فَإنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، يَا عَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِب ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، يَا صَفِيَّةَ عَمَّةَ مُحَمَّدٍ ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، يَا فَاطِمَةَ بنْتَ مُحَمَّدٍ ؛ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئاً ".
وعن ابنِ عبَّاس قال : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } ؛ " صَعَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصَّفَا فَقَال : " يَا صَبَاحَاهُ! " فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ ؛ فَقَالُواْ : مَا لَكَ؟! قَالَ : " أرَأيْتُمْ إنْ أخْبَرْتُكُمْ أنَّ الْعَدُوَّ مُصْبحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ ؛ أمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي ؟ " قَالُواْ : بَلَى ، قَالَ : " فَإنِّي نَذِيْرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذابٍ شَدِيْدٍ ".
قَالَ أبُو لَهَبٍ : تَبّاً لَكَ! ألِهَذا دَعَوْتَنَا جَمِيْعاً ؟ " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ }[المسد : 1] إلى آخِرِها). ومعنى الآية : عَرِّفْ قرابتَكَ يا مُحَمَّدُ أنَّكَ لا تُغنِي عنهم من اللهِ شيئاً إنْ عَصَوْهُ. والفائدةُ في تخصيصِ الأقربينَ بالإنذارِ : أنَّهم كانوا أقربَ إليهِ ، كما قالَ تعالى{ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ }[التوبة : 123] وكما أنَّ الأوْلَى بالإنسانِ في البرِّ والصِّلةِ أن يبدأ بالأقرب فالأقرب.
(0/0)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي أكْرِمْ مَنِ اتَّبعَكَ من المؤمنينَ وألِنْ لَهم القولَ ، وأظْهِرْ لَهم الْمَحبَّةَ والكرامةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ أي إنْ عصاكَ الأقربونَ مِن عشيرتِكَ ؛ فقُلْ : إنِّي بريءٌ مِمَّا تعملونَ من الكُفْرِ وعبادةِ غير اللهِ ، { وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } ؛ أي فوِّضْ أمرَكَ إليه ، وَثِقْ به فإنه العَزِيْزُ فِي نعمتهِ ، الرَّحِيْمُ بهم حين لَم يُعَجِّلْ لَهم العقوبةَ.
(0/0)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ } ؛ أي توكَّلْ على العَزِيزِ ؛ أي الغالب القادر على أن يكفيكَ كَيْدَ أعدائِكَ ، الرَّحِيْمِ بالمؤمنين خاصَّةً ، فكيفَ لا تُفَوِّضُ أمرَكَ إليه وهو الذي يراكَ حين تقومُ إلى الصَّلاةِ ، ويرى قِيَامَكَ وركوعَكَ وسجودكَ وتضرُّعَك في المصَلِّين مع الجماعةِ. والمعنى : أنه يراكَ إذا صلَّيتَ وحدكَ ، ويراكَ إذا صَلَّيْتَ في الجماعةِ رَاكِعاً وسَاجِداً وقائماً ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ؛ أي السَّمِيْعُ لقولِكَ ، الْعَلِيْمُ بمَا في قَلْبكَ.
(0/0)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّةَ : هل أخبرُكم على مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِيْنُ ؟ وهو راجعٌ إلى قولهِ تعالى{ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ }[الشعراء : 210]. ثُم أخبَرَ فقالَ : { تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } ؛ أي على كلِّ كَذابٍ فَاجِرٍ. قال قتادةُ : (هُمُ الْكَهَنَةُ) مِثْلُ مُسَيْلَمَةَ وَغَيْرِهمْ.
(0/0)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } ؛ معناهُ : أنَّ الشياطينَ يَسْتَرِقُونَ السَّمعَ من كلامِ الملائكةِ ، ثُم يُضِيْفُونَ الكَذِبَ إلى ذلكَ ، فيُلْقُونَهُ إلى الكَهَنَةِ ، وقولهُ تعالى { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } يعنِي لأنَّهم يَخْلُطُونَ كَذِباً كثيراً ، وهذا كان قَبْلَ الوَحْيِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبَعْدَ ذلكَ فمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ له شِهَاباً رَصَداً.
(0/0)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ شِعْرَ الْمُشْرِكِيْنَ). وذكرَ مقاتلُ أسْماءَهم فَقَالَ : (مِنْهُمْ عَبْدُاللهِ بْنُ الزَّبْعَرِى السَّهْمِيِّ ، وَأبُو سُفْيَانَ بن الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب ، وَهُبَيْرَةُ بْنُ وَهَبٍ الْمَخْزُومِيُّ ، وَشَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ الْجَمْحِيُّ ، وَأبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِاللهِ ، كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأُمَيَّةُ ابْنُ الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ ، تَكَلَّمُواْ بالْكَذِب وَالْبَاطِلِ ، وَقَالُواْ : نَحْنُ نَقُولُ مِثْلَ مَا يَقُولُ مُحَمَّداً! وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمْ غُوَاةٌ مِنْ قَوْمِهِمْ يَسْتَمِعُونَ أشْعَارَهُمْ ، وَيَرْوُونَ عَنْهُمْ حَتَّى يَهْجُونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } يعني الذينَ يَرْوُونَ هِجَاءَ المسلمينَ وسبَبَّ الصَّحابةِ.
وقال قتادةُ ومجاهد : (الْغَاوُونَ هُمُ الشَّيَاطِيْنُ) كما قال تعالى حَاكِياً عنهم { فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } [الصافات : 32]. وَقِيْلَ : الغَاوُونَ كُفَّارُ الْجِنِّ وَالإنْسِ. وفِي الحديثِ : " لَئِنْ مُلِئ جَوْفُ أحَدِكُمْ صَدِيْداً حَتَّى يَصِيْر جَارِياً أحَبُّ إلَيَّ أنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً " وأراد به الشِّعرَ المذمومَ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } ؛ أي في كلِّ فَنٍّ من الكَذِب يتكلَّمُون ، وفي كُلِّ لَغْوٍ يخوضُونَ ، يَمْدَحُونَ بباطلٍ ويستمِعُون لباطلٍ ، فالوَادِي مَثَلٌ لِفُنُونِ الكلامِ ، وهَيَمَانُهُمْ فيهِ : قولُهم على الجميلِ بما يقولون مِن لَغْوٍ وباطلٍ وَغُلُوٍّ في مَدْحٍ أو ذمٍّ. وقولهُ تعالى : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } ؛ أي يقولُون فَعَلْنَا وَفَعَلْنَا وَهُمْ كَذبَةٌ ، ويَصِفُون أنفسِهم بما ليس فيها.
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ استثناءُ الشُّعراء المسلمينَ حَسَّانُ بْنُ ثَابتٍ ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الذين مَدَحُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كَانَ يَقُولُ لِحَسَّان : [أُهْجُهُمْ وَمَعَكَ رُوحُ الْقُدُسِ]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } ؛ يعني أنَّهم كانوا يذكُرون اللهَ كثيراً في أشْعَارِهم ، ويناضِلون عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بألسِنَتهم وأيدِيهم من بَعْدِ هجائِهم الكفارَ. والانتصارُ بالشِّعر جائزٌ في الشَّريعة بما يجوزُ ذِكْرُهُ فيها ، لِمَا قالَ تعالى في آيةٍ أُخرى{ لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ }[النساء : 148].
ويُروَى : " أنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا تَقُولُ فِي الشِّعْرِ ، فَقَالَ : " إنَّ الْمُؤْمِنَ يُجَاهِدُ بسَيْفِهِ وَلِسَانِهِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لَكَأَنَّمَا يَنْضَحُونَهُمْ بالنَّبْلِ ". وقال صلى الله عليه وسلم " إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ ".
وقالت عائشةُ : (الشِّعْرُ كَلاَمٌ ، فَمِنْهُ حَسَنٌ وَمِنْهُ قَبيْحٌ ، فَخُذُواْ الْحَسَنَ وَدَعُواْ الْقَبيْحَ). وعن الشعبيِّ قال : (كَانَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَقُولُ الشِّعْرَ ، وَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ الشِّعْرَ ، وَكَانَ عَلِيٌّ أشْعَرَ الثَّلاَثَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً } لَم يَشْغَلْهُمُ الشِّعْرُ عن ذِكْرِ اللهِ ، ولَم يجعَلُوا الشِّعْرَ هَمَّهُمْ ، وانتَصَرُوا من بعد ما ظلموا أي انتصروا من المشركين لأنهم بدأوا بالهجاء.
ثُم أوعدَ شعراءَ المشركين فقال : { وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ؛ أي سَيَعْلَمُ الَّذِيْنَ أشْرَكُواْ وَهَجَوُا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنينَ أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ، قال ابنُ عبَّاس : (إلَى جَهَنَّمَ يَخْلُدُونَ فِيْهَا). والمعنى : سيعلَمُون إلى أينَ مصيرُهم وهو نارُ جهنَّمَ ، فعلى هذا يكونُ قولهُ { أَيَّ مُنقَلَبٍ } منصُوباً بدلاً من المصدرِ ، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً بقولهِ (سَيَعْلَمُ) لأن { أَيَّ } لا يعملُ فيه ما قَبْلَهُ ؛ لأنه مِن حروفِ الاستفهامِ ، وموضعُ حروف الاستفهامِ صدرُ الكلامِ ، فكان انتصابُ قولهِ { أَيَّ مُنقَلَبٍ } على معنى المصدرِ ، أو بقولهِ { يَنقَلِبُونَ }.
وعن أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الشُّعَرَاءِ ، كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بنُوحٍ وَكَذبَ بهِ ، وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَإبْرَاهِيْمَ وَلُوطٍ وَاسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَمُوسَى وَعِيْسَى ، وَبعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ".
(0/0)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
{ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (طس اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ ، أقْسَمَ بهِ أنَّ هَذا الْقُرْآنَ الآيَاتُ الَّتِي وُعِدْتُمْ بهَا) فقال قتادةُ : (هُوَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ الْقُرْآنِ). وَقِيْلَ : هو اسمٌ من أسماء السُّورة. وقولهُ تعالى : { وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } معناهُ : وآياتُ الكتاب المبين بالحلالِ والحرام.
وقولهُ تعالى : { هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ يجوزُ أن يكون (هُدًى) في موضعِ رفعٍ ؛ أي هو هُدًى ، والمعنى : (هُدًى) أي بيانٌ من الضَّلالةِ لِمن عَمِلَ به ، (وَبُشْرَى) بما فيه من الثواب للمصدِّقين به أنهُ من عندِ الله.
ثم عرَّفَهم فقالَ : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } ؛ أي زَيَّنَّا لَهم صلاتَهم حتى رأوْها حسنةً ، { فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي يتردَّدُون فيها متحيِّرين ، { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } ؛ لأنَّهم خَسِرُوا أنفُسَهم وأهلِيهم وصَارُوا إلى النار.
(0/0)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } ؛ أي إنَّكَ لَتَعِي القُرْآنَ وحياً من عندِ الله تعالى ، أنزلَهُ بعلمهِ وحكمته.
(0/0)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ } ؛ أي واذْكُرْ إذ قَالَ مُوسَى لامرأتهِ : { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } ؛ أبْصَرْتُهَا ، وكانت امرأتهُ يومئذ ابنة شُعيب عليه السلام ، فقال لَها حين ضَلَّ الطريقَ : أنِّي أبصرتُ ناراً ، فامْكُثوا ها هنا ، { سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } ، أي حتَّى آتِيكُم من عندِ النار بخبرِ الماء والطريق ، فإن لَم أجِدْ أحداً يُخبرنِي عن الطريقِ آتيكم بشعلةِ نارٍ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ } ؛ والشِّهَابُ : خَشَبَةٌ فيها نورٌ ساطعٌ ، { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } ؛ أي لكي تَصْطَلُوا من البَرْدِ ، وكان ذلك في شدَّةِ الشِّتاء ، يقالُ : صَلَى بالنار وَأصْلَى بها إذا استدفأ ، والمعنى : أو آتِيكُمْ بالشُّعلةِ المقبسَةِ من النار لكي تذودُوا من البردِ.
والشِّهَابُ : هو النارُ الْمُسْتَطَارُ ، ومنه قولهُ{ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ }[الصافات : 10] والقبَسُ والْجَذْوَةُ : كلُّ عودٍ أُشْعِلَ في طرفهِ نارٌ. قرأ أهلُ الكوفة (بشِهَابٍ قَبَسٌ) منوَّن على البدل أو النعتِ للشهاب.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } ؛ معناهُ : فلما جاءَ موسَى إلى النار التي رَآها نُودِيَ نداءَ الوحي : أنْ بُوركَ مَنْ فِي طلب النار وهو مُوسَى ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } من الملائكةِ. وهذه تحيَّةٌ مِن الله لِموسى بالبركةِ كما حَيَّا إبراهيمَ بالبركةِ على ألْسِنَةِ الملائكةِ حين دخَلُوا عليه ، فقالُوا : رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أهْلَ الْبَيْتِ.
وَقِيْلَ : المرادُ بالنار هو النُّورُ ، وذلك أن موسَى رأى نُوراً عَظِيماً ، ولذلك ذكرهُ بلفظ النار ، ومَن في النار هم الملائكةُ ؛ لأن النورَ الذي رآهُ موسى كان فيه ملائكةٌ لَهُمْ زَجَلٌ بالتسبيحِ والتقديس ، ومَنْ حَوْلَهَا هو موسَى ؛ لأنه كان بالقُرْب منها ولَم يكن فيها. وأهلُ اللغة يقولونَ : بُوركَ فُلاَنٌ ؛ وَبُوركَ فِيْهِ ؛ وَبُوركَ لَهُ وَعَلَيْهِ ، بمَعنى واحدٍ. والمرادُ بالبركةِ ها هنا ما نَالَ مُوسَى من كرامةِ الله له بالنبوَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ كلمة تَنْزِيْهٍ عمَّا تَظُنُّ الْمُشَبهَةُ أنَّ اللهَ تعالى كان في تلك النار ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيْراً.
(0/0)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي أنا الدَّاعِي الذي يدعُوكَ ، أنا اللهُ العزيزُ في مُلْكِي ، الحكيمُ في أمرِي وقضائي.
فإن قيلَ : بمَاذا عَرَفَ مُوسَى ؟ قُلْنَا : إنَّما عَرَفَ نبوَّةِ نفسهِ أن ذلكَ النداءَ من اللهِ تعالى حتى جعلَ يدعُو الناسَ إلى نُبُوَّةِ نفسهِ بالمعجزة ، وذلك أنهُ رأى شجرةً أخضرَ ما يكونُ من الشَّجرِ في أنضرَ ما يكون ، لَها شعاعٌ يرتفعُ إلى السَّماء في الهواءِ ، والنارُ تلتَهِبُ في أوراقِها والأغصانِ ، فلا النارُ تُحْرِقُ الأوراقَ ولا رطوبةُ الشجرِ والأغصانِ تُطْفِىءُ النارَ ، فلما رأى ذلكَ بخلافِ العادة ، عَلِمَ أنه لا يكونُ ذلك إلاّ مِن صُنْعِ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } ؛ أي وَقِيْلَ لهُ : ألْقِ عَصَاكَ من يدِكَ ، فألْقَاهَا فَاهْتَزَّتْ { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ؛ أي تضطربُ كأنَّها جَانٌّ ، والْجَانُّ : الحيَّةُ البيضاءُ الخفيفة السريعةُ ، السريع شدَّة الاضطراب يقال لها الْمِسَلَّةُ. وإنَّما شبَّهَها بالْجَانِّ في خِفَّةِ حركَتِها وسرعةِ انتشارها عن الأعيُنِ ، وشبَّهَها في موضعِ آخر بالثُّعبان لِعِظَمِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَّى مُدْبِراً } ؛ أي أعْرَضَ موسى هَارباً من الخوفِ من الحيَّة ، { وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي لَم يَرْجِعْ ولَم يَلْتَفِتْ إلى شيءٍ وراءَهُ ، يقال : عَقَّبَ فلانٌ إذا رَجَعَ.
فقالَ اللهُ : { يامُوسَى لاَ تَخَفْ } ؛ مِن ضَرَرها ، { إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } ؛ أي لا يخافُ عندي وفي حُكْمِي مَن أرسلتهُ ، { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } ؛ مِن الْمُرْسَلِيْنَ بارتكاب الصغيرةِ { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ } ، ثُمَّ تابَ مِن بعد ذلكَ ، { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ به ، فكان السببُ في هذا الاستثناءِ أنَّ موسى كان مُستَشْعِراً حقَّهُ لِمَا كان منه من قِبَلِ القبطيِّ ، فأَمَّنَهُ اللهُ بهذا الكلامِ.
والصغائرُ والكبائر من الذُّنوب تُسمَّى ظُلْمَاً ؛ ولذلكَ قال مُوسَى{ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي }[القصص : 16]. ويقالُ : إن قولَهُ { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } استثناءٌ منقطع ، ومعناهُ : لكِنْ مَن ظَلَمَ ، فإنه يَخافُني إلاّ أن يتوبَ ويعملَ صالحاً ، فإنِّي أغفرُ له وأرْحَمهُ. والمعنى : إلاّ من ظَلَمَ نفسه بالمعصيةِ { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً } أي توبةً ونَدَماً { بَعْدَ سُوءٍ } عملهِ { فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كأنه قالَ : لا يخافُ لديَّ المرسلونَ الأنبياءُ والتَّائبُونَ ، وقال بعضُهم : (إلاّ) ها هُنا بمعنى (ولا) كأنهُ قال : { لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ }.
(0/0)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } ؛ فيه بيانُ أنَّ الله تعالى أعطاهُ آيةً أُخرى في ذلكَ المكانِ ، ومعنى { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي بيضاءَ لَها شعاعٌ مِن غير برَصٍ ، والْجَيْبُ جيبُ القَمِيصِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } ؛ أظهَرَها بين الآيَتينِ ، والآياتُ التِّسعُ : قَلْبُ العَصَاةِ حَيَّةً ، وجَعْلُ يَدِهِ بيضاءَ ، وما أصابَ فرعونَ من الْجَدْب في بَوادِيهم ، ونقصِ الثَّمرات في مزارِعهم ، وإرسالِ الطُّوفان والجرادِ والقُمَّلِ والضفادعِ والدَّم ، فهذه الآياتُ التِّسعُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ؛ أي خَارجين عن طاعةِ الله.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا } ؛ أي فلمَّا جاءَتْ فرعونَ وقومه الآياتُ التسع ، { مُبْصِرَةً } ؛ أي بَيِّنَةً واضحةً ، { قَالُواْ هَـاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ كذبُوا بالآياتِ التسع كلِّها ونَسَبُوا موسى إلى السِّحرِ ، { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ } ؛ أي جَحَدُوا بألسِنَتهم وأنكَرُوا تلك الآياتِ ، وعَلِمُوا بقلوبهم أنَّ تلك الآياتِ ليست من جنسِ أفعال السِّحر ، وأنَّها من اللهِ تعالى ، أي عَلِمُوا يقيناً أنَّها من عندِ الله لكن جَحَدُوا ذبها تَجَبُّراً وَتَكَبُّراً وذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ظُلْماً وَعُلُوّاً } ؛ أي شِرْكاً وتَكَبُّراً عن أن يؤمِنُوا ، { فَانْظُرْ } ؛ يا مُحَمَّد ، { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ؛ في الأرضِ بالمعاصي ، كيفَ أهلَكَهم اللهُ بالغَرَقِ في اليَمِّ.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } ؛ أي أعطينَاهما معرفةَ الدِّين وأحكامِ الشَّريعة ، وَقِيْلَ : عِلْماً بقضاءِ الطَّير والدَّواب وتسبيحِ الجبال ، فقَابَلاَ تلكَ النعمةِ بالشُّكر ، { وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا } ؛ بالنبوَّةِ والكتاب وإلاَنَةِ الحديدِ وتسخير الشَّياطين والجنِّ والإنسِ ، { عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } ؛ أي وَرثَ نُبُوَّتَهُ وعلمَهُ ومُلكَهُ ، وذلك أنهُ كان لداودَ تِسْعَةَ عشرَ إبناً ذكراً ، فوَرثَ سليمانُ مُلْكَهُ ومجلسَهُ ومقامه ونبوَّته مِن بينهم.
وعن أبي هريرةَ قال : (نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ إلَى دَاوُدَ عليه السلام مَخْتُوماً ، فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ ؛ أن اسْأَل ابْنَكَ سُلَيْمَانَ عَنْهُنَّ ، فَإنْ أخْرَجَهُنَّ فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ : فَدَعَا دَاوُدُ سَبْعِيْنَ قِسِّيْساً وَسَبْعِيْنَ حَبْراً ، وَأجْلَسَ سُلَيْمَانَ بَيْنَهُمْ ، وَقَالَ لَهُ : يَا نَبيَّ اللهِ ؛ إنَّهُ نَزَلَ كِتَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيْهِ عَشْرُ مَسَائِلَ ، أرَدْتُ أنْ أسْأَلَكَ عَنْهُنَّ ، فَإنْ أنْتَ أخْرَجْتَهُنَّ فَأَنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِي. فَقَالَ سُلَيْمَانُ : لِتَسْأَلْ نَبيَّ اللهِ عليه السلام عَمَّا اللهُ يَرَاهُ ، وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ.
قَالَ : أخْبرْنِي يَا نَبيَّ : مَا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا آنَسُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ ؟ وَمَا الْقَائِمَانِ ؟ وَمَا الْمُخْتَلِفَانِ ؟ وَمَا الْمُتَبَاغِضَانِ ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ ؟ وَمَا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ ذمَّ آخِرَهُ؟
فَقَالَ سُلَيْمَانُ : أمَّا أقْرَبُ الأَشْيَاءِ فَالآخِرَةُ ، وَأمَّا أبْعَدُ الأَشْيَاءِ فَمَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا ، وَأمَّا آنَسُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ فِيْهِ رُوحٌ ، وَأمَّا أوْحَشُ الأَشْيَاءِ فَجَسَدٌ لاَ رُوحَ فِيْهِ ، وَأمَّا الْقَائِمَانِ فَالسَّّمَاءُ والأَرْضُ ، وَأمَّا الْمُخْتَلِفَانِ فَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، وَأمَّا الْمُتَبَاغِضَانِ فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ ، وَأمَّا الأَمْرُ الَّّذِي إذا رَكِبَهُ الرَّجُلُ حَمَدَ آخِرَهُ فَالْحِلْمُ عَلَى الْغَضَب ، وَأمَّا الأمْرُ الَّذِي إذا رَكِبَهُ ذمَّ آخِرَهُ فَالْحِدَّةُ عَلَى الْغَضَب.
قَالَ : فَفَكَّ الْخَتْمَ فَإذا هِيَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَوَاءٌ عَلَى مَا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. فَقَالَ الْقِسِّيْسُونَ وَالأَحْبَارُ : لَنْ نَرْضَى حَتَّى نَسْأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَإنْ هُوَ أخْرَجَهَا فَهُوَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِكَ. فَقَالَ سُلَيْمَانُ : سَلُونِي وَمَا تَوْفِيْقِي إلاَّ باللهِ ، قَالُواْ : مَا الشَّيْءُ الَّذِي إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ؟ وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ؟ قَالَ : هُوَ الْقَلْبُ ؛ إذا صَلُحَ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ ، وَإذا فَسَدَ فَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُ. قًَالُواْ : صَدَقْتَ! أنْتَ الْخَلِيْفَةُ مِنْ بَعْدِهِ. وَدَفَعَ إلَيْهِ دَاوُدُ قَضِيْبَ الْمُلْكِ ، وَمَاتَ مِنَ الْغَدِ).
وعن محمَّد بن جعفرٍ عن أبيهِ قال : (أُعْطِيَ سُلَيْمَانُ مُلْكَ مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَاربهَا ، فَمَلَكَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَسِتَّةَ أشْهُرٍ ، مَلَكَ أهْلَ الدُّنْيَا كُلَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ والإنْسِ وَالشَّيَاطِيْنِ وَالدَّوَاب وَالطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ ، وَأُعْطِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْطِقَ كُلِّ شَيْءٍ).
وقولهُ تعالى : { وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ } ؛ صَوْتٌ منهُ. قال الفرَّاءُ : (مَنْطِقُ الطَّيْرِ : مَعْنَى كَلاَمِ الطَّيْرِ ، جَعَلَهُ كَمَنْطِقِ الرَّجُلِ إذا فُهِمَ). قال مقاتلُ : (كَانَ سُلَيْمَانُ جَالِساً إذْ مَرَّ بهِ طَائِرٌ ، فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ هَذا الطَّائِرُ ؟ قَالُواْ : لاَ ، قَالَ : إنَّهُ قَالَ لِي : السَّلاَمُ عَلَيْكَ أيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيْلَ. وَمَرَّ سُلَيْمَانُ ذاتَ يَوْمٍ عَلَى بُلْبُلٍ فَوْقَ شَجَرَةٍ يُحَرِّكُ رَأسَهُ وَيُمِيْلُ ذنَبَهُ وَيَصِيْحُ ، فَقَالَ لأَصْحَابهِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا يَقُولُ هَذا الْبُلْبُلُ ؟ قَالُواْ : اللهُ أعْلَمْ! قَالَ : إنَّهُ يَقُولُ : أكَلْتُ نِصْفَ ثَمَرَة فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ).
(0/0)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ } ؛ أي جُمِعَ له من كلِّ جهةٍ جماعةٌ من الجنِّ والإنس والطَّيرِ. والْحَشْرُ : جمعُ الْخَلْقِ من موضعٍ إلى موضع ، ومنهُ الْمَحْشَرُ لِعَرَصَاتِ يَوْمَ القيامةِ. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ مُعَسْكَرُ سُلَيْمَانَ مِائَةُ فَرْسَخٍ ، خَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فَرْسَخاً لِلإنْسِ ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فَرْسَخاً لِلجِنِّ ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فرْسَخاً لِلسِّبَاعِ ، وَخَمْسَةٌ وَعُشْرُونَ فرْسَخاً لِلطَّيْرِ).
ووجهُ تسخيرِ الطَّير له أنَّ الله زادَ في عقُولِها حتى كانت تفهمُ ما يقالُ ويراد منها ، وتقبلُ الأدَبَ وتخافُ وتحذر ، وكان لسليمانَ عليه السلام ألفُ بيتٍ من قَوَاريْرَ على الخشب ، فيها ثَلاثُمائة صريحة ، وسَبْعُمائة سَرِيَّةٍ ، فيأمرُ الرِّيحَ العاصفَ فترفعه ، ويأمرُ الرَّحا فتسيرُ به ، فأوحَى اللهُ وهو يسيرُ بين السَّماء والأرضِ : أنِّي قَدْ زدْتُ فِي مُلْكِكَ أنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ أحَدٌ مِنَ الْخَلاَئِقِ إلاَّ جَاءَتْ بهِ الرِّيْحُ فَأَخْبَرَتْكَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } ؛ قال قتادةُ : (كَانَ عَلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْ جُنُودِهِ وَزْعَة تَرِدُ أُوْلاَهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَجْتَمِعُواْ وَيَتَلاَحَقُواْ) وهو من الوَزْعِ الذي هو الكَفُّ ، يقالُ : وَزَعْتُهُ وَزْعاً ، والشَّيْبُ وَازعٌ ؛ أي مانعٌ. قال الليثُ : (وَالْوَازعُ فِي الْحَرْب الْمُوَكَّلُ بالصُّفُوفِ يَزَعُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُمْ).
ومعنى الآيةِ : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي كان يُحْبَسُ أوَّلُهم على آخرِهم ليتلاَحقُوا ، وكانوا يجتمعونَ ويتفرَّقون ويقومون في مسِيرِهم على مراتِبهم. وَالإيْزَاعُ هو المنعُ من الذهاب ، والوَازعُ هو القَيِّمُ بأَمْرِ الْجَيْشِ ، ومن ذلكَ قولُ الحسنِ : (لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ وَزْعَةٍ) أي مِن سُلْطَانٍ يَكُفُّهُمْ ، ويقالُ : لا بدَّ للسُّلطانِ من وَزْعَةٍ ؛ أي مَن يَمْنَعُ الناسَ عنهُ. وأصلُ الوَزْعِ الكَفُّ والْمَنْعُ ، ومنهُ الحديثُ : " إنَّ اللهَ لَيَزَعُ بالسُّلْطَانِ أكْثَرَ مِمَّا يَزَعُ بالْقُرْآنِ ".
(0/0)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ } ؛ أي سَارُوا جميعاً حتَّى إذا وصَلُوا إلى وادٍ كثيرِ النَّمل ، قال كعبٌ : (هُوَ وَادٍ بالطَّائِفِ) ، وقال قتادةُ ومقاتل : (هُوَ بالشَّامِ) ، { قَالَتْ نَمْلَةٌ } ؛ لأصحابها على وَجْهِ التَّحذيرِ : { ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ } ؛ أي منَازلَكم ، { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } ؛ أي لا يَكْسِرَنَّكُمْ سليمانُ وجنودهُ ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ بذلكَ ؛ أي وهم لا يَعْلَمُونَ بحَطْمِكُمْ ووَطْئِكُمْ ، فطارَتِ الريحُ بكلامِ النَّملةِ ، فأدخلتْهُ في أُذُنِ سُليمانَ عليه السلام ليسمَعَها ، { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا } ؛ وكان أكثرُ ضَحِكِ الأنبياءِ عَلَيْهِمْ السَّلاَمُ التَّبَسُّمُ.
ونُصِبَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَاحِكاً } على الحالِ ، وسببُ ضَحِكِهِ مِن قَوْلِها التعجُّبُ ، وذلك أنَّ الإنسانَ إذا رأى ما لا عَهْدَ له بِهِ عَجِبَ وضَحِكَ. قال مقاتلُ : (ثُمَّ حَمَدَ رَبَّهُ حِيْنَ عَلَّمَهُ مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، وَسَمِعَ كَلاَمَ النَّمَْلَةِ) { وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ } ؛ يقالُ : فلانٌ مُوزَعٌ بكَذا ؛ أي مُولَعٌ بهِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وَفِّقْنِي أنْ أشْكُرَ نِعْمَتَكَ ، { الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ } وَ ، وَفِّقْنِي ، { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } ؛ في الآخرةِ.
فإن قِيْلَ : بَماذا عرفَتِ النملةُ سليمانَ ، وعلى أيِّ سبيلٍ كانت معرفتُها بهِ ؟ قُلْنَا : إنَّها كانت مأمورةً بطاعتهِ ، فلا بدَّ أن تعرفَ مَن أُمِرَتْ بطاعتهِ ، ولا يمنع أنْ تعرفَ الدوابُّ والبهائمُ هذا الضربَ ، كما تعرفُ كثيراً من منافعِها ومضارِّها ، والنملةُ فيها من الفَهْمِ فوقَ هذا ، فإنَّا نشاهدُ صُنْعَهَا في إدخالِ رزْقِهَا وحفظهِ وتعهُّدهِ ، حتى إنَّها تكسرُ ما تجمعهُ من الحبوب نصفَين نصفين لئَلاَّ تَنْبُتَ ، إلاَّ اللُّوَيْزَةَ فإنَّها تكسِرُها أربعَ قِطَعٍ ؛ لأنَّها إذا كسرَتْها نِصفَين تنبتُ ، فالذي هَدَاها إلى هذهِ الأمور هو الذي ألْهَمَهَا معرفةَ سُليمانَ عليه السلام.
(0/0)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ } ؛ أي طَلَبَهَا وبحثَ عنها ، والطَّيْرُ اسمٌ جامع للجِنْسِ ، وكانت الطيرُ تَصْحَبُ سليمانَ في سفرهِ ، تُظِلُّهُ بأجنِحَتها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ } ؛ أي قال : مَا الْهُدْهُدُ لا أراهُ أعْيُناً ؛ أي لَحِظْتُهُ فلم تَرَهُ بين الطيرِ ، { أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ }.
واختلَفُوا في سبب تفقُّدهِ عن حالِ الْهُدْهُدِ. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ الْهُدْهُدُ يَرَى الْمَاءَ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ كَمَا تَرَاهُ مِنَ الزُّجَاجِ. وَكَانَ سُلَيْمَانُ إذا احْتَاجَ إلَى الْمَاءِ فِي مَسِيْرِهِ ، أمَرَ الْهُدْهُدَ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى أقْرَب مَوْضِعٍ مِنَ الْمَاءِ ، فَاحْتَاجَ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ إلَى الْمَاءِ ، فَلِذلِكَ تَعَرَّفَ عَنْ حَالِ الْهُدْهُدِ).
قال عكرمةُ : قُلْتُ : يَا ابْنَ عَبَّاس ؛ كَيْفَ يَرَى الْهُدْهُدُ الْمَاءَ وَإنَّ صَيَّادَتَنَا يَأْخْذُونَهُ بالْفَخِّ فَلاَ يَرَى الْخَيْطَ وَالشَّبَكَةَ؟! قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : (مَا ألْقَى هَذِهِ الْكَلِمَةَ عَلَى لِسَانِكَ إلاَّ الشَّيْطَانُ ، أمَا تَعْلَمُ أنَّهُ إذا جَاءَ الْقَدَرُ ذهَبَ الْبَصَرُ). وعن سعيدِ بن جُبير : (أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ تَفَقُّدِ سُلَيْمَانَ الْهُدْهُدَ ، فَقَالَ : لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ مَسَافَةَ الْمَاءِ. وَأنَّ الصَّبيَّ يَضَعُ لَهُ الْفَخَّ فَيُغَطِّي عَلَيْهِ بشَيْءٍ مِنَ التُّرَاب فَيَجِيْءُ فَيَقَعُ فِيْهِ ، فَقَالَ : وَيْحَكَ! أمَا عَلِمْتَ أنَّ الْقَدَرَ يَحُولُ دُونَ الْبَصَرِ). ورُوي أنه قالَ : (إذا نَزَلَ القضاءُ والقَدَرُ ذهَبَ اللُّبُّ وعَمِيَ البصرُ).
وقال وهبُ : (كَانَ سَبَبُ تَفَقُّدِهِ لَهُ لإخْلاَلِهِ بالنَّوْبَةِ ، كَمَا يَتَعَرَّفُ الْوَالِي عَنْ رَعِيَّتِهِ) ، ويقالُ : كانتِ الطيرُ تُظِلُّهُ من الشَّمسِ ، كانت تقفُ في الهواءِ مصطَّفةً موصولةَ الأجنحةِ ومتقاربةً ، فلما أخْلَى الهدهدُ بمكانهِ بَانَ ذلك لوقوعِ الشَّمسِ عليه ، فلذلكَ تعرَّفَ عن حالهِ.
(0/0)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } ؛ قال المفسِّرون : تَعْذِيْبُهُ إيَّاهُ أن ينتفَ ريشَهُ ثُم يلقيهِ في الشَّمسِ فلا يَمنَعُ مِن نَمْلَةٍ ولا مِن هَوَامِّ الأرضِ. ويقالُ : هو قصُّ جناحهِ ، ويجوزُ أن يُعَاقَبَ بأن لا يجرِي عليه القلمُ على وجهِ التأديب ، كما يؤدِّبُ الأبُ ولده الصغير. وَقِيْلَ : تعذيبهُ أن يَنْتِفَ ريشَهُ ويدعَهُ مُمَعَّطاً في بيتِ النملِ فيلدغوهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لأَشُدَّنَّ رجلَيْهِ وألقيَهُ في الشَّمْسِ ، وَقِيْلَ : لأَطْلِيَنَّهُ بالقَطْرِ وأجعلَهُ في الشَّمسِ. وَقِيْلَ : لأفرِّقنَّ بينَهُ وبين إلْفِهِ. وَقِيْلَ : لأمنعنَّهُ من خدمَتي.
قولهُ تعالى : { أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ } ؛ أي لأقْطَعَنَّ حَلْقَهُ ، { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ أي بحجَّةٍ ظاهرة توجبُ عُذْرَهُ في غيبتهِ ، وقصَّتهُ : أنَّ سليمانَ عليه السلام لَمَّا فرغَ من بناءِ بيت المقدسِ عَزَمَ على الخروجِ إلى أرضِ الْحَرَمِ ، فتجهَّزَ للسيرِ واستصحبَ مِن الْجِنِّ والإنسِ والشَّياطينِ والطُّيور والوحوشِ ما بلغَ معسكرهُ مِائَةَ فرسخٍ ، وأمرَ الرِّيحَ فحملَتْهم ، فلما وَافَى الحرمَ أقامَ به ما شاءَ اللهُ أن يُقيمَ ، وكان ينحرُ كلَّ يومٍ مدَّةَ إقامتهِ خمسةَ آلافِ ناقة ، ويذبحُ خمسةَ آلاف ثورٍ ، وعشرون ألفَ شاةٍ ، وأقامَ بمكَّةَ حتى قضَى نُسُكَهُ.
ثُم سارَ إلى أرضِ اليمن فوافََى صنعاءَ اليمنِ وقتَ الزَّوالِ ، فأحبَّ النُّزولَ ليُصَلِّي ويتغدَّى ، فطلَبُوا الماءَ فلم يجدوهُ ، وكان الهدهدُ دليلَهُ على الماءِ ، فلما نَزَلَ سليمانُ قال الهدهدُ : إنَّ سليمانَ قد اشتغل بالنُّزولِ ، فارتفعَ الهدهدُ إلى جهةِ السَّماء ، فنظرَ يَميناً وشِمالاً فرأى خُضْرَةَ بساتين مَأْربَ في أرضِ بلقيسَ ، فمالَ إلى جهةِ الْخُضْرَةِ ، فالتقَى بهُدهُدٍ من هدهُدِ سََبَأ ، فقال لهُ : مِن أينَ أقبلْتَ وأينَ تريدُ ؟ قال : أقبلتُ من الشَّامِ مع نبيِّ الله سُليمانَ عليه السلام ، قال لهُ : ومَن سليمانُ ؟ قال : مَلِكُ الإنسِ والجنِّ والشياطين والوحوشِ والطُّيور. ثُم قال له هدهدُ سُليمانَ : وأنتَ مِن أين أقبلتَ ؟ قال : مِن هذه البلادِ ، قال : ومَن مَلِكُهَا ؟ قال : امرأةٌ يقالُ لها بَلْقِيْسُ ؛ مَلَكَتِ اليمنَ كلَّها وتحتَها اثنا عشرَ ألفَ قائدٍ ، مع كلِّ قائدٍ مائة ألفِ مقاتل ، فهل أنتَ منطلقٌ معي ننظرُ إلى مُلْكِها ؟ قال : أخافُ أن يَفْقِدَنِي سليمانُ في وقتِ الصَّلاة إذا احتاجَ إلى الماءِ ، فقال لهُ هدهدُ بلقيس : إنَّ صاحبَكم يسرُّهُ أن تأتيهِ بخبرِ هذه الملكةِ. فانطلقَ معهُ ونظرَ إلى بلقيسَ ومُلكِها ، وما رجعَ إلاّ وقتَ العصرِ.
قال : فلما نزلَ سليمانُ ودخلَ عليه وقتُ الصَّلاة ، طلب الهدهدَ لأنه نزلَ غير ماءٍ ، فسألَ الإنسَ عن الماءِ فقالُوا : ما نعلمُ هنا ماءً ، فسأل الجنَّ والشياطينَ فلم يعلَمُوا ، ففقدَ الهدهد فلم يجدْهُ ، فدعا بعفريتِ الطير النِّسْر ، فسألَهُ عن الهدهدِ ، فقال : ما أدري أينَ ذهبَ ، فغَضِبَ سليمانُ عند ذلك ، وقالَ { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي بحجَّة.
(0/0)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ } ؛ واسْمُها بلقيسُ بنتُ الشَّرْحِ ، وَقِيْلَ : شِراحيلُ بن ذي جَدَن ، وكان مَلِكاً عظيمَ الشَّأنِ ، وكان قد مَلَكَ أرضَ اليمنِ كلِّها ، وكان يقولُ لِمُلوكِ الآفاقِ : ليس أحدٌ منكم كُفْؤٌ لِي ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوَّجُوهُ امرأةً من الجنِّ يقالُ لَها : ريحانة بنتُ السكن ، فولدت بَلْقِيْسَ ، ولَم يكن لهُ ولدٌ غيرَها.
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " كَانَ أحَدُهُمْ يُؤْتَى بَلْقِيْسَ جِنِّيّاً " فَلَمَّا مَاتَ أبُوهَا وَلَمْ يُخَلِّفْ أحَداً غَيْرَهَا طَمِعَتْ فِي الْمُلْكِ ، فَطَلَبَتْ مِنْ قَوْمِهَا أنْ يُبَايعُوهَا ، فَأَطَاعَهَا قَوْمٌ وَعَصَاهَا قَوْمٌ آخَرُونَ ، وَاخْتَارُواْ عَلَيْهَا رَجُلاً فَمَلَّكُوهُ عَلَيْهِمْ ، فَافْتَرَقُواْ فِرْقَتَيْنِ ، كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ اسْتَوْلَتْ بمُلْكِهَا عَلَى طَرَفٍ مِنْ أرْضِ الْيَمَنِ.
ثُمَّ إنَّ هَذا الْمَلِكَ الَّذِي مَلَّكُوهُ أسَاءَ السِّيْرَةَ فِي أهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَتَّى كَانَ يَمُدُّ يَدَهُ إلَى حُرَمِ رَعِيَّتِهِ وَيَفْجُرُ بهِنَّ ، فَأَرَادَ أصْحَابُهُ أنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُواْ ، فَلَمَّا رَأتْ بَلْقِيْسُ ذلِكَ أدْرَكَتْهَا الْغَيْرَةُ ، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ تَعْرِضُ نَفْسَهَا عَلَيْهِ ، فَأَجَابَهَا إلَى ذلِكَ ، وَقَالَ : مَا مَنَعَنِي أنْ أبْدَأكِ بالْخِطْبَةِ إلاَّ الْيَأْسُ مِنْكِ ، فَقَالَتْ : إنِّي رَاغِبَةٌ إلَيْكَ لأَنَّكَ كُفْؤٌ كَرِيْمٌ ، فَاجْمَعْ رجَالَ قَوْمي فَاخْطِبْنِي إلَيْهِمْ ، فَجَمَعَهُمْ فَخَطَبَهَا إلَيْهِمْ فَقَالُواْ : لاَ نَرَاهَا تَفْعَلُ هَذا ، قَالَ : إنَّهَا هِيَ الَّتِي ابْتَدَأتْنِي ، فَذكَرُواْ لَهَا ذلِكَ ، فَقَالَتْ : نَعَمْ ؛ لأَجْلِ الْوَلَدِ ، وَلَمْ أزَلْ كُنْتُ كَارهَةً لِذلِكَ ، فَالآنَ قَدْ رَضِيْتُ ، فَزَوَّجُوهَا مِنْهُ.
فَلَمَّا زُفَّتْ إلَيْهِ خَرَجَتْ فِي نَاسٍ كَثِيْرٍ مِنْ خَدَمِهَا وَحَشَمِهَا ، فَلَمَّا جَاءَتْهُ سَقَتْهُ الْخَمْرَ حَتَّى سَكِرَ ، ثُمَّ حَزَّتْ رَأسَهُ وَانْصَرَفَتْ مِنَ اللَّيْلِ إلَى مَنْزِلِهَا ، فَلَمَّا أصْبَحَ رَأوا الْمَلِكَ قَتِيْلاً وَرَأسُهُ مَنْصُوباً عَلَى رَأسِ دَارهَا ، فَعَلِمُواْ أنَّ تِلْكَ الْمُنَاكَحَةَ كَانَتْ مَكْراً وَخَدِيْعَةً مِنْهَا ، فَاجْتَمَعُواْ إلَيْهَا وَقَالُواْ لَهَا : أنْتِ أحَقُّ بهَذا الْمُلْكِ مِنْ غَيْرِكِ ، فَقَالَتْ : لَوْلاَ الْعَارُ وَالشَّنَارُ مَا قَتَلْتُهُ ، وَلَكِنْ عَمَّ فَسَادُهُ وَأَخَذتْنِي الْحَمِيَّةُ حَتَّى فَعَلْتُ مَا فَعَلْتُ ، فَمَلَّكُوهَا فَأَسَّسَتْ أمْرَهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } ؛ قال عطاءُ : (مِنْ زيْنَةِ الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْجُنُودِ) ، { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } ، أي سريرٌ من ذهَبٍ طولهُ ثَمانونَ ذِرَاعاً وعَرْضُهُ أربعونَ ذِراعاً وارتفاعهُ في السَّماء ثلاثونَ ذِراعاً مضروبٌ بالذهب مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ والياقوتِ الأحمرِِ والزُّبُرْجُدُ الأخضرُ. قال مجاهدُ : (وَكَانَ تَحْتَهَا اثْنَا عَشَرَ ألْفَ قَيْلٍ - وَالْقَيْلُ بلُغَةِ الْيَمَنِ - تَحْتَ يَدَي كُلِّ قَيْلٍ ألْفُ مُقَاتِلٍ). وَقِيْلَ : كان سريرُها له أربعُ قوائمَ : قائمةٌ من ياقوتٍ أخضر ، وقائمةٌ من ياقوتٍ أحمر ، وقائمةٌ من زمُرُّد ، وقائمةٌ من دُرٍّ ، وصفائحُ السريرِ من ذهبٍ ، وعليه سبعةُ أبياتٍ لكلِّ بيتٍ بابٌ مغلَقٌ.
(0/0)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ قال الحسنُ : (كَانَ الْقَوْمُ مَجُوساً وَكَانُواْ يَتَعَطَّفُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مُوَاجِهِيْنَ لِلشَّمْسِ) ، وقولهُ تعالى : { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } ؛ أي حَسَّنَ لَهم قبيحَ أعمالِهم ، { فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } ؛ أي عن الطريقِ ، { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } ؛ إلى طريق الحقِّ.
(0/0)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
قوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } يجوزُ أن يكون ابتداءُ خطابٍ من اللهِ ، ويجوزُ أن يكون من قولِ الْهُدْهُدِ أو من قولِ سُليمان.
قرأ الكسائيُّ والأعرجُ ويعقوب وحميدُ وأبو جعفرٍ : (ألاَ يَسْجُدُواْ) بالتخفيف : ألاَ يا هؤلاءِ اسْجُدُوا ، جعلوهُ من أمرِ الله مستأنَفاً ، وحذفُوا (هَؤُلاَءِ) اكتفاءً بدلالةِ (يَا) عليها ، فعلى هذه القراءةِ (اسْجُدُواْ) في موضع جزمٍ على الأمرِ والوقفُ عليه (ألاَ يَا) ، ثُم يبتدئُ (اسْجُدُوا) ، وفي قراءةِ عبدِالله (هَلاَّ يَسْجُدُواْ للهِ). وقرأ الباقونَ (ألاَّ يَسْجُدُواْ) بالتشديدِ على معنى وزَيَّنَ لَهم الشيطانُ ألاَّ يَسْجُدُوا.
وقولهُ تعالى : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) ، الْخَبَأَُ : كلُّ ما غابَ عن الإدراك ، مصدرٌ وقد وقعَ موقع المفعولِ كالْخَلْقِ بمعنى المخلوقِ والعلمِ بمعنى المعلومِ ، وخبَأُ السَّموات : الأمطارُ ، وخبأُ الأرض : النباتُ ، فعلى هذا تكون (فِي) بمعنى (مِن). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } ؛ أي يعلمُ ما يُخفون في قُلوبهم ، وما يُعلِنون بألسنتِهم ، وفي قراءةِ الكسائيِّ بالتاء ، لأنَّ أولَ الآية خطابٌ على قراءتهِ بتخفيف (ألاَ) يا اسجُدوا.
(0/0)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ؛ أراد بالعرشِ في هذه الآية سريرَ الْمُلْكِ الذي عظَّمَهُ اللهُ ورفعَهُ فوقَ سَموات سبعٍ وجعلَهُ أعظمَ من السَّمواتِ والأرض ، ومِن أعظم كلِّ خلقٍ ، وجعل الملائكة تَحُفُّ به وترفعُ أعمالَ العباد إليهِ ؛ أي هو الذي يستحقُّ العبادةَ لا غيره ، وهو ربُّ العرشِ لا ملكةَ سَبَأ ؛ لأن عرشَها وإن كان عَظِيماً لا يبلغُ عرشَ الله في العِظَمِ.
فلمَّا فَرَغَ الهدهدُ من كلامه ، { قَالَ } ؛ سليمانُ للهدهدِ : { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ } ؛ فيما أخبَرْتَنا به مِن هذه القصَّة ، { أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فنعذِّبُك.
ثُم كتبَ سليمانُ كِتاباً خَتَمَهُ بخَاتَمٍ ودفعهُ إلى الهدهدِ ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ } ؛ أي إلى أهل سبأ. وقولهُ تعالى : { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } ؛ أي انصرِفْ عنهم ، وهذا على التقديْمِ والتأخيرِ ، تقديرهُ : { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } ؛ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ؛ لأن التولِّي عنهم بعد الجواب ، ومعنى { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي ماذا يردُّونَ من الجواب. وَقِيْلَ : معناهُ : { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي انْصَرِفْ عنهم قَليلاً إلى حيث لا يَرَوْنَكَ { فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي يقولُون ويردون ويحسبون.
وكان كتابُ سُليمانَ عليه السلام : مِنْ عَبْدِ اللهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إلَى بَلْقِيْسَ مَلِكَةِ سَبَأ ، السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أمَّا بَعْدُ : فَلاَ تَعْلُوا عَلَيَّ وأتُونِي مُسْلِمِيْنَ. وقال ابنُ جريج : (لَمْ يَزِدْ سُلَيْمَانُ عَلَى نَصِّ اللهِ كِتَابهِ). فلمَّا كَتَبَ الكتابَ طَبَعَهُ بالْمِسْكِ وخَتَمَهُ بخاتَمهِ ، وقال للهُدهدِ : اذْهَبْ بهِ ، فأخذ الكتابَ بمنقارهِ وذهبَ به.
فلما أغلقَتِ المرأةُ الأبوابَ دونَها ونامَتْ على سريرِها ، ووضعت المفاتيحَ تحت وسادَتِها ، فأتَى بها الهدهدُ من الكُوَّةِ وهي نائمةٌ مستلقية على قَفَاهَا ، فألقى الكتابَ على وجهِها ونبَّهَها بمنقارهِ وصوتهِ ، فأخذتِ الكتابَ ، وكانت كاتبةً قارئة عربيَّة من تُبَّعِ سراحيل الْحِمْيَرِيِّ ، فقرأتِ الكتابَ وناخَرَ الهدهدُ غيرَ بعيدٍ ، فدعت بذوي الرَّأيِ من قومِها وهم اثنا عشرَ ألفَ قائدٍ مع كلِّ قائد مائة ألفِ مُقاتلٍ.
وقال قتادةُ : (كَانَ أهْلُ مَشُورَتِهَا ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً) فجَاؤُا إليها ، و { قَالَتْ } لَهم : { ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } ؛ أي حَسَنٌ ، وَقِيْلَ : شريفٌ ، وَقِيْلَ : مَخْتُومٌ ، قال صلى الله عليه وسلم : " كَرَامَةُ الْكِتَاب خَتْمُهُ " وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } ؛ أي الكتابُ مِن سليمانَ ، { وَإِنَّهُ } ؛ المكتوب ، { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـانِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ } أي لا تَستَكِبُروا ، { عَلَيَّ } ولا ترَفَّعُوا علَيَّ ، { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ؛ منقادِين طائعين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } بدلٌ من (كِتَابٌ) وموضعهُ على هذا القولِ رفعٌ ، ويجوزُ أن يكون نَصباً على معنى بأن لاَ تَعْلُوا عَلَيَّ. وَقِيْلَ : معنى قوله { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي مُؤمِنين باللهِ ورسولهِ مِن الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ. وَقِيْلَ : مُستَسْلِمين لأَمْرِي فيما أدعُوكُم إليه ، فإنِّي لا أدعُوكُم إلاّ إلى حقٍّ ، فأطيعُونِي قبلَ أن أكْرِهَكُم على ذلكَ.
(0/0)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
قًَوْلَهُ تَعَالَى : { قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي } ؛ أي قالت لأهلِ مشورَتِها : بَيِّنُوا لِي. ما أعملُ في أمرِي بما هو الصوابُ ، وأشِيرُوا عليَّ ، فإنِّي { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً } ؛ من الأمور في ما مَضَى ، { حَتَّى تَشْهَدُونِ } ؛ تحضُرونَ فتُشاورُونِي ، فأَشِيرُوا عليَّ في هذا الكتاب ، ما أصنعُ فيهِ ؟ { قَالُواْ } ؛ مُجِيبينَ لَها : { نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ } ؛ وعُدَّةٍ في القتالِ لَم يبلُغْنا عدوٌّ قط ، وَنحنُ { وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } ؛ في الحرب ، ذكَرُُوا لها قوَّتَهم وشجاعَتَهم ، وهذا تعريضٌ منهم بالقتالِ إن أمرَتْهُم بذلكَ.
ثُم قالُوا : { وَالأَمْرُ إِلَيْكِ } ؛ أي في القتالِ وتَرْكِهِ إن أمَرْتِنا بالقتالِ قاتلناهُ ، وإنْ أمَرْتِنا بغيرِ ذلك فعلناهُ ، وذلك معنى قولهِ : { فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ } أي ماذا تُشِيرِينَ علينا.
(0/0)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } ؛ أي قالَتْ مُجيبةً لَهم عن التعريضِ بالقتالِ : إنَّ الملوكَ إذا دخَلُوا قريةً عُنْوَةً عن غفلةٍ وقِتَالٍ أفْسَدُوها ؛ أي خرَّبُوهَا وأهْلَكُوهَا ، { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي وأهَانُوا أشرَافَها وكُبَراءَها كي يستقيمَ لَهم الأمرُ. وَقِيْلَ : معنى قولهِ { وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي بالقَتْلِ والأسرِ والاستعباد وأخذِ المالِ ، وانتهى الكلامُ ها هنا.
قال اللهُ تصديقاً لَها : { وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ } ؛ أي كما قالَتْ هُم يفعلُونَ. ومعنى الآية : أنَّها حذرَتْهُمْ مسيرَ سُليمانَ إليهم ودخولَ بلادِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } ؛ وذلك أنَّها لَمَّا تدبَّرَتْ في أمرِها قَوَّتِ الْمُلاطفةَ بالْهَدايَا ، وكانت مِن أولادِ الملوكِ ، تعرفُ عادتِهم وحُسْنَ مواقع الهدايا عندَهم ، فإنَّ ذلك هو الأَولى ، وكانت بلقيسُ امرأةً لَبيْبَةً أدِيْبَةً ، فقالَت بهذا القولِ اختِبَاراً لسليمانَ : أمَلِكٌ هو أم نَبيٌّ ؟ فإن كان مَلِكاً قَبلَ الْهَدايا وتَرَكَ الوُصولَ إلى بلدِها ، وإنْ كان نَبيّاً لَم يرضَ بالْهَدِيَّةِ ، ولا يُرضِيه إلاّ أن تَتَّبعَهُ ، فهيَّأَتِ الْهَدايا من الْمِسْكِ والعَنْبَرِ والعُودِ وغيرِ ذلك ، وأهدت له خَمسَمِائَةِ عبدٍ وخَمسَمِائَةِ جَاريةٍ ، وأهدَتْ له أيضاً صِحَافَ الذهب وخمسَمائة لَبنَةٍ من ذهبٍ وخمسَمائة لَبنَةٍ من فِضَّةٍ ، وتَاجاً مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوتِ.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } أي فلما جاءَ رسولُها إلى سُليمانَ يُهْدِيَهُ ، { قَالَ } ؛ لهُ سُليمانُ : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } وأنا أكثرُ أهلِ الدُّنيا مالاً ولستُ مِمَّن يرغبُ في المالِ ، { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } ؛ أي إذا أهْدَى بعضُكم إلى بعضٍ فَرِحُوا بذلكَ ، وأما أنَّا فلا أفرحُ لأنَّكم أهلُ مفاخرة ومكاثرةٍ في الدُّنيا.
وفي الخبر : أنَّ سُليمانَ عليه السلام لَمَّا عَلِمَ بالْهَدايَا قَبْلَ أنْ تَصِلَ إليه أمَرَ أنْ يضرَبَ لَبنَاتٍ مِن الذهَب أحسنَ وأجودَ مما كانَ مع رسُولِها ، وأمَرَ أن تُلْقَى تلك اللَّبنَاتُ بين قوائمِ الدَّواب حتى تَرُوثَ وتَبُولَ عليها ، فلمَّا رأى ذلك الرسولُ استخَفَّ الهديَّةَ التي كانت معهُ ، وكانت بلقيسُ قد قالت لرسُولِها : إذا دخلْتَ عليهِ ، فَإذا نَظَرَ إليكَ نَظَرَ غَضَبٍ ، فَاعْلَمْ أنَّهُ مَلِكٌ يَهُولَنَّكَ منظرهُ ، فأنا أعَزُّ منه ، وإنْ نَظَرَ إليكَ بوجهٍ طَلِقٍ فإنه نَبيٌّ مرسلٌ ، فتَفَهَّمْ قولَهُ ورُدَّ الجوابَ. فَانْطَلَقَ الرسولُ بالْهَدايا ومعهُ الْهُدهُدُ مُسْرِعَين إلى سليمانَ.
فلمَّا وَصَلَ الرسولُ إلى سليمانَ وجَدَهُ قاعداً في مجلسهِ على سريره ، وعلى يَمينه أربعةُ آلاف كرسِيٍّ من ذهبٍ ، وعن يساره مثلُ ذلكَ ، وقد اصطَفَّتِ الإنسُ صُفوفاً وفراسِخَ ، واصطَفَّتِ الجنُّ والشياطينُ والوحوش والسِّباع والْهَوَامُّ والطيرُ كذلك صُفوفاً وفراسخَ ، عن يَمينهِ ويسارهِ.
فلما رَأوا الشياطينَ نظَرُوا إلى منظرٍ فَضِيعٍ ففَزِعُوا منهم ، فقالت لَهم الشياطينُ : جُوزُوا فَلا بأسَ عليكم ، فكانوا يَمرُّونَ على كلٍّ كرُؤوسٍ من الجنِّ والإنس والطيرِ والوحوش حتى وقَفُوا بين يدَي سليمانَ ، فنظرَ إليهم نَظَراً حَسَناً بوجهٍ طَلِقٍ ، وقال : ما ورَاءَكم؟
فأخبَرَهم رئيسُهم بما جَاءُوا به من الْهَدِيَّةِ ، وأعطاهُ كِتَاباً من الملكةِ ، فنظرَ فيه ، ثُم قالَ لرسُولِها : { ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } ؛ أي بعَسَاكِرَ لا طاقةَ لَهم بها ، { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ } ؛ مِن بلادِهم ، { أَذِلَّةً } ؛ مغلولةً أيْدِيهم إلى أعناقِهم ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } ؛ أي مُهَانُونَ.
فلمَّا أخبَرَها الرسولُ بذلكَ ، قالت : قد عرفتُ ما هذا بمَلِكٍ ، وما لَنَا من طاقةٍ ولا ينبغِي لنا مخالفتهُ ، فتجهَّزَت للميسرِ إليه ، ثُم عمَدَتْ إلى سرِيرِها فوضتعْهُ في سبعةِ بيوت مقفلة الأبواب ، بيتٌ فوقَ بيتٍ وجعلته في الطَّبقة السابعةِ ، وجعلتِ الجيوشَ حولَهُ وخرجَتْ متوجِّهة إلى سليمانَ.
فجاءَ جبريلُ عليه السلام إلى سليمانَ وأخبرَهُ بمجِيئها إليه ، { قَالَ } سليمانُ : { ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } ؛ أي سَريرِ مُلكِها ، { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ؛ أي مُؤمنينَ ، وَقِيْلَ : صَاغِرِين مُستَسْلِمين منقادينَ.
وإنَّما خَصَّ العرشَ بالطلب ؛ لأنه أعْجَبَهُ صِفَتُهُ ، فأحبَّ أن يُعاتِبَها به ، ويختبرَ عقلَها به إذا رأتْهُ ، تعرفهُ أم تُنكِرهُ ، وأحبَّ أن يُرِيَها قدرةَ اللهِ في معجزةٍ يأتِي بها في عرشِها ، وأحبَّ أن يأخُذ عرشَها قَبْلَ أنْ تُسْلِمَ ، فلا يحلُّ أخذُ مالِها بعدَ الإسلامِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }.
(0/0)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ } ؛ يعرفُ بعَمْرٍو ، والجِنِّيُّ والعفريتُ في كلِّ شيءٍ : الْمُبَالِغُ الْحَاذِقُ ، يقالُ : رَجُلٌ عِفْرٌ وَعِفْرِيْتٌ وعِفْرِيَةٌ ، بمعنى واحدٍ ، والجمعُ عَفَاريتُ وَعَفَارَى ، وَقِيْلَ : العفريتُ من الجِنِّ الْمَاردُ القويُّ الغليظ الشديدُ. وَقِيْلَ : اسمُ العفريتِ الدَّاهِيَةُ.
قِيْلَ : إنَّها سارَتْ إلَى سليمانَ في اثنَى عشرَ ألفَ قِيْل ، تحتَ كلِّ قِيْل ألُوفٌ كثيرةٌ ، فخرجَ سليمانُ ذات يومٍ وإذا هو يَرَى هَرَجاً قريباً منهُ ، فقال : ما هَذا ؟ قالوا : بلقيسُ ، قال : نزلَتْ منَّا بهذا المكانِ. قال ابنُ عبَّاس : (وَهُوَ مَكَانٌ بَيْنَ الْحِيْرَةِ وَالْكُوفَةِ بُعَيْدَ فَرْسَخٍ) فأقبلَ حينئذ سليمانُ على جنودهِ ، وقال : { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ؟ }.
واختلفَ أهلُ العلمِ في السَّبب الذي لأجلهِ أمرَ سليمانُ بإحضار عرشِها ، قِيْلَ : أنْ يَحْرُمَ عليه أخذهُ بإسلامِها. وقال قتادةُ : (إنَّهُ أعْجَبَهُ صِفَتُهُ لَمَّا وَصَفَهُ لَهُ الْهُدْهُدُ ، فَأَحَبَّ أنْ يَرَاهُ) ، وقال ابنُ زيدٍ : (أرَادَ أنْ يَخْتَبرَ عَقْلَهَا بتَنْكِيْرِ عَرْشِهَا وَلِيَنْظُرَ هَلْ تَعْرِفُهُ إذا رَأتْهُ أوْ تُنْكِرُهُ) ، وَقِيْلَ : لِيُرِيَها قدرةَ اللهِ وعِلْمَ سُلْطانهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } ؛ أي من مجلسِ قضَائِكَ ، وكان سليمانُ يجلسُ للقضاء من الغَدَاةِ إلى انتصافِ النَّهار ، وقال مقاتلُ : (قَالَ الْعِفْريْتُ : أنَا أضَعُ قَدَمِي عِنْدَ مُنْتَهَى بَصَرِي ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أسْرَعُ مِنِّي) { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } ؛ أي قَوِيٌّ على حملهِ ، أمينٌ على ما فيهِ مِن الذهب والجواهرِ. فقال سليمانُ : أريدُ أسرعَ مِن ذلكَ.
(0/0)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ } ؛ وهو آصِفُ بن بَرَخْيَا كان يعلَمُ الاسمَ الأعظمَ الذي إذا دُعِيَ له أجابَ ، وهذا قولُ أكثرِ المفسِّرين. وقال بعضُهم : هو جبريلُ ، وَقِيْلَ : هو مَلَكٌ من الملائكةِ.
وقولهُ تعالى : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } ؛ قال ابنُ جبير : (قَالَ لِسُلَيْمَانَ : انْظُرْ إلَى السَّمَاءِ ، فَمَا طَرَفَ حَتَّى جَاءَ بهِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ). والمعنى : حتى يعودَ إليك طَرْفُكَ بعد مَدِّهِ إلى السَّماء. وَقِيْلَ : معناهُ : بقدر ما تفتحُ عينَيْكَ ، وهذا الكلامُ عبارةٌ عن المبالغةِ في السُّرعةِ.
قال محمَّدُ بن اسحق : (انْخَرَقَ مَكَانُ عَرْشِهَا حَيْثُ هُوَ ، ثُمَّ نَبَعَ بَيْنَ يَدَي سُلَيْمَانَ) ومثلُ هذا رُويَ عن ابنِ عبَّاس. وقال الكلبيُّ : (خَرَّ آصِفُ سَاجِداً وَدَعَا بالاسْمِ الأَعْظَمِ ، فَغَارَ عَرْشُهَا تَحْتَ الأَرْضِ حَتَّى نَبَعَ عِنْدَ كُرْسِيِّ سُلَيْمَانَ).
قال أهلُ المعانِي : لا يُنْكَرُ من قدرةِ الله " نقله " من حيث كانَ ، ثُم يوجدهُ حيث كانَ سليمانُ بالأفضلِ ، لدعاءِ الذي عندَهُ علمٌ من الكتاب ، ويكونُ ذلك كرامةً للولِيِّ ومعجزةً للنبيِّ.
واختلَفُوا في ذلكَ الدُّعاءِ الذي دعَا به آصِفُ ، فقال مقاتلُ ومجاهد : (يَا ذا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ) ، وقال الكلبيُّ : (يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ) ، وَقِيْلَ : قالَ له سليمانُ : قد رأيتُكَ تُرْجِعُ شفَتيكَ فَمَا قُلْتَ ؟ قالَ : قلتُ : إلَهِي وَإلَهَ كلِّ كل شيء واحدٌ لا إلهَ إلاّ أنتَ إئْتِ بهِ. وقال بعضُهم : هو يا إلَهَنَا وإلهَ كلِّ شيء ، يا ذا الجلالِ والإكرامِ لا إلهَ إلاّ أنتَ. وقال الحسنُ : (اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ : يَا رَحْمَنُ ، وَذلِكَ أنَّهُ لاَ يُسَمَّى أحَدٌ بهَذيْنِ الاسْمَيْنِ عَلَى الإطْلاَقِ غَيْرُ اللهِ عَزَّ وَجلَّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً } ؛ أي فلمَّا رأى سليمانُ العرشَ مستَقِرّاً ، { عِندَهُ } ، نَابتاً بين يديهِ ، { قَالَ هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي } ؛ أي هذا التمكينُ من حصولِ المراد من حصولُ فَضْلِ اللهِ وعطائهِ ، { لِيَبْلُوَنِي } ؛ أي ليَخْتَبرَنِي ويَمْتَحِنَني على هذه النعمةِ ، { أَأَشْكُرُ } ؛ أأشكرهُ فيما أعطانِي من نعمةٍ ، { أَمْ أَكْفُرُ } ؛ أي أتركُ شُكرَها ، { وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ؛ أي مَن شَكَرَ نعمةَ ربهِ فإنَّما منفعةُ شُكْرِهِ راجعٌ إلى نفسهِ ، يعني ثوابَ شُكرِهِ يعودُ إليه ، { وَمَن كَفَرَ } ؛ أي تَرَكَ شُكْرَ نعمتهِ ، { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ } ؛ عنهُ وعن شُكرهِ ، { كَرِيمٌ } ؛ يقبلُ الشُّكْرَ ؛ أي ويزيدُ عليه في النعمةِ في الدُّنيا ويثيبُ عليه في العُقبَى.
(0/0)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } ؛ قال سليمانُ : غيِّرُوا سريرَها وزيدُوا فيه وأنقِصُوا منهُ حتى ، { نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ }.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } ؛ أي فلما جاءت بلقيسُ إلى سليمانَ ، قِيْلَ : أهكذا سَريرُكِ ؟ فجعلت تعرفُ وتُنكِرُ ، وعَجِبَتْ من حضورهِ عند سُليمانَ ، و { قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ } ؛ وقال مقاتلُ : (عَرَفَتْهُ وَلَكِنَّهَا شَبَّهَتْ عَلَيْهِ كَمَا شَبَّهُواْ عَلَيْهَا ، وَلَوْ قِيْلَ لَها : أهَذا عَرْشُكِ ؟ لَقَالَتْ : نَعَمْ. فقيلَ لَها : فإنه عرشُكِ ، فما أغنَى عنكِ إغلاقُ الأبواب ، وكانت قد خلَّفتْهُ وراءَ سبعةِ أبوابٍ لَمَّا خرجت والمفاتيحُ معَها ، فلم تُقِرَّ ولَم تُنْكِرْ ، فَعَلِمَ سليمانُ كمال عقلِها).
وقال عكرمةُ : (كَانَتْ حَكِيْمَةً ، قَالَتْ : إنْ قُلْتُ هُوَ هُوَ خَشِيْتُ أنْ أكْذِبَ ، وَإنْ قُلْتُ لاَ خَشِيْتُ أنْ أكْذِبَ) فلَم تقُلْ نَعَمْْ ، ولا قالت لاَ ؛ لأنه كان يشبهُ سريرَها ، وشكَّتْ في وصولهِ إلى سليمانَ بعد أن وضعتْهُ في أحصَنِ المواضعِ ، وشَكَّتْ أيضاً لِمَا أحدثُوا فيه من التغيُّرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } ؛ هذا من قولِ سُليمانَ عليه السلام وقومَهُ ، أي قالُوا : وأُعطينا العلمَ بها وبمُلكِها وسريرِها من قبلِ مَجيئِها ، وهو ما أخبرَ به الهدهدُ من شأنِها وقصَّتِها ، وقالوا : وَكُنَّا مُسْلِمِيْنَ بحمدِ الله عَزَّ وَجَلَّ من قبلِ مشاهدةِ المعجزات ، وهذا قولُ مجاهدٍ.
وقال بعضُهم : هذا قولُ من بلقيسَ لَمَّا رأت عرشَها قالت : وَأُوتِينَا العلمَ بصحَّة نبوَّة سليمانَ عليه السلام من قَبْلِ الآيةِ في العرضِ وكنا مُسْلِمِيْنَ طائعينَ منقادين لأمرِ سُليمانَ عليه السلام قبلَ أن نجيءَ إليه.
(0/0)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي منعَها الإيْمَانَ بالله العبادةُ التي كانت عليها من عبادةِ الشَّمسِ. والمعنى وَصَدَّهَا عَنِ الإيْمانِ والتوحيدِ الذي كَانَتْ تعبدُ من دونِ اللهِ ؛ وهو الشمسُ ؛ لأنَّها نشأَتْ في قومٍ لَم يكونوا يَعْرِفُونَ إلاّ عبادةَ الشَّمسِ ؛ لأنَّها كانت من الْمَجُوسِ.
قًوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؛ أي إنَّها كانت من قومٍ يعبدونَ الشَّمسَ ، فنشأَتْ في ما بينِهم. وقال بعضُهم معنى قولهِ : { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ } أيْ صَدَّهَا سليمانُ ؛ أي منعَها ذلك ، وحالَ بينَهُ وبينَها ، فعلى هذا يكون موضعُ (مَا) نصباً.
(0/0)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } ؛ وذلك أنَّ بلقيسَ لَمَّا لم تُسِلمْ بما رأتْ من الآياتِ ، أرادَ سليمانُ عليه السلام أن يُرِيهَا آيةً أُخرَى لتُسْلِمَ ، فأمرَ الجنَّ والشياطينَ أن يَبْنُوا لَها صَرْحاً ؛ أي قَصْراً من زجاجٍ مُمَلَّسٍ ، وأن يُجْرُوا تحتَهُ الماءَ ، ويجعلُوا فيه الْمِسْكَ والزُّمُرُّدَ الأملسَ ، وشجرةٌ مَرْدَاءُ ؛ أي ملساءُ لا وَرَقَ لَها. ففعَلُوا ذلكَ ثُم وضَعُوا لَهُ سريراً في صدر الصَّرحِ فجلسَ عليهِ ، وعكفَتْ عليه الطيرُ والجنُّ والإنس.
وَقِيْلَ : إنَّ سليمانَ عليه السلام إنَّما أمَرَ ببناءِ الصَّرحِ ؛ لأن الجنَّ كانوا قد أخبَروهُ أن رجلَها رجْلُ حِمَارٍ ، وإنَّها شعراءُ الرِّجْلَين ؛ لأن أُمَّهَا كانت من الجنِّ ، فخَافُوا أن يتزَوَّجَها فتُفشِي إليه أسرارُ الجنِّ ، فأرادُوا أن يُزهِدُوهُ فيها بهذا الكلامِ ، وقالوا لَهُ أيضاً : إنَّ في عقْلِها شيءٌ ، فأرادَ أن يختبرَ حقيقةَ قولِهم أنَّ رجْلَها كحافِرِ الحمار ، ولينظُرَ إلى سَاقِها هل به شَعْرٌ كما قالوا { قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ } أي القَصْرَ ، وَقِيْلَ : صَحْنُ القصرِ.
قال الزجَّاجُ : (والصَّرْحُ : الْقَصْرُ والصَّحْنُ ، يُقَالُ : هَذِهِ سَاحَةُ الدَّار وصُرْحَةُ الدار). والصَّرْحُ في اللغة : هو البَسْطُ المنكشفُ من غير سَقْفٍ ، ومنهُ صَرَّحَ بالأمرِ إذا أفصحَ به ولَم يُكَنِّ عنهُ ، والتصريحُ بخلافِ التَّضميرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَتْهُ } ؛ أي فلمَّا رأتْ بلقيسُ الصَّرْحَ على تلك الصِّفةِ ، { حَسِبَتْهُ لُجَّةً } ؛ واللُّجَّةُ مُعْظَمُ الماءِ الكثيرِ ، { وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } ؛ أي رَفَعَتْ ثِيابَها عن ساقيها حتى لا تَبْتَلَّ ثيابُها على ما هو العادةُ من قصدِ الماء. قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا كَشَفَتْ سَاقَهَا رَأى سُلَيْمَانُ قَدَماً لَطِيْفاً وَسَاقاً حَسَناً خَدْلَجاً ، إلاَّ أنَّهَا كَثِيْرَةُ شَعْرِ السَّاقَيْنِ). فَلمَّا رأى سليمانُ ذلك صَرَفَ بصرَهُ عنها ، ونادَها : { قَالَ إِنَّهُ } ، ليس هذا بماءٍ ، وإنَّما هو ، { صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } ؛ أي مُمَلَّسٌ من زُجاجٍ ، فلا تَخافِي وَاعبُرِي عليهِ ، فلمَّا رأتِ السَّريرَ والصَّرْحَ عَلِمَتْ أنَّ مُلْكَ سليمانَ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، و { قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } ؛ بعبادةِ الشَّمسِ ، { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي أخْلَصْتُ التوحيدَ.
والمعنى : أنَّ بلقيسَ اسْتَدَلَّتْ بما شاهدَتْ على وحدانيَّة اللهِ وصِحَّةِ نُبوَّةِ سُليمانَ بما رَأتْ مِن شِدَّةِ قوَّتهِ وما كان مِن تَرَسُّلِ الطيرِ له ، وإحضار عَرشِها في أسرعِ مدَّة على بُعْدِ المسافةِ. وَبناءِ الصَّرحِ من القََوَاريْرِ على وجهِ الماء ، فلذلكَ قالَتْ : { ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فتزوَّجَها سليمانُ عليه السلام.
وَقِيْلَ : لَمَّا أرادَ سليمانُ أن يتزوَّجَها كَرِهَ ذلك لِمَا رأى من كَثْرَةِ شَعْرِ ساقيها ، فسألَ الإنسَ : ما يُذْهِبُ هذا ؟ قالُوا : الْمُوسى ، فقال : إنَّها تقطعُ ساقَيها ، فسألَ الجِنَّ فقالوا : لا نَدري ، ثُم سأَلَ الشياطينَ فقال لَهم : كيفَ لِي أن أقلعَ هذا الشَّعْرَ من غير مضَرَّةٍ للجسدِ ؟ فدلُّوه على عَمَلِ النُّورَةِ ، وكانت النُّورَةُ والحمَّامَاتُ من يومئذٍ ، فاتَّخَذُوا لَها النُّورَةَ والحمَّامَ ، وتزَوَّجَها سليمانُ عليه السلام ، فلما تزوَّجَها أحبَّها حُبّاً شديداً ، وأقرَّها على مُلْكِهَا ، وأمَرَ الجنَّ بأَنْ يَبْنُوا لَها بأرضِ اليَمَنِ ثلاثةَ حُصُونٍ لَم يُرَ مِثلُها حُسْناً وارتفاعاً ؛ وهي سَيْلَحِيْنَ وَسُونَ وَغَمَدَانَ ، ثُم كان سليمانُ يَزُورُهَا في كلِّ شهرٍ مرَّةً بعد أن رَدَّهَا إلى مُلكِها ، ويقيمُ عندَها ثلاثةَ أيَّام ، وولدت لَهُ أولاداً في ما ذُكِرَ.
ورُويَ أنَّ رَجُلاً جاءَ إلى عبدِالله بن عُتْبَةَ وسألَهُ : هل تَزَوَّجَ سليمانُ بلقيسَ ؟ فقالَ : (عَهْدِي بهَا أنْ قَالَتْ : وَأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ) يَعنِي أنهُ لا يَعلَمُ ذلكَ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ } ؛ يعني بأنِ اعْبُدُوا اللهَ وحده ، فآمَنَ بهِ فريقٌ وكَفَرَ به فريقٌ ، فجعلَ الفريقان يختَصِمُونَ كما قالَ تعالى في سُورةِ الأعرافِ{ قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ }[الأعراف : 75]. وقولهُ تعالى : { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } ؛ أي فإذا هُم مُؤْمِنٌ وكافرٌ ، مُصَدِّقٌ ومُكَذِّبٌ ، يختصمُونَ في الدِّين ، كلُّ فريقٍ منهم يقولُ : الحقُّ معِي.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
وقولهُ تعالى : { قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } ؛ فيه ضميرٌ تقديرهُ : إنَّ المؤمنين أوْعَدُوا الكافرينَ على كُفرِهم وتَكذِيبهم ، فاستعجلَ الكافرون العذابَ ، فقال صالِحٌ عليه السلام للكافِرِين المكذِّبين : (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي بالعذاب قبلَ الرَّحمةِ ، ولا تستعجلونَ الثَّوابَ الموعود على الإيْمانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ } ؛ أي هَلاَّ تَستغفِرُونَ اللهَ عن كُفْرِكُمْ وتكذِيبكم ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ أي فلاَ تعذبون فِي الدُّنيا.
(0/0)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } ؛ أي تَشَاءَمْنَا بكَ وبمَن معكَ بما لَحِقَنَا من نُقصَانِ الزَّرعِ والثمار والمياهِ. والتَّطََيُّرُ : هو التَّشَاؤُمُ ، وأصلهُ : تَطَيَّرْنَا بكَ وَبمَنْ مَعَكَ ، وذلكَ أنه قحط المطرِ عنهم وجَاعُوا فقالوا : أصَابَنَا هذا البلاءُ والضرُّ من شُؤمِِكَ وشُؤْمِ أصحابكَ.
وإنَّما ذُكِرَ التطيُّرُ بلفظِ التَّشَائُمِ على عادةِ العَرَب في نِسْبَتِهِمُ الشُّؤْمَ إلى ما يَأْتِي من الطَّيرِ ناحيةَ اليَدِ الشِّؤمَى وهي اليُسْرَى ، ويُسَمُّونَ الطَّيرَ الذي يأتِي من ناحية اليد اليُسْرَى البَارحُ ، وأما الطَّيْرُ الذي يأتِي من ناحيةِ اليد اليُمْنَى فهو السَّانِحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } ؛ أي قال لَهم صالِحُ عليه السلام رَدّاً عليهم : { طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ } أي الشُّؤْمُ أتَاكُم من عندِ الله بكُفْرِكُمْ ، وهذا الذي أصَابَكم من الْجَدْب والخصب عندَ الله مكتوبٌ عليكم ، لاَزمٌ لاكم في أعنَاقِكم وليسَ ذلك إلَيَّ ولا علمهُ عندِي ، وهذا كقولهِ{ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ }[الأعراف : 131].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } ؛ أي تَخْسَرُونَ في الدُّنيا باختلافِ الأحوالِ من الخير والشرِّ. وَقِيْلَ : معناهُ : بل أنتُمْ قومٌ تُعَذبُونَ بذُنُوبكُمْ. وَقِيْلَ : تُمْتَحَنُونَ بإرسَالِي إليكُم لِتُثَابُوا على مُتابَعَتِي ، وتُعَاقَبُوا على مُخَالَفَتِي. وَقِيْلَ : بمعنى (تَفْتَنُونَ) أي تُعاقَبون كما في قولهِ تعالى : { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ }[الذاريات : 14] أي عُقوبَتَكُمْ.
(0/0)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ } ؛ معناهُ : كان في مدينةِ صَالِحٍ عليه السلام وهي الْحِجْرُ تسعةُ رَهْطٍ من الفُسَّاقِ من أبناءِ رُؤَسَائِهِمْ وهم غُوَاةِ قَومِ صَالِح يُفسِدُونَ في الأرضِ بالمعاصِي ولا يُصلِحُونَ ولا يُطِيعُونَ اللهَ ، ولا يَأْتَمِرُونَ بالصَّلاحِ ، وأسْمَاؤُهم قُدَارُ بن سَالِفُ ؛ ومُصدع ؛ وأسلم ؛ ودهم ؛ وذهيم ؛ وذعما ؛ ودغيم ؛ وقتَّال ؛ وضرَّاب.
(0/0)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } ؛ أي قَالُوا فيما بينَهم : احْلِفُوا باللهِ ؛ أي تَحَالَفُوا باللهِ لتَدْخُلُنَّ على صالحٍ وعلى أهلهِ الذين آمَنُوا معه لَيْلاً فنَقْتُلَهُمْ بَيَاتاً. قرأ يحيَى وحمزةُ والأعمش والكسائيُّ وخلف (لَتُبَيِّتَنَّهُ) بالتاءِ و(لَيَقُولَنَّ) بالياء وضمِّ التاء واللاَّمِ على الخطاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } ؛ فيما نقولُ ، وقرأ عاصمُ برواية أبي بكرٍ (مَهْلَكَ) بفتحِ الميم واللامِ ، والْمَهْلَكُ : يجوز أن يكونَ مصدراً بمعنى الإهْلاَكِ ، ويجوزُ أن يكون الموضعُ. ورَوَى حفصٌ عن عاصمٍ (مَهْلِكَ) بفتح الميم وكسرِ اللاَّم وهو اسمُ المكانِ على معنى : مَا شَهِدْنَا مَوْضِعَ هَلاكِهم.
قال الزجَّاجُ : (تَحَالَفَ هَؤُلاَءِ التِّسْعَةُ عَلَى أنْ يُبَيِّتُواْ صَالِحاً وَأهْلَهُ ، ثُمَّ يُنْكِرُواْ عِنْدَ أوْلِيَائِهِ ، وَكَانَ هَذا مُنْكَراً عَزَمُواْ عَلَيْهِ) ، كما قالَ تعالى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ أي دَبَّرُوا في أمرِ صالِح عليه السلام وأهلَهُ من حيث لَم يَشْعُرْ بهم صالح ولاَ أهلهُ ، { وَمَكَرْنَا مَكْراً } بما أرَدْنا فيهم.
(0/0)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } ؛ أي فانظُرْ يَا مُحَمَّدُ { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ } أي كيفَ كان آخرُ مَكْرِهم ، { أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ }.
قرأ الحسنُ وأهل مكَّة والأعمشُ (أنَّا دَمَّرْنَاهُمْ) بفتحِ الهمزةِ ولذلكَ وَجْهان في أحدِهما : أنْ تكون بدلاً في محلِّ الرفعِ تَبَعاً للعاقبةِ ، كأنَّهُ قال : العاقبةُ أنَّا دمَّرْنَاهُمْ. والثانِي : أنَّ موضِعَها نُصِبَ على خبرِ كَانَ ، تقديرهُ : كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ التَّدْمِيْرَ. وقرأ الباقونَ بالكسر على الابتداء وهو تفسيرُ ما كان قبلَهُ مثلَ قولهِ{ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً }[عبس : 24-25].
والتدميرُ : هو الإهلاكُ على وجهٍ عظيم قطيعٍ. واختلَفُوا في كيفيَّةِ هلاكِهم ، قال ابنُ عبَّاس : (أرْسَلَ اللهُ الْمَلاَئِكَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ إلَى دَار صَالِحٍ يَحْرُسُونَهَا ، وَجَاءَتِ التِّسْعَةُ إلَى دَار صَالِحٍ شَاهِرِيْنَ سُيُوفَهُمْ ، فَرَمَتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ بالْحِجَارَةِ مَنْ حَيْثُ كَانُواْ يَرَوْنَ الْحِجَارَةَ وَلاَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ فَقَتَلَتْهُمْ). وقال مجاهدُ : (نَزَلُواْ فِي سَفْحِ جَبَلٍ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً لِيَأْتُوا دَارَ صَالِحٍ ، فَخَتَمَ عَلَيْهِمْ الْجَبَلُ فَأَهْلَكَهُمْ وَأهْلَكَ اللهُ قَوْمَهُمْ أجْمَعِيْنَ بصَيْحَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام).
(0/0)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
قولهُ تعالى : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ } ؛ أي خاويةً عن الأهلِ والخير والنِّعمةِ بسبب ظُلمِهم لَم يبقَ فيها منهم دَيَّارٌ ، قرأ العامَّة (خَاويَةً) بالنصب على الحال ، والمعنى : فانْظُرْ إلَى بيوتِهم خاويةً بما ظَلَمُوا ؛ أي بظُلْمِهم وشِرْكِهم أهلَكْنَاهُم حتى جعلنَا بيوتَهم خاويةً ؛ أي منازلَهم ساقطةً على عُروشِها.
وَقِيْلَ : (خَاويَةً) نُصِبَ على القطعِ ، تقديرهُ : فتِلْكَ بُيوتُهم الخاويةَ ، فلما قُطِعَ منها الألفُ واللام نُصِبَ ، كقولهِ{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً }[النحل : 52]. وقرأ عيسَى بن عمر (خَاويَةٌ) بالرفعِ على الخبر.
قولهُ تعالى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؛ أي إنَّ في إهلاكِنا إيَّاهُم لَدَلاَلةٌ ظاهرةٌ وعِبرَةٌ لِمن عَلِمَ توحيدَ الله وقدرتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي أنْجَيْنَا الذينَ آمَنُوا بصالِحٍ من العذاب { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ؛ الشِّركَ والعقابَ.
(0/0)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } ؛ أي واذكُرْ لُوطاً إذ قال لقومهِ : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ } ؛ يعني اللِّوَاطَةَ ، سَمَّاها فاحشةً لعِظَمِ قُبْحِهَا ، { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } ؛ أي وأنتم تعلمونَ أنَّها فاحشةٌ. وَقِيْلَ : وأنتُمْ تُبصِرُونَ بعضَكم بعضاً وكانوا لا يَسْتَتِرُونَ.
(0/0)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ؛ أي تجهَلونَ العذابَ الموعودَ على هذه الفَاحِشَةِ ، وَقِيْلَ : تجهلونَ القيامةَ وعاقبةَ المعاصي.
(0/0)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ؛ أي عن أدْبَار الرِّجال يقولون استهزاءً بهم.
(0/0)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
وقولهُ تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ } ؛ أي قَدَّرْنَا عليها أن تكونَ مِنَ الغَابرِيْنَ ؛ أي من المتخلِّفين فتهلَكُ فيمَن هلكَ ، لا جُرمها مثلَ جُرمِهم لأنَّها كانت راضيةٌ بأفعَالِهم القبيحةِ فَجَرَتْ مجرَاهُم في العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } ؛ أي على مسافرِيهم ، أي حجارةً ؛ { فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ } ؛ فبئْسَ المطرَ مطرُ قومٍ أنذرَهم لوطٌ عليه السلام فلَمْ يؤمِنُوا.
(0/0)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } ؛ أي قِيْلَ لِلُوطٍ عليه السلام : قُلِ الْحَمْدُ للهِ على هلاكِ كُفَّار قَومِي. وَقِيْلَ : الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ : الحمدُ للهِ على هلاكِ كفَّار الأُمَمِ الخاليةِ. وَقِيْلَ : على جميعِ نِعَمِ اللهِ سُبحانَهُ.
وقولهُ تعالى : { وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } قال يعني الانبياءَ الذي اختارَهم اللهُ لرسالَتِهِ ، وقال ابنُ عبَّاس : (هُمْ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) ، وقال الكلبيُّ : (هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالَّذِيْنَ اصْطَفَاهُمْ اللهُ لِمَعْرِفَتِهِ وَطَاعَتِهِ) ، ومعنى السَّلاَمِ عليهم : أنَّهم سَلِمُوا مِمَّا عُذِّبَ به الكفارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ أي قُلْ لأهلِ مكَّةَ : أعِبَادَةُ اللهِ أفضلُ أم عبادةُ مَن تُشرِكُونَ به مَن دُونَهُ من الأصنامِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ، قَالَ : " اللهُ أبْقَى وَأجَلُّ وَأكْرَمُ مِمَّا تُشْرِكُونَ " قرأ عاصمُ وأهلُ البصرةِ (أمَّا يُشْرِكُونَ) بالياءِ ، وقرأ الباقون بالتَّاءِ.
(0/0)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ فيه إضمارٌ كأنه قالَ : آلِهَتُكم أم مَن الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرضِ بما فيها من العجائب والبدائعِ ، { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ } ؛ أي بساتينَ ، { ذَاتَ بَهْجَةٍ } ؛ أي مَنْظَرٌ حَسَنٌ وأنوارٌ ، والحديقةُ : هي الْبُسْتَانُ التي يُحَاطُ عليه بما فيه مِن النَّحْلِ والشَّجَرْ ، فإن لَم يكن عليه حائطٌ فليس بحديقةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } ؛ هذا نَفْيٌ ، يعني ما قَدِرْتُمْ عليهِ ، والمعنَى : ما ينبغي لكم ذلكَ ؛ لأنَّكُم لا تقدرونَ عليها ، ثُم قال اسْتِفْهَاماً مُنْكِراً عَلَيْهم : { أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ } ؛ أي هل معَهُ معبودٌ سِوَاهُ أَعَانَهُ على صُنعهِ في خَلْقِ هذه الأشجار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } ؛ يعني كُفَّارَ مكَّةَ قومٌ يَعْدِلُونَ الأصنامَ بخالِقِهم بجَهلِهم. وَقِيْلَ : (يَعْدِلُونَ) أي يُشرِكُونَ باللهِ غيرَهُ. وَقِيْلَ : يَمِيلُونَ عن الطريقِ وعن النَّظرِ في الدَّلائلِ المؤدِّية إلى العِلْمِ بوحدانيَّةِ اللهِ.
(0/0)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّن جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً } ؛ أي مستقرَّةً لا تَميلُ بأهلِها ، بل جعلَها مَسْكَناً يَسِيرُونَ فيها ويصرفون عليها ، فلا هي تضطربُ بهم ، ولا هي حَزْنَةٌ غليظةٌ مثلَ رُؤوسِ الجبالِ.
وقولهُ تعالى : { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } ؛ أي جَعَلَ وسَطَ الأرضِ أوديةً وعُيوناً من عَذْبٍ وَمَالِحٍ ، { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } ؛ أي جَعَلَ على الأرضِ جِبَالاً ثوابتَ وأوديةً أوتاداً لها ، { وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً } ؛ أي بين الْمِلْحِ والعَذْب مانِعاً بلُطفهِ وقدرتهِ فلا يختلطُ أحدُهما بالآخرِ ، ولا يبغِي أحدُهما على صاحبهِ ، وقولهُ تعالى : { أَإِلَـاهٌ مَّعَ الله } ؛ أي مع اللهِ إلهٌ فَعَلَ شيئاً من هذهِ الأشياء ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَْْ } ؛ توحيدَ ربهم وسلطانه وقدرتهِ.
وقولهُ تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } ؛ الْمُضْطَرُّ : الْمَكْرُوبُ الْمَجْهُودُ المدفوعُ إلى ضيقٍ من الأمُور من غَرَقٍ أو مرضٍ أو بلاء أو حبسٍ أو كَرْبٍ إذا دعاهُ ، { وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ؛ فيكشِفُ ضُرَّهُ ويفرجُ عنه فيبعدهُ مِن الغَرَقِ وينجيهِ ويَشفيهِ من المرضِ. ويعافيهِ من البلاء. وقال السديُّ : (الْمُضْطَرُّ الَّذِي لاَ حَوْلَ لَهُ وَلاَ قُوَّةَ) ، وقال ذُو النُّونِ : (هُوَ الَّّّذِي قَطَعَ الْعَلاَئِقَ عَمَّا دُونَ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأَرْضِ } ؛ أي يأتِي بقومٍ بعد قومٍ ، ويخلقُ قَرْناً بعد قَرْنِ ، وكلَّما أهْلَكَ قَرْناً أنشأَ آخَرِينَ ، فيكون كلٌّ خلفاءٌ لِمَنْ قبلَهم. وقولهُ تعالى : { أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ } ؛ أي إلَهٌ سِوَى اللهِ فَعَلَ ذلكَ ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ؛ أي قَلِيلاً ما تتَّعِظُونَ.
(0/0)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ معناهُ : أمَّنْ يُرشِدُكم إلى الطريقِ في ظَلمَاءِ اللَّيلِ في البَرِّ والبحرِ إذا سافرَ ، ثُم بما خَلَقَ لكم من القَمَرِ والنُّجُومِ والمسالكِ ، وهذا كقولهِ{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }[الأنعام : 97] ، ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ بالظُّلمَاتِ الشَّدَائِدُ ، { وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } ؛ أي قُدَّامَ المطرِ ، والنَّشْرُ : جمعُ نُشُورٍ ؛ وهي الرياحُ التي تأتِي بالسَّحاب ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ أي جَلَّ وَعَزَّ أن يكونَ له شريكٌ.
(0/0)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ } ؛ معناهُ : أمَّنْ يبدأ الخلقَ في الأرحامِ من النُّطفةِ ثُم يُمِيتُهُ ثُم يعيدهُ للبعثِ والنُّشور ، وقولهُ تعالى : { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ } ؛ أي يَرزُقُكم من السَّماءِ المطرَ ، ومِن الأرضِ النباتَ والزَّرعَ ، وقولهُ تعالى : { أَإِلَـاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ؛ أي حُجَّتَكُمْ فيما تدَّعونَهُ من إلهٍ سِواهُ ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي معَ اللهِ آلِهَةٌ أُخرَى تصنعُ شيئاً من هذهِ الأشياءِ.
(0/0)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ } يعني الملائكةَ ، (وَالأَرْضَ) يعني الناسَ ، لا يعلمُ أحدٌ منهم شيئاً من الغَيْب من وقتَ نُزولِ العذاب وقيامِ السَّاعةِ وغيرِ ذلك مما غابَ عن العبادِ ، ولا يعلمُ ذلك إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ ، { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ؛ أي ولا يدرونَ متى يُبعَثُونَ من القُبُور ، والأصلُ في (أيَّانَ) (أيَّ) و(إنْ) ضُمِّنَا وجُعلا أداةً واحدة ، قالت عائشةُ : (مَنْ زَعَمَ أنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ ، فَقَدْ أعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ }.
(0/0)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ } ؛ فيه قِراءَتان ، قرأ الحسنُ والأعمش وشَيبة ونافع وعاصمُ وحمزة والكسائي وخَلَفُ (بَلْ ادَّارَكَ) بكسرِ اللام وتشديد الدال ؛ أي تَدَارَكَ وتتابعَ عليهم في الآخرةِ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً }[الأعراف : 38] ، وقرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو ويعقوب ومجاهد (بَلْ أدْرَكَ) مِن الإدراكِ ؛ أي تَبعَ ولَحِقَ ، كما يقالُ : أدْرَكَهُ عِلْمِي ؛ أي بَلَغَهُ ولَحِقَهُ. قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ مَا جَهِلُوهُ فِي الدُّنْيَا ، وَسَقَطَ عِلْمُهُ عَنْهُمْ عَلِمُوهُ فِي الآخِرَةِ).
وقال السديُّ : (اجْتَمَعَ عِلْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَمْ يَشُكُّواْ وَلَمْ يَخْتَلِفُواْ). وقال مقاتلُ : (بَلْ عَلِمُواْ فِي الآخِرَةِ حِيْنَمَا عَايَنُوهَا مَا شَكُّواْ فِيْهِ وَعَمَواْ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا). { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } ؛ أي بل هُم اليومَ في الدُّنيا في شَكٍّ من السَّاعةِ ، { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } ؛ جمع عَمٍ ، وهو عَمِيُّ القلب ، وَقِيْلَ : معنى { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } مُتَحَيِّرُونَ بتَرْكِ التأمُّلِ ، يقال : رجلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ وعَمٍ ، إذا كان مُتَحَيِّراً ، وقومٌ عَمُونَ ؛ أي مُتَحَيِّرُونَ ، ويجوزُ أن يكونَ معنى (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي لَحِقَ علمُهم ذلكَ بما نُصِبَ لَهم من الأدلَّةِ ، بل هم في شكٍّ منها بتركِ التأمُّلِ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } معناهُ : وقال كفَّارُ مكَّةَ : إذا صِرْنَا تُراباً وآبَاؤُنَا أإنَّا لَمُخرَجُونَ من القُبُور أحياءً؟
(0/0)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
وقولهُ تعالى : { لَقَدْ وُعِدْنَا هَـاذَا } ؛ الذي تُخَوِّفُنَا به من البعثِ والنُّشور ، ووُعِدَ آباؤنَا من قبلُ ، فما وَجَدْنَا لذلكَ حقيقةً ، وما هذا الذي يعِدُنَا مُحَمَّدُ إلاّ أكاذيبَ الأوَّلين. وَقِيْلَ : معناهُ : لقد وُعِدْنَا هذا البعثَ ، { نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ } قبلِ مُحَمَّدٍ وليس ذلكَ بشيءٍ ، { إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي أحادِيثُهم وأكاذِيبُهم التي كذبُوها.
(0/0)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ : (سِيرُوا) ؛ أي سَافِرُوا وترَدَّدُوا في الأرضِ ، { فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } ؛ آخِرُ أمْرِ المكذِّبين بالرُّسُلِ أهلَكَهم اللهُ بأنواعِ العقوبات.
(0/0)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ أي لا تَحْزَنْ على تكذِيبهم إيَّاكَ ولا إهلاكِهم إن لَم يُؤمِنُوا ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان حَرِيْصاً على إيْمَانِهم ونَجاتِهم ، { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ؛ أي لاَ يَضِيْقُ صدرُكَ يا مُحَمَّدُ بما يَمكُرونَهُ ، وسيُظهِرُكَ اللهُ عليهم ، نزلَتْ هذه الآيةُ في المستَهزِئين الذينَ اقتسموا أعقاب مكة ، وقد مَضَتْ قصَّتُهم.
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي يقولُونَ على وجهِ التَّكذيب : { مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ } الذي يعِدُنا به في الدُّنيا والآخرةِ { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في أنهُ يكون.
(0/0)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } أي قل يا مُحَمَّدُ : { عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } أي دَنَا لكم ورَكِبَكُم بعضُ ما تستعجلونَ به من العذاب ، لا يجوزُ أن تكونَ (عَسَى) في هذا الموضعِ بمعنى الشَّكِّ ، إنَّما هو بمعنى الإيجاب على وجه التَّخويفِ ، قال ابنُ عبَّاس : (رَدِفَ لَكُمْ ؛ أيْ قَرُبَ لَكُمْ) وَقِيْلَ : حَضُرَ لَكُمْ.
والمعنى : أنَّ الله تعالى أمَرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ للذين يَسْتَعْجِلُونَ بالعذاب : قد دَنَا لكم بعضُ ما تستعجِلُون ، فكان بعضُ الذي دَنَا لهم القتلُ ببَدْرٍ ، والقَحْطُ الذي سُلِّطَ عليهم عُقَيْبَ هذه الآيةِ حتى أكَلُوا الْجِيَفَ ، والمعنى في { رَدِفَ لَكُم } أي رَدِفَكُمْ ، فأدخلَ اللاَّمَ فيه كما أدخَلَها في قولهِ تعالى : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }[الأعراف : 154] و{ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ }[يوسف : 43] ، قال الفرَّاء : (اللاَّمُ صِلَةٌ زَائِدَةٌ ، كَمَا يَقُولُونَ نَقَدْتُهُ ونَقَدْتُ لَهُ).
(0/0)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } ؛ قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : لَذُو فَضْلٍ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ حَتَّى لاَ يُعْجِلَهُمْ بالْعَذاب) { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } ؛ وَقِيْلَ : لَذُو فضلٍ عليهم بإمهالِهم والإنعامِ عليهم ، ولكنَّهم لا يشكُرونَ فَضْلَهُ عليهم ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } ؛ أي ما تُخفِي صدورُهم من البُغْضِ والعداوةِ ، { وَمَا يُعْلِنُونَ } ؛ بألسِنَتِهم من الكُفْرِ والتكذيب وعدائِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيُجازيهم على ذلكَ.
(0/0)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِي السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ؛ أي وما مِن جُملةٍ غائبة خافيةٍ على أهْلِ السَّماء والأرضِ ، إلاّ وهو مكتوبٌ في اللَّوحِ المَحفُوظِ بيَّنَ فيهِ.
(0/0)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قولَهُ تعالى : { إِنَّ هَـاذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي بَيَّنَ لِبَنِي إسرائيلَ ، { أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ كاختلافِ اليهود والنَّصارَى في المسيحِ وفِي غيرهِ من الأنبياءِ ، وكاختلافِهم في صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والْمُبَشَّرِ به في التَّوراةِ ، وقولهُ تعالى : { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } ؛ أي وإنَّ القُرْآنَ لَهُدًى من الضَّلالةِ ورحمةٌ من العذاب لِمن آمَنَ بهِ.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
وقولهُ تعالى : { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ } ؛ أي يقضِي بين المؤمنين والكافرينَ يومَ القيامةِ بحكمةٍ ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ } ؛ أي الْعَزِيْزُ بالانتقامِ من الكُفَّار ، الْعَلِيْمُ بهم وبعقوبَتِهم ، ولا يُمكِنُ رَدُّ قضائهِ.
(0/0)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
وقولهُ تعالى : { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ثِقْ باللهِ يا مُحَمَّدُ ، وفَوِّضْ أمْرَكَ إليهِ ، { إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ } ؛ أي على طريقِ الإسلامِ ، وهذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقولهُ تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ؛ هذا مَثَلٌ للكفَّار ، شَبَّهَ اللهُ كفَّارَ مكَّةَ بالأمواتِ ، تقولُ كما لا يَسْمَعُ الميِّتُ النداءَ ، كذلك لا يسمعُ الكافرُ النداءَ ، { وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ؛ قال قتادةُ : (إنَّ الأَصَمَّ لَوْ وَلَّى مُدْبراً وَنَادَيْتَهُ لَمْ يَسْمَعْ ، كَذلِكَ الْكَافِرُ لاَ يَسْمَعُ مَا يُدْعَى إلَيْهِ مِنَ الإيْمَانِ) " والمعنى : أنهم لفرطِ " إعراضُهم عن ما يُدْعَوْنَ إليه من التوحيدِ كالْمَيِّتِ الذي لا سبيلَ إلى إسْماعهِ ، وكالأصَمِّ الذي لا يسمعُ.
(0/0)
وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ } ؛ أي وما أنتَ بمُرشِدٍ من أعماهُ الله عن الْهُدَى وأعْمَى عن قلبهِ الإيْمانَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : كما لا يُمكِنُ إرشادُ الأعمَى إلى قصدِ الطَّريق بالأمَاراتِ الدالَّةِ على الطريقِ ، كذلك لا يُمكِنُ هدايةُ القومِ الذين عُمِيَتْ بصائرُهم عن آياتِ الله ، وليس على الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ إلاَّ الدعاءَ إلى اللهِ تعالى.
وقرأ حمزةُ والأعمش : (وَمَا أنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ) بالتَّاء ونصب الياء على الفعلِ ها هنا وفي الرُّومِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } ؛ ما سَمِعَ سَماع إفهامٍ إلاّ مَن يؤمنُ بآياتِنا ويطلبُ الحقَّ بالنظرِ في القُرْآنِ. وقال مقاتلُ : (إلاَّ مَنْ يُصَدِّقُ بالْقُرْآنِ أنَّهُ مِنَ اللهِ) { فَهُم مُّسْلِمُونَ } ؛ أي مُخلِصُونَ بتوحيدِ الله ، والمعنَى ما سَمِعَ دعوتَكَ سَماعَ القَبُولِ إلاّ مَن يطلبُ الحقَّ بالنظرِ في آياتِ الله ، فلا بدَّ أن يُسْلِمَ في ظهور الدَّلائِلِ.
(0/0)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } ؛ معناهُ : وإذا وجبَ القولُ عليهم بالسُّخْطِ والعذاب عند قُرْب السَّاعة { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ } ، فقال قتادةُ : (إذا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَأوْجَبَ أنْ يُنْزِلَ بهِمْ مَا قَالَ اللهُ وَحَكَمَ بهِ مِنْ عَذَابهِ وَسُخْطِهِ عَلَيْهِمْ) أي على الكُفَّار الذين تخرجُ عليهم الدَّابةُ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ } وذلك حين لا يُؤمَرُ بمعروفٍ ولا ينهَى عن منكرِ. قال مُخَلَّدُ بنُ الحسينِ : (لاَ تَخْرُجُ الدَّابَّةُ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ يُرِيْدُ أنْ يُؤْمِنَ). قالوا : وتخرجُ الدَّابة من صَدْعٍ في الصَّفَا.
ورُوي أنه تخرجُ بين الصَّفَا والْمَرْوَةِ ، ولا تُخْرِجُ إلاّ رأسَها وعنُقَها ، فيبلغُ رأسُها السحابَ فيراها أهلُ المشرقِ والمغرب فيَسْمَعُونَ كلامَها باللِّسانِ ، فتقولُ لَهم : أيُّها الكُفَّارُ مصيرُكم إلى النار ، ثُم تُقبلُ على المؤمنينَ فتقولُ : أيُّها المؤمنونَ مصيرُكم إلى الجنَّةِ ، فتُمَيِّزُ عند ذلك أهلَ الجنَّة مِن أهلِ النار.
ويجوزُ أن يكون قولهُ { تُكَلِّمُهُمْ } مِن الكَلْمِ وهو الْجَرَاحَةُ ، كما رُوي في قراءةِ ابنِ عبَّاس (تَكْلِمُهُمْ) بنصب التاء وكسرِ اللام ؛ أي تَسِمُهُمْ ، تكتبُ على وجهِ الكافرِ : إنَّهُ كَافِرٌ ، وعلى جَبينِِ المؤمن : إنَّهُ مُؤْمِنٌ.
قال أبُو هريرةَ : (إنَّهَا تَخْرُجُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ) ، وعن ابنِ عَمرو بن العاص أنه قالَ : (تَكْتُبُ عَلَى وَجْهِ الْكَافِرِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ ، فَتَعْثُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَجْهُهُ ، وَتَكْتُبُ عَلَى وَجْهِ الْمُؤْمِنِ نُكْتَةً بَيْضَاءَ ، فَتَعْثُوا فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَجْهُهُ ، فَتَعْرِفُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ عِنْدَ ذلِكَ). وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه أنهُ قال : (إذا تَرَكَ النَّاسُ الأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِِ الْمُنْكَرِ كَانَ ذلِكَ الْوَقْتُ وَقْتُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ وَخُرُوجِ الدَّابَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّ النَّاسَ } ؛ قرأ أهلُ الكوفةِ ويعقوب (أنَّ النَّاسَ) بفتحِ الألفِ على وجه الحكايةِ من قولِ الدَّابة وعلى معنى : أخْرَجْنَا الدَّابَّةَ بأنَّ الناسَ { كَانُوا بِآيَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ } ؛ وقرأ الباقونَ بالكسرِ على الابتداء.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " " بئْسَ الشِّعْبُ جِيَاد - مرَّتَين أو ثَلاثاً - " قَالُوا : وَلِمَ ذلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " تَخْرُجُ مِنْهُ الدَّابَّةُ ، فَتَصْرُخُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ يَسْمَعُهَا مِنْ بَيْنِ الْخَافِقَيْنِ " ".
وقال بعضُهم : كنتُ مع ابنِ عبَّاس بمكَّة ، فبينما هو على الصَّفا إذْ قَرَعَ الصَّفا بعصاةٍ وهو مُحْرِمٌ وهو يقولُ : إنَّ الدابةَ تسمعُ قَرْعَ عَصَايَ هذهِ ، قال ابنُ عبَّاس : (هِيَ دَابَّةٌ ذاتُ زَغَبٍ وَريشٍ ، ولَهَا أرْبَعَةُ قَوَائِمَ).
وعن أبي هريرةَ قَالَ : [تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا عَصَا مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ ، فَيَجْلُوا وَجْهُ الْمُؤْمِنِ بالْعَصَا ، وَتَحْطِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بالْخَاتَمِ] والْمَحَاطِمُ هي الأُنُوفُ ، واحِدُها مُحْطِمٌ بكسرِ الطَّاء ، وعن حذيفةَ قالَ : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :
(0/0)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا } ؛ الْفَوْجُ : الْجَمَاعَةُ من الناسِ كالزُّمْرَةِ والجماعةِ ، وإنَّما يُحْشَرُ الرؤساءُ والمتبوعِين ، والمعنى : يومَ يُجْمَعُ مِن كلِّ أُمَّةٍ جماعةٌ مِن المكذِّبين بالرسولِ ، وقولهُ تعالى : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } ؛ أي يُحبَسون ، يتَلاحَقُونَ فيُسَاقُونَ إلى الموقفِ لإقامةِ الحجَّة عليهم : وَقِيْلَ : يحشَرُ أوَّلُهم على آخرِهم ليجتَمِعُوا ثُم يُساقُوا إلى النار ، وقال ابنُ عبَّاس : (يُوزَعُونَ أيْ يُدْفَعُونَ).
(0/0)
حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } ؛ أي حتَّى إذا جَاءُوا إلى موقفِ الحساب ، قال اللهُ لَهم : { أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي } استفهامٌ بمعنى الإنكار عليهم ، والوعيدِ لَهم ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أكَذبْتُمْ أنْبيَائِي وَجَحَدْتُمْ فَرَائِضِي وَحُدُودِي) وَلَمْ تُحِيْطُوا بهَا عِلْماً ؛ أي ولَم تُخبَرُوا حتى تَفْقَهُوا وتسمَعُوا. وَقِيْلَ : معناهُ : { وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً } أنَّها باطلٌ. والمعنى : أكَذبَّتْمُ بآيَاتِي غيرَ عالِمين بها ولَم تتفكَّرُوا في صِحَّتها ، بل كذبتم بها جَهْلاً بغيرِ عِلْمٍ. وقولهُ تعالى : { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ حين لَم تبحَثُوا عنها ، ولَم تَتَفَكَّرُواْ فيها ، وهذا توبيخٌ لَهم وإنْ كان بلفظِ السُّؤال.
(0/0)
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ } ؛ أي وَجَبَ العذابُ عليهم بما أشركُوا ، { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } ؛ بحُجَّةٍ عن أنفُسِهم ، بل يُخْتَمُ على أفواهِهم. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ }[المرسلات : 35-36].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الْلَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } ؛ أي مُضِيئاً لطلب المعاشِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي أنَّ فيما ذكَرْنَا من اختلافِ اللَّيلِ والنَّهار لدلاَلاتٍ للمؤمنينَ والكافرين ، ولكنه خَصَّ المؤمنينَ لأنَّهم همُ الذين ينتفعونَ بالذِّكْرِ.
(0/0)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي النَّفْخَةَ الأُوْلَى ؛ وَهِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ) { فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ } ؛ أي مَاتُوا من شدَّةِ الخوفِ كقولهِ تعالى{ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ }[الزمر : 68] ، والمعنى : بَلَغَ منهم الفزعُ إلى أنْ يَمُوتُوا.
وقولهُ : { إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ الشُّهَدَاءَ وَهُمْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبهِمْ يُرْزَقُونَ) ، وقال الكلبيُّ ومقاتل : (يَعْنِي جِبْرِيْلَ وَمِيْكَائِيْلَ وَإسْرَافِيْلَ وَمَلَكَ الْمَوْتِ). وقولهُ تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } ؛ أي كلُّ الخلائقِ يَأْتُونَ إلى موضعِ الْجَزَاءِ أذلاَّء صَاغِرِيْنَ.
وأمَّا النفخةُ الثانية فتسَمَّى نفخةُ البَعْثِ ، وبينَهما أربعون سَنة. ويقالُ : ينفخُ في الصُّور ثلاثَ نفخاتٍ ؛ الأُولَى : نفخةُ الفَزَعِ ، والثانية : نفخةُ الصَّعْقِ وهو الموتُ ، والثالثةُ : نفخةُ الْقِيَامِ لرَب العالَمِين.
وعن عبدِالله بنِ عمرَ قال : " جَاءَ أعْرَابيٌّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَهُ عَنِ الصُّور ، فَقَالَ : " هُوَ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيْهِ " وقالَ مجاهدُ : (هُوَ كَهَيْئَةِ الْبُوقِ).
وعن أبي هريرةَ قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " " لَمَّا فَرَغَ اللهُ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، خَلَقَ الصُّورَ ، فَأَعْطَاهُ إسْرَافِيْلَ ، فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيْهِ شَاخِصٌ يُبْصِرُ نَحْوَ الْعَرْشِ ، يَنْظُرُ مَتَى يُؤْمَرُ " قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ! وَمَا الصُّورُ ؟ قَالَ : " هُوَ قَرْنٌ " قُلْتُ : كَيْفَ هُوَ ؟ قَالَ : " عَظِيْمٌ ، وَالَّّذِي بَعَثَنِي بالْحَقِّ إنَّ عِظََمَ دَائِرَةٍ فِيهِ كَعِظَمِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. فَيَنْفُخُ ثَلاَثَ نَفْخَاتٍ ؛ النَّفْخَةُ الأُوُلَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ ، وَالنَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ نَفْخَةُ الصَّعْقِ ، وَالنَّفْخَةُ الثَّالِثَةُ نَفْخَةُ الْقِيَامِ لِرَب الْعَالَمِيْنَ.
فَيَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيْلَ بالنَّفْخَةِ الأُوُلَى ، فَيَقُولُ لَهُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الْفَزَعِ ، فَيَفْزَعُ مِنْهَا أهْلُ السَّمَواتِ وَأهْلُ الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ وَيَأْمُرُهُ أنْ يَمُدَّهَا وَيُطِيْلَهَا وَهُوَ الَّذِي يَقُولُ اللهُ { وَمَا يَنظُرُ هَـاؤُلآءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } ، وَيُسَيِّرُ اللهُ الْجِبَالَ فَتَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب فَتَكُونُ سَرَاباً ، وَتُرَجُّ الأَرْضَُ بأَهْلِهَا رَجّاً ، فَتَكُونُ كَالسَّفِيْنَةِ الْمُوثَقَةِ فِي الْبَحْرِ ، تَضْرِبُهَا الأَمْوَاجُ وَتُلْقِيْهَا الرِّيَاحُ ، وَكَالْقِنْدِيْلِ الْمُعَلَّقِ تَرُجُّهُ الرِّيَاحُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } فَتَمِيْدُ الأَرْضُ بالنَّاسِ عَلَى ظَهْرِهَا ، فَتَذْهَلُ الْمَرَاضِعُ ؛ وَتَضَعُ الْحَوَامِلُ ؛ وَيَشِيْبُ الأَطْفَالُ ، وَتِطِيْرُ الشَّيَاطِيْنُ هَاربَةً مِنَ الْفَزَعِ ، حَتَّى تَأْتِي الأَقْطَارَ فَتَلْقَاهَا الْمَلاَئِكَةُ فَتَضْرِبُ وَجُوهَهَا فَتَرْجِعُ ، وَتُوَلِّي النَّاسُ مُدْبرِيْنَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضاً وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى { يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ }. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ ؛ إذْ تصَدَّعَتِ الأَرْضُ ، وَتَصِيْرُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ، وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَنْشُرُ نُجُومَهَا وَتَكْسِفُ شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا. ثُمَّ يَأْمُرُ اللهُ إسْرَافِيْلَ أنْ يَنْفُخَ نَفْخَةَ الصَّعْقِ ، فَيُصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ " ".
وَقَوْلُهُ تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } ، قرأ الأعمشُ وحمزة وخلَف (أتَوْهُ) مقصُوراً على الفعل بمعنى جَاءوهُ. وقرأ الباقونَ بالمدِّ وضَمِّ التاء ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { دَاخِرِينَ } أيْ صَاغِرِيْنَ.
(0/0)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
قَوْلُُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } ؛ أي تحسَبُها يا مُحَمَّدُ واقفةً مستقرَّةً فكأنَّها وتظنُّها ساكنةً لا تتحركُ في رَأيِ العينِ ، وهي تسيرُ في الْهَواءِ سَيراً سَريعاً ، وترَى السفينةَ تحسبَهُا واقفةً وهي سائرةٌ ، وقولهُ تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } تسيرُ سَير السَّحاب حتى تَقَعَ على الأرضِ فتستوي بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } ؛ نُصِبَ على المصدر ؛ كأنه قالَ : صَنَعَ اللهُ ذلكَ صُنْعاً على الإتقانِ والإحْكَامِ. وَقِيْلَ : على الإغْرَاءِ ؛ أي أبْصِرُوا صُنْعَ اللهِ الَّذِي أتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ؛ أي أحْكَمَ وَأبْرَمَ ما خَلَقَ. ومعنى الإتْقَانِ في اللُّغة : الإحْكَامُ للأَشْيَاءِ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } ؛ قرأ نافعُ وابن عامر والكوفيُّون بالتاءِ ، والباقونَ بالياء ، والمعنى : إنَّهُ خَبيْرٌ بمَا يفعلهُ أعداؤهُ من المعصيةِ والكُفْرِ ، وبما يفعلهُ أولياؤه من الطاعَةِ.
(0/0)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } ؛ معناهُ : مَن وَافَى عرصاتِ القيامةِ بالحسَناتِ ، فلهُ ثوابٌ آجَرُ وأنْفَعُ منها. وَقِيْلَ : معناهُ مَن جاء بالإيْمانِ. قال أبو معشَرٍ : (كَانَ إبْرَاهِيْمُ يَحْلِفُ مَا يَنْثَنِي : أنَّ الْحَسَنَةَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ). وقتادةُ : (الْحَسَنَةُ هِيَ الإخْلاَصُ). وَالمعنى : مَن جَاءَ بكلمةِ الإخلاصِ بشَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يومَ القيامةِ ؛ أي مَن وافَى يومَ القيامة بالإيْمَانِ فله خيرٌ منها. قال ابنُ عبَّاس : (فَمِنْهَا يَصِلُ الْخَيْرُ إلَيْهِ) أي لهُ مِن العذاب. و(خَيْرٌ) ها هنا اسمٌ مِن غير تفضيلٍ ؛ لأنه ليسَ خيرٌ مِن لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، ولكنَّهُ منها خيرٌ.
وقال بعضُهم : دخلتُ على علِيِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه فقالَ لِي : (ألاَ أنَبؤُكَ بالْحَسَنَةِ الَّّتِي مَنْ جَاءَ بهَا أدْخَلَهُ اللهُ الْجَنَّةَ ، وَالسَّيِّئَةِ الَّتِي مَنْ جَاءَ بهَا أدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلاً؟) قلتُ : بَلَى ، قالَ : (الْحَسَنَةُ حُبُّنَا ، وَالسَّيِّئَةُ بُغْضُنَا). ومعنى { خَيْرٌ مِّنْهَا } : رضوانُ اللهِ. وَقِيْلَ : الأضعَافُ بعطيَّةِ اللهِ بالواحدة عَشْراً فصاعِداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } ؛ قرأ أهلُ الكوفة (فَزَعٍ) منوناً بنصب الميمِ ، وقرأ الباقونَ بالإضافةِ ، واختارَهُ أبو عُبيدٍ لأنه أعَمُّ ويكون شَامِلاً لجميعِ فَزَعِ ذلك اليومِ ، وإذا كان منَوَّناً كان الفزعُ دونَ فزعٍ.
وقال أبو علِيِّ الفارسي : (إذا نُوِّنَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الْفَزَعُ وَاحِداً ، وَيَجُوزُ أنْ يَعْنِي بهِ الْكَثْرَةَ لأنَّهُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصَادِرُ تَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإنْ كَانَتْ مُفْرَدَةَ الأَلْفَاظِ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَإِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ }[لقمان : 19]). قال الكلبيُّ : (إذا أطْبَقَتِ النَّارُ عَلَى أهْلِهَا فَزِعُواْ فَزْعَةً لَمْ يُفْزَعُواْ مِثْلَهَا أبَداً ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ آمِنُونَ مِنْ ذلِكَ الْفَزَعِ).
(0/0)
وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } ؛ أي من وَافَى بالشِّرْكِ والكبائرِ { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ } أي أُلْقُوا على وجوهِهم في النار ، ويقولُ لَهم خَزَنَةُ جهنَّمَ : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا مِن الشِّرك.
(0/0)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للمشركينَ : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ } يعني مكَّة { الَّذِي حَرَّمَهَا } أي الذي حَرَّمَ فيها ما أحلَّ في غيرِها من الاصطيادِ ؛ والاختلاءِ ؛ والقَتْلِ ؛ والسَّبيِ ؛ والظُّلم ، وأن لا يهاج فيها أحدٌ حتى يخرجَ منها ، فلا يصادُ صيدُها ولا يختَلَى خِلاَلَها.
وَقِيْلَ : معنى { حَرَّمَهَا } أي عظَّم حُرمَتها ، فجعلَ لَها من الأمنِ ما لَم يجعل لغيرِها. وقولهُ تعالى : { وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } ؛ لأنه خَالِقُهُ ومَالِكُهُ. وقرأ ابنُ عبَّاس (الَّتِي حَرَّمَهَا) أشارَ إلى البلدةِ.
وقولهُ تعالى : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ؛ أي وأُمِرْتُ أنْ أكونَ مِن المسلمينَ الْمُخْلِصِيْنَ للهِ بالتَّوحيدِ ، { وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ } ؛ عليكُم يا أهلَ مكَّة ، يريدُ تلاوةَ الدَّعوةِ إلى الإيْمانِ. وفي الآية تعظيمٌ لأمرِ الإسلامِ وتِلاَوَةِ القُرْآنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } ؛ أي مَن اهتَدَى فإنَّما منفعةُ اهتدائهِ راجعةٌ إلى نفسهِ ، { وَمَن ضَلَّ } ؛ أي ضلَّ عن الإيْمانِ والقُرْآنِ وأخطأَ طريقَ الْهُدَى ، { فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ } ؛ أي مِن الْمُخَوِّفِيْنَ ، فليس عَلَيَّ إلاّ البلاغُ ، فإنِّي لَم أوْمَرْ بالإجْبَارِ على الْهُدَى ، وليسَ عَلَيَّ إلاّ الإنذارُ ، وكان هذا قَبْلَ الأمرِ بالقتالِ.
(0/0)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ } ؛ أي قُلِ الْحَمْدُ للهِ على نِعَمِهِ ، { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ؛ يعني العذابَ في الدُّنيا ، والقَتْلَ ببَدْرٍ ، { فَتَعْرِفُونَهَا } ؛ حين تُشاهِدُونَها ، ثُم أرَاهُم ذلكَ ، وضَرَبَتِ الملائكةُ وجوهَهم وأدبارَهم وعجَّلَهم الله إلى النار ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ من الْمُنْكَرِ والكُفْرِ والفسادِ ، وهذا وعيدٌ لَهم بالجزاءِ على أعمالِهم.
وعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّمْلِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ مَنْ كَذبَ وَصَدَّقَ بمُوسَى وَهُودٍ وَشُعَيْبٍ وَصَالِحٍ وَلُوطٍ وَإبْرَاهِيْمَ وَاسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمُُ السَّلاَمُ ، وَخَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ وَهُوَ يُنَادِي : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ".
(0/0)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3)
{ طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ } ؛ أي نقرأُ عليكَ خَبَرَ موسَى وفِرعَوْنَ بالصِّدقِ بينَهما ، { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي تَجَبَّرَ وتَكَبَّرَ في أرضِ مِصْرَ { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } ؛ أي فِرَقاً وأصْنَافاً في الخدمةِ والتَّسخيرِ ؛ يُكْرِمُ قَوماً وَيُذِلُّ آخَرِين. وقولهُ تعالى : { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } ؛ يعني بنِي إسرائيلَ ، ثُم فَسَّرَ ذلكَ فقال : { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } ؛ يقتلُ الأبناءَ ويتركُ البناتِ فلا يقتُلُهنَّ. وَقِيْلَ : معناهُ : يذبحُ أبناءَهم صغاراً ويُبقِي نساءَهم للخِدْمَةِ.
وسببُ ذلك : أنَّ بعضَ الكَهَنَةِ قالوا له : إنَّ مولُوداً يولَدُ في بني إسرائيلَ يكون سَبباً لذهاب مُلْكِكَ. قال الزجَّاج : (وَالْعَجَبُ مِنْ حُمْقِ فِرْعَوْنَ إنْ كَانَ ذلِكَ الكَاهِنُ عِنْدَهُ صَادِقاً فَمَا يَنْفَعُ القتلُ؟! وَإنْ كَانَ كَاذِباً فَمَا مَعْنَى الْقَتْلِ؟). وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } ؛ يعني بالقَتْلِ والعملِ بالمعاصي.
(0/0)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي نريدُ أن نُنْعِمَ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وهم بنو إسرائيلَ ، { وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً } ؛ يُقتَدَى بهم في الخيرِ. قال قتادةُ : (وُلاَةً وَمُلُوكاً) ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً }[المائدة : 20] { وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } ؛ لِمُلكِ فرعونَ ، ولِمساكنِ قومه ، يَرِثُونَ ديارَهم وأموالَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي يُمَكِّنُهم ما كانَ يَملكُ فرعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } ؛ أي ما كانوا يَخافُونَهُ من هذا المولودِ الذي به يذهبُ مُلْكُهم على يدَيهِ ، وذلك أنَّهم أُخبرُوا أنَّ هلاكَهم على يدَي رَجُلٍ من بني إسرائيلَ ، فكانوا على وَجَلٍ منهم فأرَاهُم اللهُ تعالى { مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } أي ما كانوا يَخَافُونَ من جهَتِهم من ذهاب مُلكِهم على أيديهم.
وقرأ الأعمشُ وحمزةُ والكسائيُّ وخلف : (وَيُرِي فِرْعَوْنُ) بالياء وما بعدَهُ رفعاً على أنَّ الفعل لَهم ، وقرأ الباقونَ بالنُّون مضمومة وما بعده نصبَ بوقوعِ الفعلِ عليهم.
(0/0)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } ؛ لَم يُرِدْ بالوحي وحيَ الرِّسالة ، وإنَّما أراد الإلْهَامَ كما في قولهِ تعالى{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ }[النحل : 68]. ويقالُ : أرَاهَا اللهُ في المنامِ فعرفته بتفسير الرُّؤيا. وقال بعضُهم : أتاها ملائكةٌ خاطَبُوها بهذا الكلامِ. واسمُ أُمِّ موسى نُوخَابدُ بنتُ لاَوي بنِ يعقوبَ.
قال وهبُ بن منبه : (لَمَّا حملَتْ أُمُّ موسَى بموسَى كتَمَتْ أمرَها عن جميعِ النَّاسِ فلم يطَّلِعْ على حَملِها أحدٌ مِن خلقِ الله تعالى ، فلما كانت السَّنةُ التي ولِدَ فيها موسَى بَعَثَ فرعون القوابلَ يُفَتِّشْنَ النساء ، وحَمَلتْ أمُّ موسى ولَم يَنْتَأْ بطنُها ، ولَم يتغيَّر لونُها ، ولَم يظهر لبَنُها ، وكانت القوابلُ لا تتعرضُ لَها ، فلما كانت الليلةُ التي وُلِدَ فيها ولدَتْهُ أُمُّهُ ولا رقيبَ عليها ولا قابلةَ ، لَم يَطَّلِعْ عليه أحدٌ إلاّ أختهُ).
ثُم أوحَى اللهُ إليها : أنْ أرْضِعِيْهِ ، { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ } ؛ قال : فكتمَتْهُ ثلاثةَ أشهُرٍ ترضعهُ في حِجرِها لا يبكِي ولا يتحرك ، فلما خافَتْ عليه عمِلَتْ له تَابُوتاً مطبقاً ومهدت له فيه ، ثم ألقتْهُ في البحرِ ليلاً كما أمرَها اللهُ ، فلما أصبحَ فرعونُ جلسَ في مجلسهِ على شاطئِ النِّيلِ ، فبَصُرَ بالتابوتِ ، فقالَ لِمن حولَهُ : ائْتُونِي بهذا التابوتِ ، فأتُوا به ، فلما وُضِعَ بين يديه فتحوهُ ، فوجدوا فيه موسَى ، فلما نَظَرَ إليه فرعونُ إغتاظَ وقالَ : كيف أخطأَ هذا الغلامَ الذبحُ؟!
وكان لفرعونَ امرأةٌ يقال لَها آسيَةُ مِن خِيَار النِّساءِ من بنات الأنبياءِ ، وكانت أُمّاً للمسلمينَ ترحَمُهم وتتصدَّقُ عليهم ، فقالت لفرعونَ وهي قاعدةٌ إلى جَنبهِ : هذا الولدُ أكبرُ من ولد سنةٍ وأنتَ إنَّما أمَرتَ أن تذبحَ الولْدَانَ بهذه السَّنةِ ، فدَعْهُ يكون قُرَّةَ عَيْنٍ لِي ولكَ ، لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا أوْ نَتَّخِذهُ وَلَداً ، فقال فرعونُ لَها : عسَى أن ينفعَكِ ، فأما أنَا فلا أريدُ نفعَهُ.
قال وهبُ : (لو قالَ فرعون كما قالَتِ امرأتهُ : عَسَى أنْ يَنْفَعَنَا ؛ لنفعَهُ اللهُ به ، ولكنه أبَى أن يقولَ للشَّقاءِ الذي كتبَهُ الله عليهِ ، فتركَهُ فرعونُ ولَمْ يَقتُلْهُ)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ أَرْضِعِيهِ } أي أرْضِعِيهِ ما لَم تَخَافِي عليه الطلبَ ، فإذا خِفْتِ عليه الطلبَ { فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ } أي في البحرِ ، فقالت : يَا رَب ، إنِّي أخافُ عليه حِيتَانَ البحرِ ، فَأُمِرَتْ أنْ تجعلَهُ في تابوتٍ مُقَيَّرٍ ، فذهبت إلى النَّجَّارِ ، فَأَمرَتْهُ أن يصنعَ لَها تابوتاً على قدرهِ ، فعرفَ ذلك فذهبَ إلى الْمُوَكَّلِيْنَ بذبحِ بني إسرائيل لِيُخبرَهم بذلك ، فلما انتهَى إليهم أُعْقِلُ لسانهُ فلم يُطِقِ الكلامَ ، فجعلَ يشيرُ بيدهِ فلم يفهَمُوا ، فقال كبيرُهم : اضْرِبُوهُ ؛ فضربوهُ وأخرَجوهُ ، فلما انتهَى النجَّارُ إلى موضعهِ رَدَّ اللهُ عليه لسانَهُ ، فرجعَ إليهم ليخبرَهم فاعتقَلَ لسانهُ ، فجعلَ يشيرُ إليهم بيدهِ ، فلم يَفْهَمُوهُ فضربوهُ ، ففعلَ ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ ، فعرفَ أنه من عندِ الله تعالى ، فَخَرَّ للهِ ساجداً وأسلَمَ ، ثُم صَنَعَ التابوتَ وسَلَّمَهُ إلى أُمِّ موسى فوضعتْهُ فيه وألْقَتْهُ في النِّيلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي } ؛ أي لاَ تَخافِي من الغرقِ والْهَلاَكِ ، ولا تَحزَنِي لفراقهِ ، { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } ؛ إلى فرعونَ وقومهِ.
(0/0)
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا ألْقَتْهُ أُمُّهُ فِي الْبَحْرِ أقْبَلَ تَهْوِي بهِ الأَمْوَاجُ حَتَّى اختار مَنْزِلَ فِرْعَوْنَ ، فَخَرَجَتْ جَوَاري فِرْعَوْنَ تَسْقَينْ الْمَاءَ ، فَأَبْصَرَتِ التَّابُوتَ بَيْنَ الشَّجَرِ وَالْمَاءِ فَأَخْرَجَتْهُ وَذَهَبَتْ بهِ إلَى امْرَأةِ فِرْعَوْنَ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ }.
وقولهُ تعالى : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } ؛ هذه (لام) العاقبةِ لأنَّ أحداً لا يلتقطُ الولدَ ليكون له عدُوّاً ، ونظيرُ هذا قولُهم : لِدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَاب. وقولهُ تعالى { وَحَزَناً } ، قرأ أهلُ الكوفةِ إلاّ عاصماً بضمِّ الحاءِ وجزم الزَّاي وهما لُغتان ، مثل السَّقَمِ والسُّقْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } ؛ أي متعمِّدين في الإقامةِ على الكُفْرِ والمعصية ، يقالُ : خطأَ فُلانٌ يُخْطِئُ خَطأً إذا تعمَّدَ الذنبَ وأخطأَ إذا وَقَعَ منهُ على غيرِ الصَّواب ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كانُوا آثِمينَ عاصِينَ.
(0/0)
وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } ؛ وذلكَ أنَّ فرعون هَمَّ بقَتْلِهِ ، فقالت له امرأتهُ : ليس من أولادِ بَنِي إسرائيلَ ، وقد أتانَا اللهُ به من أرضٍ أُخرَى ، { لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا } ، فلاَ تقتُلْهُ أيُّها الملكُ ، فهو قُرَّةُ عَيْنٍ لِي ولكَ ، وعسَى أن ينفعَنا في أمورنا ، { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ أنَّ هلاكَهم على يديهِ ، وَقِيْلَ : وهم لا يشعرونَ أنِّي أفعلُ ما أريدُ ولا أفعلُ ما يَهْوُونَ ، أنَّ هلاكَهم على يديهِ ، وَقِيْلَ : وهم لا يشعرونَ أنِّي أفعلُ ما أريدُ ولا أفعلُ ما يَهْوُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُرَّتُ عَيْنٍ } مشتقٌّ من القُرُور ؛ وهو الماءُ الباردُ ، ومعنى قولِهم : أقَرَّ اللهُ عَيْنَكَ ؛ أي أبردَهُ معكَ ؛ لأن دمعةَ السُّرور باردةٌ ، ودمعةَ الحزنِ حارَّةٌ.
(0/0)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً } ؛ أي أصبحَ قلبُ أمِّ موسى وهي نُوخابدُ بنتُ لاوي بنِ يعقوبَ فَارغاً من كلِّ شيءٍ إلاّ عن هَمِّ موسَى وذِكرِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } ؛ أي لولاَ أنْ شَدَدْنَا على قلبها بالصبرِ عن إظهار ذلكَ ، { لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي مِن المصدِّقين بما سبقَ من الوعدِ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ }[القصص : 7] ولو أظهرَتْ لكان ذلك سَبَباً لقتلهِ.
والرَّبْطُ على القلب : هو إلْهَامُ الصَّبرِ وتقويتهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارغاً من الصَّبرِ على فِرَاقِ موسَى لولاَ أنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبهَا لأَبْدَتْ بهِ. وَقِيْلَ : فَارغاً من الْحُزْنِ لعِلْمِها بأنه لَم يعرفْهُ. قرأ فُضَالَةُ بنُ عبيدٍ (وَأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَزِعاً) بالزَّاي والعينِ من غير ألِفٍ من الفَزَعِ.
(0/0)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } ؛ أي قالت أُمُّ موسَى لأُختهِ - واسْمُها مَرْيَمُ - : ابْتَغِي أثَرَهُ وَانظُرِي أين وقعَ ؛ لتَعْلَمِي خبرَهُ وإلى مَن صارَ ، فذهبَتْ في إثرِ التَّابوتِ ، { فَبَصُرَتْ بِهِ } ؛ بموسى ، { عَن جُنُبٍ } ؛ أي عن بُعْدٍ قد أخذوهُ ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ أنَّها قد جاءَتْ لتعرِفَ عن خبرهِ.
وقال ابنُ عبَّاس : (الْجُنُبُ أنْ يَسْمُو بَصَرُ الإنْسَانِ إلَى الشَّيْءِ الْبَعِيْدِ وَهُوَ إلَى جَنْبهِ لاَ يَشْعُرُ بهِ) وكانت مُجانبةً لتحديقِ النَّظر إليه كَيلاَ يعلم بما قصدَتْ به. وقال قتادةُ : (كَانَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهَا لاَ تُرِيْدُهُ) ، وكان يقرأُ (عَنْ جَنْبٍ) بفتحِ الجيم وسُكون النُّون. وقرأ النُّعمان بن سالِم : (عَنْ جَانِبٍ) أي عن ناحيَةٍ { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أنَّها أُخْتُهُ.
(0/0)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ } ؛ الْمَرَاضِعُ جمعُ مُرْضِعَةٍ ، وقولهُ تعالى : { مِن قَبْلُ } أي من قبلِ مَجِيء أُمِّهِ ، ومعنى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ } أي مَنَعْنَاهُ ، وقد يذكرُ التحريم بمعنى المنعِ ، قال الشاعرُ : جَاءَتْ لِسُرْعَتِي فَقُلْتُ لَهَا اصْبرِي إنِّي امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُأي مُمْتَنِعٌ.
وذلك أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يَرُدَّهُ إلى أُمِّهِ ، فَمَنَعَهُ من قَبولِ ثَدْي المراضعِ ، فلما تَعَذرَ عليهم رضَاعُهُ ؛ { فَقَالَتْ } ؛ أُخته : { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ } ؛ أي يَضْمَنُونَ لكم القيامَ به ورضَاعَهُ ، { وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } ؛ أي يُشفِقُونَ عليه وينصَحُونه ، قالوا لَها : مَنْ ؟ قَالَت : أُمِّي ، قالوا : ولأُمِّكِ لبَنٌ ؟ قالت : نَعَمْ ؛ لبنُ أخِي هارونَ ، وكان هارونَ وُلِدَ في سنَة لا يُقتَلُ فيها صبيٌّ ، فقالوا : صَدَقْتِ. فدلَّتْهُم على أُمِّ موسى ، فدُفِعَ إليها لتُربيَهُ لَهم.
فلما وَجَدَ الصبيُّ ريْحَ أُمِّهِ قَبلَ ثديَيْها وأتَمَّها اللهُ ما وعدَها وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ } ؛ على فِرَاقهِ ، { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ } ؛ برَدِّ ولدِها إليها ، { حَقٌّ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أنَّ اللهَ وعدَها برَدِّ ولدِها إليها.
(0/0)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } ؛ قال مجاهدُ : (بَلَغَ أشُدَّهُ ؛ أيْ ثَلاَثاً وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً) ، { وَاسْتَوَى } أي بَلَغَ أربعينَ سَنَةً ، وهو قولُ ابنِ عبَّاس وقتادةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } يعني الفِقْهَ والعقلَ والِعْلمَ في دينهِ ودِين آبائهِ ، قد تعلَّمَ موسَى وحَكَمَ قبلَ أن يُبْعَثَ نبيّاً. وقال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا بَلَغَ مُوسَى أرْبَعِيْنَ سَنَةً آتَاهُ اللهُ النُّبُوَّةَ). وَقِيْلَ : الأَشُدُّ : منتَهَى الشبَّاب والقُوَّةِ ، والاستواءُ : إتْمَامُ الْخَلْقِ واعتدالُ الجسمِ في الطُّول والعِظَمِ ، وإنَّما يبلغُ المرء هذا الحدَّ في اثنين وعِشرين سنةً إلى أربعينَ سَنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ فيهِ بيانُ أنَّ إنشاءَ العلمِ والحكمة يجوزُ أن يكون على الإحْسَانِ ؛ لأنَّهما يؤَدِّيان إلى الجنَّةِ التي هي جزاءُ الْمُحسِنينَ.
(0/0)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ } ؛ أي دخلَ مُوسَى مدينةَ فرعون وهي مدينةٌ يقالُ لَها منف ، وكانت مِن مِصْرَ على فَرْسَخَيْنِ. وقولهُ تعالى : { عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } ، قال ابنُ عبَّاس : (فِي وَقْتِ الظَّهِيْرَةِ عِنْدَ الْمَقِيْلِ وَقَدْ خَلَتِ الطُّرُقُ).
وَقِيْلَ : ودخلَها بين المغرب والعِشَاء ، وَقِيْلَ : دخلَها يومَ عيدِهم وكانوا مشغولِين عن موضعِ مدينَتِهم باللَّهْوِ واللَّعب ، { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَـاذَا مِن شِيعَتِهِ } ؛ أي مِن بَنِي إسرائيلَ ، { وَهَـاذَا مِنْ عَدُوِّهِ } ؛ أي من القِبْطِ ، وكان القبطيُّ يُسَخِّرُ الإسرائيليَّ ليحمِلَ له حَطَباً إلى مَطبَخِ فرعون ، والإسرائيليُّ يَأْبَى ذلكَ ، { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ } ؛ أي اسْتَنْصَرَهُ الإسرائيليُّ ، { عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } ، على القِبْطِيِّ ، { فَوَكَزَهُ مُوسَى } ؛ أي ضَرَبَهُ بجمعِ كفِّهِ في صدرهِ ، { فَقَضَى عَلَيْهِ } ؛ أي قَتَلَهُ فوقعَ القبطيُّ مَيِّتاً. وكلُّ شيءٍ فَرَغْتَ منهُ وأتْمَمْتَهُ فقد قَضَيْتَ عليهِ وقَضَيْتَهُ ، والوَكْزُ : الضَّرْبُ بجمعِ الكَفِّ.
وكان مُوسَى عليه السلام قد أُوْتِيَ بَسْطَةً في الْخَلْقِ وشدَّةَ القوةِ والبطش ، وكان مِن نِيَّةِ موسى أنه لا يريدُ قَتْلَهُ ولَم يتعمَّدْ هَلاكَهُ ، بل قَال له أوَّلاً : خَلِّ سَبيْلَهُ ، فقال : إنَّما أريدهُ ليحمِلَ الحطبَ إلى مطبخِ فرعونَ ، { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } أي قَتَلَهُ وفَرَغَ من أمرهِ ، والوَكْزُ واللَّكْزُ وَالْهَز بمعنى واحدٍ وهو الدَّفْعُ ، ويقالُ : وَكَزَهُ بعَصَاهُ.
فَلَمَّا قَتَلَهُ موسَى عليه السلام نَدِمَ على قتلهِ وقالَ : لَمْ أدْر بهذا ، ثُم دفعَهُ في الرَّمْلِ ، { قَالَ هَـاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } ؛ لأنِّي كنتُ لا أريدُ قَتْلَهُ ، ولكن هَيَّجَ الشيطانُ حَرْبي حتى ضربتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي عَدُوٌّ لبَنِي آدمَ مُضِلٌّ له مُبيْنٌ عداوتَهُ لَهم.
ثُم استغفرَ مُوسَى رَبَّهُ فـ { قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } ؛ بقَتْلِ القبطيِّ قَبْلَ وُرودِ الأمرِ والإذنِ لِي فيهِ ، { فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } ؛ أي بما أنعمتَ عليَّ بالمغفرةِ والحِلْمِ والعلمِ فلن أكونَ عَوْناً للكافرينَ ، وهذا يدلُّ على أنَّ الإسرائيليَّ الذي أعانَهُ موسى كان كَافِراً.
(0/0)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } ؛ أي أصبحَ مِن عند ذلك اليوم في تلك المدينة التي فَعَلَ فيها ما فعلَ خائفاً على نفسهِ من فرعون وقومهِ { يَتَرَقَّبُ } أي ينظرُ عاقبةَ أمرهِ ، والتَّرَقُّبُ : انتظارُ المكروهِ ؛ أي ينتظرُ سوءاً ينالهُ منهم ، { فَإِذَا } ؛ ذلكَ الإسرائيليُّ ، { الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } ؛ أي يستغيثهُ على رجلٍ آخر من القِبْطِ ، { قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي ضَالٌّ عن طريقِ الحقِّ بَيِّنُ الجِدَالِ ، يقاتلُ مَن يقاومهُ ، وقد قتلتُ أمس في سبَبكَ رجُلاً ، وتدعونِي اليومَ إلى آخرَ.
ُثُم أقبلَ موسى وهمَّ أن يبطُشَ الثانيةَ بالقبطيِّ ، ظَنَّ الإسرائيليُّ أنه يريدُ أن يبطشَ به لقولهِ { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } فقال الإسرائيليُّ : يا موسى أتريدُ أن تقتُلَني كما قتلتَ نفساً بالأمس ؟ ولَم يكن أحدٌ مِن قومِ فرعون عَلِمَ أنَّ موسى هو الذي قَتَلَ القبطيَّ حتى أفشَى عليه هذا الإسرائيليُّ ، وسَمع القبطيُّ ذلك فأتَى فرعونَ فأخبرَهُ ، وذلك معنى قولهِ تعالى : { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالأَمْسِ } ؛ وكان أيضاً هذا القبطيُّ الثانِي سَخَّرَ الإسرائيليَّ يحمِلُ عليه حَطباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأَرْضِ } ؛ أي ما تريدُ إلاَّ أن تكون قَتَّالاً في أرضِ مصرَ بالظُّلم. قال الزجَّاجُ : (الْجَبَّارُ فِي اللُّغَةِ : الَّذِي لاَ يَتَوَاضعُ لأَمْرِ اللهِ ، وَالْقَاتِلُ بغَيْرِ حَقٍّ جَبَّارٌ).
وقولهُ تعالى : { وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ } ؛ أي مِن الذين يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنْهَوُنَ عن المنكرِ. فلمَّا سَمع القبطيُّ مقالةَ الإسرائيليِّ عَلِمَ أنَّ موسى هو الذي قَتَلَ القبطيَّ بالأمسِ ، ولَم يكن أحدٌ عَلِمَ ذلكَ قَبْلَ هذا فانطلقَ القبطيُّ فأَخبرَ فرعون ، فأرسلَ فرعونُ إلى أولياءِ المقتول أنِ اقتُلُوا موسَى.
(0/0)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَ رَجُلٌ } ؛ مِن شيعة موسى ، { مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ } ؛ أي مِن آخرِها إلى مُوسَى فأخبرَهُ بذلكَ ، وقولهُ تعالى : { يَسْعَى } ؛ أي يَمشي على رجلَيْهِ مُسرِعاً وهو حزقيل بن صوريا مؤمنٌ من آلِ فرعون ، { قَالَ } ؛ له : { يامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } ؛ أي أنَّ الْخَوَاصَّ مِن قومِ فرعونَ يتشَاورُونَ في قتلِكَ ، { فَاخْرُجْ } ؛ مِن المدينةِ ، { إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } ؛ وقال الزجَّاج : (يَأْتَمِرُونَ أيْ يَأْمُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً بقَتْلِكَ). فَاخْرُجْ إنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِيْنَ في أمري لكَ بالخروجِ ، { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً } ؛ أي خرجَ موسى من المدينةِ ، { يَتَرَقَّبُ } ؛ أي ينظرُ متى يُلْحَقُ فيُؤْخَذُ ، { قَالَ } ؛ عندَ ذلك : { رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي مِن فرعونَ وقومهِ أين يذهب.
(0/0)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } ؛ أي لَمَّا سارَ نَحوَ مِدْيَنَ ، وكان قد خرجَ بغيرِ زاد ولا حِذاءٍ ولا ركوبةٍ ، بل خرجَ هَائِماً على وجههِ هارباً من فرعونَ وقومهِ لا يدري أينَ يذهبُ ، فخافَ أن يُخطِئَ الطريقَ. ومَدْيَنُ اسمُ ماءٍ لقوم شُعيب ، وبينَهُ وبين مصرَ ثَمانيةُ أيَّامٍ ، سُمي ذلكَ الماءُ باسم مَدْيَنَ بنِ إبراهيمَ عليه السلام.
فلمَّا لَم يكن لِموسى علمٌ بالطريق خَشِيَ أن يذهبَ يَميناً وشِِمالاً فـ { قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السَّبِيلِ } ؛ أي يُرشِدَنِي قصدَ الطريقِ إلى مَدْيَنَ ، فلمَّا دَعَا موسى بهذا جاءَهُ مَلَكٌ على فَرَسٍ فانطلقَ به إلى مَدْيَنَ. قال المفسِّرون : خرجَ موسَى من مصرَ بلا زادٍ ولا درهَمٍ ولا رُكوبَةٍ إلى مَديَنَ ، وبينهما مسيرةُ ثَََمان ليالٍ ، ولَم يكن له طعامٌ إلاّ ورقَ الشَّجرِ.
(0/0)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } ؛ أي بلغَ بئْرَهُمْ التي كانوا يَسْقُونَ منها ، قال ابنُ عبَّاس : (وَرَدَ مَاءَهُمْ وَأنَّهُ لَيَرَى خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ فِي بَطْنِهِ مِنَ الْهُزَالِ). وقولهُ : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } ؛ أي وجَدَ على ذلك الماءِ جماعةً من الناسِ يَسْقُونَ أغنامَهم مواشِيهم ، { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ } ؛ أي تَحْبسَانِ غنمَهما عن الماءِ حتى تفرغَ الناسُ ويخلو لَهما الماءُ ، وهما بنْتَا شُعيب.
والذوْدُ في اللغة : الطَّرْدُ والدفعُ والكَفُّ ، ومعنى { تَذُودَانِ } تَدْفَعَانِ وتكُفَّان الغنمَ مِن أن يخلطَ بأغنامِ الناس ، وحتى يقربَ الماءُ إلى أن يفرغَ القومُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } ؛ أي قالَ موسَى لابنَتَي شُعيب : { مَا خَطْبُكُمَا } أي ما شَأنُكُمَا لا تسقِيَانِ غنمَكُما مع الناسِ ؟ { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ } ؛ قرأ الحسنُ وابن عامر وأبو عمرو بفتح الياء وضَمِّ الدال ، جعلُوا الفعلَ للرِّعَاءِ ؛ أي حتى يرجعَ الرِّعَاءُ عنِ الماء ، وقرأ الباقون (يُصْدِرُ) بضَمِّ الياءِ وضمِّ الدال ؛ أي حتى يُصْدِرُوا مواشيهم من وردِهم ، فيخْلُوا لنا الموضعَ فنَسقِي أغنامَنا فَضْلَ ما في الحوضِ. والرِّعَاءُ جمعُ رَاعٍ.
قال ابنُ اسحقَ : (قَالَتَا : نَحْنُ امْرَأتَانِ لا نَسْتَطِيْعُ أنْ نُزَاحِمَ الرِّجَالَ { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } ؛ لا يقدرُ أن يسقِي ماشيتَهُ من الكِبَرِ والضَّعْفِ ، وليس له أحدٌ غيرُنا ، فلذلك احتَجْنا ونحنُ نساءٌ أن نسقي الغنمَ.
(0/0)
فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ } ؛ فلما سَمِعَ موسَى قولَهما رحِمَهُما ، فقامَ ليسقِي لَهما غنمَهما ، فوجدَ بقُربهما بئراً أُخرى على رأسِها صخرةٌ عظيمة لا يطيقُ رفعَها إلاَّ جماعة من الناسِ ، فاقتلَعَها وحدَهُ ثُم أخذ الدَّلو من القوم ، فأدلاَها في البئرِ ، ونزعَها في الحوضِ ، ثُم دعا بالبَرَكَةِ فشَرِبَ الغنمُ حتى رَوي.
وَقِيْلَ : إنه زَاحَمَ القومَ على بئرِهم وسقَى لَهما غنمَهما ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَقَى لَهُمَا } أي سقَى لَهما أغنامَهما قبلَ الوقتِ الذي كانا يسقِيَان فيه ، ثُم رجعَ من الشَّمسِ إلى ظلِّ شجرةٍ فجلسَ تحتَها من شدَّةِ الحرِّ ، وهو جائعٌ ، { فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ؛ أي إنِّي لَمُحْتَاجٌ فقيرٌ إلى ما قدَّرتَ لِي من الطعامِ ، وكان خرجَ من مصر بغيرِ زادٍ وكان لا يأكلُ في الأيام الثمانيةِ إلاّ الحشيشَ والشَّجرَ إلى أن بلغَ ماء مَدْيَنَ ، فلما أدركَهُ الجوعُ الشديد ؛ وكان لا يقدرُ على شيءٍ ؛ سألَ الله أكلَهُ من الطعامِ.
قال ابنُ عبَّاس : (سَأَلَ اللهَ فَلْقَ خُبْزٍ أنْ يُقِيْمَ بهِ صُلْبَهُ) ، فال سعيدُ بن جبير : (لَقَدْ قَالَ مُوسَى : إنِّي لِمَا أنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خُبْزٍ فَقِيْرٌ ، وَهُوَ أكْرَمُ خَلْقِهِ عَلَيْهِ ، وَلَقَدِ افْتَقَرَ إلَى شِقِّ تَمرةٍ) ، وقال مُحمَّدٌ : (مَا سَأَلَ اللهَ إلاَّ الْخُبْزَ). واللامُ في قوله تعالى { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ } بمعنى : إلَيَّ ، يقالُ : فقراءُ وفقيرٌ إليه.
(0/0)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ } ؛ وذلك أنَّ موسى عليه السلام لَمَّا سقى لَهما ، رجَعَا إلى أبيهما سَريعاً ، فقالَ لَهما أبُوهُما : مَا أعْجَلَكُمَا ؟ قالتا : وجَدْنا رجُلاً صالحاً رَحِمَنا ، فسقَى لنا أغنامَنا ، فقال لإحداهُما : اذهَبي فادعِيه لِي ، فجاءتْهُ تَمشي مُستحيةً مشيَ مَن لا يعتادُ الدُّخولَ والخروحَ ، واضعةً كفَّها على وجهِها ، مُعرِضَةً من الحياءِ ، وكانت التي أرسَلَها أبوها إلى موسَى هي الصُّغرى منهما ، واسْمُها صُورَا ، قال عمرُ بن الخطَّاب في قولهِ تعالى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ } : (وَاضِعَةً ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا ؛ أيْ مُسْتَتِرَةً بكُمِّ ذِرَاعِهَا). قال أهلُ اللُّغة : السَّلْفَعُ : الجريئة التي هي غيرُ مُستحِيَةٍ.
وقولهُ تعالى : { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } أي ليعطيكَ ذلك ، فلما قالت ذلكَ لِموسَى شُقَّ عليه قولُها ، وهَمَّ أن لا يتبعَها وكان بينه وبين أبيها مقدارَ ثلاثةِ أميَالٍ ، ثُم إنه لَم يجدْ بُدّاً من اتِّباعِها ؛ لأجْلِ الْجُهْدِ والجوعِ الذي حَلَّ به ولأجلِ الخوف الذي خرجَ لأجلهِ ، فانطلقَ معها ، وكانت الريحُ تضربُ ثوبَها فَنَكَّرَتْهُ برَدْفِها فتصفُ له عجيزتَها ، وكانت ذات عَجِزٍ ، فجعل موسَى يَغْضُّ بَصَرَهُ ويُعرِضُ عنها ، ثُم قال لَها : (يَا أمَةَ اللهِ كُونِي خَلْفِي ، وَانْعَتِي لِيَ الطَّرِيْقَ بقَوْلِكِ ، وَدُلِّينِي عَلَيْهَا إنْ أنا أخْطَأْتُ ، فَإنَّا بَنُوا يَعْقُوبَ لاَ نَسْتَطِيْعُ النَّظَرَ إلَى أعْجَاز النِّسَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي فلمَّا جاءَ مُوسَى إلى شُعيب إذ هو بالعَشَاءِ مُهَيَّأً ، فقالَ له شُعيب : مَن أنتَ ؟ قال : أنا رجلٌ من بَنِي إسرائيلَ مِن أهلِ مصر ، وحَدَّثَهُ بما كان منهُ من قَتْلِ القبطيِِّ وفرارهِ من فرعون ، فقال له شعيبُ : إِجلِسْ { لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي نجوتَ من فرعونَ وقومهِ ، فإنَّهم لا سلطانَ لَهم بأرضِنا ، ولَسْنَا مملكتَهُ.
فجلسَ معه موسى عليه السلام فقالَ له شعيبُ : هَاكَ فَتَعَشَّ ، فقال : أعوذُ باللهِ ، فقال له شعيبُ : ولِمَ وأنتَ جائعٌ ؟ قال : أخافُ أن يكون هذا عِوََضاً لِمَا سقيتُ لكم ، وإنَّا أهلُ بيتٍ لا يَبْغِ شيئاً من عَمَلِ الآخرةِ بملْئِ الأرِض ذهباً ، فقال شعيبُ : لاَ وَاللهِ! ولكنَّها عادَتِي وعادةُ آبائي ، نُقْرِي الضَّيفَ ونُطعِمُ الطعامَ ، فجلسَ مُوسَى عليه السلام يتعَشَّى حينئذٍ.
(0/0)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ } ؛ أي قالَتْ إحداهُما وهي التي تزوَّجَها موسى : يا أبَتِ اتَّخِذْهُ أجيراً يرعَى لنا غنمَنا ، فإنَّ خيرَ منِ استأجرتَ الذي يقوَى على العملِ ، ويؤدِّي الأمانةَ.
فقال لَها أبُوهَا : وما عِلْمُكِ بقوَّتهِ وأمانتهِ ؟ فقالت : أمَّا قوَّتهُ فإنه لَمَّا رأى أغنامَنا محبوسةً عن الماءِ ، قال لنا : هل بقُربكُما بئرٌ ؟ قلنا : نَعَمْ ؛ لكن عليها صخرةٌ عظيمة لا يرفَعُها إلاّ أربعونَ رجُلاً ، قال : انطَلِقا بي إليها ، فانطلَقا به إليها ، فأخذ الصخرةَ بيدهِ ونَحَّاهَا سَهْلاً من غيرِ كُلْفَةٍ. وأمَّا أمانتهُ فإنه قال لِي في بعضِ الطَّريق : إمْشِ خلفِي ، فإنْ أخطأتُ الطريقَ فارْمِ قِبَلِي بحصاةٍ حتى أنْهَجَ نَهْجاً ، فإنَّّا قومٌ لا ننظرُ إلى وراءِ النِّساء. ولِهذا المعنى قال عمرُ رضي الله عنه : (لاَ يَصْلُحُ لأُمُور الْمُسْلِمِيْنَ إلاَّ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ ، وَالرَّقِيْقُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ).
قال فلمَّا ذكرَتِ المرأةُ من حالِ موسى ازدادَ أبُوهَا رغبةً فيهِ و { قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } ؛ أي على أن تَرْعَى غنَمِي ، ويكون فيها أجْراً إلى ثَمان سِنين ، { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } ؛ فهو بفَضْلٍ منكَ ليس بواجبٍ عليكَ ، { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ } ؛ في العشرِ ، ولا أكلفَّكَ إلاّ العملَ المشروط ، والمرادُ بالحِجَجِ السِّنين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ مِمن وافَقَ فِعْلَهُ. وَقِيْلَ : ستجدُنِي إن شاءَ اللهُ من الوَافِيْنَ بالعهدِ ، الْمُحسِنينَ الصُّحبةَ.
فـ { قَال } مُوسَى لشعيب : { ذَلِكَ } ؛ الشرط { بَيْنِي وَبَيْنَكَ } ؛ يعني الذي وصفتَ وشَرَطْتَ على ذلك ، وما شرطتَ لِي مِن تزويجِ إحداهما عَلَيَّ فلي ، والأمر بيننا. وثم السلام. ثُم قال : { أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ } ؛ أيُّ الأجلَين من الثَّمانِ أو العَشْرِ ، { قَضَيْتُ } ؛ أي أتْمَمْتَ وفَرَغْتَ ، { فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } ؛ أي لا ظُلْمَ ولا حرجَ ولا كُلفَةَ. قال الفرَّاء : (مَا) صِلَةٌ فِي قَوْلِهِ : { أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ }.
وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ؛ أي شهيدٌ على ما عَقَدَ بعضُنا على بعضٍ. قال ابنُ عبَّاس : (وَاللهُ شَهِيْدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكَ).
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ : " سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيُّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ فَقَالَ : " أوْفَاهُمَا وَأبْطَئُهُمَا " وعن أبي ذرٍّ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَإذا سُئِلْتَ عَنْ أيِّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى ؟ فَقُلْ : خَيْرُهُمَا أوْ أبَرُّهُمَا ، وَإنْ سُئِلْتَ أيُّ الْمَرْأتَيْنِ تَزَوَّجَ ؟ فَقُلِ الصُّغْرَى مِنْهُمَا وَالَّتِي جَاءَتْ فَقَالَتْ : يَا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ".
(0/0)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ } ؛ أي فلَمَّا وَفَّى موسى أتَمَّ الأجلَين وهو عشرُ سنين ، وسارَ بأهلهِ نحو مصرَ ، قال مقاتلُ : (اسْتَأْذنَ مُوسَى صِهْرَهُ شُعَيْبَ فِي الْعَوْدِ إلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَيْهِ وَأُخْتِهِ. فَأَذِنَ لَهُ ، فَسَارَ بأَهْلِِهِ نَحْوَ مِصْرَ ؛ { آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ } فَأَبْصَرَ باللَّيْلِ الظَّلِيمِ عن يسار الطَّريق ، أي الجبَلِ ، { نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُواْ } ؛ أي انزِلُوا ها هُنا ، { إِنِّي آنَسْتُ } ؛ أي أبصرتُ ، { نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } ؛ أي مِن عند النار بخبرٍ ، وأعلمُ لِمَ أُوقِدَتْ تلك النارُ. ويقالُ : كانت أخطأَ الطريقَ فأرادَ أن يَسْأَلَ عن الطريقِ مَن يَجِدُهُ عندَ النار. وقولهُ تعالى : { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ } ؛ معناهُ : أو آتِيكُمْ بقطعةٍ من الحطَب في رأسِها شعلةٌ من النار لكي تَدَفَّئُوا من البردِ ، وكانوا في شدَّةِ الشِّتاء).
وفي قوله { جَذْوَةٍ } ثلاثُ قراءاتٍ : فتحُ الجيمِ وهي قراءةُ عاصم ، وضمُّها وهي قراءةُ حمزةَ ، وكسرُها وهي قراءة الباقين ، وقولهُ تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } ؛ أي تُدْفَئُونَ بها عن البردِ.
(0/0)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } ؛ أي فلمَّا أتَى موسى النارَ نُودِيَ من جانب الوادِي الأيْمَنِ أراد يَمينَ موسَى ، وقولهُ تعالى { فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ } أي الْمُقَدَّسَةِ ، وقولهُ تعالى : { مِنَ الشَّجَرَةِ } أي من الشَّجرةِ وهي شجرةُ العُنَّاب في قولِ ابنِ عبَّاس ، وقال مقاتلُ : (هِيَ عَوْسَجَةٌ) ، وسُمِّيت البقعةُ مباركةً ؛ لأن الله كَلَّمَ مُوسَى فيها وَبَعثَهُ نبيّاً. وقولهُ تعالى : { أَن يامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } ؛ أي نُودِيَ بأنْ ألْقِ عصاكَ من يدِكَ ، وموضعُ (أنْ ألْقِ) نصب ، { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } ؛ أي فلما رَآهَا بعدَ ما ألقَاهَا تتحرَّك في غايةِ الاضْطِرَاب كأنَّها جَانٌّ في الخِفَّةِ مع عِظَمِهَا ، { وَلَّى مُدْبِراً } ؛ أي هَارباً ، { وَلَمْ يُعَقِّبْ } ؛ أي ولَم يَلْتَفِتْ إلى ما رآهُ ، فقال اللهُ لهُ : { يامُوسَى أَقْبِل } ، إليها ، { وَلاَ تَخَفْ } منها ؛ { إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ } مِن أن ينالَكَ منها مكروهٌ ، فأخذها موسى فإذا هي عصَا كما كانت ، ويقال سُميت جَانٌّ في هذهِ الآية ؛ لأنَّها صارت جَانّاً في البقعةِ المباركة ، وثُعبَاناً عند فرعونَ.
(0/0)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } ؛ أي أدْخِلْهَا في جيبكَ ، { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } ؛ لَها شعاعٌ كشُعَاعِ الشَّمسِ ، { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } ؛ أي من غيرِ بَرَصٍ ، من الفزعِ ، فتصيرَ آمِناً مما كنتَ تخافهُ ، وهذا لأنَّ من شَأْنِ الْخَائِفِ أن يرتعدَ ويقلق فيكون ضَمُّ يدهِ إلى نفسهِ في معنى السُّكون.
قال مجاهد : (كُلُّ مَنْ فَزَعَ فَضَمَّ جَنَاحَيْهِ إلَيْهِ ذَهَبَ عَنْهُ الْفَزَعُ ، وَقَرَأ هَذِهِ الآيَةَ). وَجَناحُ الإنْسَانِ : عَضُدُهُ ، ويقالُ : اليدُ كلُّها جَنَاحٌ. وقال بعضُهم : معنى قولهِ { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } أي سَكِّنْ رَوْعَكَ ، وضَمُّ الجناحِ هو السُّكون ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }[الإسراء : 24] يريدُ الرِّفْقَ ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[الشعراء : 215] أي ارْفِقْ بهم ، وألِنْ جناحَكَ بهم. وقال الفرَّاء (أرَادَ بالْجَنَاحِ الْعَصَا). وقولهُ تعالى { مِنَ الرَّهْبِ } وقُرئ (مِنَ الرَّهَب) أيضاً وهما لُغتان مثل الرُّشْدِ والرََّشَدِ ، ويقالُ : إنَّ قوله (مِنَ الرَّهْب) متَّصلٌ بقولهِ (مِنَ الآمِنِيْنَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } ؛ يعني اليدَ والعصا حُجَّتَانِ مِن الله لِمُوسَى على صدقهِ ، والمعنى : هما حُجَّتَانِ من ربكَ أرسلناكَ بهما { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } ؛ أي أشرافِ قومه ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ؛ أي خَارجِين عن طاعةِ الله تعالى ، " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد النون " وقرأ الباقونَ بالتخفيف. قال الزجَّاج : (التَّشْدِيْدُ تَثْنِيَةُ ذلِكَ ، وَالتَّخْفِيْفُ تَثْنِيَةُ ذاكَ).
(0/0)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } ؛ يعني القبطِيَّ الذي قتلَهُ ، { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } ، { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } ؛ أي أبْيَنُ مِنِّي كَلاماً وأحسنُ بياناً ، وكان في لسانِ موسى عقدةٌ من قِبَلِ الجمرةِ التي تناولَها ، ولذلك قال فرعونُ : وَلاَ يَكَادُ يُبيْنُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } ؛ أي عَوْناً ومُصَدِّقاً لِي ، يقالُ : فلانٌ ردْءُ فلانٍ ؛ إذا كان ينصرهُ ويشدُّ ظهرَهُ. وقرأ نافعُ (رداً) من غيرِ هَمْزٍ طلباً لِلْخِفَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُصَدِّقُنِي } ؛ قرأ عاصمُ وحمزة : (يُصَدِّقُنِي) بضمِّ القاف ، وقرأ الباقونَ بالجزمِ على الجواب بالأمر ، ومَن رفعَ كان صفةً لنكرةٍ ، جواباً للمسالة تقديرهُ ردْءاً مُصَدِّقاً لِي ، والتصديقُ هارون في قولِ الجمع. وقال مقاتلُ : (لِكَي يُصَدِّقَنِي فِرْعَوْنُ) { إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ }.
(0/0)
قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } ؛ أي قالَ اللهُ تَعَالَى لِموسى : سنُعِينُكَ ونقوِّيكَ وننصرُكَ بأخيكَ ، وشَدُّ العَضُدِ كنايةٌ عن التقويةِ ، وقولهُ تعالى : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } حجَّةً وبيِّنة تدلُّ على النبوَّة ، { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا } بقَتْلٍ ولا سُوءٍ ولا أذَى ، { بِآيَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ } ؛ لِمَن خالَفَكما ، وقولهُ تعالى : { بِآيَاتِنَآ } موضعهُ التقديمُ ؛ والمعنى ونجعلُ لكُمَا سُلطَاناً بآياتِنَا ؛ أي بما نُعطِيكُما من المعجزاتِ.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ } ؛ يعني المعجزاتِ فلم يقدِرُوا على دفعِ تلك الآياتِ ، { قَالُواْ مَا هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } ، إلاّ أنْ قالوا هذا سِحْرٌ مُفْتَرَى ؛ أي مُخْتَرَعٌ من قِبَلِ نفسِكَ ولَم تُبعَثُ بهِ ، { وَمَا سَمِعْنَا بِهَـاذَاْ ؛ } ؛ الذي تَدْعُونَا إليه ، { فِي آبَآئِنَا الأَوَّلِينَ }.
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ } ؛ أي هو أعلمُ بالحقِّ مِنَّا وبمن يدعُو إلى الضَّلالةِ ؛ أي أنَا الذي جِئْتُ بالْهُدَى مِن عندِ الله. وقرأ ابنُ كثير : (قَالَ مُوَسَى) بغير واوٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } ؛ أي هو أعلمُ بمن تكونُ له الجنَّة ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي لا يُسْعَدُ مَن أشْرَكَ باللهِ.
(0/0)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي } ؛ أي قالَ فرعونُ الخَوَاصِّ قومهِ : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي } وهذه إحدَى كَلِمَتَيْهِ اللَّتين أخذهُ الله بهما ، والأُخرى قولهُ{ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأَعْلَى }[النازعات : 24].
وقولهُ تعالى : { فَأَوْقِدْ لِي ياهَامَانُ عَلَى الطِّينِ } ؛ أي اتَّخِذْ لِي آجُرّاً ، { فَاجْعَل لِّي صَرْحاً } ؛ أي قَصْراً طَويلاً متَّسِعاً مرتفعاً ، { لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَـاهِ مُوسَى } ؛ أي أصعدُ إليه ، ظَنَّ بجهلهِ أنه يَتَهَيَّأُ له أنْ يبلُغَ بصرحهِ إلى السَّماءِ ، وظنَّ أن إلهَ مُوسَى جِسْماً مشاهَداً كما تقولُ الْمُشَبهَةُ ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلِكََ.
قال المفسِّرون : لَمَّا أمرَ فرعونُ وزيرَهُ هامانَ ببناء الصَّرح ، جَمَعَ خمسين ألفَ بَنَّاءٍ سِوَى الاتباعِ والأُجَرَاءِ ممن يطبخُ الآجُرَّ والجصَّ ، وينحتُ الخشبَ والأبوابَ ، ويضربُ المساميرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ؛ أي في ادِّعاء (إلَهاً غَيْرِي) وأنه رسولهُ ، وهذا اعترافٌ مِن فرعونَ بالشَّكِّ لأنه شَاكٌّ لا يدري مَن في السَّماء ، ولو كان إلَهاً لَمْ يجهَلْ ولَم يشُكَّ ، والمبطلُ تظهرُ عليه الْمُنَاقَضَةُ.
(0/0)
وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ تعظَّمُوا عن الإيْمانِ ولَم ينقَادُوا للحقِّ ، وقولهُ تعالى { فِي الأَرْضِ } أي في أرضِ مِصْرَ { بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي بالباطلِ والظُّلم ، { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } ؛ أي يُرَدُّونَ إلينا بالبعثِ للحساب والجزاء.
(0/0)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } ؛ أي طَرَحْنَاهُمْ في البحر. قال عطاءُ : (يُرِيْدُ الْبَحْرَ الْمَالِحَ بَحْرَ الْقُلْزُمِ) { فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } ؛ حين صَارُوا إلى الْهَلاكِ.
(0/0)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
قًَوْلُه تَعَالَى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } ؛ أي جعلنَاهم في الدُّنيا أئِمَّةَ ضَلاَلَةٍ وقَادَةً في الكُفْرِ والشِّرك ، يقودُونَ الناسَ إلى الشِّركِ ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } لأن مَن أطَاعَهم ضَلَّ ودخلَ النارَ ، { وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ } أي لا يُدْفَعُ عنهم عذابُ اللهِ ، { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } ؛ يعني لَعْنَةَ الملائكةِ والمؤمنين ، { وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ } ؛ أي مِن الْمُشَوَّهِيْنَ في النَّار ، سَوَادُ وجُوهِهم وزرقَةُ الأعيُنِ ، فعلى هذا يكونُ المعنى : هُمُ الْمَقْبُوحِيْنَ. وَقِيْلَ : معناهُ : هم مِن الْمُبْعَدِيْنَ الملعونِينَ من القَبْحِ ، وهو الإبعادُ. قال أبو يَزيدٍ : (يُقَالُ : قَبَّحَ اللهُ فُلاَناً قُبْحاً وَقُبُوحاً ؛ أي أبْعَدَهُ مِن كُلِّ خَيْرٍ).
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
قوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } ؛ يعني القُرُونَ الأُولَى قومَ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ وغيرَهم ، كانوا قَبْلَ مُوسَى. وقولهُ تعالى { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ } أي أعطَينا موسَى التَّوراةَ من بعدِ ما أهلكنا الأمَمَ الماضيةَ عِظَةً وعِبْرَةً للناسِ ليُبْصِرُوا بها أمرَ دينِهم ؛ أي ليُبصِرُوا بالتوراةِ ويهتَدُوا بها ، وهُو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُدًى } ؛ مِن الضَّلالةِ لِمن عَمِلَ به ؛ أي بالكتاب { وَرَحْمَةً } ؛ لِمن آمَنَ به ، { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ؛ أي يتذكَّرُوا بما فيه من المواعظ والبصائرِ.
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَا أهْلَكَ اللهُ قَوْماً وَلاَ قَرْناً وَلاَ أمَّةً وَلاَ أهْلَ قَرْيَةٍ بعَذابٍ مِنَ السَّمَاءِ مُنْذُ أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرَ أهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذِيْنَ مُسِخُواْ قِرَدَةً ، ألَمْ تَرَ أنَّ اللهَ قَالَ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى } ".
(0/0)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ } ؛ معناهُ : ما كُنْتَ يا مُحَمَّدُ بجانب الوادِي الغربيِّ { إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الأَمْرَ } أي إذ أوْحَيْنَا الأمرَ بما ألزمناهُ وقومَهُ ، { وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ } ؛ تلكَ الحالةِ ، وإنَّما أخبرناكَ بذلك لتكونَ معجزةً لك.
(0/0)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
وقولهُ تعالى : { وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً } ؛ أي خَلَقْنَا قَرْناً بعدَ قرنٍ ، { فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ } ؛ أي طَالَتْ عليهم الْمُهَلُ فنَسُوا عهدَ اللهِ ، وتركُوا أمرَهُ ، وكذبُوا الرُّسُلَ فأهلكناهم قَرْناً بعدَ قرنٍ ، وهذا كلامٌ يدلُّ على أنه قد عَهِدَ إلى موسَى وقومه عهوداً في مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والإيْمَانِ بهِ ، فلما تَطَاوَلَ عليهِمُ الْعُمُرُ ، وخُلِقَتِ القرونُ بعدَ القرونِ ، وترَكُوا الوفاءَ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً } ؛ أي مُقِيماً { فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } ؛ كقِيَامِ مُوسَى وشُعيب فيهم ، { تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } ؛ أي تذكِّرُهم بالوعدِ والوعيد. قال مقاتلُ : (وَالْمَعْنَى : لَمْ تَشْهَدْ أهْلَ مَدْيَنَ فَتَقْرَأُ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ خَبَرَهُمْ كَخَبَرِ مَنْ شَاهَدَهُمْ) { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } ؛ أي أرسلناكَ إلى أهلِ مَكَّةَ ، وأنزلَ عليك هذهِ الأخبارَ ، ولولاَ ذلك لَمَا علَمْتَها.
(0/0)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا } ؛ أي وما كُنْتَ يا مُحَمَّدُ بناحيةِ الْجَبَلِ الذي كَلَّمَ اللهُ عليه مُوسَى إذ نَادَيْنَا موسى : إنِّي أنَا اللهُ ، ويَا مُوسَى أقْبلْ وَلاَ تَخَفْ ، { وَلَـاكِن } ؛ أوحينَاها إليكَ وقصَصْنَاها عليكَ ، { رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } ؛ لَم يأْتِهم رسولٌ يُخَوِّفُ قبلَكَ ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ؛ أي يَتَّعِظُونَ.
ومعنى { رَّحْمَةً } أي رَحِمْنَاكَ رحمةً بإرسالِكَ والوَحْيِ إليكَ. وقولهُ تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } يعنِي أهلَ مكَّة لعلَّهُم يتَّعظُونَ ، واسمُ الجبلِ الذي نُودِي عليه موسى جَبَلُ رسمه. قرأ عيسَى بن عمر : (وَلَكِنْ رَحْمَةٌ) بالرفعِ على معنى : ولكن هِيَ رحمةٌ مِن ربكَ إذ أطْلَعَكَ اللهُ عليهِ.
(0/0)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ؛ قال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : وَلَوْلاَ أنْ يُصِيْبَهُمُ الْعَذابُ فِي الدُّنْيَا بمَا قَدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي) يعني كفارَ مكَّة ، { فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } ؛ أي هلاَّ أرسلتَ إلينا رَسُولاً ، { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } ، يعني القُرْآنَ ، { وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
والمعنى : لولا أنَّهم يحتَجُّون بتركِ الإرسالِ إليهم لعجَّلنَاهم بالعقوبةِ بكُفْرِهم. وحقيقةُ كَشْفِ معنى الآية : لَولاَ أنَّهُ إذا أصَابَتْهُمْ مُصِيْبَةٌ ؛ أي عقوبةٌ بما قدَّمَتْ أيْدِيْهِمْ من الكُفْرِ فيقولُوا عندَ نُزولِ العذاب بهم : رَبَّنَا هَلاَّ أرسلتَ إلينا رَسُولاً فَنَتَّبِعُ كتابَكَ ورسولكَ ، ونكون مِن المؤمنينَ ؛ لعجَّلْنَاهم العقوبةَ. قِيْلَ : معناهُ : لولا إذا أصابَتْهم عقوبةُ الآخرةِ فيقولُوا ربَّنا لولاَ أرسلتَ إلينا رسُولاً في الدُّنيا لَمَا أرسلناكَ. وفي الآية بيانُ أنَّ الله تعالى أرسَلَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مبالغةً في الحُجَّةِ وقطعِ الْمَعْذِرَةِ.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
وقولهُ تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا } ؛ أي فلما جاءَ أهلَ الحقُّ مِن عِنْدِنَا وهو مُحَمَّدُ والقُرْآنُ ، { قَالُواْ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ مُوسَى } ؛ أي هلاَّ أعطِيَ مثلَ ما أعطِيَ موسى ، يعنونَ هَلاَّ أنْزِلَ عليه القُرْآنُ جُمْلَةً كما أنزلَ التوراة على موسى جُملة واحدةً ، وهلاَّ أعطَى مُحَمَّداً اليدَ والعصا والمنَّ والسَّلوى وغيرَ ذلك من الآيات.
فاحتجَّ اللهُ عليهم بقوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ } ؛ أي فقد كَفَرُوا بما أوتِيَ موسَى ، كما كَفَرُوا بآياتِ مُحَمَّد و { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } ؛ أي تَعَاوَنا على السِّحرِ والضَّلالِ ، يعنونَ موسَى ومُحَمَّداً عليهم السَّلاَمُ. وقرأ أهلُ الكوفة (سِحْرَان) بغيرِ ألفِ التَّوْرَاةُ والقُرْآنُ ، { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ } ، مِنَ التَّوراةِ والقُرْآنِ ، { كَافِرُونَ }.
(0/0)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
قال اللهُ لِنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } ؛ لكُفَّار مكَّة : { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ } ؛ أي مِن التَّوراةِ والقُرْآنِ حتى { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أنَّهما كانا سِحرَانِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } ؛ أي فإن لَم يأتُوا بمثلِ التَّوراةِ والقُرْآنِ ، { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ وإنَّ ما رَكِبُوهُ من الكُفْرِ لا حُجَّةَ لَهم فيه ، وإنَّما آثرُوا فيه الْهَوَى.
ثُمَّ ذمَّهُم اللهُ فقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي لا أحدَ أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هواهُ بغيرِ رَشَادٍ ولا بيانٍ جاءَ من الله ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ ومعنى قولهِ { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } أي فإنْ لَم يُجِيبُوكَ إلى ما سألتَهم ولا يجيبون.
(0/0)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
قوله : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا } ؛ رسُلَنا ، { لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي وصَّلنَا لأهلِ مكَّة ذِكْرِ الأنبياءِ والأُمَمِ وأقاصيصِ بعضهم لبعضٍ ، وأخبَرْنَاهم أنَّا أهلكنا قومَ نوحٍ بكذا وقومَ صالحٍ بكذا لكي يتَّعِظُوا بالقُرْآنِ ، ويخَافُوا أن يَنْزِلَ بهم مثلَ ما نزلَ بمن قبلَهم.
(0/0)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ } ؛ أي من قَبْلِ القُرْآنِ ، { هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. قال السديُّ : (يَعْنِي مُسْلِِمِي الْيَهُودِ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلام وَأصْحَابُهُ). وقال مقاتلُ : (يَعْنِي مُسْلِمِي أهْلِ الإنْجِيْلِ ، وَهُمُ الَّذِيْنَ قَدِمُواْ مَعَ جَعْفَرَ بْنِ أبي طَالِبٍ مِنَ الْحَبَشَةِ).
ثُم نَعَتَهم اللهُ تعالى فقالَ : { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } ؛ يعنِي القُرْآنَ ، { قَالُواْ آمَنَّا بِهِ } ؛ أي صدَّقنَا بالقُرْآنِ ، { إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ } ؛ لا ذِكْرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وكان مَكتُوباً عندَهم في التَّوراةِ والإنجيل فلَمْ يعانِدوا ، وقالوا للقُرْآنِ : إنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبنَا ، { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ } ؛ قبل القُرْآنِ ، { مُسْلِمِينَ } ؛ مُخلِصِين للهِ بالتوحيد ، مؤمِنين بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نَبيٌّ.
ثُم أثْنَى اللهُ عليهم خيراً ، فقالَ : { أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } ؛ مرَّةً بتمسُّكِهم بدِينهم حتى أدرَكُوا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فآمَنُوا به ، ومرَّةً بإيْمانِهم به. وقال قتادةُ : (كَمَا صَبَرُواْ عَلَى الْكِتَاب الأَوَّلِ وَالْكِتَاب الثَّانِي) ، وَقِيْلَ : مرَّةً لإيْمانِهم بموسَى ومرّةً لإيْمَانِهم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } ؛ أي يدفَعُونَ بشهادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ الشِّرْكَ ، كذا قال ابنُ عبَّاس ، وقال مقاتلُ : (يَدْفَعُونَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ أذِيَّةِ الْكَافِرِيْنَ وَشَتْمِهِمْ لَهُمْ بالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالاحْتِمَالِ). { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ؛ مِن الأموالِ في طاعة الله.
(0/0)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ } ؛ أي وإذا خُوطِبُوا بالسَّفاهَةِ وشتَمَهم المشركونَ رَدُّوا عليهم جَميلاً ، وأعْرَضُوا عن الكلامِ الذي لا فائدةَ فيه ، { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا } أي دِينُنا ، { وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي دِينُكم.
وذلك أنَّهم عَيَّرُوهُمْ بتَرْكِ دِينهم. قال السديُّ : لَمَّا أسْلَمَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ جَعَلَ الْيَهُودُ يَشْتُمُونَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } ؛ قال الزجَّاج : (لَمْ يُرِيدُواْ التَّحِيَّةَ ، وَالْمَعْنَى أنَّهُمْ قَالُواْ : بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْمُتَارَكَةُ والتَّسَلُّمُ ، وَهَذا قَبْلَ أنْ يُؤْمَرَ الْمُسْلِمُون بالْقِتَالِ) ، فَكَأنَّهُمْ قَالُوا : سَلِمْتُمْ مِنَّا لاَ نَعْتَرِضَنَّكُمْ بالشَّتْمِ. ومعنى قولهِ تعالى { لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } أي لا نريدُ أن نكونَ مِن أهلِ الْجَهْلِ والسَّفَهِ. وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : لاَ نُحِبُّ دِينَكُمُ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ).
(0/0)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } ؛ ذهبَ أكثرُ المفسِّرين أنَّ هذهِ الآيةَ " نزلت في أبي طَالِبٍ ، وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ ، دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ : " يَا عَمِّ ؛ قُلْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قالَ : لَوْلاَ أنْ يُعَيِّرَنِي نِسَاءُ قُرَيْشٍ وَيَقُلْنَ : إنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى ذلِكَ الْجَزَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، لأَقْرَرْتُ بهَا عَيْنَكَ " ، فأنزلَ اللهُ تعالى { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } هِدايَتَهُ. وَقِيْلَ : إنَّكَ لا تَهدِي من أحبَبتَهُ.
و " عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَمِّهِ أبي طَالِبٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيْهِ ، وَعِنْدَهُ أبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ بَنِ الْمُغِيْرَةِ ، فَقَالَ لَهُ : " يَا عَمِّ ؛ قُلْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ أُحَاج لَكَ بهَا عِنْدَ اللهِ " فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ : أتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِب؟!
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَهُمَا يُعَاودَانِهِ عَلَى تِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ بهِ : أنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَلِب ، وَأبَى أنْ يَقُولَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي أبي طَالِبٍ ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ؛ قال الزجَّاج : (ابْتِدَاءُ نُزُولِهَا بسَبَب أبي طَالِبٍ ، وَهِيَ عَامَّةٌ ؛ لأنَّهُ لاَ يَهْدِي إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ). { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }.
(0/0)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
قَوْلُُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } ؛ أي قالت قُريش لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم : إن اتَّبَعْنَاكَ على دِينِكَ يتخطَّفُنا العربُ على أنفُسِنا أن يخرجُوا من أرضِنا مكَّة إن ترَكْنا ما يَعبُدونَ. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } أي ذا أمْنٍ يَأْمَنُ فيه الناسُ.
وذلك أن العربَ كانت يُغِيْرُ بعضُهم على بعضٍ ، وأهلُ مكَّة آمِنُونَ في الْحَرَمِ مِن القَتْلِ والسَّيفِ والغَارَةِ ؛ أي فكيفَ يخافون إذا أسْلَمُوا وهُم في حَرَمٍ آمِنُونَ. ومعنى { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } أي أوَلَمْ نَجْعَلْهُ مكاناً لَهم.
وقولهُ تعالى : { يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ ومعنى { يُجْبَىٰ } أي يحملُ الْحَرَمِ { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً }. قرأ نافعُ ويعقوب : (تُجْبَى) بالتاء لأجلِ الثَّمرات ، وقرأ الباقونَ بالياء لقولهِ { كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً } ومعنى (تُجْبَى) أي تُحْمَلُ إلى الحرمِ { ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } من مِصْرَ والشَّام واليمَنِ والعِرَاقِ.
وقولهُ تعالى : { رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } ؛ أي رزْقاً مِن عندِنا ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أنَّا فعَلْنا ذلك يعني أهلَ مكَّة ، والمعنى : أوَلَمْ يجعل أهلَ مكَّة في أمَانٍ قبلَ الإيْمَانِ يُجْبَى إلى الحرمِ ثَمَراتُ كلِّ شيءٍ نعمةً من عندِنا ، فكيفَ يخافون زوالَ الأمانِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } لأنَّهم لا يتدبَّرُون ولا يتفكَّرُون.
ثُم خوَّفَهم بمثل عذاب الأُمَمِ الخاليةِ ، فقال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } ؛ أي كم أهلَكْنا مِن أهلِ قَرْيَةٍ بَطَرَتْهَا معيشَتها ، والبَطَرُ : الطُّغيانُ عند النِّعمةِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : بَطَرَتْ في معِيشَتِها. قال عطاءُ : (عَاشُواْ فِي الْبَطْرَةِ ، فَأكَلُواْ رزْقَ اللهِ وَعَبَدُواْ الأَصْنَامَ).
وقوله تعالى : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي منازلُهم التي كانوا يسكنُونَها لَم يَسْكُنُهَا أحدٌ إلاّ المسافرونَ ومَارُّوا الطريقِ ينْزِلون ببعضِها يوماً أو ساعةً ثُم يرحَلُون. والمعنى لَمْ تُسْكَنْ مِن بعدِهم إلاَّ سُكوناً قليلاً ، { وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } ؛ أي لَم نجعَلْ لَهم أحداً بعدَ هلاكِهم في منازِلِهم ، فبقيَتْ خَراباً غيرَ مسكُونةٍ كقولهِ{ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا }[مريم : 40].
(0/0)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } ؛ معناهُ : وما كان ربُّكَ يَا مُحَمَّدُ مُعَذِّبَ القُرَى الكافرةُ أهلُها حتى يبعثَ في أعظَمِها قريةً رَسُولاً يُنذِرُهم ويقرأ عليهم آياتِنا ، وخصَّ الأعْظَمَ من القُرى ببعثةِ الرَّسُولِ فيها ؛ لأن الرَّسُولَ إنَّما يُبعَثُ إلى الأشرافِ ، وأشرافُ القومِ وملوكُهم يسكنونَ المدائنَ والمواضع التي هي أمُّ ما حولِها.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } ؛ أي ما نُهلِكُهم إلاَّ بظُلْمِهم وشِركِهم ، وَقِيْلَ : المرادُ بالقُرَى القرى التي حَوْلَ مكَّة ، والمرادُ بأُمِّها مكَّة سُميت أمُّ القُرْى ؛ لأن الأرضَ دُحِيَتْ من تحتِها.
(0/0)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)
وقولهُ تعالى : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا } ؛ تتمتَّعون بها أيَّامَ حياتِكم ثُم تنقطعُ وتفنى وتنقَضِي ، { وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ } ؛ من الثَّواب والجنة ، { وَأَبْقَى } ؛ وأدومَ لأهلهِ وأفضلَ مما أُعطِيتُمْ في الدُّنيا ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أنَّ الباقي أفضلُ من الفَانِي الذاهب. وَقِيْلَ : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } خيرَ الأمرَين فتطلبوهُ وشَرَّ الأمرَين فتتركوهُ. قرأ أبو عمرٍو (أفَلاَ يَعْقِلُونَ) بالياء.
(0/0)
أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
وقولهُ تعالى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ استفهامُ يعني التقرب ، أي كيفَ يستوِي حالُ مَن وَعَدْنَاهُ الثوابَ والجنةَ في الآخرةِ فَهُوَ لاَقِيْهِ ، وحالُ من متَّعناهُ بعَرَضِ الدُّنيا ، { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } ؛ العذابَ.
والمعنى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ } على إيْمانهِ وطاعته الجنةَ والثوابَ الجزيل { فَهُوَ لاَقِيهِ } أي مُدركُهُ { كَمَن مَّتَّعْنَاهُ } أي كمن هو مُمَتَّعٌ بشيءٍ يَفْنَى ويزول عن قريبٍ { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } النارَ. قال قتادةُ : (يَعْنِي الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ ، فَالْمُؤْمِنُ سَمِعَ كِتَابَ اللهِ وَصَدَّقَهُ وَآمَنَ بمَوعُودِ اللهِ فِيْهِ ، وَلَيْسَ كَالْكَافِرِ الَّذِي تَمَتَّعَ بالدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِيْنَ فِي عَذاب اللهِ) ، قال مجاهدُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَأبي جَهْلٍ) ، وقال السديُّ : (نَزَلَتْ فِي عَمَّار وَالْوَلِيْدِ بْنِ الْمُغِيْرَةِ).
(0/0)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } ؛ أي يُنادي اللهُ المشركينَ يومَ القيامةِ ، { فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ؛ في الدُّنيا أنَّهم كانوا شُركَائِي ، والمعنَى : واذْكُرْ يومَ يُنادَى الكفارُ وهو يومُ القيامةِ فيقولُ أيْنَ شُرَكَائِي في قولِكم ، وليس للهِ شريكٌ ، ولكن خرجَ هذا الكلامَ على ما كانوا يلفِظُون بهِ ، فيقولون : هؤلاءِ شركاءُ الله.
(0/0)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ } ؛ أي الذين حَقَّتْ عليهم كلمةُ العذاب أو وَجَبَ عليهم العذابُ وهم الرُّؤُوسُ : { رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ } ؛ يَعْنُونَ سَلَفَهُمْ وأتبَاعَهم ، { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } ؛ أي أضْلَلْنَاهُمْ كما ضَلَلْنَا ، { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ } ؛ منهم ، وَقِيْلَ : تَبَرَّأنَا بحمْلِنا إليك الضَّلال ، { مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } ما كانوا يعبدُونَنا بإكراهٍ مِن جِهَتِنَا ، وَقِيْلَ : ما كانوا يعبدُوننا بحُجَّة ولا استحقاقٍ.
(0/0)
وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
وقولهُ تعالى : { وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ } ؛ أي يقالُ لَهم : لَستُمْ تُسأَلُونَ عن الإغواءِ والغِوَايَةِ ، ولكن ادعُوا آلِهَتَكُمْ حتى يذُودوا عنكم العذابَ ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ؛ أي لَم يُجيبُوهم إلى نصرتهم { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ } ؛ أي رَأوا كلُّهم القادةُ والأتباعُ العذابَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } ؛ جوابُ (لَوْ) محذوفٌ تقديرهُ : لو أنَّهم كانوا يَهْتَدُونَ في الدُّنيا لَمَا رَأوُا العذابَ.
(0/0)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ } ؛ أي فأُلبسَتْ عليهم الأجوبةُ يومئذٍ ، ولَم يَدْرُوا ماذا يقولونَ من الفَزَعِ والتَّحَيُّرِ ، { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } ؛ لا يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً في تلكَ السَّاعة لردِّ الجواب. وَقِيْلَ : لا يسألُ أحدٌ عن حالِ أحدٍ لانشغال كلِّ واحدٍ منهم بنفسه. وَقِيْلَ : لا يسألُ أحدٌ أحداً أن يَتْرُكَ طاعةً أو يتحمَّلَ عنهُ معصيةً ، ومعنى قولهِ تعالى { فَعَمِيَتْ } أي خَفِيَتْ واشتَبهت عليهم الأنباءُ.
(0/0)
فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ؛ أي مَن تَابَ من الشِّركِ وآمَنَ وصدَّقَ بتوحيد اللهِ وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { وَعَمِلَ صَالِحاً } أي أدَّى الفرائضَ ، { فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ } ؛ أي مِن النَّاجِينَ الفائزينَ.
(0/0)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } ؛ وذلكَ أنَّ الوليدَ بن المغيرةِ كان يقولُ : لَولاَ نُزِّلَ هَذا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيْمٌ ، يعني نفسَهُ وأبا مسعودٍ الثقفيُّ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } مَن يُنَبَّؤُ للرسالةِ والنُّبوةِ ؛ أي فكما أن الخلقَ إليه يخلقُ ما يشاء ، فكذلك الاختيارُ إليهِ في جميع الأمور ، فيختارُ مِمَّنْ خَلَقَ ما يشاءُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } ؛ ابتداءُ الكلامِ نفيُ الاختيار عن المشركين ، وذلك أنَّهم اختَارُوا الوليدَ بن المغيرةِ من مكَّة وأبُو عُرْوَةَ بن مسعودٍ من الطَّائف ، فقالَ اللهُ { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ } أي ليسَ لَهم الاختيارُ على اللهِ ، ثُم نَزَّهَ اللهُ نَفْسَهُ فقالَ : { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ ومن قرأ (وَنَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةَُ) من غيرِ أنْ يَقِفَ على (وَنَخْتَارُ) ، جعلَ (مَا) بمعنى الَّذي ، كأنَّه قال :
ونَخْتَارُ الذي لَهم الْخِيَرَةُ فيصنعُ بهم ما صَلُحَ لَهم ، وأنشدَ محمودُ الورَّاقُ : تَوَكَّلْ عَلَى الرَّحْمَنِ فِي كُلِّ حَاجَةٍ أرَدْتَ فَإنَّ اللهَ يَقْضِي وَيُقَدِّرُمَتَى مَا يُرِيدُ ذُو الْعَرْشِ أمْراً بعَبْدِهِ يُصِبْهُ وَمَا لِلْعَبْدِ مَا يَتَخَيَّرُفَقَدْ يَهْلَكُ الإنْسَانُ مِنْ حَيْثُ أمْنُهُ وَيَنْجُو بحَمْدِ اللهِ من حَيْثُ يَحْذرُ
(0/0)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } ؛ أي ما تَسْتُرُ من الكفرِ والعداوة لله ولرسولهِ ؛ أي يعلمُ ما تُضْمِرُ قلوبُهم من ذلك ، { وَمَا يُعْلِنُونَ } بألسِنَتِهم من الكفرِ والمعاصي.
(0/0)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ } ؛ يستحقُّ الحمدَ في الدَّارَين ، { وَلَهُ الْحُكْمُ } ؛ أي الفَصْلُ بينَ الخلائقِ ؛ حَكَمَ لأهلِ طاعته بالمغفرةِ ، ولأهلِ معصيته بالشَّقاءِ والوَيْلِ ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ أي موضع جَزَائِهِ.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : أخبرُونِي إنْ جعلَ اللهُ عليكم الليلَ دائماً أبَداً إلى يومِ القيامة ، لا نَهار معهُ ، { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } ؛ أي بنَهَارٍ مُضِيءٍ تتصرَّفون فيه وتطلُبون فيه المعيشةَ ، { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } ؛ سَماع قَبُولٍ وتَفَهُّمٍ فتستدِلُّون بذلك على توحيدِ الله.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ أي قُل : أخْبرُونِي إنْ جَعَلَ اللهُ عليكم النهارَ دائماً ، { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } ، تستَريحُونَ فيه من الحركةِ ومن النَّصَب ؟ { أَفلاَ تُبْصِرُونَ } ؛ أدِلَّةَ اللهِ تعالى.
(0/0)
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } ؛ أي ومِن نِعْمَتِهِ عليكم أن خَلَقَ لكم الليلَ والنَّهار لتَستَرِيحوا لَيلاً ، ولتَنصَرِفوا نَهاراً ، والمعنى : { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في اللَّيل ، { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } ؛ أي ولِتَلْتَمِسُوا في النهار من فضلِ الله ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ الذي أنْعَمَ عليكم بهما.
(0/0)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ؛ فقد تقدَّم تفسيرهُ.
(0/0)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } ؛ أي وأخرَجْنا من كلِّ أُمَّةٍ رسُولَها الذي يشهدُ عليهم بالتبليغِ وما كان منهم ، { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } ؛ أي فقُلْنَا للمَشهُودِ عليهم : { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي حُجَّتَكُمْ بأنَّ معي شَريكاً ، { فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ } ؛ أي أنَّ التوحيدَ للهِ ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ } ؛ أي زالَ عنهم وبَطَلَ في الآخرةِ ، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ في الدُّنيا من قولِهم : إنَّ مع اللهِ شريكاً.
(0/0)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
قََوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ } ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : كان قارونُ ابنَ عمِّ موسَى من بني إسرائيلَ ، وكان مِن العلماءِ بالتَّوراةِ. وقال بعضُهم كان ابنَ خَالَتِهِ. وقولهُ تعالى { فَبَغَى عَلَيْهِمْ } أي بكَثْرَةِ مالهِ ، والمعنى : أنه تَطَاوَلَ على موسَى وقومه وجاوزَ الحدَّ في التَّكَبُّرِ عليهم. والبَغْيُ في اللغة : طَلَبُ الْعُلُوِّ بغيرِ حَقٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ } أي أعطيناهُ من الأموالِ الْمَجموعَةِ ما إنَّ مَفَاتِحَهُ ، قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنَ ، كَانَتْ خَزَائِنُهُ لِتَثْقَلُ بالْجَمَاعَةِ ذوي الْقُوَّةِ إذا حَمَلُوهَا).
قال بعضُهم : هو جمعُ مِفْتَاحٍ ؛ وهو ما يُفْتَحُ به البابُ ، وهذا قولُ قتادةَ ومجاهد. وَقِيْلَ : مفاتحُ جمع مِفْتَحٍ بكسرِ الميم وهي المفتاحُ ، فجمعهُ مفاتيحُ. قال خَيَثَمَةُ : (كَانَتْ مَفَاتِيْحُ قَارُونَ مِنْ جُلُودٍ ، كُلُّ مِفْتَاحٍ مِثْلُ الإصْبَعِ ، مِفْتَاحُ كُلِّ خِزَانَةٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَإذا رَكِبَ حَمَلَ الْمَفَاتِيحَ عَلَى سِتِّيْنَ بَغْلاً). وقال ابنُ عبَّاس : (كَانَ يَحْمِلُ مَفَاتِيْحَهُ أرْبَعُونَ رَجُلاً أقْوَى مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ).
ومعنى قولهِ تعالى { لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ } وإنَّما العُصْبَةُ تَنُوءُ بالمفاتيحِ ؛ أي يثقُلُ في حَملِها ، قِيْلَ : هذا شائعٌ في الكلامِ كما يقالُ : عَرَضَتِ الناقةُ على الحوضِ ، وإنَّما يعرضُ الحوض عليها ، ولا تعرضُ الناقةُ على الماءِ. والكَنْزُ في اللُّغة : اسمٌ لِلمَالِ الذي يُجْمَعُ بعضهُ على بعضٍ ، وإذا أُطْلِقُ أُريدَ به ما يُخَبَّأُ تحتَ الأرضِ.
وقال خَيْثَمَةُ : (وَجَدْتُ فِي الإنْجِيْلِ : أنَّ مَفَاتِيْحَ خَزَائِنِ قًارُونَ وقرُ سِتِّينَ بَغْلاً غُرّاً مُحَجَّلَةً). وَقِيْلَ : إنَّها كانت من جُلودِ الإبلِ ، وكانت من حديدٍ ، فلما ثَقُلَتْ عليه جُعلَتْ من خَشَبٍ ، فلما ثَقُلَتْ عليه جُعلت من جُلودٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ } ؛ قال له قومهُ مِن المؤمنين من بني إسرائيل : لا تَفْرَحْ بالكُنُوزِ والمالِ ولا تَأْشَرْ ولا تَبْطَرْ ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } ؛ أي الأَشِرِيْنَ البَطِرِيْنَ الذين لا يشكُرونَ اللهَ على ما أعطاهم. والفَرَحُ إذا أُطْلِقَ أُريدَ الْمَزْحُ الذي يخرجُ إلى البَطَرِ ، ولذلكَ قالَ : { لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } ، وقال{ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ }[هود : 10] ، وأما قولهُ{ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ }[آل عمران : 170] فهو بهدايَةِ النَّفسِ وهو حسنٌ جميل ، قال الشاعرُ : وَلَسْتُ بمِفْراحٍ إذا الدَّهْرُ سَرَّنِي وَلاَ جَازعٍ مِنْ صَرْفَهِ الْمُتَقَلَّب
(0/0)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ } ؛ أي واطلُبْ فيما أعطاكَ اللهُ من الأموالِ والنِّعمةِ الجنَّةَ ، وهو أن يقومَ بشُكْرِ اللهِ فيما أنعمَ اللهُ ويُنْفِقَهُ في رضَا اللهِ ، وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } ؛ أي ولا تَنْسَ لتعمَلَ لآخرتِكَ ، وقال الحسنُ (أنْ يُقَدِّمَ الْفَضْلَ وَأنْ يُمْسِكَ مَا يُغْنِيْهِ).
وقولهُ : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ؛ أي أحْسِنْ إلى الفُقراءِ والمساكين ، كَمَا أحْسَنَ اللهُ إلَيْكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : أطِعِ اللهَ واعْبُدْهُ كما أنعمَ عليكَ ، { وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي ولا تَعْمَلْ في الأرضِ بالمعاصِي ومخالفةِ موسى عليه السلام ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ }.
(0/0)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي } ، قال عطاءُ : (فَكَفَرَ قَارُونُ لَمَّا رَأى أنَّ الْمَالَ حَصَلََ لَهُ بعِلْمِهِ وَلَمْ يَرَ ذلِكَ مِنْ عَطَاءِ اللهِ). والمعنى : قال قارونُ : إنَّما أعطيتُ هذا المالَ على عِلْمٍ عندي بوجوهِ الاكتساب والتِّجارات لا يعلمُها أحدٌ غيرِي.
وَقِيْلَ : معناهُ : على عِلْمٍ عندي يعني لفَضْلِ عِلمِي ، فكنتُ أهلاً لِمَا أُعطِيتهُ ، وكان أقرأهم للتوراةِ ، والمعنى : فضَّلَنِي اللهُ عليكم بهذا المالِ ، لفَضْلِي عليكم بالعلمِ ، يعني علمَ الكيمياءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } ؛ معناهُ : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ } هذا المسكينُ الذي قد أعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وما مَلَكَ من الدُّنيا يعني قارونَ { أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ } بالعذاب { مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ } حين كذبوا رسولَهُ { مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } { وَأَكْثَرُ جَمْعاً } ؛ للمالِ والْخَدَمِ والْحَشَمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } ؛ معناهُ : لا يُسْئَلُ الْمُجرمونَ عن ذُنوبهم في الآخرةِ ، فإنَّهم يُعرَفُونَ بسِيمَاهُمْ. قال قتادةُ : (إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بغَيْرِ حِسَابٍ).
وأما قوله تعالى{ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[الحجر : 92] فإنَّهم يُسئَلُونَ سُؤالَ تَقْرِيْعٍ وتَوْبيْخٍ ، كما قال الحسنُ في معنى هذه الآيةِ (أنَّهُمْ لاَ يُسْئَلُونَ سُؤَالَ الاخْتِيَار لِيَعْلَمَ ذلِكَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَإنَّمَا يُسْئَلُونَ سُؤَالَ التَّوْبيْخِ وَالْمُنَاقَشَةِ).
(0/0)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } ؛ قال السديُّ : (خَرَجَ فِي جَوَارٍ بيْضٍ : عَلَى سُرُوجٍ مِنْ ذهَبٍ ؛ عَلَى قِطَفِ أُرْجُوَانٍ ؛ " وَهُنَّ " عَلَى بغَالٍ بيْضٍ عَلَيْهُنَّ ثِيَابٌ حُمْرٌ وَحُلِيٌّ مِن ذهَبٍ). وقال مقاتلُ : (خَرَجَ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ عَلَيْهَا سَرْجٌ مِنْ ذهَبٍ عَلَيْهِ الأُرْجُوَانُ ، وَمَعَهُ أرْبَعَةُ آلاَفِ فَارسٍ عَلَى الْخَيْلِ ، عَلَيْهِمْ وَعَلَى دَوَابهِمُ الأُرْجُوَانُ ، وَمَعَهُ ألْفُ جَاريَةٍ عَلَى بغَالٍ شُهْبٍ سُرُوجُهُنَّ الذهَبُ ؛ وَلِبَاسُهُنَّ أُرْجُوَانٌ أحْمَرُ ، عَلَيْهِنَّ الْحِلِيَّ وَالْحُلَلَ).
وقال ابن زَيدٍ : (خَرَجَ فِي سَبْعِيْنَ ألْفاً عَلَيْهِمُ الْمُعَصْفَرَاتُ). وهذا معنَى الْحَسَنِ في ثِيَابٍ صُفْرٍ. قال الزجَّاجُ : (الأُرْجُوَانُ فِي اللُّغَةِ صَبْغٌ أحْمَرُ ، فرُوي أنه كان عليهم وعلى خُيولِهم الدِّيباجُ الأحمرُ) ، قال : (وكَانَ ذلِكَ أوَّلَ يَوْمٍ رُؤيَتِ الْمُعَصْفَرَاتُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } ؛ أي قال مُؤمِنُوا أهلِ ذلك الزَّمانِ لَمَّا رأوا تلكَ الزينةَ والجمالَ ، { يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } ؛ من المالِ ، { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ؛ أي ذُو نَصِيبٍ وافرٍ من الدُّنيا ، وكان الذين تَمَنَّوا هذه الأُمْنِيَةَ القومُ الذين يرغَبُون في الدُّنيا ويتمَنَّونَها.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } ؛ أي قال العلماءُ العاملونَ الرَّاغبون في الآخرةِ للَّذينَ تَمَنَّوا ما أُوتِيَ قارونُ : (وَيْلَكُمْ! ثَوَابُ الله خَيْرٌ) أي ارْتَدِعُوا عن مقالَتِكم ؛ فإنَّ ثوابَ اللهِ في الآخرة خيرٌ لِمن آمَنَ وعَمِلَ صالحاً ، وقامَ بالفرائضِ خيرٌ مما أُعِطَي قارونُ في الدُّنيا ، وخيرٌ مِن الدُّنيا وما فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ } ؛ أي لاَ يؤتَى الأعمالَ الصالحة ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَمِلَ صَالِحاً }[الفرقان : 71] ، وقال الكلبيُّ : (وَلاَ يُعْطَاهَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ الصَّابرونَ عَلَى أمْرِ اللهِ) أي الْجَنَّةَ ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثَوَابُ اللَّهِ }.
(0/0)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ } ؛ أي فخَسَفْنَا بقارونَ وقَصْرِهِ الذي بَنَاهُ عقوبةً له على كُفرهِ ، وذلك أنَّهُ لَمَّا أضافَ النِّعَمَ التي أعطاهُ اللهُ إياها إلى فعلِ نفسه وعملهِ ، ولَم يَنْسِبْهَا بتَسهِيل اللهِ ذلكَ عليهِ ؛ صارَ كافراً بنِعَمِ اللهِ.
وَقِيْلَ في سَبَب خسفهِ : أنه لَمَّا حَسَدَ موسى وهارونَ دعَا امرأةً ذاتَ جمالِ معروفةً بالفُجُور ، وجعلَ لَها ألفَ دِرهَم - وَقِيْلَ : ألْفَ مِثْقَالٍ - وقالَ لَها : إنِّي أخلِطُكِ بنسائي على أن تَقذِفِي موسَى بنفسكِ غداً إذا حَضَرَ بنُو إسرائيلَ ، وتذْكُري أنه راوَدَكِ عن نفسكِ! فأجابَتْ قارونَ إلى ذلك ، فلمَّا كان مِن الغَدِ ، جَمَعَ قارونُ بني إسرائيلَ ، ثُم أتَى مُوسَى فقال لهُ : إنَّ بني إسرائيلَ قد اجتمَعُوا ينظرونَ خُروجَهم لتَأْمُرَهم وتَنْهَاهُمْ.
فخرجَ مُوسَى فقامَ فيهم يَعِظُهُمْ ويأمُرُهُمْ بالمعروفِ ويناهم عن الْمُنْكَرِ ، قالَ : يَا بَنِي إسْرَائِيْلَ ؛ مَنْ سَرَقَ قَطَعْنَاهُ ، وَمَنِ افْتَرَى جَلَدْنَاهُ ثَمَانِيْنَ ، وَمَنْ زَنَى وَلَيْسَتْ لَهُ امْرَأةٌ جَلَدْنَاهُ مِائَةً ، وَمَنْ زَنَى وَلَهُ امْرَأةٌ رَجَمْنَاهُ حَتَّى يَمُوتَ. قال قارونُ : وإنْ كُنْتَ أنْتَ؟! قالَ : وإنْ كُنْتُ أنَا. قال : فإنَّ بني إسرائيلَ يَزعُمُونَ أنَّكَ فَجَرْتَ بفُلانَةٍ! فقال مُوسَى : ادْعُوهَا ، فَدَعَوْهَا وقد ألْهَمَها اللهُ التوبةَ والتوفيقَ ، فقالت في نفسِها : لإنْ أُحْدِثَ الْيَوْمَ تَوْبَةً خَيْرٌ مِنْ أنْ يُؤْذى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فجَاءوا بها وقد عَقَدوا مَجلِساً استَحْضَرَ فيه قارونُ الخاصَّ والعامَّ ، فقال قارونُ للمرأةِ : ما تَقُولِيْنَ ؟ قالت : يَا وَيْلاَهُ! قَدْ عَمِلْتُ كُلَّ فَاحِشَةٍ ، وما بَقِيَ إلاَّ أنْ أفْتَرِي على نَبيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وأنَا أبْرَأُ إلى اللهِ مِن ذلكَ.
ثُم أخْرَجَتْ خَريطَتين مَملُوءَتين دَرَاهِمَ وعليهما خاتَمُ قارونَ ، فقالَتْ : يا أيُّها الْمَلأُ ؛ إنَّ قارونَ أعطانِي هَاتَين الخريطتَين على أنْ آتِي جماعتَكم فأَزْعُمَ أنَّ موسى رَاودَنِي عن نفسِي ، ومَعَاذ اللهِ أنْ افْتَرِيَ على نبيِّ الله ، وأنا أبْرَأُ إلى اللهِ مِن ذلك وهذهِ دراهِمهُ وعليها خاتَمهُ.
فعَرَفَ بنُو إسرائيلَ خاتَم قارونَ ، فَافْتُضِحَ قارونُ بين أولئِكَ القومِ ، وغَضِبَ مُوسَى عليه السلام فَخَرَّ ساجداً يَبْكِي وهو يقولُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ رسُولَكَ فَاغْضَبْ لِي.
فأوحَى اللهُ إليه أنِّي قد أمَرْتُ الأرضَ تُطِيعُكَ فَمُرْهَا بما شِئْتَ ، فقال مُوسَى عليه السلام : يا أرضُ خُذِيْهِ ، فأخذتْهُ إلى كَعْبهِ ، ثُم قَالَ : يا أرضُ خُذِيهِ ، فأخذتهُ إلى رُكبَتيهِ ، فَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ ، فقالَ : يا أرضُ خُذِيهِ ، فأخذتْهُ حتى غَيَّبَتْ حِقْوَتَهُ ، فتضرَّعَ إلى مُوسَى وناشدَهُ الرَّحِمَ ، فلَمْ يسمَعْ تَضرُّعَهُ ، فقالَ : يا أرضُ خُذِيهِ ، فأخذْتْهُ حتى غَيَّبَتْهُ.
فرُوي أنهُ استغاثَ بموسَى وناشدَهُ سبعينَ مرَّة ، فلَمْ يلتفِتْ موسَى إلى ذلكَ ، فأوحَى اللهُ إلى موسى : ما أفَظَّكَ وأغلَظَ قلبَكَ! استغاثَ بكَ قارونُ سبعين مرَّةً فلم ترحَمْهُ ولَم تُغِثْهُ ، وعِزَّتِي وجَلالِي لوِ استغاثَ بي لأغثتهُ ، ولو دعانِي لوجدَنِي قريباً مُجيباً.
(0/0)
وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } ؛ أي أصبحَ الذين تَمَنَّوا منْزِلتَهُ ومالَهُ بالأمسِ حين رأوهُ في زينتهِ يندَمُون على ذلك التَّمَنِّي ، يقول بعضُهم لبعضٍ بعد ما خُسِفَ به (وَيْ) هذه كلمةُ تَنْبيْهٍ ومعناها : أمَا تَرَوْنَ؟.
قال مجاهدُ : (وَسَبيْلُهَا سَبيْلُ : أمَا تَعْلَمُ) وَيُحْكَى أنَّ امْرَأةً مِنَ الْعَرَب قَالَ لَهَا زَوْجُهَا : أيْنَ أبُوكِ ، قَالَتْ : لَهُ وَيْكَأَنَّهُ وَرَاءَ هَذا الْبَيْتِ ، يعني أما ترَى أنه رواءَ هذا البيتِ.
وذهبَ بعض النَّحوِيِّين إلى أنَّ قولَ الرجُل : وَيْكَأَنَّهُ ، بمنْزِلة : وَيْلَكَ إعْلَمْ. وقال الخليلُ ويونسُُ : (وَيْ مَفْصَُولَةٌ مِنْ كَأنَّ ، وَ(وَيْ) كلمةُ تَنَدُّمٍ وَتَنْبيْهٍ ، وَ(كَأنَّ) فِي هَذا الْمَوْضِعِ بمَعْنَى الظَّنِّ وَالْعِلْمِ) كأنَّهُم لَمَّا رأوا الخسفَ تكلَّمُوا على قدر عِلمِهم ، وقالوا : كأنَّ اللهُ يبسطُ الرِّزقَ لِمن يشاءُ لا لكرامتهِ عليه ، ويضيِّقُ على مَن يشاءُ لا لِهوانهِ عليه.
وقولهُ تعالى : { لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } ؛ أي لَولاَ أن مَنَّ اللهُ علينا بالعافيةِ والرَّحمةِ والإيْمانِ لَخُسِفَ بنا. وقرأ يعقوبُ وحفص : (لَخَسَفَ) بفتح الخاءِ والسِّين ؛ أي لَخَسَفَ اللهُ بنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ؛ أي أمَا ترَى أنه لاَ يُسْعَدُ من كَفَرَ باللهِ.
(0/0)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
قًَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً } ؛ المرادُ بالدَّار الْجَنَّةُ ، { نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً } على خَلْقِي { فِي الأَرْضِ } ولَم يتكَبَّروا كما تَكَبَّرَ قارونُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ فَسَاداً } أي ولا دُعاءً إلى عبادةِ غيرِ الله. وَقِيْلَ : ولا فَسَاداً ولا عمَلاً بالمعاصِي. وَقِيْلَ : هو أخذُ المالِ بغيرِ الحقِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ أي العاقبةُ الحميدة لِمَنِ اتَّقَى عقابَ اللهِ بأداء فرائضهِ واجتناب معاصيهِ. وَقِيْلَ : الذين يَتَّقُونَ الكفرَ والعُلُوَّ والفسادَ.
وعن كعبٍ رضي الله عنه أنه قال : " " يُحْشَرُ الْمُتَكَبرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَالذرِّ فِي صُوَر الرِّجَالِ ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ، يَسْلُكُونَ فِي النَّار وَيُسْقَوْنَ مِنْ طِيْنَةِ الْخَبَالِ " قِيْلَ : وَمَا طِيْنَةُ الْخَبَالِ ؟ قًَالَ : " عُصَارَةُ أهْلِ النَّارِ " والمرادُ بالتَّكَبُّرِ : أنْ يكون التكبُّرُ لأمرٍ يرجعُ إلى الدُّنيا ، فإمَّا يكون مِن ذلك لإزالةِ المنكَرِ وإقامةِ حَقٍّ من حقوقِ الله ، فلا يكونُ ذلكَ من التَّكَبُّرِ في شيءٍ ، وإنَّما هو تَمَسُّكٌ بالدِّينِ.
(0/0)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي ومَن جاءَ بالسَّيئَةِ فلا يُزاد في عقوبتهِ أكثرَ مِما يستحقُّهُ. والمعنى : أنَّ الذين أشْرَكُوا يُجْزَوْنَ بما كانوا يعملونَ من الشِّركِ وجزاؤُهم النارُ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } ؛ معناهُ : إنَّ الذي فَرَضَ عليك العملَ بالقُرْآنِ لرَادُّكَ إلى بَلَدِكَ يعني مكَّة ، فإنَّ مَعَادَ الرجُلِ بَلَدُهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : (إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنْزَلَ عليكَ القُرْآنَ. وقال الزجَّاجُ : (فَرَضَ عَلَيْكَ الْعَمَلَ بمَا يُوجِبُهُ الْقُرْآنُ). تقديرُ الكلامِ : فَرَضَ عليكَ أحكَامَ القُرْآنِ أو فرائضَ القُرْآنِ { لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } يعني مكَّة.
قال مقاتلُ : " خَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْغَار لَيْلاً ، ثُمَّ هَاجَرَ مِنْ وَجْهِهِ ذلِكَ إلَى الْمَدِيْنَةِ ، فَسَافَرَ فِي غَيْرِ طَرِيْقٍ مَخَافَةَ الطَّلَب ، فَلَمَّا أمِنَ رَجَعَ إلَى الطَّرِيْقِ ، فَنَزَلَ بالْجُحْفَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِيْنَةَ ، وَعَرَفَ الطَّرِيْقَ إلَى مَكَّةَ فَاشْتَاقَ إلَيْهَا ، وَذَكَرَ مَوْلِدَهُ وَمَوْلِدَ آبَائِهِ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيْلُ فَقَالَ لَهُ : أتَشْتَاقُ إلَى بَلَدِكَ وَمَوْلِدِكَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ جِبْرِيْلُ : فََإنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ } يَعْنِي إلَى مَكَّةَ ظَاهِراً عَلَيْهَا " ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ بالْجُحْفَةِ ، فَلَيْسَتْ بمَكِّيَّةٍ وَلاَ مَدَنِيَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هذا جوابُ كُفار مكَّة لَمَّا قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّكَ في ضلالٍ مُبين! يعني المشركينَ. والمعنى : إنَّ الله قد عَلِمَ أنِّي جئتُ بالْهُدَى وإنَّكم لَفِي ضلالٍ مُبين.
(0/0)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } معناهُ : ما كنتَ يا مُحَمَّدُ تَرْجُو أنْ يُوحَى إليكَ القُرْآنُ وأنك تكونُ نَبيّاً تتلُو على أهلِ مكَّة قَصَصَ الأوَّلين ، إلاَّ أنَّ ربَّكَ رحِمَكَ وأرادَ بك الخيرَ ، فأوحَى إليك الكتابَ وأكرمَكَ بالنبوَّة نعمةً منهُ عليكَ ، { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً } ؛ أي عَوْناً { لِّلْكَافِرِينَ } ؛ على دِينهم ، وذلك حين دَعَوْهُ إلى دِين آبائهِ فذكَّرَهُ اللهُ النعمةَ. ونَهاهُ عن مُظاهرَتِهم على ما كانوا عليه وأمَرَهُ بالتَّحذُر منهم.
(0/0)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } ؛ أي لا يَصْرِفَنَّكَ عن العملِ بآيات الله بعدَ إذْ أُنْزِلَتْ إليكَ ، { وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ } ؛ أي إلى طاعتهِ ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (الْخِطَابُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بهِ أهْلُ دِيْنِهِ) أي لا تُظاهِرُوا الكفَّارَ ولا توافِقُوهم.
(0/0)
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ أي لا تَعْبُدُ أحَداً سِوَى اللهِ ولا تَدْعُ الْخَلْقَ إلى أحدٍ دون اللهِ ، وقولهُ تعالى : { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ لا معبودَ سِوَاهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ؛ أي إلاَّ هو. وانتصبَ قولهُ (وَجْهَهُ) على الاستثناءِ كأنه قالَ : إلاّ إيَّاهُ ، وقال عطاءُ : (مَعْنَاهُ : كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ مَا أُريْدَ بهِ وَجْهَهُ ، وَكُلُّ عَمَلٍ لِغَيْرِهِ فَهُوَ هَالِكٌ إلاَّ مَا كَانَ لَهُ).
وقولهُ تعالى : { لَهُ الْحُكْمُ } ؛ أي الْفَصْلُ بين الخلائقِ دونَ غيرهِ ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ في الآخرةِ فيجزِيَكم بأعمالِكم ، واللهُ أعلَمُ بالصَّواب وإليه المرجِعُ والْمَآبُ.
(0/0)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{ الـم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ (ألم). فمَن جعلَ هذه الحروفَ التي في أوائلِ السُّورة قَسَماً ، احتملَ أن يكون جوابُ القَسَمِ في قولهِ : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ }[العنكبوت : 3] ؛ واحتملَ أن يكون{ فَلَيَعْلَمَنَّ }[العنكبوت : 3].
وقولهُ تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ } لفظةُ استخبارٍ ، ومعناهُ التوبيخُ والتقرير ، كأنه قالَ : أظَنُّوا أن نقنَعَ منهم بأنْ يقولُوا آمَنَّا فقط ولا يُمتَحَنُونَ بالأوامرِ والنَّواهي والتَّكليفِ ، ولا يُختَبَرُونَ بما يعلم أنه صِدْقُ إيْمانِهم.
قال الحسنُ رضي الله عنه : (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمَّا أُصِيْبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتِ الْكَرَّةُ عَلَيْهِمْ ، عَيَّرَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بذلِكَ ، فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). قال السديُّ وقتادة ومجاهدُ : (مَعْنَاهُ : أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُواْ أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) فِي أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ بالْقَتْلِ وَالتَّعْذِيْب).
وقال مقاتلُ : ( " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَهْجَعِ بْنِ عَبْدِاللهِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه وَكَانَ أوَّلَ قَتِيْلٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ يَوْمَ بَدْرٍ ، رَمَاهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ بسَهْمٍ فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ النَّبيُّ : " سَيِّدُ الشُّّهَدَاءِ مَهْجَعُ ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلى بَاب الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " فَجَزِعَ عَلَيْهِ أبَوَاهُ وَامْرَأتَهُ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ وَأخْبَرَ أنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْبَلاَءِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ذاتِ اللهِ).
(0/0)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ فيه تَسْلِيَةٌ للمؤمنينَ ، معناهُ : ولقد امْتَحَنَّا الذين مِن قَبْلِهم ، { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الصادقَ بوقوعِ صِدْقِهِ منه بالصَّبرِ على ما يُؤْمَرُ به ، والكاذبَ بوقُوعِ كَذِبٍ منهُ وَالْجَزَعِ والمخالفةِ في القِتَالِ الذي يُؤمَرُ به ، فاللهُ تعالى قد عَلِمَ الصادقَ مِن الكاذب قَبْلَ أنْ يخلُقَهم ، ولكن القصدَ من الآية قصدُ وُقُوعِ العلمِ بما يُجازَى عليه ؛ لأنَّ عِلْمَ الشَّهادةِ هو الذي يجبُ به الجزاء ، فأما عِلْمُ الغيب قَبْلَ وقُوعهِ فلا يحلُّ به الجزاءُ.
وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْهُمْ إبْرَاهِيْمُ الْخَلِيلُ عليه السلام ابْتُلِيَ بالنَّمْرُودِ ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ بَعْدَهُ نُشِرُواْ بالْمَنَاشِيْرِ عَلَى دِيْنِ اللهِ فَلَمْ يَرْجِعُواْ عَنْهُ). وقال بعضُهم : يعني بَنِي إسرائيلَ ابْتُلُوا بفرعونَ فكان يسُومُهم سوءَ العذاب.
(0/0)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
قولهُ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } معناهُ : أظَنُّوا { الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } يعني الشِّركَ ، قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي الْوَلِيْدَ بْنَ الْمُغِيْرَةِ وَأبَا جَهْلٍ وَالأَسْوَدَ وَالْعَاصَ بْنَ هِشَامٍ وَغَيْرَهُمْ). { أَن يَسْبِقُونَا } أي أن يَفُوتُونَا ويُعجِزُونا { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئْسَ ما حَكَمُوا لأنفُسِهم حين ظَنُّوا ذلك.
وَقِيْلَ : إنَّ هذه الآية نزلت في عُتْبَةَ بنِ رَبيْعَةَ وأخيهِ شَيْبَةَ ، وفي الوليدِ بن عُتبةَ وغير الذين بَارَزُوا عَلِيّاً وحمزةَ وعُبيدةَ بن الحارثِ يومَ بَدْرٍ ، فقُتِلُوا على أيديهم يومئذٍ.
(0/0)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ } ؛ أي مَن كان يطمعُ في الثَّواب ويخشَى العقابَ ويخافُ الحسابَ ، فَلْيُبَادِرْ إلى طاعةِ الله قبلَ الموتِ ، { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ } ؛ أي فإن أجلَ الموت لآتٍ لِمن يرجُو ، ولِمن لا يرجو ، وإنَّ ثوابَ العملِ الصالح لقريبٌ { وَهُوَ السَّمِيعُ } ؛ لِمقالَةِ الكُفَّار والمؤمنين ، { الْعَلِيمُ } ؛ بما يستحقُّه كلُّ واحد منهم وَقِيْلَ : إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ قَالَ : " يَا عَلِيَّ ؛ يَا فَاطِمَةَ : إنَّ اللهَ قَدْ أنْزَلَ : مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لآتٍ ، وََإنَّ حَقِيْقَةَ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ أنْ يَسْتَعِدَّ الإنْسَانُ لأَجَلِ اللهِ إذا كَانَ آتِياً باتِّبَاعِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَاب مَعَاصِيهِ ".
(0/0)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } ؛ أي مَن يعملُ الخيرَ فإنَّما يعملُ لنفسهِ ، { إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ؛ أي عن أعمَالِهم وعبادتِهم ، { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } ؛ بالإيْمانِ والتوبةِ ، ومعنى { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي لنبطلنَّها حتى كأنَّها لَم تُعْمَلْ ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي نَجزيهم بأحْسَنِ أعمالِهِم وهي الطاعةُ ، ولا نَجزيهم بمساوئ أعمَالِهم.
(0/0)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } ؛ نزلت هذه الآيةُ في سعدِ بن أبي وقَّاص ، وكان بارّاً بأُمه ، فلما أسْلَمَ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ حُمْنَةُ بنتُ أبي سُفيانَ بنِ أُميَّة : يَا سَعْدَ ؛ بَلَغَنِي أنَّكَ قَدْ صَبَأْتَ! فَوَاللهِ لاَ يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ ، وَإنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
فَأَبَى سَعْدٌ عَلَيْهَا ، وَبَقِيَتْ هِيَ لاَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْرَبُ وَلاَ تَسْتَظِلُّ بشَيْءٍ ، فَمَكَثَتْ يَوْماً وَلَيْلَةً لاَ تَأْكُلُ ، فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ ثُمَّ مَكَثَتْ يَوْماً وَلَيْلَةً أُخْرَى لاَ تَأْكُلُ وَقَالَتْ : يَا سَعْدَ لَتَدَعَنَّ دِيْنِكَ هَذِهِ أوْ لاَ آكُلَ وَلاَ أشْرَبَ حَتَّى أمُوتَ فَتُعَيَّرُ بي ، فَيُقَالُ : يَا قَاتِلَ أُمِّهِ! فَقَالَ سَعْدٌ : يَا أُمَّاهُ لَوْ كَانَتْ لَكِ مِائَةُ نَفْسٍ فَخَرَجَتْ نَفْساً نَفْساً مَا تَرَكْتُ دِيْنِي هَذا لِشَيْءٍ ، فَإنْ شِئْتِ أنْ تَأْكُلِي ، وَإنْ شِئْتِ فَلاَ تَأْكُلِي. فَلَمَّا رَأتْ ذلِكَ أكَلَتْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناها : ووصَّينا الإنسانَ بالبرِّ والإحسانِ إلى وَالِدَيهِ وقُلنا له : وإنْ طَلَبَا منكَ أن تُشْرِكَ بي ما ليسَ لك بهِ عِلْمٌ فلا تُطِعْهُمَا ، فإنَّ طاعتَهما في الإشْرَاكِ والمعصيةِ " ليس " من باب الحسن ، بل هي قبيحةٌ. قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ".
وقولهُ تعالى : { إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } ؛ مُنْقَلَبُكُمْ في الآخرةِ ، { فَأُنَبِّئُكُم } ؛ فأُخبرُكم ، { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا من الخيرِ والشرِّ والبرِّ والعُقوقِ.
واختلفَ النُّحاةُ في نصب قولهِ { حُسْناً } ، فقال البصرِيُّون : بنَزْعِ الخافضِ ؛ تقديرهُ : ووصَّينا الإنسانَ بالْحُسْنِ ، كما يقالُ : وَصِّيهِ خَيْراً ؛ أي بخَيْرٍ ، وقال الكوفِيُّون : ووصَّينا الإنسانَ أن يفعلَ حُسناً ، فحذفَهُ لدلالةِ الكلام عليه. وَقِيْلَ : هو مثلُ قولهِ{ فَطَفِقَ مَسْحاً }[ص : 33] أي يمَسْحُ مَسْحاً. وَقِيْلَ : معناهُ : ألْزَمْنَاهُ حُسناً. وقرأ أبو رجَاءٍ : (حَسَناً) بفتح الحاء والسين ، وفي مُصحَفِ أُبَيٍّ : (إحْسَاناً).
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ } أي في زُمرَةِ الأنبياءِ والأولياء ، وَقِيْلَ : خواصِّ أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
قولهُ : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } ؛ رُوي أنَّ هذه الآيةَ نزلت في عيَّاشِ بنِ أبي ربيعةَ ، كَانَ أسْلَمَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أُمِّهِ وَأخَوَيْهِ لأُمِّهِ وَهُمَا أبُو جَهْلٍ وَالْحَارثِ.
فَخَرَجَ عَيَّاشُ بَعْدَ مَا أعْلَنَ إسْلاَمَهُ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبيِّ صلى الله عيله وسلم ، وَبَلَغَ أُمَّهُ الْخَبَرَ فَجَزِعَتْ جَزَعاً شَدِيْداً ، وَامْتَنَعَتْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرََاب ، فَخَرَجَ أخَوَاهُ وَقَوْمَهُ فِي طَلَبهِ ، فَأَخَذُوهُ وَقَيَّدُوهُ ، وَحَلَفَتْ أُمُّهُ أسْمَاءُ بنْتُ مَخْرَمِ بْنِ أبي جَنْدَلٍ باللهِ : لاَ أحُلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ ، ثُمَّ أقْبَلَتْ تَجْلِدُهُ بالسِّيَاطِ وَتُعَذِّبُهُ حَتَّى كَفَرَ جَزَعاً مِنَ الضَّرْب ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
قال مقاتلُ والكلبيُّ : (لَمَّا هَاجَرَ عَيَّاشُ إلَى الْمَدِيْنَةِ خَوْفاً مِنْ أُمِّهِ وَأخَوَيْهِ ، حَلَفَتْ أُمُّهُ أسْمَاءُ بنْتُ مَخْرَمِ بْنِ أبي جَنْدَلٍ ألاَّ تَأْكُلَ وَلاَ تَشْرَبَ وَلاَ تَغْسِلَ رَأسَهَا وَلاَ تَدْخُلَ بَيْتاً حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا ابْنُهَا ، فَلَمَّا رَأى ابْنَاهَا أبُو جَهْلٍ وَالْحَارثُ ابْنَا هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَا عَيَّاشٍ لأُمِّهِ - جَزَعَهَا ، فرَكِبَا فِي طَلَبهِ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ فَلَقِيَاهُ.
فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ : قَدْ عَلِمْتَ أنَّكَ أحَبَّ إلَى أُمِّكَ مِنْ جَمِيْعِ أوْلاَدِهَا ، وَكُُنْتَ بَارّاً بهَا ، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ وَلاَ تَشْرَبُ وَلاَ تَدْخُلُ كِنّاً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا ، وَأنْتَ تَزْعُمُ أنَّ فِي دِيْنِكَ برَّ الْوَالِدَيْنِ ، فَارْجِعْ إلَيْهَا فَإنَّ رَبَّكَ الَّذِي تَعْبُدُهُ بالْمَدِيْنَةِ هُوَ رَبُّكَ بمَكَّةَ فَاعْبُدْهُ بهَا. فَلَمْ يَزَالاَ بهِ حَتَّى أخَذ عَلَيْهِمَا الْمَوَاثِيْقَ أنْ لاَ يُحَرِّكَانِهِ وَلاَ يَصْرِفَانِهِ عَنْ دِيْنِهِ ، فَأَعْطَيَاهُ الْمَوَاثِيْقَ فَتَبعَهُمَا ، فَلَمَّا خَرَجُواْ بهِ مِنَ الْمَدِيْنَةِ أخَذاهُ وَأوْثَقَاهُ وَضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ حَتَّى تَبْرَّأ مِنْ دِيْنِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم جَزَعاً مِنَ الضَّرْب.
وَكَانَ الْحَارثُ أشَدَّهُمَا عَلَيْهِ وَأسْوَأهُمَا قَوْلاً فِيهِ ، فَحَلَفَ عَيَّاشُ باللهِ لَئِنْ قَدِرَ عَلَيْهِ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ ، فَلَمَّا رَجَعُواْ إلَى مَكَّةَ مَكَثُواْ حِيْناً ، ثُمَّ هَاجَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ ، فَهَاجَرَ عَيَّاشُ وَأسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلاَمُهُ.
ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى وَفَّقَ الْحَارثَ بْنَ هِشَامٍ فَهَاجَرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَبَايَعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإسْلاَمِ ، وَلَمْ يَحْضُرْ عَيَّاشُ ، فلَقِيَهُ عَيَّاشُ يَوْماً بظَهْرِ قِبَاء وَلَمْ يَعْلَمْ بإسْلاَمِهِ ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ يَظُنُّ أنَّهُ كَافِرٌ ، فَقِيْلَ لَهُ : إنَّهُ قَدْ أسْلَمَ ، فَنَدِمَ وَاسْتَرْجَعَ وَبَكَى ، ثُمَّ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً }[النساء : 92].
ومعنَى الآيةِ : ومِن الناسِ مَن يقولُ آمَنَّا باللهِ ، فإذا عُذِّبَ في طاعةِ الله جَعَلَ تعذيبَ الناسِ كتعذيب الله ، فأطاعَ الناسَ خوفاً منهم ، كما يطيعُ الله مَن خافَ عذابَهُ.
قولهُ : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } ؛ أي إذا جاء فَتْحٌ مِِن ربكَ { لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } وهذه صفةُ المنافقين ، يقولُ اللهُ تعالَى : { أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } ؛ أي بما في قلُوب الْخَلْقِ من الطُّمأنينَةِ بالإيْمانِ والانشراحِ بالكُفرِ ، { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي لِيَجْزِيَ اللهُ المؤمنين ، { وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } ؛ ولَيُمَيِّزَنَّ المنافقينَ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
قولهُ : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا } ؛ معناهُ : قال كفارُ مكَّة أبو جهلٍ وغيرهُ ، لِمَنْ آمَنَ مِن قريشٍ ، واتَّبعَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم : إتَّبعُوا دِينَنَا وَمِلَّةَ آبَائِنَا ، { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } ، ونحنُ الكفلاءُ بكُلِّ تَبعَةٍ تصيبُكم من اللهِ في ذلك ، ونحملُ عنكم خطَايَاكم ، إنْ كان عليكم فيهِ إثْمٌ ووزْرٌ ، فنحنُ نحملهُ عنكم. قال الفرَّاء : (قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْنَحْمِلْ } لَفْظُهُ لَفْظُ الأَمْرِ ، وَمَعْنَاهُ : الْجَزَاءُ ؛ أيْ إن اتَّبَعْتُمْ سَبيْلَنَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ). قولهُ : { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ فيما ضَمِنوا من حَمل خطاياهم ، ولا يحفظُونَ العذابَ عنهم.
(0/0)
وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
قولهُ : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } ؛ معناهُ : أوْزَاراً مع أوزَارهم ، وذلك أنَّهم يُعاقَبون على كُفرِهم وعلى دُعاءِ غيرِهم إلى الكفرِ ، وهذا موافقٌ لقولهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وزْرُهَا وَوزْرُ مَنْ عَمِلَ بهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لاَ يَنْقُصُ مِنْ أوْزَارهِمْ شَيْءٌ ".
ومعنى الآيةِ : وَلْيَحْمِلُنَّ أوزَارَهُم التي حَملُوها ، وأوْزَاراً مع أوزَارهم لقولِهم للمؤمنينَ : (اتَّبعُوا سبيلَنا " وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ) وهم كاذبون فيما قالوا لهم ووعدوهم " ، وليَحْمِلُوا أوزَارَهم كاملةً يومَ القيامةِ.
وقولهُ : { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ أرادَ به سؤالَ تَوبيخٍ لا سؤالَ استعلامٍ ، يقالُ لَهم : هل كانَ عندَكم من الغيب شيءٌ ؟ ومِن أين قُلْتُمْ إنَّكم تحمِلُوا أوزَارَ غيرِكم؟.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
قولهُ : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } ؛ أي مَكَثَ بين أظهرهم يدعُوهم إلى الإيْمَانِ ألفَ سَنَةٍ إلاّ خَمسين عاماً ، فلم يُجِبْهُ إلى الإيْمانِ منهم إلاَّ قليلٌ ، { فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } ، فأهلَكَ اللهُ المكذِّبين بالطُّوفانِ وهو الغرقُ (وَهُمُ الظَّالِمُونَ) أي مُشرِكون.
وفي الحديث : " أنَّ نُوحاً عليه السلام أرْسَلَ إلَيْهِمْ بَعَدَ مَا أتَى عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً ، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً " وسُمي الغرقُ طُوفَاناً لأنَّ الماءَ في ذلك اليومِ طَافَ في جميعِ الأرض.
(0/0)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
قولهُ : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } ؛ أي أنْجَيْنَا نُوحاً من الغَرَقِ ومَن كان معهُ من المؤمنين في السَّفينة ، { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي جعلنا السَّفينةَ عِبْرَةً لمن بعدَهم من الناسِ إنْ عَصَوا رسولَهم فَعَلْنَا بهم مثلَ ذلك.
(0/0)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)
قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ } ؛ انتصبَ (إبْرَاهِيْمَ) عَطفاً على نُوحٍ ، معناهُ : وأرسَلنا إبراهيمَ أيضاً ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ } أي وَحِّدُوا اللهَ وأطيعوهُ واخشَوهُ ، { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ أي عبادةُ اللهِ خيرٌ لكم من عبادةِ الأوثان ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ ذلكَ.
(0/0)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
قَوله : { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً } ؛ أي أصْنَاماً تتَّخِذونَها من الحجارةِ والخشب ، { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } ؛ أي وتَخْتَرِعُونَ على الله كَذِباً في قولِكم : إنَّها آلِهةٌ. ويجوزُ أن يكون معنى { وَتَخْلُقُونَ } أي تَنْحَتُونَ أصْنَاماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } أي إنَّ الذين تعبدُونَ من الأصنامِ لاَ يَقْدِرُونَ أنْ يرزقُوكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ أي اطْلُبُوا الرِّزقَ مِنِّي ، فأنا القادرُ على ذلكَ ، { وَاعْبُدُوهُ } أي اعبدُوا مَن يَمِلكُ أرزاقَكم ، { وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } في الآخرةِ فيَجزِيَكم بأعمالِكم.
(0/0)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } ؛ يعني كذبُوا أنبياءَهم كما كذبتُم نبيَّكُم فأهلَكَهم اللهُ تعالى ، { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } ؛ أي مَا عليهِ إلاّ تبليغُ الرسالةَِ عن اللهِ بلُغَةِ الَّذين أرسَلَهم إليهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ أي أوَلَمْ يعلَمْ ويعتبرْ أهلُ مكَّة كيفَ يُبدِئُ اللهُ الْخَلْقَ في أرحامِ الأُمَّهاتِ مِن النُّطفةِ ثُم مِن العلقةِ ثُم مِن الْمُضْغَةِ إلى تَمامِ الخلقِ ، ثُم يُميتُهُ ثُم يعيدهُ بعدَ الموتِ للبعثِ خَلْقاً جَديداً. وقولهُ تعالى : { إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } ؛ أي إنَّ بَدْأ الخلقِ وإعادتهِ هَيِّنٌ على اللهِ ، فإنه القادرُ على الاختراعٍِ مِن غير ابتداء على مثالٍ ، قادرٌ على الإعادةِ ، وكانوا يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ هو الذي خلَقَهم.
(0/0)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ } ؛ أي سَافِروا في الأرضِ وابحثوا وانظرُوا هل تَجِدُونَ خَالِقاً غيرَ اللهِ ، واعتَبروا كيفَ خَلَقَ اللهُ مَن قبلَكم ثُم أهلَكَهم بعدَ ذلك.
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } ؛ أي ثُم إنَّ اللهَ يبعثُ الخلقَ ثانيةً يومَ القيامةِ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من الإحياءِ والإمَاتَةِ قادرٌ. قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والحسنُ : (النَّشَاءَةَ) بالمدِّ ، وقرأ الباقون : (النَّشْأَةََ) بإسكانِ الشِّين والقصْرِ وهما لُغتان.
(0/0)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } ؛ أي يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ مَن كان أهْلاً للتعذيب ، وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ مَن كان أهلاً للرحمةِ ، وقولهُ تعالى : { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } ؛ أي تُرَدُّونَ في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ } ؛ أي ما أنتم يا أهلَ مكَّة بفَائِتينَ من عذاب الله هَرباً ، ولا في السَّماء ، فلا تغتَرُّوا لطُولِ الإمهَالِ.
ولا يجوزُ أن يكون معناهُ : وَلاَ مَنْ فِي السَّمَاءِ بمُعْجِزِيْنَ ؛ أي ما أنتم يا كفارَ مكَّة بفَائِتِي اللهِ في الأرضِ كُنتم أو فِي السَّماء كنتم ، أينَما تكونُوا يأتِ بكمُ الله فيجزِيَكم بأعمالِكم السيِّئة ، { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } ؛ يتولَّى أمرَكم وحِفظَكم ، { وَلاَ نَصِيرٍ } ؛ يَمنعُ العذابَ عنكم.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ } ؛ أي الذين يَجحَدوا بآياتِ الله والقُرْآنِ والبعثِ بعد الموتِ ، { أُوْلَئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } ؛ أي مِن جَنَّتِي في الآخرةِ باعتقادِهم أنَّها لا يقعُ بهم ، { وَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(0/0)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ } ؛ أي ما كان جوابُ قومِ إبراهيمَ حيث دعَاهُم إلى اللهِ ، إلاَّ أن قالوا : اقتلُوهُ أو حرِّقوهُ بالنار ، ثُم " اتفقوا على تحريقه " فقذفوهُ في النار ، { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ } ؛ سَالِماً ، وجعلَها بَرْداً وسَلاماً ولَم تحرِقْ منه إلاَّ وثاقه ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } بالله ورسُلهِ.
(0/0)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً } ؛ أي قال إبراهيمُ : إنَّ ما عبَدتُم مِن دون اللهِ أوثَاناً هي مودَّةٌ بينَكم ، أو تلك مودَّةٌ بينكم ، والمعنى : أي أُلْفَتُكُمْ واجتماعُكم على الأصنامِ { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ؛ ثُم تنقطعُ عن قريبٍ ، وتنقلبُ تلك المودَّةُ عداوةً بعد الموتِ ، يَتَبَرَّأُ بعضُكم من بعضٍ ، ويلعنُ العابدُ المعبودَ ، لذلك يلعَنُ العابدونَ بعضَهم بعضاً ، ويكون مصيرُهم في الآخرةِ النار ، وما لكم مِن مانعٍ يَمنعُكم من عذاب الله.
ويجوزُ أن تكون (مَا) في قوله تعالى { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ } بمعنى (الذِي) كأنه قالَ : إنَّ الذي اتَّخذتُموه من دونِ الله أوثَاناً مودَّةُ بينِكم ما دُمتم في الحياةِ الدُّنيا ، فيكون (مَوَدَّةٌ) رفعاً لأنَّها خبرُ (إنَّ) ، وقرأ حمزةُ وحفص (مَوَدَّةَ) بالنصب (بَيْنِكُمْ) بالخفضِ على الإضافة ؛ بوقوعِ الاتِّحادِ عليه ، وجعل (إنَّمَا) حَرفاً واحداً ، وقرأ الباقون نَصباً منَوَّناً (بَيْنَكُمْ) بالنصب على أنه مفعولٌ أيضاً ، ومعناه : اتَّخذتُم هذه الأوثانَ مَوَدَّةً بينَكم تتوادُّون وتحابُّون على عبادتِها وتتواصَلون عليها.
(0/0)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } ؛ أي صَدَّقَ لوطُ بإبرَاهِيمَ ، وهو أوَّلُ مَن صدَّقَ به ، { وَقَالَ } ؛ إبراهيم : { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } ؛ أي إلى الموضعِ الذي أمرَنِي رَبي بالهجرةِ إليه ، وكان مأْمُوراً بالهجرةِ من كوثى وهو سوادُ العراقِ إلى الشَّام.
وَقِيْلَ : إن كوثى من سوادِ الكوفة ، فهاجرَ إبراهيمُ ومعه لوطُ وهو ابنُ أخيهِ ومعه سَارَةُ. قال مقاتلُ : (هَاجَرَ إبْرَاهِيْمُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ سَنةً). وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي الْمُنْتَقِمُ مِمَّنْ عَصَاهُ ، الْحَكِيْمُ فيما حَكَمَ علينا من الهجرةِ.
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
قًَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ } ؛ أي لإبراهيمَ ، { إِسْحَاقَ } ؛ من امرأتهِ سارَةَ ، { وَيَعْقُوبَ } ؛ ابنُ ابنهِ ، وقولهُ تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } ؛ وذلك أنَّ الله لَم يَبْعَثْ نبيّاً مِن بعد إبراهيمَ إلاّ من صُلْبهِ ، وقولهُ تعالى { وَالْكِتَابَ } أي وجعلنَا التَّوراةَ والإنجيلَ والقُرْآنَ في وَلَدِهِ.
وقولهُ تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا } ؛ أرادَ به الثَّناءَ الحسنَ ، وموالاةَ جميعِ الأُمَمِ إيَّاهُ ؛ لأن جميعَ أهلِ الأديان يُحِبُّونَهُ. وقال السديُّ : (إنَّهُ أُريَ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ) ثُمَّ أعْلَمَهُ اللهُ أنَّ لَهُ مَعَ مَا أعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لقولهِ : { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ أي إنهُ في الآخرةِ مع آبائه الْمُرسَلين في الجنَّة مثلَ آدمَ ونوحٍ.
(0/0)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلُوطاً } ؛ أي وأرسَلْنا لُوطاً بالنبُوَّة ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ } ؛ يعني عمَلَهم الخبيثَ الذي لَم يكن يَعْمَلُهُ أحدٌ قبلَهم.
وقولهُ تعالى : { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } ؛ وذلك أنَّهم كانوا يفعلونَ الفاحشةَ بمن يَمُرُّ بهم مِن المسافرين ، فلما فَعَلُوا ذلك شَاعَ الخبرُ ، فتركَ الناسُ المرورَ بهم وانقطعَ السبيلُ.
وقولهُ تعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } ؛ النادِي الْمَجْلِسُ وَالْْمُتَحَدَّثُ ؛ أي تأتُونَ في مجالسِكم الفسقَ ، قِيْلَ : إنَّهم كانوا يفعلُ بعضُهم ببعضٍ الفاحشةَ في الْمَجَالِسِ. وَقِيْلَ : إنَّهم كانوا يصَفِّقون بأيديهم ويصَفِّرُونَ بأفواهِهم ، وقال القاسمُ بن محمَّدٍ : (هُوَ أنَّهُمْ كَانُواْ يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ) وَيَضْرِبُونَ بالْعُودِ وَالْمَزَامِيْرِ (وَيَلْعَبُونَ بالْحَمَامِ). وقِيْلَ : في معنَى قولهِ تعالى { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ } قال مجاهدُ : (كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِي الْمَجَالِسِ).
وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي كَانُواْ يَأْتُونَهُ قَوْمُ لُوطٍ ، فَقَالَ : " كَانُواْ يَجْلِسُونَ وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصْعَةُ حَصَى ، فَإذا مَرَّ بهِمْ عَابرُ سَبيْلٍ خَذفُوهُ ، فَأَيُّهُمْ أصََابَهُ كَانَ أوْلَى بهِ " ، قال صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكُمْ وَالْخَذْفَ ، فَإنَّهُ لاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَلاَ يُصِيْبُ الصَّيْدَ ، وَلَكِنْ يَفْقَأَُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ ".
(0/0)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ } ؛ أي فلمَّا أنكرَ لوطُ على قومهِ ما كانوا يفعلون من القَبَائِحِ قالُوا استهزاءً : { ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ أنَّ العذابَ نازلٌ ، فعندَ ذلك ؛ { قَالَ } ؛ لوطُ عيله السلام : { رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ } ؛ أي انْصُرْنِي بتحقيقِ قَوْلِي في العذاب على القومِ المفسدين العاصِين.
فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ ، وبعثَ جبريل ومعه الملائكةُ لتعذيب قومه وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى } ؛ أي بالبُشْرَى بإسحق ومِن وراءِ اسحق يعقوبُ ، { قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } ؛ يعني سدوم قريةُ لوطٍ ، { إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } ؛ بالشِّركِ والعملِ الخبيثِ ، { قَالَ } ؛ إبراهيمُ : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً } ؛ فكيفَ تُهلِكُونَهم؟! { قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } ؛ وأهلَ دِينه وابنَتَيْهِ زَعُورا وزَنْبَا ، { إِلاَّ امْرَأَتَهُ } واعِلَةَ ، { كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } ؛ أي مِن الباقينَ في الْمُهْلَكِيْنَ.
(0/0)
وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ } ؛ أي سَاءَ مَجيئَهم خَوفاً عليهم مِن قومهِ ؛ لأنَّهم جاؤهُ على هيئة الغِلْمَانِ ، { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } ؛ أي ضَاقَ عليهم بسَبَبهم ، { وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } وَمُنَجُّوا ؛ قال المبَرِّدُ : (الْكَافُ فِي (مُنَجُّوكَ) مَخْفُوضَةٌ وَلَمْ يَجُزْ عَطْفُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَخْفُوضِ ، فَمَا جُعِلَ الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى ، فََصَارَ التَّقْدِيْرُ : وَنُنَجِي أهْلَكَ ، أو مُنْجُونَ أهْلَكَ).
(0/0)
إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي عَذاباً بالحجارةِ ، وَقِيْلَ : الخسفَ والحصَبَ ، { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } ؛ أي بسَبَب فِسقِهم ، يروى أنَّ تلكَ القريةِ كانت مشتملةً على سبعمائةِ ألفِ رجُلٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً } ؛ أي آثارُ منَازلِهم الْخَرِبَةِ ، وهي تركُ ديارهم منكوسةً عِظَةً وعبرةً ، وأظهرَ اللهُ فيها ماء أسوداً نتناً يتأذى الناسُ برائحتهِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ أي يتفكَّرُون فيما فَعَلَ اللهُ بهم فلا يفعلونَ مِثْلَ فعلِهم.
(0/0)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } ؛ أي وأرسَلنا إلى أهل مدينَ أخاهم شُعيباً ، { فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ } ؛ أي وَاخْشَوا البعثَ الذي فيه جزاءُ الأعمال ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ؛ أي لا تَعْثُوا في الأرضِ بالفسادِ ، { فَكَذَّبُوهُ } ؛ بالرِّسالةِ ، { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ؛ أي الزَّلزَلَةُ ، { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ؛ أي مَيِّتِيْنَ بَاركِينَ على رُكَبهم.
(0/0)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ } ؛ أي وأهلكنا عَاداً وثَمُوداً ، { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } ؛ أي ظَهَرَ لكم يا أهلَ مكَّة مِن منازلِهم والحجر واليمن في هلاكِهم حيث تَمرُّون بها ، { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } ؛ القبيحةَ ، { فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ } ؛ أي فصَرَفَهم عن طريقِ الحقِّ ، { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } ؛ أي عُقلاءَ يُمكِنُهم تَمييزُ الحقِّ من الباطلِ ، ويقالُ كانوا مُعجَبين بضَلالِهم يَرَونَ أنَّهم على الحقِّ ، ولَم يكونوا كذلكَ ، والمعنى : أنَّهم كانوا عندَ أنفُسِهم مستَبْصِرين فيما عَمِلُوا من الضَّلالةِ ، يحسَبُون أنَّهم على هُدَى.
(0/0)
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي وأهلَكْنا قارونَ وفرعون وهامانَ بعدَ ما جاءَهم مُوسَى بالمعجزاتِ فَتَعَظَّمُوا عن الإيْمانِ به ، { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } ؛ أي لَم يكونوا فَائِتين من عذاب الله.
(0/0)
فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } ؛ أي كلَّ هؤلاءِ القوم الذين ذكرنَاهم عاقَبْنَاهم بذنوبهم ، { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } ؛ يعني الحجارةَ وهم قومُ لُوطٍ ، وَقِيْلَ : الحاصِبُ الريِّحُ التي تأتِي بالْحَصْبَاءِ ، وهي الْحَصَى الصِّغار ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } ؛ وهم قومُ صالح وشُعيب ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ } ؛ يعني قارونَ وأصحابَهُ ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } ؛ يعني قومَ نوحٍ وفرعونَ ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } ؛ بإهلاكهِ إيَّاهم ، { وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ بالكُفرِ والمعاصِي.
(0/0)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ يعني الأصنامَ يتَّخذونَها أولياءَ يَرْجَوْنَ نصرَها ونفعَها ، { كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً } ، وبيتُها لا يُغنِيها عن الحرِّ والبردِ والمطر ، كذلكَ آلِهتُهم لا تَرزُقهم شيئاً ، ولا تَملِكُ لَهم ضَرّاً ولا نفعاً.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ } أي لاَ بيتَ أضعفَ منهُ مما يتَّخذهُ الهوامُ ، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؛ إنَّ اتِّخاذهم الأولياءَ سِوَى اللهِ كاتِّخاذِ العنكبوتِ بيتاً في قلَّة النفعِ ما اتَّخذُوهم أولياءَ.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } ؛ قرأ أبو عمرٍو (يَدْعُونَ) بالياءِ لذِكْرِ الأُممِ قبلَها ، وقرأ الباقون بالتاء ، ومعنى الآيةِ ، أنهُ عالِمٌ بما عبدتُموه من دونهِ فهو يُجازيكم على كُفرِكم ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
(0/0)
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ } ؛ يعني أمْثَالَ القُرْآنِ ، { نَضْرِبُهَا } ، نبيِّنُها ، { لِلنَّاسِ }. قال مقاتلُ : (يَعْنِي لِكُفَّار مَكَّةَ) { وَمَا يَعْقِلُهَآ } ؛ الأمثالُ ، { إِلاَّ الْعَالِمُونَ } ؛ أي العلماءُ.
(0/0)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ؛ أي للحَقِّ واظهرَ الحقَّ خلْقَها ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي لدلالةً على قُدرةِ الله وتوحيدهِ.
(0/0)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ } ؛ أي إقْرَأ عليهم يا مُحَمَّدُ ما أُنْزِلَ عليكَ مِن القُرْآنِ ، وأقِمِ الصَّلواتِ الخمسِ في مواقِيتِها بشرائطِها وسُنَنِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ } ؛ وذلكَ أنَّ في الصَّلاةِ تكبيراً وتَسْبيحاً وقراءةً ووُقوفاً للعبادةِ على وجهِ الذُّلِّ والخشُوعِ ، وكلُّ ذلك يدعُو إلى شَكلِهِ ويصرفُ عن ضدِّهِ وهي الآمرُ والنَّاهي بالقولِ. والفَحْشَاءُ : ما قَبُحَ من العملِ ، والْمُنْكَرُ : ما لا يعرَفُ في شريعةٍ ولا سُنَّةٍ.
قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (فِي الصَّلاَةِ مُنْتَهًى وَمُزْدَجَرٌ عَنْ مَعَاصِي اللهِ) (فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْمَعَاصِي لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلاَّ بُعداً) ، وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إلاَّ بُعْداً ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؛ أي ولَذِكْرُ اللهِ إيَّاكم بالتوفيقِ والمغفرةِ والثواب أكْبَرُ من ذِكْرِكم إياهُ بالطاعةِ ، وَقِيْلَ : ذِكْرُ اللهِ في المنعِ من الفحشاءِ والمنكرِ أكبرُ مِن الصَّلاة ، ويجوزُ أن يكون أكبر في معنى الكِبَرِ في الجزاءِ والثَّواب ، كما قال عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة : 45].
قالتِ الحكماءُ : ذِكْرُ اللهِ للعبدِ أكبرُ من ذكرِ العبد للهِ ؛ لأنَّ ذِكْرَ اللهِ للعبدِ على حدِّ الاستغناءِ ، وذِكرُ العبدِ إياه على حدِّ الافتقار ، ولأنَّ ذِكْرَ العبدِ يجَرِّ نَفْعٍ أو دَفْعَ ضُرِّ ، وذِكرُ اللهِ للعبدِ للفَضْلِ والكَرَمِ ، ولأنَّ ذكرَ العبدِ مخلوقٌ ، وذكرَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ.
وقال صلى الله عليه وسلم فِي قولهِ تعالى { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } : " أيْ ذِكْرُ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أحْسَنُ وَأَفْضَلُ ، وَالذِّكْرُ أنْ تَذْكُرَهُ عِنْدَ مَا حَرَّمَ ، فَتَدَعُ مَا حَرَّمَ ، وَعِنْدَمَا أحَلَّ فَتَأْخُذُ مَا أَحََلَّ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أحَبَّ أنْ يَرْتَعَ فِي ريَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
وقال أبُو الدَّردَاءِ رضي الله عنه : (ألاَ أُخْبرُكُمْ بخَيْرِ أعْمَالِكُمْ وَأحَبهَا إلَى مَلِيْكِكُمْ وَأَتَمِّهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَغْزُوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُواْ رقَابَهُمْ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنَانِيْرِ وَالدَّرَاهِمِ؟) قَالُواْ : وَمَا هُوَ؟! قَالَ : (ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ }.
وقال معاذُ بنُ جَبَلٍ : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيُّ الأَعْمَالِ أحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى ؟ قَالَ : " أنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطِبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُواْ فِي مَجْلِسٍ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيْهِ ؛ إلاَّ حَفَّتْ بهِمُ الْمَلاَئِكَةُ ؛ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَهُ ".
ورُويَ أنَّ رجُلاً أعتقَ أربَعَ رقابٍ ، وآخَرَ قالَ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ، ثُم إنَّ الذي لَم يعتِقْ سألَ حبيبَ سرّاً وفي أصحابه فقالَ : ما تقولونَ فيمَن أعتقَ أربعَ رقابٍ وأنَا قُلْتُ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ، فأيُّهما أفضلُ ؟ فنظَرُوا هُنَيْهَةً وقالوا : ما نعلمُ شيئاً أفضلَ مِن ذكرِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } ؛ أي ما تعملونَ من الخيرِ والشرِّ ، لا يخفَى عليه شيءٌ.
(0/0)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ؛ أي لا تُخاصِمُوا أهلَ الكتاب إلاّ بالطريقةِ التي هي أحسنُ ، وهي أن تَعِظُوهم بالقُرْآنِ على وجهِ النُّصحِ لَهم والاستمالةِ إلى دِين الإسلامِ وتعظيمِ الله تعالى وطلب ثوابه ، { إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } ؛ أي إلاَّ مَن ظَلَمَ من أهلِ الكتاب فمَنَعَ الجزيةَ أو نَقَضَ العهدَ ، وعادَ حَرْباً لكم ، فجادِِلُوهم باللِّسان والسَِّنَانِ ، وأغْلِظُوا عليهم حتى يُسلِِمُوا ، { وَقُولُواْ } ؛ لِمن قَبلَ الجزيةَ منهم إذا أخبَرُوكم بشيءٍ من كُتبهم : { آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ؛ أي آمَنَّا بالقُرْآنِ والتوراةِ والإنجيل والزبور ، { وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ؛ أي مُخلِصُونَ بالعبادةِ والتوحيد ، وهذه صفةُ الْمُجادَلةِ الحسَنةِ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ } ؛ أنزلنا إليكَ يا مُحَمَّدُ القُرْآنَ كما أنزَلْنَا إليهم الكُتبَ ، { فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي الذين أكْرَمْنَاهم بعلمِ التَّوراة وهم عبدُاللهِ بن سلام وأصحابهُ يؤمنونَ بالقُرْآنِ بدلالةِ التَّوراةِ. وقولهُ : { وَمِنْ هَـاؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ } ؛ أرادَ به من كُفَّارِ مكَّةَ من يؤمنَ به ، يعني يُسْلِمُ منهم.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ } ؛ أي مَا يجحدُ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقُرْآنِ بعدَ المعرفةِ إلاَّ الكافرونَ من اليهودِ ، وذلك أنَّهم عَرَفُوا أنَّ مُحَمَّداً نَبيٌّ والقُرْآنَ حَقٌّ فجَحَدوا وأنكَرُوا.
(0/0)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ } ؛ أي ما كُنْتَ يا مُحَمَّدُ تقرأُ مِن قبلِ القرْآنِ { مِن كِتَابٍ } أي ما كُنتَ قَارئاً قبلَ الوحي ولا كَاتِباً ، وقولهُ : { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ } ؛ ولا تكتبهُ بيمِينِكَ ، ولو كُنْتَ تقرأهُ وتكتبُ لوجدَ الْمُبْطِلُونَ طريقاً إلى التَّشكيكِ في أمرِكَ والارتياب في نُبوَّتكَ ، ويقولون إنهُ يقرأهُ من الكُتُب الماضيةِ ، فلمَّا كان مَعْلُوماً عندَهم أنه عليه السَّلامُ كان لا يقرأُ ولا يكتبُ ، ثُم أتَى بالْقُرْآنِ الذي عَجَزُوا عنِ الإتيان بسورةٍ مثله ، دلَّهُم ذلك على أنه مِن عند اللهِ ، ولأنَّهُ كانت صفتهُ في التَّوراةِ والإنجيل : أُمِّيٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ ، ولو كُنْتَ قارئاً كاتباً لشَكَّ اليهودُ فيكَ ، وقالوا : إنَّ الذي نجدهُ في التوراةِ أُمِّيٌّ لا يقرأُ ولا يكتبُ.
(0/0)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } ؛ قال الحسنُ : (يَعْنِي الْقُرْآنَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُور الَّّذِيْنَ أُوتُواْ الْعِلْمَ يَعْنِي الْمُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ حَمَلُواْ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَمَلُوهُ بَعْدُ).
وقال مقاتلُ : { بَلْ هُوَ } يَعْنِي مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي ذُو آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فِي صُدُور أهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب ؛ لأنَّهُمْ يَجِدُونَهُ بنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ). { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ } ، يعني كفار اليهود.
(0/0)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ } ؛ أي قالَ كُفَّارُ مكَّة : هَلاَّ أُنْزِلَ على مُحَمَّدٍ آيَةٌ من ربهِ كما كانت الأنبياءُ تَجيءُ بها إلى قومِهم ، أرادوا بها الآياتِ التي كانوا يقتَرِحُونَها عليهِ مِن قولِهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً }[الإسراء : 90] الآية.
قرأ ابنُ كثيرٍ وحمزة والكسائيُّ وخلف : (آيَةٌ) على التوحيدِ ، وقرأ الباقونَ بالجمعِ.
وقولهُ تعالى : { قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } أي في حُكْمِ اللهِ إنْ شاءَ أنزلَها ، { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي رسولٌ مُخَوِّفٌ لكم بلُغَةٍ تعرِفونَها ، وليس إنزالُ الآياتِ بيدهِ.
(0/0)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
وقولهُ : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } ؛ معناهُ : أوَلَمْ يكن لَهم كفايةً في معرفةِ نُبوءَتِكَ أنَّا أنْزَلْنَا علَيْكَ القُرْآنَ الذي تقرأهُ عليهم بلُغَتهم مما فيه أخبارُ الأُممِ الماضيةِ مع عجزِهم عن الإتيانِ بحديثٍ مثلهِ ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً } ؛ أي في إنْزَالِ القُرْآنِ لَرَحْمَةً لِمن آمَنَ به وعَمِلَ بما فيهِ ، { وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، أي وذكرى وموعظة لهم.
(0/0)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : كَفَى اللهُ شَهيداً بأنِّي رسولٌ إليكم ، { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }. وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ } ؛ أي صدَّقُوا بالأصنامِ وجَحَدوا وحدَانيَّةَ اللهِ ، { أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ بالعقوبةِ وفَوْتِ الْمَثُوبَةِ.
(0/0)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ } ؛ أي يستعجِلُكَ كفارُ مكَّة بالعذاب قبلَ وقتهِ استهزاءً وتَكذيباً منهم بذلكَ ، { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ } ؛ أي لَولاَ أنَّ الله جعلَ لعذابهِ أجَلاً مسمَّى قد سَمَّاهُ وهو يومُ القيامةِ. وقيل يعنِي مدَّة أعمارهم ؛ لأنَّهم إذا ماتُوا صارُوا إلى العذاب لعَجَّلَ لَهم العذابَ في الحالِ ، { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ بإتيانهِ.
(0/0)
يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ؛ فيه تَعْجِيْبٌ باستعجَالِهم مع أنَّ جهنَّمَ محيطةٌ بهم في الآخرةِ ، جامعةٌ لَهم ، { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ؛ فلاَ يبقَى جزءٌ منهم إلاَّ وهو مُعَذبٌ في النار جزاءً ، ويقالُ لهم : { وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }.
قرأ الكوفِيُّون ونافع : (وَيَقُولُ) بالياء ، يعني الموَكَّلُ بعذابهم يقولُ لَهم ذلكَ ، وقرأ الباقون بالنُّونِ ؛ لأنه لَمَّا كان بأمرهِ سُبْحَانَهُ جازَ أن يُنسَبَ إليهِ.
(0/0)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ } ؛ قالَ مقاتلُ : (نَزَلَتْ فِي ضُعَفَاءِ مُسْلِمِي مَكَّةَ ، تَقُولُ : إنْ كُنْتُمْ فِي ضِيْقٍ بمَكَّةَ مِنْ إظْهَار الإيْمَانِ) فَاخْرُجُواْ مِنْهَا وَأُمِرُوا بالْهِجْرَةِ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُهُمْ فِيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ ، وَكَذلِكَ يَجِبُ عَلَى كُلِّ بَلَدٍ ، مَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ فَعُمِلَ فِيْهَا بالْمَعَاصِي ، وَلاَ يُمْكِنُهُ تَغْييْرُ ذلِكَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى حَيْثُ يَتَهَيَّأُ لَهُ أنْ يَعْبُدَ اللهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ.
ثُم خوَّفَهم بالموتِ لتَهُونَ عليهم الهجرةُ ؛ فقالَ : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ } ؛ أي كُلُّ أحدٍ مَيِّتٌ أينَما كانَ ، فلا تُقِيمُوا بدار الشِّرك خوفاً من الموتِ ، { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } ، بعدَ الموتِ فيجزِيَكم بأعمَالِكم. وقال سعيدُ بن جبير : (مَعْنَى الآيَةِ : إذا عُمِلَ فِي أرْضٍ بالْمَعَاصِي فَاخْرُجُواْ مِنْهَا ، فَإنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ) ، وقال عطاءُ : (إذا أُمِرْتُمْ بالْمَعَاصِي فَاهْرُبُواْ مِنْهَا ، فَإنَّ أرْضَ اللهِ وَاسِعَةٌ) ، وقال مجاهدُ : (إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ فَهَاجِرُواْ وَجَاهِدُواْ).
وقال الكلبيُّ : (نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ كَانُواْ بمَكَّةَ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى إظْهَار الإيْمَانِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِيْنَةِ ، فَشُقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُواْ : كَيْفَ يَكُونُ حَالُنَا إذا انْتَقَلْنَا إلَى دَار الْغُرْبَةِ وَلَيْسَ بهَا أحَدٌ يَعْرِفُنَا فَيُوَاسِيْنَا ، وَلاَ نَعْرِفُ وُجُوهَ الاكْتِسَاب فِيْهَا ، فَقَطَعَ اللهُ عُذْرَهُمْ بهَذِهِ الآيَاتِ).
ومعناها : إنَّ أرضِي واسعةٌ آمِنَةٌ ، وَقِيْلَ : { وَاسِعَةٌ } أي رزْقِي لكم واسعٌ ، فاخرجُوا من هذه الأرضِ التي أنتم فيها. وعن الحسنِ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ فَرَّ بدِيْنِهِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ وَإنْ كَانَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ ، وَكَانَ رَفِيْقَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ".
ثُم ذكرَ ثوابَ مَن هاجرَ ، فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ يعني الْمُهَاجِرِيْنَ ، { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عََنْهُمَا : (لَنُسْكِنَنَّهُمْ غُرْفَ الدُّرَّةِ وَالزُّبُرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ ، وَلَنُنْزِلَنَّهُمْ قُصُورَ الْجَنَّةِ) ، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ : (لَنُثْوِيَنَّهُمْ) يقالُ : ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ ، وأثْوَيْتُهُ إذا أنزلتهُ منْزِلاً يقيمُ فيهِ ، والمعنى : والذينَ آمَنُوا لنُنْزِلنَّهُمْ من الجنَّة غُرَفاً عَوالِي تَجرِي من تحتِ قصورها وأشجارها الأنَهارَ ، { خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } ؛ للهِ.
ثُم وصَفَهم فقالَ : { الَّذِينَ صَبَرُواْ } ؛ أي على دِينِهم فلم يتركوهُ لشدَّةِ لَحِقَتهُمْ ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ الْمُهَاجِرِيْنَ تَوَكَّلُواْ عَلَى اللهِ وَتَرَكُواْ دُورَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ). وَقِيْلَ : معناهُ : { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } في أرزاقِهم وجهادِ أعدائهم ومهمَّات أُمورهم.
قال مقاتلُ : (إنَّ أحَدَهُمْ كَانَ يَقُولُ بمَكَّةَ : كَيْفَ أُهَاجِرُ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَلَيْسَ لِي بهَا مَالٌ وَلاَ مَعِيْشَةٌ). فقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } ؛ أي وَكَمْ من دابَّةٍ في الأرضِ ؛ وهي كلُّ حيوان يدبُّ على الأرضِ مما يعقل ومما لا يعقلُ.
والمعنى : كَم مِن نفسٍ دابَّةٍ لا تحملُ رزقَها ؛ أي لا ترفعُ رزقَها معها ولا تَدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ ، { اللَّهُ يَرْزُقُهَا } ؛ حيثُ توجَّهت ، { وَإِيَّاكُمْ } ؛ يرزقُكم إن أُخرِجتُم إلى المدينةِ ، وإنْ لَم يكن لكم زادٌ ولا نفقةٌ.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ يعني لَئِنْ سألتَ مُشِركي مكَّة : مَنْ خَلَقَ السَّمَواتِ ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؛ أي يُصْرَفونَ عن عبادةِ الله الذي هذه صفتهُ إلى عبادةِ جَماداتٍ لا تنفعُ ولا تضرُّ.
(0/0)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } ؛ أي يبسطُ الرِّزقَ على قومٍ ، ويُضَيِّقُ على قومٍ ، يفعلُ ذلك عن عِلْمٍ وحكمةٍ ، لا عن غَلَطٍ وخطأ ، { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ؛ يعني كفَّارَ مكَّة أيضاً ، { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ } ؛ أي الحمدُ للهِ على إقرارهم ؛ لأن ذلكَ يُلْزِمُهُمْ الْحُجَّةَ ، ويوجبُ عليهم التوحيدَ. وَقِيْلَ : معناهُ : الحمدُ للهِ على هذه النِّعَمِ ، وعلى ما تَفَضَّلَ به جَلَّ ذِكْرُهُ من الإنعَامِ على العبادِ ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ؛ بتوحيدِ ربهِم مع إقرارهم بأنه خَلَقَ السَّمواتِ والأرضَ وأنزلَ المطرَ.
(0/0)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } أي باطلٌ وغُرُورٌ وعَبَثٌ تنقضِي عن قريبٍ بسرعةٍ ، { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ } ؛ يعني الْجَنَّةَ هي الْحَيَوَانُ ؛ أي الحياةُ والدَّوامُ والبقاءُ الذي لا نَفَاذَ له ، والْحَيَوَانُ والحياةُ وأحدٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ؛ أي لو كانوا يَعْلَمُونَ الفرقَ بين الحياةِ الدَّائمةِ والحياة الفَانِيَةِ لرَغِبُوا في الباقِي الدائمِ عن الفانِي الزَّائلِ ، ولكنَّهم لا يعلمونَ.
(0/0)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ؛ يعني المشرِكينَ إذا رَكِبُوا في السَّفينةِ وهَاجَتِ الرياحُ واضطربَتِ الأمواجُ ، وخَافُوا الغرقَ والهلاكَ ، { عَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي دَعَوُا اللهَ مُُفْرِدِيْنَ بالدُّعاءِ ، وتَرَكُوا شُركاءَهم وأصنامَهم فلا يدعُونَهم لإنجائِهم ، { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ } ؛ أي فلمَّا خَلَّصَهُمْ من تلك الأهوالِ ، وأخرجَهم إلى البرِّ ؛ { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } ؛ أي عَادُوا إلى شُركائِهم لكي يَكْفُرُوا بما أعطينَاهُم ، { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } ؛ فِي كُفرِهم ، { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } ؛ جزاءَ فِعْلَتِهِمْ. قال عكرمةُ : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذا رَكِبُواْ فِي الْبَحْرِ حَمَلُواْ مَعَهُمْ الأَصْنَامَ ، فَإذا اشْتَدَّتْ بهِمْ الرِّيْحُ ألْقَواْ تِلْكَ الأَصْنَامَ فِي الْبَحْرِ ، وَصَاحُواْ : يَا اللهَ يَا اللهَ).
وَقِيْلَ : إنَّ (اللام) في قوله (لِيَكْفُرُوا) لامُ الأمرِ ، ومعناها : التهديدُ والوعيدُ ، كقولهِ{ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }[فصلت : 40]{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ }[الإسراء : 64] ، وكذلك عَقَّبَهُ بقولهِ ، { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ }.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } أي ألَم يَرَ كفارُ مكَّة { أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } يعني مكَّة ، ويُسْلَبُ الناسُ من حولِهم فيقتلونَ ويُؤسَرُونَ وتؤخذًُ أموالُهم ، وأهلُ مكَّة آمِنُونَ من ذلكَ ، { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي فيقرُّون ويصدِّقون بالباطلِ وهي الأصنامُ بعد قيامِ الْحُجَّةِ ، { وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ } ؛ أي بمُحَمَّدٍ والإسلامِ يَجْحَدُونَ. والتَّخَطُّفُ : هو تناولُ الشيءِ بسُرعَةٍ.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي لا أجدُ أظْلَمَ مِمَّن زعمَ أنَّ للهِ شريكاً ، { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ } ؛ يعني مُحَمَّداً والقُرْآن ، { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } ؛ أي أمَا لِهذا الكافرٍِ المكذِّب مأوًى في جهنَّم ، وهو استفهامٌ ، ومعناهُ : التقريرُ.
(0/0)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ؛ أي الذين جَاهَدُوا الكفارَ لابتغاءِ مَرْضَاتِنَا لنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا إلَى الجنَّة ؛ أي لنُوفِّقَنَّهُمْ لإصابةِ الطريقِ المستقيمة. وَقِيْلَ : معناهُ : والذين قًاتَلُوا لأجْلِنَا أعدَاءَنا لنَهْدِيَنَّهُمْ سبيلَ الشَّهادةِ والمغفرةِ.
وقال الفُضَيْلُ : (مَعْنَاهُ : وَالَّذِيْنَ جَاهَدُواْ فِيْنَا فِي طَلَب الْعِلْمِ بالْعَمَلِ بهِ) ، وقال أبو سُليمان الدَّارَانِيُّ : (مَعْنَاهُ : الَّذِيْنَ يَعْمَلُون بمَا يَعْلَمُونَ يَهْدِيهِمْ اللهُ إلَى مَا لاَ يَعْلَمُونَ). وعنِ ابنِ عبَّاس : (أنَّ مَعْنَاهُ : وَالَّذِيْنَ جَاهَدُواْ فِي طَاعَتِنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ ثَوَابنَا).
وَقِيْلَ : معناهُ : والذينَ جاهَدُوا بالصَّبرِ على المصائب والنَّوائب لنهدينهم سُبُلَ الوصُولِ للمواهب. وََقِيْلَ : والذين جَاهَدُوا بالثَّباتِ على الإيْمَانِ لنَهْدِيَنَّهُمْ دُخولَ الجنانِ. وقال سَهْلُ بن عبدِالله : (وَالَّذِيْنَ جَاهَدُواْ فِي إقَامَةِ السُّنَّةِ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ). قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي مَنَّ بالنَّصرِ على أعدائِهم ، والمعونةِ في دُنياهم والثواب والمغفرة في عُقبَاهم.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُنَافِقِيْنَ ".
(0/0)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)
{ الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } ؛ أي غَلَبَتْ فارسُ الرومَ ، ففرحَ بذلك كفارُ مكَّة وقالوا : الذين ليس لَهم كتابٌ غلبوا الذين لهم كتابٌ ، وافتَخَروا بذلكَ على المسلمين وقالوا لَهم : نحنُ أيضاً نغلِبُكم كما غلبَتْ فارسُ الرومَ.
وقصَّة ذلكَ : أن كِسرَى ملكَ فارس أرسلَ شهريار إلى الرُّومِ ، فسارَ إليهم بأهلِ فارسَ ليغزُوَهم ، فظهرَ على الرومِ فقتلَهم وخرَّبَ مدائنَهم ، وكان قيصرُ ملكُ الرومِ قد بعثَ بجيشٍ لَمَّا سَمِعَ بقدوم شهريارَ ، فالتقيا بأَذْرُعَاتِ وَبُصْرَى وهي أدنَى الشَّام إلى أرضِ العرب والعجمِ ، فغلبَت فارسُ الرومَ حتى انتزعوا بيتَ المقدسِ من الرومِ ، وكان ذلك موضعُ عبادتِهم.
فبلغ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ بمكَّة فشُقَّ ذلك عليهم ، وكان صلى الله عليه وسلم يكرهُ أن يظهرَ الأُمِّيُّونَ من الْمَجُوسِ على أهلِ الكتاب من الرُّوم ، وفَرِحَ بذلك كفارُ مكَّة وشَمَتُوا ، فلَقُوا أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقالوا : إنَّكم أهلُ كتابٍ والنصَارَى أهلُ كتابٍ ، وقد ظهرَ إخوانُنا من أهلِ فارس على إخوانِكم من أهلِ الرُّومِ ، وإنَّكم إن قاتَلتُمونا لنظهرَنَّ عليكم ، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هذه الآياتِ { الـم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ }.
فخرجَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه إلى الكفَّار وقال : (أفَرِحْتُمْ بظُهُور إخْوَانِكُمْ عَلَى إخْوَانِنَا؟! فَلاَ تَفْرَحُواْ وَلاَ يُقِرُّ اللهُ أعْيُنَكُمْ ، فَوَاللهِ لَيَظْهَرَنَّ الرُّومُ عَلَى فَارسَ ، أخْبَرَنَا بذلِكَ نَبيُّنَا) فَقَامَ إلَيْهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ وَقَالَ لَهُ : كَذبْتَ! فَقَالَ لَهُ أبُو بَكْرٍ : أنْتَ أكْذَبُ يَا عَدُوَّ اللهِ) فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ : كَمَا غَلَبَتْ عَبَدَةُ النِّيْرَانِ أهْلَ الْكِتَاب ، فَكَذلِكَ نَحْنُ نَغْلِبُكُمْ) وَاسْتَبْعَدَ الْمُشْرِكُونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَى فَارسَ لِشِدَّةِ شَوْكَةِ أهْلِ فَارسَ.
فَقَالَ أبُو بَكْرٍ لأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ : (أنَا أُرَاهِنُكَ عَلَى أنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ إلَى ثَلاَثِ سِنِيْنَ) فَرَاهَنَهُ أُبَيُّ عَلَى خَمْسٍ مِنَ الإبلِ ، وَقِيْلَ : عَلَى عَشْرٍ مِنَ الإبلِ ، (فَإنْ ظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ غَرِمْتَ ، وإنْ ظَهَرَتْ فَارسُ غَرِمْتُ أنَا) ثُمَّ جَاءَ أبُو بَكْرٍ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ ، فََقَالَ صلى الله عليه وسلم : " زدْ فِي الْخَطَرِ وَأبْعِدْ فِي الأَجَلِ " فَفَعَلَ ذلِكَ ، وَجَعَلَ الأَجَلَ تِسْعَ سِنِيْنَ ، وَكَانَ ذلِكَ قَبْلَ تَحْرِيْمِ الْقِمَار.
رُوي أنَّ النَّّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لأَبي بَكْرٍ : " إنَّمَا الْبضْعُ مَا بَيْنَ الثَّلاَثِ إلَى التِّسْعِ " قََرَأ : " زدْهُ فِي الْخَطَرِ وَمَادَّهُ فِي الأَجَلِ " فَخَرَجَ أبُو بَكْرٍ فَلَقِيَ أُبَيّاً فَقَالَ : لَعَلَّكَ نَدِمْتَ! فَقَالَ : أزيدُكَ فِي الْخَطَرِ وَأُمَادُّكَ فِي الأَجَلِ ، فَاجْعَلْهَا مِائَةَ قُلُوصٍ إلَى تِسْعِ سِنِيْنَ ، قَالَ : قَدْ أخَافُ فَعَلْتُ.
فَلَمَّا خَشِيَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أنْ يَخْرُجَ أبُو بَكْرٍ مِنْ مَكَّةَ ، أتَاهُ فَلَزِمَهُ وَقًَالَ أُبَيُّ : إنْ تَخْرُجْ مِنْ مَكَّةَ فَأَقِرَّ لِي كَفِيْلاً ، فَكَفَلَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي بَكْرٍ ، فَلَمَّا أرَادَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ أنْ يَخْرُجَ إلَى أُحُدٍ ، أتَاهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي بَكْرٍ فَلَزِمَهُ وَقَالَ : لاَ وَاللهِ لاَ أدَعُكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي كَفِيْلاً ، فَأَعْطَاهُ كَفِيْلاً وَمَضَى إلَى أُحُدٍ ، ثُمَّ رَجَعَ فَمَاتَ بمَكَّةَ مِنْ جِرَاحَتِهِ الَّتِي جَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ بَارَزَهُ ، وَظَهَرَتِ الرُّومُ عَلَى فَارسَ يَوْمَ الْحُدَيْبيَةِ وَذِلكَ عَلَى رَأسِ تِسْعِ سِنِيْنَ مِنْ مُرَاهَنَتِهِمْ ، وهذا قولُ أكثرِ المفسِّرين.
(0/0)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ؛ نصبَ على المصدر ؛ أي وَعْدَ اللهِ ذلِكَ وَعْداً وهو راجعٌ إلى قولهِ{ سَيَغْلِبُونَ }[الروم : 3] أي وعدَ الله ذلك لا يخلفُ الله وَعْدَهُ بظهور الروم على فارسَ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ إنَّ اللهَ لا يخلفُ وعدَهُ ؛ لأن أكثرَهم كفَّارٌ.
(0/0)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ يعني معايشَهم وما يُصلِحهم. قال الحسنُ : (يَعْلَمُونَ مَتَى زَرْعُهُمْ وَمَتَى حَصَادُهُمْ ، وَيَعْلَمُونَ وُجُوهَ الاكْتِسَاب مِنَ التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ وَالْحِرَاثَةِ وَالْغِرَاسَةِ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ) قال الحسنُ : (بَلَغَ وَاللهِ مِنْ عِلْمِ أحَدِهِمْ فِي الدُّنْيَا أنَّهُ يَنْقُرُ الدَّرَاهِمَ بيَدِهِ فَيُخْبرُكَ بوَزْنِهِ وَلاَ يُحْسِنُ يُصَلِّي!).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } ؛ أي هُم مع علمِهم بأمُور الدُّنيا لا يعلمونَ ما طريقةُ الدليلِ من أمرِ الآخرة ، وما يكونُ فيها مِن البعثِ والثواب والعقاب ، فهم غَافِلُونَ عمَّا هو أوْلَى بهم ، وعما يلزَمُهم من الاستعدادِ لذلك.
(0/0)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ } ، أي في خَلْقِ اللهِ إيَّاهم ، { مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ، فتعلَمُون أنَّ الله لَم يخلُقِ السَّموات والأرضَ ، { وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ؛ إلاّ بالحقِّ ؛ أي إلاّ الحقَّ ، { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ ومعنى الآية : أوَلَمْ يتفكَّرْ أهلُ مكَّة بقلوبهم فيعلَمُون أنَّ الله مَا خلقَ السَّموات والأرضَ ، وما فيهما من العجائب والبدائع إلاّ ليُحِقَّ الحقَّ ويُبْطِلَ الباطلَ ، ويجزي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ عند انقضاءِ الأجَلِ المسمَّى الذي جعلَهُ اللهُ لانقضاء أمرِ السَّموات والأرضِ وهو يومُ القيامةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } ؛ يعني كفَّارَ مكَّة ، { بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ }.
(0/0)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي أوَلَمْ يُسافِروا في الأرضِ ، { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } ؛ صارَ أمرُ ، { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ مِن الأُمم السالفةِ حين كذبوا الرُّسلَ إلى الهلاكِ بتكذيبهم فيَعْتَبرُوا. ثُم وصفَ تلكَ الأممَ فقال : { كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ } ؛ أي حَرَثُوها وقلَبُوها للزراعةِ والغَرسِ ، { وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } ؛ كفارُ مكَّة لأنَّهم كانوا أطولَ عُمراً وأكثرَ عَدداً ، { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ، فلم يَبْقَ منهم ولا مِن عمارَتِهم أثرٌ ، فكذلكَ يكونُ حال هؤلاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } ؛ بإهلاكِهم ، { وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ بالكُفرِ والتكذيب.
(0/0)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ أي ثم صَارَ آخرُ أمرِ الذين أسَاءُوا بالكفرِ والمعاصي السُّوء ، يعني العذابَ والنار بسبب تكذيبهم واستهزائِهم بآيات اللهِ. قال الفرَّاء والزجَّاج : (السُّوْءَى ضِدُّ الْحُسْنَى وَهِيَ الْجَنَّةُ ، وَضِدُّهَا النَّارُ) ، وقال ابنُ قتيبةَ : (السُّوءُ جَهَنَّمُ ، وَالْحُسْنَى الْجَنَّةُ ، وَإنَّمَا سُمِّيَتْ سُوْءَى ؛ لأنَّهَا تَسُوءُ صَاحِبَهَا).
(0/0)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ أي يخلقه من النطفة ثم يحييه بعد ما أماته { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ ثُم إلى موضعِ حسابه وجَزائهِ يرجِعُون فيجزيَهم بأعمالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } ؛ أي يَيْأَسُ الْمُجرِمُونَ من رحمةِ الله ، ومِن كلِّ خيرٍ حين عَايَنُوا العذابَ.
وقال الفرَّاء : (يَنْقَطِعُ كَلاَمُهُمْ وَحُجَّتُهُمْ) ، وَقِيْلَ : معنى (يُبْلِسُ) أي يُفتَضَحُ ، وَقِيْلَ : معناهُ : يندَمُون ، وَقِيْلَ : الْمُبْلِسُ الساكتُ المنقطع عن حجَّته الآيسُ مِن أن يهتدِي إليها ، قال الشاعرُ : يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا قَالَ : نَعَمْ أعْرِفُهُ وَأبْلَسَاوالْمُجرِمون هم الْمُشرِكُونَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ } ؛ أي لَم يكن للكفار مِمَّنْ أشرَكُوه في العبادةِ شفعاءَ يَشْفَعُوا لَهم إلى اللهِ ، { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } ؛ أي يَتَبَرَّؤُنَ منها ويتبَرَّؤُنَ منهم.
(0/0)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } ؛ أي وَاذْكُرْ { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } الخلائقُ في طريقِ النَّار. وَقِيْلَ : معناهُ : يومَ القيامةِ يتفرَّقون بعدَ الحساب إلى الجنَّة والنار فلا يَجْتَمِعُونَ أبَداً.
وقال الحسنُ : (إنْ كَانُواْ اجْتَمَعُواْ فِي الدُّنْيَا لَيَفْتَرِقُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ هَؤُلاَءِ فِي عِلِّيِّيْنَ ، وَهَؤُلاَءِ فِي أسْفَلِ سَافِلِيْنَ) ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } ؛ أي في الجنَّة ينعَّمُون ويُكرَمُونَ بالتحف ويُسَرُّونَ.
والْحَبْرَةُ السُّرُورُ : وَقِيْلَ : الْحَبْرَةُ كلُّ نِعْمَةٍ حسنةٍ ، والتَّحبيرُ التحسينُ. وسُمِّيَ العَالِمُ حَبْراً لتَخْلُّقِهِ بأحسَنِ أخلاقِ المؤمنين ، ويسمَّى الْمِدَادُ حِبْراً لأنه تَحْسُنُ به الأوراقُ ، وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : فَهُمْ فِي ريَاضِ الجنَّةِ يَتلَذذُونَ.
(0/0)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ } ، وكذبوا بالبعث بعد الموت ، { فَأُوْلَـائِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ } ؛ أي يُحضَرون في العذاب ، ويُحبَسُونَ.
(0/0)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
َقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } ؛ أي فَصَلُّوا للهِ ، عَلى تأويلِ : فَسَبحُواْ للهِ ، قال ابنُ عبَّاس : (جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَمَوَاقِيْتِهَا ، فَوَقْتُ الْمَسَاءِ يُُصَلَّى فِيْهِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ ، { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } : صَلاَةُ الْفَجْرِ ، { وَعَشِيّاً } : الْعَصْرُ ، { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } الظُّهْرُ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي يحمدُه أهلُ السَّموات وأهل الأرضِ ، ويصَلُّون له ويسجدُون. وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَالَ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ... } إلى قولهِ تعالى : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } وآخِرُ سُورَةِ الصَّافَّاتِ دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ ، كَتَبَ اللهُ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَدَدَ نُجُومِ السَّمَاءِ ، وَقَطَرِ الْمَطَرِ ، وَعَدَدَ وَرَقِ الشَّجَرِ ، وَعَدَدَ نَبَاتِ الأَرْضِ. وَإذا مَاتَ أجْرَى اللهُ لَهُ بكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ فِي قَبْرِهِ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكْتَالَ لَهُ بالْقَفِيْزِ الأَوْفَى فَلْيَقُلْ : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ... } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ * سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ... } إلَى آخِرِ السُّورَةِ ".
(0/0)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } ؛ أي الإنسانَ الحيَّ من النُّطفة الميتةِ ، { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } ، ويخرجُ النطفةَ وهي ميتةٌ من الإنسان الحيِّ ، ويقالُ : يخرجُ الفرخَ من البيضةِ ، والبيضةَ من الفرخِ ، { وَيُحْي الأَرْضَ } ، بإخراجِ الزُّروعِ منها ، { بَعْدَ مَوْتِهَا } ؛ أي بعدَ أن كانت لا تُنْبتُ ، { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } ، مِن قبوركم يومَ القيامةِ إلى الْمَحْشَرِ ، فإنَّ بعثَكم بمنْزِلة ابتداءِ خَلْقِكم ، وهما في قدرةِ الله تستويان. قرأ حمزةُ : (تَخْرُجُونَ) بفتح التَّاءِ.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } ؛ أي من دلائلِ قُدرتهِ وعلاماتِ توحيده أنْ خلقَ أصلَكم من ترابٍ ، يعني آدمَ ، { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } ؛ أي ثُم إذا أنتم من لَحمٍ ودمٍ تنتشرونَ ؛ أي تتفرَّقُون في حوائجِكم ، وتنبسطونَ في الأرضِ ، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا } ؛ أي من علاماتِ توحيده وقُدرته أنْ خلقَ لكم من جنسِكم نساءً لتطمَئِنُّوا إليها ، ولَم يجعلهنَّ من الجنِّ ، { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } ؛ أي جعلَ بين الزَّوجين مودَّةً ورحمةً ، فيما يتراحَمان ويتوادَّان ، وما مِن شيءٍ أحبُّ إلى أحدِهما من الآخرِ من غير رَحِمٍ بينهما ، حتى أنَّ كثيراً مِن الناس يهجرُ عشيرتَهُ بسبب زوجتهِ ، وكذلك مِن النِّساءِ من تَهجرُ عشيرتَها بسبب زوجِها.
والمعنَى : من دلالةِ توحيدِ الله وقدرته أنْ خلقَ من نُطفةِ الرِّجال ذُكوراً وإناثاً ؛ ليسكُنَ الذكورُ إلى الإناثِ ، والنُّطَفُ عن صفةٍ واحدة ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ في عظمةِ الله وقُدرتهِ.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ، أي ومِن علاماتِ توحيده خَلْقُ السَّموات والأرضِ بما فيهما من العجائب ، { وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ } ، أي لُغَاتِكُمْ وأصوَاتِكم وصُوَركم وألوانِكم ، لأنَّ الخلقَ بين عربيٍّ وعجميٍّ وأسود وأحمرٍ وأبيض ، وهم وَلَدُ رجلٍ واحد وامرأةٍ واحدة ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي للبَرِّ والفاجرِ والإنسِ والجنِّ.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ } ؛ أي ومِن آياته كيفيَّةُ نومِكم ، وكيفَ يغلبُ عليكم ، وأين يأتِيكم ، وكيف يزولُ عنكم فتطلبونَ معيشَتكم ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ } ؛ تقديرُ (وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ بالنَّهار) يعني تصرُّفَكم في طلب المعيشة بالنَّهار ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } القُرْآنَ ؛ سَماعَ الاستدلالِ ، والاعتبار ، والتدبُّر.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ أي خوفاً للمسافرِ من الصَّواعقِ ، وَطَمَعاً للمُقيمِ في المطرِ وسقي الزَّرعِ ، { فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } ؛ أي في البَرْقِ ، وإنزالِ المطر وإحياءِ الأرض بعد قحْطِها ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ } ؛ يعني مِن غيرِ عَمَدٍ تحتَهُما ، ولا علاقةَ فوقَهما بقدرةِ الله وتسكِينه ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ } ؛ أي ثُم إذا دعَاكُم من القُبور عند النفخةِ الثَّانيةِ يدعُو إسرافيلَ بأمرهِ من صخرَةِ بيت المقدسِ : أيَّتُهَا الأجسادُ الباليةُ والعروق المتمزِّقة والشُّعورُ المتمرِّطة ، { إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } ؛ مِن قبوركم مُهْطِعِيْنَ إلى الدَّاعي.
(0/0)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي هم عبيداً ومُلكاً ، { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } ، أي كلٌّ له مُطيعون في الحياةِ والبقاء والموتِ والبعث ، وإنَّ عَصَوْا في العبادةِ فَهُمْ منقادونَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ لا يقْدِرون على الامتناعِ مِن شيءٍ يرادُ بهم صحَّة ومرضٍ وغِنًى وفقرٍ وحياة وموتٍ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ أي هو الذي يبدأُ الخلقَ مِن النطفةِ ثُم يُميتهُ فيصير تُراباً كما كانَ ، ثُم يبعثهُ في الآخرةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } ؛ أي الإعادةُ هَيِّنَةٌ عليهِ ، وما شيءٌ عليه بعسيرٍ ، وقد يذكرُ لفظ (يَفْعَلُ) بمعنى (فَعِيْلٌ) كقولهِ (اللهُ أكْبَرُ) بمعنى كبيرٍ ، وكذلك أهوَنُ أو هيِّنٌ عليه. قال الفرزدقُ : لَعَمْرُكَ مَا أدْري وَإنِّي لأَوْجَلُ عَلَى أيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أوََّلُيريدُ بقولهِ : لأَوْجَلُ ؛ أي وَجِلٌ ، وقالَ أيضاً : إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتاً قَوَائِمُهُ أعَزُّ وَأطْوَلُأي عزيزةٌ طويلةٌ. وإنَّما قِيْلَ على هذا التأويلِ ؛ لأنه لا يجوزُ أن يكون بعضُ الأشياءِ على الله أهْوَنُ من بعضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له الصِّفةُ العُليا وهي القدرةُ التي لا يجرِي عليها العجزُ ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي القاهرُ لكلِّ شيء ، الْحَكِيْمُ في جميعِ أفعاله.
(0/0)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } ؛ أي وَصَفَ لكم أيُّها المشركونَ مَثَلاً مِن أنفُسِكم ، وبيَّن لكم ذلك الْمَثَلَ من أنفسِكم ، ثُم بَيَّنَهُ فقالَ { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، أي هل لَكم من عبيدِكم وإمائكم مِن شركاءٍ فيما رزقنَاكم من الأموالِ ؛ أي هل يُشاركونَكم في أموالِكم فتكونوا أنتم مع عبيدِكم سواءٌ فيما أعطينَاكُم ، { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } ، أي تخافُونَ عبيدَكم أنْ يُقاسِموكم في مالِكم كما تخافونَ نساءكم وأقاربكم أن يورثوكم بعدَكم ، أو تخافُوا لائمةَ عبيدِكم إذا لَم تعطُوهم حقَّهم ، كما تخافون لاَئِمَةَ بعضِكم بعضاً من الأقارب والشُّركاء إذا لَم يؤدُّوا حقَّهم إليهم.
قالوا : لاَ! فقال : أفَتَرْضَوْنَ للهِ تعالى ما لا ترضَونَ لأنفُسِكم ، تُشرِكون عبيدَ الله في مُلكهِ ، وقد خلَقَهم ، ولا تشركون عبيدَكم فيما رزَقَكم اللهُ وأنتم لَم تخلِقُوهم ، وتجعلونَ الْخَوْفَ من عبيدِ الله كالخوفِ من الله إذ تعبدُونَهم كعبادةِ الله تعالى ، { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ أي هكذا يبيِّنُ الآياتِ واحدةً بعد واحدةٍ ليكون ذلك أقربَ إلى الفهمِ وواقع في القلب.
ومعنى { أَنفُسَكُمْ } ها هنا : أمثَالَكُمْ من الأحرار ، كقوله{ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ }[الحجرات : 11]. ومعنى الآيةِ : كيفَ رضِيتم أن تكون آلِهتُكم التي تعبدونَها لِي شركاءَ وأنتُم عبيدي وأنا مَالِكُهم جميعاً ، فكما لا يجوزُ استواءُ المملوكِ مع سيِّده ، كذلك لا يجوزُ استواءُ المخلوق مع خالقهِ.
(0/0)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ أي ليسَ لَهم في الإشراكِ شبهةٌ من حيث الحجةُ ، ولكنَّهم يُشرِكون باللهِ بناءً على الجهلِ وهوَى النفسِ { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } ؛ أي لا هاديَ لِمن أضلَّهُ اللهُ ، { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ؛ أي ما لَهم من مَانِعين من عذاب الله.
(0/0)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } ؛ أي فأقِمْ يا مُحَمَّدُ على دِين الإسلامِ ، وقوله { حَنِيفاً } أي مائِلاً عن كلِّ دينٍ إلاَّ الإسلامُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فِطْرَتَ اللَّهِ } ؛ أي اتَّبعْ دِينَ اللهِ ، والفطرةُ : الْمِلَّةُ ؛ وهي الإسلامُ والتوحيدُ ، { الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ؛ أي خَلَقَ اللهُ المؤمنين عليها ، وقد وَرَدَ في الحديثِ : " كُلُّ مَوْلُودٍ يُوْلَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ " إلى آخرِ الحديثِ.
وانتصبَ قولهُ (فِطْرَةَ اللهِ) على الإغراءِ ، وَقِيْلَ : على معنى : اتَّبعْ فطرةَ اللهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ؛ أي لا تغييرَ لدِين اللهِ الذي أمرَ الناسَ بالثَّباتِ عليهِ ، وهو نفيٌ معناه النهيُ ؛ أي تُبدِّلُوا دينَ اللهِ الذي الذي هو التوحيدُ بالشِّركِ. وقولهُ تعالى : { ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } يعني التوحيدَ هو الدينُ المستقيم ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ } ؛ يعني كفَّارَ مكَّة ، { لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ توحيدَ اللهِ ودِينَ الإسلامِ هو الحقُّ.
(0/0)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ } ؛ أي أقِيمُوا وجُوهَكم راجعينَ إلى اللهِ في كلِّ ما أمَرَكم به ، لا تَخرجُون عن شيءٍ من أوامرهِ ، وهذا لأنَّ الخطابَ في أوَّلِ هذه الآياتِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بقولهِ { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } ، والمرادُ به أُمتَهُ ، كما في قولهِ{ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ }[الطلاق : 1] فكأنَّهُ قالَ : أقِيمُوا وجُوهَكم مُنِيْبيْنَ ؛ أي رَاجِعين إلى أوامرهِ ، وقولهُ تعالى { وَاتَّقُوهُ } أي اتَّقُوا مُخالَفتَهُ ، { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } ؛ أي زَايَلُوا دِينَهم الذي أُمِرُوا بالثبات عليهِ.
وَمن قرأ (فَرَّقُواْ دِيْنَهُمْ) فمعناهُ : صَارُوا فِرَقاً ، وذلكَ معنى قولهِ : { وَكَانُواْ شِيَعاً } ، أي صارُوا جماعةً ، { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } ، أي كلُّ جماعةٍ اختَارَتْ دِيناً مثل اليهودِ والنَّصارى وسائرِ الْمِلَلِ ، كلُّ أهلِ دِينٍ يفرحون بما عندَهم من الدِّين.
(0/0)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ } ؛ أي إذا أصَابَ الناسَ شدَّةٌ وبَلِيَّةٌ وقحطٌ وغلاءٌ يعني كفَّارَ مكَّة ، دَعَوا ربَّهم لدفعِ الشِّدة ، { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } ؛ أي رَاجِعين إليه ، مُنقَطِعين من الْخَلْقِ ، لا يَلجَأُونَ في شَدائدِهم إلى أوثَانِهم ، { ثُمَّ إِذَآ } ؛ أذهبَ عنهُم تلكَ الشدَّةَ و { أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً } ؛ أي أعطَاهم من عندهِ المطرَ ، { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } ؛ أي يَعُودُونَ إلى الشِّركِ { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } ؛ فيبدِّلُوا الشُّكرَ كُفراً ، { فَتَمَتَّعُواْ } ؛ أي تلَذذُوا في الدُّنيا ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، مَاذا ينْزِلُ بكم.
(0/0)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } ؛ أي أمْ أنزَلنا على هؤلاءِ حُجَّةً وبرهاناً وكِتَاباً من السَّماء ، { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } ، يشهدُ وينطقُ بأنَّ اللهَ أمَرَهم بما يفعلون. وهنا استفهامُ إنكارٍ ؛ أي ليسَ الأمرُ على هذا.
(0/0)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا } ؛ أي إذا أذقْناهم نعمةً استَبشَرُوا بها ، { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ؛ شِدَّةٌ ومِحنَةٌ وبليَّةٌ ، { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ؛ في الشِّركِ من المعاصي { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } ؛ أي إذا هم يَيْأَسُونَ من رحمةِ الله.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ أي ويُضَيِّقُ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } ؛ أي في البَسْطِ والتَّقتيرِ ، { لآيَاتٍ } ؛ دالَّةٍ على التوحيدِ ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } ؛ أي أعْطِ ذا القُربَى في الرَّحِمِ حَقَّهُ من الصِّلةِ والبرِّ ، وَأعْطِ { وَالْمِسْكِينَ } ؛ الذي يطوفُ على الأبواب حَقَّهُ أيضاً ، وهو التَّصَدُّقُ عليهِ ، وَأعطِ { وَابْنَ السَّبِيلِ } ؛ النازلِ بكَ حَقَّهٌ ؛ أي ضيافتَهُ ، يعني أكْرِمِ الضَّيْفَ النازلَ بك ، { ذَلِكَ خَيْرٌ } ؛ أي الذي ذكرتُ مِن الصِّلةِ والإعطاء والضِّيافة خيرٌ ، { لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } ؛ يعني رضَا اللهِ ؛ أي إعطاءُ الْحُرِّ أفضلُ من الإمسَاكِ { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي الفائزونَ السُّعداءُ الباقون في الجنَّة ، ومَن أعطَى أحَداً لا يريدُ به وجهَ اللهِ ذهبَ مالهُ مِن غير أن يحصلَ على شيءٍ ، فلذلك قالَ : { يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ }.
(0/0)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ } ؛ أي ما تعاطيتُم مِن عقدِ الرِّبَا رجاءَ أن تزيدُوا أموالَكم فلا يزيدُ في حُكْمِ اللهِ ، وعلى الآخذِ أن يَرُدَّهُ على المأخوذِ منهُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَاواْ }[البقرة : 276].
قرأ ابنُ كثيرٍ (أتَيْتُمْ) مقصوراً غيرَ ممدودٍ. وقولهُ تعالى (لِيَرْبُوَا) ، قرأ الحسنُ ونافع : (لِتُرْبُو) بتاءٍ مضمومةٍ وجزمِ الواو على الخطاب ؛ أي لتُرْبُو أنتُم ، وقرأ الباقونَ (لِيَرْبُوَا) بياءٍ مفتوحة ونصب الواو ، وجعلوا الفعلَ للرِّبَا.
وقولهُ تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ } ؛ أي ما أعطيتُم من صدقةٍ تريدون بها رضَا اللهِ ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ } ؛ الذين يُضَاعَفُ لَهم في العاجلِ والآجلِ ، يقالُ : رجلٌ مُضْعِفٌ ؛ أي ذُو أضْعَافٍ كما يقالُ : رجلٌ مُقَوِّي ذو قوَّةٍ ، وموسِرٌ ؛ أي صاحبُ يَسَارٍ.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قولهِ تعالى { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً } : (الرِّبَا هَا هُنَا هُوَ هِبَةُ الرَّجُلِ لِصَاحِبهِ يُرِيْدُ أنْ يُثَابَ أفْضَلَ مِنْهُ). وقال السديُّ : (هُوَ الْهَدِيَّةُ يُهْدِيْهَا الرَّجُلُ لأَخِيْهِ يَطْلُبُ الْمُجَازَاةَ ، فَإنَّْ ذلِكَ لاَ يَرْبُو عِنْدَ اللهِ ، وَلاَ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَلاَ إثْمَ عَلَيْهِ) ، وقال الزجَّاجُ : (هُوَ دَفْعُ الإنْسَانِ الشَّيْءَ لِيُعَوَّضَ مَا هُوَ أكْبَرُ مِنْهُ ، وَذلِكَ لَيْسَ بحَرَامٍ وَلَكِنَّهُ لاَ ثَوَابَ فِيْهِ ؛ لأَنَّ الَّذِي يُهْدِيْهِ يَسْتَدْعِي مَا هُوَ أكْثَرُ مِنْهُ ، وَإنَّمَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ هُوَ الْعَطِيَّةُ الَّتِي لاَ يُطْلَبُ بهَا الْمُكَافَأَةَ ، وَلاَ يُرَادُ بهَا إلاَّ رضَا وَجْهِ اللهِ).
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ } ؛ أي خلَقَكم في بُطونِ أُمَّهَاتكم ثُم أخرَجكم ، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } ؛ بعد انقضاءِ آجَالِكم ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } ؛ بعدَ الموتِ ، { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }.
(0/0)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي قُحِطَ المطرُ ونَقُصَتِ الغلاَّتُ وذهبَتِ البركةُ في البَرِّ والبحرِ ، أي أجدبَ الْبَرُّ وانقطعت مادَّةُ البحرِ ، { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ } ؛ أي بشُؤْمِ ذنُوبهم ومعاصيهم ، الناسُ كفَّارُ مكَّة ، { لِيُذِيقَهُمْ } ؛ اللهُ بالجوعِ في السِّنين السبعِ ، يعني { بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ } ؛ أي جزاؤهُ ليكونَ عقوبةً معجَّلةً ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ من الكُفْرِ إلى الإيْمانِ ، ومن المعصيةِ إلى الطاعةِ ، فيكشفُ الله عنهم الشدَّةَ. وفي هذا تَنبيْهٌ على أنَّ الله تعالى إنَّما يقضي بالْجُدُوبَةِ ونقصِ الثَّمراتِ والنباتِ لُطْفاً منه في رجوعِ الخلقِ عن المعصيةِ.
(0/0)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي قُلْ لأهلِ مكَّة سافِرُوا في الأرضِ ، { فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } ، أي كيفَ صارَ إجرامُ ، { الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } ؛ أي انظُرُوا إلى ديار عَادٍ وثَمُودَ وقومِ لُوطٍ لِيَدُلَّكُمْ ذلك على أنهُ لاَ ينبغِي لأحدٍ أن يَكْفُرَ باللهِ تعالى.
(0/0)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقِيِّمِ } ؛ أي أقِمْ قَصْدَكَ وعملكَ ، واجعل جِهَتَكَ اتِّباعَ الدِّين القَيِّمِ وهو الإسلامُ المستقيمُ الذي لا عِوَجَ فيه ، واعمَلْ به أنتَ ومَن تَبعَكَ ، { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ } ؛ يعني يومَ القيامةِ ، { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } ؛ أي يومَ القيامةِ يتفرَّقون بعدَ الحساب إلى الجنَّة والنار.
(0/0)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي ضَرَرُ كُفْرِهِ ، { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } ؛ أي يَطَأُونَ لأنفسهم منازلَهم في الجنةِ ، { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ ثوابَهم ، ثُم يزيدَهم { مِن فَضْلِهِ } ؛ أي يُثِيبَهُمْ أكثرَ مِن أعمالِهم ، { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } ؛ أي يُكرِمُهم ولا يُثيبهم ولا يرضَى عنهم.
(0/0)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } ؛ أي مِن علاماتِ توحيده إرسالهُ الرياحَ للبشَارَةِ بالمطرِ ، { وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ } ؛ يعْني الغيثَ والخِصْبَ ، { وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ } ؛ أي السفنُ تجري في البحرِ بتلكَ الرِّياحِ ، { بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } ؛ أي ولتَسْلُكوا في البحرِ على السُّفن للتجارةِ وطلب الرزقِ بهذه الرياح ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ هذه النِّعَمَ فتوحِّدُونه.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالدَّلاَلاتِ الواضحاتِ فكذبُوا بها ، { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ } ؛ أي عذبنا الذين كذبُوهم ، { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } ؛ أي كان وَاجِباً علينا إنْجاءُ المؤمنين مع الرُّسُلِ من عذاب الأُمَمِ ، وفي هذا تبشيرٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالظَّفَرِ والنصرِ على مَن كذبَ بهِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً } ؛ أي تُزْعِجُهُ مِن حيث هو ، وذلك أنَّ اللهَ يُحْدِثُ السَّحابَ عُقيبَ الرياحِ فترفعهُ الرياحُ في الهواءِ ، { فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } أي قِطَعاً بعضُها فوق بعضٍ ، { فَتَرَى الْوَدْقَ } يعني المطرَ ، { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } ؛ أي وَسَطِهِ إلى قومٍ دونَ قوم ، { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ } ؛ بذلك المطرِ ، { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ؛ يفرَحُون بالمطرِ ، { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ } ؛ المطرُ { مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } ؛ أي يائسين من ذلك ، كرَّرَهُ للتأكيدِ ، والْمُبْلِسُ هو الآيسُ القَانِطُ.
(0/0)
فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } ، الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيرهِ. وآثارُ الرحمةِ هي أنواعُ النَّباتِ الذي ينبتُ من المطرِ من بين أخضرٍ وأحمر وغيرِ ذلك من الألوان.
وقولهُ { كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } كيف يجعلُ الأرضَ مُخْضَرَّةً بعد يُبْسِهَا ، { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى } ، أي الذي فَعَلَ ذلك هو الذي يُحيي الموتَى للنُّشُور ، فإنه كما يعيدُ الشجرَ الذي ظَهَرَ يُبْسُهُ ، ويعيدُ فيه الْخُضْرَةَ والنورَ والثمرةَ ، كذلك يُحيي الموتَى ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من الموتِ والبعثِ قديرٌ.
(0/0)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } ، ولَئِنْ أرسَلْنَا ريْحاً حارَّةً أو باردةً فأَيبَسَتْ زُرُوعَهم ، ورأوُا الزرعَ مُصْفَرّاً بعد خُضرتهِ ، { لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ، لصَارُوا بعد اصفرار النَّبتِ يَجْحَدُونَ ما سَلَفَ من النعمةِ ، يعني أنَّهم يفرحون عند الخصب ، وإذا استبطأُوا الخصبَ والرزق جَزِعُوا فكَفَرُوا بالنِّعَمِ.
(0/0)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى } ؛ يعني الكفارَ لا يُسْمِعُ ، والأعمالُ الذي لا يُبصِرون ، ولذلك قال : { وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلاَلَتِهِمْ } ؛ أي لا تقدرُ أن تُجْبرَهم على الْهُدَى ، وإنَّما بُعِثْتَ داعياً ومُبَلِّغاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } ؛ أي إلاَّ مَن يُصَدِّقُ بكِتَابنَا ، { فَهُمْ مُّسْلِمُونَ } ؛ أي هم الذين يَسْتَبْدِلُونَ به فهم مُخلِصُونَ مُنقَادُونَ لأمرِ الله.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } ؛ أي مِن نطفةٍ ضَعيفةٍ بُطونِ الأُمَّهَاتِ ، ثُم أطْفَالاً لا يَملكون لأنفُسِهم نَفْعاً ولا ضرّاً ، { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً } ، ثُم جعلَكم أقوياءَ بما أعطاكم مِن العقلِ والاستطاعة والهدايةِ والتصرُّف في اختلاف المنافعِ ودفع المضارِّ ، { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ } ؛ قُوَّةِ الشَّباب ، { ضَعْفاً } ؛ عند الكبر والهرمِ ، { وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ؛ مِن ضعفٍ وقوة وشَيبةٍ وشبَابٍ ، { وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ } ؛ أي العَلِيْمُ بخلقهِ القَادِرُ على تَحويلِهم من حالٍ إلى حال.
(0/0)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } ؛ أي تقومُ السَّاعة ، يحلِفُ المشرِكون ما لَبثُوا في القبور غيرَ ساعةٍ واحدة. وَقِيْلَ : ما لَبثُوا في الدُّنيا غيرَ ساعةٍ يَسْتَقِلُّونَ في جنب أيَّام الآخرةِ ، { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } ؛ أي هكذا كانوا يَكْذِبُونَ في الدُّنيا بجهلهم وغفلتِهم كما كذبُوا في الآخرةِ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ } ؛ أرادَ بالذينَ أوُتوا العلمَ : الملائكةَ والأنبياء والمؤمنونَ ، يقولون للكفَّار بعدَ ما أقْسَمُوا : لقد لَبثْتُمْ فيما كَتَبَ اللهُ لكم من اللُّبثِ إلى يومِ البعث ، وَقِيْلَ : في حُكْمِ اللهِ ، وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ تقديرهُ : وقال الذين أوتُوا العلمَ في كتاب الله ، وهم الذين يعلمونَ كتابَ اللهِ. وقولهُ : { فَهَـاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ } ؛ أي يوم الذي كنتم تُنْكِرُونَهُ في الدُّنيا ، وتكذِّبون بهِ ، { وَلَـاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ وقُوعَهُ في الدُّنيا فلا ينفعُكم العلمُ به الآنَ.
(0/0)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } ؛ أي اعتِذارُهم من الذُّنوب إن اعتَذروا ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ؛ أي لا يُجَابُونَ إلى ما يطلُبون من الرَّجعةِ إلى الدُّنيا ، فإنَّهم يقُولون : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً }[السجدة : 12]. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (لاَ يُقْبَلُ مِنَ الَّذِيْنَ أشْرَكُواْ عُذْرٌ وَلاَ عِتَابٌ وَلاَ تَوْبَةٌ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ).
(0/0)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ؛ أي بَيَّنَّا لَهم في القُرْآنِ من كلِّ صِفَةٍ ، { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ } ؛ مثلَ العصَا واليدِ وبكلِّ حُجَّةٍ ، { لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } ؛ أي مَا أنتم إلاّ على الباطلِ يا مُحَمَّدُ وأصحابُكَ!.
(0/0)
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أي يَخْتِمُ على قلوب الذين لا يعلمُون توحيدَ اللهِ ، فكلُّ مَن لا يعلمُ توحيدَ الله فذلك لأجلِ ما طَبَعَ اللهُ على قلبهِ.
(0/0)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ أي اصْبرْ يا مُحَمَّدُ على تبليغِ الرِّسالة والوحيِ ، وعلى مَا يلحقُكَ من أذِيَّةِ الكفَّار ، فإنَّ ما وَعَدَ اللهُ من النَّصرِ وإظهار دِين الإسلامِ صدقٌ كائن يأتيكَ في حينهِ. والمعنى : (فَاصْبرْ إنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) بنصرِ دِينِكَ وإظهاركَ على عَدُوِّكَ حقٌّ فلا يَحْمِلَنَّكَ تكذيبُ الكفار الذين لا يَسْتَيْقِنُونَ بأمرِ الله على الحقِّ ، وكُنْ حَلِيماً صَبُوراً.
وقوله : { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ، لا تَعْجَلْ بالدُّعاءِ عليهم فيما يستَعجِلون مِن العذاب لقولِهم : { ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ }[العنكبوت : 29] ، و{ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ }[سبأ : 29] و{ عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ }[ص : 16]. ومعنى الآيةِ : (وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّ) رأيَكَ وحِلمَكَ يا مُحَمَّدُ { الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ } ؛ بالبعثِ والحساب.
(0/0)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
{ الـم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي هذه السورةُ آياتُ الكتابِ الحكيم الذي وعدَكَ اللهُ أن يُنْزِلَهُ عليكَ.
وانتصبَ (هُدًى وَرَحْمَةً) على الحالِ. وقرأ حمزةُ بالرفعِ على الابتداء ، وَقِيْلَ : على إضمار هُوَ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (مَعْنَى الآيةِ : هُدًى مِنَ الضَّلاَلَةِ وَرَحْمَةً مِنَ الْعَذَابِ لِلمُوَحِّدِيْنَ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وما بعدَ هذا قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ نزلت هذه الآيةُ وما بعدَها في النَّضرِ بن الحارثِ ، كان اشترَى كُتباً فيها أخبارُ الأعاجمِ ، ويحدِّثُ بها أهلَ مكَّة ، ويتمَلَّقُ بها في المجالسِ ، ويقولُ : إنَّ مُحَمَّداً يحدِّثُكم أحاديثَ عادٍ وثَمودَ ، وأنا أُحدِّثُكم أحاديثَ فارس والروم ، وأقرأُ عليكم كما مُحَمَّدٌ يقرأ عليكم أساطيرَ الأوَّلين هو يأتِيكم بكتابٍ فيه قصصُ الأممِ الماضيةِ ، وأنا أتيتُ بمثلهِ! وكانوا يستَمْلِحُون حديثَهُ ، وكان إذا سَمِعَ شيئاً من القُرْآنِ يهزأُ به ويُعرِضُ عنهُ. فذلكَ قولهُ : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ؛ أي ليصرِفَ الناسَ عن دِين الله بلا علمٍ ، ومن قرأ (لِيَضِلَّ) بفتحِ الياء ، فمعناهُ : ليتَشَاغَلَ بما يُلهِيهِ ، وليصير أمرهُ إلى الضَّلال والباطلِ.
ومعنى قولهِ تعالى { لَهْوَ الْحَدِيثِ } أي باطلُ الحديثِ ، هذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل ، وَقِيِْلَ : المرادُ بلَهْوِ الحديثِ الغناءُ ، وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لاَ يَحِلُّ تَعْلِيْمُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلاَ بَيْعُهُنَّ وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ ؛ مَا رَفَعَ رَجُلٌ قًطُّ عَقِيْرَتَهُ يَتَغَنَّى إلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بأَرْجُلِهِمَا عَلَى ظَهْرِهِ وَصَدْرهِ حَتَّى يَسْكُتْ " ، وهذا قولُ سعيدِ بن جُبير ومجاهد وابنِ مسعودٍ ، قالوا : (هُوَ وَاللهِ الْغِنَاءُ ، وَاشْتِرَاءُ الْمُغَنِّيَةِ وَالْمُغَنِّي بالْمَالِ).
وقال صلى الله عليه وسلم : " " مَنْ مَلأَ مَسَامِعَهُ مِنْ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أنْ يَسْمَعَ أصْوَاتَ الرُّوحَانِيِّيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " قِيْلَ : وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " أهْلُ الْجَنَّةِ " " ، وعن إبراهيمَ النخعيِّ أنه قالَ : (الْغِنَاءُ يُنبتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْب) وقال مكحولُ : (مَنِ اشْتَرَى جَاريَةً ضَرَّابَةً لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبها مُقِيْماً عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي أنه جاهلٌ فيما يفعلُ ، لا يفعلهُ عن عِلْمٍ ، { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } بالرفعِ عطفاً على { مَن يَشْتَرِي } ، وبالنصب عَطفاً على { لِيُضِلَّ } ، والكتابةُ المذكورة تعودُ إمَّا إلى الآياتِ المذكورةِ في أوَّل السورةِ ، وإما إلى (سَبيْلِ اللهِ) ، والسبيلُ يُؤَنَّثُ لقولهِ{ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي }[يوسف : 108].
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً } ؛ أي أعرَضَ عن قَبولِها متَعظِّماً عنِ الإيْمان بها ، { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } ؛ أي ثُقْلاً يَمنعهُ عن السَّماعِ ، { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ وَجِيْعٍ في الدُّنيا قبل أن يَصِلَ إلى الآخرةِ ، وهو ما رُوي : (أنَّهُ أُخِذَ أسِيْراً يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْراً).
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ ظاهُر المعنَى.
(0/0)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
وقولهُ تعالى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } ؛ أي جِبَالاً ثُم أُرْسِيَتِ أوتادٌ لَها لِئَلاَّ تَميدَ بأهلِها ، { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } ؛ أي فرَّقَ الدوابَّ الكثيرةَ في الأرضِ ، { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } ؛ أي مِن كلِّ نوعٍ حسَنٍ.
(0/0)
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
وقولهُ تعالَى : { هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ } ؛ أي هذا الذي ذكرتُ لكم مما تُعاينُونَ خَلْقُ اللهِ ، { فَأَرُونِي } ؛ أيُّها الكفارُ ، { مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } ؛ أيُّ شيءٍ خَلَقَهُ الذي تعبدونَ مِن دونهِ ، فلم تَجِدُوا شَيئاً يشيرونَ إليهِ من خَلْقِ غيرهِ ، ولَم يقدِرُوا على جواب هذا الكلامِ ، فقِيْلَ : { بَلِ الظَّالِمُونَ } ؛ أي الكافِرون ، { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } ؛ يعني العقلَ والعلم والعملَ به ، والإصابةَ في الأمور. واتَّفقَ العلماءُ على أن لُقْمَانَ حكيماً ، ولَم يكن نَبيّاً إلاّ عكرمةُ وحدَهُ فإنه قال : (كَانَ لُقْمَانُ نَبيّاً) ، وقال بعضُهم : خُيِّرَ لقمانُ بين النبوَّة والحكمةِ فاختارَ الحكمةَ!
وعن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ قالَ : سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ : " حَقّاً أقُولُهُ : لَمْ يَكُنْ لُقْمَانُ نَبيّاً ، وَلَكِنْ عَبْداً صَمْصَامَةً ، كَثِيْرَ التَّفَكُّرِ ، حَسَنَ الْيَقِيْنِ ، أحَبَّ اللهَ فَأَحَبَّهُ ، فَمَنَّ عَلَيْهِ بالْحِكْمَةِ " ورويَ أنه كان تَتَلْمَذَ لألفِ نبيٍّ عليهم السَّلام.
واختَلفُوا في حِرفتهِ ، فقالَ الأكثرُون : كان نَجَّاراً ، ويقالُ : كان خيَّاطاً ، ويقالُ : كان راعياً ، ويروى : كان عَبْداً حَبَشِيّاً غليظَ الشَّفتين مشقوقَ الرِّجلين.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (مَرَّ رَجُلٌ بلُقْمَانَ وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ حَوْلَهُ وَهُوَ يَعِظُهُمْ ، فَقَالَ : ألَسْتَ الْعَبْدَ الأَسْوَدَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟! قَالَ : بَلَى ، قَالَ : فَمَا بَلَغَ بكَ إلَى مَا أرَى ؟ قَالَ : صِدْقُ الْحَدِيْثِ ؛ وَأدَاءُ الأَمَانَةِ ؛ وَتَرْكُ مَا لاَ يَعْنِيْنِي).
وعن أنسٍ : (أنَّ لُقْمَانَ كَانَ عَبْدَ دَاوُدَ عليه السلام وَهُوَ يَسْرِدُ دِرْعاً ، فجَعَلَ لُقْمَانَ يَتَعَجَّبُ مِمَّا يَرَى ، وَيُرِيْدُ أنْ يَسْأَلَهُ فَمَنَعَتْهُ حِكْمَتُهُ مِنَ السُّؤَالِ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا ، جَعَلَهَا عَلَيْهِ وَقَالَ : نِعْمَ دِرْعُ الْحَرْب هَذَا وَنِعْمَ حَامِلُهُ ، فَقَالَ لُقْمَانُ : الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيْلٌ فَاعِلُهُ).
وقال عكرمة : (كَانَ لُقْمَانُ مِنْ أهْوَنِ مَمَالِيْكِ سَيِّدِهِ ، فَبَعَثَ مَوْلاَهُ مَعَ عَبيْدٍ لَهُ إلَى بُسْتَانٍ لِمَوْلاَهُمْ يَأْتُونَهُ مِنْ ثَمَرِهِ ، فَجَاءُوا وَلَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، وَقَدْ أكَلُواْ الثَّمَرَةَ ، وَأحَالُواْ عَلَى لُقْمَانَ بذَلِكَ! فَقَالَ لُقْمَانُ لِمَوْلاَهُ : إنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لاَ يَكُونُ عِنْدَ اللهِ أمِيْناً ، فَاسْقِنِي وَإيَّاهُمْ مَاءً حَمِيْماً ، فَسَقَاهُمْ فَجَعَلُواْ يَتَقَيَّؤُن الْفَاكِهَةَ ، وَجَعَلَ لُقْمَانُ يَتَقَيَّأُ مَاءً بَحْتاً ، فَعَرَفَ صِدْقَهُ وَكَذِبَهُمْ).
قال : (وَأَوَّلُ مَا رُويَ مِنْ حِكْمَتِهِ أنَّهُ جَاءَ مَعَ مَوْلاَهُ فَدَخَلَ الْمَخْدَعَ ، فَأَطَالَ الْجُلُوسَ فِيْهِ ، فَنَادَاهُ لُقْمَانُ : إنَّ طُولَ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَاجَةِ يَتَجَمَّعُ مِنْهُ الْكَدَرُ ، وَيُورثُ الْبَاسُورَ ، وَتَصْعَدُ الْحَرَارَةُ إلَى الرَّأسِ ، فَاجْلُسْ هُوَيْناً وَقُمْ هُوَيْناً ، قَالَ : فَخَرَجَ وَكَتَبَ حِكْمَتَهُ عَلَى بَاب الْحَشِّ).
ومعنى الآية { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ } عِلْمَ التوحيدِ والمواعظِ والفقهِ والعقل والإصابة في القولِ ، وألْهَمناهُ أن يشكرَ اللهَ على ما أعطاهُ من الحكمةِ.
ومعنى قولهِ : { أَنِ اشْكُرْ للَّهِ } ؛ أي قُلنا له : اشْكُرِ اللهَ فيما أعطاكَ من الحكمةِ ، { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ؛ أي مَن يشكرُ نِعَمَ اللهِ فإنا منفعةَ شُكرهِ راجعةٌ إلى نفسهِ ، { وَمَن كَفَرَ } ؛ فلم يُوَحِّدْ ، { فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ } ؛ عن شُكرهِ ، { حَمِيدٌ } ؛ يحمَدهُ الشاكرُ ويثبته إلى شُكرهِ.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ } ؛ أي واذْكُرْ : إذْ قَالَ لُقْمانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ : { يابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ } ؛ أحَداً في العبادةِ ، { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ؛ عندَ اللهِ ؛ أي ليس مِن الذُّنوب شيءٌ أعظمُ من الشِّرك باللهِ ؛ لأنَّ الله تعالى هو الحيُّ المميتُ الخالق الرازقُ ، فإذا أشركتَ به أحداً غيرَهُ فقد جعلتَ النعمةَ لغير ربها ، وذلك من أعظمِ الظُّلمِ.
(0/0)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } ؛ نزل في سَعدِ بن أبي وقَّاص ؛ لَمَّا آمَنَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُمُّهُ لاَ تَذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً وَلاَ يُظِلُّهَا شَيْءٌ حَتَّى يَرْجِعَ سَعْدُ إلَى دِينْهِ ، فَمََضَتْ عَلَى هَذَا أيَّاماً ، فَبَلَغَ مِنْ أمْرِهَا إلَى تَدَاخَلَ بَعْضُ أسْنَانِهَا فِي بَعْضٍ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَقَالَ سَعْدٌ : (لَوْ كَانَ لَهَا سَبْعُونَ نَفْساً فَخَرَجَتْ مَا ارْتَدَدْتُ عَنِ الإسْلاَمِ) فَفَتَحَ فَاهَا وَصَبَّ فِيْهِ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ. ومعنى { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ } أي أمرناهُ ببرِّ والدَيه عطفاً عليهما.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ } ؛ أي ضَعْفاً على ضعفٍ ، ومشقَّةً على مشقةٍ ، كلَّما ازدادَ الولدُ في الرَّحمِ كِبر ، ازدادت الأمُّ ضَعفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } ؛ أي وفِطَامُهُ في انقضاءِ عامَين ، وقدَّرَهُ بعامين بناءً على الأغلب ، ولأنَّ الرَّضاع لا يستحقُّ بعد هذه المدَّة. والفِصَالُ هو الفِطَامُ ، وهو أن يُفْصَلَ الولدُ عن الأمِّ كي لا يرضع. والمعنى بهذا ذكرُ مشقَّة الوالدةِ بإرضاعِ الولد عامَين. ورُوي عن يعقوب : (وَفَصْلُهُ فِي عَامَيْنِ) بغير ألفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } ؛ أي قُلنا له اشكُرْ لِي على خلْقِي إياكَ ، وعلى إنعامِي عليكَ ، واشكُرْ لوالديكَ على تربيَتهما إياكَ. وقال مقاتلُ : (اشْكُرْ لِي إذْ هَدَيْتُكَ للإسْلاَمِ ، وَلِوَالِدَيْكَ بمَا أوْلَيَاكَ مِنَ النِّعَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَيَّ الْمَصِيرُ } ؛ أي مصيرُكَ ومصيرُ والدَيك ، وعن سُفيان بن عُيينةَ في قولهِ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } قال : (مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ اللهَ ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي إدْبَار الصَّلَوَاتِ فَقَدْ شَكَرَ لِلْوَالِدَيْنِ).
(0/0)
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } ؛ أي أجْهَدَا عليكَ لتُشرَكَ بي جَهلاً بغيرِ علمٍ فَلاَ تُطِعْهُمَا ، فإنَّ حقَّهما وإنْ عَظُمَ فليس بأعظمَ من حقِّي.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " حُسْنُ الْمُصَاحَبَةِ أنْ تُطْعِمْهُمَا إذَا جَاعَا ، وَتَكْسُوهُمَا إذَا عَرِيَا ، وَعَاشِرْهُمَا عِشْرَةً جَمِيْلَةً " { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } ؛ أي واتَّبع طريقَ مَن رجعَ إلَيَّ ؛ أي مَنْ سَلَكَ طريقَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وأصحابهِ. والمعنى : واتَّبعِ دِينَ من أقبل إلى طَاعَتِي وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقال عطاءُ عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ : (يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه أنَّهُ حِيْنَ أتَاهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ وَسَعِيْدُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ فَقَالُواْ : يَا أبَا بَكْرٍ آمَنْتَ وَصَدَّقْتَ مُحَمَّداً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَآمَنُواْ بهِ وَصَدَّقُواْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ لِسَعْدٍ : (وَاتَّبعْ سَبيْلَ مَنْ أنَابَ إلَيَّ) يَعْنِي أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيْقَ رضي الله عنه).
ويستدلُّ مِن قولهِ تعالى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } على أنَّ الابنَ لا يستحقُّ القَوَدَ على أبيهِ ، ولا يُحَدُّ الأبُ بقَذفَةِ الابنِ ، ولا يحبسُ الأبُ بدَينِ الابنِ ، لأن في إيجاب القَوَدِ والحدِّ والحبسِ له عليه ما يُنافِي مُصَاحبتَهما.
وعن أبي يوسفَ : (أنَّ الْقَاضِي يَأْمُرُ الأبَ بقَضَاءِ دَيْنِ الابْنِ ، فَإنْ تَمَرَّدَ حَبَسَهُ لاسْتِخْفَافِ أمْرِهِ) وقال محمَّدُ بن الحسنِ : (يُحْبَسُ الأَبُ فِي نَفَقَةِ الابْنِ الصَّغِيْرِ ، وَلاَ يُحْبَسُ بالدِّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ؛ لأنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْبَسْ فِي نَفَقَةِ الصَّغِيْرِ لَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ } ؛ أي مرجِعُكم ومرجعُ آبائِكم ، { فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ. وقد تضمَّنت هذه الآيةُ النَّهيَ عن صُحبة الكفَّار والفُسَّاقِ ، والترغيبَ في صُحبةِ الصالِحين لقولهِ تعالى { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ }.
(0/0)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يابُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ } ؛ وذلك أنَّ ابنَ لُقمان سألَ أباهُ فقالَ : أرأيتَ الحبَّة التي تكون في قَعْرِ البحار ؛ أيعلَمُها اللهُ ؟ فأعلَمَهُ أنَّ الله يعلمُ الحبَّة أينما كانت.
وَقِيْلَ : إنَّ ابنَ لُقمان قال لأبيهِ : يا أبَتِ! إنْ عَمِلْتُ بالْخَطِيْئَةِ حيثُ لا يَرانِي أحدٌ ، كيف يعلَمُها اللهُ ؟ فقال لُقمان لابنهِ : { إِنَّهَآ إِن تَكُ } يعني إنَّ المعصيةَ إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكون في صَخرَةٍ التي تحتَ الأرضين السَّبع أو في السَّموات أو في الأرضِ يأتِ بها اللهُ للجزاءِ عليها.
ومَن قرأ برفعِ (مِثْقَالُ) فتقديرهُ : أن تَقَعَ مثقالُ حبَّة.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } ؛ أي قَادِرٌ على الإتيانٍ بها ، خَبيرٌ بموضِعها ، يُوصِلُها إلى صاحبها حيث كانَ. واللَّطِيْفُ : العالِمُ بكلِّ دقيقٍ وجليل. ومعنى الآيةِ : أن اللهَ تعالى ضَرَبَ هذا مَثلاً لأعمالِ العبادِ ، يعني أنه يأتِي بأعمالِهم يومَ القيامةِ ، وإنْ كان العملُ الصالح في الصِّغَرِ بوزنِ حبَّة مِن خردلٍ ، فاللهُ تعالى يحفظهُ ولا يخفَى عليه مكانهُ حتى يجازيه عليهِ ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة : 7-8].
(0/0)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ؛ أي أقِمِ الصَّلاةَ التي افترضَها اللهُ عليكَ ، وأمُرْ بالطاعةِ وَانْهَ عن المعصيةِ ، { وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ } ؛ من الأذِيَّةِ في الأمرِ بالمعروف والنَّهيِ عن المنكرِ ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ } ؛ أي الصَّبْرُ على ما أصابَكَ في ذات اللهِ مِن الأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر مِن عِظَامِ الأُمور. وَقِيْلَ : مِن حقِّ الأُمور التي أمرَ اللهُ بها.
(0/0)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } ؛ قرأ نافعُ وأبو عمرو وحمزةُ والكسائي وخلف (تُصَاعِرْ) بالألفِ ، وقرأ الباقونَ (تُصَعِّرْ) بغيرِ ألف. قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : لاَ تَتَكَبَّرْ فَتَحْقِرُكَ النَّاسُ ، وَلاَ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بوَجْهِكَ إذَا كَلَّمُوكَ) ، يقالُ : صَعِّرَ خَدُّكَ وَصَاعَرَ ، إذا مَالَ وأعرضَ تكبُّراً. والمعنى : لا تَتَعَظَّمْ على خلقِ الله ، ولا تُعرِضْ عنِ الناسِ تكبُّراً عليهم ، بل يكونُ الفقيرُ والغنيُّ عندَكَ سواءٌ ، ولا تَعْبَسْ في وجهِ أحدٍ مِن الناسِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً } ؛ أي ولا تَمْشِ في الأرضِ بالإعجَاب والبَطَرِ وَازْدِرَاءِ الناسِ ، قال الحسنُ : (أنَّى لابْنِ آدَمَ الْكِبَرُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ؟!).
وروي : أنَّ الْمُهَلَّبَ بْنَ أبي صُفْرَةَ مَرَّ عَلَى مُطَّرِفِ بْنِ عَبْدِاللهِ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي جُبَّةِ خَزٍّ ، فَقَالَ : (هَذِهِ مِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللهُ وَرَسُولُهُ) فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ : مَا تَعْرِفُنِي؟! قَالَ : (بَلَى ؛ أعْرِفُكَ ، أوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ ، وَآخِرُكَ جِيْفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَتُحْمَلُ بَيْنَ الْعُذْرَةِ) فَمَضَى الْمُهَلَّبُ وَتَرَكَ مِشْيَتَهُ تِلْكَ.
وروي : أنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ خَرَجَ يَوْماً يَتَمَشَّى ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ : (مَنْ هَذَا؟!) قَالُواْ : هَذَا وَلَدُكَ عَبْدُاللهِ ، قَالَ : ادْعُوهُ ، فَجَاؤُا بهِ إلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : (يَا بُنَيَّ! أتَدْري بكَمِ اشْتَرَيْتُ أُمَّكَ ؟ اشْتَرَيْتُهَا بثَلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَأبُوكَ لاَ كَثَّرَ اللهُ مِنْ مِثْلِهِ فِي النَّاسِ ، أتَمْشِي هَذِهِ الْمِشْيَةَ؟!).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ؛ الاخْتِيَالُ : هو التَّبَخْتُرُ في المشيِ ، والفَخُورُ : هو الْمُتَطَاولُ بذِكْرِ المناقب على السَّامعِ والافتخار عليه ، وذلك مذمومٌ لأن المستحقَّ على نِعَمِ اللهِ شُكراً لا الْفِخْرَ.
(0/0)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } ؛ أي تَوَاضَع ولا تتبختَر ، وليكن مشيُكَ قَصْداً لا تبختُراً ولا إسراعاً. قال صلى الله عليه وسلم : " سُرْعَةُ الْمَشْيِ تَذْهَبُ بَهَاءَ الْمُؤْمِنِ " يقالُ : قَصَدَ فلانٌ في مشيتهِ إذا مشَى مُستوِياً ، وقال مقاتلُ : (لاَ تَخْتَلْ فِي مِشْيَتِكَ) ، وقال عطاءُ : (قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ } أيْ امْشِ بالْوَقَارِ وَالسَّكِيْنَةِ) كقولهِ تعالى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً }[الفرقان : 63] ، والمعنى : اقصِدْ في الْمَشْيِ ، لا تعجَلْ ولا تَمشِ بالْهُوَيْنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } ؛ أي اخفِضْ صوتَكَ ولا ترفعْهُ على وجهِ انتهار النَّاس وإظهار الاستخفافِ بهم ، وقال عطاءُ : (مَعْنَاهُ : اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إذَا دَعَوْتَ وَنَاجَيْتَ رَبَّكَ) ، وكذلك وصيَّةُ الله تعالى في الإنجيلِ لعِيسَى عليه السلام : مُرْ عِبَادِي يَخْفِضُوا أصْوَاتَهُم إذا دَعَونِي ، فإنِّي أسمعُ وأعلَمُ ما في قلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } ؛ أي أقبحُ الأصواتِ صوتُ الحميرِ ؛ لأن أوَّلَهُ زفيرٌ وآخرهُ شهيقٌ. قال ابن زيدٍ : (لَوْ كَانَ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ خَيْراً مَا جَعَلَهُ اللهُ لِلْحَمِيْرِ) ، وعن أُمِّ سعدٍ قالت : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْغَضُ ثَلاَثَةَ أصْوَاتٍ : نَهِيْقُ الْحِمَار ، وَنُبَاحُ الْكَلْب ، وَالدَّاعِيَةُ بالْوَيْلِ وَالْحَرْب " وقال سُفيان : (صِيَاحُ كُلِّ شَيْءٍ تَسْبيحُهُ اللهَ إلاَّ الْحِمَارُ فَإنَّهُ يَنْهَقُ بلاَ فَائِدَةٍ).
(0/0)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ أي ألَمْ تَرَوا أنَّ اللهَ خَلَقَ وذَلَّلَ لِمنافعِكم ولِمصَالحِكم ما في السَّمواتِ من الشَّمسِ والقمر والنجومِ والسَّحاب والمطَرِ ، وفي الأرضِ من الأشجارِ والأنْهَارِ والبحارِ والدَّواب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } ؛ أي أتَمَّ عليكم ووسَّعَ لكم نِعَمَهُ (ظَاهِرَةً) من الْخَلْقِ الحسنِ وسلامةِ الأعضاء الظاهرة ، (وبَاطِنَةً) من العقلِ والفهمِ والفطنة والمعرفةِ بالله.
وَقِيْلَ : النعمةُ الظاهرة هي الإسلامُ ، والباطنةُ ما يخفَى من الذُّنوب ويُسْتَرُ من العوراتِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ما يعلمُ الناس من حسنَاتِكَ ، والباطنةُ ما لا يعلمون من السيِّئات.
وقال الضحَّاك : (الظَّاهِرَةُ : حُسْنُ الصُّورَةِ وَامْتِدَادُ الْقَامَةِ وَتَسْوِيَةُ الأَعْضَاءِ ، وَالْبَاطِنَةُ الْمَعْرِفَةُ). وَقِيْلَ : الظاهرةُ الإسلامُ وما أفْضَلَ عليكَ من الرِّزق ، والباطنةُ ما سَتَرَ من سوءِ عمَلِكَ.
وَقِيْلَ : الظاهرةُ نِعْمُ الدُّنيا ، والباطنةُ نِعَمُ العُقبَى. وَقِيْلَ : الظاهرةُ تسويةُ الظواهرِ ، والباطنةُ تصفيةُ السرائرِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ الرِّزْقُ الذي يكتسبُ ، والباطنةُ الرزقُ مِن حيث لا تحتسبُ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ المدخل للغداءِ ، والباطنة المخرجُ للأذَى.
وَقِيْلَ : الظاهرةُ نِعْمَةٌ عليكَ بعد ما خرجتَ من بطنِ أُمِّكَ ، والباطنةُ نعمةٌ عليك وأنتَ في بطنِ أُمِّكَ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ألوانُ العطََايَا ، والباطنةُ غفرانُ الخطايَا. وَقِيْلَ : الظاهرةُ المالُ والأولاد ، والباطنة الْهُدَى والإرشادُ. وَقِيْلَ : الظاهرة التوفيق للعبادات ، والباطنةُ الإخلاصُ من الْمُرَاءَاتِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ما أعطى من النَّعماءِ ، والباطنة ما زوى من أنواعِ البلاء. وَقِيْلَ : الظاهرةُ إنزالُ القَطْرِ والأمطارِ ، والباطنةُ إحياءُ الأقطار والأنصار. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ذِكْرُ اللسانِ ، والباطنةُ ذكر الجِنَانِ. وَقِيْلَ : الظاهرةُ ضياءُ النَّهار ، والباطنةُ ظلمة الليلِ للسُّكون والقرار.
ومَن قرأ (نِعْمَةً) على التوحيدِ فهي واحدةُ تُبنَى على الجميعِ ، كما في قولهِ{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم : 34].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ يعني النَّضْرَ بن الحارثِ يخاصمُ في آياتِ الله وفي صفاتهِ جَهْلاً بغير علمٍ ولا حجَّة ، { وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } ؛ وقد تقدَّم تفسيرهُ في سُورةِ الحجِّ.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ } ؛ أي اعْمَلُوا بما أنزلَ اللهُ ، { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } ؛ قالوا بل نعملُ بما وجدنا عليه آباءَنا ، وقد تقدَّم تفسيرُ ذلك في سُورة البقرةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } ؛ فيتَّبعونَهُ.
(0/0)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } ؛ أي مَن يُخْلِصُ طاعتَهُ للهِ وهو محسنٌ فيها فيفعَلُها على موجب الشَّريعة فقد أخذَ بالأمرِ الأوثقِ ، { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ } ؛ تَرْجِعُ خواتِمُ { الأَمُورِ } ؛ كلِّها ، فيجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ.
قرأ السُلَمِيُّ : (وَمَنْ يُسْلِّمْ) بالتَّشديدِ. ومعنى قولهِ تعالى { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي اعَتْصَمَ بالطَّرَفِ الأوثقِ الذي لا يخافُ انقطاعَهُ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (هُوَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ).
(0/0)
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُحْزِنُهُ كفرُهم مخافةَ أن يكون ذلك لتقصيرٍ من جهتهِ ، فَأَمَّنَهُ اللهُ مِن ذلكَ ، والمعنى : مَن كَفَرَ فلا تَهْتَمَّ لكُفرهِ ، فإنَّ رجوعَهم إلينا وحِسابُهم علينا ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ } ؛ أي نُخبرُهم بقبائحِ أعمالِهم في الدُّنيا ، ونجزيهم عليها ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي عليمٌ بما في القلوب من خيرٍ وشرٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } ؛ أن نُمهِلُهم في الدُّنيا يَسِيراً ، { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } ؛ أي ثُم نُجَلِّيهِمْ في الآخرةِ إلى عذابٍ شديدٍ.
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : " وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ ، أتَتْهُ أخْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُواْ : بَلَغَنَا أنَّكَ قُلْتَ : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } أعَنَيْتَنَا أمْ عَنَيْتَ قَوْمَكَ ؟ فَقَالَ : " بَلْ عَنَيْتُ الْجَمِيْعَ " فَقَالُواْ : ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللهَ أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى وَفِيْهَا أنْبَاءُ كُلِّ شَيْءٍ وَقَدْ خَلَّفَهَا فِيْنَا فَهِيَ مَعَنَا ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " التَّوْرَاةُ وَمَا فِيْهَا مِنَ الأَنْبَاءِ قَلِيْلٌ فِي عِلْمِ اللهِ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
والمعنى : لو جُعِلَ ما في الدُّنيا من الأشجار أقلاماً يكتبُ بها ، وصارَتِ الجنُّ والإنسُ كُتَّاباً ، والبحارَ مِدَاداً يَمدُّها من بعدِها سبعةَ أبْحُرٍ ؛ أي سبعةَ أمثالِ بحرِ الدُّنيا ، وكتبَ بها كلماتِ الله وحِكَمَهُ ، لانكسرَتِ الأقلامُ ، وأُعيَتِ الإنسُ والجنُّ ، وَفَنِيَتِ البحارُ قبل أن ينقطعَ كلامُ اللهِ وحِكَمُهُ ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ؛ أي عَزِيزٌ في سُلطانهِ ذُو حكمةٍ في قولهِ وأفعالهِ.
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ معنى (كَلِمَاتُ اللهِ) تعالى في هذه الآيةِ : مَعانِي القُرْآنِ وفوائدهِ ، وقال بعضُهم : وهي نِعَمُ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ ، وإن نِعَمَهُ في الآخرةِ غيرُ متناهيةٍ.
(0/0)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ؛ قال مقاتلُ : (قَالَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ : إنَّ اللهَ خَلَقَنَا أطْوَاراً نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ لَحْماً ، فَكَيْفَ يَبْعَثُنَا خَلْقاً جَدِيْداً فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى { مَّا خَلْقُكُمْ } " أيها الناسُ على اللهِ سُبحَانَهُ " في القدرة إلاّ كخلقِ نفسٍ واحدةٍ ، وبعثِ نفسٍ واحدةٍ ؛ { وَلاَ بَعْثُكُمْ } في قدرةِ اللهِ على بعثِ الْخَلْقِ كلِّهم (إلاّ) كقدرتهِ على بعثِ نفس واحدةٍ ، { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ } ؛ لِما قالوا من أمرِ الخلقِ والبعثِ ، { بَصِيرٌ } ؛ بهِ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ } ؛ أي ألَمْ تَعلَمْ أنَّ اللهَ يزيدُ من ساعاتِ اللَّيل في ساعاتِ النهار صَيفاً ، ويزيدُ في ساعاتِ النَّهار في ساعاتِ الليل شتاءً ، { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي ذَلَّلهما لِمنافعِ بني آدم يَجريان إلى يومِ القيامة ، ثُم يسقُطان ، وينقطعُ جَريُهما ، { وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ أي خَبيْرٌ بأعمالِكم في الدُّنيا ويُجازيكم عليها.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } ؛ أو لِتَعلَمُوا أنَّ عبادةَ الله حقٌّ ، { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } ؛ من عباده ، { الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ } ؛ بصفاتهِ ، { الْكَبِيرُ } ؛ الذي لا شَيءَ مثلهُ في كِبريائهِ وعَظَمتِهِ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ } ؛ أي ألَمْ تعلَمْ أنَّ السُّفنَ تجري في البحرِ بإنعَامِ اللهِ تعالى ، لو لَم يخلُقٍ الرِّياح والماءَ على الهيئةِ التي خلَقَها الله عليها لَما جَرَتِ السُّفن على ظهرِ الماءِ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } ؛ أي لدلالات على توحيد الله ، { لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } ؛ أي كثيرِ الصَّبرِ على الطاعات والْمِحَنِ ، شَكُوراً أي كثيرَ الشُّكر على نِعَمِ الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ أحَبَّ الْعِبَادِ إلَى اللهِ مَنْ إذَا أُعْطِيَ شَكَرَ ، وَإذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ ".
(0/0)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ؛ أي إذَا أصابَهم في البحرِ مَوْجٌ كالجبالِ في الارتفاعِ دَعَوُا اللهَ مُخلِصِينَ له الدُّعاء ، { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } ؛ من البحرِ وأهوالهِ ، { إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } ؛ أي منهم مَن يثبتُ على ذلكَ ، ومنهم مَن يجحَدُ. ثُم قال : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ } ؛ أي لاَ ينكِرُ دلائلَ توحيدِنا ، { إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ } ؛ أي غَدَّارٍ ، { كَفُورٍ } ؛ أي أكثرَ الكُفْرَ بآياتِ الله ونِعَمِهِ. والْخَتْرُ في اللُّغة : أقبحُ الغَدْر. والظُّلَلُ : جمعُ ظُلَّةٍ وهي السَّحابةُ التي ترتفعُ فتغَطِّي ما تحتَها.
وإنَّ هذه الآيةَ كانت سببَ إسلامِ عِكْرِمَةَ بن أبي جهلٍ ، وذلك أنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، أمَّنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ إلاَّ أرْبَعَةَ نَفَرٍ ، فَإنَّهُ قَالَ : " اقْتُلُوهُمْ ، وَلَوْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِيْنَ بأَسْتَار الْكَعْبَةِ : عِكْرِمَةُ بْنُ أبي جَهْلٍ ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الأَخْطَلِ ، وَمَقِيْسُ بْنُ صَبَابَةَ ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ بنِ أبي سَرْحٍ ".
فأمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ فِي الْبَحْرِ ، فَأَصَابَهُمْ ريْحٌ عَاصِفٌ ، فَقَالَ أهْلُ السَّفِيْنَةِ : أخْلِصُواْ فَإنَّ آلِهَتَكُمْ لَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً هَا هُنَا ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ : (لَئِنْ لَمْ يُنَجِّنِي فِي الْبَحْرِ إلاَّ الإخْلاَصُ مَا يُنْجِيْنِي فِي الْبَرِّ غَيْرُهُ) ثُمَّ قَالَ : (اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَهْداً إنْ أنْتَ عَافَيْتَنِي مِمَّا أنَا فِيْهِ أنْ آتِيَ مُحَمَّداً حَتَّى أضَعَ يَدِي فِي يَدِهِ) فَجَاءَ فَأَسْلَمَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } ؛ أي اتَّقُوا مخافةَ ربكُم ، واخشَوا عذابَ يومٍ لا يُغنِي والدٌ عن ولدهِ ، { وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } ؛ لاشتغالِ كلٍّ منهُم لنفسهِ.
وَقِيْلَ : معنى { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } أي لا يَحْمِلُ شيئاً من سيِّئاتهِ ولا يُعطيهِ شيئاً من طاعتهِ ، { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ في البعث والجزاء أي صدق كائن ، { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } ؛ فلاَ تغتَرُّوا بالحياة الدُّنيا وما فيها من زينَتِها وزهرَتِها ، { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ } ؛ الشَّيطانُ ، فإنه هو الغَرُورُ ، وهو الذي مَن يشاءُ أن يُغَرَّ ، وغُرُورُ الشَّيطانِ تَمْنِيَتُهُ العبدَ : فإنَّ اللهَ تعالى غَفُورٌ ، فَهَوَّنَ عليه رُكوبَ المعاصِي وما يَهواهُ.
ومَن قرأ (الْغُرُورُ) بضمِّ الغَينِ فهي مصدرٌ ، ومعناهُ : الأبَاطِيلُ. وعن سعيدِ بنِ جُبير : (إنَّ الْغُرُورَ تَمَنِّي الْمَغْفِرَةِ مَعَ الإصْرَار عَلَى الْمَعْصِيَةِ).
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } ؛ نزلت هذهِ الآيةُ في الْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ ، أتََى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ أرْضَنَا أجْدَبَتْ ، فَمَتَى الْغَيْثُ ؟ وَقَدْ تَرَكْتُ امْرَأتِي حُبْلَى ، فَمَاذَا تَلِدُ ؟ وَقَدْ عَلِمْتُ بأَيِّ أرْضٍ وُلِدْتُ - أيْ عَلِمْتُ أيْنَ وُلِدْتُ - فَبأَيِّ أرْضٍ أمُوتُ ، وَقَدْ عَلِمْتُ مَا عَمِلْتُ الْيَوْمَ ، فَمَا أعْمَلُ غَداً ؟ وَمَتَى السَّاعَةُ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَفَاتِيحُ الْغَيْب خَمْسَةٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللهُ ، لاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إلاَّ اللهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إلاَّ اللهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا كَسْبُهُ فِي غَدٍ إلاَّ اللهُ ، وَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ بأَيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللهُ ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ الْغَيْثُ إلاَّ اللهُ ".
يقالُ : إنَّ هذه الخمسة الأشياءٍ التي ذَكَرَها اللهُ في هذه الآيةِ هي مفاتيحُ الغَيْب لا يعلمُها إلاَّ اللهُ ، استأثَرَ اللهُ بهِنَّ ، فلم يُطْلِعْ عليهِنَّ مَلَكاً مُقرَّباً ولا نَبيّاً مُرسَلاً.
ومعنى الآيةِ : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ } قيامِ { السَّاعَةِ } ، فلا يدري أحدٌ سواهُ متى تقومُ ، في أيِّ سَنةٍ أو في أيِّ شهرٍ ، ليلاً أو نَهاراً. وقوله { وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ } معناهُ : هو المختصُّ بإنزالِ الغيثِ ، وهو العالِمُ بوقتِ إنزالهِ ، (ويَعْلَمُ مَا فِي الأَرْضِ) أي لا يعلمُ أحدٌ ما في الأرحامِ أذكرٌ أم أُنثَى ، أحمرٌ أم أسودٌ ، وإنَّما يعلمهُ الله عَزَّ وَجَلَّ نطفةً وعلقة ومُضغةً ، وذكراً أم أُنثى ، وشقِيّاً وسَعيداً ، ومتى ينفصلُ عن أُمِّهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } يعنِي : ماذا تكسبُ من الخيرِ والشرِّ ، أي مَا تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غداً خَيراً أو شرّاً ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أي في بَرٍّ أو بحرٍ أو سَهلٍ أو جبلٍ. قال ابنُ عبَّاس : (هَذِهِ الْخَمْسَةُ لاَ يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ مُصْطَفَى ، فَمَنِ ادَّعَى أنَّهُ يَعْلَمُ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ فَقَدْ كَفَرَ بالْقُرْآنِ لأنَّهُ خَالَفَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ } ؛ أي عَلِيمٌ بخَلقهِ ، خَبيْرٌ بأعمالِهم وبما يصيبُهم في مستقبلِ عُمرِهم.
وروي أن يهودياً كان في المدينة يحسب حساب النجوم ، فقال اليهوديُّ لابن عباس : إن شئت أنبأتك عن ولدك وعن نفسك ، إنك ترجع الى منزلك فتلقى إبناً لك محموماً ، ولا يمكث عشرة أيام حتى يموت الولد ، وأنت لا تخرج من الدنيا حتى تعمى ، فقال ابن عباس : وأنت يا يهودي ، قال : لا يحول عليَّ الحول حتى أموت ؟ قال : فأين موتك يا يهودي ؟ قال ما أدري ، قال ابن عباس : صدق الله { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } قال فرجع ابن عباس فلقي إبناً له محموماً ، فلما بلغ عشراً مات الصبي ، ويقال عن اليهودي " أنه ماتَ قبل الحول " ، وما خرج ابن عباس من الدنيا حتى كُفَّ بصره.
(0/0)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{ الـم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي الم هو تنْزيلُ الكتاب ، لا شكَّ فيه أنه تَنَزَّلَ من رب العالمين ، { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ } ؛ معناهُ : يقول أهلُ مكَّة : اخْتَلَقَهُ مُحَمَّد من تلقاءِ نفسه ، وليس كما يقولون ، { بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً } ؛ أي لتخوِّفَ بالقرآن قَوماً ؛ { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } ؛ لم يشاهدوا قبلَكَ في زمانِهم الذي هم فيه رسُولاً مُخَوِّفاً ؛ { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ؛ أي لكي يهتَدُوا إلى الإيمانِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } ؛ أي في مقدار ستَّة أيام من أيامِ الدنيا ، أوَّلُها يوم الأحدِ ، { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ أي استولَى عليه ، وقد تقدَّم في ذلك في سورة الأعرافِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } ؛ أي قريبٍ ينفعُكم ، { وَلاَ شَفِيعٍ } ؛ يشفعُ لكم ، { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } ؛ أي أفلاَ تعتَبرون.
(0/0)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ } ؛ أي يدبرُ اللهُ أمرَ الدنيا مدَّة أيامها ، فيُنْزِلُ القضاءَ والقدرَ من السَّماء إلى الأرضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ؛ قال ابنُ عباس : مَعْنَاهُ يَعُودُ إلَيْهِ الأَمْرُ وَالتَّدْبيرُ حِينَ يَنْقَطِعُ أمْرُ الأُمَرَاءِ وَأحْكَامُ الْحُكَّامِ ، وَيَنْفَرِدُ اللهُ تَعَالَى بالأَمْرِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ) يَعْنِي أنَّ يَوْماً مِنْ أيَّامِ الآخِرَةِ مِثْلَ ألْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا ، وَأرَادَ بهَذا الْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : يقطع الملَكُ من المسافةِ نازلاً وصاعداً في يومٍ واحد وهو مسيرةُ ألفِ عام مما يعدُّه أهل الدنيا بمسيرِهم ، وذلك أنَّ بين السماءِ والأرض مسيرةَ خمسمائة عامٍ لبني آدمَ ، وصعودهُ من الأرضِ إلى السماء كذلكَ ؛ والملَكُ يقطعهُ في يومٍ واحد. ولو أرادَ الله من الملَك الصعودَ والنُّزول بدون مقدارهِ (اليومَ) لفعلَهُ الملَك.
وأما قولهُ{ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }[المعارج : 4] فإنْ كان أرادَ مدَّةَ المسافةِ من الأرض إلى سِدْرَةِ المنتهَى التي فيها مقامُ جبريل ، فالمعنى يسيرُ جبريلُ والملائكة الذين معه من أهلِ مقامه مسيرةَ خمسين ألفَ سنةٍ في يوم واحدٍ من أيامِ الدنيا ، فيكون معنى قوله تعالى : { إلَيْهِ } على هذا التأويلِ ؛ أي إلى مكان الملَك الذي أمرَهُ الله أن يعرجَ إليه ، وكقول إبراهيمَ عليه السلام : { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي }[الصافات : 99] أي حيث أمرَنِي ربي بالذهاب إليه ، وهو الشَّام. وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[النساء : 100] أي إلى المدينةِ. ولم يكن اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بالمدينةِ ولا بالشام.
وعن أبي هريرةَ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أتَانِي مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ إلَى الأَرْضِ قَبْلَهَا قَطُّ برِسَالَةٍ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، ثُمَّ رَفَعَ رجْلَهُ فَوَضَعَهَا فَوْقَ السَّمَاءِ وَالأُخْرَى فِي الأَرْضِ لَمْ يَرْفَعْهَا ".
(0/0)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ؛ أي ذلك الذي صَنَعَ ما ذكرناهُ من خلقِ السموات والأرض ، هو عالِمُ ما غابَ عن الخلقِ وعالِمُ ما خفِيَ ، لا يقدرُ عليه سواهُ كما لا يعلم الغيبَ غيرهُ. وقوله تعالى : { الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } ؛ أي القادرُ الذي لا يُقاوَم ، المنيعُ في مُلكهِ ، المنعِمُ على عبادهِ.
(0/0)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
وقولهُ تعالى : { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } ؛ قرأ نافع وأهل الكوفة : (خَلَقَهُ) بفتحِ اللام على الفعل ؛ أي أحكمَ كلَّ شيء مما خلَقهُ. وقرأ الباقون : (خَلْقَهُ) بسكون اللام ؛ أي أحسنَ خلقَ كلِّ شيء ، فيكون نصبُ قوله : (خَلْقَهُ) على البدلِ. وقال مقاتلُ : ((مَعْنَاهُ : الَّذِي عَلِمَ كَيْفَ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ مِنْ غَيْرِ أنْ يُعْلِّمَهُ أحَدٌ)). وقال السديُّ : ((أحْسَنَهُ : لَمْ يُعَلِّمْهُ مِنْ أحَدٍ)).
قِيْلَ : إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا طوَّل رجل البهيمةِ والطير ، طوَّل عُنقَهُ لئلا يتعذرَ عليه تناولُ قُوتِه من الأرض ، ولو لم يطوِّل عنُقه لما نالَ معيشته.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ } ؛ يعني آدمَ عليه السلام كان أول طيناً ، { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ } ؛ أي ذرِّيته ، { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } ؛ أي من قليلٍ من الماء ينسَلُّ من صُلب الرجل وترائب المرأة ، وهي النطفةُ ، ووصفَها بالـ (مُهِينٍ) لأنه لا خطرَ له عند الناسِ. وسُميت سُلالةً لأنَّها تَنْسَلُّ من الإنسانِ ؛ أي تخرجُ. والهيِّنُ هو الضعيفُ.
(0/0)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } ؛ رجعَ إلى ذكرِ آدم ، يعني سوَّى خلقَهُ ونفخَ فيه من روحهِ ؛ ثم عادَ إلى ذُريَّته فقال : { وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } ؛ بعد أنْ كنتم نُطَفاً. والأفئدةُ هي القلوبُ ، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ؛ هذه النِّعَمَ فتوحِّدونَهُ. والمعنى : خلقَ لكم السمعَ فاستمِعُوا إلى الحقِّ ، والأبصارَ فأبصِرُوا الحقَّ ، والأفئدةَ ؛ أي القلوبَ ؛ فاعقِلُوا الحقَّ.
وَقِيْلَ : معنى { ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني الماءَ المهينَ جَمَعَهُ وخلقَهُ وصوَّرَهُ ونفخَ فيه من روحهِ ؛ أي نفخَ فيه الروحَ الذي يحيا به الناسُ. أضافَ الله ذلك إلى نفسهِ لأنه هو الخالقُ.
(0/0)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ أي قال الكفارُ : إئذا هلَكنا وانقطعت أوصالُنا وذهبت آثارُنا وصِرنَا تُراباً ، فلم يتبيَّن شيءٌ من خلقِنا ، أنُبعَثُ بعد ذلك؟! هذا لا يكونُ أبداً. ومعنى الضَّلالة في اللغة : الغيبوبةُ ، يقال : ضلَّ متاعُ فلان وضاعَ ، بمعنى واحد.
وقولهُ تعالى : { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } ؛ أي ليس كما يقولون أنَّهم لا يُبعثون ، بل هم بلقاءِ ربهم كافِرُون.
(0/0)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ } ؛ أي يقبضُ أرواحَكم أجمعين ملكُ الموتِ ، { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } ؛ قال مجاهد : ((حُوِيَتْ لَهُ الأَرْضُ فَجُعِلَتْ لَهُ مِثْلَ طِسْتٍ ، يَتَنَاوَلُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ)). وقال الكلبيُّ : ((اسْمُ مَلَكِ الْمَوْتِ عِزْرَائِيلُ ، وَلَهُ أرْبَعَةُ أجْنِحَةٍ : جَنَاحٌ مِنْهَا بالْمَشْرِقِ ، وَجَنَاحٌ بالْمَغْرِب ، وَالْخَلْقُ بَيْنَ رجْلَيْهِ وَرَأسِهِ وَجَسَدِهِ ، وَجُعِلَتْ لَهُ الدُّنْيَا مِثْلَ رَاحَةِ الْيَدِ لِصَاحِبهَا ، يَأْخُذُ مِنْهَا مَا أُمِرَ بقَبْضِهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ وَلاَ عَنَاءٍ ، وَلَهُ أعْوَانٌ مِنْ مَلاَئِكَةِ الرَّحْمَةِ وَمِنْ مَلاَئِكَةِ الْعَذَاب)).
وعن أنسِ بن مالك قال : [لقِيَ جِبْرِيْلُ مَلَكَ الْمَوْتِ بنَهْرِ فَارسَ ، فَقَالَ : يَا مَلَكَ الْمَوْتِ كَيْفَ تَسْتَطِيعُ قَبْضَ الأَنْفُسِ ، هَا هُنَا عَشْرَةُ آلاَفٍ ، وَهَا هُنَا كَذا وَكَذا ؟ قَالَ عِزْرَائِيلُ : تُزْوَى لِيَ الأَرْضُ حَتَّى كَأَنَهَا بَيْنَ فَخِذيَّ فَأَلْتَقِطُهُمْ بيَدَيَّ].
وقالَ صلى الله عليه وسلم : " إذا حَانَ أجَلُ الرَّجُلِ ، أتَاهُ مَلَكٌ فَقَالَ : أيُّهَا الْعَبْدُ كَمْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ ، وَكَمْ رَسُولٌ بَعْدَ رَسُولٍ ؟ أنَا الْخَبيرُ لَيْسَ بَعْدِي خَبيرٌ ، وَأنَا الرَّسُولُ لَيْسَ بَعْدِي رَسُولٌ ، أجِبْ رَبَّكَ طَائِعاً أوْ مَكْرُوهاً. فَإذا قُبضَتْ رُوحُهُ وَتَصَارَخُوا عَلَيْهِ ، قَالَ : عَلَى مَنْ تَصْرِخُونَ وَعَلَى مَنْ تَبْكُونَ ؟ وَاللهِ مَا ظَلَمْتُ لَكُمْ أجَلاً وَلاَ أكَلْتُ لَكُمْ رزْقاً ، بَلْ دَعَاهُ رَبُّهُ ، فَلْيَبْكِ الْبَاكِي عَلَى نَفْسِهِ ، فَإنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَاتٍ وَعَوْدَاتٍ حَتَّى لاَ أُبْقِي مِنْكُمْ أحَداً ".
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } ؛ أي تصِيرون إليه أحياءً فيجزِيَكم بأعمالِكم.
(0/0)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ يعني كفارَ مكَّة ناكِسُوا رؤوسهم حياءً وندماً ، والمعنى : ولو تَرَى يا مُحَمَّدُ إذِ المجرمون مُطرِقوا رؤوسهم من الخزْيِ وشدة الندمِ في يومِ القيامة عند علمِهم بأن الحجَّةَ قد قامت عليهم من كلِّ جهةٍ ، وأنَّهم لا مهربَ لهم من العذاب ، وذلك هو الغايةُ في الوجَلِ والخجلِ ، يقولون : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } ؛ أي لكَ الحجَّة علينا لأنا أبصَرْنا رسُلكَ وسمعنا كلامَهم ، { فَارْجِعْنَا } ؛ أي ولكن نسألُكَ أن تُرجِعَنا إلى الدُّنيا حتى ، { نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } ؛ بكَ وبكتابك وبرسُلكَ ، وهذه الآية محذوفةُ الجواب ؛ أي لو رأيتَ يا مُحَمَّد ، لرأيتَ غايةَ ما تعتبرُ به.
(0/0)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ؛ قال الحسنُ : ((أرَادَ بهِ مَشِيئَةَ الْقَدَر مِنَ اللهِ تَعَالَى ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَعْجَزْ عَنْ شَيْءٍ ، وَلَكِنَّهُ لاَ يُجْبرُ الْعِبَادَ عَلَى ذلِكَ لِكَيْ لاَ يُبْطِلَ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ)). والمعنَى : ولو شِئنا لآتَينا كلَّ نفسٍ رُشدَها وثباتَها ، ومثلُ ذلك{ وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً }[يونس : 99]{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى }[الأنعام : 35].
وقوله تعالى : { وَلَـاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } ؛ معناه : ولكن وجب قولي عليهم بالعذاب ، { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ؛ بكفرهم وذنوبهم.
(0/0)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
وقولهُ تعالى : { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَآ } ؛ معناهُ : يقال لأهلِ النار إذا دخَلوها : ذُوقوا العذابَ بما نسيتُم لقاءَ يومِكم هذا ؛ أي بما ترَكتُم الإيمانَ بيومكم هذا. وقولهُ تعالى : { إِنَّا نَسِينَاكُمْ } ؛ أي ترَكناكم في العذاب وأحلَلناكم محلَّ المنسيِّ ، { وَذُوقُـواْ عَذَابَ الْخُلْدِ } ؛ أي الذي لا ينقطعُ ، { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من الكفرِ والتكذيب.
(0/0)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } ؛ معناه : إنما يُقِرُّ ويصدِّقُ بدلائلنا ، { الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا } ؛ أي وُعِظُوا بها ، { خَرُّواْ سُجَّداً } ؛ للهِ مُصَلِّين مع الإمامِ ، { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْْ } ؛ أي عظَّمُوا اللهَ ونزَّهوهُ في صلاتِهم حامِدين لربهم ، { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يُعفِّروا وجوهَهم صاغرِين.
(0/0)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } ؛ أي ترفعُ لأجلِ الصلاة ، قال مجاهد : ((هُمُ الَّذِينَ لاَ يَنَامُونَ حَتَّى يُصَّلُّوا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ)). والمضاجِعُ : هي الفُرُشُ التي يضطَجِعون عليها للنومِ ، واحدُها مَضْجِعٌ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال : ((نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِينَا مَعَاشِرَ الأَنْصَار ، حَتَّى كُنَّا نُصِلِّي الْمَغْرِبَ فَلاَ نَرْجِعُ حَتَّى نُصِلِّي الْعِشَاءَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم)). ورُوي : أنَّ امرأةً جاءت إلى أنسِ بن مالك فقالت : إنِّي أنامُ قبلَ العشاءِ ، فقال : ((لاَ تَنَامِي ؛ فَإنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ لاَ يَنَامُونَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ، تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ)).
وقال الحسنُ : ((المُرَادُ بالآيَةِ قِيَامُ اللَّيْلِ وَالتَّجَهُّدُ)) ، وكان يقولُ : ((هُمْ قَوْمٌ أخْفُوا للهِ تَعَالَى عَمَلاً ، وَأخْفَى لَهُمْ ثَوَاباً)).
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " عَلَيْكُمْ بقِيَامِ اللَّيْلِ ، فَإنَّهُ دَأبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ، وَإنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إلَى اللهِ تَعَالَى ، وَمُنْهَاةٌ عَنِ الإثْمِ ، وَتَكْفِيرٌ للِسَّيِّئَاتِ ، وَمَطْردَةُ للدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ " وقال الضحَّاك : ((هُوَ أنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ الْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } ؛ أي خَوفاً من عذاب الله وطَمعاً في رحمةَِ الله. وانتصبَ (خَوْفاً) و(طَمَعاً) لأنه مفعولٌ له. وقولهُ تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ؛ أي ومما أعطَيناهم من المالِ يتصدَّقون واجباً وتطوُّعاً.
(0/0)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
وقولهُ تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ؛ أي لا يعلمُ أحدٌ ما أخفَى اللهُ لهم مما تُقَرُّ به أعينُهم وتطيبُ به أنفسهم ، { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا من الأعمالِ الصَّالحة.
قال ابنُ مسعود : ((إنَّ فِي التَّوْرَاةِ مَكْتُوبٌ : لَقَدْ أعَدَّ اللهُ لِلَّذِينَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ ، وَمَا لَمْ يَحْمِلْهُ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ، وَإنَّهُ فِي الْقُرْآنِ : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.)).
قرأ حمزةُ : (مَا أُخْفِيْ لَهُمْ) بإسكان الياء ؛ أي ما أُخفِي لهم أنَا ، وحجَّتهُ (قُرَّةَ). وقرأ عبدُالله : (نُخْفِي لَهُمْ) بالنون. وقرأ مُحَمَّد بن كعبٍ : (مَا أخْفَى لَهُمْ) بفتح الألف والفاء ، يعني أخفَى اللهُ لهم.
(0/0)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } ؛ قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ((نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيِّ بْنِ أبي طَالِبٍ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أبي مُعَيْطٍ ، جَرَى بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَتَسَابٌّ ، فَقَالَ لَهُ الْوَلِيدُ : اسْكُتْ فَإنَّكَ صَبيٌّ وَأنَا وَاللهِ أحَدُّ مِنْكَ لِسَاناً وَأبْسَطُ مِنْكَ فِي الْقَوْلِ ، وَأمْلأُ مِنْكَ فِي الْكَتِيبَةِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه : أسْكُتْ فَإنَّكَ فَاسِقٌ تَقُولُ الْكَذِبَ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ)). والمرادُ بالمؤمنِ : عليَّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه ، وبالفاسق : الوليدَ بن عُقبة.
وقال الزجاجُ : ((إنَّهُ لَمْ يُرِدْ بالْمُؤْمِنِ مُؤْمِناً ، وَلِذلِكَ قَالَ : (لاَ يَسْتَوُونَ) وَلَمْ يَقُلْ : لاَ يَسْتَوِيَانِ)). وقال قتادةُ في معنى الآيةِ : ((وَاللهِ مَا اسْتَوَواْ لاَ فِي الدُّنْيَا وَلاَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلاَ فِي الآخِرَةِ)).
(0/0)
أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى } ؛ التي يأوي إليها المؤمنون ، وقوله : { نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي مُعدَّة لهم بـأعمالِهم.
(0/0)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)
وقولهُ تعالى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } ؛ أي وأما الذين خرَجُوا من طاعةِ الله بكُفرِهم ، فمأواهُم النارُ ، { كُلَّمَآ } ؛ رفعَهم لَهبُ النار إلى أعلاها ، فظَنُّوا أنَّهم يخرُجون منها فـ ، { أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } ، ردَّتْهم ملائكةُ العذاب إلى أسفلِها بمقامعَ من حديدٍ ، { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
وقوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى } ؛ قِيْلَ : إن المرادَ بالعذاب الأدنى هو القحطُ والجوع الذي أصابَ أهل مكَّة سبعَ سنين حتى أكَلُوا الجيفَ والعظامَ والكلاب. وَقِيْلَ : هو القتلُ يومَ بدرٍ. وَقِيْلَ : العذابُ الأدنَى هو مصائبُ الدنيا وأسقامها وبلاؤها. وَقِيْلَ : العذابُ الأدنى هو عذابُ القبرِ ، والعذابُ الأكبر هو عذابُ يومِ القيامة. وقولهُ تعالى : { دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ } ؛ يعني بالعذاب الأكبر عذابَ الآخرة ، وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ أي أخبَرناهم ليرجِعُوا عن الكفرِ.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } ؛ ظاهرُ المعنى. قولهُ : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ؛ يعني الذين قُتلوا ببدر ، وعجَّلنا أرواحَهم إلى النار. وأرادَ بالْمُجرِمين المشركين. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ثَلاَثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ أجْرَمَ : مَنْ عَقَدَ لِوَاءً فِي غَيْرِ حَقٍّ ، أوْ عَقَّ وَالِدَيْهِ ، أوْ مَشَى مَعَ ظَالِمٍ لِيَنْصُرَهْ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ".
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
قَولُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } ؛ أعطيناهُ التوراةَ جُملةً واحدةً ، { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } ؛ وعَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن سيَلقى موسَى قبل أن يموتَ ، ثم لَقِيَهُ في السَّماء ليلةَ المعراجِ أو في بيت المقدس حين أُسرِيَ به ، والمعنى : فلا تكن في شكٍّ من لقاءِ موسى. قال ابنِ عباس : ((يَعْنِي لَيْلَةَ الإسْرَاءِ)). ويقال : أرادَ به لقاؤهما في الجنَّة. ويقال : أرادَ به لقاءَ الله. ويقال : أرادَ به أن يلقَى مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم من قومهِ الأذى مثلَ ما لَقِيَ موسى من قومهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي جعَلنا التوراةَ هُدًى لبني إسرائيلَ من الضَّلالة ، { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً } ؛ أي جعَلنا من بني إسرائيل أئمَّة ، { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } ؛ يدُلُّون الناسَ على ديننا فيُقتدَى بهم ، فهم أنبياؤهُم ومَنِ استقامَ منهم على الدِّين. وقوله تعالى : { لَمَّا صَبَرُواْ } ؛ أي لما صبَرُوا جعلناهم أئمَّة ، كأنه قال : إنْ صبَرتُم على طاعتنا وصبرتُم على معصيتنا جعلناكم أئمَّة.
قرأ حمزةُ والكسائي : (لِمَا صَبَرُوا) بكسرِ اللام وتخفيف الميم ؛ أي لِصَبْرِهِمْ. ومعنى القراءةِ الأُولى : حين صَبَروا. والمعنى : لَمَّا صبَروا على دينهم وعلى البلاءِ من عدوِّهم بمصر ، { وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } ؛ أي ولكونِهم موقنين بآياتِنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ } ؛ أي هو الذي يقضِي بين المؤمنين والكفار يومَ القيامة ، { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ من الدِّين.
ثم خوَّفَ كفارَ مكة فقال : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } ؛ أي أوَلَمْ يتبيَّن لهم آثارُ عذاب الاستئصالِ فيمَن أُهلِكَ قبلَهم من الأُمم الماضية المكذَِّبة ما يكون عبرةً لهم ، يَمشُونَ في مساكنِ المهلَكين على منازلهم وقُراهم ، مثل آثار عادٍ وثَمود وقومِ لوط وغيرهم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ } ؛ أي إنَّ في إهلاكِنا إياهم بالتكذيب ، { لآيَاتٍ } ؛ لدلالاتٍ واضحة لِمَن بعدَهم ، { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } ؛ سماعَ القبول والطاعةِ. ومن قرأ (أوَلَمْ نَهْدِ) بالنون ، فالمعنى بإضافةِ الفعلِ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ } ؛ معناه : أوَلَمْ يعلَمُوا أنا نسوقُ المطرَ بالسَّحاب والرياح إلى الأرضِ اليابسة التي لا نباتَ فيها ولا شجرَ ، { فَنُخْرِجُ بِهِ } ؛ بذلك المطرِ ، { زَرْعاً } ؛ رزْقاً ، { تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ } ؛ أي تأكلُ أنعامهم من سَاقِها ، { وَأَنفُسُهُمْ } ؛ وهم يأكلون مِن حبها ، { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } ؛ أفلا يعقِلون.
والأرض الْجُرُزُ : هي التي تأكلُ نباتَها ، يقال : ناقة جَرُوزٌ إذا كانت أكُولاً ، وسيفٌ جِرَازٌ إذا كان مُستَأصِلاً ، ورجلٌ جُرُزٌ إذا كان أكُولاً. قال ابنُ عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : ((هِيَ أرْضٌ بالْيَمَنِ)). وقال مجاهدُ : ((هِيَ أبْيَنُ)).
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْفَتْحُ } ؛ وذلك أن كفارَ مكة كانوا يُؤذون أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يقولون : يوشِكُ أن يكون لنا يومٌ نستريحُ فيه من شِركهم ، فكان الكفارُ يهزَءون بهم ويقولون : متى هذا الفتحُ ؛ أي الحكمُ الذي بيننا وبينكم ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ فيما تقولُون.
والمعنى : أنَّ كفارَ مكة يقولون : متى هذا الفتحُ ؛ أي القضاءُ وهو يوم البعثِ ، يقضي فيه اللهُ بين المؤمنين والكافرين.
فقالَ اللهُ تعالى : { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ } ؛ يعني يومَ القيامة ويومَ القضاءِ والفصل ، { لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ } ؛ لو آمَنُوا يومئذٍ ، { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ؛ أي ولا هم يُمهَلون ، ولا يؤخَّرون لمعذرةٍ أو توبة ، ولا تؤخَّرُ عنهم عقوبتُهم.
وعن ابنِ عبَّاس في هذه الآيةِ : ((الْمُرَادُ بالْفَتْحِ فَتْحُ مَكَّةَ ، وَأنَّ الآيَةِ نَزَلَتْ فِي بَنِي خُزَيْمَةَ ، كَانُوا هُمُ الَّذِينَ يَسْتَهْزِئُونَ بأَصْحَاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم " حِينَ كَانَ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَذَاكَرُونَ وَهُمْ بمَكَّةَ فَتْحَ مَكَّةَ لَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ تَكَلَّمَتْ بَنُو خُزَيْمَةَ بكَلِمَةِ الإسْلاَمِ ، فَقَتَلَهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُمْ إسْلاَمَهُمْ)) وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ " ".
(0/0)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ؛ أي عن جوابهم ، { وَانتَظِرْ } ، الفريضةَ فيهم ، { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } ؛ الفرصةَ فيك. قال ابنُ عبَّاس : ((قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } نَسَخَتْهُ آيَةُ السَّيْفِ)). وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } أيْ مُنْتَظِرُونَ لَكَ حَوَادِثَ الأَزْمَانِ مِنْ مَوْتٍ أوْ قَتْلٍ فَيَسْتَرِيحُونَ مِنْكَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : " وَذلِكَ أنَّ أبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ ؛ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أبي جَهْلٍ ؛ وَأبَا الأَعْوَر السُّلَمِيِّ قَدِمُواْ فَنَزَلُواْ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأسِ الْمُنَافِقِيْنَ ؛ وَجَدِّ ابْنِ قَيْسٍ ؛ وَمُعْتَب ابْنِ قَسْرٍ الْمُنَافِقَيْنِ.
وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أبي سَرْحٍ ، فَطَلَبُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانُواْ طَلَبُواْ مِنْهُ الأَمَانَ عَلَى أنْ يُكَلِّمُوهُ ، فَقَالُواْ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفُضْ ذِكْرَ آلِهَتِنَا اللاَّتَ والْعُزَّى وَمَنَاتَ ، وَقُلْ : إنَّ لَهَا شَفَاعَةً فِي الآخِرَةِ وَمَنْفَعَةً لِمَنْ عَبَدَهَا ، وَنَدَعُكَ أنْتَ وَرَبُّكَ! فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّاب رضي الله عنه : ائْذنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ فِي قًتْلِهِمْ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي قَدْ أعْطَيْتُهُمُ الأَمَانَ ". فَأَمَرَ النَّبيُّ عُمَرَ أنْ يُخْرِجَهُمْ مِنَ الْمَدِيْنَةِ ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه : أُخْرُجُواْ فِي لَعْنَةِ اللهِ وَغَضَبهِ " ، وَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناهَا : يا أيُّها النبيُّ اتَّقِ اللهَ في نقضِ العهد الذي بينَكَ وبين أهلِ مكَّة لا تَنْقِضْهُ قبلَ أجَلِهِ { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } فيما دعَوكَ إليه ، ولا تَمِلْ إليهم ، ولا تَرْفِقْ بهم ظَنّاً منكَ أن ذلك أقربُ إلى استِمَالَتِهم إلى الإيْمانِ ، فإن ذلك يؤدِّي إلى أن يُظَنَّ بك مقارنة القومِ على كُفرِهم ، فمعنى قولهِ { وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ } يعني أبَا سُفيان وأبا الأعور وعِكرمةَ ، والمنافقين عبداللهِ بنِ أُبَي وجَدِّ بنِ قَيْسٍ وغيرِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ؛ أي عَلِيماً بأحوَالِهم ، حَكِيماً فيما أوجبه عليك في أمرِهم وفيما يخلقهُ.
(0/0)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَـيْكَ مِن رَبِّكَ } ؛ أي اعمَلْ بما أمرَكَ اللهُ في القُرْآنِ من مُجانَبَةِ الكفَّار والمنافقينَ وتَرْكِ مُوافَقَتِهم ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ؛ قرأ بالياءِ أبو عمرٍو ، وقرأ الباقونَ بالتَّاء أي خَبيرٌ بكَ وبهم.
(0/0)
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي فَوِّضْ أمرَكَ إلى اللهِ واعتمِدْ عليه في مُعاملتِهم بما أُمِرْتَ به في شأنهم ، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } ؛ أي حَافِظاً وناصِراً.
(0/0)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي مُعَمَّرٍ جَمِيْلِ بْنِ أبي رَاشِدٍ الْفِهْرِيِّ ، وَكَانَ رَجُلاً حَافِظاً لَبيْباً لِمَا يَسْمَعُ ، وَكَانَ يَقُولُ : إنَّ فِي جَوْفِي لَقَلْبَيْنِ ، أعْقِلُ بكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أفْضَلَ مِنْ عَقْلٍ مُحَمَّدٍ! وَكَانَتْ قُرَيْشُ تُسَمِّيْهِ ذا الْقَلْبَيْنِ لِدَهَائِهِ وَكَثْرَةِ حِفْظِهِ لِلْحَدِيْثِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الآيَةَ تَكْذِيْباً لَهُمْ ، فَأَخْبَرَ أنَّهُ مَا خَلَقَ لأَحَدٍ قَلْبَيْنِ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْر وَهُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَفِيْهِمْ أبُو مُعَمَّرٍ ، تَلَقَّاهُ أبُو سُفْيَانَ وَهُوَ يَعْدُو وَإحْدَى نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ وَالأُخْرَى فِي رجْلِهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أبَا مُعَمَّرٍ مَا فَعَلَ النَّاسُ ؟ قَالَ : انْهَزَمُواْ. فَقَالَ لَهُ : مَا بَالُ إحْدَى نَعْلَيْكَ فِي يَدِكَ وَالأُخْرَى فِي رجْلِكَ؟! فَقَالَ : مَا شَعَرْتُ إلاَّ أنَّهُمَا فِي رجْلِيَّ. فَعَرَفُواْ يَوْمَئِذٍ أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ قَلْبَانِ مَا نَسِيَ نَعْلَهُ فِي يَدِهِ).
وقال الزهريُّ : ومقاتلُ : (هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِلْمُظَاهِرِ امْرَأتَهُ وَالْمُتَبَنِّي وَلَدَ غَيْرِهِ ، يَقُولُ : فَكَمَا لاَ يَكُونُ لِلرَّجُلِ قَلْبَانِ ، لاَ تَكُونُ امْرَأةُ الْمُظَاهِرِ أُمَّهُ حَتَّى لاَ يَكُونَ لَهُ أُمَّانِ ، وَلاَ يَكُونُ وَلَدٌ ابْنَ رَجُلَيْنِ).
قًَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ؛ أي ما جَعَلَ نساءَكم اللاَّئي تقولونَ لَهُن : أنتُنَّ علينا كظُهور أُمَّهاتِنا ، لَم نجعلَهن كأُمَّهاتِكم في الْحُرْمَةِ. وكانت العربُ تُطَلِّقُ نساءَها في الجاهلية بهذا اللفظِ ، فلما جاءَ الإسلامُ نُهُوا عنه ، وأُوجِبَتِ الكفارةُ في سورةِ الْمُجادلَةِ.
قًَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ؛ أي ما جعلَ مَن تدَّعُونَهُ ابناً من أبناءِ غيرِكم كأبنائكم الذين مِن أصْلاَبكم في الانتساب والْحُرمَةِ والْحُكْمِ ، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ بَعْدَ أنْ أعْتَقَهُ ، فَكَانَ يُقَالُ : زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ أُمِرَ أنْ تُلْحَقَ الأدْعِيَاءُ بآبَائِهم ، وَكَانَ يَوْمَ تَبَنَّاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْوَحْيِ.
قرأ نافعُ وأبو عمرٍو (وَتَظَّهَّرُونَ) بفتح التاءِ وتشديد الظَّاء والهاءِ من غير ألِف ، وقرأ الشَّاميُّ كذلك إلاّ أنَّه بألف ، وقرأ حمزةُ والكسائي مثلَ قراءةِ شامي إلاّ أنه بالتخفيفِ ، وقرأ عاصمُ والحسن بضمِّ التاء وتخفيف الظَّاء وبألف وكسرِ الهاء ، قال أبو عمرٍو : (وَهَذا مُنْكَرٌ ؛ لأَنَّ التَّظَاهُرَ مِنَ التَّعَاوُنِ).
قًَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَالِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } ؛ أي الذي تقولونَهُ من إضافةِ القَلبَينِ إلى الرجُل الواحدِ ، وقولِ الرجُل لامرأتهِ : أنتِ علَيَّ كظهرِ أُمِّي ، وقولِ الرجُل لغيرِ ابنه : هذا ابْنِي ، قَولهُ : تقولونَ بأفواهِكم من غيرِ أن يكون له حقيقةٌ ولا عليه دلالةٌ ولا حُجَّةٌ ، { وَاللَّهُ } ؛ تعالَى : { يَقُولُ الْحَقَّ } ؛ أي يُبَيِّنُ أنَّ الذين يقولونه قولٌ باطل ، { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } ؛ أي يَدُلُّ على طريقِ وإلى الدِّين المستقيمِ.
(0/0)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ } ؛ أي نَسِّبُوا هؤلاءِ الأدعياء إلى الآباءِ الذين قد وُلِدُوا على فِرَاشِهم وقولوا : زيدُ بنُ حارثةَ ، ولا تقولوا : زيدُ بن مُحَمَّدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } ؛ أي أعْدَلُ في حُكمِ الله من نِسبَتِكم إياهم إلى الذين تبنَّوهُم. وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنه أنه كان يقولُ : (مَا كُنَّا نَدْعُوا زَيْدَ بْنَ حَارثَةَ إلاَّ زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } ؛ فهم إخوانُكم في الدِّين ؛ أي مَن أسْلَمَ منهم ، { وَمَوَالِيكُمْ } ؛ أي وبنُو أعمَامِكم ، فقولوا : يا أخِي ويا ابنَ عَمِّي في الآيةِ إباحةُ إطلاق اسم الأُخُوَّةِ وحظْرُ اطلاقِ اسم الأبوَّةِ ، وفي ذلك دليلٌ على أن مَن قال لعبدهِ : هذا أخِي ؛ لَم يُعْتَقْ لأنه يحتملُ الأخُوَّة في الدِّين ، وإن قال : هذا ابنِي ؛ عُتِقَ لأن ذلك ممنوعٌ في غير النَّسب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } ؛ أي ليس عليكم إثْمٌ في نِسْبَةِ الرجُل إلى غير أبيه على وجهِ الخطأ. قال قتادةُ : (وَلَوْ دَعَوْتَ رَجُلاً لِغَيْرِ أبيْهِ وَأنْتَ تَحْسَبُ أنَّهُ أبُوهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ بَأْسٌ) ، { وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } ؛ أي ولكنِ الإثمُ عليكم فيما تعمَّدونَهُ من ادعائهم إلى غيرِ آبائهم ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } ؛ أي لِمَن تعمَّدَ ثم تابَ ، { رَّحِيماً } ؛ به بعدَ التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } موضع قوله (مَا) خُفِضَ عطفاً على قولهِ { فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ } تقديرهُ : ولكن فيما تعمَّدت قلوبُكم.
(0/0)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ؛ أي هو أشْفَقُ وأبَرُّ وأحقُّ بالمؤمنين مِن بعضهم ببعضٍ ، وهو أولَى بكلِّ إنسانٍ منه بنفسهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا حَكَمَ فيهم بشيءٍ نَفَذ حكمهُ فيهم ، ووجبَتْ طاعتهُ عليهم.
وقال ابنُ عبَّاس : (إذا دَعَاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى شَيْءٍ ، وَدَعَتْهُمْ أنْفُسُهُمْ إلَى شَيْءٍ ، كَانَتْ طَاعَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ أنْفُسِهِمْ). وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ طَاعَتُهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى بهِمْ مِنْ طَاعَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ).
وقال الحكماء : النبيُّ أولَى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم لأنفُسِهم ، تدعُوهم إلى ما فيه هلاكُهم ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى ما فيهِ نَجاتُهم. وقال أبُو بكرٍ الورَّاق : (لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَقْلِ ، وَأنْفُسُهُمْ تَدْعُوهُمْ إلَى الْهَوَى). وقال بَسَّامُ بنُ عبدِالله : (لأَنَّ أنْفُسَهُمْ تُحْرَسُ مِنْ نَار الدُّنْيَا ، وَالنَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَحْرِسُهُمْ مِنْ نَار الآخِرَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ؛ أي كأُمَّهَاتِهم في تَعْظِيْمِ حَقَّهِنَّ وفي تحريم نكَاحِهن ، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يتزوَّجَ بهنَّ ، كما لا يجوزُ التزويجُ بالأُمِّ. ولَم يُرِدْ إثباتَ الأُميَّة من جميعِ الوُجُوهِ ، ألاَ ترَى أنه لا تحلُّ رؤيَتُهن ولا يَرَيْنَ المؤمنين بخلافِ الأُمَّهات ، وكذلك لا يخلُو بهنَّ ، ولا يسافرُ بهم ، ولا يرثُهن ولا يرِثونَهُ ، ولو كنُ كالأُمَّهات من جميعِ الوجوه لكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يزوِّجُ بناتَهُ من أحدٍ مِن الناسِ ؛ لأن البناتَ يكُنَّ أخَواتِ المؤمنينَ.
ومِن هذا المعنى ما رُوي : أنَّ امْرَأةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : يَا أُمِّ ، قَالَتْ : (لَسْتُ لَكِ بأُمٍّ ، إنَّمَا أنَا أُمُّ رجَالِكُمْ) فبَانَ بهذا أنَّ معنى الأُمومَةِ تحريمَ نكاحِهن فقط. ولِهذا لا يجوزُ أن يقالَ لبنَاتِهن أنَّهن أخواتُ المؤمنينَ.
وفائدةُ تحريمِ نكاح أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على المؤمنين في حياتهِ وبعد وفاتهِ تعظيمُ أمرهِ وتفخيمُ شأْنِه ، ولذلكَ حَرُمَ على الابنِ نكاحُ امراةِ أبيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } ؛ أي وذوُ القرابةِ بعضُهم أحقُّ بميراث بعضٍ في حُكمِ اللهِ ، { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } ؛ إذا لَم يكونوا قرابةً ، وذلك أنَّهم كانوا يتوَارَثُونَ في ابتداءِ الإسلامِ بالهجرةِ والْمُوَآخَاةِ.
قال الكلبيُّ : (آخَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ النَّاسِ ، فَكَانَ يُوَآخِي بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ ، وَإذا مَاتَ أحَدُهُمْ وَرثَهُ الثَّانِي دُونَ عُصْبَتِهِ وَأهْلِهِ ، فَمَكَثُواْ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ { وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الََّذِيْنَ آخَا رَسُولُ اللهِ بَيْنَهُمْ وَالْمُهَاجِرِيْنَ ، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُوَارَثَةَ بالْمُوَآخاةِ وَالْهِجْرَةِ ، وَصَارَتْ لِلأَدْنَى فَالأَدْنَى مِنَ الْقَرَابَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } ؛ { مَّعْرُوفاً } استثناءٌ ليس مِن الأول ، ومعناهُ : لكن فِعْلُكم إلى أوليائِكم جائزٌ ، يريدُ أن يُوصِي الرجلُ لِمَنْ يتوَلاَّهُ ممن لا يرثهُ بما أحبَّ من ثُلْثِ مالهِ ، فيكونُ الموصَى له أولَى بقدر الوصيَّة من القريب الوارث ، وقال ابنُ زيدٍ : (مَعْنَاهُ إلاَّ أنْ تُوصُواْ لأَوْلِيَاءِكم مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } ؛ أي كانَ الميزانُ للأقرباءِ ، والوصيةُ للأصدقاءِ ، ونُسِخَ الميراثُ بالهجرةِ ورَدَّهُ إلى ذوي الأرحامِ مَكتوباً في اللَّوح المحفوظِ.
(0/0)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ } ؛ أي واذْكُرْ إذ أخَذْنا مِن النَّبيِّينَ عُهودَهم ؛ أي يصدِّقُ بعضُهم بعضاً ، ويبَشِّرُ الأولُ بالآخرِ ، ويأخذُ كلُّ رسول منهم على قولهِ بما أمرَ اللهُ به ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ؛ قِيْلَ : إنَّ الواو مقحمةٌ ؛ وتقديره : منكَ ومِن نوحٍ ، فيكونوا (مِنْكَ) ما بعدَهُ تفسيرُ (النَّبيِّيْنَ).
والفائدةُ في تخصيصِ هؤلاء الأنبياءِ الخمسة بالذِّكر ؛ لأنَّهم أهلُ الشرائعِ والكتب ، وأُوْلُو العَزْمِ من الرُّسُلِ ، ولَهم الأُمَمُ والتَّبَعُ. وقَدَّمَ ذِكْرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأن الخطابَ معه. وجاء في التفسيرِ : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إنِّي خُلِقْتُ قَبْلَ الأَنْبيَاءِ وَبُعِثْتُ بَعْدَهُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } ؛ أي عَهْداً وَثِيقاً بأن يَعبدونِي ولا يُشرِكون بي شيئاً. وَقِيْلَ : وأخَذْنَا منهم عَهْداً شديداً على الوفَاءِ بما حُمِّلُوا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ } ؛ أي لكَي يسألَ الْمُبَلِّغِيْنَ عن تبلِيغِهم وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَاذَآ أَجَبْتُمُ }[القصص : 65].
وفائدةُ سؤالِ الرُّسُلِ وهم صادِقُون ؛ لتكذيب الذينَ كفَرُوا بهم فيكون هذا السؤالُ احْتِجَاجاً على الكاذِبين ، وإذا سُئِلَ الصَّادِقُونَ ، فكيفَ يُظَنُّ بالكاذِبين؟! وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ أي أعَدَّ للَّذين كفَرُوا بالرُّسُلِ عذاباً شَديداً.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } ؛ يُذكِّرُهم اللهُ إنْعَامَهُ عليهم في دفعِ الأحزَاب عنهم من غيرِ قتالٍ ، وذلك : أنَّ الْكُفَّارَ جَاءُوا بأَجْمَعِهِمْ فِي وَقْعَةِ الْخَنْدَقِ ، وَأحَاطُواْ بالْمَدِيْنَةِ مِنْ أعْلاَهَا وَأسْفَلِهَا ، طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدِ الأَسَدِي وَأصْحَابُهُ مِنْ فَوْقِ الْوَادِي ، وَكَانَ أبُو الأَعْوَر السُّلَمِيُّ وَأصْحَابُهُ مِنْ أسْفَلِ الْوَادِي ، وَكَانَ أبُو سُفْيَانٍ وَأصْحَابُهُ وَيَهُودُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي مُوَاجَهَةِ الْمُؤْمِنِيْنَ ، فَاشْتَدَّ الْخَوْفُ بالْمُؤْمِنِيْنَ وَزَاغَتْ أبْصَارُهُمْ ؛ أيْ مَالَتْ مِنَ الْخَوْفِ ، وَيُقَالُ : مَالَتْ أبْصَارُ الْمُنَافِقِيْنَ خَوْفاً مِنَ النَّظَرِ إلَيْهِمْ. وكانَ الكُفَّارُ خَمْسَةَ عَشَرَ ألْفاً ، وبَلَغَتْ قُلُوبُ الْمُسْلِمِيْنَ الْحَنَاجِرَ ؛ أيْ كَادَتْ تَبْلُغُ الْحُلُوقَ ، وَذلِكَ أنَّ شِدَّةَ الْخَوْفِ تَرْفَعُ الرِّئَةَ ، فترفعُ الرِّئَةُ القلبَ.
كما رُوي : " أنَّ الْمُؤْمِنِيْنَ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " قُولُواْ : اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَآمِنْ رَوْعَاتِنَا ، يَكْفِيْكُهُمُ اللهُ تَعَالَى " فَأَرْسَلَ اللهُ عَلَى الْكُفَّار ريْحاً بَاردَةً مُنْكَرَةً شَغَلَتْهُمْ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلحَرْب ، وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى الْمَكَانِ ، وَقَلَعَتْ خِيَامَهُمْ وَأكْفَأَتْ أوَانِيَهِمْ ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مِنْهَا فِي سَلاَمَةٍ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ إلاَّ مَسَافَةُ الْخَنْدَقِ ، وَكَانَ ذلِكَ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ عليه السلام كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم : " نُصِرْتُ بالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُور " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } ؛ يعني الذين تَحَزَّبُوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ الخندق ، وهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وأبُو سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وبَنُو قُرَيْظَةَ ، { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } ، وهي الصَّبَا ، أُرسِلَتْ عليهم حتى أكفَأَتْْ قدورَهم ونزعت فَسَاطِيْطَهُمْ ، وقوله : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } ، يعني الملائكةَ ؛ { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً }.
" ورُوي : أنَّ شَابّاً مِنْ أهْلِ الْكُوفَةِ قَالَ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ : يَا أبَا عَبْدِاللهِ هَلْ رَأيْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : (إيْ وَاللهِ لَقَدْ رَأيْتُهُ) قَالَ : وَاللهِ لَوْ رَأيْنَاهُ لَحَمَلْنَاهُ عَلَى رقَابنَا ، وَمَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ ، فَقَالَ لَهُ حُذيْفَةُ : (يَا ابْنَ أخِي أفَلاَ أُحَدِّثُكُ عَنِّي وَعَنْهُ؟) قَالَ : بَلَى. قَالَ : (وَاللهِ لَوْ رَأيْتَنَا يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَبنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْجُوعِ مَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ. قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : " ألاَ رَجُلٌ يَأْتِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالْجَهْدِ. ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ قَالَ : " ألاَ رَجُلٌ يَأْتِيْنِي بخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللهُ رَفِيْقِي فِي الْجَنَّةِ ؟ " فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنَّا أحَدٌ مِمَّا بنَا مِنَ الْجَهْدِ وَالْخَوْفِ وَالْجُوعِ. فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أحَدٌ ، دَعَانِي فَلَمْ أجِدْ بُدّاً مِنْ إجَابَتِهِ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " اذْهَبْ فَجِئْ بخَبَرِ الْقَوْمِ ، وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ".
قَالَ حُذيْفَةُ : قُمْتُ وَجَنْبَيَّ يَضْطَرِبَانِ ، فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأسِي وَوَجْهِي ، ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ، وَعَنْ يَمِيْنِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ ، وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ ". قَالَ : فَانْطَلَقْتُ أمْشِي حَتَّى أتَيْتُ الْقَوْمَ ، وَإذا ريْحُ اللهِ وَجُنُودُهُ يَفْعَلُ بهِمْ مَا يَفْعَلُ ، مَا يَسْتَمْسِكُ لَهُمْْ بنَاءٌ ، وَلاَ تَثْبُتُ لَهُمْ نَارٌ ، وَلاَ يَطْمَئِنُّ لَهُمْ قِدْرٌ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذلِكَ ، إذْ خَرَجَ أبُو سُفْيَانَ مِنْ رَحْلِهِ ، فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ مَا أنْتُمْ بدَار مُقَامٍ ، لَقَدْ هَلَكَتِ الْخُفُّ وَالْحَافِرْ وَأخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَهَذِه الرِّيْحُ لاَ يَسْتَمْسكُ لَنَا مَعَهَا شَيْءٌ ، وَلاَ تَثْبُتُ لَنَا نَارٌ وَلاَ تَطْمَئِنُّ قِدْرٌ. ثُمَّ عَجَّلَ فَرَكِبَ رَاحِلََتَهُ ، وَإنَّهَا لَمَعْقُولَةٌ مَا حَلَّ عِقَالَهَا إلاَّ بَعْدَمَا رَكِبَهَا.
فَقَالَ حُذيْفَةُ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي : لَوْ رَمَيْتُ عَدُوَّ اللهِ فَكُنْتُ قَدْ صَنَعْتُ شَيْئاً ، فَأَوْتَرْتُ قَوْسِي وَأنَا أُرِيْدُ أنْ أرْمِيَهُ ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَرْجِعَ ". فَحَطَطْتُ الْقَوْسَ ثُمَّ رَجَعْتُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُصَلِّي ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : " مَا الْخَبَرُ ؟ " فَأَخْبَرْتُهُ بذلِكَ ، فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ أنْيَابُهُ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ. ثُمَّ أدْنَانِي مِنْهُ وَبي مِنَ الْبَرْدِ مَا أجِدُهُ ، فَأَلْقَى عَلَيَّ طَرَفَ ثَوْبهِ ، وَألْزَقَ صَدْري ببَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي) ".
(0/0)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ } أي مَالَتْ عن كلِّ شيء ، فلم تَنْظُرْ إلاَّ إلى عدُوِّها مُقبلاً مِن كلِّ جانب ، { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } ، وَالْحَنْجَرَةُ جَوْفُ الْحَلْقِ. قال قتادةُ : (شَخَصَتِ الْقُلُوبُ مِنْ مَكَانِهَا ، فَلَوْلاَ أنَّهُ ضَاقَ الْحُلْقُومُ عَنْهَا أنْ تَخْرُجَ لَخَرَجَتْ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا }[الأحزاب : 9] يعني الملائكةَ ، بَعَثَ اللهُ ملائكةً على المشركين فقَلَعَتْ أوتادَ الخيلِ وأطْنَابَ الْفَسَاطِيْطِ ، وأطفأَتِ النيرانَ وجالَتِ الخيلُ بعضُها في بعضٍ ، وكَثُرَ تكبيرُ الملائكةِ في جوانب عسكَرِهم حتى وقعَ بهم الرعبُ فانْهَزَمُوا من غيرِ قتالٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } ، أي مِن فوق الوادِي مِن قِبَلِ المشرقِ عليهم مالكُ بن عوفٍ البَصْرِيّ ، وعُيَينَةُ بن حِصْنِ الفزَّاري في ألْفٍ مِنْ غَطَفَانَ ، { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } ، يعني مِن قِبَلِ المغرب فيهم أبُو سفيانَ في قُريشٍ ومَن تَبعَهُ ، وأبو الأعْوَر السُّلمي من قِبَلِ الخندقِ.
وكانَ مِن حديثِ الخندقِ : " أنَّ نَفَراً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكِنَانَةُ بْنُ الرَّبْيعِ وَهَوْذةُ بْنِ قَيْسٍ وَأبُو عُمَارَةَ الْوَائِلِيُّ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ خَرَجُواْ حَتَّى قَدِمُواْ عَلَى قُرَيْشِ فَدَعَوْهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَابُوهُمْ فَاجْتَمَعُواْ مَعَ قُرَيْشٍ. فَسَارَتْ وَقَائِدُهَا عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ ، وَسَارَتْ بَنُو مُرَّةً وَقَائِدُهَا الْحَارثُ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَارَتْ بَنُو أشْجَعَ وَقَائِدُهَا مُسْعِرُ بْنُ رَخَيْلَةَ الأَشْجَعِيُّ ، وَسَارَتْ قُرَيْشُ وَقَائِدُهَا أبُو سُفْيَانَ.
فَلَمَّا سَمِعَ بهِمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِيْنَةِ ، وَكَانَ الَّذِي أشَارَ بالْخَنْدَقِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَلْمَانُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إنَّا كُنَّا بفَارسَ إذا حُوصِرْنَا خَنْدَقْنَا. فَحَفَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ حَتَّى أحْكَمُوهُ.
فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حَفْرِ الْخَنْدَقِ ، أقْبَلَتْ قُرَيْشُ حَتَّى نَزَلَتْ بمَجْمَعِ الأَسْيَالِ مِن رُومَة ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ ثَلاَثَةُ آلاَفٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ ، فَكَانَ الْخَنْدَقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِيْنَ ، وَعَظُمَ عِنْدَ ذلِكَ الْبَلاَءُ وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَأتَاهُمُ الْعَدُوُّ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ أسْفَلَ مِنْهُمْ ، حَتَّى ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ كُلَّ ظَنٍّ ، وَظَهَرَ النِّفَاقُ فِي الْمُنَافِقِيْنَ ، حَتَّى قَالَ مُعْتَبُ بْنُ بَشِيْرِ الْمُنَافِقُ : كَانَ مُحَمَّدُ وَعَدَنَا أنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ ، فَأَحَدُنَا لاَ يَقْدِرُ أنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ ، مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُوراً. فذلك قوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ }.
فَأَقَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأقَامَ الْكُفَّارُ مَعَهُ بضْعاً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً قَرِيْباً مِنْ شَهْرٍ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَوْمِ إلاَّ الرَّمْيَ بالنَّبْلِ وَالْحَصَى وَالْحِصَار.
فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلاَءُ عَلَى النَّاسِ وَاسْتَطَالَ ، بَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى عُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنِ وَإلَى الْحَارثِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمَا قَائِدَا غَطَفَانَ ، وَأعْطَاهُمَا ثُلْثَ ثِمَار الْمَدِيْنَةِ عَلَى أنْ يَرْجِعَا بمَنْ مَعَهُمَا مِنَ الْقَوْمِ ، فَجَرَى بَيْنَهُمَا الصُّلْحُ حَتَّى وَقَعَ الْكِتَابُ وَلَمْ تَقَعِ الشَّهَادَةُ ، فَذكَرَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَاسْتَشَارَهُمَا فِي ذلِكَ ، فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أهَذا شَيْءٌ أمَرَكَ اللهُ بهِ أمْ أمْرٌ تُحِبُّهُ أنْتَ أمْ أمْرٌ تَصْنَعُهُ لَنَا ؟ فَإنْ كَانَ أمْراً مِنَ اللهِ لَكَ فَلاَ بُدَّ لَنَا مِنَ الْعَمَلِ بهِ ، وَإنْ كَانَ أمْراً تُحِبُّهُ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ، وَإنْ كَانَ شَيْئاً تَصْنَعُهُ لَنَا فَعَرِّفْنَا بهِ ، فَقَالَ صلى الله الله عليه وسلم : " بَلْ وَاللهِ مَا صَنَعْتُ ذلِكَ إلاَّ أنِّي رَأيْتُ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بقَوْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَالَبُوكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَأَرَدْتُ أنْ أكْسِرَ عَنْكُمْ شَوْكَتَهُمْ ".
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ لَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهَؤُلاَءِ الْْقَوْمِ عَلَى الشِّرْكِ وَعِبَادَةِ الأَوْثَانِ لاَ نَعْبُدُ اللهَ وَلاَ نَعْرِفُهُ ، وَهُمْ لاَ يَطْمَعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مِنْ ثِمَارنَا تَمْرَةً إلاَّ قِرَاءً أوْ شِرَاءً ، فَكَيْفَ وَقَدْ أكْرَمَنَا اللهُ بالإسْلاَمِ وَأعْزَّنَا بكَ نُعْطِيْهِمْ أمْوَالَنَا! مَا لَنَا بهَذا مِنْ حَاجَةٍ ، وَاللهِ لاَ نُعْطِيْهِمْ إلاَّ السَّيْفَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فَأَنْتَ وَذاكَ ". فَتَنَاوَلَ سَعْدٌ الصَّحِيْفَةَ الَّتِي كَتَبُواْ فِيْهَا صُلْحَهُمْ فَمَحَاهَا.
ثُمَّ إنَّهُمْ تَرَامَواْ بالنَّبْلِ ، فَوَقَعَتْ رَمْيَةٌ فِي أكْحَلِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَطَعَتْهُ ، رَمَاهُ ابْنُ الْغُرْفَةِ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَمَا زَالَ أكْحَلُهُ يَسِيْلُ دَماً حَتَّى خِيْفَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ سَعْدٌ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ أبْقَيْتَ مِنْ حَرْب قُرَيْشٍ فَأَبْقِنِي لَهَا ، فَإنَّهُ لاَ شَيْءَ أحَبُّ إلَيَّ مِنْ جِهَادِ قَوْمٍ آذواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَذبُوهُ وَأخْرَجُوهُ ، وَإنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ لَنَا شَهَادَةً وَلاَ تُمِتْنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ.
ثُمَّ أتَى نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْغَطَفَانِيُّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ قَدْ أسْلَمْتُ وَإنَّ قَوْمِي مِنْ غَطَفَانَ لَمْ يَعْلَمُواْ بإسْلاَمِي ، فَمُرْنِي فِيْهِمْ بمَا شِئْتَ ، فَقَالَ عليه السلام : " إنَّمَا أنْتَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَخَذِّلْ عَنَّا إنِ اسْتَطَعْتَ ". فَخَرَجَ نَعِيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أتَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ لَهُمْ نَدِيْماً فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَقَالَ لَهُمْ : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ لَقَدْ عَلِِمْتُمْ وُدِّي لَكُمْ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنَ المَحَبَّةِ. قَالُواْ : صَدَقْتَ ؛ لَسْتَ عِنْدَنَا بمُتَّهَمٍ ".
(0/0)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ } أي في تلكَ الحالِ اخْتُبرَ المؤمنونَ بالقتالِ ليتَبيَّن المخلصُ من المنافقِ. وَقِيْلَ : معناهُ : امْتُحِنَ المؤمنونَ بالخوفِ الشَّديد الذي عندَهُ يظهرُ المؤمن القويُّ من المؤمنِ الضعيفِ ، وذوُوا العزمِ الصحيح من غيرِهم. وقوله : { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } ؛ أُزْعِجُواْ وحُرِّكُوا تَحريكاً شديداً ، وذلك أن الخائفَ يكون قَلِقاً مُضطرباً لا يستقرُّ على مكانهِ.
(0/0)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } معناهُ : وإذ يقول الذين يستبطنون الكفرَ والذين في قُلوبهم شَكٌّ وضَعْفُ اعتقادٍ : مَا وَعَدَنا مُحَمَّدٌ أنَّ فارسَ والرومَ يُفتحان علينا ونحنُ في مكاننا هذا الذي لا يقدرُ أحدٌ أن يَبْرُزَ لحاجتهِ إلاَّ باطلاً. قال قتادةُ : (قَالَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ : يَعِدُنَا مُحَمَّدٌ أنْ نَفْتَحَ قُصُورَ الشَّامِ وَفَارسَ ، وَأحَدُنَا لاَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يُجَاوزَ رَحْلَهُ ، هَذا وَاللهِ الْغَرُورُ).
(0/0)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ } ؛ قال مقاتلُ : (هُمْ بَنُو سَالِمٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ) ، وقال السديُّ : (عبدُاللهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأصْحَابُهُ). (يَا أهْلَ يَثْرِبَ) أي يا أهلَ المدينةِ ، قال أبو عُبيدة : (يَثْرِبُ اسْمُ أرْضِ ، وَمَدِيْنَةُ الرَّسُولِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْها). وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي لاَ مَوْقِفَ لكم في هذا الموضعِ ، فارجِعُوا إلى المدينةِ.
وقرأ عاصمُ (لاَ مُقَامَ) بضمِّ الميمِ ؛ أي لا إقامةَ لكم ها هُنا ؛ لكثرةِ العدُوِّ وغلبةِ الحِرَاب ، فارجِعُوا إلى منازلِكم ، أمَرُوهم بالهرب من عسكرِ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ } ؛ معناهُ : ويستأذنُ فريقٌ منهم النبيَّ عليه السلام في الرُّجوعِ إلى منازلِهم بالمدينةِ ؛ وهم بنُو حَارثَةَ وبَنُو سَلَمَةَ ، وكانوا يعتَلُّون في الاستئذانِ بقولِهم : { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } ؛ أي بيُوتُنا خاليةٌ من الرِّجالِ نخافُ عليها ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ بيوتَنا ليست بجديدةٍ. وقال مقاتلُ والحسن : (مَعْنَاهُ : قَالُواْ بُيُوتُنَا ضَائِعَةٌ نَخْشَى عَلَيْهَا السُّرَّاقَ). وقال قتادةُ : (قَالُوا بُيُوتُنَا مِمَّا يَلِي الْعَدُوَّ وَلاَ نَأْمَنُ عَلَى أهْلِنَا). فكذبَهم اللهُ تعالى وَأعْلَمَ أنَّ قصدَهم الهربُ ، فقال عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } ؛ مِن القتالِ ونُصرةِ المؤمنينَ.
وقرأ ابنُ عبَّاس وأبو رجاءٍ : (إنَّ بُيُوتُنَا عَوِرَةٌ) بكسرِ الواو ؛ أي قصيرةُ الجدران ، فيها خلَلٌ وفُرجَةٌ. قال الزجَّاجُ : (يُقَالُ : عَوَرَ الْمَكَانُ يَعْوَرُّ عَوْراً وَعَوْرَةً ، وَبُيُوتٌ عَوْرَةٌ وَعَوِرَةٌ ، وَهِيَ مَصْدَرٌ). والْعَوْرَةُ في اللغة : ما ذهَبَ عنه السَّتْرُ والحِفظُ ، تقولُ العربُ : اعْوَرَّ الفارسُ إذا كان فيه موضعُ خللٍ للضَّرب ، وعَوَرَ المكانُ إذا بَدَتْ منه عورةٌ. قال الشاعرُ : مَتَى تَلْقَهُمْ ، لاَ تَلْقَ لِلْبَيْتِ عَوْرَةً وَلاَ الضَّيْفَ مَحْرُوماً وَلاَ الْجارَ مُرْمِلايقال : أرْمَلَ القومُ إذا فرغَ زادُهم.
(0/0)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } ؛ أي لو دُخلَتِ المدينةُ على هؤلاءِ المنافقين مِن أطرَافِها ، يعني : لو دَخَلَ عليهم هؤلاءِ الأحزابُ من نواحِيها ، { ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا } ؛ أي ثُم دُعُوا إلى الشِّركِ لأجَابُوها سَريعاً وأعطَوها من أنفُسِهم. والمعنى : لو أنَّ الأحزابَ دخَلُوا المدينةَ ، ثُم أمَرُوهم بالشِّركِ لأشْرَكُوا.
وقرأ أهلُ المدينةِ (لأَتَوْهَا) بالقصرِ ؛ أي لفَعَلُوها بأنفُسِهم ، { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } ؛ أي وما يلبَثُون بإجَابتِها إلاَّ قليلاً حتى يَقْبَلُوا. قال قتادةُ : (وَمَا احْتَبَسُواْ عَنِ الإجَابَةِ إلَى الْكُفْرِ إلاَّ قَلِيْلاً) ، ويقالُ : ما يتَلَبَّثُونَ بالمدينةِ بعدَ إجابَتِهم إلاَّ يَسِيراً حتى يَهْلَكُوا.
(0/0)
وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ } ؛ قِيْلَ : إنَّهم بنُو حارثةَ هَمُّوا يومَ أُحُدٍ أن يَفْشَلُوا مع بني سَلَمَةَ ، فلمَّا نزلَ فيهم ما نزلَ ، عاهَدُوا اللهَ أن لا يعُودُوا لِمثلِها. وقال قتادةُ : (هُمْ قَوْمٌ كَانُواْ غَابُواْ عَنْ وَقْعَةِ بَدْر ، وَرَأواْ مَا أعْطَى اللهُ أهْلَ بَدْر مِنَ الْكَرَامَةِ وَالْفَضِيْلَةِ ، فَقَالُواْ : لَئِنْ أشْهَدَنَا اللهُ قِتَالاً لَنُقَاتِلَنَّ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَاب لَمْ يَفُواْ بذلِكَ الْعَهْدِ).
ومعنى الآيةِ : ولقد كانُوا عاهَدُوا اللهَ من قَبْلِ غَزوةِ الخندق { لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ } أي لا ينهَزِمون ولا يُوَلُّونَ العدوَّ ظُهورََهم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً } ؛ أي مُطَالَباً مَسْؤُولاً عنه مُحَاسَباً عليهِ ، يُسأَلُونَ عنه في الآخرةِ.
ثُم أخبرَ اللهُ أنَّ الفرارَ لا يزيدُهم في آجالِهم ؛ فقالَ : { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ } ؛ أي مِن حَضَرَ ماتَ أو قُتِلَ ، فكلاهُما مكتوبٌ عليكم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي إنْ فرَرْتُمْ من الموتِ أو القَتْلِ في هذه الوقعةِ لَمْ يُمَتَّعُوا إلاَّ قليلاً حتى يلحَقُكم أحدُ الأمرَين. والمعنى : لا تَمَتَّعُونَ بعدَ الفرار في الدُّنيا إلاَّ مدَّةَ أجَلِكُمْ.
ثُم أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ ما قًَدَّرَهُ عليهم وأرادَهُ بهم لا يُدْفَعُ عنهم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي مَن الذي يُجِيرُكم ويَمنعُكم من اللهِ ، { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً } ؛ أي هَلاَكاً وهزِيْمةً ، { أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } ؛ أي خَيراً وهو النصرُ. وهذا كُلُّهُ أمرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يُخاطِبَهم بهذه الأشياءِ.
ثُم أخبرَ الله أنه لا ينفَعُهم قريبٌ ولا نَاصِرٌ ينصرُهم من اللهِ ، فقال تعالَى : { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً }.
(0/0)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } ؛ قال المفسِّرون : هؤُلاءِ قومٌ مِن المنافقين ، كانوا يبطئون الْمُجَاهِدِيْنَ ويَمْنَعُونَهُمْ عنِ الجهاد. يقال : عَاقَ يَعُوقُ ؛ إذا مَنَعَ ، وَعَوَّقَ إذا اعتادَ المنعَ ، وعَوَّقَهُ إذا صَرَفَهُ عنِ الوجهِ الذي يريدهُ.
قال قتادةُ : (هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ ، كَانُواْ يَقُولُونَ : مَا مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ إلاَّ أكَلَةُ رَأسٍ ، وَلَوْ كَانُواْ لَحْماً لاَلْتَهَمَهُمْ أبُو سُفْيَانَ وَحِزْبُهُ ، دَعُواْ هَذا الرَّجُلَ فَإنَّهُ هَالِكٌ ، فَخَلُّوهُمْ وَتَعَالُواْ إلَيْنَا).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي ويعلمُ القائلينَ لإخوانِهم تعالَوْا إلينا ودَعُوا مُحَمَّداً فلا تشهَدُوا معه الحربَ ، فإنَّا نخافُ عليكم الهلاكَ ، وَقََوْلُهُ : { وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي لا يحضُرونَ القتالَ في سبيلِ الله إلاَّ قَلِيْلاً ؛ أي لا يُقاتِلُونَ إلاَّ ريَاءً وسُمعةً من غيرِ احتسابٍ ، ولو كان ذلك القليلُ للهِ لكانَ كثيراً.
(0/0)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
قَوْلُهُ : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } ؛ أي بُخْلاءَ عليكمُ بأنفُسِهم وأموالِهم ، لا ينفقونَ شيئاً منها في سبيلِ الله ونُصرةِ المؤمنين. ثُم أخبر عن جُبْنِهِمْ فقالَ تعالى : { فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } ، من الخوفِ والفَزَعِ كما تدورُ أعْيُنُ الذي يحضرهُ الموت فيُغشَى عليهِ ، ويذهبُ عقله ويَشخَصُ بصرهُ فلا يطرفُ ، كذلك هؤلاءِ تَشْخَصُ أبصارُهم وتُحَارُ أعينُهم لِما يلحَقُهم من الخوفِ ، { فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ؛ أي بَسَطُوا ألسِنَتَهم وأرسَلُوها ، طاغِينَ عليكم. قال الفرَّاء : (مَعْنَاهُ : آذوْكُمْ بالْكَلاَمِ وَعَضُّوكُمْ بأَلْسِنَةٍ سَلِيْطَةٍ ذربَةٍ) يُقَالُ : خَطِيْبٌ مِسْلاَقٌ إذا كَانَ بَلِيْغاً فِي خِطَابهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ } ؛ أي بُخْلاءَ بالغَنيمةِ ، يخاصِمُون فيها ويُشَاحُّونَ المؤمنينَ عليها عند القِسْمَةِ ، فيقولونَ : أعْطُونَا فلَسْتُمْ أحقَّ مِنَّا! وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أوْلَـائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ } ؛ أي هُم وإنْ أظهَرُوا الإيْمانَ ونَافَقُوا فليسوا بمؤمنينَ ، { فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } ؛ أي أبْطَلَ جهادَهم وثوابَ أعمالِهم ؛ لأنه لَم يكن في إيْمانٍ ، { وَكَانَ ذَلِكَ } الإحباطُ ، { عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } ؛ قال مقاتلُ : (مَعْنَى الآيَةِ : فَإذا ذهَبَ الْخَوْفُ وَجَاءَ الأَمْنُ وَالْغَنِيْمَةُ ، سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ ؛ أيْ بَسَطُواْ ألْسِنَتَهُمْ فِيْكُمْ وَقْتَ قِسْمَةِ الْغَنِيْمَةِ ، وَسَيَقُولُونَ : أعْطُونَا فَلَسْتُمْ أحَقَّ بهَا مِنَّا! فَأَمَّا عِنْدَ الْبَأْسِ وَالْقِتَالِ فَأَجْبَنُ قَوْمٍ وَأخْذلُهُمْ ، وَأمَّا عِنْدَ الْغَنِيْمَةِ فَأَشَحُّ قَوْمٍ).
(0/0)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } أي يَظُنُّ المنافقونَ مِن جُبْنِهم وخُبْثِهم أنَّ الأحزابَ لَم يذهَبُوا إلى مكَّة وقد ذهبُوا ، { وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ } ؛ في المرَّة الثانيةِ ؛ أي يرجِعُون إلى القتالِ ، { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ } ؛ داخلونَ في الباديةِ معَ الأعراب ، { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } ؛ أي يَتَمَنَّوْنَ لو كانوا في باديةٍ بالبُعْدِ منكُم ، يسألونَ عن أخباركم يقولونَ : مَا فَعَلَ مُحَمَّدٌ وأصْحَابُهُ؟! فيعرفُون حالَكم بالاستخبار لا بالمشاهدةِ. والمعنَى بسُؤالِهم : أنه إذا كان الظَّفَرُ لكم شارَكُوكم ، وإنْ كان للمشركين شارَكُوهم ، كلُّ هذا مِن الْخَوْفِ وَالْجُبْنِ. قرأ يعقوبُ (يَسَّاءَلُونَ) بالتشديد والمدِّ ، بمعنى يَتَسَاءَلُونَ ؛ أي يَسأَلُ بعضُهم بعضاً عن أخباركم ، { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ لو كانَ هؤلاءِ المنافقونَ فيكم ما قَاتَلُوا إلاَّ رَمْياً بالحجارةِ من غير احتسابٍ.
(0/0)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ؛ أي لقد كان لكُم في رسولِ اللهِ قُدْوَةٌ حَسَنَةٌ في الصَّبر على القتالِ والثَّبَاتِ عليه واحتمالِ الشَّدائد في ذاتِ اللهِ ، { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ } ؛ يرجو ثوابَ اللهِ ، { وَالْيَوْمَ الآخِرَ } ، وثواب الدنيا والآخرةَ ، { وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } ، وذلكَ : أنَّ كل من ذادَ أو ذكَرَ اللهَ في لسانهِ ازدَادت رغبتهُ في الاقتداءِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الآيةِ : لقد كان لكُم في رسولِ الله اقتداءٌ لوِ اقتديتُم به ، والصبرُ معه في مواطنِ القتال كما فَعَلَ هو يومَ أُحُد إذ كُسِرَتْ رباعيَّتهُ وشُُجَّ حاجبهُ وقُتِلَ عمُّه ، فواسَاكم مع ذلك بنفسهِ ، فهلاَّ فعلتم مثلَ ما فعلَ هو. وقوله تعالى : { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللَّهَ } يدلُّ من قوله (لَكُمْ) وهو تخصيصٌ بعد التعميمِ للمؤمنين.
(0/0)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُواْ هَـاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ؛ وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قد وَعَدَهم في سُورةِ البقرةِ{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَآءُ وَالضَّرَّآءُ }[البقرة : 214]... إلى قولهِ{ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ }[البقرة : 214] وقولهِ تعالى : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }[الفتح : 28]. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } ؛ أي ما زادَهم ما رأوهُ إلاَّ إيْماناً وتصديقاً بوعدِ الله وتَسلِيماً لآخرهِ.
(0/0)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ } ؛ أي مِن جُملة المؤمنينَ رجالٌ وَافوا ما عاهدُوا اللهَ عليه بالثَّباتِ على الدِّين والعملِ بمُوجبهِ من الصَّبر على القتالِ وغيرِ ذلك ، { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ } ؛ أي مَن وَفَّى بنذرهِ ، ومنهم مَن أقامَ على ذلك العهدِ حتى قُتِلَ شَهيداً في سبيلِ الله. قِيْلَ : إنَّ المرادَ به حَمْزَةُ ابن عبدِ المطَّلب وأصحابهُ الذين قُتِلُوا يومَ أُحُدٍ.
والنَّحْبُ في اللُّغة : النَّذْرُ ، وَقِيْلَ : النَّحْبُ هو النَّفَسُ ، ومنه النَّحِيْبُ : وهو التَّنَفُّسُ الشديدُ والنَّشْجُ في البكاءِ. والمعنى على هذا القولِ : (مِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } ؛ الموتَ على ذلك العهدِ. وَقِيْلَ : معناهُ : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ) أي ماتَ أو قُتِلَ في سبيلِ الله فأدركَ ما تَمنَّى ، فذلك قضاءُ النَّحْب. وَقِيْلَ : فَرَغَ من عملهِ ، ورجعَ إلى اللهِ. وقال الحسنُ : (قَضَى أجَلَهُ عَلَى الْوَفَاءِ وَالصِّدْقِ) ، قال ابنُ قُتيبةَ : (قَضَى نَحْبَهُ : قُتِلَ).
وأصلُ النَّحْب : النَّذْرُ ، كان قومٌ نذرُوا أنَّهم إنْ لَقُوا العدوَّ قَاتَلُوا حتى يُقْتَلُوا أو يَفتحَ اللهُ تعالى فَقُتِلُوا. يقال : فلانٌ قَضَى نَحْبَهُ ، إذا قُتِلَ. وقال محمَّد بنُ اسحقٍ : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ مَا وَعَدَ اللهُ مِنْ نَصْرٍ أوْ شَهَادَةٍ عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أصْحَابُهُ).
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالَتْ : " طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِاللهِ مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ، ثَبَتَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أُصِيْبَتْ يَدُهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أوْجَبَ طَلْحَةُ الْجَنَّةَ " " وعن أبي نَجيحٍ : أنَّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ كَانَ يَوْمَ أُحُدٍِ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجَبَلِ ، فَجَاءَ سَهْمٌ مُتَوَجِّهٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاتَّقَاهُ طَلْحَةُ بيَدِهِ فَأَصَاب خِنْصَرَهُ.
وعن عائشةَ : أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ سََرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى رَجُلٍ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ " وَقالَ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنْظُرَ إلَى شَهِيْدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِاللهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } ؛ أي ما غيَّرُوا عهدَ اللهِ الذي عاهَدُوه عليهِ كما غَيَّرَهُ المنافقونَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } ؛ أي صِدْقَ المؤمنونَ في عهدِهم ليجزِيَهم اللهُ بصدقِهم ، { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ } ؛ بنقضِ العهدِ ، { إِن شَآءَ } ؛ قال السديُّ : (يُمِيْتُهُمُ اللهُ عَلَى نِفَاقِهِمْ إنْ شَاءَ فَيُوجِبُ لَهُمُ الْعَذابَ). فمعنى شَرْطِ المشيئةِ في عذاب المنافقين إمَاتَتُهُمْ على النفاق إنْ شاءَ ثُم يعذِّبُهم ، { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ؛ فيغفرُ لَهم ، ليس أنه يجوزُ أن لا يُعذِّبَهم إذا مَاتُوا على النِّفاقِ ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً } ؛ لِمَن تابَ { رَّحِيماً } ؛ بمن ماتَ على التَّوبةِ.
(0/0)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } ؛ معناهُ : وصَرَفَ اللهُ الكفَّارَ عن المؤمنينَ مُغتاظِين لَم يكن فيهم مَن شَفَا غَيْظَهُ ، ولَم ينالوا منهم مَالاً ولا غنيمةً ، ولَم يَرَوا سُروراً ، { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } ؛ بالرِّيحِ والملائكةِ التي أُرسِلَتْ عليهم ، { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً } ؛ أي لَم يَزَلْ قوِيّاً في مُلكهِ ، { عَزِيزاً } ، في قدرته مَنِيعاً بالنِّقمةِ من أعدائهِ.
(0/0)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ } ؛ معناهُ : وأنزلَ الذين عَاوَنُوا المشركينَ من أهلِ الكتاب وهم بنُو قريظةَ ، نقَضُوا العهدَ وأعَانُوا الأحزابَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فأنزَلَهم اللهُ من حُصونِهم مع شدَّةِ شوكَتِهم ، وألقَى في قلوبهم الرُّعبَ. " وذلك أنَّ بنِي قريظةَ كانوا فقد عاهَدُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن لاَ ينصرُوا أعداءَهُ عليهِ ، فلما رَأوا الأحزابَ وكَثرَتَهم ظنُّوا أنَّهم يستأصِلُون المؤمنينَ ، فنَقَضُوا العهدَ ولَحقوا بهم.
فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِيْنَ وَرَجَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بَيْتِهِ ، أرَادَ أنْ يَنْزَعَ لاَمَتَهُ ، فَسَمِعَ هَسِيْساً ، فَنَظَرَ فَإذا جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي دِرْعِهِ وَسِلاَحِهِ ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيْلُ : أتَنْزَعُ لاَمَتَكَ يا رَسُولَ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةُ لَمْ يَنْزعُواْ حَتَّى يُقَاتِلُواْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَيُصَلَّى فِيهِمْ الْعَصْرُ؟! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَكَيْفَ لِي بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ فِي حُصُونِهِمْ؟! " فَقَالَ جِبْرِيْلُ : لأُلْهِمَنَّكَ ذلِكَ ، فَوَاللهِ لأَدُقَّنَّهُمُ الْيَوْمَ كَمَا يُدَقُّ الْبَيْضُ عَلَى الصَّفَا. فَنَادَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الأَصْحَاب ، فَخَرَجُواْ إلَى حُصُونِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَأُلْقِي الرُّعْبُ فِي قُلُوب الْقَوْمِ حَتَّى طَلَبُواْ الصُّلْحَ ، وَأبَواْ إلاَّ أنْ يَنْزِلُواْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وَكَانَ سَعْدُ قَدْ أصَابَهُ سَهْمٌ فِي أكْحَلِهِ فِي حَرْب الْخَنْدَقِ ، فَسَأَلَ اللهَ أنْ يُؤْخِّرَهُ إلَى أنْ يَرَى قُرَّةَ عَيْنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ. فَلَمَّا طَلَبَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ النُّزُولَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ، رَضِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَحُمِلَ سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ احْتَبَسَ أكْحَلُهُ ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " احْكُمْ فِيْهِمْ ". فَقَالَ : حَكَمْتُ فِيْهِمْ بأَنَّ يُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَيُسْبَى ذرَاريَهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَأمْوَالُهُمْ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " حَكَمْتَ فِيْهِمْ مِثْلَ مَا حَكَمَ اللهُ فِيْهِمْ ". فَلَمَّا قُتِلَتْ مُقَاتِلَتُهُمْ وَسُبيَتْ نِسَاؤُهُمْ وَذرَاريَهُمْ ، انْفَجَرَ أكْحَلُ سَعْدٍ فَمَاتَ رَحِمَهُ اللهُ ".
والصَّيَاصِيُّ : جمعُ صِيصَةٍ ، وصِيْصَةُ الثَّور قَرْنُهُ ، سُمِّي بذلكَ ؛ لأنَّ قَرْنَهُ حِصْنُهُ الَّذِي يَتَحَصَّنُ بهِ.
ورُوي : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا رَجَعَ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي انْصَرَفَ فِيهَا الأَحْزَابُ ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنُونَ إلَى الْمَدِيْنَةِ ، وَوَضَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم السِّلاَحَ ، أتَى جِبْرِيْلُ عليه السلام إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَجِراً بعِمَامَةٍ مِنْ اسْتَبْرَقَ عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا قَطِيْفَةٌ مِنْ دِيْبَاجٍ ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ زَيْنَبَ بنْتِ جحْشٍ يَغْسِلُ رَأسَهُ وَقَدْ مَشَّطَتْ عِقْصَتَهُ ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ : قَدْ وَضَعْتَ السِّلاَحَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : عَفَا اللهُ عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ! فَوَاللهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ السِّلاَحَ مُنْذُ أرْبَعِيْنَ لَيْلَةٍ ، إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ بالسَّيْرِ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ.
وَكَانَ هَذا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله صلى وسلم مُنَادِياً يُنَادِي : " مَنْ كَانَ سَامِعاً مُطِيْعاً فَلاَ يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ". وَقَدَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ برَايَتِهِ إلَيْهِمْ ، فَسَارَ إلَيْهِمْ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى إذا دَنَا مِنَ الْحُصُونِ سَمِعَ مِنْهُمْ مَقَالَةً قَبيْحَةً فِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَرَجَعَ عَلِيٌّ رضي الله عنه حَتَّى لَقِيَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالطَّرِيْقِ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ عَلَيْكَ أنْ تَدْنُو مِنْ هَؤُلاَءِ الْخَبَائِثِ ، قَالَ : " أظُنُّكَ سَمِعْتَ مِنْهُمْ أذى ؟ " قَالَ : نَعَمْ. فَسَارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُمْ حَتَّى دَنَا مِنْ حُصُونِهِمْ ، فَقَالَ لَهُمْ : " يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ أخْزَاكُمُ اللهُ ، وَأنْزَلَ فِيْكُمْ نِقْمَتَهُ " قَالُواْ : يَا أبَا الْقَاسِمِ! مَا كُنْتَ جَهُولاً.
فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ خَمْساً وَعِشْرِيْنَ لَيْلَةً حَتَّى جَهَدَهُمُ الْحِصَارُ ، وَقَذفَ فِي قُلُوبهِمُ الرُّعْبَ. فَلَمَّا أيْقَنُواْ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ رَاجِعٍ عَنْهُمْ ، قَالَ لَهُمْ كَعْبُ بْنُ أسَدٍ : يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ؛ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بكُمْ مِنَ الأَمْرِ مَا تَرَوْنَ ، وَإنِّي سَأَعْرِضُ عَلَيْكُمْ ثَلاَثَ خِصَالٍ ، فَخُذُواْ بأَيِّهَا شِئْتُمْ. قَالُواْ : وَمَا هِيَ ؟
قَالَ : أمَّا الأُوْلَى فَنُبَايعُ هَذا الرَّجُلَ وَنُصَدِّقُهُ فَوَاللهِ لَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ أنَّهُ نَبيٌّ مُرْسَلٌ ، وَأنَّهُ الَّذِي تَجِدُونَهُ فِي كِتَابكُمْ ، فَتَأْمَنُواْ عَلَى دِمَائِكُمْ وَأمْوَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ. قَالُواْ : لاَ نُفَارقُ دِيْنَنَا أبَداً ، وَلاَ نَسْتَبْدِلُ بهِ غَيْرَهُ.
قَالَ : فَإنْ أبَيْتُمْ هَذِهِ عَلَيَّ ، فَهَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ أبْنَاءَنَا وَنَسَاءَنَا ، ثُمَّ نَخْرُجَ إلَى مُحَمَّدٍ رجَالاً مُصَلِّتِينَ بالسُّيُوفِ ، وَلَمْ يَكُنْ وَرَاءَنَا ثِقْلٌ يَهُمُّنَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. قَالُواْ : نَقْتُلُ هَؤُلاَءِ الْمَسَاكِيْن! فَلاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُمْ.
قَالَ : فَإنَّ أبَيْتُمْ هَذِهِ ، فَاعْلَمُواْ أنَّ هَذِهِ لَيْلَةَ السَّبْتِ ، وَإنَّهُ عَسَى أنْ يَكُونَ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ قَدْ أمِنُواْ فِيْهَا ، فَانْزِلُواْ لَعَلَّنَا نُصِيْبُ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأصْحَابهِ غِرَّةً. قَالُواْ : نُفْسِدُ سَبْتَنَا وَنُحْدِثُ فِيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ أحْدَثَ فِيْهِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، وَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ الَّذِينَ أَحْدَثُواْ فِيه الأحْدَاثَ مُسِخُواْ ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ مَنْ هُمْ.
قَالَ : ثُمَّ إنَّهُمْ بَعَثُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن ابْعَثْ إلَيْنَا أبَا لُبَابَةَ أخَا بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الأَوْسِ ، نَسْتَشِيْرُهُ فِي أمْرِنَا ، فَأَرْسَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَيْهِمْ. فَسَأَلُوهُ إنْ نَنزِلَ عَلَى حُكْمِ مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأشَارَ بيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ : أنَّهُ الذبْحُ. قَالَ أبْو لُبَابَةَ : فَعَلِمْتُ أنِّي قَدْ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ ، ثُمَّ انْطَلَقَ أبُو لُبَابَةَ عَلَى وَجْهِهِ ، وَلَمْ يَأْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ارْتَبَطَ فِي الْمَسْجِدِ إلَى عَمُودٍ مِنْ أعْمِدَتِهِ ، وَقَالَ : لاَ أبْرَحُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ مِمَّا صَنَعْتُ ، وَعَاهَدَ اللهَ تَعَالَى أنْ لاَ يَطَأَ أرْضَ بَنِي قُرَيْظَةَ أبَداً ، وَقَالَ : لاَ يَرَانِي اللهُ فِي بَلَدٍ خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيْهِ. فَلَمَّا عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَدْ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ قَالَ : " أمَا إنَّهُ لَوْ جَاءَنِي لاسْتَغْفرْتُ لَهُ ، فَأَمَّا إذا فَعَلَ مَا فَعَلَ ، فَمَا أنَا بالَّذِي أُطْلِقُهُ حَتَّى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أنْزَلَ تَوْبَتَهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " تُبْتُ عَلَى أبي لُبَابَةَ " فَثَارَ النَّاسُ إلَى أبي لُبَابَةَ لِيُطْلِقُوهُ ، فَقَالَ : وَاللهِ لاَ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بيَدِهِ. فَجَاءَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَطْلَقَهُ.
قَالَ : فَلَمَّا أصْبَحَ بَنُو قُرَيْظَةَ نَزَلُواْ عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَتَوَاثَبَتِ الأَوْسُ وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّهُمْ مَوَالِيْنَا - أيْ حُلَفَاؤُنَا - دُونَ الْخَزْرَجِ ، وَقَدْ فَعَلْتَ فِي مَوَالِي الْخَزْرَجِ مَا قََدْ عَلِمْتَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ وَكَانُواْ حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ ، فَنَزَلُواْ عَلَى حُكْمِهِ ، فَسَأَلَهُمْ إيَّاهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبى سَلُولٍ فَوَهَبَهُمْ لَهُ. فَلَمَّا كَلَّمَهُ الأَوْسُ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يَا مَعْشَرَ الأَوْسِ ؛ أمَا تَرْضَوْنَ أنْ أُحَكِّمَ فِيْهِمْ رَجُلاً مِنْكُمْ ؟ " قَالُواْ : بَلَى ، قَالَ : " فَذاكَـ " إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَدْ جَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي خَيْمَةِ امْرَأةٍ مِنَ أسْلَمَ يُقَالُ لَهَا رُفَيْدَةُ ، تُدَاوي الْجَرْحَى وَتَخْدِمُ الْمَرْضَى.
فَلَمَّا حَكَّمَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ، أتَاهُ قًَوْمٌ فَاحْتَمَلُوهُ عَلَى حِمَار ، وَقَدْ وَطَّأُواْ لَهُ وسَادَةً مِنْ أدْمٍ ، وَكَانَ رَجُلاً جَسِيْماً. ثُمَّ أقْبَلُواْ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ يَقُولُونَ : يَا أبَا عَمْرٍو! أحْسِنْ فِي مَوَالِيْكَ ، فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا وَلاَّكَ ذلِكَ لِتُحْسِنَ فِيْهِمْ. فَلَمَّا أكْثَرُواْ عَلَيْهِ ؛ قَالَ : لَقَدْ آنَ لِسَعْدٍ أنْ لاَ تَأْخُذهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ. فَعَرَفُواْ أنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ مَقْتُولُونَ.
فَلَمَّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " قُومُواْ إلَى سَيِّدِكُمْ ، فَأَنْزِلُوهُ " فَقَامُواْ إلَيْهِ ، فَقَالَ : يَا أبَا عَمْرٍو ؛ إنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ وَلاَّكَ مَوَالِيكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، فَقَالَ سَعْدٌ : عَلَيْكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيْثَاقُهُ أنَّ الْحُكْمَ فِيْهِمْ مَا حَكَمْتُ ؟ قَالُواْ : نَعَمْ. قَالَ : أحْكُمُ فِيْهِمْ أنْ يُقْتَلَ الرِّجَالُ وَتُقْسَمَ الأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذرَاري وَالنِّسَاءُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ حَكَمْتَ فِيْهِمْ يَا سَعْدُ بحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ ". ثُمَّ اسْتُنْزِلُواْ ، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي دَار " ابْنَةِ الْحَارثِ " امْرَأةٍ مِنْ بَنِي النَّجَّار ، ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِمْ مَنْ يُخْرِجُهُمْ إلَيْهِ إرْسَالاً ، وَأمَرَ بضَرْب أعْنَاقِهِمْ.
وَكَانَ فِيْهِمْ يَوْمِئذٍ عَدُوُّ اللهِ حَييُّ بْنُ أخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ أسْدٍ رَأسُ الْقَوْمِ فِي سَبْعِمِائَةٍ. وَقِيْلَ : مِنْ ثَمَانِمِائَةٍ إلَى تِسْعِمِائَةٍ ، فَقَالُواْ لِكَعْبٍ وَهُوَ يَذْهَبُ بهِمْ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أرْسَالاً : يَا كَعْبُ مَا تَرَى مَا يُصْنَعُ بنَا ؟ قَالَ : مَا لَكُمْ لاَ تَعْقِلُونَ! ألاَ تَرَوْنَ مَنْ ذهَبَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُ ، هُوَ وَاللهِ الْقَتْلُ ، فَلَمْ يَزَلْ ذلِكَ دَأبُهُمْ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ أُتِيَ بحُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ عَدُوِّ اللهِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَهُ فَقَّاحِيَّةٌ وَيَدَاهُ مَغْلُولَتَانِ إلَى عُنُقِهِ بحَبْلٍ ، ثُمَّ أُجْلِسَ فَضُرِبَ عُنُقُهُ ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ؛ قال المفسِّرون : " كان بعضُ أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَأَلْنَهُ شيئاَ من عَرَضِ الدُّنيا وآذينَهُ بزيادةِ النَّفقة ، فهَجَرَهُنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وآلَى منهنَّ شهراً أنْ لا يقرَبَهن ولَم يخرج إلى أصحابهِ للصَّلوات.
فقالتِ الصحابةُ : مَا شَأْنُ رَسُولِ اللهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : إنْ شِئْتُمْ ذَهَبْتُ إلَيْهِ لأُعْلِمَكُمْ مَا شَأْنُهُ ؟ فَذَهَبَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذنَ فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ عُمَرُ : فَجَعَلْتُ أقُولُ فِي نَفْسِي : أيُّ شَيْءٍ أكَلِّمُ بهِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَعَلَّهُ يَنْبَسِطُ ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لَوْ رَأيْتَ فُلاَنَةَ وَهِيَ تَسْأَلُنِي النَّفَقَةَ فَصَكَكْتُهَا صَكَّةً ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " فَذلِكَ الَّذِي أجْلَسَنِي عَنْكُمْ ". فَأَتَى عُمَرُ حَفْصَةَ فَقَالَ لَهَا : لاَ تَسْأَلِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً فَمَا كَانَ مِنْ حَاجَتِهِ لَكَ فَأَوْلَى.
ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُ نِِسَاءَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُكَلِّمُهُنَّ ، حَتَّى قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : يَغُرُّكَ أنَّكِ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ وَإنَّ زَوْجَكِ يُحِبُّكِ لَتَنْتَهِيَنَّ أوْ لَيُنْزِلَنَّ اللهُ فِيْكُنَّ الْقُرْآنِ. فَقَالَتْ أُمُّّ سَلَمَةَ : يَا ابْنَ الْخَطَّاب ؛ أوَمَا بَقِيَ لَكَ إلاَّ أنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ وَنِسَائِهِ! فَمَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأةُ إلاَّ زَوْجَهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ } " إلى آخرها.
وكان يومئذٍ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نِسوَةٍ ؛ خمسٌ من قُريش : عائشةُ بنت أبي بكر ، وحفصةُ بنت عُمر ، وأمُّ حبيبةَ بنت أبي سُفيان ، وسَوْدَةُ بنتُ زَمْعَةَ ، وأمُّ سَلَمَةَ بنت أبي أُميَّة ، فهؤلاءِ من قريشٍ. وصفيَّة بنتُ حَييِّ بن أخطب الخيبريَّة ، وميمونةُ بنت الحارثِ الهلالية ، وزينبُ بنت جحشٍ ، وجُوَيْرِيَّةُ بنت الحارثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِساً مَعَ حَفْصَةَ ، فَتَشَاجَرَا فِيْمَا بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ لَهَا : هَلْ لَكِ أنْ أجْعَلَ بَيْنِي وَبَيْنَكِ رَجُلاً ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : فَأَبُوكِ إذاً ، فَأَرْسَلَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ : تَكَلَّمِي ، قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ تَكَلَّمْ وَلاَ تَقُلْ إلاَّ حَقّاً! فَرَفَعَ عُمَرُ يَدَهُ فَوَجَّى وَجْهَهَا ثُمَّ رَفَعَ فَوَجَّى وَجْهَهَا ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " كُفَّ ".
فَقَالَ عُمَرُ : يَا عَدُوَّةِ اللهِ! أوَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ إلاَّ حَقّاً ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بالْحَقِّ لَوْلاَ مَجْلِسُهُ مَا رَفَعْتُ يَدِي حَتَّى تَمُوتِي. فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فَصَعَدَ إلَى غُرْفَةٍ ، فَمَكَثَ فِيْهَا شَهْراً لاَ يَقْرَبُ شَيْئاً مِنْ نِسَائِهِ ، يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى فِيْهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآيَةُ ، فَنَزَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَعَرََضَ ذلِكَ عَلَيْهِنَّ كُلُّهُنَّ ، فَلَمْ يَخْتَرْنَ إلاَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَكَانَ آخِرُ مَنْ عَرَضَ عَلَيْهَا حَفْصَةُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنِّي فِي مَكَانِ الْعَائِذة بكَ مِنَ النَّار ، وَاللهِ لاَ أعُودُ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ أبَداً ، بَلْ أخْتَارُ اللهَ وَرَسُولَهُ ، فَرَضِيَ عَنْهَا ".
(0/0)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يانِسَآءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (يَعْنِي النُّشُوزَ وَسُوءَ الْخُلُقِ) { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ؛ أي يُجعَلُ عذابُ جُرمِها في الآخرةِ كعذاب جُرمَيْنِ. والمعنى : يزيدُ في عذابها ضِعْفاً ، كما زيدَ في ثوابها ضِعفاً في قولهِ{ نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }[الأحزاب : 31].
وإنَّما ضُوعِفَ عذابُهن على الفاحشة لأنَّهن يُشَاهِدْنَ من الزَّواجرِ ما يَرْدَعُ عن مواقعةِ الذُّنوب ما لا يشاهدُ غيرُهن ، فإذا لَم يَمتَنِعْنَ اسْتَحْقَقْنَ تَضعيفَ العذاب. وقَوْلُهُ تََعَالَى : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } ؛ أي وكان عذابُها على الله هيِّناً.
وقَوْلُهُ تَعَالَى { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ، قرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر (نُضَعِّفُ) بالنون وكسرِ العين مشدَّدة من غير ألِف (العذابَ) بالنصب ، وقرأ أبو عمرٍو (يُضَعَّفُ) بالياءِ وفتحِ العين والتشديد ، ورفعِ (الْعَذابُ) ، قال أبو عمرٍو : (وَإنَّمَا قَرَأتُ هَكَذا مُشَدَّداً مِنْ غَيْرِ ألِفٍ لِقَوْلِهِ (ضَعْفَيْنِ) ، يُقَالُ : ضَعَّفْتُ الشَّيْءَ إذا جَعَلْتُهُ مِثْلَهُ وَضَاعَفْتُهُ إذا جَعَلْتُهُ أمْثَالَهُ). وقرأ الباقونَ (يُضَاعَفُ) بالألفِ ورفع (الْعَذابُ).
(0/0)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي ومَن يُطِعْ منكن للهِ ورسولِهِ. وَقِيْلَ : ومَن تُقِمْ منكنَّ على طاعةِ الله وطاعة رسولهِ ، { وَتَعْمَلْ صَالِحاً } ؛ فيما بينَها وبين ربها ، { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ؛ أي نُعطِيها مكانَ كلِّ حَسَنَةٍ عشرين حَسَنَةً ، { وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } ؛ أي حَسَناً ؛ يعني الجنَّة. والرِّزقُ الكريمُ : ما سَلِمَ من كلِّ آفةٍ ، ولا يكونُ ذلك إلاَّ في الجنَّة.
قرأ يعقوب (تَقْنُتْ) بالتاءِ ومثلهُ رُوي عن ابنِ عامر ، وقوله (وَتَعْمَلْ صَالِحاً) ، قرأ الأعمشُ وحمزة والكسائي وخلَف (وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُؤْتِهَا) بالياءِ فيهما. وقرأ غيرُهم (وَتَعْمَلْ) بالتاءِ (وَنُؤْتِهَا) بالنُّون. قال الفرَّاء : (وَإنَّمَا قُرِئ (يَقْنُتْ) بالياءِ لأن (مَنْ) أدَاةٌ تَقُومُ مَقَامَ الاسْمِ ، يُعَبَّرُ بهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ وَالْمُذكَّرِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ }[يونس : 43]{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ }[يونس : 42] ، { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ } ).
(0/0)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يانِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } ؛ معناهُ : ليس قَدْرُكُنَّ عندي مثل قَدْر غيرِكن من النِّساء الصالحات ، أنْتُنَّ أكرمُ عَلَيَّ ، وأنا بكُنَّ أرحمُ وثوابُكن أعظمُ ، { إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } ؛ اللهِ. وشَرَطَ عليهنَّ التقوَى بياناً أنَّ فَضِيلَتَهُنَّ إنَّما تكون بالتَّقوى لا باتِّصالِهن بالنبيَِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : معناهُ. ليست حالَتُكن كحالةِ النِّساء غيركن في الطاعةِ والمعصية والثواب والعقاب إنْ كنتن مُتَّقِيَاتٍ عن المعاصي مُطيعاتٍ لله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } ؛ أي فلا تُلِنَّ القولَ للرِّجال على وجهٍ يُورثُ ذلك الطمعَ فيكن ، فيطمعُ المنافقون في مواقعتِكُن ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } ؛ يعني زنًى وفجُورٌ ونفاقٌ. والمرأةُ مَنْدُوبَةٌ إذا خاطبَتِ الأجانبَ إلى الْغِلْظَةِ في المقالةِ ؛ لأن ذلك أبعدُ مِن الطَّمعِ من الزِّينة.
وإنَّما قال { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ } ولَم يقل كواحدةٍ ؛ لأن أحَداً عامٌّ يصلحُ للواحدِ والاثنين والجمع والمذكَّر والمؤنث ، قال تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }[البقرة : 285] وقال تعالى{ فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة : 47].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ؛ أي قُلْنَ قَولاً حَسَناً لا يؤدِّي إلى الزينةِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : وقُلْنَ ما يوجبهُ الدِّين والإسلامُ بغيرِ خضوعٍ فيه ، بل بتصريحٍ وبيان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } ؛ أي إلْزَمْنَ بيوتَكُن ولا تخرُجْن إلاّ في ضَرورةٍ.
قرأ نافعُ وعاصم (وَقَرْنَ) بفتح القافِ ، وهو مِن قَرَرْتَ في المكانِ أقَرَّ ، وكان الأصلُ اقْرِرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ، فحُذفت الرَّاء الأُولى التي هي عينُ الفعلِ لأجل نَقْلِ التَّضعيفِ ، وأُلقِيَتْ حركتُها إلى القافِ كقوله{ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ }[الواقعة : 65] و{ ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً }[طه : 97] ، والأصلُ ظَلَلْتَ وظَلَلْتُمْ. وقرأ الباقون (وَقِرْنَ) بكسرِ القاف مِن الوَقَار ؛ أي كنَّ أهلَ سَكينةٍ ووَقارٍ ، والأمرُ منه للرَّجُلِ قِرَّ ، وللمرأة قِرِّي ، والجماعة النساء قِرْنَ ، كما يقالُ من الوعدِ : عِدْنَ ، ومن الوَصْلِ : صِلْنَ.
وعن محمَّد بنِ سِيرين قال : (قِيْلَ لِسَوْدَةِ بنْتِ زَمْعَةَ : ألاَ تَحُجِّيْنَ ؛ ألاَ تَعْتَمِرِيْنَ كَمَا يَفْعَلُ أخَوَاتُكِ ؟ فَقَالَتْ : قَدْ حَجَجْتُ وَاعْتَمَرْتُ ، ثُمَّ أمَرَنِي اللهُ أنْ أقِرَّ فِي بَيْتِي ، فَوَاللهِ لاَ أخْرُجُ مِنْهُ حَتَّى أمُوتُ. فَوَاللهِ مَا أُخْرِجَتْ مِنْ بَاب بَيْتِهَا حَتَّى أخْرَجُواْ جَنَازَتَهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } ؛ التَّبَرُّجُ : التَّبَخْتُرُ وَإظْهَارُ الزِّيْنَةِ ، وما يستدعِي به من شَهوَةِ الرِّجال وإبراز الْمَحاسِنِ للناسِ. والجاهليةُ الأُولَى : هي ما بينَ عِيسَى عليه السلام ومُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، كانتِ المرأةُ من أهلِ ذلك الزمان تَتَّخِذُّ الدِّرْعَ من اللُّؤلُؤِ فتلبسهُ ثُم تَمشِي وسطَ الطريقِ ليس عليها غيرهُ ، وتعرِضُ نفسَها للرِّجالِ. وقال بعضُهم : الجاهليةُ الأُولَى ما بين آدمَ ونوحٍ ، كان نساؤُهم أقبحَ ما يكون من النِّساءِ ، ورجالُهم حِسَانٌ ، وكانت المرأةُ تُرَاودُ الرجُلَ عن نفسهِ. فنهَى اللهُ تعالى هؤلاءِ عن فِعْلِ أهلِ الجاهليَّة وأمَرَهُنَّ بإقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة وطاعةِ الله ورسولهِ في باقِي الآيةِ.
(0/0)