فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } ؛ أي سِيرُوا في الأرضِ على الْمَهْلِ وأقْبلُوا وأدبرُوا في الأرضِ إلى أن يمضيَ أربعةٌ. وَقِيْلَ : هو على الخطاب ؛ أي قُل لَهم سيرُوا في الأرضِ مُقبلِينَ ومُدبرِينَ آمِنِينَ غَيرَ خائفِين من قَتْلٍ ولا أسْرٍ ولا نَهْبٍ.
ويقالُ : إن قولَهُ : { فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ } بيانُ أن هذا السَّيْحَ المذكورَ في أوَّل هذه السورةِ إنَّما هو بعدَ أربعةِ أشهرُ ، فإنَّ عهدَ الكفَّار باق إلى آخرِ هذه المدَّة. قال الحسنُ : (أمَرَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يَنْظُرَ فِي عُهُودِ الْكُفَّارِ ، فَيُقِرَّ مَنْ كاَنَ عَهْدُهُ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ عَلَى عَهْدِهِ أنْ يَمْضِي ، وَيَحِطَّ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أكْثَرَ مِنْ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ ، وَيَرْفَعَ عَهْدَ مَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَبْلَ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ فَيَجْعَلَهُ أرْبَعَةَ أشْهُرْ).
واختلَفُوا في هذهِ الأربعة أشهُر ، قال بعضُهم : من عشرين ذِي القِعدَةِ إلى عِشرين من رَبيع الأوَّل. ورُوي في الخبرِ : أنَّ مكَّة فُتحت في سنةِ ثَمانٍ من الهجرة ، ووَلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عتَّابَ بن أُسَيدٍ الوقوفَ بالناسِ في الموسمِ ، واجتمعَ في تلك السَّنة في الوقوفِ المسلِمُون والمشركون.
" فلمَّا كانت سنةُ تسعٍ ولَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بكرٍ وبعثَ معه عشرَ آياتٍ من أوَّلِ براءةً أو تسعِ آياتٍ ، وأمرَهُ أن يقرَأها على أهلِ مكَّة ، وينبذَ إلى كلِّ ذِي عهدٍ عهدَهُ كما وصفَ اللهُ تعَالَى ، فلمَّا خرجَ أبوُ بكرٍ رضي الله عنه منها إلى مكَّة ، نزلَ جبريلُ عليه السلام فَقَالَ : للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُبَلِّغُ عَنْكَ إلاَّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ بَيْتِكَ " فدَعَا عَلِيّاً رضي الله عنه وأمَرَهُ بالذهاب إلَى مكَّةَ ، وقال : " كُنْ أنْتَ الَّذِي يَقْرَأ هَذِهِ الآيَاتِ عَلَى أهْلِ مَكَّةَ ، وَمُرْ أبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بالنَّاس ". فسارَ حتى لَحِقَ أبا بكرٍ رضي الله عنه في الطريقِ ، فأخبرَهُ بذلك فمَضَيَا ، وكان أبُو بكرٍ على الموسِمِ ".
فلمَّا كان يومُ النحرِ واجتمعَ المشركونَ ، قام عليٌّ رضي الله عنه عند جمرةِ العَقَبَةِ وقالَ : (يَا أيُّهَا النَّاسُ ؛ إنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَيْكُمْ) فَقَالُواْ : بمَ ذَا ؟ فقرأ عليهم (بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ...) إلى آخرِ الآياتِ التي نزلَتْ.
وكان الحجُّ في السنَّة التي قرأ عليٌّ رضي الله عنه فيها هذه السُّورةَ في العاشرِ من ذي القعدَةِ ، ثم صارَ الحجُ في السَّنة الثانيةِ في ذي الحجَّة ، وكان السببُ في تقديمِ الحجِّ في سَنَةِ العهدِ ما كان يفعلهُ بنو كِنَانَةَ في النَّسِيءُ وهو التأخيرُ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الأربعةَ الأشهر المذكورة في هذهِ الآيةِ هي : شوَّال وذُو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } ؛ أي غيرَ فائِتِين عن اللهِ بعدَ الأربعةِ الأشهر ، فإنَّكم إنْ أجَّلتُم هذه الأشهرَ فلن تفُوتُوا اللهَ تعالى. وقولهُ تعالى : { وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } ؛ أي معذِّبَ الكافرين في الدُّنيا بالقتل في الآخرةِ بالنار. والإخْزَاءُ : هو الإِذلاَلُ على وجههِ الأدْوَنِ.
(0/0)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } ؛ أي وإعلامٌ من اللهِ ورسوله إلى الناسِ يومَ الحجِّ الأكبرِ وهو يومُ النحرِ ، كذا روَى ابنُ عبَّاس ، وسُمِي يومُ النحرِ يومَ الحجِّ الأكبرِ ؛ لأنه اتَّفقَتْ فيه الأعيادُ على قولِ أهل الْمِلَلِ. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ يَوْمَ عَرَفَةَ " ، قال قيسُ ابن مَخْرَمَةَ : " خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ : " أمَّا بَعْدُ ؛ فَإنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ".
ويروى أنَّ عَلِيّاً رضي الله عنه خرجَ يوم النَّحرِ على بلغةٍ بيضاءَ إلى الجبانة ، فجاءَهُ رَجُلٌ فأخَذَ بلِجَامِهَا وسَأَلَهُ عن يومِ الحجِّ الأكبرِ ، فقال : (هُوَ يَوْمُكَ هَذَا ، خَلِّ سَبيلَهُ). وسُئلَ عبدُاللهِ بن أبي أوفَى عن يوم الحجِّ الأكبرِ ، فقالَ : (سُبْحَانَ اللهِ! هُوَ يَوْمُ النَّحْرِ يَوْمَ يُهْرَاقُ فِيْهِ الدِّمَاءُ وَنَحْلِقُ فِيْهِ الشَّعْرَ وَيُحَلُّ فِيْهِ الْمُحَرَّمُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَذَانٌ } عطف على قوله : { بَرَآءَةٌ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أي أن اللهَ ورسولهُ برِيءٌ من المشركين ، تقديرهُ : أنَّ اللهَ برِيءٌ ورسولهُ أيضاً بَرِيءٌ. ومَن قرأ (وَرَسُولَهُ) بالنصب فعلى معنَى وأن رسولَهُ بريءٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ أي تبتُم من الشِّرك فهو خيرٌ لكم من الإقامةِ عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } ؛ معناهُ : وإنْ أعرَضتُم ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي } ؛ فَائِتِينَ عن ؛ { اللَّهِ }.
وقولهُ تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ تكرارٌ للوعيدِ ، وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قال : (كُنْتُ مَعَ عَلِيٍّّ رضي الله عنه حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالبَرَاءَةَ إلَى مَكَّةَ) فَقِيلَ لأَبي هُرَيْرَةَ : بمَ إذاً كُنْتُمْ تُنَادُونَ ؟ قََالَ : (كُنَّا نُنَادِي : أنَّهُ لاَ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يَحُجَّنَّ هَذَا الْبَيْتَ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مَشْرِكٌ وَلاَ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَهْدٌ فَأَجَلُهُ إلَى إرْبَعَةِ أشْهُرٍ ، فَإذَا مَضَتْ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ فَإنَّ الله بَرِيءٌ مِنْ عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ } ؛ استثناءٌ من اللهِ تعالى من قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }[التوبة : 1] وأرادَ بقولهِ : { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ } بني ضَمْرَةَ وهم حَيٌّ من بَنِي كِنَانَةَ عاهدَهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامَ الحديبية عند البيتِ ، وكان بقيَ لهم من عهدِهم تسعةٌ من بعدِ النَّحرِ من السَّنة التي حجَّ فيها أبو بكرٍ رضي الله عنه ، وكانوا لم يَنقُضوا شيئاً من عُهودِهم ، ولَم يُمالُوا عدُوّاً على رسولِ اللهِ عليه السلام ، فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن - أبقَى - لهم بعهدِهم إلى آخرِ مُدَّتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي يرضَى عملَ الذينَ يتَّقون نقضَ العهدِ. قرأ عطاءُ (يَنْقُضُوكُمْ) بالضَّادِ المعجمة من نقضِ العهد.
(0/0)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } إذا مضَتِ الأشهرُ التي حرَّمَ اللهُ القتالَ بالعهدِ فيها ، { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } { وَخُذُوهُمْ } ؛ يقالُ أرادَ بذلك الأشهُرَ الْحُرُمَ المعروفةَ ؛ وهي : رجبُ وذو القعدةِ وذو الحجَّة والمحرَّم ، كأنه قالَ : فإذا انسلخَ الأشهرُ الحرُمُ فاقتلُوا المشركين حيث وجدتُموهم في الحِلِّ أو في الحرَمِ ، وخُذُوهُمْ ؛ أي أأسرُوهم ، { وَاحْصُرُوهُمْ } ؛ أي احبسُوهُمْ ، ويقالُ : أراد بذلك أن يُحالَ بينهم وبين البَيْتِ ؛ أي امنَعوهُم دخولَ مكَّة. وقولهُ تعالى : { وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ؛ أي اقعُدوا القتالَ على كلِّ طريقٍ يأخذون فيهِ إلى البيتِ أو إلى التجارةِ ، وهو أمرٌ بتضييقِ السبيل عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } معناهُ : فإن تابُوا عن الشِّرك ، وقَبلُوا إقامَ الصلاةِ وإيتاءِ الزَّكاة فأطلِقُوهم ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لِمَا سَلَفَ من شِركهم ، { رَّحِيمٌ } ؛ بهم حين قَبلَ توبتَهم.
(0/0)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } ؛ معناهُ : وإنْ أحدٌ من المشرِكين استأمَنَك ليسمعَ دعوتَك واحتِجَاجَكَ بالعدلِ ، فأَمِّنْهُ حتى يسمعَ كلاَمَ اللهِ ، فإنْ أرادَ أن يُسلِمَ فرُدَّهُ إلى موضعِ أمْنِهِ ، { ذلِكَ } ؛ الأمانُ لَهم ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } ؛ أمرَ اللهِ تعالى.
(0/0)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } أي كيف يكونُ لهم عهدٌ ، وهم يُضمِرُونَ الغدرَ في عُهودِهم عندَ اللهِ وعندَ رسُولِهِ ؛ أي لن يكونَ لهم عهدٌ يجبُ الوفاءُ به ، { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ } ؛ في وفَاءِ العهدِ فلم ينقضوهُ كما نقضَ غيرُهم ، { فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } ؛ بوفاءِ أجَلِهم ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ؛ لنقضِ العهد.
(0/0)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ؛ أي كيف يكون لهم العهدُ ، وقال الأخفشُ : (مَعْنَاهُ : كَيْفَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَهُمْ إن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ لاَ يَحْفَظُوا فِيكُمْ قَرَابَةً وَلاَ عَهْداً) ، وقال قتادةُ : (الإلُّ : الْحِلْفُ) ، قال السديُّ : (هُوَ الْعَهْدُ) وَلَكِنَّهُ كَرَّرَهُ لِمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ وَإنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
قال مجاهدُ : (الإِلُّ هُوَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ) وَمِنْهُ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ ، فإنَّ مَعْنَاهُمَا عَبْدُ اللهِ. وَأبُو بَكْرٍ لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ مُسَيلَمَةَ قَالَ : (هَذَا كَلاَمٌ لَيْسَ هُوَ إلٍّ) أي لم يتكلَّمْ به اللهُ. وقرأ عكرمةُ (إيْلاً) بالياءِ يعني اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ، مثل جِبرِيل مِيكَائِيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } ؛ أي يتكلَّمون العهدِ بأفواهِهم ، { وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ } ؛ إلاَّ نقضَ العهدِ ، { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ }. أي مُتمَادُونَ في الكفرِ.
(0/0)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } ؛ أي اختَارُوا على القرآنِ عَرَضاً يَسِيراً من الدُّنيا ، { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } فصَرَفُوا الناسَ عن طاعةِ اللهِ ؛ فبئْسَ العملُ عمَلُهم ، وذلك أنَّهم نقَضُوا العهدَ الذي بينَهم وبين رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأَكْلَةٍ أطعمَهُم إيَّاها أبُو سُفيان.
(0/0)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ؛ فإن قِيْلَ : لِمَ أعادَ قولَهُ تعالى : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ؟ قِيْلَ : ليس هذا بإعادةٍ ؛ لأنَّ الأولَ وَرَدَ في جميعِ الكفَّار الذين نقَضُوا العهدَ ، والثاني إنَّما وردَ في طائفةٍ من اليهودِ الذين كانوا ينقضُونَ العهدَ ، فإنَّ هذه الطائفةَ منهم الذين اشتَرَوا بآياتِ الله ثَمناً قليلاً ؛ فإنَّهم كانوا يكتُمون صفةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ من المواكَلَةِ كانوا يأخذونَها من سَفَلَتِهم ، وكانوا يأخُذون الرِّشَاءَ على الحكمِ الباطل ، ويغيِّرون أحكامَ اللهِ التي أنزلَها على أنبيائِهم. وقولهُ تعالى : { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } ؛ يعني في نقضِ العهد.
(0/0)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَءَاتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ } ؛ أي فإن تَابُوا عن الكفرِ وقَبلُوا إقامةَ الصَّلاة وإيتاءَ الزَّكاة ، فهُم إخوانُكم في دينِ الإسلام ، { وَنُفَصِّلُ } ؛ ونأتِي بـ ، { الأيَـاتِ } ؛ أيةً بعدَ آيةٍ ، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؛ أمْرَ اللهِ وأحكامَهُ.
(0/0)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } ؛ أي نقَضُوا أيمانَكم والحلفَ من بعدِ العهُودِ التي عاهدَّتهم أنْ لا يُقاتِلُوكَ ولا يُعِينُوا عليكَ ولا على حُلفائِكَ ، { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } ؛ الإسلام وعابوهُ ، وذلك أنَّهم قالوا : ليس دينُ مُحَمَّدٍ بشيءٍ ، { فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } ؛ أي رُؤُوسَ الكُفرِ ؛ { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ }.
قال ابنُ عباس : (نَزَلَتْ فِي أبي سُفْيَانَ وَالْحَارثِ بْنِ هِشَامِ وَسُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَعِكْرِمَةَ بْنِ أبي جهلٍ وَسَائرِ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ الْعَهْدَ ، وَهُمُ الَّذِينَ همُّواْ بإخْرَاجِ الرَّسُولِ). وقال مجاهدُ : (هُمْ فَارسَ وَالرُّومُ).
وقولُه تعالى : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي لا عهودَ لهم ؛ جَمْعُ يَمِينٍ ، وقال قطربُ : (لاَ وَفَاءَ لَهُمْ بالْعَهدِ). وقرأ الحسنُ وعطاء وابنُ عامرٍ (لاَ إيْمَانَ) بكسرِ الهمزة ؛ أي لا تصديقَ لهم ، قال عطيَّة : (لاَ دِينَ لَهُمْ) أي هم قومٌ كفَّار. وَقِيْلَ : معناهُ : لا أمانَ لهم فلا تُؤَمِّنُوهُمْ واقتلُوهم حيث وجدتُّموهم ، فيكون مصدرُ أمَّنْتُهُ إيْمَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } ؛ أي ليُرجَى منهم الانتهاءُ عنِ الكُفرِ ونقضِ العهد.
وفي الآية بيانُ أنَّ أهلَ العهدِ متى خالَفوا أشياء مما عاهدوهم عليه فقد نُقِضَ العهدُ ، وأما إذا طَعَنَ واحدٌ منهم في الإسلام : فإنْ كان شُرِطَ في عُهودِهم أن لا يذكُروا كتابَ اللهِ ولا يذكرون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بما لا يجوزُ ، ولا يَفتِنُوا مُسلِماً عن دينهِ ولا يقطَعُوا عليه طَريقاً ولا يُعِينُوا أهلَ الحرب بدلالةٍ على المسلمين ، فإنَّهم إذا فعَلُوا ذلك في عهودِهم وطَعَنوُا في القرآنِ وشَتَموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ففيه خلافٌ بين الفقَهاءِ.
قال أصحابُنا : يُعْذَرُونَ ولا يُقتلون ، واستدَلُّوا بما روَى أنسُ بن مالك رضي الله عنه : " أنَّ امْرَأةً يَهُودِيَّةً أتَتِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشَاةٍ مَسْمُومَةٍ فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ فَقِيلَ : ألاَ تَقْتُلُوهَا ؟ قَالَ : " لاَ ". ولحديث عائشةَ : " أنَّ قَوْماً مِنَ الْيَهُودِ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ! فَفَهِمَتْ عَائِشَةُ فَقَالَتْ : وَعَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ النِّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَهْلاً يَا عَائِشَةُ! فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ألَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُواْ؟! فَقَالَ : " بَلَى قَدْ قُلْتُ : عَلَيْكُمْ " ولَمْ يقتُلْهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك. فذهب مالكُ إلى أنَّ مَن شَتَمَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم من اليهودِ والنصارى قُتِلَ إلا أن يُسلِمَ ".
(0/0)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (ذَلِكَ أنَّ قُرَيْشاً أعَانُواْ بَنِي الوَلِيدِ بْنِ بَكْرٍ وَكَانُواْ حُلَفَاءَهُمْ عَلَى خُزَاعَةَ ؛ وَخُزَاعَةُ حُلَفَاءُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَهَزَمُوا خُزَاعَةَ ، فَجَاءَ وَفْدُ خُزَاعَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأخْبَرَهُ بالقصَّة ، وناشدُوا حِلْفَهُ فقالَ قائلُهم : يَا رَب إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدَا حِلْفَ أبينَا وَأبيهِ الأَتْلَدَاكُنَّا وَالِداً وَكُنْتَ وَلَدا ثَمَّتَ أسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزِعْ يَدَافَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَافِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا إنَّ قُرَيْشاً أخْلَفُوكَ الْمَوْعدَاوَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَبَيَّتُونَا بالْوَتِيرِ هُجَّدَانَتْلُوا الْقُرْآنَ رُكَّعاً وَسُجَّدَا فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ نُصِرْتُ إن لَمْ أنْصُرْكُمْ " فقالَ أبُو بكرٍ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ أتَنْصُرُهُمْ عَلَى قَوْمِنَا؟! قَالَ : " لاَ نُصِرْتُ إنْ لَمْ أنْصُرْهُمْ " ثُمَّ أمَرَ النَّاسَ أنْ يَتَجَهَّزُوا إلَى فَتْحِ مَكَّةَ ، فَفَتَّحَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ ".
وَأحَلَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ الْقِتَالَ لِخُزَاعَةَ ولَمْ يُحِلَّهُ لأَحَدٍ غَيْرَهُمْ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ } أي نقَضُوا عُهودَهم يعنِي قُريشاً ، { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ } من مكَّة حين اجتمَعُوا على قتلهِ في دار النَّدوة { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي هم الذي بَدأُوا بنقضِ العهد حين قاتَلُوا خزاعةَ حلفاءَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، { أَتَخْشَوْنَهُمْ } ؛ أي تخَافُونَ أن ينَالَكم مكروهٌ في قتالِهم فتتركوا قتالَهُم ، { فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } ؛ تخافوهُ في تركِكم لقتالهم ، { إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } ؛ مصدِّقين بعقاب الله وثوابه.
(0/0)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } ؛ أي قاتِلُوا أهلَ مكَّة يعذِّبْهم اللهُ بأيدِيكم بالسَّيف ، { وَيُخْزِهِمْ } ؛ أي يذِلّهم ، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ؛ يعني بَنِي خزاعةَ يومَ فتحِ مكَّة الذين قاتَلَهم بنو بكرٍ ، { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } ؛ بني خُزاعةَ ، فشَفَى اللهُ صدورَ بني خزاعة وأذهبَ غيظَ قُلوبهم ؛ أي كَرْبَها ووَجْدَها.
وقولهُ تعالى : { وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ } ؛ استثناءُ كلام اللهِ ؛ أي يتوبُ الله على مَن يشاء من أهلِ مكَّة فيهديهِ للإِسلامِ ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بجميعِ الأشياء ، { حَكِيمٌ } ؛ في جميعِ الأمُور.
(0/0)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً } ؛ معناهُ إنْ ظنَنتُم أيُّها المؤمنون أن تُتْرَكُوا على الإقرارِ والتصديقِ فلا تُؤمَرُوا بالجهادِ ، قوله : { وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ } أي ولَمَّا يرَ اللهُ جهادَكم حين تُجاهدون ، ولَمَّا يرَ اللهُ الذين لم يتَّخذوا منكم من الكفارِ بطَانَةً يُفْشُونَ إليهم سِرَّهم وأمْرَهم. وكان اللهُ تعالى قد عَلِمَ أمْرَهم بالقتال ، مَن يقاتلُ مِمَّن لا يقاتلُ ، ولكنَّهُ يعلمُ ذلك عَياناً ، وأرادَ العلمَ الذي يُجازَى عليه وهو علمُ الْمُشَاهَدَةِ ؛ لأنه يُجازيهم على عمَلِهم لا على عِلْمِهِ فيهم.
والوَلِيجَةُ : المدخَلُ في القومِ مِن غيرهم ؛ مِنْ وَلَجَ شَيْء يَلِجُ إذا دَخَلَ. والخطابُ في الآيةِ للمؤمنين حين شَقَّ على بعضِهم القتالُ وَكِرَهُوا ، فأنزلَ اللهُ هذه الآية { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ } فلا تُؤمَروا بالجهادِ وتُمتَحَنُوا به ؛ ليظهَرَ الصادقُ من الكاذب ، والمطيعُ من العَاصِي ، وقال قتادةُ : (مَعْنَى وَلِيجَةً أيْ خِيَانَةً) ، وقال الضَّحاكُ : (خَدِيعَةً) ، وقال ابن الأنباريُّ : (الْوَلِيجَةُ : الدَّخِيلَةُ) ، وقال عطاءُ : (أولياء) ، قال الحسنُ : (كُفْرٌ وَنِفَاقٌ). وَقِيْلَ : الوَلِيجَةُ : الرجلُ من يختص يدخله مودَّةً دون الناسِ ، يقالُ : هو وَلِيجَةٌ وهُم وَلِيجَةً ، للواحدِ والجمعِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ أي عالِمٌ بأعمالِكم ، وفي هذا تَهديدٌ للمنافقين وعِظَةٌ للمخلصين.
(0/0)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قولهُ تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا أُسِرَ الْعَبَّاسُ يَوْمَ بَدْرٍ ، أقْبَلَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ يُعَيِّرُونَهُ بالْكُفْرِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَعَوْنِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأغْلَظَ عَلَيٌّ رضي الله عنه الْقَوْلَ لَهُ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : مَا لَكُمْ تَذْكُرُونَ مَسَاوِءَنَا وَلاَ تَذْكُرُونَ مَحَاسِنَنَا؟! فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رضي الله عنه : ألَكُم مَحَاسِنُ؟! قَالَ : نَعَمْ ؛ إنْ كُنْتُمْ تُجَاهِدُونَ الأَعْدَاءَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَنَحْنُ نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ ، وَنَسْقِي الْحَاجِّ ، وَنَفُكَّ الأَسِيرَ ، فَنَحْنُ أفْضَلُ مِنْكَ أجْراً. فَاَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ رَدّاً عَلَى الْعَبَّاسِ). ومعناها : ما كانَ للمشرِكين أن يقُوموا بعمارةِ المسجدِ ، وأنَّ المساجدَ للهِ. والعمارةُ على وجهين ؛ تُذكَرُ ويرادُ بها البناءُ وتجديدُ ما انْهَدَمَ منها ، ويؤنَّثُ ويرادُ بها الزيادةُ ، ومِن ذلك العُمْرَةُ ومعناها زيارةُ البيتِ ، فانتظمت الآيةُ ، نَهَى المشركين على بناءِ المساجد وعن عمارِتها بالطاعةِ ، فإنَّهم إنما يعمرونَها بعبادةِ الأوثان ومعصيةِ الله.
ومَن قرأ (مَسْجِدَ اللهِ) على التوحيدِ أرادَ المسجدَ الحرام خاصَّة وهي قراءةُ ابن كثيرِ وأبي عمرٍو ومجاهد وسعيد بن جبير وقراءة ابنِ عبَّاس ، وقرأ الباقون (مَسَاجِدَ) بالجمعِ ، وإنما قالَ (مَسَاجِدَ) لأنه قِبْلَةُ المساجدِ كلِّها. وقيل لعكرمة : لِمَ تَقْرَأُ (مَسَاجِدَ) وإنَّمَا هُوَ مَسْجِدٌ وَاحِدٌ ؟ فقال : (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ مَسَاجِدِ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } ؛ نُصبَ (شَاهِدينَ) على الحالِ على معنى : ما كانت لَهم عمارةُ المسجدِ في حال إقرارِهم بالكُفرِ ، وهم كانوا لا يقولون حنُ كفَّار ، ولكن كن كلامُهم يدلُّ على كُفرِهم ، وهذا كما يقالُ للرجلِ : كلامُكَ يشهدُ أنَّك ظالِمٌ ، وهو قولُ الحسنِ ، وقال السديُّ : (شَهَادَتُهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ بالْكُفْرِ ، أنَّ الْيَهُودِيَّ لَوْ قُلْتَ لَهُ : مَا أنْتَ ؟ قَالَ : يَهُودِيٌّ ، وَيَقُولُ النَّصْرَانِيُّ : هُوَ نَصْرَانِيٌّ ، وَيَقُولُ الْمَجُوسِيُّ : هُوَ مَجُوسِيٌّ).
وَقِيْلَ : شهادَتُهم على أنفُسِهم بالكفرِ سجُودُهم لأصنامِهم وإقرارُهم أنَّها مخلوقةٌ. قًوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ؛ معناهُ : إنَّ الكفرَ أذهبَ ثوابَ أعمالِهم وهي التي مِن جنسِ طاعة المسلمين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } ؛ ظاهرُ المرادِ.
ثم بَيْنَ اللهُ تَعالى مَن يكون أوْلَى بعمارةِ المسجد الحرامِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } : معناهُ : إنما يعمرُ مساجدَ اللهِ بطاعةِ الله مَن كان في هذه الصِّفة ، قوله : { وَأَقَامَ الصَّلاَةَ } يعني إقامَ الصلاة المفروضةَ { وَآتَى الزَّكَاةَ } الواجبةَ في مالهِ ، وقولهُ تعالى : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ } أي لم يَخَفْ مِن غيرِ الله ، ولم يَرْدُ إلا ثوابَهُ ، وكلمةُ عسى مِن الله واجبةٌ ، والفائدةُ في ذكرِها في آخرِ هذه الآية ليكونَ الإنسانُ على حذَرٍ من فعلِ ما يُحبطُ ثوابَ عملِهِ.
(0/0)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ رُوي عن ابنِ عبَّاس أنه قال : (قالَ الْعَبَّاسُ : لَئِنْ كُنْتُمْ سَبَقْتُمُونَا بالإسْلاَمِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ ، لَقَدْ كُنَّا نَعْمُرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَنَسْقِي الْحَاجِّ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). يعني أنَّ ذلك كان منكُم في الشِّركِ ولا أقْبَلُ ما كانَ في الشركِ. ورُوي أنَّ المشركين قالُوا : عمارةُ المسجدِ الحرام وقيامٌ على السِّقايةِ خيرٌ ممن آمَنَ وجاهَدَ. وكانوا يفتَخِرون بالحرَمِ ، ويستكبُرون به مِن أجل أنهم أهلهُ وعُمَّارُهُ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ، وأخبَرَهم أنَّ عِمَارَتَهم المسجدَ الحرامَ وقيامَهم على السِّقايةِ لا ينفعُهم عندَ اللهِ من الشِّرك بالله.
وقال الحسنُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَلِيٍّّ وَالْعَبَّاسَ وَطَلْحَةَ بْنِ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّار ، وَذلِكَ أنَّهُمُ افْتَخَرُواْ ، فَقَالَ طَلْحَةُ : إنَا صَاحِبُ الْبَيْتِ ، بيَدَيَّ مِفْتَاحُهُ ، قَالَ الْعَبَّاسُ : أنَا صَاحِبُ السَِّقَايَةِ ، وَقَالَ عَلِيٌّ : أنَا صَاحِبُ الْجِهَادِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أي أجعلتُم صاحبَ سقايةِ الحاجِّ وصاحبَ عمارةِ المسجد الحرام كإيمانِ مَن آمنَ بالله واليومِ الآخر ، { وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ } ؛ وَقِيْلَ : معناهُ : أجَعلتُم ساقيَ الحاجِّ وعامرَ المسجدِ الحرام ، جعلَ السقايةَ بمعنى السَّاقِي ، والعمارةَ بمعنى العامرِ ، كقوله : { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }[طه : 132] أي للمتَّقين.
وقرأ عبدُالله بن الزُّبير وأُبَي : (أَجَعَلْتُمْ سُقَاةَ الْحَاجِّ وَعَمُرَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) على جميعِ السَّاقي والعامرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي لا يرشِدُهم إلى الحجَّة ما دامُوا مُصِرِّينَ على الكُفرِ ، ولا يرشِدُهم إلى الجنَّة والثواب.
(0/0)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ } ؛ معناهُ : الذين صَدقُوا بتوحيِدِ الله ، وهاجَرُوا من أوطانِهم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وجاهَدُوا العدوَّ في طاعةِ الله أعظمُ درجةً عند اللهِ ، وهذا كقولهِ تعالى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }[الفرقان : 24]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } ؛ معناهُ : إنَّ المهاجرين هم الظَّافِرُون بأمَانِهم من الخيرِ ، النَّاجُونَ من النار.
(0/0)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ } ؛ أي يُبشِّرُهم ربُّهم في الدُّنيا على ألْسِنَةِ الرُّسل نجاةً من العذاب في الآخرة ، ورضوان عنهم ويبشِّرُهم بجناتٍ ، { لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ } ؛ دائمٌ لا يزولُ عنهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ؛ أي دَائِِمِين فيها أبداً مع كونِ النَّعيمِ مُقيماً لَهم ، { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ؛ أي ثوابٌ كثير في الجنَّة.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ } ؛ نزلَت في المهاجِرين ، ومعناه : لا تتَّخِذُوا آباءَكم وإخوانَكم الذين بمكَّة أولياءَ ، تُنصَرون بهم وتَنصُرونَهم إنِ اختاروا الكفرَ على لإِيمانِ ، { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ إما جعلَ الظالمينَ لموالاةِ الكفار ؛ لأنَّ الراضي بالكُفرِ يكون كافراً ، وعن الضحَّاك : (لَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بالْهِجْرَةِ وَكَانُواْ قَبْلَ الْفَتْحِ بمَكَّةَ مَنْ آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ ، لَمْ يَقْبَلِ اللهُ إيْمَانَهُ إلاَّ بمُهَاجَرَةِ الآبَاءِ وَالأَقْرِبَاءِ أيْ بمُجَانَبَتِهِمْ إذَا كَانُوا كُفَّاراً ، فَقَالَ الْمُسْلِمُون : يَا رَسُولَ اللهِ! إنْ نَحْنُ اعْتَزَلْنَا مَنْ خَالَفَنَا فِي الدِّينِ ، انْقَطَعَ آبَاؤُنَا وَعَشِيرَتُنَا ، وَتَذْهَبَ تِجَارَتُنَا وَتخْرَبَ دِيَارُنَا ؟ فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيةِ).
وقال الكلبيُّ : (لَمَّا أمَرَ اللهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ ، جَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ لأَخِيهِ وَأبيهِ وَامْرَأتِهِ وَأقْرِبَائِهِ : إنَّا قَدْ أُمِرْنَا بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ فَاخْرُجُواْ مَعَنَا إلَيْهَا ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْجِبُهُ ذَلِكَ فَيُنَازِعُ إلَيْهِ مَعَهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أنْ يُهَاجِرَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ لَهُمْ : وَاللهِ لاَ أنْفَعُكُمْ بشَيْءٍ وَلاَ أُعْطِيكُمْ وَلاَ أُنْفِقُ عَلَيْكُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَتَعَلَّقُ بهِ زَوْجَتُهُ وَوَلَدَهُ وَعِيَالُهُ ، فَيَقُولُونَ لَهُ : نُنْشِدُكَ اللهَ أنْ لاَ تُضَيِّعْنَا ، فَيَرِقُّ وَيَجْلِسُ وَيَتْرُكُ الْهِجْرَةَ ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَة { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ } أي أصدقاءُ فتُفْشُونَ إليهم سِرَّكُم وتُؤثِرُونَ المقامَ معهم على الهجرةِ والجهاد إن استحَبُّوا الكفرَ على الإيمانِ ، ومَن يتوَلَّهم منكم فيُطلِعُهم على عورةِ الإسلام وأهلهِ ، ويُؤثِرِ الْمُكْثَ معهم على الهجرةِ ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أي القَاضُونَ الواضِعُون الولايةَ في غيرِ موضعِها.
(0/0)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
قًوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للذِينَ ترَكُوا الهجرةَ إنْ كان آباؤُكم وأبناؤُكم وإخوانكم ونساؤكُم وقراباتُكم ، { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } ؛ اكتسَبتُموها بمكَّة وأصبتُموها ، { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } ؛ أي عدمَ نفاقِها إذا اشتغَلتُم بطاعةِ اللهِ ، { وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } ؛ ومنازلُ تعجِبُكم الإقامة بها بمكَّة ، { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ } ؛ طاعةِ ، { اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ بالهجرةِ إلى المدينةِ ، { وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } ، وأحبَّ إليكم من الجهادِ في طاعة اللهِ ، { فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } ، أي فانتَظِروا حتى يأْتيَ اللهُ بفتحِ مكَّة ، ويقال : حتى يأتي اللهُ بعذابٍ عاجل أو آجِلٍ ، { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ؛ أي لا يرشدُ الخارجِين عن طاعتهِ إلى معصيتهِ ، ولا يهديهم إلى جنَّتهِ وثوابه.
(0/0)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } ؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ من مكَّة بَعْدَ مَا فَتَحَها ، وَكَانَ انْفِتَاحُها فِي بَقِيَّةِ أيَّامِ رَمَضَانَ ، فَمَكَثَ بهَا حَتَّى دَخَلَ شَوَّالُ مُتَوَاجِّهاً إلَى حُنَينٍ ، وَبَعَثَ رَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيمٍ عَيْناً لَهُ يُقَالُ لَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أبِي حَدْرَدَ ، فَأَتَى حُنَيناً فَكَانَ بَيْنَهُمْ يَسْمَعُ أخْبَارَهُم ، فَسَمِعَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ لأَصْحَابهِ : أنْتُمُ الْيَوْمَ أرْبَعَةُ آلاَفِ رَجُلٍ ، فَإذا لَقِيتُمُ الْعدُوَّ فَاحْمِلُواْ عَلَيهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَوَاللهِ لاَ تَضْرِبُونَ بأَرْبَعَةِ آلاَفِ سَيْفٍ شَيْئاً إلاَّ أفْرَجَ لَكُمْ. وَكَانَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عَلَى هَوَازن ، وَكِنَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ عَلَى ثَقِيفٍ ، فَأَقْبَلَ ابْنُ أبي حَدْرَدَ حَتَّى أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بمَقَالَتِهِمْ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَوَجِّهاً إلَيهِمْ فِي عَشْرَةِ آلاَفِ رَجُلٍ ، كذا قال الكلبيُّ.
وقال مقاتلُ : (كَانُوا أحَدَ عَشَرَ ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ) ، وقال قتادةُ : ( " خَرَجَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى حُنَينٍ لِقتَالِ هَوَازنَ وَثَقِيف فِي اثْنَي عَشَرَ ألْفاً مِنَ المُهَاجِرينَ وَالأَنْصَارِ ، وَألْفَيْنِ مِنَ الطُّلَقَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ سَلاَمةَ : يَا رَسُولَ اللهِ لاَ نُغْلَبُ الْيَومَ مِنْ قِلَّةٍ ، فَسَاءَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَتُهُ وَابْتَلَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ بذَلِكَ ، فَلَمَّا الْتَقَواْ حَمَلَ الْعَدُوُّ عَلَيهِمْ حَمْلَةَ وَاحِدٍ ، فَلَمْ يَقُومُواْ لَهُمْ حَلْبَ الشَّاةِ أنِ انْكَشَفُواْ وَتَبعَهُمُ الْقَوْمُ فِي أدْبَارِهِمْ.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ وَأبُو سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ يَقُودُ بهِ ، وَالْعَبَّاسُ أخَذَ بالثَّغْرِ ، وَحوْلَ رَسُولِ اللهِ يَوْمَئِذٍ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِمِائَةِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَانْهَزَمَ سَائِرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهُ ، فَجَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَكِّضُ بَغْلَتَهُ نَحْوَ الْكُفَّارِ لا يَأْلُ ، وَكَانَتْ بَغْلَتَهُ شَهْبَاءَ وَهُوَ يُنَادِي : " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَيَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إلَيَّ ، أيْنَ أصْحَابُ الصُّفَّة " أيْ أصْحَابُ سُورَةِ الْبَقَرَةٍ.
وَكَانَ الْعَبَّاسُ يُنَادِي : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، أيْنَ الَّذِينَ بَايَعُواْ تَحْتَ الشَّجْرَةِ ، يَا مَعْشرَ الَّذِينَ آوَوْا وَنَصُُرُواْ ، هَلُمُّواْ فَإنَّ هَذَا رَسُولُ اللهِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ صَيِّتاً جَهُوريَّ الصَّوْتِ ، يُروَي أنَّهُ مِنْ شِدَّةِ صَوْتِهِ أنَّهُ أُغِيرَ يَوْماً عَلَى مَكَّةَ فَنَادَى وَاصُبْحَاهُ ، فَأَسْقَطَتْ كُلُّ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ.
فَلَمَّا صَاحَ بالْمُسْلِمِينَ عَطَفُواْ حِينَ سَمِعُواْ صَوْتَهُ عَطْفَةَ الْبَقَرِ علَى أوْلاَدِهَا ، وَقَالَ : لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ ، وَجَاؤُا عُنُقاً وَاحِداَ لِنَصْرِ دِينِ اللهِ ، وَأقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنَ السَّمَاءِ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَأظْهَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ ، وَحَمِيَ الْوَطِيسُ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَغْلَتِهِ يَتَطَاوَلُ إلَى قِتَالِهمْ ، ثُمَّ أَخَذَ كَفّاً مِنَ الْحَصَى فَرَمَاهُمْ بهِ وَقَالَ : " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ، انْهَزَمُواْ وَرَب الْكَعْبَةِ " فَوَاللهِ مَا زَالَ أمْرُهُمْ مُدْبراً وَجَدُّهُمْ كَلِيلاً ، وَهَرَبَ حِينَئِذٍ آمِرُهُمْ مَالِكُ بْنُ عُوْفٍ) ".
(0/0)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ } ؛ أي أنزلَ أمْنَهُ ورحمتَهُ على رسولهِ ، { وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } ؛ حتى عادُوا فظََفَروا. والسَّكِينَةُ في اللغة اسمٌ لِما يسكنُ إليه القلبُ ، وقال الحسنُ : (أرَادَ بالسَّكِينَةِ الْوَقَارَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } ؛ أي أنزلَ من السَّماء ملائكةً لنصرِكُمْ ، لم ترَوها بأعيُنِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ يعني بالقتلِ والأسرِ ، { وَذالِكَ } ؛ العقابُ ، { جَزَآءُ الْكَافِرِينَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ } ؛ أي ثم يتوبُ مِن بعد الهزيمةِ على مَنء يشاءُ منهم مَن كان أْهلاً لذلكَ ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ } ؛ لِمَا كان منهم في الشِّرك إذا تابُوا { رَّحِيمٌ } ؛ بهم في الإسلامِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا } ؛ معناهُ : إنما المشركونَ قَذَرٌ ، وَقِِيْلَ : خَبَثُ. والنَّجَسُ : مصدرٌ أُقِيمَ مقامَ الاسمِ لا يُثَنَّى ولا يُجمَعُ ، يقالُ : رجلٌ نَجَسٌ وامرأَةٌ نَجَسٌ ، ورجال ونساءٌ نَجَس ، ولا يؤنَّثُ ولا يُجمع ؛ فلهذا لم يقل إن المشركينَ أنجاسٌ ، وسَمَّى المشرِكَ نَجَساً ؛ لأنَّ شِرْكَهُ يجرِي مجَرى القذر في أنه يُجْنَبُ الْجُنُبُ ، كما تُتَجَنَّبُ النجاسات ؛ أي يجبُ التبرُّؤ من المشركين وقطعُ مودَّتِهم.
والنجاسةُ على ضَربين ، نجاسةُ أعيانٍ ، ونجاسةُ الذُّنوب ، وكان الحسنُ يقول : (لاَ تُصَافِحِ الْمُشْرِكِينَ ، فَمَن صَافَحَهُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ) ، وقال قتادةُ : (سَمَّاهُمُ اللهُ نَجَساً لأنَّهُمْ يُجْنِبُونَ وَلاَ يَغْتَسِلُونَ ، وَيُحْدِثُونَ وَلاَ يَتَوَضَّؤوُنَ ، فمُنِعَ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ ؛ لأَنَّ الْجُنُبَ لاَ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا } أي لا ينبَغِي لهم أن يقربوهُ للحجِّ والطَّواف بعد هذا العامِ ، وهو العامُ الذي حجَّ فيه أبو بَكرٍ رضي الله عنه ، ونادَى عليٌّ رضي الله عنه فيه ببرَاءَةِ ، وهو سنةُ تسعٍ من الهجرة ، ثم حجَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في العام الثاني حجَّة الوداعِ في سنة عاشرِ من الهجرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } بيانُ أنَّ المرادَ بالآيةِ إبعادُ المشركين عن المسجدِ الحرام ، كما رُوي عن عليٍّ رضي لله عنه أنه كان يُنادي فيهم في العامِ : (ألاَّ لاَ يَطُوفَنَّ بهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَعُرْيَانٌ).
قال ابنُ عبَّاس : (فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ تُجَّارِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكينَ بَعْدَ قِرَاءَةِ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذِهِ الآيَةَ : سَتَعْلَمُونَ يَا أهْلَ مَكَّةَ إذَا فَعَلْتُمْ هَذَا مَاذَا تَلْقَوْنَ مِنَ الشِّدَّةِ وَمِنْ أيْنَ تَأكُلُونَ ، أمَا وَاللهِ لَتُقَطَّعَنَّ سُبُلُكُمْ ، وَلاَ نَحْمِلُ إلَيْكُمْ شَيْئاً. فَوَقَعَ ذَلِكَ فِي نَفْسِ أهْلِ مَكَّةَ وَشُقَّ عَلَيْهِمْ ، وَألْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوب الْمُسْلِمِينَ حُزْناً وَقَالَ لَهُمْ : مِنْ أيْنَ تَعِيشُونَ وَقَدْ نَفَى الْمُشْرِكِينَ وَقَطَعَ عَنْكُمُ الْمِيرَةَ ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ كُنَّا نُصِيبُ مِنْ تِجَارَاتِهِمْ ، فَالآنَ يَنْقَطِعُ عَنَّا الأسْوَاقُ وَالتِّجَارَةُ ويَذْهَبُ الَّذِي كُنَّا نُصِيبُهُمْ فِيْهَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ) معناهُ : وإنْ خِفْتُم فَقراً من إبعادِ المشركين ، { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } بغيرِهم ، فأخْصَبَتْ تَبَالَةُ وَجَرَشُ وحَملوا إلى مكَّة الطَّعامَ والإدامَ ، وأغنَى اللهُ أهلَ مكَّة من تُجَّارِ بني بكرٍ. ورُوي أن أهلَ نَجْدٍ وصنعاءَ من أهلِ اليمَنِ أسلَمُوا وحملوا إلى مكَّة الطعامَ في البحرِ والبرِّ.
والعَيلَةُ : الفقرِ والصِّفَاقِ ، يقالُ : عَالَى الرجلُ يَعِيلُ عليه ، قال الشاعرُ : وَلاَ يَدْرِي الْفَقِيرُ مَتَى غِنَاؤُهُ وَلاَ يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُأي يفتقرُ. وفي مُصحف عبدِالله (وَإنْ خِفْتُمْ عَائِلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ).
وقولهُ تعالى : { إِن شَآءَ } ؛ استثناءٌ ، فجاء عِلمُ اللهِ أنه سيكون لئَلا تترُكَ العبادُ الاستثناءَ في أمورِهم ، ولتنقطعَ الآمالُ إلى اللهِ في طلب الغِنَى منه. قَولُهَ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؛ أي عليمٌ بخلقهِ وما يُصلِحُهم ، حيكمٌ فيما حكمَ من أمرهِ.
(0/0)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ؛ معناه : قاتِلُوا اليهودَ والنصارى الذين لا يؤمنون بآياتِ الله التي أنزلَها على نبيِّه صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ : معنى قولهِ { لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ، أي كانوا يَصِفُونَ اللهَ سبحانه بصفةٍ لا تليقُ به ، لأن اليهودَ مُثَنِّيَةٌ والنَّصارى مُثَلِّثَةٌ. وقولهُ تعالى : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي لا يحرِّمون الخمرَ والخنْزِير ونحوَ ذلك مما لم يُقِرُّوا بتحريمهِ.
وقولُه تعالى : { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } ؛ أي لا يعتقدون دينَ الإسلامِ ولا يخضعون لله بالتوحيد ، وَقِيْلَ : معنى { دِينَ الْحَقِّ } أي دينَ اللهِ ؛ لأن اللهَ هو الحقُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ؛ يعني اليهودَ والنصارى ، { حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } ؛ أي حتَّى تؤخذَ الجزيةُ من أيديهم وهم قِيَّامٌ إذِلاَّء ، والآخِذُ جالسٌ. ويقال : أرادَ بالقهرِ ، كأنه قالَ : عن قَهْرٍ من المسلمين عليهم واعترافٍ منهم للمسلمين بأنَّ أيدِي المسلمين فوقَ أيدِيهم ، كما يقالُ : اليدُ لفلانٍ في هذا الأمرِ ، ويرادُ به نَفَاذُ أمْرِهِ. ويحتملُ أن يكون المعنى باليدِ إنعامُ المسلمين عليهم بقَبولِ الجزيةِ عنهم. ويقال : أراد باليدِ القوَّة على معنى أنه ليس على الفقير غيرِ المتموِّل جزيةٌ.
وأما طعنُ المخالف كيف يجوزُ إقرار الكفَّار على كفرِهم بأداءِ الجزية بدَلاً عن الإسلامِ ؟ فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون أخذُ الجزيةِ عنهم رضًى بكُفرِهم ، وإنما الجزيةُ عقوبةً لهم على إقامتِهم على الكفرِ ، وإذا جازَ إمهالُهم بغيرِ الجزية للاستدعاءِ إلى الإيمان كان إمهالُهم بالجزيةِ أولى. قال أبو عُبيد : (يُقَالُ لِكُلِّ مَنْ أعْطَى شَيْئاً كَرْهاً مِنْ غَيْرِ طِيب نَفْسٍ مِنْهُ أعْطَاهُ عَنْ يَدٍ). قال ابنُ عبَّاس : (هُوَ أنْ يُعطِيهَا بأَيدِيهِمْ يَمْشُونَ بهَا كَارِهِينَ ، وَلاَ يَجِيئُونَ رُكْبَاناً وَلاَ يُرْسَلُونَ بهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } ؛ أي ذلِيلُونَ ومَقهُورُونَ ، قال عكرمةُ : (مَعْنَى الصَّغَار هُوَ أنْ تَأْخُذََهَا وَأنْتَ جَالِسٌ وَهُوَ قَائِمٌ) ، وقال الكلبيُّ : (هُوَ أنَّهُ إذا أعْطَى الْجِزْيَةَ صُفِعَ فِي قَفَاهُ) ، وَقِيْلَ : هو أنه لا يُقبَلُ فيها رسالةٌ ولا وِكالَةٌ.
وتؤخذُ الجزية أيضاً من الصَّابئين والسامِرِيِّ ؛ لأن سبيلَهم في أهلِ الكتب سبيلُ لأهلِ البدَعِ فِينَا ، وتؤخذُ الجزية أيضاً من الْمَجُوسِيِّ ؛ لأنه قد قيلَ إنَّهم كانوا أهلَ كتابٍ فُرفِعَ كتابُهم ، وعن سعيدِ بن المسِّب (أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ الْهَجَرِ ، وَأَخَذَهَا عُمَرُ رضي الله عنه مِنْ مَجُوسِ أهْلِ السَّوَادِ).
" رُوي أنَّ عمر رضي الله عنه قال : لاَ أدْري كَيْفَ أصْنَعُ بالْمَجُوسِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " سُنُّوا بهِمْ سُنَّةَ أهْلِ الْكِتَاب غَيْرَ نَاكِحِينَ نِسَاءَهُمْ وَلاَ آكِلِي ذبَائِحِهِمْ ".
(0/0)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } ؛ الآيةُ ؛ أي قالتِ اليهودُ حين قرأ عليهم عزيرٌ التوراةَ عن ظهرِ قلبٍ : إن اللهَ لم يجعلِ التوراةَ في قلب أحدٍ إلا وهو ابنهُ! وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه : (أنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمُ النُّعْمَانُ بْنُ أوْفَى ، وَشَاسُ بْنُ قَيْسٍ ، وَمَالِكُ بْنُ صَيْفٍ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا لَهُ : كَيْفَ نَتَّبعُكَ وَقَدْ تَرَكْتَ قِبْلَتَنَا ، وَلاَ تَزْعُمُ أنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ تَعَالَى! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقرأ عاصمُ والكسائي ويعقوب (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) بالتنوينِ ، وقرأ الباقون بغيرِ التنوين ، فمَن نَوَّنَ قال : لأنه اسمٌ خفيف فوجههُ أن يصرفَ وإنْ كان إعجمّياً مثل نوحٍ وهود ولوطٍ ، وقال أبو حاتم والمبرد : اختيار التنوينِ لأنه ليس بصفةٍ والكلامُ ناقصٌ ، و(ابْنُ) في موضعِ الخبر وليس بنَعتٍ ، وإنما يحذفُ التنوين في النَّعتِ. ومَن تركَ التنوينَ قال لأنه اسمٌ أعجمي. قال الزجَّاج : (يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مَحْذُوفاً تَقْدِيرُهُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ مَعْبُودٌ ، عَلَى أنْ يَكُونَ (ابْنُ) نَعْتاً للْعُزَيْرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } ؛ هذا قولُ نصارى نَجْرَان ، وقولُه تعالى : { ذلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } ؛ معناهُ : أنَّهم لا يتجاوَزون في القولِ عن العبادةِ ؛ أي المعنى إذ لا بُرْهانَ لأنَّهم يعتَرِفون أنَّ اللهَ لا يتخذُ صاحبةً ، فكيف تزعُمون أنَّ له ولداً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } ؛ أي يُشَابِهُونَ في قولِ ذلك قولَ أهلِ مكَّة حين قالَ : اللاَّتُ والعُزَّى ومناةُ. وَقِيْلَ : أرادَ يُشَابهُونَ قولَ الكفَّار الذين يقولون الملائكةُ بناتُ اللهِ.
قرأ عاصم (يُضَاهِئُونَ) بالهمزِ ، وقرأ العامَّة بغيرِ همزٍ ، يقال : ضَاهَيْتُهُ وَضَاهَأْتُهُ بمعنى واحدٍ ، وقال قتادةُ السدي : (ضَاهَتِ النَّصَارَى قَوْلَ الْيَهُودِ مِنْ قَبْلُ ، فَقَالَتِ النَّصَارَى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، كَمَا قَالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُضَاهِئُونَ } أي يُشَابهُونَ ، يقالُ : امرأةٌ أُضْهِيَأ إذا شابَهت الرجُلَ في أنَّها لا ثديَ لها ولا تحيضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَاتَلَهُمُ اللَّهُ } ؛ أي لَعَنَهُمُ اللهُ ، كذا ابنُ عبَّاس ، وقال ابنُ جُرَيجٍ : (مَعْنَاهُ قَتَلَهُمُ اللهُ) ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؛ أي أنَّى يَكْذِبُونَ ويَصْدِفونَ عن الحقِّ بعد قيام الدلالةِ عليه.
(0/0)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ } ؛ اتخذَ النصارَى واليهود علماءَهم وعُبَّادَهم أرْبَاباً ؛ أي أطاعُوهم في معاصِي الله ، فجعلَ اللهُ طاعَتهم عبادتَهم ؛ لأنَّهم اتَّبعُوهم وتركُوا أوامرَ الله ونواهيهِ في كُتبهم ، قال الضحَّاك : (الأَحْبَارُ : الْعُلَمَاءُ) وَاحِدُهُمْ حِبْرٌ وَحَبْرٌ بكَسْرِ الْحَاءِ وَبِفَتْحِهَا ، وَالْكَسْرُ أفْصَحُ ، وَالرُّهْبَانُ مِنَ النَّصَارَى : أصْحَابُ الصَّوامِعِ وَأهْلُ الاجْتِهَادِ فِي دِينهِمْ. وقولهُ تعالى : { أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ } أي سَادَةً من دونِ الله يُطيعونَهم في معاصِي الله. وأما تسميةُ العالِم حَبراً فلكثرةِ كتابتهِ بالحِبرِ ، وَقِيْلَ : لَتبْحِيرهِ المعانِي بالبيانِ الحسَنِ. وأما الراهبُ فهو الخاشعُ للهِ.
وقوله تعالى : { وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } ؛ أي اتُّخِذَ المسيحُ إلَهاً. وقولهُ تعالى : { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـاهاً وَاحِداً } ؛ أي لَم يُؤمَروا في جميعِ الكتُب ولا على ألْسِنَةِ الرُّسلِ إلاَّ بعبادةِ إلَهٍ واحدٍ ، وقولهُ تعالى : { لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تنْزِيهاً للهِ عن الشِّرك وما لا يليقُ بهِ.
(0/0)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } ؛ أي يريدونَ أن يُرَدَّ القرآنُ ودلائلُ الإسلام بالتكذيب بألسِنَتِهم ، وقال الضحَّاك : (يُرِيدُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أنْ يَهْلَكَ مُحَمَّدٌ وَأصْحَابُهُ وَلاَ يُعْبَدَ اللهُ بالإسْلاَمِ) { وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ } ؛ ويعلِي دِينَهُ وكلماتِهِ ويُظهِرَ الإسلاَم وأهلَهُ على أهلِ كلِّ دينٍ ، { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } ؛ ذلك.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } ؛ أي هو الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بالقرآن ودينِ الإسلام ، ليُظهِرَهُ على سائرِ الأديان بالحجَّة والغَلَبَةِ ، { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }. واختلفَ العلماءُ في قوله { لِيُظْهِرَهُ }. قال ابنُ عبَّاس : (إنَّهَا عَائِدَةٌ عَلَى الرَّسُولِ ، يَعْنِي لِيُعِمَّهُ بشَرَائِعِ الدِّينِ كُلِّهِ فَيُظْهِرَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا). قال آخرون : (الهاءُ) راجعٌ الى دينِ الحقِّ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } ؛ معناهُ : يا أيُّها الذين آمَنُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن إنَّ كَثيراً من الأحبار وهم من ولدِ هارُون ، قوله : { وَالرُّهْبَانِ } وهم أصحابُ الصَّوامعِ وهم دونَ الأحبارِ في العلم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } أرادُوا به أخذَ الرِّشَا على الُحكمِ ، وما كان لَهم مِنَ الهدايا من سَفَلَتِهِم على كِتْمَانِ بَعْثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفتهِ ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس ، وقال السديُّ : (الأَحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ ، وَالرُّهْبَانُ أصْحَابُ الصَّوَامِعِ مِنَ النَّصَارَى).
وأما تخصيصُ الأكلِ في الآية ، فلأنَّ مُعظَمَ المقصودِ من التَّمليكِ الأكلُ ، فوُضِعَ الأكلُ موضعَ الْمِلْكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي يَصرِفُونَ الناسَ عن دينِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ أي يجمَعونَها ويضَعون بعضها فوقَ بعضٍ ؛ ولا يُنفِقُونَ الكُنُوزَ في طاعةِ الله. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا يُنفِقُونَ الفضَّة ، وحذفَ الذهبَ ؛ لأن فِي بيانِ أحدِهما حكمُ الآخر ، كما قالَ تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا }[الجمعة : 11] ، والدليلُ على أنَّ هذه الكنايةَ راجعةٌ إلى الذهب والفضَّة جميعاً أنَّها لو رَجعت إلى أحِدهما لبَقِِيَ الآخرُ عَارِياً عن الجواب ، فيصيرُ كلاماً مُنقطعاً لا معنى له ، وتقديرُ الآيةِ : لا يُنفقون منها ؛ أي لا يُؤَدَّونَ زَكاتَهما ولا يُخرِجُونَ حقَّ الله منهما ، إلاَّ أنه حذفَ (مِنْ) وأرادَ إثباتَها ، بدليلِ أنه تعالى قال في آيةٍ أخرى{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }[التوبة : 103] قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " فِي مِائَتَي دِرْهَمٍ خَمْسُ دَرَاهِمَ ، وَفِي عِشْرِينَ مِثْقَالاً مِنَ الذَّهَب نِصْفُ مِثْقَالٍ " ولو كان الواجبُ إنفاق جميعِ المال لم يكن لِهذا التقديرِ وجهٌ.
وسُمِّي الذهبُ ذَهباً ؛ لأنه يذهبُ ولا يبقَى ، وسميت فضةُ لأنَّها تَنْفَضُّ ؛ أي تُفرَّقُ ولا تبقَى ، وحسبُكَ باسمِهنَّ دلالةً على فَنَائِهما وأنه لا بقاءَ لهما.
وقولهُ تعالى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ضَعِ الوعيدَ لهم بالعذاب موضعَ بشارةِ بالنِّعم لغيرِهم ؛ وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أنه قالَ : (كُلُّ مَالٍ أدَّيْتَ زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بكَنْزٍ وَإنْ كَانَتْ تَحْتَ سَبْعِ أرْضِينَ ، وَكُلُّ مَالٍ لَمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ فَهُوَ كَنْزٌ وَإنْ كَانَ ظَاهِراً).
(0/0)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ } ؛ أي يوم يوقدُ على المكنوز في نار جهنَّم فتُكوَى بها جِبَاهُهم وجنُوبُهم وظهروهم عقوبةً ، قال ابنُ عباس : (لاَ يُوضَعُ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ عَلَى دِينَارٍ وَلاَ عَلَى دِرْهَمٍ ، وَلَكِنْ تُوَسَّعُ جُلُودُهُمْ لِذَلِكَ فَلاَ يَمَسُّ دِينَارٌ دِينَاراً وَلاَ دِرْهَمٌ دِرْهَماً).
قَوْلُهُ تََعَالَى : { هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } ؛ أي يقالُ لَهم : هذا ما جَمعتُم في دارِ الدُّنيا ، { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } ، فذُوقوا عقوبةَ ما كنت تجمعونَ. وسُئل أبو بكر الورَّاق : لِمَ خُصَّتِ الجِبَاهُ الْجُنوبُ والظُّهورُ بالكَيِّ ؟ فقال : (لأَنَّ الْغَنِيَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ إذا رَأى الْفَقِيرَ انْعصَرَ وَإذا ضَمَّهُ وَإيَّاهُ مَجْلِسٌ ازْوَرَّ عَلَيْهِ وَوَلاَّهُ ظَهْرَهُ).
عن ثوبَان مولَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَمَّا نَزَلَت هَذِهِ الآيَةُ قَالَتِ الصَّحَابَةُ : فَأَيُّ الْمَالِ نَتَّخِذُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : أنَا أسْأَلُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ عليه السلام : " لِسَاناً ذاكِراً وَقَلْباً شَاكِراً وَبَدَناً صَابراً وَزَوْجَةً تُعِينُكَ عَلَى إيْمانِكَ ".
وعن أبي هُريرة قالَ : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ صَاحِب كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ إلاَّ أُحْمِيَ عَلَيٍْهِ فِي نَار جَهَنَّمَ فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ فَتُكْوَى بهَا جَبينُهُ وَجَنْبَاهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقَدَارُهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار.
وَمَا مِنْ صَاحِب إبلٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسِيرُ عَلَيْهِ ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار. وَمَا مِنْ صَاحِب بَقَرٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَسيرُ عَلَيْهِ ، كُلَّمَا مَضَى آخِرِهُا رُدَّ عَلَيْهِ أوَّلُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ ألْفَ سَنَةٍ ، ثُمَ يُرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلَى النَّار.
وَمَا مِنْ صَاحِبَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إلاَّ بُطِحَ لَهَا بقَاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ بأظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بقُرُونِهَا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءَ وَلاَ جَلْحَاءَ ، كُلَّمَا مَضَى عَلَيْهِ آخِرُهَا رُدَّ أوَّلُهَا حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارهُ خَمْسِينَ ألْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ، ثُمَّ يَرَى سَبيلَهُ إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإمَّا إلى النَّار ".
(0/0)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ معناهُ : إن عِدَّة الشُّهور التي تتعلَّقُ بها الأحكامُ من الحجِّ والعُمرة والزكاةِ والأعياد وغيرها اثنَا شهراً على منازِل العُمرة ، تارةً يكون الحجُّ الصومُ في الشِّتاء ، وتارةًّ في الصيفِ على اعتبار الأهِلَّة. وقوله تعالى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } يعني اللَّوحَ المحفوظَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } إنَّما قال ذلِكَ ؛ لأن اللهَ تعالى أجرَى الشمسَ والقمر في السَّموات يوم خلَقَ السمواتِ والأرض.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } ؛ واحدٌ فَرْدٌ وهو رجَبْ وثلاثةُ سُرْدٌ متتابعةٌ ، وهي ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّّم ، سماها حُرُماً لعِظَمِ انتهاكِ حُرْمَتها ، كما خُصَّ الْحَرَمُ بمثلِ ذلك ، كنت العربُ تُعظِّمُها وتحرِّمُ القتالَ فيها حتى أن الرجلَ لو لَقِيَ قاتل أبيهِ أو أخيه فيها لم يُهجِْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ؛ أي في أشهرِ الْحُرُمِ بالعملِ بالمعصية وتركِ الطاعة. وَقِيْلَ : باستحلال القتلِ والغَارَةِ. وَقِِيْلَ : معناهُ : ولا تجعلوا حَلاَلها حَرامً ، ولا حرَامها حَلاَلاً ، والذنبُ والظلم فيهن أعظمُ من الظلم فيما سواهنَّ. ويقالُ : معناه : فلا تظلِمُوا في الاثني عشرِ الشهر أنُفسَكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ } أي ذلك الحسابُ المستقيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } ويجوزُ أن يكون الكافَّة راجعةً إلى المسلمينَ ؛ أي قاتِلُوا جميعاً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } أي كما يُقاتِلونَكم أي جمعياً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي معهم بالنُّصرة.
واختلفَ العلماءُ في حُرمةِ القتالِ في الأشهُرِ الْحُرُمِ ، فقالَ بعضُهم : لا يجوزُ القتال فيها والغارةُ لأن اللهَ سَمَّاها حُرُماً فيكون قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } دَليلاً على جواز القتال فيها على وجهِ الدَّفع.
وذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ إلى أن القتالَ فيها جائزٌ ، والمرادُ بقوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } تعظيمُ انتهاكِ حُرمَتِها بالظلمِ والفساد فيها ، وتعظيمُ ثواب الطاعة التي يفعلُ فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } يدلُّ على أنَّ اللهَ أخرجَ هذه الأشهرَ الحرم من أن تكون حُرماً.
وفي باب الجهادِ دليلاً تقديراً آخر أن أحدَ الجهاد داخلٌ تحت قوله : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وكان اللهُ تعالى مَيَّزَ الجهادَ من الظلمِ الذي هو إقدامٌ على النُّفوس والأموالِ ، وقوله تعالى : { كَآفَّةً } منصوبٌ على الحالِ.
قال قتادةُ وعطاء : (كَانَ الْقِتَالُ كَثِ]راً فِي الأشْهُرِ الْحُرُمِ ، ثُمَّ نُسِخَ وَأحِلَّ فِيْهِ بقَوْلِهِ : { وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً } يَِعْنِي فِيْهنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ). وقال الزهريُّ : (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، مِمَّا أنْزَلَ اللهُ مِنْ تَحْرِيمِ ذلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ بَرَاءَةُ ، وَأحِلَّ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ).
وقال سفيانُ الثوريُّ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الْقِتَالِ فِي الأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، قَالَ : (لاَ بَأْسَ بالْقِتالِ فِيهِنَّ وَفِي غَيْرِهِنَّ ؛ لأََّ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم غَزَا هَوَازنَ وَحُنَيْياً وَثقِيفاً بالطَّائِفِ وَحَاصَرَهُمْ فِي الشَّوَّالِ وَبَعْضِ ذِي الْقِعْدَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ فِيْهَا مَنْسُوخٌ).
(0/0)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } ؛ أي إنَّما تأخيرُ الشَّهرِ الحرامِ من المحرَّم إلى صَفَرْ ، واستباحةِ المحرَّم زيادةٌ في الكفرِ يغلطُ ويخطِىءُ بالنَّساء سائرُ الكفَّار ، ومن قرأ (يَضَلُ) صفَر مكان المحرَّم ، ويحرِّمون المحرَّم عاماً فلا يُقاتِلون فيه ، ثم يقاتِلون في صفَرْ ، { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } ؛ أي ليُوافِقُوا في العددِ أربعةَ أشهُرٍ ، وكانوا يقولون : هذه أربعةٌ بمنْزِلة أربعةٍ. والْمُوَاطَأَةُ الموافقةُ ، وأصلُ النِّسِيءِ الحاضِرُ ومنه بيعُ النَّسِيئَةِ ، ومنه أنْسَأَ اللهُ في أجلِ فُلان ، ومنه الْمِنْسَأَةُ وهي العصَا يرجُو بها ويؤخِّر.
قرأ قتادةُ ومجاهد وأبو عمرٍو ونافع غير وَرْشٍ وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وابن عامر (النَّسِيءُ) بالمدِّ والهمزة وهو مصدرٌ كالسَّعِيرِ والحريقِ ونحوهما ، ويجوزُ أن يكون مفعُولاً مَصرُوفاً أي فعيلٌ مثل الجريحِ والقتيل والصريعِ ، تقديرهُ : إنما الشهرُ المؤخَّر. وقرأ أبو جعفرٍ ووَرْشٌ (إنَّما النَّسِيُّ) بالتشديدِ من غير همزةٍ ، وروَى ذلك ابنُ كثير على معنى الْمَنْسِيِّ أي المتروكِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة : 67].
وقوله : { يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، قرأ أهلُ المدينةِ وابنُ كثير وابن عامرٍ وأبو عمرٍو وأبو بكرٍ بفتح الياء وكسر الضَّاد لأنَّهم هم الضالُّون لقوله : { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } ، وقرأ الحسنُ وقتادة ومجاهد ويعقوب بضمِّ الياء وكسرِ الضاد ؛ أي يُضِلُّ به الذين كفَرُوا الناسَ المقتدِين بهم ، وقرأ اهلُ الكوفةِ إلاَّ أبا بكر بضمِّ الياء وفتحِ الضادِ ، وهي قراءةُ ابنِ مسعود لقوله : { زُيِّنَ لَهُمْ } ، وقوله تعالى : { يُحِلُّونَهُ عَاماً } أي يُحِلُّونَ النسيءَ.
وقولهُ تعالى : { لِّيُوَاطِئُواْ } ؛ أي ليُوافِقُوا ، وقيل : ليُشَبهوا ، { عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ } ؛ أي يُحِلُّوا ما حَرَّمَهُ اللهُ من الغارةِ والقتلِ في الشَّهرِ الحرامِ ، وإنما كان يفعلُ هكذا بنو كِنَانَةَ وربَّما كانوا يؤَخِّرون رَجَباً ويبدِّلونَهُ صَفَراً لتكون الشهورُ متواليةً ، وقولهُ تعالى : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ } ؛ أي حُسِّنَ في قُلوبهم قُبْحُ أعمالِهم من تحريمِ ما أحلَّ اللهُ ، وتحليل ما حرَّم الله ، قال الحسنُ : (زَيَّنَتْهَا لَهُمْ أنْفُسُهُمْ وَالشَّيَاطِينُ) { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي لا يُوَفِّقُهم مجازاةً لكُفرِهم. وَقِيْلَ : لا يَهدِيهم إلى الجنَّة والثواب.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ النّاسِئُ رَجُلاً مِنْ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيم بْنُ ثعلبة وجنادةَ بنُ عَوْفٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى النِّاسِ فيَقُولُ : ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عََلَيْكُمْ صَفَرَ الْعَامَ ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ والأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ فِي الْمُحَرَّمِ ، فَإذَا كَانَ مِنْ قَابلٍ نَادَى : ألاَ إنَّ آلِهَتَكُمْ حَرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحَرَّمَ الْعَامَ ، فَيُحَرِّمُونَ فِيْهِ الدِّمَاءَ وَالأَمْوَالَ وَيَسْتَحِلُّونَ صَفَرَ لِيُفِيدُواْ مِنْهُ).
وفي بعضِ الرِّوايات : أنه كان يقولُ قبلَ هذا النداءِ : يا أيُّها الناس أنا الذي أعابَ ولا خابَ ولا مرَدَّ لِمَا قضيتُ ، فيقولُ له المشركون : لبَّيكَ ربَّنا ، ثم يسألونَهُ أن يُنسِئَهم شَهراً فيقولُ : ألا إن صَفَرَ العامَ حلالٌ يريدُ به المحرَّم ، وربَّما يقولُ : حرامٌ ، فيحرِّمون المحرَّم صَفراً ، وكان إذا قالَ الناسيءُ في المحرَّم : حلالٌ ، عقَدُوا الأوتارَ وشَدُّوا الأزجةَ واعلَموا السيوفَ وأغَارُوا على الناسِ ، وإذا قالَ : حُرِّمَ ، حلُّوا الأوتارَ ونزَعُوا الأزجة وأغمَدُوا السيوف.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ } ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أقامَ بالمدنيةِ بعد مرجعهِ من الطَّائفِ ، ثم أمرَهُ اللهُ بالجهاد لغزوةِ الرُّوم وأمرَهُ بالخروجِ إلى غزوةِ تَبُوك ، وذلكَ في زمانِ عُسْرَةٍ وشِدَّةٍ من الحرِّ حين طابَتْ ثمارُ أهلِ المدينة فأمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالخروجِ إلى الجهادِ فكانوا يتثاقَلون من الخروجِ ويحبُّون الظِّلالَ والثمارَ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعنَاها : ما لكُم إذا قيلَ لكم اخرجُوا إلى جهادِ المشركين تَثَاقَلْتُمْ إلى الأرضِ وتَكَاسَلْتُمْ واطمأنَنْتُم إلى أوطانِكم ، { أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ } ؛ استفهامٌ يعني الإنكارَ ؛ أي آثرْتُمْ عملَ الدُّنيا على عملِ الآخرة ، وآثرتُم الحياةَ في الدُّنيا على الحياةِ في الآخرة ، { فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي ما منفعةُ الدُّنيا في الآخرةِ وفي ما يتمتَّعُ به أولياءُ الله في الجنَّة إلا يسيرٌ لأن الدُّنيا تضمحلُّ ويفنَى أهلْها ، والآخرةُ دار القَرَار.
(0/0)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } ؛ أي إلاَّ تَخْرُجُوا مع نبيِّكم في الجهادِ يعذِّبكم عذابَ الاستئصالِ ، ويستبدِلْ قوماً غيرَكم أي أطوعَ للهِ منكم ، { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } ؛ أي ولا تنقُصوا من مُلكِهِ شيئاً بقُعودِكم عن الجهادِ ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ من العذاب والإبدال ، { قَدِيرٌ }.
(0/0)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ } ؛ " وذلك أنَّ كفارَ مكَّة لَمَّا أرادُوا قتلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخبرَهُ جبريلُ بذلك وأمرَهُ بالخروجِ ، فقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ : " نَمْ مَكَانِي عَلَى الْفِرَاشِ " وخرجَ مع أبي بكرٍ رضي الله عنه إلى غار جبَلِ ثَورٍ - وهو جبلٌ بأسفلِ مكَّة - ومشَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أطرافِ أصَابعهِ حتى حَفِيَتْ ، فلمَّا رآهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه وجعلَ يستندُ به حتى أتَى فمَ الغار ، وكان الغارُ مَقرُوناً بالْهَوَامِّ ، فلما أرادَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم دخولَ الغارِ قال له أبُو بكرٍ رضي الله عنه : مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَأرَ. فدخلَ واستبرأهُ وجعلَ يُسَوِّي الْجُحْرَةَ بثيابهِ خِشيَةَ أن يخرجَ منها شيءٌ يؤذِي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فبَقِيَ جُحْرَانِ فوَضَعَ عَقِبَهُ عليهما ثم قال : إنْزِلْ يَا رَسُولَ اللهِ ، فنَزلَ فكانا في الغار ليلتَهما.
فدخلَ الكفِّارُ على عِليٍّ رضي الله عنه فقالوا لَهُ : يا عليُّ أين مُحَمَّدٌ ؟ فقالَ : لاَ أدْري أيْنَ ذهَبَ ، فطلبوهُ من الغدِ واستأجَرُوا رجُلاً يقال له كَرْزُ بن علقمةَ الجرَّاح ، فَقَفَا لهما الأثرَ حتى انتهَى بهم إلى جبلِ ثَورٍ ، فقالَ : انتهينا إلى هنا وهذا أثرهُ فما أدري أينَ أخذَ يَميناً أو شمالاً أو صعدَ الجبلَ ، فصَعَدُوا الجبلَ يطلبونَهُ ، وأعمَى اللهُ عليهم مكانَهُ فلم يهتَدُوا إليه.
فقامَ رجلٌ منهم يبولُ مستقبلاً رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأبَا بكرٍ بعورتهِ ، فقال أبُو بكرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أرَاهُ إلاَّ قَدْ أبْصَرَنا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " لَوْ أبْصرَنَا مَا يَسْتَقْبلُنَا بعَوْرَتِهِ ". وأقبلَ شبابُ قريشٍ من كلِّ بطنٍ ، معهم عِصِيُّهم وقِسيُّهم حتى رَأوا بابَ الغار ، وكان صلى الله عليه وسلم مرَّ على ثُمامَةٍ وهي شجرةٌ صغيرة ضعيفة فأمرَ أبا بكرٍ أن يأخُذَها معه ، فلما سارَ إلى باب الغار أمرَهُ أن يجعلَها على باب الغار ، وألْهَمَ اللهُ العنكبوتَ فنسجَتْ حتى ستَرت وجهَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصاحبَهُ ، وبعثَ اللهُ حمامَتين وحشِيَّتين فأقبَلتا حتى وقعتَا على باب الغار بين العنكبوتِ وبين الشجرة ، فلما رأى المشركون الشجرة والحمامةَ ، ونسجَ العنكبوتِ علِمُوا أنْ ليس في الغار أحدٌ ، وكان أبو بكرٍ يقولُ : يَا رَسُولَ اللهِ قَدْ أتِيْنَا وَمَا أنا إلاَّ رجُلٌ وَاحدٌ ، فَإنْ قُتِلْتَ أنْتَ تَهْلَكُ هَذِهِ الأُمَّةُ فَلاَ يُعْبَدُ اللهُ بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ ، فقال : " لاَ تَحْزَنْ يَا أبَا بَكْرٍ إنَّ اللهَ مَعَنَا ".
ثم نزلَ المشركون من الجبلِ ، ولم يقدِرُوا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فمكثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالغارِ ثلاثةَ أيَّامٍ وليالِيهنَّ ، وكان عبدُاللهِ بن أبي بكرٍ يأتِيهما بأخبارِ أهل مكَّة ، فلما أمِنَا طلبَ " القوم " وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالهجرة إلى المدينةِ ، فستأجرَ رجُلاً يقالُ له عبدُالله بن أُرَيقِطْ يَهدِيهم الطريقَ إلى المدينةِ فخرجَ بهما إلى المدينةِ ، فسَمِعَ سُراقَةُ بن مالك بن مقسم الكِنَانِي بخرُوجهِ إلى المدينةِ ، فلَبسَ لاَمَتَهُ وركِبَ فرسَهُ يتَّبعُ آثارَهم حتى أدركَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فدعَا عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَاخَتْ قوائمُ فرسهِ ، فقالَ : يَا مُحَمَّدُ أُدْعُ اللهَ أنْ يُطْلِقَ عَلَيَّ فَرَسِي فَأَرْدُّ عَنْكَ مَنْ أرَى مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ إنْ كَانَ صَادِقاً فَأطْلِقْ فَرَسَهُ " فرجعَ سُراقة وقَدِمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم حتى أتيَا المدينة ".
(0/0)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
وقولهُ تعالى : { انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً } ؛ أي انفِرُوا إلى الجهادِ في سبيل اللهِ شَباباً وشُيوخاً. وَقِيْلَ : مُوسِرينَ ومُعْسِرِينَ. وَقِيْلَ : مشَاغِيلَ وغير مشاغيل. وقِيْلَ : نُشَّاطاً وغيرَ نُشَّاطٍ ، أي خفَّت عليكم الحركةُ أو ثقُلَت. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ في طاعةِ الله ، { ذالِكُمْ } ؛ الجهادُ ، { خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ من القعودِ عنه ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ أنَّ اللهَ صادقٌ في وعدِ ووعيده.
(0/0)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ } ؛ اسمٌ كانَ مضمرٌ تقديرهُ : لو كان المدعُّو إليه عَرَضاً قَرِيباً ؛ أي غَنِيمَةً وسَفَراً سَهلاً لاتَّبَعُوكَ ؛ أي لو عَلِمُوا أنَّهم يُصِيبُونَ مَغْنَماً لخرَجُوا معكَ ، نزلَ هذا فيمَن تخلَّف من عزوةِ تبوك من المنافقين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } ، أي لكن بعُدَت عليهم المسافةُ إلى الشَّام ، { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا } ؛ في اعتذارِهم إليكم لو كان لنا سَعَةً في الزادِ والمال ، { لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } ؛ في غَزاتِكم ، { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } ؛ بالأيمان الكاذبةِ والقعود عن الجهادِ ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ أنَّ لهم سَعةً في المالِ والزادِ وإنَّهم لكَاذِبون في هذا الاعتذارِ ، وَقِيْلَ : معنى قوله : { وَسَفَراً قَاصِداً } أي مَوضِعاً قريباً.
(0/0)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ } ؛ أي تجاوزَ اللهُ عنكَ يا مُحَمَّدُ لِمَ أذِنتَ لهم في القعودِ عن الجهاد حتى يظهرَ لكم الذين صدَقوا في الاعتذارِ ، { وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } ؛ في عُذرِهم ، قدَّمَ اللهُ العفوَ على العتاب حتى يسكُنَ قلبهُ صلى الله عليه وسلم ، ثُم قالَ بعدَ العفوِ : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } ، ولو أنَّ اللهَ أخبرَهُ بالذنب قبلَ أن يُخبرَهُ بالعفوِ لكان يخافُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن هَيْبَتِهِ قولهُ : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }.
(0/0)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعالى : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ؛ أي لا يستأذِنُكَ المؤمنون في القعودِ عن الجهادِ ، وقوله : { أَن يُجَاهِدُواْ } معناهُ : أن لاَ يُجاهدِوا ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } ؛ أي عالِمٌ بالمخلِصين المطِيعين فيُميِّزَهم عن المنافقين.
(0/0)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ أي إنما يستأذِنُكَ في القعودِ عن الجهاد الذين لا يُصَدِّقون باللهِ وبيوم البعث ، { وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } ؛ أي شكَّت واضطرَبت ، { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } ؛ شَكِّهم يتخيَّرون. والرَّيبُ : الشكُّ مع اضطراب القلب.
(0/0)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } ؛ أي لو أرادَ اللهُ لهم الخروجَ معك إلى العدوِّ لاتَّخَذُوا له أُهبَةً ، { وَلَـاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ } ؛ أي لكن لمْ يُرِدِ اللهُ خروجَهم معك ، لأنَّهم لو خرَجُوا لكان يقعُ خروجُهم على وجهِ الإضرار بالمسلمين وذلك كفرٌ ومعصية.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَثَبَّطَهُمْ } ؛ أي حَبَسَهم ، يقالُ : ثَبَّطَهُ عن الأمرِ إذا حَبَسَهُ عنه ، { وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ } ؛ أي اقعدُوا مع النِّساء والصبيان. ويجوز أن يكون القائلُ لَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأمر الله ، ويجوزُ أن يكون قد قالَ بعضُهم لبعضٍ. وَقِيْلَ : قال لَهم الشيطانُ وَوَسْوَسَ لَهم.
ثم بيَّن اللهُ أن لا منفعةَ للمسلمين في خروجِهم ، بل عليهم مضرَّة لهم ، فقال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } ؛ أي لو خرَجُوا فيكم ما زادوكم الا شَرّاً وفَسَاداً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ } ؛ أي لأسرَعوا فيما بينِكم ، { يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ } ؛ أي يطلُبون فسادَ الرأي وعيوبَ المسلمين ، ويقالُ : سارُوا فيكم بالنميمة ، والإِيْضاعُ : الإسراعُ في السَّيرِ ، يقالُ : أوْضَعَ البعيرَ إيْضَاعاً.
(0/0)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } ؛ أي وفِيكم قائِلون منهم ما يسمعَون منهم ، ويقالُ : في عَسْكَرِكُم عيونٌ لهم ينقُلون إليهم ما يسمَعون عنكم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ } ؛ يُجازيهم على سوءِ أفعالهم.
(0/0)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ } ؛ أي وقد طلبَ هؤلاءِ المنافقون صدَّ أصحابك عن الدين ، وردَّهم إلى الكفرِ ، وتحويل الناس عنكَ قبل هذا اليومِ ، كفعلِ عبدِاللهِ بن أُبَيّ يومَ أحُد ، وقولهُ تعالى : { وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ } ؛ أي اختَالُوا فيكَ وفي إبطالِ دِينِكَ بالتحويلِ عنكَ ، وتشتُّتَ أمرِكَ وكلمتك من قبل عزوةِ تبوك ، فقَلَّبوا لكَ الأُمور ظَهراً لبطنٍ ، { حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } ؛ أي حقُّ الإِسلام ، وأظهرَهُ الله على سائرِ الأديان ، { وَهُمْ كَارِهُونَ } ؛ لذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ } ؛ أي دينُ اللهِ.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } ؛ نزلَ في جَدِّ بن قيس من المنافقين ، دعاهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الخروجِ إلى العدوِّ وحرَّضَهُ على الجهادِ ، فقالَ لِجَدِّ بن قيسٍ : " هَلْ لَكَ فِي جِلاَدِ بَنِي الأَصْفَرِ ، فَتَتَّخِذَ منهم سَرَارِي وَوُصَفَاءَ " يعني الرُّوم.
وكان الأصفرُ رجُلاً من الحبشةِ مَلَكَ الرُّوم ، وغلبَ على ناحيةٍ منها ، فتزوجتِ الحبشةُ من الرُّوم ، فولَدَت لهم بنات أخَذْنَ من بياضِ الرُّوم وسوادِ الحبشة ، فكُنَّ صُفْراً لُعْساً لم يُرَ مثلُهنَّ ، فقال له جدُّ بن قيسٍ : ائْذَنْ لِي يا رسولَ اللهِ أنْ أُقِيمَ ، ولا تَفْتِنِّي ببناتِ الأصفر ، فقد عرفَ قَومِي عُجْبي بالنساء ، وإنِّي أرَى المرأةَ تُعْجِبُني فما أملكُ نفسي حتى أضعَ يدِي على الْمُحَرَّمِ ، فلما سمعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قولَهُ عرضَ عنه وقالَ : " إذِنْتُ لَكَ ".
وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَفْتِنِّي } أي ائْذَنْ لي في التخلُّف ولا تَفتِنِّي ببناتِ الأصفرِ ، قال قتادةُ : (مَعْنَاهُ وَلاَ تُؤَثِّمْنِي) ، وقولهُ تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ } أي ألاَ في الإثْمِ والشِّركِ وقَعُوا بنفاقِهم ومخالفتهم أمرَكَ في تركِ الجهاد ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } ؛ أي إنَّهم يدخلون جهنَّم لا محالةَ ؛ لأن الشيءَ إذا كان مُحِيطاً بالإنسانِ فإنه لا يفوتهُ.
روي " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ سَيِّدُكُمْ يَا بَنِي سَلَمَةَ ؟ " قَالُوا : جَدُّ بْنُ قَيْسٍ ، غَيْرَ أنَّهُ بَخِيلٌ. قَالَ : صلى الله عليه وسلم : " وَأيُّ دَاءٍ أدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟! بَلْ سَيِّدُكُمْ الْفَتَى أبْيَضُ الْجَعْدِ بشْرُ ابْنُ الْبَرَاءِ بْنُ مَعْرُورٍ " فَقَالَ فِيْهِ حسَّانُ الشِّعرَ : وقَالَ رَسُولُ اللهِ وَالْحَقُّ قَوْلُهُ لِمَنْ قالَ مِنَّا : مَنْ تَعُدُّونَ سَيِّدَا؟فَقُلْتُ لَهُ : جَدُّ بْنُ قَيْس عَلَى الَّذِي ببُخْلِهِ فِينَا وَإنْ كَانَ أنْكَدَافَقَالَ : وَأيُّ الدَّاءِ أدْوَى مِنَ الَّذِي رَمَيْتُمْ بهِ لَوْ عَلَى بهِ يَدَا؟!وَسُوِّدَ بشْرُ بْنَ الْبَرَاءِ لِجُودِهِ وَحَقُّ لِبشْرِ بْنِ الْبَرَا أنْ يُسَوَّدَاإذَا مَا أتَاهُ الْوَفْدُ أذْهَبَ مَالَهُ وَقَالَ : خُذُوهُ ؛ إنَّنِي عَائِدٌ غَدَا
(0/0)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } ؛ أي إنْ تُصِبْكَ يا مُحَمَّدُ حَسَنَةً من فتحٍ وغنيمة تَسُؤهُمْ تلكَ الحسنةُ وتحزنهم يعني المنافقين ، { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } ؛ أي قَتْلٌ وهزيمة ونَكبَةٌ ، { يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } ؛ أي أخَذْنَا حِذْرَنا بالتخلُّف عنهم من قبلِ هذه المصيبة ، { وَيَتَوَلَّواْ } ؛ عنكَ ، { وَّهُمْ فَرِحُونَ } ؛ مسرورون بما أصابَك من الشدَّة.
(0/0)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للمنافقين : لن يُصِيبَنا إلاَّ ما كتبَ اللهُ علَينا في اللَّوح المحفوظ ، قال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : أنَّا لَسْنَا بمُهْمَلِينَ بَلْ جَمِيعُ مَا يُصِيبُنَا مِنْ خَيْرٍ أوْ شَرٍّ فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي اللَّوحِ المْحْفُوظِ) ، ويقالُ : معناهُ : قُل لن يُصِيبَنا في عاقبةِ الأمر إلاَّ ما كتبَ اللهُ لنا من الفتحِ والنُّصرة على الكفَّار ، فإنْ أصابَتنا الهزيمةُ في الحالِ فإن أمورَ العبادةِ لا تجرِي إلا على تدبيرٍ قد أُحكِمَ وأُبرِمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ مَوْلاَنَا } أي وَلِيُّنَا يحفَظُنا وينصُرنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ؛ معنى التوكُّل على اللهِ : تفويضُ الأمرِ إليه ثِقَةٍ بهِ.
(0/0)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } ؛ أي هل تنتَظِرُون بنَا إلا النصرَ على الكفَّارِ والظَّفَرَ بهم ، أو القتلَ على وجهِ الشَّهادة في الدُّنيا مع ثواب الآخرة ، ونحن ننتظرُ بكم أحدَ الشرَّين : إما أنْ يُصيبَكم الله بعذاب الاستئصال مِن عنده ، أو بأنْ ينصُرَنا عليكم فَنَقتُلَكم بأسيافِنا ، فانتظِرُوا ما قلتُ كي ننتظرَ نحن بكم عذابَ الاستئصالِ والنُّصرة عليكم.
(0/0)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؛ معناهُ : إنْ أنفَقتُم في الجهادِ طَائِعين من قِبَلِ أنفُسِكم أو مُكرَهين مخافةَ القتلِ لن يتقبَّل منكم ما أسرَرتُم من الكفرِ والنفاق ، وقد يُذكر لفظ الأمرِ ويراد به الشرط الجزاءُ كما قال الشاعر : أسِيئِي بنَا أوْ أحْسِنِي لاَ مَلُومَةٌ لَدَينَا وَلاَ مَقْلِيَّةُ إنْ تَقَلَّتِمعناهُ : إنْ أحسَنتِ بنا أو أسَأتِ فأنتِ غيرُ ملومةٍ.
قَوْلَهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ؛ تعليلُ نفي قََبول صَدَقتِهم ؛ لأن النفاقَ يحبطُ الطاعةَ ، ويمنعُ من استحقاقِ الثواب.
(0/0)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
قَوْلُهُ تََعَالَى : { وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ } ؛ ما مَنَعهم عن إيجاب الثواب لهم على نفَقاتِهم إلا كفرُهم باللهِ وبرسوله ، ومعنى { نَفَقَاتُهُمْ } أي صدقاتُهم. قرأ حمزةُ والكسائي وخلف (يُقْبَلَ) بالياءِ لتقديم الفعل ، وقرأ الباقون بالتاء.
وقولهُ تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى } ؛ أي مُتثَاقِلُون لأنَّهم لا يرجون بأدائِها ثواباً ولا يخافونَ بتركِها عقاباً ، والمعنى أنَّهم يُصََلُّون مُرَاءَاةً الناسِ ، { وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } ؛ وذلك يُنفقون في الزكاةِ وغيرِها لأجلِ التَّسَتُّرِ بالإِسلام ، لا لابتغاءِ ثواب الله. وكُسَالَى جمعُ كَسْلاَنٍ كما يقالُ سُكَارَى وسَكرَانٍ.
(0/0)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَـادُهُمْ } ؛ أي لا تُعجِبُكَ يَا مُحَمَّدُ كثرةُ أموالهم ولا أولادِهم في الحياةِ الدُّنيا ، { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا } ؛ وفي الآخرةِ ، قال الحسنُ : (لاَ تَسُرُّكَ أمْوَالُهُمْ وَلاَ أوْلاَدُهُمْ ، إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُشَدِّدَ عَلَيْهِمْ فِي التَّكْلِيفِ بأَنْ يَأْمُرَهُمْ بالإنْفَاقِ فِي الزَّكَاةِ وَالْغَزْو وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مَِن الْمَكَارِهِ الَّتِي تُشُقُّ عَلَيْهمْ ؛ لأنَّهُمْ لاَ يَرْجُونَ بذَلِكَ ثَوَاباً فِي الآخِرَةِ ، وَيَكُونُونَ مُعَذَّبينَ بالإنْفَاقِ إذ كَانُوا يُنْفِقُونَها عَلَى كَرْهٍ مِنْهُمْ). وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ { لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاوةِ الدُّنْيَا } أي ما ينالُهم من المصائب في أموالهم لا تكون كفَّارةً لذنوبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ } ؛ أي تخرُجَ أنفسُهم على الكفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ كَافِرُونَ } ؛ أي في حالِ كونِهم كافِرين. والزَّهْقُ خروجُ الشيءِ بصعوبةٍ وأصلهُ الهلاكُ.
(0/0)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ } ؛ معناهُ : أنَّ هؤلاء المنافقين يَحلِفون للمؤمنين أنَّهم على دِينهم ، يقولُ الله تعالى : { وَمَا هُم مِّنكُمْ } أي لَيسُوا على دِينكم ، { وَلَـاكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } ؛ أي يخافُون من المسلمين ، فأظهرُوا الإسلامَ وأسَرُّوا النفاق.
(0/0)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } ؛ معناه : لو يَجِدون حِرْزاً يَلْجَأُونَ إليه ويتحصَّنون يه ، أو غِيرَاناً في الجبالِ أو سَرَباً في الأرضِ ، أو قَوماً يمكنُهم الدخولُ فيما بينهم يحفظونَهم عنكم ، لصَبَوا إليهم وهم يجْمَحُونَ ؛ أي يسبقون ويُسرعون إسراعاً لا يردُّ وجوهَهم بشيءٍ. يقالُ : فرسٌ جَمُوحٌ إذا ذهبَ في عَدْوهِ لم يردهُ اللِّجَامُ ، قال عطاءُ في معنى قولهِ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً : (أيْ مَهْرَباً) ، وقال ابنُ كَيسان : (قَوْماً يَأْمَنُونَ فِيهِمْ).
قرأ عبدُالرحمن بنُ عوفٍ (أوْ مُغَارَاتٍ) بضمِّ الميمِ ، وقولهُ تعالى : { أَوْ مُدَّخَلاً } قال الكلبيُّ : (نَفَقاً فِي الأَرْض كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ) وَقِيْلَ : معناهُ : موضعُ دخولٍ يدخُلون فيه. وقرأ الحسنُ (مَدْخَلاً) بفتح الميمِ وتخفيف الدال ، وقرأ أُبَيُّ (مُنْدَخَلاً) بإثبات النُّون. وقولهُ تعالى : { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ } قرأ الأشهبُ العُقَيلِيُّ (لَوَالَوْا إلَيْهِ) بالألف من الْمُوَالاَتِ ؛ أي تَابَعُوا وسارَعُوا.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ } ؛ أي مِن المنافقين من يَعِيبُكَ في الصَّدقات ، { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا } ؛ الصدقةَ مدارَ مُرادِهم ، { رَضُواْ } ؛ بالقسمةِ ، { وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا } ؛ لا يَرضُون بالقسمةِ.
نزلَتْ هذه الآيةُ في أبي الجوَّاظ وغيرهُ من اللمَّازِينَ من المنافقين ، كما رُوي " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يَقِسمُ الصدقاتِ فقال أبو الجوَّاظ : ما ترَون صاحِبَكم يقسمُ صدقاتِكم في رُعاة العنمِ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لاَ أبَا لَكَ ، أمَا كَانَ مُوسَى عليه السلام رَاعِياً! أمَا كَانَ دَاوُدُ عليه السلام رَاعِياً! " فذهبَ أبو الجوَّاظ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم : " احْذَرُوا هَذَا وَأصْحَابَهُ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال : " كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقْسِمُ قَسْماً إذ جَاءَهُ ابْنُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ : اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَقَالَ : " وَيْلَكَ مَنْ يَعْدِلُ إذا لَمْ أعْدِلْ؟! " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللهِ أضْرِبْ عُنُقَهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " دَعْهُ فَإنَّ لَهُ أصْحَاباً يَحْتَقِرُ أحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِ وَصَوْمَهُ مَعَ صِيَامِهِ ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرَقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ ".
قرأ الحسنُ ويعقوب (يَلْمُزُكَ) بضمِّ الميم ، وقرأ الأعمش (يُلَمِّزُكَ) بضم الياء وتشديدِ الميم ، يقالُ لَمَزَهُ وَهَمَزَهُ إذا أعابَهُ ، ورجلٌ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ ، وقال عطاءُ : (مَعْنَى يَلْمِزُكَ أيْ يَغْتَابُكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } ؛ قرأ إيادُ بنُ لَقيط (إذَا هُمْ سَاخِطُونَ).
(0/0)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } أي لو رَضُوا ما رزقََهم اللهُ وما يُعطِيهم رسولهُ من العطيَّة والصدقةِ ، { وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } ؛ أي كاَفِينَا اللهُ سيُعطينا اللهُ من رزقهِ ، وسيُعطينا رسولهُ مما يكون عندَهُ من السَّعة والفضلِ وَقَالُوا : { إِنَّآ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي فيما عندَهُ من الثواب ، { رَاغِبُونَ } ؛ لكانَ خَيْراً لهم وأعْوَدَ عليهم ، إلا أنه حذفَ الجواب ؛ لأن الحذفَ للجواب في مثل هذا الموضعِ أبلغُ من الإثبات ؛ لأنَّكَ إذا حذفتَ الجواب ذهبَتْ فيه النفسُ كلَّ مذهبٍ.
(0/0)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
قَوْلُهُ تَعَالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس والحسن وجابر بن زيد والزهريُّ ومجاهد : (الْفَقِيرُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لاَ يَسْأَلُ النَّاسَ ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ). ومعنى الآية : إنَّما الصدقاتُ لهؤلاءِ المذكورين لا للمنافقين.
قال ابنُ عبَّاس : (الْفُقَرَاءُ هُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ ، صُفَّةُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، كَانُوا نَحْوَ أرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنَازِلُ فِي الْمَدِينَةِ وَلاَ عَشَائِرُ ، فَأَوَوْا إلَى صُفَّةِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ ، يَلْتَمِسُونَ الرِّزْقَ بالنَّهَارِ وَيَأْوُونَ إلَيْهِ باللَّيْلِ ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أتَاهُمْ بهِ إذا أمْسَواْ). قالَ : (وَالْمَسَاكِينُ هُمُ الطَّوَّافُونَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ).
فعلى هذا المسكين أفقرُ من الفقيرِ ، ومن الدليلِ على ذلك أنَّ الله قالَ : { لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }[البقرة : 273] ثم قال : { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ }[البقرة : 273] ، ومعلومٌ أن الجاهلَ بحالِ الفقير لا يحسبهُ غَنيّاً إلاَّ وله ظاهرٌ جميل ويدهُ حَسَنةٌ ، وقال تعالى : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ }[البلد : 16]. قيل في التفسير : الذي قد لَصَقَ بالتُّراب وهو جائعٌ عارٍ ليس بينه وبين التراب شيءٌ يَقيه. وقال أبو العبَّاس ثعلب : (حُكِيَ عَنْ بَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ أنَّهُ قَالَ : قُلْتُ لأَعْرَابيٍّ : أفَقيرٌ أنْتَ ؟ قَالَ : لاَ ؛ بَلْ مِسْكِينٌ. وأنشدَ الأعرابيُّ : أمَّا الْفَقِيرُ الَّتِي كَانَتْ حُلُوبَتُهُ وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَبَدُفَسَمَّاهُ فَقِيراً مَعَ وُجُودِ الْحُلُوبَةِ). وقال محمَّد بن مَسلمة : (الْفَقِيرُ الَّذِي لاَ مِلْكَ لَهُ) قال : (وَكُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٍ إلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَيْهِ) ، واحتجَّ مَن قال : إن الفقيرَ أفقرُ من المسكينِ بقوله تعالى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ }[الكهف : 79] فأضافَ السفينةَ إليهم ، وهذا لا دلالةَ فيه لأنه رُوي أنَّهم كانوا فيها أُجَراءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } ، يعني السُّعَاةَ الذين يجلِبون الصَّدقَةَ ، ويتوَلَّون قبضَها من أهِلها ، يُعطون منها سواءٌ كانوا أغنياءَ أم فقراء ، واختلَفُوا في قَدْر ما يُعطَون ، قال الضحَّاك : (يُعْطَوْنَ الثُّمُنَ مِنَ الصَّدَقَةِ) ، وقال مجاهدُ : (يَأْكُلُ الْعُمَّالُ مِنَ السَّهْمِ الثَّامِنِ) ، وقال عبدُالله بن عمرِو بن العاص : (يُعْطَوْنَ عَلَى قَدْرِ عَمَالَتِهِمْ) ، وقال الأعمشُ : (يُعْطَونَ بقَدْرِ أُجُور أمْثَالِهِمْ وَإنْ كَانَ أكْثَرَ مِنَ الثُّمُنِ) ، وقال مالكُ وأهلُ العراقِ : (إنَّمَا ذلِكَ لِلإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ يُعْطِيهِمُ الإمَامُ قَدْرَ مَا رَأى) ، وعن ابنِ عمر : (يُعْطَوْنَ بقَدْرِ عَمَلِهِمْ) ، وعند الشافعيِّ : (يُعْطَوْنَ ثُمُنَ الصَّدَقَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } ؛ هم قومٌ كان يُعطيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتأَلَِّفُهم على الإسلامِ ، كانوا رُؤساءَ في كلِّ قبيلةٍ ، منهم أبو سُفيان بن حربٍ من بني أُمَيَّة ، والأقرعُ بن حَابسٍ ، وعقبةُ بن حصن الفزَّاري وغيرُهما من بني عامرِ بن لُؤي ، والحارثُ بن هشامِ المخزوميُّ ، وسهيلُ بن عمرو الجمحيُّ من بني أسَدٍ ، والعباسُ بن المرداسِ من بني سُليم ، فلما توُفِّيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جاءَ المؤلَّفة قلوبُهم إلى أبي بكرٍ وطلَبُوا منه سَهمَهم ، فأمَرَهم أن يكتبُوا كِتَاباً ، فجَاؤُا بالكتاب إلى عُمر رضي الله عنه ليشهدَ ، فقال عمر : إيْشُ هَذَا ؟ قَالُوا : سَهْمُنَا ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه :
(0/0)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ الْجَمَاعَةَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ جَلاَّسُ بْنُ سُوَيدٍ وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ وَأبُو يَاسِرِ بْنِ قَيْسٍ وَسِمَاكُ بْنُ يَزيدٍ وَعُبَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ وَرُفَاعَةُ بْنُ التَّابُوتِ كَانُوا يُؤْذونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ فِيْهِ مَا لاَ يَجُوزُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا َتَفْعَلُوا فَإنَّا نَخَافُ أنْ يَبْلُغُهُ الْخَبَرُ ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ : بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ فَيُصَدِّقُنَا فِي مَا نَقُولُ ، فإنَّ مُحَمَّداً أُذُنٌ سَامِعَةٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : ومِنْ هؤلاء المنافقين مَن يُؤذِي النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، ويقولون هو صاحبُ أُذُنٍ يُصغِي إلى كلِّ أحَدٍ ، ويقبلُ كلَّ ما قيلَ له.
قَْولُهُ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } ؛ أي قِيْلَ : هو مستمعٌ بخيرٍ لا مستمعٌ بشَرٍّ ، وَقِيْلَ : معناهُ : هو يستمع إلى ما هو خيرٌ لكم وهو الوحيُ. وقرأ الحسنُ : (هُوَ أذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) كلاهُما بالتنوينِ والضمِّ ، معناهُ : إنْ كان كما قُلتم فهو خيرٌ لكم يقبَلُ عُذرَكُم. وقرأ نافع : (قُلْ أُذْنٌ) بجزمِ الذال وهو لغةٌ في الأذن. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي يُصدِّقُ بما أُنزِلَ عليه ، والإيمانُ باللهِ لا يعملُ إلا بالحقِّ ، ويؤمِنُ للمؤمنين أي يُصدِّقُ المؤمنين في ما يُخبرونَهُ.
واختلَفُوا في الـ (لام) التي للمؤمنين ، فقال بعضُهم هي زائدةٌ كما في قولهِ تعالى : { رَدِفَ لَكُم }[النمل : 72] معناهُ : ردِفكُمْ. قال بعضُهم : إنما ذُكر اللام للفَرقِ بين التصَّديقِ والإيمان ، فإنه إذا قِيْلَ : ويُؤمِنُ للمؤمنين لَم يُقبل غيرُ التصديقِ ، كما في قوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا }[يوسف : 17] أي بمُصَدِّقٍ ، وقوله تعالى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ }[التوبة : 94] أي لن نصدِّقَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } ؛ قرأ الحسنُ والأعمش وحمزة بالخفضِ على معنى : أُذُنُ خَيْرٍ وأذُن رحمةٍ ، وقرأ الباقون : (وَرَحْمَةٌ) بالرفعِ يعني : هو رحمةٌ ، جعلَ الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم رحمةً لهم ؛ لأنَّهم إنما نالُوا الإيمانَ بدُعائهِ وهدايته. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وعيدٌ مِن الله لهؤلاء المنافقين على مقَالتِهم. وقال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ جَاؤُا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْلِفُونَ أنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا فَاَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ :
(0/0)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ؛ ولم يقُل يرضُوهُما ؛ لأنه يُكرَهُ الجمعُ بين ذكرِ اسم الله وذكرِ اسم رسولهِ في كِنَايَةٍ واحدةٍ ، كما رُوي " أنَّ رَجُلاً قَامَ خَطِيباً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ ، وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " بئْسَ الْخَطِيبُ أنْتَ! هَلاَّ قُلْتَ : وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ؟ ". وقال النبيٌُّ صلى النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَقُولُوا مَا شاءَ اللهُ وَشَاءَ فُلاَنٌ. وَلَكِنْ قُولُواْ مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ شَاءَ فُلاَنٌ " فكَرِهَ الجمعَ بين الله وبين غيره في الذكرِ تعظيماً لله. والضميرُ في قوله { يُرْضُوهُ } إلى الواحدِ ؛ لأنَّ رضَى اللهِ مُتَضَمِّنٌ رضَى رسولهِ. وقولهُ : { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } ؛ إنْ كانوا مصدِّقين بقُلوبهم غيرَ مُنافِقين كما يدَّعون ، فطلَبُهم رضَى اللهِ أوْلَى من طلَبهم رضَاكُم.
(0/0)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } ؛ معناهُ : ألَمْ يُخبرْهُم الرسولُ صلى الله عليه وسلم أنه مَن خالفَ اللهَ ورسوله في الدِّين فيجعلُ نفسَهُ في حدٍّ ، واللهَ ورسولَهُ في حدٍّ فله نارُ جهنَّم ، ودخلت (أنَّ مؤكِّدة وهي إعادة أن الأَولى ؛ لأنه لما طالَ الكلامُ كانت إعادَتُها أوكَدَ. ومَن قرأ بالكسرِ فهو على الاستئنافُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ } ؛ أي ذلك الهوَانُ الشديدُ الدائم.
(0/0)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } ؛ الكثيرُ من المفسِّرين على (أنَّ) اخبار مِن المنافقين أنَّهم يحذَرُون أنَّ الله نَزَّلَ عليهم سورةً تُخبرُ عن ما في قلوبهم من النِّفَاقِ والشِّركِ ، فإنَّ بعض المنافقين كانوا يَعلَمُونَ نبوَّة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولكنهم كانوا يَكفُرُونَ عند أهلِ الشِّرك عِنَاداً وحَسَداً ، وبعضُهم كانوا عندَ أنفُسِهم شَاكِّين غيرَ مُسَتبصِرِينَ ، وكانوا يخافون إذا أذنَبُوا ذنباً أنْ يَنْزِلَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم من القُرآن ما يكشفُ عن نفاقِهم ، وفي الآيةِ ما يدلُّ على هذا وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } أي مُظْهِرٌ ما تخافون من ظهور النِّفاقِ ، وعن هذا سُمِّيت هذه السورةُ (سُورَةُ الْفَاضِحَةِ) ؛ لأنَّها فضَحَتِ المنافقين ، وتُسمَّى أيضاً (الْحَافِرَةُ) ؛ لأنَّها حَفَرَتْ عن قلوب المنافقين.
وقولهُ تعالى : { قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } ؛ تَهديدٌ وإنْ كان لفظُ الأمرِ ، كما في قوله : { اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }[فصلت : 40] ، وذهبَ الزجَّاجُ إلى أنَّ قولَهُ : { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ } لفظةُ إخبارٍ ومعناهُ : الأمرُ كلُّه ، كأنه قالَ : لِيحْذَرِ ، وهذا كما قال : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ }[البقرة : 228].
(0/0)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } ؛ وذلك " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ في مَسِيرهِ رَاجِعٌ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوك ، وَثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيهِ ، فَجَعَلَ رَجُلاَنِ يَسْتَهْزِئَانِ برَسُولِ اللهِ وَيَقُولُونَ : إنَّ مُحَمَّداً قَالَ : نَزَلَ فِي أصْحَابنَا الَّذِينَ يَحْلِفُوا كَذا وَكَذا ، وَالثَّالِثُ يَضْحَكُ مِمَّا يَقُولُونَ وَلاَ يَتَكَلَّمُ بشَيْءٍ.
فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام علَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَأخْبَرَهُ بمَا يَقُولُونَ ، فَدَعَا عليه السلام عَمَّاراً وَقَالَ : " إنَّهُمْ يَتَحَدَّثُونَ بكَذا وَكَذا ، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ : إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، إنْطَلِقْ إلَيْهِمْ وَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَتَحَدَّثونَ ، وَقُلْ لَهُمْ : أحْرَقْتُمْ أحْرَقَكُمُ اللهُ " فَفَعَلَ ذلِكَ عَمَّارُ ، فَجَاؤُا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَعْتَذِرُونَ وَيَقُولُونَ : كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فِيْمَا يَخُوضُ فِيْهِ الرَّكْبُ إذا سَارَ. " فَأَنْزَلَ اللهُ هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ.
وعن الحسنِ وقتادةَ : " أنَّهُمْ كَانُوا فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ ، فَقَالُوا : أيَطْمَعُ هَذا الرَّجُلُ أنْ يُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَّامِ ؟ هَيْهَاتَ مَا أبْعَدَهُ عَنْ ذلِكَ! فَأَطْلَعَ نَبيَّهُ عَلَى ذلِكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } ؛ منه ألِفُ استفهامٍ ، معناهُ : النِّيَّةُ لهم عالى ما كانوا يفعلونَهُ.
(0/0)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَعْتَذِرُواْ } ؛ أي لا تَعتَذِرون عن مَقالَتِكم ، { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ؛ أي قد أظهَرتُم الكفرَ بعد إظهارِكم الإيمانَ ، فإنَّهم قطٌّ لم يكونوا مُؤمِنين ، ولكن كانوا مُنافِقِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } ؛ وفيه قراءَتان ، هذه بالضَّمِّ على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ ، والثانية : (إنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبُ طَائِفَةً) بالنصب ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : إنْ يَعْفُ عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ بشَيْءٍ وَلَكِنَّهُ يَضْحَكُ وَهُوَ مَخْشِيُّ بنُ حُمَيِّرٍ ، يُعَذِّب الرَّجُلاَنِ اللَّذانِ كَانَا يَتَكَلَّمَان بالْهَمْزِ) { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } ؛ أي كافرِين في السِّرِّ ، وكلًّ معصيةٍ جُرْمٌ إلاَ أنَّه أرادَ بالْجُرْمِ ههنا الكفرَ.
(0/0)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ؛ أي بعضُهم مُضَافٌ إلى بعضهم لاجتماعِهم على الشِّرك والاستهزاءِ بالمسلمين ، كما يقالُ : أنا مِن فلانٍ وفلانٌ منِّي ؛ أي أمْرُنا واحدٌ وكَلِمَتُنَا واحدةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ } ؛ أي بالكُفرِ والمعاصي ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ } ؛ أي عن الإيمان والطاعة. وقولهُ تعالى : { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } ؛ قال الحسنُ ومجاهد : (أيْ يُمْسِكُونَهَا عَنِ النَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ) ، وَقِيْلَ : عنِ الزَّكَوَاتِ المفروضةِ ، وقال قتادةُ : (عَنِ الْخَيْرَاتِ كُلِّهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } ؛ أي ترَكُوا أمْرَ اللهِ وأعرَضُوا عنه حتى صارَ كالمنسيِّ عندَهم بإعراضِهم عنه ، فترَكَهم اللهُ من رحمتهِ حتى صارُوا كَالْمَنْسِيِّينَ عندَهُ ، وإنْ كان النِّسانُ مما لا يجوزُ على اللهِ إلاَّ أنه قال (فَنَسِيَهُمْ) لمزاوجةِ الكلام ، كما في قوله تعالى : { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ }[البقرة : 194] ، قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }[الشورى : 40] ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ؛ أي هم المتمرِّدون في الكفرِ والفسقِ وفي كلِّ شيء ، والْمُتَمَرِّدُ فيه وإنْ كان النفاقُ أعظمَ من الفسقِ.
(0/0)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
وقولهُ تعالى : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ في الآية جمعٌ بين المنافقين وبين الكفَّار في التسميةِ ، وإنْ كان المنافقون همُ الكفار ؛ لتكون الآيةُ دالَّةً على أنَّ المنافقين يلحَقُهم الوعيدُ من جِهَتَين ، من جهةِ الكُفرِ والنِّفاقِ.
وجهنَّم من أسماءِ النار يقول العربُ للبئرِ البعيدة القعرِ : جِهْنَامٌ ، فيجوزُ أن تكون جَهَنَّمُ مأخوذةٌ من هذه اللَّفظةِ لبُعدِ قَعرِها. وقولهُ تعالى : { هِيَ حَسْبُهُمْ } ؛ أي كفايَتُهم على ذنوبهم ؛ لأن فيها جزاءَ أعمالِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ } ؛ أي أبعَدَهم من الثواب والمدح في الدُّنيا ، وعن الثواب والرحمة في الآخرةِ ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ؛ أي عذابٌ دائم.
(0/0)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } ؛ أي وعدَ اللهُ أهلَ زمانِكم على الكفرِ والنِّفاق نارَ جهنَّم ، كما وعدَ الذين من قبلكم كانوا أشدَّ منكم قوَّةً في البَدَن وأكثرَ أموالاً وأولاداً ، { فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } ؛ فانتفَعُوا بنصيبهم وحظّهم في الدُّنيا ، ولم ينفَعْهم ذلكَ حين نزلَ بهم عذاب الله ، فكذلك أنتُم ، والْخَلاَقُ هو النصيبُ من الخيرِ.
وقولهُ تعالى : { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ؛ أي فاستمتَعتُم أنتم بنصيبكم من الدُّنيا وخُضتم فيها ، { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ } ؛ أي خُضتم في الكفرِ والاستهزاء بالمؤمنين كما خاضَ الأوَّلون.
وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة حَبطَتْ أعمالُهم التي عَمِلوها على جهةِ البرِّ مثلُ الإنفاقِ في وجُوهِ الخيرِ ومثلُ صِلَةِ الرَّحمِ حَبطَتْ ، { فِي الدنْيَا } ؛ حتى لا يستحقُّوا بها الإكرامَ والتعظيمَ في الدُّنيا ، وَحَبطَتْ في ، { وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ الذين خَسِروا أنفُسَهم وأهلِيهم يومَ القيامةِ ، والْخُسْرَانُ هو ذهابُ رأسِ المال من دون أصلهِ.
(0/0)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَـابِ مَدْيَنَ } ؛ معناهُ : ألَمْ يأتِ المنافقين والكفارَ خبرُ مَن قبلِهم كيف أهلكَهم اللهُ عَزَّ وَجَلَّ حين تَمرَّدُوا في الكُفرِ ، واستهزَأْوا بالمؤمنين وهم قومُ نوحٍ ، أهلكَهم اللهُ بالغرقِ ، وعَادٌ قومُ هودٍ أهلَكَهم اللهُ بالريحِ ، وثَمُودُ أهلَكَهم اللهُ بالصَّيحةِ والرَّجْفَةِ وهم قومُ صالِح ، وقومُ إبراهيمَ أهلكَهم اللهُ نَمْرُودُهم بالبَعُوضِ وسائرِ قومه بالْهَدْمِ ، وأصحابُ مَدْيَنَ قومٌ شُعَيبٍ أهلَكَهم اللهُ بالصَّيحَةِ وعذاب الظُّلَّةِ ، ومَدْيَنُ بئْرُ مَدْيَنَ بنُ إبراهيم نُسِبَتِ القريةُ إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْتَفِكَـاتِ } ؛ أي الْمُنْقَلِبَاتُ وهي قرياتُ قومِ لُوطٍ أهلَكَهم اللهُ بالخسفِ ، وقَلَبَ مَدَائِنَهُمْ عليهم. ويقالُ : أرادَ بالْمُؤْتَفِكَاتِ كلَّ مَنِ انقلبَ أمرُهم عليهم من الخيرِ إلى الشرِّ. يقالُ : الهالكُ انقلبَت عليه الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـاتِ } ؛ أي بالْحُجَجِ والبراهينِ ، { فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ أي لَمَّا كذبوا الرُّسلَ وكَفَرُوا بالآيات أهلكَهم ، ولم يكن ذلك ظُلماً ؛ لأنَّهم أستحَقُّوا ذلك بعمَلِهم فكانوا همُ الظالمين لأنفُسِهم.
(0/0)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ؛ أي بعضُهم أنصارُ بعضٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } ؛ أي بالتَّوحيدِ واتِّباعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وشرائعه ، { وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ؛ عن ما لا يعرفُ في شريعةٍ ولا سُنة ، { وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } ؛ الْخَمْسَ بشَرائطِها ، { وَيُؤْتُونَ } ؛ ويؤدُّون ، { الزَّكَاةَ } ؛ الواجبةَ في أموالهِ ، { وَيُطِيعُونَ اللَّهَ } ؛ في الفرائضِ { وَرَسُولَهُ } ؛ في السُّنَنِ ، { أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ } ؛ أي يُنعِمُ عليهم في الآخرةِ ، والرحمةُ هي النِّعمَةُ على المحتاجِ.
وعن بعضِ أهلِ الإشارة : سيرحَمُهم في خمسةِ مواضع : عند الموتِ وسكَرَاتهِ ، وفي القبرِ وظُلُماتِهِ ، وعند قراءةِ الكتاب وحسَرَاتِهِ ، وعند الميزان وندَامَتهِ ، وعند الوُقوفِ بين يَدَي اللهِ ومسؤُولاَتهِ. وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي غالبٌ في مُلكِه وسُلطانِه ، تجرِي أفعالهُ على ما توجبهُ الحكمة.
(0/0)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي بساتينَ تجري من تحتِ شجَرِها وغُرَفِها أنْهارُ الماءِ والعسَلِ والخمر واللَّبن ، { خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ أي مُقِيمين دائمين فيها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } ؛ أي مسَاكِنَها ظاهرةً عامِرَةً يطيبُ بها العيش ، قال الحسنُ : (هِيَ مَسَاكِنُ بَنَاهَا اللهُ مِنَ الَّلآلِئ وَالْيَوَاقِيتِ الْحُمْرِ وَالزُّبُرْجَدِ الأَخْضَرِ).
وقوله : { فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي في بساتين إقامَة ، قال ابنُ عبَّاس : (جَنَّاتُ عَدْنٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ ، وَالْجَنَّاتُ حولَها مُحْدِقَةٌ بهَا وَهِيَ مُعْطَاةٌ مُنْذُ خَلَقَهَا اللهُ حَتَّى يَنْزِلَهَا أهْلُهَا النَّّبيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ). وعن مجاهدٍ قال : (قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : هَلْ تَدْرُونَ مَا جَنَّاتُ عَدْنٍ ؟ قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذهَبٍ ، لِكُلِّ قَصْرٍ خَمْسُمِائَةِ ألْفِ بَابٍ ، عَلَى كُلِّ بَابٍ نَحْوَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ ألْفاً مِنَ الْحُورِ الْعِين ، لاَ يَدْخُلُهَا إلاَّ نَبيٌّ ، وَهَنِيئاً لِصَاحِب هَذا الْقَبْرِ ، وَأشَارَ إلَى قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَ ، وَهَنِيئاً لأَبي بَكْرٍ أوْ شَهِيدٍ ، وَإنِّي لَعَمْرُ الشَّهَادَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } ؛ أي رضَى الرب عنهم أكبرُ وأعظم من هذا النعيمِ كلِّه لأنَّهم إنَّما نَالُوا ذلك كله برضوانِ الله عَزَّ وَجَلَّ ، والرِّضْوَانُ : إرادَةُ الخيرِ والثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي ذلك الذي ذكرتُ هو الحياةُ الوافرة ، نَجَوا من النار وظَفَرُوا بالجنَّة.
وعن الحسنِ في قولهِ تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } أي سرورٌ في الآخرةِ برضوان اللهِ عنهم يكون أكثرُ من سُرورِهم بهذا النَّعيم كُلِّه. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إذا أنْزَلَ اللهُ أهْلَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ ، قَالَ : ألاَ أُعْطِيكُمْ مَا هُوَ أكْبَرُ مِنْ هَذا كُلِّهِ ؟ فيَقُولُونَ : بَلَى يَا رَب وَمَا أكْبَرُ مِنْ ذلِكَ ؟ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رضْوَانِي فَلاَ أسْخَطُ عَلَيْكُمْ أبَداً ".
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } ؛ أي جاهِدِ الكفَّارَ بالسَّيفِ والمنافقين باللِّسان ، واغْلُظْ على الفَريقين جميعاً ، { وَمَأْوَاهُمْ } ؛ ومصيرُهم في الآخرةِ ، { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ؛ الموضعُ الذي يَصِيرُونَ إليه ، وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ جَاهِدِ الْكُفَّارَ بالْقِتَالِ ، وَالْمُنَافِقِينَ بالْحُدُودِ ، فَإنُّهُمْ كَثِيرُو التَّعَاطِي لِلأَسْبَاب الْمُوجِبَةِ لِلحُدُودِ).
(0/0)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَي وَالْجَلاَّسِ بْنِ سُوَيدٍ وَعَامِرِ ابْنِ النُّعْمَانِ وَغَيْرِهِمْ ، كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلاً ، خَطَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ بتَبُوكَ وَسَمَّاهُمْ رجْساً ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ : لَئِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقّاً عَلَى إخْوَانِنَا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ ، فَسَمِعَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسِ ، فَقَالَ : أجَلْ وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً لَصَادِقٌ وَلأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ.
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ أخْبَرَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ بِمَا قَالَ الْجَلاَّسُ ، فَقَالَ الْجَلاَّسُ : يَكْذِبُ عَلَيٌّ يَا رَسُولَ اللهِ! فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ أنْ يَحْلِفَانِ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَلَفَا جَمِيعاً ، فَرَفَعَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ أنْزِلْ عَلَى نَبيِّكَ وَبَيِّنِ الصَّادِقَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " آمِينَ " فََأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ). ومعناها : يحلِفان المنافقون باللهِ ما تكلَّموا بكَلِمَةِ الكُفرِ ولقد تكلَّموا بها وأظهَرُوا الكفرَ بعدَ إظهارِهم الإسلامَ. وَقِيْلَ : كفَرُوا بقولِهم ذلك بعدَ ما كانوا أسلَمُوا على زَعمِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } ؛ أي قصَدُوا إلى ما لم يَصِلوا إلى ذلك ، والْهَمُّ بالشَّيءِ في اللُّغَة : مقاربته دون الوقُوعِ فيه ، قِيْلَ : إنَّهم كانوا هَمُّوا بقتلِ الذي أنكرَ عليهم قولَهم. وَقِيْلَ : معنى الآية : أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرجَ إلى غزوةِ بَني الْمُصْطَلِقِ ، وقد جَمَعُوا له ليُقاتِلوا ، فالتَقَوا على مائِهم فهزَمَهم اللهُ وسَبَى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ونساءَهم ورجعَ ، فلما نَزَلَ مَنْزِلاً في الطريقِ اختصمَ رجلٌ من أصحاب عبدِالله بن أبَيٍّ ورجلٌ من المخلصِينَ غَفَّاري يقالُ له جَهْجَاهُ ، فلطمَ الغفاريُّ صاحبَ عبدِاللهِ بن أُبَي ، فغضبَ عبدُالله وقالَ : مَا صَحِبْنَا مُحَمَّداً إلاَّ لِتُلْطَمَ ، ثم نظرَ إلى أصحابهِ قال : لقد أمرتُكم أن تكفُّوا طعامَكم عن هذا الرجلِ ومَن معه حتى يتفرَّقوا فلم يفعلوا ، واللهِ لئن رجَعنا إلى المدينةِ ليُخْرِجَنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ ، فقال الغفاريُّ : أتَقُولُ مِثْلَ هَذا؟! وَاللهِ لَئِنْ شِئْتُ لأَلْطُمَنَّكَ ، قال عبدُاللهِ : سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ! فقال زيدُ بن أرقم وكان غُلاماً حديثَ السنِّ : يَا عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّ رَسُولِهِ ، أتَقُولُ هَذا؟! وَاللهِ لأُبَلِّغَنَّ رسُولَ اللهِ مَا قُلْتَ.
ثم انطلقَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأعلمَهُ وعنده عمرُ رضي الله عنه ، فقال عمرُ : يَا رَسُولَ اللهِ مُرْ عَبَّادَ بْنَ قَشٍّ فَيَقْتُلَهُ ، فَقَالَ : " يَا عُمَرُ إذاً يُحَدُِّثُ النَّاسُ أنَّ مُحَمَّداً يَقْتُلُ أصْحَابَهُ " فبلغَ عبدَالله بن أُبَي ما قالَ زيدُ بن أرقم ، فمشَى إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعه أشرافُ الأنصار يصَدِّقونه ويكذِّبون زيداً ويقولون : يُخْشَى أنْ يَكُونَ زيْدٌ قَدْ وَهِمَ ، وكان أبنُ أُبَيٍّ يحلفُ باللهِ ما قالَ ذلك ، فقالَ أُسَيْدُ : يَا رَسُولَ اللهِ ارْفِقْ بعَبْدِاللهِ ، فَوَاللهِ لَقَدْ جَاءَ اللهُ تَعَالَى بكَ وَإنَّ قَوْمَهُ لَيُتَوِّجُونَهُ ، فَهُوَ يَرَى أنَّكَ سَلَبْتَهُ مُلْكاً عَظِيماً.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ اللهَ وَهُوَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، كَانَ لَهُ مَالٌ بالشَّامِ فَأَبْطَئَ عَلَيْهِ ، فَجَهِدَ لِذلِكَ جُهْداً شَدِيداً ، فَحَلَفَ باللهِ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي الْمَالَ الَّذِي لَهُ بالشَّامِ لَنَصَّدَّقَنَّ مِنْهُ ، وَلَنَصِلَنَّ الرَّحِمَ وَلَنُؤَدِّيَنَّ مِنْ حَقِّ اللهِ ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الْمُقِيمِينَ لِفَرَائِضِ اللهِ ، فآتَاهُ اللهُ الْمَالَ الَّذِي كَانَ لَهُ بالشَّامِ ، فَبَخِلَ بمَا وَعَدَ وَلَمْ يَفْعَلْ مَا عَاهَدَ اللهَ عَلَيْهِ).
وعن أبي أمامة الباهلي : " أنَّ ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً ، فَقَلَ لَهُ : " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لاَ تُطِيقُهُ " ثُمَّ رَجَعَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً : فَقَالَ : " وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! أمَا تَرْضَى أنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلَ نَبيَّ اللهِ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه لَوْ سَأَلْتَ اللهَ أنْ يُسَيِّلَ عَلَى الْجِبَالِ ذهَباً وَفِضَّةَ لَسَالَتْ ، يَا رَسُولَ اللهِ أُدْعُ اللهَ أنْ يَرْزُقَنِي مَالاً : فَوَاللهِ لَئِنْ آتَانِي اللهُ مَالاً لأُوتِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " اللُّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
فَاتَّخَذَ غَنَماً فنَمَتْ حَتَّى ضَاقَتْ بهَا أزِقَّةُ الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا ، وَكَانَ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ مَعَ رسُولِ اللهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا ، ثُمَّ نَمَتْ حَتَّى تعَذرَتْ بهَا مَرَامِي الْمَدِينَةِ فَتَنَحَّى بهَا ، وَكَانَ يَشْهَدُ الْجُمَعَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ، ثمَّ يَخْرُجُ إلَيْهَا ، ثُمَّ نَمَتْ فَتَرَكَ الْجُمَعَ وَالْجَمَاعَاتِ ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } اسْتَعْمَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَاتِ ، رَجُلاً مِنَ الأنْصَار وَرَجُلاً مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَكَتَبَ لَهُمَا الصَّدَقَةَ وأَسْنَانَهَا وَأمَرَهُما أنْ يَأْخُذا مِنَ النَّاسِ ، فَأَتَيَا ثَعْلَبَةَ ، قَالَ لَهُمَا : خُذا مِنَ النَّاسِ فَإذا فَرَغْتُمَا فَمُرَّا عَلَيَّ ، فَفَعلاَ فَقَالَ : مَا هَذهِ إلاَّ أخْذُ الْجِزْيَةِ! فَانْطَلَقَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ.
فَرَكِبَ عُمَرُ رَاحِلَتَهُ ، وَمَضَى إلَى ثَعْلَبَةَ ، وَقَالَ : وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ! هَلَكْتَ قَدْ أنْزَلَ اللهُ فِيكَ كَذا وَكَذا ، فَأَقْبَلَ ثَعْلَبَةُ يَبْكِي وَيَحْثُوا التُّرَابَ عَلَى رَأسِهِ وَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ صَدَقَتِي ، فَلَمْ يَقْبَلِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَتَهُ حَتّى قُبضَ ، ثُمَّ أتَى إلَى أبي بَكْرٍ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ ، ثُمَّ أتَى عُمَرَ رضي الله عنه فَلَمْ يَقْبَلْ صَدَقَتَهُ ، فَمَاتَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ وَلَمْ يَقْبَلَ مِنْهُ عُثْمَانُ صَدَقَتَهُ
.
(0/0)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } ؛ أي أعقَبَهم ببخلُهم نفاقاً في قلوبهم إلى يومِ جَزَاءِ البُخلِ. وَقِِيْلَ : معناهُ : فجازَاهم ببُخلهِم نِفَاقاً في قُلوبهم بما أخلَفُوا اللهَ ؛ أي بإخلافِهم بما وَعَدُوا من التصدُّق وكذِبهم فيما قالوا. وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : أوْرَثَهُمْ اللهُ النِّفَاقَ فِي قُلُوبهِمْ بأَنْ حَرَمَهُمُ التَّوْبَةَ كَمَا حَرَمَ إبْلِيسَ). قالوا : وإنَّما أرادَ اللهُ بهذا بأنَّ اللهَ تعالى دلَّنا على أنه لا يتوبُ ، كما دلَّنا حالُ إبليس لأنه لا يتوبٌ ؛ لأن اللهَ سَلَبَ عنه قدرةَ التوبةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } معناهُ على قول الحسنِ وقتادة : (إلَى يَوْمِ يَلْقَونَ اللهَ) أي يلقَون اليومَ الذي لا يملكُ فيه الحكمَ والضرَّ والنفعَ إلا اللهَ ، وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أن مَن نَذرَ نذراً فيه قربةٌ يجوز أن يقولَ : إنْ رزقَني اللهُ ألفَ درهمٍ فعليَّ أنْ أتصدَّقَ بخمسمائةٍ لَزِمَهُ الوفاءُ به ، وفيها دلالةُ جواز تعليق النذر بالشَّرط نحوَ أن يقولَ : إنْ قَدِمَ فلانٌ فلِلَّهِ علَيَّ صيامٌ وصدقة ، وإن ملَكتُ عَبْداً ، أو هذا العبدَ فعلَيَّ أنْ أعتِقَهُ ، وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَإنْ صَلَّى وَصَامَ : مَنْ إذا حَدَّثَ كَذبَ ، وَإذا وَعَدَ أخْلَفَ ، وَإذا عَاهَدَ غَدَرَ ".
(0/0)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ؛ ألم يعلم المنافقون أنَّ اللهَ يعلمُ ما يُسِرُّونَ من الكفرِ ، وما يُناجُونَ فيه فيما بينهم ، وأنَّ الله عالِمٌ بكلِّ شيء خفِيٍّ على العبادِ ، وهذا استفهامٌ بمعنى التوبيخِ.
(0/0)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : ( " وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ ذاتَ يَوْمٍ حِينَ أرَادَ الْخُرُوجَ إلَى غَزْوَةِ َتَبُوكٍ يَحُثُّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ ، وَقَالَ : " اجْمَعُوا صَدَقَاتِكُمْ " فَجَاءَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رضي الله عنه بأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " أكْثَرْتَ! هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئاً ؟ " قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ لِي ثَمَانِيةُ آلاَفٍ ، فَأَمْسَكْتُ أرْبَعَةً لِنَفْسِي وَعِيَالِي وَهَذِهِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ لأُقْرِضَهَا رَبي ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " بَارَكَ اللهُ لكَ فِيمَا أمْسَكْتَ وَفِيمَا أعْطَيْتَ " فَبَارَكَ لَهُ حَتَّى بَلَغَ مَالَهُ حِينَ مَاتَ " وَطَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ فِي مَرَضِهِ وَصَالَحُوهَا عَنْ رُبُعِ ثَمَنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ ألْفاً.
وَبَعْدَهُ جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه بنَحْوٍ مِنْ ذلِكَ ، وَجَاءَ عُثْمَانُ رضي لله عنه وَصَدَقَتُهُ ، وَجَاء عَاصِمُ ابْنُ عَدِيٍّ الأَنْصَارِيُّ بسَبْعَينَ وسْقٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَجَاءَ أبُو عَقِيلٍ بصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَيْلَتِي كُلُّهَا أجُرُّ بالْحَرِيرِ حَتَّى أصَبْتَ ثُلُثَ صَاعَيْنِ ، أمَّا أحَدُهُمَا فأَمْسَكْتُهُ لِعِيَالِي ، وَأمَّا الآخَرُ فَأُقْرِضُهُ رَبي ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَشُدَّهُ فِي الصَّدَقَةِ. فَطَعَنَ فِيهِمْ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُواْ : وَاللهِ مَا جَاءَ هَؤُلاءِ بصَدَقَاِتِهمْ إلاَّ ريَاءً وَسُمْعَةً ، وقَالُوا فِي أبي عَقِيلٍ : إنَّهُ جَاءَ لِيُذكِّرَ بنَفْسِهِ وَيُعطِي مِنَ الصَّدَقَةِ أكْثَرَ مِمَّا جَاءَ بهِ ، وَإنَّ اللهَ أغْنَى عنْ صَاعِ أبي عَقِيلٍ ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَة). ومعنَاها : الذين يُعِيبُونَ الْمُطَّوِّعِينَ من المؤمنين في الصَّدقاتِ وهم المنافقون عَابُوا عمرَ وعثمانَ وعبدَالرحمن بن عوف رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } أي ويُعيبون على الذين لا يَجِدون إلاَّ جُهدَهم ؛ أي طاقَتَهم من الصَّدقاتِ ، عابُوا الْمُكْثِرَ بالرِّياءِ ، والْمُقِلَّ بالإِقْلالِ. والْجُهْدُ بالضمِّ والنصب لُغتان بمعنى واحد ، ويقالُ : الْجَهْدُ بالنصب المشقَّة ، والْجَهْدُ بالضمِّ الطاقةُ ، وَقِيْلَ : الْجَهدُ بالعملِ والْجُهد في القوَّةِ ، قرأ عطاءُ والأعرج (جَهْدَهُمْ) وهما لُغتان مثل الوُجْدِ والوَجدِ ، فالضمُّ لغةُ أهلِ الحجاز ، والفتح لغة أهلُ نَجْدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } ؛ أي يستهزؤن بهم ، { سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ } ؛ أي يُجازيهم جزاءَ سخرتِهم ؛ { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، أي وجيعٌ.
(0/0)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ؛ وذلك لَمَّا نزلت هذه الآيةُ التي قبلَ هذه أتَى المنافقون إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقالوا : يَا رَسُولَ اللهِ اسْتَغْفِرْ لَنَا ، فَكَانَ عليه السلام يَسْتَغْفِرُُ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إسْلاَمِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بنِفَاقِهِمْ ، وَكَانَ إذا مَاتَ أحَدٌ مِنْهُمْ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ الدُّعَاءَ وَالاسْتِغْفَارَ لِمَيِّتِهمْ ، فَكَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ عَلَى أنَّهُمْ مُسْلِمُون ، فَأَعْلَمَهُ اللهُ بأنَّهُم مُنَافِقُونَ ، وَأَخْبَرَ أنَّ اسْتِغْفَارَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَنْفَعُهُمْ ، فذلك قولهُ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وهذه اللفظةُ لفظةُ الأمرِ ، ومعناهُ الخبر ؛ أي إنْ شِئْتَ استغفرتَ لهم ، وإنْ شئتَ لا تستغفِرْ ، فإنَّكَ إنِ استغفرتَ لهم سبعين مرَّة لن يغفرَ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ في بيان العلَّة التي لأجلِها لا ينفعُهم استغفار الرسولِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يرشدهم إلى جنَّتهِ وثوابهِ وكرامته ، وأما تخصيصُ (سَبْعِينَ مَرَّةً) بالذكرِ فهو لتأكيدِ نفي المغفرةِ بهذا ؛ لأن الشيءَ إذا بُولِغَ في وصفهِ أكِّدَ بالسَّبع والسبعين ، وهذه كما يقولُ القائل : لو سألتَني حاجَتَكَ سبعين مرَّةً لم أقضِها ، لا يريدُ أنه إذا أزادَ على السَّبعين قضَى حاجَتَهُ ، ورُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زدْتُ عَلَى السَّبْعِين لَغُفِرَ لَهُمْ لَزِدْتُ عَلَيْهَا ".
(0/0)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ } ؛ أي فرحَ المخلَّفون عن غزوةِ تبوك بقعُودِهم لمخالفةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل بقعودِهم عن الجهاد بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقرأ عمرُو بن ميمون (خَلْفَ رَسُولِ اللهِ) والمخَلَّفُ ما يتركُ الإنسان خَلْفَهُ ، والمتخلِّفُ الذي يتأخَّرُ بنفسه ، والخلافُ قد يكون بمعنى المخالَفةِ ؛ وقد يكون بمعنَى خلَف ، كما في قولهِ تعالى : { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً }[الاسراء : 76] ، ويقرأ خلافَك على المعنَيين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي كَرِهُوا أن يقاتِلُوا المشرِكين مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بأموالِهم وأنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ } ؛ أي قالَ بعضُهم : لا تخرجُوا فإن الحرَّ شديدٌ والسفرَ بعيدٌ ، وكانوا يُدعَون إلى غزوةِ تبوك في وقتِ نُضْحِ الرُّطَب وهو أشدُّ ما يكون من الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } ؛ أي قُلْ لَهم نارُ جهنَّم التي استحقُّوها بتركِ الخروج الى الجهاد أشدُّ حَرّاً من هذا الحرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } ؛ أي لو كانوا يفقَهُون أوامرَ اللهِ ووعدَهُ ووعيدَه.
(0/0)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي فليضحَكُوا قليلاً لأنَّ ذلك لا يَبْقى ولْيَبْكُوا كَثيراً في الآخرةِ في النار ، وفي هذا اللفظُ أمْرٌ ، ومعناهُ الخبر. وَقِيْلَ : تقديرهُ : فليضحَكُوا قليلاً فيبكون كثيراً ، قال أبو موسى الأشعري : (إنَّ أهْلَ النَّار لَيَبْكُونَ الدُّمُوعَ فِي النَّارِ حَتَّى لَوْ جَرِيَتِ السُّفُنُ فِي دُمُوعِهِمْ لَجَرَتْ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَيَبْكُونَ الدَّمَ بَعْدَ الدُّمُوعِ).
قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ أهْلَ النِّفَاقِ لَيَبْكُونَ فِي النَّار عُمْرَ الدُّنْيَا ، فَلاَ يَرِقُّ لَهُمْ دَمْعٌ وَلاَ يَكْتَحِلُونَ بنَوْمٍ) ، قال صلى الله عليه وسلم : " يُرْسِلُ اللهُ الْبُكَاءَ عَلَى أهْلِ النَّار فَيَبْكُونَ حَتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ ، ثُمَّ يَبْكُونَ الدَّمَ حَـتَّى يُرَى وُجُوهَهُمْ كَهَيْئَةِ الأُخْدُودِ " وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً ".
(0/0)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
قْولُه تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } ؛ معناهُ : إنْ رجَعَك اللهُ من تبوك ، إلى طائفةٍ من المنافقين بالمدينة فاستأذنُوكَ للخروجِ معك إلى غزوةٍ أُخرى فقل : لن تَخرجُوا معي أبداً إلى الجهادِ ، ولن تقاتِلُوا معي أبداً إلى الجهادِ ، ولن تقاتِلُوا معي عدُوّاً ، { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ أي في غزوةِ تبوك ، { فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ } ؛ أي مع النِّساءِ والصبيان ، هذا قولُ الحسنِ.
والْخَالِفُ الذي يبقَى بعد الشَّاخِصِ ، وَقِيْلَ : هو الذي يبقَى لنقصٍ يكون فيه. وعن ابن عبَّاس أن معنى الْخَالِفين : (الْمُتَخَلِّفِينَ بغَيْرِ عُذْرٍ) ، وَقِيْلَ : إنَّ هذا مأخوذٌ من قولِهم خَلَفَ اللَّبَنُ إذا فَسَدَ ، والخالِفُ الفاسدُ ، وقيل الخالِفون خُسَّاسُ الناس وأدنياؤهم ، ويقال فلان خَالَفَهُ أهلهُ إذا كان دونَهم ، وَقِيْلَ : مع الخالِفين أي أهلِ الفسادِ من قولِهم يَنْبذُ خَالِفٌ أي فاسدٌ ، وخلَفَ اللبنُ خُلُوفاً إذا حَمِضَ مِن طُولِ وضعهِ في السقاءِ ، وخَلَفَ فمُ الصَّائم إذا تغيَّرت رائحتهُ. وقرأ مالكُ بن دينار (مَعَ الْخَلِفِينَ) بغيرِ ألف ، وقال الفرَّاء : يقالُ عبدٌ خَالِفٌ وصاحبٌ خَالِفٌ إذا كان مُخَالفاً.
(0/0)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } ؛ أي لا تُصَلِّ على أحدٍ ماتَ من المنافقين أبداً ، ولا تَقُمْ على قبرِ أحدٍ منهم لتدفِنَهُ وتدعو له ، { إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ وجحدوا بالله ورسوله بقلوبهم ، وماتوا على الكفرِ والنفاق ، وقال ابنُ عبَّاس : " لَمَّا مَرِضَ عَبْدُاللهِ بْنُ أبي سَلُولٍ بَعَثَ إلَى رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَأْتِيَهُ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُ أنْ يُصَلِّيَ عَلَْيْهِ إذا مَاتَ ، وَأنْ يَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ ، وَأنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي يَلِي جِلْدَهُ ، فَقَبلَ مِنْهُ النَّبِيُّّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا مَاتَ عَبْدُاللهِ انْطَلَقَ ابْنُهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَدَعَاهُ إلَى جِنَازَةِ أبيهِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا اسْمُكَ ؟ " قَالَ : الْحَبَّابُ بْنُ عَبْدِاللهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " أنْتَ عَبْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ ، إنَّ الْحَبَّابَ هُوَ الشَّيْطَانُ ".
ثُمَّ انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ ، فَلَمَّا قَامَ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ أتُصَلِّي عَلَى عَدُوِّ اللهِ الْقَائِلِ يَوْمَ كَذا وَكَذا؟! فَقَالَ : " دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ عُمَرُ لِمَقَالَتِهِ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " دَعْنِي يَا عُمَرُ " فَعَادَ لِمَقَالَتِهِ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : " قَدْ خُيِّرْتُ فِي ذلِكَ ، وَلَوْ عَلِمْتُ أنِّي إذا اسْتَغْفَرْتُ لَهُ أكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً غُفِرَ لَهُ لَفَعَلْتُ " وَقَالَ : " تَأَخَّرَ عَنِّي يَا عُمَرُ " قَالَ عُمَرُ : فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ { وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } " يعني بعدَ ما صلَّيتَ على عبدِاللهِ بن أُبَي.
" ورُوي أنَّ عَبْدِاللهِ بْنَ أُبَيٍّ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بَعَثَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ أحَدَ ثَوْبَيْهِ يُكَفَّنُ فِيْهِ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ بأَحَدِهِمَا ، فَقَالَ : مَا أُريدُ إلاَّ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ مِنْ ثِيَابِكَ ، فَوَجَّهَ إلَيْهِ بذلِكَ ، فَقيلَ لَهُ في ذلِكَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ قَمِيصِي لَنْ يُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً ، وَعَسَى أنْ يُسْلِمَ بسَبَب هَذا الْقَمِيصِ خَلْقٌ كَثيرٌ " " فَأْسْلَمَ ألفٌ من الخوارجِ! لَمَّا رأوُهُ يطلبُ الاستشفاعَ بثوب رسولِ اللهِ صلى الله عليه سلم.
قال ابنُ عبَّاس : (اللهُ أعْلَمُ أيُّ صَلاَةٍ كَانَتْ تِلْكَ وَمَا خَادَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنْسَاناً قَطُّ) ، وقال مقاتلُ : (إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرَادَ أنْ لاَ يُصَلِّيَ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ أُبَيٍّ ، جَاءَ إلَيْهِ ابْنُهُ فَقَالَ : أنْشُدُكَ باللهِ أنْ لاَ تُشَمِّتْ بيَ الأَعْدَاءَ ، وَكَانَ ابْنُهُ مُؤْمِناً حَقّاً فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَانْصَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ).
(0/0)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ } ؛ أي لا تعجبْكَ كثرةُ أموالهم وأولادِهم في الدُّنيا ، إنما يريدُ الله أن يعذِّبَهم بها ، ويخرجَ أرواحَهم بصعوبةٍ ، { وَهُمْ كَافِرُونَ } ؛ هذا على التقديمِ والتأخير في الآيةِ على ما تقدُّم ذكرهِ ، فأما التأويلُ على نَظْمِ الآية ، فمعناهُ : إنما يريدُ الله أن يعذِّبَهم بها في الدُّنيا بالتشديدِ عليهم في التكليف بالإنفاقِ والأمرِ بالجهاد.
فإنْ قِيْلَ : لِمَ أعادَ قولَهُ { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَـادُهُمْ } ؟ قِيْلَ : فيه قولان : أحدُهما بشدَّة التحذيرِ عن الاغترارِ بالأموال والأولاد ، والثاني : أنه أرادَ بالأول قَوْماً من المنافقين ، وأرادَ بالثاني قوماً آخَرين منهم ، كما يقالُ : لا تعجِبْك أموالُ زيدٍ وأولادهُ ، ولا تعجبك أموالُ عمرٍو وأولادهُ.
(0/0)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ } ؛ أي إذا أُنزلت من القرآن قِطْعَةٌ مشتملةٌ على آياتٍ أحاطَت بها أن آمِنُوا باللهِ أي صدِّقوا وداوِمُوا على الإيمان وجاهِدُوا الكفارَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم استأذنكَ في القعودِ عن الجهاد ذوُو السَّعةِ والغِنَى منهم ، { وَقَالُواْ ذَرْنَا } ؛ دَعْنا وَاذنْ لنا ، { نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ } ؛ عن الجهادِ. والطَّوْلُ في الحقيقة هو الْفَضْلُ الذي يتمكَّن به من مُطوَلةِ الأعداءِ.
(0/0)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ } ؛ أي رَضِيَ المنافقون بأنْ يكونوا في تخلُّفِهم عن الجهادِ مع النساءِ المتخلِّفات في الحيِّ بعد غزوةِ أزواجهنَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } ؛ يعني الطبعُ في اللغة جعلُ الشيءِ كالطَّابعِ نحو طَبْعِ الدِّينار والدرهم ، ويجوز أنْ يكون الطبعُ على القلب علامةً يَقْفِلُ اللهُ بها قلبَ الكافرِ المعاند ليعلمَ من يطَّلعُ عليه من الملائكةِ أنه لا يجتهدُ في طلب الحقِّ ، فهُم لا يفقهون أوامرَ اللهِ ونواهيه.
(0/0)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَـاكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } ؛ لكن الرسولُ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والذين آمَنُوا معه ، وهم أهلُ اليقين من الصحابةِ ، جاهَدُوا بأموالهم وأنفسِهم على ضدِّ ما فَعَلَ المنافقون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلَـائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ } ؛ يجوزُ أن يكون معناه : أولئكَ لهم الحسَناتُ المقبولات ، فإن الخيرات منافعُ تسكنُ النفس إليها ، ويجوز أن يكون معناهُ : الزَّوجاتُ الحسنات في الجنَّة ، كما قال اللهُ فيهن{ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ }[الرحمن : 70] واحدةُ الخيرات خَيْرَةٌ ، وهي الفاضلةُ في كلِّ شيء ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي الظَّافرون بالْمُرادِ.
(0/0)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي أعدَّ اللهُ لهم في الجنَّة بساتين تجرِي من تحتِها وشجرِها ومساكنها الأنهارُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ أي مُقيمين دائمين فيها لا يَموتون ولا يُخرَجون منها ، { ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ أي هو النجاةُ الوافرة ، فازُوا بالجنَّة ونعيمِها ، ونَجَوا من النارِ وجَحيمِها.
(0/0)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } ؛ قرأ ابنُ عبَّاس والضحاك ومجاهد : (الْمُعْذرُونَ) بالتخفيفِ وهم الذين اعتذرُوا ؛ أي جاؤا بالعُذْرِ ، وأمَرَهم رسولُ الله بالتخلُّف بعُذرِهم وهم من المخلَّفين ، وَقِيْلَ : الْمُعْذرُونَ بالتخفيفِ المبالِغُون في العُذرِ ، كان صلى الله عليه وسلم يقول : " لَعَنَ اللهُ الْمُعَذِّرُونَ " بالتشديدِ يعني الذين يقبلون في التخلُّف بلا علَّة يُوهِمُونَ أنَّ لهم عذراً ، ولا عُذرَ لهم ، والتعذيرُ التقصيرُ في الشيءِ مع طلب العُذرِ.
وأما القراءةُ المشهورة (الْمُعَذِرُونَ) بالتشديد فمعناها ما تقدَّم يعني الْمُقَصِّرِينَ ، قال الفرَّاءُ : (أصْلُهُ الْمُعْتَذِرُونَ ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذالِ وَثُقِّلَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ إلىَ الْعَيْنِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ قرأ العامَّة (كَذبُوا) مخففاً يعني المنافقين قعدَت طائفةٌ منهم من دون أنْ يعتذروا ، وقرأ أُبَي والحسن : (كَذبُوا) بالتشديد ، وقوله تعالى : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ يجوز أن تكون الفائدةُ في دخولِ (مِنْ) بيانُ أنَّ منهم مَن يسلَمُ ، ومنهم من يموتُ على كُفرهِ ونفاقهِ.
(0/0)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ أي ليس على الْمَرْضَى والشُّيوخ الكبار ، ولا على المرضَى الذين لا يقدِرون على الخروج إلى الجهادِ ، ولا على الذين لا يكون عندَهم نفقةٌ يُنفِقونَها في الجهادِ وهم الفقراءُ ، ليس عليهم مَأْثَمٌ في القعودِ عن ذلك إذا كان قعودُهم على وجهِ النُّصْحِ للهِ ورسوله ، وهو إنْ سَعَوا في إصلاحِ ذات البَين وما يرجعُ على الجهادِ ، ولا يكون قعودُهم للتثريب على المسلمين وإفسادِ شيءٍ من أمرِهم. والنُّصْحُ : إخراجُ الغِشِّ عن العملِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } ؛ أي ما على الْمُطِيعِينَ الموحِّدِين من سبيلٍ في العقاب ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ } ؛ لذُنوبهم ، { رَّحِيمٌ } ؛ إذا أرْخَصَ لهم في القعودِ بالعُذرِ.
(0/0)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } ؛ أي وليس على الذين إذا ما أتَوكَ لَتحمِلَهم إلى الجهادِ بالنَّفقةِ ، { قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } ؛ فهؤلاءِ ليس عليهم حرجٌ في العقودِ عن الجهاد ، قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِه الآيَةُ فِي سَالِمِ بْنِ عُمَيرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ وَعَمْرِو بْنِ الْحَضْرَمِيِّ وَعُبَيْدِاللهِ بْنِ كَعْبٍ وَعَبْدِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَمَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَصَخْرِ بْنِ سَلَمَةَ الَّذِي كَانَ وَقَعَ عَلَى امْرَأتِهِ فِي رَمَضَانَ ، فَأَمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُكَفِّرَ ، وَنَفَرٌ مِنْ بَنِي مُزَيْنَةَ مِنْ أهْلِ الحَاجَةَ ، أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : يَا نَبِيَّ اللهِ قَدْ نُدِبْنَا لِلْخُرُوجِ مَعَكَ ، فَاحْمِلْنَا لِنَغْزُوا مَعَكَ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُمْ : [لاَ أجِدُ مَا أحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ] فَتَوَلَّوا وَهُمْ يَبْكُونَ) فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } ؛ وقال الحسنُ : (نَزَلَتْ فِي أبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الأَشْعَرِيِّينَ).
(0/0)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ } معناهُ : إنَّما السبيلُ في العقاب على الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ في القُعودِ عنكَ وهم أغنياءُ ، { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ } ؛ أي مع النِّساءِ ، { وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ؛ مُجَازَاةً لهم على فِعلِهم ، { فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أوامرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
قولهُ : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ } ؛ أي يَعْتَذِر ُالمنافقون إليكم إذا انصرَفتُم إليهم من هذهِ الحرب في قعُودِهم على الجهاد ، { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ } ؛ فإنه بصير بكم وهو اللهُ تعالى ، { لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } ؛ لن نُصَدِّقَكُمْ ، { قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } ؛ قد أخبرنا الله من أسرَاركم أنه ليس لكم عذرٌ ، { وَسَيَرَى اللَّهُ } ؛ أي يُظهِرُ ، { عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ } ؛ في الآخرةِ ، { إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم } ؛ ما غابَ عن العبادِ ، وما عَمِلَهُ العبادُ فيَجزِيَكم ، { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ.
(0/0)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ } ؛ أي سيحلفُ المنافقون باللهِ في ما يعتذِرُون إليكم إذا رجعتُم إليهم لتُعرِضَوا عنهم ، { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ } ؛ فلا تُعاقِبُوهم على جهةِ الْهَوَانِ لَهم ، { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } ؛ أي هم النَّتَنُ الذي يجبُ الاجتناب عنه فاجتنِبُوهم ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ ومصيرُهم جهنَّمُ ، { جَزَآءً } ؛ لهم على فعلِهم { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.
(0/0)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } ؛ أي يحلِفُون لكم في الاعتذار لتَرضَوا عنهم أنتُم من دونِ أنْ يطلبُوا رضَى اللهِ ، { فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } فإن أنتَ رضيتَ يا مُحَمَّدُ والمؤمنون بحلفِهم الكاذب ، { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } ؛ أي عن الخارجِين عن طاعةِ الله.
(0/0)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً } ؛ أرادَ بالأعراب أسَداً وغَطَفَانَ ، بيَّن اللهُ أنَّهم في كفرِهم ونفاقِهم أشدُّ من مُنافِقي أهلِ المدينة. وَقِيْلَ : معناهُ : أهلُ البَدْوِ أشدُّ كُفراً ونفاقاً من أهلِ الحضَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؛ أي أحرَى وأولَى ألاّ يعلَمُوا حدودَ ما أنزلَ اللهُ على رسولهِ ؛ لأنَّهم أبعدُ من سماعِ التَّنْزِيلِ وإنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قِيْلَ : إن مَن بَعُدَ من الأمصار ونَأَى من حضرةِ العُلماءِ كان أجهلَ بالأحكامِ والسُّنن ممن جالسَهم ويسمعُ منهم ، ولهذا لا إمامةَ لأعرابيٍّ في الصلاةِ.
(0/0)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ } معناه : ومِنْ الأعراب من يتَّخذُ ما ينفقُ في الجهاد يحسبهُ غَرماً ، ولا يحتسبُ فيه الأجرَ ولا يرجو الثوابَ به ، إما ينفقُ خَوْفاً أو رياءً ، وينتظرُ بكم الموتَ والهلاك ، ودوائرَ الزَّمانِ وصُرُوفَهُ ، يعني أنَّهم ينتظرون أنْ ينقلبَ الزمانُ عليكم بمَوتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وظهورِ المشركين ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ } ؛ أي عاقبةُ السَّوْءِ والهلاكِ ، وإنما ينظرُون بكم ما نَزَلَ بهم ، والسَّوءُ بفتح السِّين المصدرُ ، وبالضَّمِّ الاسمُ ، وقولهُ تعالىَ : { وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ؛ ظاهرُ المراد.
(0/0)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ معناهُ : من الأعراب من يصدِّقُ بالله واليوم الآخر في السرِّ والعلانية ، قِيْلَ : إنَّ المرادَ من هذه الآية أسْلَمَ وغَفَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ } أي يتخذُ نفقتَهُ في الجهادِ تقرُّباً إلى اللهِ تعالى في طلب المنْزلةِ عنده والثواب ، وقوله تعالى : { وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ } أي يطلبُ بذلك دعاءَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم بالمغفرةِ وصلاحِ الدُّنيا والآخرة ، كما يطلبُ المنْزلةَ عندَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } ؛ هذه كلمةُ تنبيهٍ ؛ أي سيقرِّبُهم الله بهذا الإنفاقِ إذا فعلوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ } ؛ أي في حَسَنَتِهِ وثوابهِ ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لذُنوب العبادِ ، { رَّحِيمٌ } ؛ لِمَن تابَ وأطاعَ.
(0/0)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ } ؛ أرادَ بالسَّابقِينَ الذين سَبَقوا إلى الإيمان ، وهم الذين صَلَّوا إلى القِبلَتَين وشَهِدُوا بَدْراً ، وقال الشعبيُّ : (هُمْ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ بالْحُدَيْبيَةِ) ، وَقِيْلَ : همُ الذين أنفَقُوا قبلَ الهجرةِ ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ }[الحديد : 10].
وإنَّما مَدَحَ السابقين لأن السابقَ إمامٌ للتالي ، وقولهُ تعالى : { وَالأَنْصَارِ } عطفٌ على المهاجرين ، وقرأ بعضُهم (وَالأنْصَارُ) بالرفعِ عطفاً على السَّابقين ، وعن عمر رضي الله عنه : (وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) بغيرِ الواو ، وسمِعَ رجُلاً قرأ (وَالَّذِينَ) بالواوِ فقالَ : (مَنْ أقْرَأكَ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قَالَ : أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ، قَالَ : لاَ تُفَارقْنِي حَتَّى أذهَبَ بكَ إلَيْهِ ، فَلَمَّا أتَاهُ قَالَ لَهُ : يَا أُبَيُّ أقْرَأتَهُ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ عُمَرُ رضي لله عنه : كُنْتُ أظُنُّ أنَّا ارْتَفَعْنَا رفْعَةً لاَ يَبْلُغُهَا أحَدٌ بَعْدَهَا ، فَقَالَ أُبَيُّ : تَصْدِيقُ هَذِهِ الآيَةِ أوَّلُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ{ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ }[الجمعة : 3] وَأوْسَطُ سُورَةِ الْحَشْرِ{ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ }[الحشر : 10].
وقوله تعالى : { بِإحْسَانٍ } والإحسانُ هو فعلُ الحسَنِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ؛ أي رَضِيَ اللهُ عنهم بإحسانِهم ، ورَضُوا عنه بالثَّواب والكرامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ في هذا الموضعِ بغير (مِنْ) إلا ابنَ كثير فانه يقرأ (مِنْ تَحْتِهَا).
(0/0)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } ؛ أي ومِن حولِ مَدينَتِكم من الأعراب مُنافقون ، قِيْلَ : إنَّهم مُزَينَةُ وجُهَيْنَةُ. وقولهُ تعالى : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ } ؛ أي ومِن أهلِ مَدينتكم مُنافقون. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ } أي أقاموا وثَبَتُوا على النفاقِ ، { لاَ تَعْلَمُهُمْ } ؛ يا مُحَمَّدُ بأعيانِهم ، { نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } ؛ ونعلمُ نِفَاقَهم ، { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } ؛ أرادَ العذابَ الأول الفَضِيحَةَ والإخراجَ من المسجدِ ، والعذابَ الثاني عذابَ القبرِ.
رُوي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيباً يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : " " يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ ، يَا فُلاَنُ أُخْرُجْ فَإنَّكَ مُنَافِقٌ " فَأخْرَجَهُمْ بأسْمَائِهِمْ ". وَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ لِحَاجَةٍ لَهُ ، فَلَقِيَهُمْ وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَاخَْتَبَأَ عَنْهُمْ اسْتِحْيَاءً ؛ لأنَّهُ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ ، وَظَنَّ النَّاسُ قَدِ انْصَرَفُواْ ، وَاخْتَبَؤُا هُمْ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَظَنُّوا أنْ قَدْ عَلِمَ بأَمْرِهِمْ. فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ وإذَا هُوَ بالنَّاسِ لَمْ يُصَلُّوا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا عُمَرُ قَدْ فَضَحَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ.
وقال الحسنُ : (أرَادَ بالْعَذاب الأَوَّلِ السَّبْيَ وَالْقَتْلَ ، وَبالثَّانِي عَذابَ الْقَبْرِ) ، وقولهُ تعالى : { ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } ؛ أرادَ به عذابَ جهنَّم.
(0/0)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } ؛ أي في المدينة قَومٌ آخَرون أقَرُّوا بذنوبهم ، خَلطوا عَملاً صالحاً بعملٍ سيِّء ؛ أي تخلَّفوا عن الغزو ثم تابوا ، ويقال : خرَجُوا إلى الجهادِ مرَّةً وتخلَّفوا مرة ، فجمَعُوا بين العملِ الصالح والعمل السيِّء ، كما يقالُ : خَلَطَ الدنانيرَ والدراهمَ ؛ أي جمعَها ، وخلطَ الماء واللَّبنَ ؛ أي أحدَهما بالآخرِ.
وقولهُ تعالى : { عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ؛ أي يتجاوزَ عنهم ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لِمَا سلفَ من ذُنوبهم { رَّحِيمٌ } ؛ بهم إذ قََبلَ توبتَهم. وإنما ذكرَ لفظ (عَسَى) ؛ ليكون الإنسانُ بين الطمعِ والإشفاق ، فيكون أبعدَ من الاتِّكالِ والإهمالِ.
قال ابنُ عبَّاس : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِر وأوْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَوَدِيعَةَ ابْنِ حُذامٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَانُوا عَشْرَةَ أنْفُسٍ ، تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكٍ ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ مَا أنْزَلَ الله عِنِ الْمُتَخَلّفِينَ نَدِمُوا عَلَى صَنِيعِهِمْ ، فَرَبَطَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أنْفُسَهُمْ عَلَى سَوَاري الْمَسْجِدِ ، وَأقْسَمُواْ أنْ لاَ يَحُلُّوا أنْفُسَهُمْ حَتَّى يَكُونَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم الَّذي يَحُلُّهُمْ ، وَكَانُوا لاَ يَخْرُجُونَ إلاَّ لِحَاجَةٍ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهَا.
وَكَانُواْ عَلَى ذلِكَ حَتَّى قَدِمَ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ فَأُخْبرَ بأَمْرِهِم ، فَقَالَ : صلى الله عليه وسلم : " وَأنَا لاَ أحُلُّهُمْ حَتَّى أؤْمَرَ بهِمْ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَعَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ (عَسَى) مِنَ اللهِ وَاجِبةٌ ، وَأمَرَ بحَلِّهِمْ وَانْطَلَقُواْ إلَيْهِ ، وَقَالُواْ : هَذِهِ أمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ ، فَخُذْهَا فَتَصَدَّقْ بهَا عَنَّا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أُمِرْتُ فِيْهَا بشَيْءٍ " فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } ؛ ظاهرُ الآية يقتضي رجوعَ الكنايةِ في قولهِ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي المذكُورين ، وقيلَ : وهمُ الذين اعترَفُوا بذنوبهم ، إلاَّ أنَّ كُلَّ حُكمٍ حَكَمَ اللهُ ورسولهُ في شخصٍ مِن عبادهِ ، فذلك الحكمُ لازمٌ في سائرِ الأشخاصِ ، إلاَّ ما قامَ دليلٌ التخصيصِ به.
وَقِيْلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ابتداءٌ ذُكِرَ لجميعِ المسلمين لدلالةِ الحال على ذلك وإنْ لم يتقدَّم ذكرُ المسلمين كقوله تعَالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }[القدر : 1] يعني القُرْآنَ. ومعنى الآية : تُطهِّرُهم عن الذنوب وتُزَكِّيهم بها ؛ أي تُصلِحُ أعمالَهم. وَقِيْلَ : معناهُ : تُطهِّرُهم أنتَ بها من دَنَسِ الذُّنوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } ؛ أي استغفِرْ لهم وَادْعُ لَهم ، { إِنَّ صَلَاوتَك سَكَنٌ } ؛ أي إنَّ دعاءَكَ واستغفارَكَ طمأنينةٌ ، { لَّهُمْ } ؛ في أنَّ الله يقبَّلُ توبتَهم ، { وَاللَّهُ سَمِيعٌ } ؛ بمقالتِهم ، { عَلِيمٌ } ؛ بنِيَّاتِهِمْ وثوابهم.
(0/0)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } ؛ استفهامٌ بمعنى التَّنبيهِ ، وقبولُ التوبةِ إيجابُ الثواب عليها ، وقولهُ تعالى { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } أرادَ به أخذُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم والأئِمَّةِ بعدَهُ ؛ لأن أخذهم لا يكون إلاَّ بأمرِ اللهِ ، وكأنَّ اللهَ هو الآخذُ ، { وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } ؛ أي المتجاوزُ عن مَن تَابَ ، { الرَّحِيمُ } ؛ عن مَن ماتَ على التوبةِ.
(0/0)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } ؛ أي اعملُوا عملَ مَن يعلمُ أنَّ اللهَ يرى عملَهُ ويتجاوزُ به ، ظاهرُ المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } معناهُ : مِنْ أهلِ المدينة قومٌ آخرون مُرْجُونَ لأمرِ الله إمَّا يُعذِّبُهم بتخلُّفِهم عن الجهادِ ، وإمَّا يتجاوزُ عنهم بتوبَتِهم عن الذنوب ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بهم { حَكِيمٌ } يحكمُ في أمرِهم ما يشاءُ. و(إمَّا) في الكلامِ بوقوع أحدِ الشَّيئين ، واللهُ تعالى عالِمٌ بما يصيرُ إليه أمرُهم ، إلاّ أنَّ هؤلاء العبادَ خُوطِبُوا بما يتفَاهَمُون فيما بينهم ليكون أمرُهم عندَكم على هذا ، أي على الخوفِ.
قال ابنُ عبَّاس : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الثَّلاَثِة الَّذِينَ خُلِّفُوا وَهُمْ : كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمَرِّيُ ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ ، وَهُمْ مِنَ الأَنْصَارِ تَخَلَّفُواْ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : أنا أفْرَهُ أهْلِ الْمَدِينَةِ جَمَلاً فَمَتَى مَا شِئْتَ لَحِقْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأقَامَ حَتَّى مَضَتْ عَلَيْهِمْ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ثُمَّ آيَسَ أنْ يَلْحَقَهُمْ وَنَدِمَ عَلَى صَنِيعِهِ ، وَأقَامَ صَاحِبَاهُ مَعَهُ ، وَنَدِمَا لَكِنْ لَمْ يَفْعَلاَ مَا فَعَلَهُ أبُو لُبَابَةَ وَأوْسُ وَوَدِيعَةُ.
فَفَقَدَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ، وَنَهَى النَّاسَ عَنْ أنْ يُجَالِسُوهُمْ أوْ يُوَاكِلُوهُمْ أوْ يُشَارِبُوهُمْ ، وَأرْسَلَ إلَيْهِمْ أنِ اعْتَزِلُوا نِسَاءَكُمْ ، وَأرْسَلَ إلَى أهْلِيهِنَّ ، فَجَاءَتِ امْرَأةُ هِلاَلٍ فَقَالَتْ : إنَّ هلاَلاً شَيْخٌ كَبيرٌ وَإنْ لَمْ آتِهِ بطَعَامٍ هَلَكَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَإيَّاكِ أنْ يَقْرَبَكِ " قَالَ كَعْبٌ : فَمَرَرْتُ عَلَى أبي قَتَادَةَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ ، وَكَلَّمْتُهُ فَأَبَى أنْ يُكَلِّمَنِي ، فَاسْتَعْبَرْتُ وَقُلْتُ : أمَا وَاللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنِّي أحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ. قَالَ : اللهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. فَمَضَى عَلَى هَذا خَمْسُونَ يَوْماً ، فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بَما رَحُبَتْ أنْزَلَ اللهُ { هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ".
(0/0)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " وَذلِكَ أنَّ سَبْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ قَالُواْ فِيْمَا بَيْنَهُمْ : تَعَالَوا نَبْنِي مَسْجِداً يَكُونُ مُتَحَدَّثَنَا وَمَجْمَعَ رَأينَا بأَنْ تَأْتُوا إلَى رَسُولِ اللهِ وَتَسْتَأْذِنُوهُ أنْ نَبْنِي مَسْجِداً لِذوي الْعِلَِّةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ. فَأَذِنَ لَهُمْ فَبَنَوا مَسْجِداً ، وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ فِي ذلِكَ الْمَسْجِدِ مَجْمَعُ بْنُ الْحَارِثَةِ ، وَكَانَ قَارئاً لِلْقُرْآنِ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : والذين اتَّخَذُوا مسجداً للضِّرارِ والكُفرِ والتفريقِ بين المؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ } أي وانتِصاراً لِمَن حاربَ اللهَ ورسولَهُ ، وهو أبو عامرِ الراهب كان حارَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبلَ بناءِ هذا المسجدِ ، ومضَى إلى هِرَقْلَ مَلِكِ الرُّومِ يستعينُ به على النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ ، فسماهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسِقاً ، قال : " لاَ تُسَمُّوهُ الرَّاهِبَ " ، وَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَمَاتَ كَافِراً بقِنِسْرِينَ مَوْضِعٌ بالشَّامِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى } ؛ معناهُ : ليحلفَ المنافقون أنَّا لم نُرِدْ ببناءِ هذا المسجدِ إلا الخيرَ ، وهم كَذبَةٌ في حلفِهم لقولهِ تعالى : { وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ ما بَنَوْهُ للخيرِ.
" روي أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِراً أقْبَلَ إلَيْهِ أبُو عَامِرٍ هَذا الْمَذْكُورُ فَقَالَ لَهُ : مَا هَذا الَّذِي جِئْتَ بهِ ؟ قَالَ : " الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ " قَالَ أبُو عَامِرٍ : وَأنَا عَلَيْهَا ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " فَإنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا " قَالَ : بَلَى ؛ وَلَكِنَّكَ أدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَا فَعَلْتُ ذلِكَ ، وَلَكِنْ جِئْتُ بهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً " فَقَالَ أبُو عَامِرٍ : أمَاتَ اللهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيداً وَحيداً غَرِيباً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " آمِينَ " فَسَمَّاهُ أبُو عَامرِ الفَاسِقِ. فَلَمْ يَزَلْ أبُو عَامِرٍ كَذِلَك إلَى أنْ هُزِمَتْ هَوَازِنُ ، فَخَرَجَ هَارِباً إلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إلَى الْمُنَافِقِينَ أنِ اسْتَعِدُّوا بمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَسِلاَحٍ وَابْنُوا لِي مَسْجِداً ، فَإنِّي ذاهِبٌ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ ، وَآتٍ بجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ وَأخْرِجُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ. فَبَنَوا مَسْجِداً إلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ، وَكَانَ الَّذِينَ بَنَوْهُ اثْنَى عَشَرَ رَجُلاً.
فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْهُ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُتَجَهِّزٌ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِداً لِذوِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ ، وَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَأْتِيَهُ فَتُصَلِّيَ لَنَا فِيْهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بالْبَرَكَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ ، وَلَوْ قَدِمْنَا لأتَيْنَاكُمْ إنْ شَاءَ اللهُ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيْهِ ".
فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكٍ أتَوْهُ فَسَأَلُوهُ إتْيَانَ مَسْجِدِهِمْ ، فَدَعَا بقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ وَيَأتِيَهُمْ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَأعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بخَبَرِهِمْ وَمَا هَمُّوا بهِ ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَالِكَ بْنَ الدَّهْشَمِ وَمَعَنَ بْنَ عَدِيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وَالْوَحْشِيَّ قَاتِلَ حَمْزَةَ ، وَقَالَ لَهُمْ : " انْطَلِقُوا إلَى هَذا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أهْلُهُ فاهْدُمُوهُ وَحَرِّقُوهُ " فَخَرَجُواْ سِرَاعاً ، فَأَخَذُوا سَعْفاً مِنَ النَّخْلِ ، وَأشْعَلُواْ فِيْهِ النَّار وَهَدَمُوهُ ، وَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يُتَّخَذ كِنَاسَةً يُلْقَى فِيْهِ الْقِمَامَةُ وَالْجِيَفُ ، وَمَاتَ أبُو عَامِرٍ بالشَّامِ وَحِيداً غَرِيباً. "
(0/0)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } ؛ أي لا تُصَلِّ في مسجدِ هؤلاء المنافقين أبداً ، { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } ؛ يعني مسجدَ قُباء أُسِّسَ لوجهِ الله منذ أوَّلِ يوم بُنِيَ ، ويقال : هو مسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحقُّ أن تصلِّي فيه ، ولا يمتنعُ أن يكون المرادُ المسجدِ الذي أُسِّسَ على التَّقوَى كِلاَ المسجدَين ، ومسجدُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومسجد قُبَاءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } ؛ في مسجدِ قُبَاءٍ رجالٌ يُحِبُّونَ أن يتطهَّرُوا. قال الحسنُ : (مَعْنَاهُ يَتَطَهَّرُونَ مِنَ الذُّنُوب بالتَّوْبَةِ).
والمشهورُ أن المرادَ بالتطهيرِ في هذه الآيةِ الاستنجاءُ بالماء كما رُوي : " أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ببَاب قِبَاءٍ وَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ إنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ قَدْ أحسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْكُمْ فِي طُهُورِكُمْ ، فَبمَ تَطَّهَّرُونَ ؟ " قَالُوا : إنَّا نُتْبعُ الأَحْجَارَ بالْمَاءِ ؛ أي نستجمرُ بالحجرِ ثم نستنجي بالماءِ ، فقرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ ، وسَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الاستنجاءَ بالماءِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } ؛ أي أثنَى على المطَّهَّرين من الذُّنوب ، والمتطهِّرين بالماءِ من الأدناسِ.
(0/0)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قَوْلُهُ تعَالَى : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } ؛ الألِفُ في أوَّلِ الآية ألِفُ استفهامٍ دخلَتْ في الكلامِ للإِنكار ، وقولهُ تعالى { جُرُفٍ هَارٍ } أي على طَرَفِ الْهُوَّةِ ، وقوله { هَارٍ } ساقِطٍ ، وأصلهُ هَايرٍ ، إلا أنه حذفَ الياء.
والْجُرُفِ : ما تَمُرُّ به السيولُ من الأوديةِ فتسيرُ جانبَهُ وتنثرهُ ، ولو وقفَ الإنسانُ عليه لسقطَ وانْهَارَ ، وشَفَا الشَّيءِ حَرْفُهُ وهو مقصورٌ يكتبُ بالألفِ وتَثْنِيَتُهُ شِفْوَان.
قرأ نافعُ وأهل الشام بضمِّ الهمزةِ والنون على غير تسمية الفاعلِ ، وقرأ الباقون بفتحِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ } ، قرأ ابنُ عمر (تَقْوًى) منوَّن ، وقوله تعالى { جُرُفٍ } قرأ ابنُ عامر وحمزةُ وأبو بكر وخلَف بالتخفيفِ ، وقرأ الباقون بالتَّثقيلِ وهما لُغتان ، وهي البَرُّ التي لم تُمطَرْ ، وقال أبو عُبيد : (بَنَى الْهُوَّةَ وَالرَّمْلَ) والشيءُ الرَّخْوُ وما يجرفهُ السيَّلُ في الأودِيَةِ ، والهايرُ الساقطُ الذي يتداعَى بعضه على إثْرِ بعضٍ كما يتهاوَى الرملُ ، والشيء الرَّخْوُ ، وفي مُصحف أُبَيّ (فَانْهَارَتْ بهِ قَوَاعِدُهُ فِي نَار جَهَنَّمَ). قال قتادةُ : (ذكِرَ لَنَا أنَّهُ حُفِرَتْ بُقْعَةٌ مِنْهَا فَرُؤيَ الدُّخَّانُ يَخْرُجُ مِنْهَا) ، وقال جابرُ بن عبدِالله : (رَأيْتُ الدُّخَّانَ يَخْرُجُ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَار).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } ؛ أي انْهَارَ الْجُرُفُ بالبناءِ ؛ أي هارَ به ؛ أي كما أنَّ مَن بنَى على جانب نَهْرٍ صفة ما ذكرنا انْهَارَ بناؤهُ في النَّهْرِ ، فكذلك بناءُ أهلِ النِّفاق مسجد الشِّقاق كبناءٍ على جُرُفِ جهنَّم يتهوَّرُ بأهلهِ فيها. وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي لا يوفِّقُهم ولا يَهدِيهم الى جنَّتهِ وثوابهِ.
(0/0)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } ؛ أي لا يزالُ بنيانُهم مسجدَ الضرار حيرةً متردِّدة في قلوبهم ، ويقال شَكّاً واضطِرَاباً ، يعني أن شَكَّهم لا يزالُ وإن زيلَ ذلك البناءُ ، بل يبقى ذلك في قلوبهم حتى خابَ أمَلُهم ، اشتدَّ أسَفُهم بأنْ بعثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عامر بن قيس وَوَحشياً مولَى مُقَطَّمِ بن عدِيٍّ فخرَّباهُ وهدَماهُ ، ثم أمرَ الأنصارَ بإلقاءِ الجِيَفِ والعَذْرَاتِ الكِنَاسَاتِ فيه ، إذ لم يُبْنَ لله تعالى ، فبَقِيَ ذلك حسرةً وندامة في قلوب المنافقين حتى تقطَّع قلوبُهم ؛ أي حتى يموتَ على ذلك.
ويقالُ : معناهُ : لا يزالون شاكِّين حين يموتُوا ، فإذا ماتُوا صاروا إلى اليقينِ حيث لا ينفعُهم اليقين قال السديُّ : (مَعْنَاهُ : لاَ يَزَالُ هَدْمُ بُنْيَانِهِمْ الَّذِي بَنَوْهُ ريبَةً فِي قُلُوبهِمْ ؛ أيْ حَزَازَةً وَغَيْظاً فِي قُلُوبهِمْ ؛ أيْ أنْ تَصَدَّعَ قُلُوبُهُمْ فَيَمُوتُوا).
وقرأ الحسنُ ويعقوب أي (إنْ) مخفَّفاً على الغايةِ ، يدلُّ عليه تفسيرِ الضحَّاك وقتادة ، ولا يزالون في شَكٍّ منه إلى أن يَموتُوا فيستيقِنوا ويتبيَّنوا ، قرأ شيبةُ وابن عامر وحمزة وحفص (تَقَطَّعَ) بفتح التاءِ وتشديد الطاءِ المعنى تتقطعُ ، ثم حُذفت إحدَى التائَين ، وقرأ ابنُ كثير ومجاهد ونافعٌ وعاصم وأبو عمر والكسائي (تُقَطَّعَ) بضم التاء وتشديد الطاء على غيرِ تسمية الفاعل ، وقرأ يعقوب (تُقْطَعَ) بضم التاء خفيفة الطاء من القطعِ. وروي عن ابنِ كثير بفتحِ التاء خفيفة ، (قُلُوبَهُمْ) نصباً أي بفعلِ ذلك أنتَ بهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ؛ أي عليمٌ بأعمالِكم ، حيكمٌ ما حَكَمَ من هدمِ مسجدهم وأظهرَ نفاقَهم.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ } ؛ معناهُ : إنَّ اللهَ طلبَ المؤمنين أن يعدُّوا أنفسَهم وأموالَهم ويخرجوا إلى الجهادِ في سبيل الله ليُثيبهم الجنةَ على ذلك.
فإن قِيْلَ : كيف يصحُّ شراءُ الجنَّة على ذلكَ وهي مملوكةٌ لله تعالى ؟ وكيف يشترِي أحدٌ ملكه يملكهُ ؟ قِيْلَ : إنما ذكر هذا على وجهِ التلطُّف للمؤمنين في تأكيدِ الجزاء كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً }[البقرة : 245] فذكرَ الصدقةَ بلفظِ القَرْضِ للتحريضِِ على ذلك والترغيب فيه ، إذِ القرضُ يوجب ردَّ المفلسِ لا محالةَ ، وكأن اللهُ عَامَلَ عبادَهُ معاملةَ مَنْ هو غيرُ مالكٍ ، وعن جعفر الصَّادق أنه كان يقولُ : (يَا ابْنَ آدَمَ اعْرِفْ قَدْرَ نَفْسِكَ ، فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَرَّفَكَ قَدْرَكَ وَلَمْ يَرْضَ أنْ يَكُونَ لَكَ ثَمَنٌ غَيْرُ الْجَنَّةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } ؛ فيه بيانُ عرضِ الذي لأجلهِ اشترَاهُم ، وهو أن يُقاتِلوا العدوِّ في طاعةِ الله ، ومعناهُ : فيَقْتُلُونَ المشركين ، ويقتلهم المشركون ، وعلى هذا أكثرُ القرَّاء ، حمزةُ والكسائي (فَيُقْتُلُونَ) بالرفعِ ، (وَيَقْتُلُونَ) بالنصب ، واختارَ الحسنُ هذه القراءةَ لأنه إذا قُرئ هكذا كان تسليمُ النفسِ إلى الشِّراء أقربُ ، وإنما يستحقُّ البائعُ تسليمَ الثمن إليه تسليمَ المبيع.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } ؛ نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي أوجبَ اللهُ لهم الجنَّةَ ووعدَهم وعدَ حقٍّ منه لَهم ، وإنَّما قال (حَقّاً) للفصلِ بين الوعدِ الذي حجرهُ على وجهِ الجزاء لهم على العملِ ، وبين الوعدِ ينجزهُ للتصديقِ على وجه التفضِيل لا الجزاءِ لهم على العملِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } ؛ أي أوجبَ اللهُ الجنةَ للمؤمنين في جميعِ كتُبهِ التي أنزَلَها اللهُ على أنبيائهِ عليهمُ السلام ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ } ؛ أي ليس أحدٌ أوْفَى من اللهِ في وعدهِ وشَرطِه ، وعَدَكم وعداً ولا يخلفُ لوعدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } ؛ أي ببيعكُم أنفسَكم من اللهِ ، فإنه لا يشرِي أرفعُ من اللهِ سبحانَهُ ، ولا ثمنَ أعلى من الجنَّة. وَقِيْلَ : إنَّ هذا أُنزل في الذين بايَعُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بيعةَ الرضوانِ تحتَ الشجرةِ ، ثم صارَ عامّاً في كلِّ مَنْ يعملُ مثلَ عَملِهم.
قال محمَّد بن كعب : " لَمَّا بَايَعَتِ الأنْصَارُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بمَكَّةَ وَهُمْ سَبْعُونَ نَقِيباً ، قَالَ عَبْدُاللهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَرِطْ لِرَبكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتُ ، فَقَالَ : " اشْتَرِطُ لِرَبي أنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بهِ شَيْئاً ، وَأشْتَرِطُ لِنَفْسِي أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ عَنْهُ أنْفُسَكُمْ وَأمَوالَكُمْ " قَالُوا : وَإذا فَعَلْنَا ذلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : " الْجَنَّةُ " ، قَالَ : رَبحَ الْبَيْعُ لاَ نُقِيلُ وَلاَ نَسْتَقِيلُ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ } ثُمَّ هَدَاهُمْ اللهُ بقَوْلِهِ { فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ } ".
(0/0)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
وقولهُ تعالى : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ } ؛ في الآيةِ قَولان : أحدُهما : أن قوله { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ } رُفِعَ بالابتداء ، كأنهُ قال : التائبون العابدون... إلى آخر الآيةِ لَهم الجنةُ أيضاً ؛ أي مَن قعدَ عن الجهادِ غيرَ مُؤَازِرِ ولا قاصدِ تركه ، وهو على هذه الصِّفة في هذهِ الآية فله الجنَّة.
والقولُ الثاني : أنّ قولَهُ { التَّائِبُونَ } يدلُّ على المقاتِلين ، كأنه قال : المقاتِلُون التائبون العابدون ، ويجوزُ أنْ يكون قولُه : { التَّائِبُونَ } رفعاً على المدحِ ، أي هم التائبون من الشِّرك والذُّنوب ، المطيعون للهِ { الْحَامِدُونَ } الذين يحمَدون اللهَ تعالى على كلِّ حالٍ ، { السَّائِحُونَ } الصَّائِمُونَ.
كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أ نه قال : " سِيَِاحَةُ أُمَّتِي الصَّوْمُ " وإنما سُمي الصَّائم سَائحاً تشبيهاً بالسائحِ في الأرض ؛ لأن السائحَ ممنوعٌ من الشَّهوات ، فكذلك الصائمُ.
قال الحسنُ : (أرَادَ السَّائِحينَ صَوَّامِي شَهْرِ رَمَضَانَ) ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رَسُولُ اللهِ صلى عليه وسلم : " السَّائِحُونَ الصَّائِمُونَ ". وسُئل سعيدُ بن جبير عن السائحين فقالَ : (هُمُ الصَّائِمُونَ) ، وقال الشاعرُ : بَرّاً يُصَلِّي لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ يَظَلُّ كَثِيرَ الذِّكْرِ للهِ سَائِحاًأي صائماً.
وقال الحسنُ أيضاً : (السَّائِحُونَ الَّذِينَ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ وأَمْسَكُواْ عَنِ الْحَرَامِ ، وَهَهُنَا وَاللهِ أقْوَامٌ رَأيْنَاهُمْ يَصُومُونَ عَنِ الْحَلاَلِ ، وَلاَ يُمْسِكُونَ عَنِ الْحَرَامِ ، وَاللهُ سَاخِطٌ عَلَيْهِمْ) ، وقال عطاءُ : (السَّائِحُونَ هُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُجَاهِدُونَ). وسئل عكرمةُ عن قولِه تعالى : { السَّائِحُونَ } فقال : (طَلَبَة الْعِلْمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ } أي الذين يؤَدُّون ما فرضَ اللهُ عليهم من الرُّكوع والسجودِ المفروضة ، وقولهُ تعالى : { الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } أي الآمِرون بالإيمانِ والنَّاهون عن الشِّرك. وَقِيْلَ : معناهُ : الآمِرُون بكلِّ معروفٍ ، والناهون عن كلِّ منكرٍ.
وإنما ذُكر الناهو بالواو وبخلاف ما سبقَ ؛ لأن النهيَّ عن المنكرِ لا يكادُ يُذْكَرُ إلا وهو مقرونٌ بالأمرِ بالمعروف ، فدخلَ الواوُ ليدُلَّ على المقارنةِ. والمعروفُ : هو السُّنة ، والمنكرُ : هو البدْعَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } ؛ عُطِفَ على ما تقدَّم. وَقِِيْلَ : المرادُ بهم جميعُ المذكورين من أوَّل الآيةِ إلى هذا الموضع ، وهذه الصِّفة من أتَمَّ ما يكون من المبالغةِ في وصفِ العباد بطاعتهِ لله ، والقيام بأوامره والانتهاءِ عن زواجرهِ ؛ لأن اللهَ تعالى بيَّن حدودَهُ في الأمرِ والنهي وفي ما نَدَبَ إليه فرغَّب فيه أو خيَّر فيه ، وبيَّن ما هو الأَولى في مجرَى طاعةِ الله تعالى ، فإذا قامَ العبدُ بفرائضِ الله وانتهَى إلى ما أرادَ الله منه كان من الحافظِين لحدودِ الله ، كما رُوي عن خلفِ بن أيُّوب : أنَّهُ أمَرَ امْرَأَتَهُ أنْ تُمْسِكَ إرْضَاعَ وَلَدِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ وَقَالَ : قَدْ تَمَّتْ لَهُ سَنَتَانِ ، قِيْلَ لَهُ : لَوْ تَرَكْتَهَا حَتَّى تُرْضِعَهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، قَالَ : فَأَيْنَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بشِّرهُم بالجنةِ.
(0/0)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى } ؛ قال ابنُ عبَِّاس : " وَذلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ عَنْ أبَوَيْهِ أيُّهُمَا أحْدَثُ عَهْداً بهِ ؟ فَقِيلَ : أُمَّكَ ، فَقَالَ : " هَلْ تَعْلَمُونَ مَوْضِعَ قَبْرِهَا ؟ لَعَلِّي آتِيهِ فَأَسْتَغْفِرُ لَهَا ، فَإنَّ إبْرَاهِيمَ عليه السلام اسْتَغْفَرَ لأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ " فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَنَحْنُ أيْضاً نَسْتَغْفِرُ لآبَائِنَا وَأهْلِينَا. فَانْطَلَقَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أتَى الْقَبْرَ ، فَإذا هُوَ بجِبْرِيلَ عليه السلام عِنْدَ الْقَبْرِ ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صَدْر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأ عَلَيهْ هَذِهِ الآيَةَ ".
قال أبُو هريرةَ رضي الله عنه : قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " اسْتَأْذنْتُ رَبي أنْ أسْتَغْفِرَ لِوَالدَيَّ فَلَمْ يَأْذنْ لِي ، وَاسْتَأْذنْتُ أنْ أزُورَ قَبْرَهُمَا فَأَذِنَ لِي ". ومعنى الآيةِ : ما ينبغِي وما يجوزُ للنبيِّ والذين آمَنُوا أن يطلبُوا المغفرةَ للمشركين ، ولو دعَتهُم رِقَّةُ القرابةِ إلى الاستغفار لَهم : { مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ؛ أي من بعدِ ما ظهرَ أنَّهم أصحابُ النار بأنَّهم ماتُوا على الكفرِ.
(0/0)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } ؛ أي ما كان استغفارُ إبراهيمَ لأبيه إلا عن موعدةٍ وعَدَها أبوهُ له أن يُسْلِمَ ، { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } ؛ لإبراهيمَ ، { أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ } ؛ بأنْ لم يُؤمِنْ حتى ماتَ على الكفرِ ، { تَبَرَّأَ مِنْهُ } ؛ أي مِن أبيهِ ومن دِينه.
ويقالُ : إنما هذه الموعدةُ إنما كانت مِن إبراهيمَ لأبيهِ ، فإنه كان قالَ لأستغفِرَنَّ لكَ ما دمتَ حيًا ، ولم يكن اللهُ تعالى أعلمَ إبراهيم أنه لا يغفرُ للمشركين ، يدلُّ عليه قراءةُ الحسنِ (إلاَّ مِنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } ؛ الأوَّاهُ : التَّوَّابُ. قال ابنُ مسعود (هُوَ الدَّعَّاءُ) ، وقال الحسنُ وقتادة : (هُوَ الرَّحيمُ الرَّفِيقُ) ، ويقالُ : هو المؤمنُ بلُغَة الحبشةِ ، إلا مَن قال إنه لا يجوزُ أن يكون في القرآنِ شيءٌ غير عربيٍّ ، قال : هذا موافقٌ من العربيةِ بلُغة الحبشة. وَقِيْلَ : الأوَّاهُ الفقيهُ ، وقال كعبُ : (هُوَ الَّذِي إذا ذكرِتْ عِنْدَهُ النَّارُ قَالَ : آهٍ) ، وَقِيْلَ : هو المتأوِّهُ شَفَقاً وفَرَقاً ، المتضَرِّعُ نَفْساً ولُزوماً للطاعةِ ، وأما الحليمُ فهو الذي لا يعجِّلُ بعقوبةِ الجاهل.
(0/0)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أنْزَلَ الْفَرَائِضَ وَعَمِلَ بهَا النَّاسُ ، ثُمَّ أنْزَِلَ بَعْدَ ذلِكَ مَا نَسَخَهَا وَقَدْ مَاتَ نَاسٌ وَهُمْ يَعْمَلُونَ بالأَمْرِ الأَوَّلِ مِثْلَ الصَّلاَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَشُرْب الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذلِكَ ، وَمَاتَ بَعْضُ الْمُؤْمِنينَ وَهُمْ عَلَى الْقِبْلَةِ الأُوْلَى ، فَذَكَرَ الْمُؤْمِنُونَ ذلِكَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فأََنْزَلَ هَذِهِ الآيَةِ).
ومعناها : وما كان اللهُ ليُضِلَّ عملَ قومٍ ويُنْزِلَ قوماً مَنْزِلَةَ الضَّلالِ بعدَ إذ هدَاهُم للإيمانِ حتى يُبَيِّنَ لهم ما يتَّقون من المعاصِي ، ويقال : حتى يُبَيِّنَ الناسخَ من المنسوخ ، { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ } ؛ من النَّاسخِ والمنسوخ ، وبكل ما فيه مصلحةُ الخلقِ ، { عَلِيمٌ }.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ؛ وذلك أنَّ الله لَمَّا أمرَ المسلمين بقتال المشركين كافَّة ، وكان في المشركين ملوكٌ لا يطمعُ المسلمون بهم لشوكَتِهم وعزِّهم ، أخبرَ اللهُ تعالى أن اللهِ ملكَ السَّموات والأرضِ ، يُحيي من يشاءُ ويُميت من يشاء ، { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } ؛ يُوالِيكم ، { وَلاَ نَصِيرٍ } ؛ ينصرُكم.
(0/0)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } ؛ معناه : وقد تجاوزَ اللهُ من تولَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذْنَهُ للمنافقين بالتخلُّف ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }[التوبة : 43] ، وتجاوزَ عن ذُنوب المهاجرين والأنصار.
وَقِيْلَ : أراد بذلك قوماً منهم تخلَّفُوا عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم خرَجُوا فأدركوهُ في الطريقِ. وقولهُ تعالى : { الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } صفةُ مدحٍ لأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم باتِّباعِهم إياهُ في وقت الشِّدةِ في غزوة تبوك ، وكانت بهم العُسْرَةُ في النفقةِ والرُّكوب والحرِّ والخوف ، وكانت الدابةُ الواحدة بين جماعةٍ يتعقَّبون عليها ، وكانت التمرةُ تُشَقُّ بالنِّصف فيأكلُها الرجُلان كل واحدٍ نصفها ، وربما كانت جماعةٌ يَمُصُّونَ تمرةً واحدة ، ويشربون عليها ، وربما كانوا يَنْحَرُونَ الإبلَ فيشربون من ماءِ كرُوشِها في الحرِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } ؛ أي مِن بعد ما كادَ تَمِيلُ قلوبُ طائفةٍ منهم عن الخروجِ والجهاد ، ويقال من بعدِ ما كادوا يرجِعون عن غزوتِهم من الشدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي ثم خفَّفَ عنهم ما أخلفهم عن الحرب حتى كادُوا يعقلون عن أنفُسِهم ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ }. إلى أن قالَ : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }[المزمل : 20] أي خفَّفَ عنكم ، وكقوله : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }[البقرة : 187] أي خفَّف عنكم.
(0/0)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ } ؛ أي تابَ على الثلاثةِ ، وهم كعبُ بن مالك ، ومُرَارَةُ بن الربيع ، وهلالُ بن أُميَّة الذين خُلِّفوا عن قبول توبتِهم ، { حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } ؛ منعَ سِعَتَها بامتناعِ الناس من مكالمتهم ، { وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ } ؛ أي قلوبهم حين كتبَ قيصرُ إلى كعبِ ابن مالك : بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ ، فَالْحَقْ بنَا فَإنَّ لَكَ عِنْدَنَا مَنْزِلٌ وَكَرَامَةٌ ، فَقَالَ كَعْبُ : (مِنْ خَطِيئَتِي أنْ يَطْمَعَ فِيَّ رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الْكُفْرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ } ؛ أي عَلِموا وأيقَنُوا ألاَّ مَفَرَّ من عذاب الله إلا إليه بالتوبةِ ، وقولُه تعالى : { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } ؛ أي قَبلَ توبتَهم ، { لِيَتُوبُواْ } ؛ أي ليرجِعُوا عن مثلِ صنيعهم. ويقالُ : ليتوبَ الناسُ من بعدِهم ، { إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ } ؛ أي المتجاوزُ عن ذنوب المؤمنين ، { الرَّحِيمُ } ؛ بعبادهِ التَّائبين.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَـاأيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } أي يا أيُّها الذين آمَنوا اخشَوا اللهَ ولا تعصوهُ ، وكونوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومع الذين صدَقت نيَّاتُهم ، واستقامَتْ قلوبُهم وأعمالُهم في الشدَّة والرَّخاءِ.
(0/0)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ } ؛ أي ما جازَ لأهلِ المدينةِ ومَن حولَهم من الأعراب أن يتخلَّفوا عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الجهادِ ، وهذا نَهيٌ وردَ بلفظِ النَّفيِ ، { وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } ؛ أي لا ينبغِي أن يكونوا بأنفُسِهم آثرَ وأشفقَ عن نفسِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، بل عليهم أن يجعَلُوا أنفُسَهم وقايةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أوجبَ له من الحقُوقِ عليهم بدعائهِ لهم إلى الإيمانِ حتى اهتدَوا به ونَجَوا من النارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي ذلك الزجرُ بأنَّهم في التخلُّف عن الجهاد ، لا يصيبُهم عطشٌ ولا تعب في أبدانِهم ، ولا شدَّةُ مجاعةٍ في طاعة اللهِ ، ولا يجاوِزُون مكاناً فيظهرون فيه من سهلِ أو جبل مجاوزتَهم ذلك المكان ، فإنَّ الإنسان يُغِيظُهُ أن يطأَ أرضَهُ غيرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالى : { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي لا يُبْطِلُ ثوابَ مَن أحسنَ عملاً من جهادٍ وغيره.
(0/0)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } ؛ أي لا يُنفقون في الجهادِ نفقةً صَغُرَتْ أو كَبُرتْ ، { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } ؛ من الأوديةِ في طلب الكفَّار ، { إِلاَّ كُتِبَ } ؛ ذلكَ ، { لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ } ؛ مِن أعمالهم التي ، { مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قَوْلُهَ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الْعُيُوب وَبَيانِ نِفَاقِهِمْ ، قَالَ الْمُؤمِنُونَ : وَاللهِ لاَ نَتَخَلَّفُ عَنْ غَزْوَةٍ يَغْزُوهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ سَرِيَّةٍ أبَداً ، فَلَمَّا أمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذلِكَ بالسَّرَايَا إلَى الْغَزْوِ ، وَنَفَرَ الْمُؤْمِنُونَ جَمِيعاً وَتَرَكُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْمَدِينَةِ ، أنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي ذلِكَ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : أنه ليس للمؤمنينَ أن ينفِرُوا كافَّة ويَخْلِفُوا رسولَ الله وحدَهُ ليس عنده أحدٌ من المسلمين يتعلَّمُ منه الحلالَ والحرامَ والشرائعَ والأحكام ، { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ } ؛ أي فهَلاَّ خَرَجَ مِن كلِّ جماعةٍ طائفةٌ إلى الجهادِ ، وتبقى طائفةٌ مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليسمعَ الذين تخلَّفُوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم الوحيُ ، إذا رجعت السَّرايا علَّمُوهم ما عَلِموا فستَوُونُ جميعاً في العلمِ في معرفة الناسخِ والمنسوخ.
قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ؛ أي لُينذِرَ الذين تخلَّفوا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قومَهم الذين نَفَروا إذا رجَعُوا إليهم من غُزاتِهم ، ويخبرُوهم بما نزلَ بعدَهم من القرآنِ ، لكي يحذرُوا كلُّهم فلا يعملون شيئاً بخلافِ ما أنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } ؛ أي قاتِلُوا الأدنَى فالأدنَى من عدوِّكم مثل بني قريظةَ والنضير وخيبر ؛ أي ابدَأوا بمَن حولَكم ، ثم قاتِلُوا سائرَ الكفَّار ، لأن الاشتغالَ بقتالِ مَن بعدَهم من المشركين مع تركِ قتالِ مَن قَرُبَ لا يُؤْمَنُ معه هجومُ مَن قَرُبَ على ذرَاري المسلمين ونسائِهم وبلادهم إذَا خَلَتْ مِن المجاهدين ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي ليكن منكم قولٌ غليظ وشدَّة عليهم في الوعدِ ؛ كَيْلاَ يطمعَ فيكم أحدٌ من أهلِ الكفر ، { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ؛ في النصرِ على عدوِّهم.
(0/0)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـاذِهِ إِيمَاناً } ؛ معناهُ : إذا ما أُنزلت سورةٌ من القرآنِ ، فمِنَ المنافقين مَن يقولُ : إيُّكم زادتهُ هذه السُّورة إيماناً؟! إنَّما كان بعضُهم يقولُ لبعضٍ على جهة الْهُزْءِ. ويقالُ : كانوا يقولون للمستضعَفين من المسلمين : أيُّكم زادتهُ هذه الآية يقيناً وبصيرةً ؟ يقولُ الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } ؛ وهم المخلِصُون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم زادَتْهم تصديقاً مع تصديقِهم ، { وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } ؛ أي يفرَحُون بكلِّ ما يَنْزِلُ من القرآنِ.
(0/0)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } ؛ معناهُ : وأما الذين في قلوبهم شَكٌّ ونفاق فزادَتْهم السورةُ شَكّاً إلى شَكِّهم وكفراً إلى كُفرِهم ، لأنَّهم كلما كَفَرُوا بسورةٍ ازدادوا كُفراً ، والمؤمنون كلَّما صدَّقوا بسورةٍ ازداودا تصديقاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } ؛ إذ هم لشَكِّهم فيما أنزلَهُ اللهُ من السورةِ إلى أن ماتُوا على الكفرِ.
وإنما سَمَّى اللهُ النفاقَ مرَضاً ؛ لأن الحيرةَ في القلب مرضُ في القلب ، كما أن الوجعَ في البدنِ مرضُ في البدنِ.
(0/0)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } ؛ معناه : أوَلاَ يرَى المنافقون أنَّهم يخسَرُون بالدُّعاء إلى الجهادِ في كلِّ عامٍ مرَّة أو مرَّتَين ، ويقال : يهلَكون بهَتْكِ أسرَارهم ، ثم يُظْهِرُ اللهُ من سوء نِيَّاتِهم وخُبْثِ سرائرهم. ويقالُ : كانوا ينقضون عهدَهم في السَّنة مرةً أو مرتين فيُعاقَبون ، ثم لا يتُوبُون عن نفاقِهم ولا يذكرون بما صنعَ اللهُ بهم بنقضِهم العهدَ. وقرأ حمزةُ ويعقوب : (أوََلاَ تَرَوْنَ) بالتاء خطاباً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
(0/0)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } ؛ إذا نزلت سورةٌ فيها عيبُ المنافقين فخاطَبَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وعرَّض لهم في خُطبتهِ ، نظرَ بعضُ المنافقين إلى بعضٍ ، { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } ؛ من المخلِصين إذا هو قائمٌ فخرجَ من المسجدِ ، فإذا كان لا يراهُ أحدٌ خرجَ من المسجدِ وانصرفَ ، وإن علِمُوا أنَّ أحداً يرَاهُم قاموا وثَبَتُوا مكانَهم حتى يفرغَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من خطبتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ انصَرَفُواْ } ؛ أي انصرَفُوا عن الإيمانِ والعملِ بترك ما يستمعون ، ويقال : انصرَفُوا عن المكان الذي سَمِعُوا فيه ، { صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم } ؛ باللطف الذي يُحْدِثُهُ للمؤمنين. قَوْلُهُ تَعَاَلَى : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ؛ أي ذلك الصرفُ بأنَّهم قومٌ لا يفقَهون ما يريدُ الله بخطابهِ.
(0/0)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } ؛ هذا خطابٌ لأهلِ مكَّة ، والمعنى : لقد جاءَكم رسولٌ من أهلِ نَسَبكم ولسانكم ، شريفُ النَّسَب تعرفونَهُ وتفهمون كلامَهُ. وإنما قالَ ذلك ؛ لأنه أقربُ إلى الأُلفَةِ. وَقِيْلَ : إن هذا خطابٌ لجميعِ الناس ، معناه : جاءَكُم آدمِيٌّ مثلُكم ، وهذا أوكدُ للحجَّة عليكم ؛ لأنَّكم تفهمون عن مَن هو من جنسِكم.
وقرأ ابنُ عبَّاس والزهري (مِنْ أنْفَسِكُمْ) بفتحِ الفاء ؛ أي من أشرَفِكم وأفضَلِكم ، مِن قولِكَ : شيءٌ ذو نَفَسٍ ، وقال : كان مِن أعلاكُم نسَباً ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي شديدٌ عليه عَنْتُكُمْ وإثْمُكم ، العَنَتُ : الضيِّقُ والمشقَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } ؛ أي حريصٌ على إيمانكِم وهُداكم أنْ تُؤمِنُوا فتَنجُوا من العذاب وتفوزُوا بالجنَّة والثواب ، والحِرْصُ : شدَّةُ الطَّلَب للشيء مع الاجتهادِ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ كلامٌ مستأنفٌ : أي وهو شديدٌ الرحمةِ لجميع المؤمنين ، رفيقٌ لِمَن اتَّبعَهُ على دينهِ.
(0/0)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ؛ أي فإنْ أعرَضُوا عنكَ وعن الإيمان بكَ ، فقُلِ اللهُ تعالى حَسْبي لا إلهَ إلاَّ هوَ ؛ أي لا ناصرَ ولا مُعِينَ غيرهُ ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي بهِ ثِقَتِي ، وإليه فوَّضتُ أمرِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي خالِقُ السَّريرِ العظيمِ الذي هو أعظمُ مِن السَّمواتِ والأرض ، وإنَّما خُصَّ العرشُ بذلك ؛ لأنه إذا كان ربُّ العرشِ العظيمِ مع عَظَمَتِهِ ، كان ربُّ ما دونَهُ في العِظَمِ. وَقِيْلَ : إنما خصَّ العرش ؛ تشريفاً للعرشِ وتعظيماً لشأنهِ. وقرئ في الشواذ (الْعَظِيمُ) بالرفعِ على نَعْتِ الرب.
(0/0)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
{ الر } ؛ قال ابن عباس : (مَعَنْاهُ : أنَا اللهُ أرَى) وعنه : (أنَّهُ مِنْ حُرُوفِ الرَّحمَنِ). وقيل : أنا الربُّ لا ربَّ غيرهُ. وقولهُ تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } ؛ أي هذهِ آياتُ الكتاب ، وإنَّما أضافَ السورةَ إلى القُرآنِ ؛ لأنَّها بعضُ الكتاب ، كما تضافُ السورة لأنَّها بعضهُ.
وأما وصفُ القرآنِ بأنه حكيمٌ ؛ فلأنَّ القرآنَ كالناطِق بالحكمة بما فيه بين التمييزِ بين الحقِّ والباطلِ. ويقالُ : معنى الحكيمِ الْمُحْكَمُ بالحلالِ والحرامِ والأمرِ والنهي ، يقالُ : أحكمتُ الشيءَ فهو مُحْكَمٌ وحكيمٌ ، كما يقالُ : أكرمتُ الرجلَ فهو مُكْرَمٌ وكَرِيمٌ.
(0/0)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ } معناه : أعَجِبَتْ قريشُ أنْ أوحَينا إلى رجُلٍ مثلهم من أهلِ نسَبهم أنْ خَوِّفِ الناسَ بالعذاب ، { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ وذلك أنَّ الكفار كانوا يقولُون : لم يجدِ اللهُ رسولاً يبعثه إلينا إلاَّ يتيمَ أبي طالبٍ. ويقالُ : كانوا يَعجَبون من البعثِ بعدَ الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أعمالهم الصالحةَ التي قدَّمُوها لأنفسِهم سَلَفَ خيرٍ عند ربهم يستوجبون بها المنْزِلةَ الرفعيةَ في آخرتِهم عند ربهم ، وعن ابنِ عبَّاس أنه قال : (قَدَمَ صِدْقٍ : شَفَاعَةً بَيْنَهُمْ لَهُمْ هُوَ إمَامُهُمْ إلَى الْجَنَّةِ وَهُمْ بالأَثَرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي قال كفَّار مكة : إنَّ هذا القرآنَ لسِحرٌ مُبينٌ ، وقرأ أهلُ الكوفة وابن كثير (لَسَاحِرٌ) بالألفِ يعنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ ولو شاءَ لخلقَها في أقلِّ من لحظةٍ ، ولكنَّهُ خلَقَها للترتيب ؛ ليكون حدوثُ شيءٍ بعدَ شيءٍ على الترتيب أبلغَ للملائكةِ في التفكرُّ بها من حُدوثِها كلِّها في حالةٍ واحدة ، وقد تقدَّم تفسيرُ الاستواءِ ، ودخلت (ثُمَّ) على الاستواءِ وهي في المعنى داخلةٌ على الترتيب ، كأنَّهُ قال : ثُمَّ يُدبرُ الأمرَ وهو مستوٍ على العرشِ ، فإنَّ تدبيرَ الأمُور كلها يَنْزِلُ من عندِ العرش ، ولهذا تُرْفَعُ الأيدِي في قضاءِ الحوائج نحوَ العرشِ. والاستواءُ : الاستيلاءُ ، ولم يَزَلِ اللهُ سبحانه مُستَولياً على الأشياءِ كلِّها ، إلا أن تخصيصَ العرشِ لتعظيمِ شأنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ؛ أي يقضِي القضاءَ إلى الملائكةِ من رسُلهِ ولا يُشرِكُه في تدبيرِ أحدٌ من خلقهِ. وعن عمرِو بن مُرَّة " عن عبدالرحمن بن سابط " قال : " يُدَبرُ أمْرَ الدُّنْيَا بأَمْرِ اللهِ أرْبَعَةٌ : جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَمَلَكُ الْمَوْتِ وَإسْرَافِيلُ. أمَّا جِبْرِيلُ فَعَلَى الرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ ، وَأمَّا مِيكَائِيلُ فَعَلَى الْقَطْرِ وَالنَّبَاتِ ، وَأمَّا مَلَكٌ الْمَوْتِ فَوُكَّلَ بقَبْضِ الأَرْوَاحِ ، وَأمَّا إسْرَافِيلُ فَهُوَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ بمَا يُؤْمَرُونَ بهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } جوابُ قولِ الكفَّار أنَّ الأصنامَ شُفعاؤُنا عندَ اللهِ ، فبيَّن اللهُ تعالى ما مِن مَلَكٍ مقرَّبٍ ، ولا نبيٍّ مُرسَلٍ يشفعُ لأحدٍ إلا مِن بعد أنْ يأذنَ اللهُ لمن يشاء ويرضَى ، فكيف تشفعُ الأصنام التي ليس لها عقلٌ وتمييز.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } ؛ أي الذي يفعلُ ما هو المذكور في هذه الآيةِ من خَلْقِ السَّموات والأرضِ وتدبير الخلق هو اللهُ خالقكم ورازقُكم ، { فَاعْبُدُوهُ } ؛ ولا تعبدُوا الأصنامَ فإنَّها لا تستحقُ العبادةَ ، وقولهُ تعالى : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ أي هل تتَّعِظُونَ بالقرآن.
(0/0)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً } ؛ أي إلى اللهِ سبحانه رجوعُكم جميعاً ، وانتصبَ قولهُ : { جَمِيعاً } على الحالِ ، وقوله { وَعْدَ اللَّهِ } نُصبَ على المصدرِ ؛ أي وعدَ اللهُ وَعداً ، والمعنى وعدَ الله البعثَ بعدَ الموتِ وعَداً حقّاً كائناً لا شكَّ فيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ أي يخلقُكم في بطون أمَّهاتِكم نُطَفاً ، ثم عَلَقاً ثم مُضغَةً ثم عظاماً ، ثم يخرجُكم نَسْماً للتَّمامِ ، ثم يُميتكم عند انقضاءِ آجالكم ثم يبعثُكم بعد الموتِ ، وفي هذا بيانُ أن خلقَ الشيءِ على الترتيب حالٌ بعد حالٍ أدلُّ على الترتيب في خلقهِ جُملةً واحدة في ساعةٍ واحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ } ؛ فيه بيانُ أن البعثَ للجزاءِ ؛ لنَجزِيَهم بالعدلِ لئَلاَّ ننقصَ من ثواب محسن ، ولا نزيدُ على عقاب مُسِيءٍ ، بل يُجازي كُلاًّ على قدر عمله كما قال{ جَزَآءً وِفَاقاً }[النبأ : 26]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } ؛ أي من ماءٍ حارٍّ قد انتهى حرُّهُ ، { وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وجيعٌ يخلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم ، { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ؛ بالكتُب والرسُل.
(0/0)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
قَوْلُه تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ؛ أي هو الذي جعل الشمسَ ضياءً للعالَمين بالنهارِ ، والقمرَ نوراً بالليلِ.
رُوي في الخبرِ : أنَّ وجوهَهما إلى العرشِ وظهُورَهما إلى الأرضِ ، يُضيء وجوهَهما لأهلِ السموات السَّبع ، وظهورهما لأهلِ الأرضين السبع ، كما قال{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً }[نوح : 16].
قْوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدَّرَهُ } أي قدَّرَ القمرَ منازلَ وهي ثمانٍ وعشرون منْزِلةً في كلِّ شهرٍ. وقيل معناه : { وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } لا يجاوِزُها ولا يقصِرُوها ، وَِقِيْلَ : جعل (قَدَّرَ) لهما يعدى إلى مفعولين ، ويجوز أن يكون المعنى وقدَّرَهما ، إلا أنه حذفَ التثنيةَ للاختصار والإيجاز ، كما قال تعالى : { وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }[التوبة : 62].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ؛ أي ما خلقَ اللهُ الشمسَ والقمر ، إلا لتعلَمُوا الحسابَ وتعتَبروا بهما ، وتستدلُّوا بطلوعِها وغروبها على صانعِهما.
وقوله : { لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } أي لتعلَمُوا بالشمسِ حسابَ السنين وحسابَ الشُّهور والليالي والأيمِ على ما تقدَّمَ أن القمرَ يقطعُ في الشهرِ ما تقطعهُ الشمس في السَّنة ، ويعني بقولهِ : { وَالْحِسَابَ } حسابَ الأشهُرِ والأيام والساعاتِ ، وقولهُ تعالى : { مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ردَّهُ إلى الفعلِ والخلقِ والتدبيرِ ، ولو أرادَ الأعيانَ المذكورة لقال : تِلْكَ إلا بالحقِّ ، ثم يخلقهُ باطلاً ، بل إظهارُ الصَّنعةِ ، ودلالتهُ على قدرتهِ وحكمته.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؛ أي نُبَيِّنُ علاماتِ وحدانيَّة اللهِ تعالى بأنه بعدَ آيةٍ { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } تفصيلَ الآياتِ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص (يُفَصِّلُ) بالياء ، واختاره أبو عُبيد وأبو حاتم لقولهِ قبلَهُ { مَا خَلَقَ } فيكون متَّبعاً له ، وقرأ الباقون بالنُّون على التعظيمِ.
(0/0)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
َقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ الَّيلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ؛ معناهُ : إنَّ في اختلافِ ألوان الليلِ والنهار وتقلُّبها بذهاب الليل وجِيئَةِ النهار ، وذهاب النهار وجيئةِ الليل ، وفيما خلقَ اللهُ في السَّموات من الشمسِ والقمر والنجومِ والسَّحاب والرياح ، والأرضِ من الجبالِ والشجر والبحار والأنهار والدواب والنبات ، لعلاماتٍ لقوم يتَّقون اللهَ ويخشَون عقوبتَهُ.
فلم يؤمِنوا بهذه الآياتِ ولم يصدِّقُوا ، فأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ :
قولَهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياوةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ } ؛ معناهُ : إن الذين لا يخشَون عقابَ الله ، وتنعَّموا بالحياة الدُّنيا ، فلا يعمَلون إلا بها ولا يرجُون إلى ما ورائِها { وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا } أي سَكَنُوا إليها وآثَرُوها على عملِ الآخرة ، والذين هُم عن دلائلِ توحيدنا غافلون تاركون لها مكذِّبون بها.
(0/0)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة مصيرُهم إلى النار ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ يعمَلون في دارِ الدُّنيا وقد يُذكر الرجاءُ بمعنى الخوفِ كما قال اللهُ{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }[نوح : 13] أي لا تخافُون للهِ عَظَمَةً ، ويجوزُ أن يكون المعنى : لا يرجون لقاءَنا ؛ أي لا يرجون جزاءَنا ، فجعل لقاءَ جزائهِ بمنْزِِلة لقائهِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } ؛ أي إن الذين صدَّقُوا بمُحَمَّدٍ والقرآنِ وعمِلُوا الصالحاتِ يُرِشِدُهم ربُّهم على الصِّراط إلى الجنَّة بنُور إيمانِهم. وَقِيْلَ : يرشدُهم إلى منازِلهم في الجنة. وَقِيْلَ : يُثَبتُهُمْ على الإيمان.
وقولهُ تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } ؛ أي تجرِي الأنهارُ بين أيدِيهم وهم في الغُرَفِ يتطلَّعون عليها كما قال عَزَّ وَجَلَّ حاكياً عن فرعون{ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي }[الزخرف : 51]. ويجوزُ أن يكون معناه : تجري من تحتِ شَجَرِهم وبساتينهم في جناتِ تنعمون فيها.
(0/0)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا } ؛ أي قولُهم ودعاؤهم في الجنَّة : { سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ } ؛ فإذا سَمِعَ الخدَّام وذلك من قولِهم أتَوهم بما يشتهون ، قال ابن جُريج : (يَمُرُّ الطَّيْرُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أهلِ الْجَنَّةِ فَيَشْتَهِيهِ ، فَيُسَبحُ اللهَ تَعَالَى ، فَيَقَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَا شَاءَ ، فَإذا فَرَغَ قَالَ : الْحَمْدُ للهِ). ويقالُ معنى قولهِ : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا } أي مُفْتَتَحُ كلامِهم التسبيحُ ، ومختَتَمُ كلامهم التحميدُ ، لاَ أن يكون الحمدُ آخرَ كلامِهم حتى لا يتكلمون بعدَهُ بشيءٍ.
قال طلحةُ بن عبدِاللهِ : " سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ : سُبْحَانَ اللهِ ، فَقَالَ : " هُوَ تَنْزِيهٌ للهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ ". وسُئِلَ عَلِيٌّ رضي الله عنه عَنْ ذلِكَ فَقَالَ : (كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللهُ لِنَفْسِهِ). وقال الحسنُ : (بَلَغَنِي أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ حِينَ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ : " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبيحَ ، كَمَا تُلْهَمُونَ أنْفُسَكُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي يحيي بعضهم بعضاً بالسلام ، وتحييهم الملائكة بالسلام ، وتأتيهم الملائكة من عند ربهم بالسلام ، كما في قولهِ تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ }[الحزاب : 44] قرأ بلالُ بن أبي بُردة وابن محيصن (إنَّ الْحَمْدَ للهِ) بكسرِ (إنَّ) وتشديدِ النون ونصب (الْحَمْدَ).
(0/0)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } ؛ قِيْلَ : إنَّ هذه الآية نزلَت في النَّضْرِ بن الحارثِ حين قال{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ... }[الأنفال : 32] الآية ثم صارت عامَّة في كلِّ مَن يستعجلُ العقابَ الذي يستحقُّه بالمعاصي.
معناهُ : ولو يعجلُ الله للناسِ الشرَّ كما يعجِّلُ الخيرَ إذا دعَوا بالرَّحمة والرزقِ والعافية لَمَاتُوا وهَلَكُوا. وَقِيْلَ : المرادُ بهذه الآية دعاءُ الإنسان على نفسهِ وولَدِه وقومهِ ، مثلُ قول الرجلِ إذا غَضِبَ على ولدهِ : اللهُمَّ لا تُبارِكْ فيه وَالْعَنْهُ ، وقولهُ لنفسهِ : لا رفعني اللهُ من بينكم ، والمعنى على هذا : ولو يعجِّلُ الله للناسِ إجابةَ دعائهم في الشرِّ كاستعجالهم الإجابةَ في الخير { لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } أي لفَرَغَ من عذابهم وماتُوا جميعاً. وقال شهرُ بن حَوْشَبْ : (قَرَأتُ فِي بَعْضِ الْكُتُب أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَلَكَيْنِ الْمُوَكَّلَيْنِ : لاَ تَكْتُبَا عَلَى عَبْدِي فِي حَالِ ضَجَرِهِ شَيْئاً).
وقرأ ابنُ عامرٍ ويعقوب (لَقَضَى) بفتح القاف والضاد (أجَلَهُمْ) بفتح اللام ، وقرأ الأعمشُ (لَقَضَيْنَا) وقرأ العامة (لَقُضِيَ) بضمِّ القاف وكسرِ الضاد ، ورفعِ قوله (أجلُهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي نتركُ الذين لا يخافون البعثَ في ضلالتِهم وكُفرِهم يتحيَّرون ويتردَّدون.
(0/0)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً } ؛ نزلت هذه الآيةُ في هِشَامِ بن المغيرةِ المخزوميِّ ، ومعناهُ : إذا أصابَ الإنسانَ الشدَّةُ والمرضُ دعانَا لكشفهِ وهو مضطجِعٌ لِمَا به من المرضِ أو قاعِداً إذا هانت العلَّة ، أو قائماً إذا بَقِيَ أثرُ العلَّة ، أو كان في شدة معيشة أو غيرِها ، { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ } ؛ رفعنَا ما كان به من الشدَّة استمرَّ على الإعراضِ عن شُكرِنا ما أنعَمنا عليه في كشفِ الضرِّ عنه ، { مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ } ؛ قطّ ؛ أي كأنَّهُ لم يَمَسَّهُ ضُرٌّ ، وكأنْ لم نكشف الضرَّ عنه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الشِّركِ من الدعاء في الشدَّة ، وتركِ الدعاء في الرَّخاءِ ، فاغتَرُّوا بما زُيِّنَ لَهم.
(0/0)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } ؛ أي ولقد أهلَكنا الأُممَ الماضيةَ من قبلِكم حين كَفرُوا ، { وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ بالدلالاتِ الواضحاتِ ، { وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } ؛ فيه بيانٌ أنَّ الله تعالى إنما أهلكَهم ؛ لأنه كان المعلومُ من حالهم أنه لو أبقَاهم أبداً لأدبروا ولم يُؤمِنوا ، ولو كان في بقائِهم صلاحٌ لهم ولغيرِهم لأبقَاهم. وقولهُ تعالى : { كَذالِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } أي هكذا نَجزِي القومَ المشركينَ ، نُهلِكُهم كما أهلَكنا الأوَّلين.
(0/0)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قَوْلُهُ تََعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ؛ أي ثم أسكنَّاكم الأرضَ من بعد الأوَّلين لنُجازِيكم على ما تعمَلون من الخيرِ والشرِّ ، ونشاهدُ هل تعتَبرون بما صُنِعَ بالأَوَّلين أم لا ؟ وهذا على التهديدِ ؛ أي إنْ عامَلتُكم مثل معاملَتِهم أهلكْتُكم كما أهلكتُهم.
وإنما قال { لِنَنظُرَ } ؛ لأنه سبحانُ يعامِلُ العبدَ معاملةَ المختبر الذي لا يعلمُ الشيءَ حتى يكون مظاهرة في العدلِ ، وأنه إنما يُجَازي العبادَ على أعمالهم لا على علمهِ فيهم ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ ، وإنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيْهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ " قال قتادةُ : (وَذكِرَ لَنَا أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : صَدَقَ رَبُّنَا مَا جَعَلَنَا خَلْقاً إلاَّ لِيَنْظُرَ إلَى أعْمَالِنَا ، فَأَدُّوا أعْمَالَكُمْ خَيْراً باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالسِّرِِّ وَالْعَلاَنِيَةِ).
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } ؛ معناهُ : وإذا قُرئَ على أهلِ مكة آياتُنا المنَزَّلة في القرآنِ ، قال الذين لا يخشَون عِقابَنا ولا يطمَعون في ثوابنا ولا يُقِرُّونَ بالبعثِ : أئْتِ يا مُحَمَّدُ بقرآنٍ ليس فيه عيبُ آلِهَتنا ولا ذكرٌ في البعثِ والنُّشور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ أُبَدِّلَهُ } أي قالوا أو بَدِّلْ هذِه بغيرِه ، قُل يا مُحَمَّدُ { مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ } أي ما يجوزُ وما ينبغي لي أن أُغَيِّرَهُ من قِبَلِ نفسي ، ما أقولُ أو ما أعملُ إلا ما يوحَى إلَيَّ من القرآنِ ، { إِنِّي أَخَافُ } ؛ أعلمُ ، { إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي } ؛ فبدَّلتُ القرآنَ أنه يكون عليَّ ، { عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }.
(0/0)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّوْ شَآءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ : لو شاءَ اللهُ ما قرأتُ القرآنَ عليكم بأن كان لا يُنَزِّلهُ عَلَيَّ ، { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } ؛ أي ولا أعلمَكم اللهُ به ؛ أي لو شاءَ الله أنْ لا يُشعِرَكم ، وفي قراءةِ الحسن (وَلاَ أدْرَاكُمْ بهِ) أي ولا أعلَمَكم به. وقولهُ تعالى : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ } ؛ أي ومكثتُ فيكم دَهْراً قبلَ إنزالِ القرآن ، ولم أقُلْ مِن هذا شيئاً ، فليس عليكم ذهنُ الإنسانيَّة أنه ليس من تِلْقَاءِ نفسِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ استفهامٌ بمعن الإنكار له : أنَّ الله خالقُ السمواتِ والأرض وهو عالِمٌ بما فيها ، يعلمُ أن ليس فيهما إلَهٌ ينفَعُ ويضرُّ غيرهُ ، فتخبرونه أنتم بشيءٍ لا يعلمهُ ، فيعلم بأخباركم ، وهذا نفيٌّ للعلمِ ، والمرادُ به نفيُ ما قالوه : من أن شفاعةَ الأصنامِ " تنفعهم ".
(0/0)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي لا أجدُ ممن اختلقَ على اللهِ كذباً بأنْ جعلَ شريكاً له أو ولَداً إذا ادَّعَى النبوةَ بغيرِ حقٍّ ، أو قالَ : أُمِرْنا بعبادةِ الأصنام فنتقرب بعبادتِها إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ كَذَّبَ بِآيَـاتِهِ } ؛ أي بأنبيائهِ ورسُلهِ وكتُبهِ ، وقولُه تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } ؛ أي لا يوصِلُهم إلى مُرادِهم.
(0/0)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } ؛ أي وإنَّ أهلَ مكَّة يعبُدون مِن دون اللهِ الأصنامَ التي لا يضرُّهم إنْ تَرَكُوا عبادتَها ولا ينفعُهم إنْ عَبَدُوها ، { وَيَقُولُونَ هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ } ؛ فإنَّهُ الذي أذِنَ لنا في عبادتِها وأنه يستشفعها فينا ، وأرادُوا بذلك شفاعةَ الأصنامِ في مصالحِ دُنياهم ؛ لأنَّهم كانوا لا يُقِرُّونَ بالبعثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ } ؛ هذا لا يكون أبداً. { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ أي تَنْزيهاً للهِ عن كلِّ صفةٍ لا تليقُ بذاتهِ ، وارتفعَ وتَبَرَّأ عمَّا يُشرِكون بهِ مِن الأصنامِ والأوثان.
(0/0)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } ؛ اختلفَ الناسُ في المرادِ بهذه الآيةِ ، قال بعضُهم : أرادَ بذلك أنَّ الناسَ كانوا أُمَّةً واحدةً في وقتِ آدمَ عليه السلام ، ثم اختلَفُوا بأنْ كَفَّرَ بعضُهم بعضاً ، وأوَّلُ مَن اختلفَ قابيلُ وهابيل. ويقال : أرادَ به الناسَ كلَّهم وُلِدُوا على الفطرةِ ، ثم اختلَفُوا بأنْ غيَّر بعضُهم الفطرةَ ولم يغِّيرْ بعضهم ، بل ثبتَ عليها.
وقال بعضهم : أرادَ بذلك أنَّهم كانوا أُمة واحدةً على عهدِ إبراهيم ونوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ كلُّهم كانوا كافِرين ، فتفرَّقوا بين مؤمنٍ وكافر. ويقال : أرادَ بالناسِ ههنا العربَ ، كانوا على الشِّركِ قبلَ مبعثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم اختلَفُوا بعدَهُ ، فآمَنَ وكفرَ بعضُهم. فالقولُ الأوَّلُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ لو كان لكم من اللهِ سبقٌ ببقاءِ التكليف على الناسِ أي وقت معلوم سواءٌ أطاعوهُ أو عصَوهُ لِمَا عَلِمَ من المصلحةِ لهم ولغيرِهم في ذلك ، لعجَّلَ لهم العذابَ عند العصيانِ ، فاضطرَّهم إلى معرفةِ الحقِّ فيما اختلفوا فيه. وقرأ عيسَى بن عُمر (لَقَضَى بَيْنَهُمْ) بالفتحِ.
(0/0)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ } ؛ أي يقولُ كفار مكةَ : هَلاَّ أنزِلَ على مُحَمَّدٍ آيةٌ من ربه ، يعنُون الآيةِ التي كانوا يقترحونَها على سوى الآيات التي أنزل اللهُ تعالى { فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّهِ } أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ نزول الآياتِ لله تعالى لو عَلِمَ الإصلاحَ في زيادةِ الآيات لأَنزَلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْتَظِرُواْ } ؛ أي فانتَظِروا عقابَ اللهِ بالقتلِ في الدُّنيا والنار في الآخرة ، { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } ؛ بهلاكِكُم بما أوعدَ اللهُ تعالى.
(0/0)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا } ؛ معناهُ : إذا أعطَينا الناسَ ما يُسَرُّونَ به من العافيةِ والنِّعمَةِ والرحمةِ المطر من بعدِ فَقْرٍ وبلاء ومرَضٍ وقحطٍ وشدَّةٍ أصابَتهُم ، إذا لَهم مكرٌ في آياتِنا بالاحتيالِ في دفْعِها والتكذيب بها ، كانوا لا يقولون : هو رزْقُ اللهِ ورحمتهُ ، و(إذا) تنوب عن جواب الشرط كما ينوبُ الفعلُ ، والمعنى إذا مَسَّتْهُمْ راحةٌ ورخاء بعد شدَّةٍ وبلاء. وَقِيْلَ : مطرٌ بعد قحطٍ إذا لهم كفرٌ وتكذيب. قال مقاتل : (لاَ يَقُولُونَ هَذا رزْقُ اللهِ ، وَإنَّمَا يَقُولُونَ : سُقِينَا بنَوْءِ كَذا) وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }[الواقعة : 82].
قَوْلُهُ تَعَالى : { قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً } أي أسرعُ جزاءً على المكرِ وأقدرُ على ذلكَ ، يسمَّى الجزاءُ باسمِ الْمَجْزِيِّ عليه. وَقِيْلَ : معناهُ : قُلِ اللهُ أعجلُ عقوبةً وأشدُّ أخذاً وأقدرُ على الجزاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ } ؛ أي الكِرَامُ الكَاتِبين ، يكتبُون ما تَمكُرون أنتم. قرأ الحسنُ ومجاهد وقتادة ويعقوب (مَا يَمْكُرُونَ) بالياء.
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي هو الذي يسهِّلُ عليكم السِّيرَ ويحفَظُكم إذا سافَرْتُم في البَرِّ على الدواب ، وفي البحرِ على السُّفُن ، فالسيرُ في البحرِ مضافٌ إلى اللهِ على الحقيقة ؛ لأنَّ سَيْرَ السفينةِ لا يكون بجَرْيِ الماء ، وبالريحِ للسَّفينة.
وأما السيرُ في البرِّ فإضافتهُ إلى اللهِ تعالى على معنى تسخير الْمَرْكُوب ، وتسييرهِ بإمساكهِ بقُدرَةِ الله تعالى أيضاً. قرأ ابنُ عامرٍ وأبو جعفر (يَنْشُرُكُمْ) ، والسَّيْرُ من النَّشْرِ ؛ أي نَبُثُّكُمْ في البرِّ والبحرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ } ؛ أي حتى إذا كُنتم في السُّفن ، وقد يكون الفُلْكُ واحداً ، وقد يكون جَمعاً ، فمَن جعلَهُ واحداً فجمعهُ أفْلاَكٌ ، ومن جعلَهُ جَمعاً فواحدُ فَلَكٍ ، كما يقالُ أسَدٌ وَأُسْدٌ.
وقولهُ تعالى : { وَجَرَيْنَ بِهِم } أي السُّفنُ جَرَيْنَ بأهِلها بريحٍ لَيِّنَةٍ ساكنةٍ ، وفَرِحُوا بسُكونِ ريحِها وأُعجِبُوا ، قال الزجَّاجُ : (ابْتِدَاءُ الْكَلاَمِ خَطَابٌ ، وَبَعْدَ ذلِكَ إخْبَارٌ عَنْ مَعَانِيهِ ؛ لأنَّ مُخَاطَبَةَ اللهِ لِعِبَادِهِ لاَ تَكُونُ إلاَّ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ ، وَذلِكَ بمَنْزِلَةِ الإخْبَارِ عَنِ الْغَائِب).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } ؛ أي ركوبُهم الموجَ من كلِّ جانبٍ. وقولهُ تعالى : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } ؛ أي أيْقَنُوا أنه قد دَنَا هَلاكُهم ، تقولُ العرب لكلِّ مَن وقعَ في الهلاكِ ، أو بليَّة عظيمةٍ : أُحِيطَ بفُلاَنٍ ؛ أي أحاطَ به الهلاكُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ؛ أي دَعَوا اللهَ ليكشِفَ ذلك عنهم ، مُخلصين له الاعتقادَ ، لا يدعُون عند الشدَّة غيرَهُ ، قال الحسنُ : (لَيْسَ هُوَ إخْلاَصُ الإيْمَانِ ، وَلَكِنَّهُ لِعِلْمِهِمْ بأنَّهُ لاَ يُنْجِيهِمْ مِنْ تِلْكَ الشِّدَّةِ إلاَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ } ؛ أي مِن هذه الرِّيح الشديدةِ والغرق ، { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ؛ لكَ على نَعمَائِكَ.
(0/0)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ فلما أنْجَاهُم من البحرِ إذا هم يتطاوَلون على أنبياءِ الله وأوليائهِ ، ويعمَلُون بالمعاصِي والفساد ، والدعاءِ إلى غير عبادة الله. والبَغْيُ في اللغة : التَّرَامِي إلى الفسادِ ، يقالُ : بغَى الجرحُ بَغْياً إذا ترامَى إلى الفسادِ ، وبَغَتِ المرأةُ إذا فسَدَتْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي إنَّما ظُلْمُكم وتطاولُكم يعودُ ضَررهُ عليكم ، ويرجعُ وَبَالُهُ إليكم ، وقولهُ تعالى : { مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي هو تَمَتُّعٌ قليلٌ في الدُّنيا ، ومتاعٌ يَذْهَبُ ويَفْنَى ، ويجوزُ أن يكون قولهُ : { مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } خبرٌ لقولهِ { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ } أي لا يتهيَّأُ لكم إلاَّ أن يبغِي على بعضٍ في مدَّة يسيرةٍ من الدُّنيا مع سرعةِ انقضائها ، { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } ؛ بعد الموتِ ، { فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ وقرأ حفص (مَتَاعَ) بالنصب على المصدر.
(0/0)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } ؛ معناهُ : إنما صفةُ حياةِ الناسِ الدُّنيا وهي الحياةُ الأُولى ، صفةُ ما أنزلَ اللهُ فينبتُ به أنواعَ النباتِ ، واختلطَ بعضهُ إلى بعضٍ ؛ لأن المطرَ يختلطُ بالنباتِ ويدخلُ في خلالهِ. قَوْلُهَ تَعَالَى : { مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ } ؛ أي مما يصيرُ إلى الناسِ من الحبوب والثمارِ ، وبعضه عَلَفاً للدَّواب من العشب والكَلإِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ } ؛ أي زيَّنَها من النباتِ ، والزُّخْرُفُ : حُسْنُ الشَّيءِ ، وقولهُ { وَازَّيَّنَتْ } أي تزَّينت بنباتِها وأثمارِها من الأحمرِ والأصفر والأخضر وسائرِ الألوان التي لا غايةَ لها في الْحُسْنِ بعدَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } ؛ حسِبَ أهلُها إدراكَ الانتفاعِ بها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } ؛ أي أتَاها عقابُنا في ليلٍ أو نَهار ، إما ببَردٍ أو بصواعقَ محرقةٍ أو غيرها ، ويسمَّى العقابُ أمراً ؛ لأنَّ أفعالَ الله سبحانَهُ تضافُ إليها بلفظِ الأمر ؛ لأنَّ ذلك أدلُّ على سُرعَةِ السُّكون من غيرِ استبطاءٍ ولا تَعَبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ } ؛ أي كأَنْ لم يكن بذلكَ المكانِ شيءٌ من الخضرِ والحسن والنباتِ ، والْمَغْنَى : هو الموضعُ الذي يقام فيه ويعمر ، والمغانِي : المنازلُ التي يعمِّرها الناس بالنُّزول بها ، كما يقالُ غنَينا بمكانِ كذا إذا نُزَادُ به ، ووجهُ تشبيه الحيامةِ الدنيا بالمطرِ الذي يُنْزَلُ فينبت به النباتُ ، ثم يقضى فينقطعُ أنه كما لا يبقَى من ذلك شيءٌ من ذلك النباتِ ، كذلك المتمسِّكُ بالدنيا أقوَى ما ينتهِي إليه أمرُ دنياه يأتيهِ الموتُ.
وقرأ ابنُ مسعودٍ وتزِّينت ، وقرأ أبو عُثمان الشهدي والضحَّاك (وَازَّانَتْ) على وزن (احْمَارَّتْ) ، وقرأ أبُو رجاء والشعبيُّ والحسن (وَازَّيَّنَتْ) على مثال (افَّعَّلَتْ) مقطوعةُ الألف ساكنة الزاي ، قال قطربُ معناه : (أتَتْ بالزِّينَةِ) كما يقالُ : اذكَّرَتِ المرأةُ وَأَنَّثَتْ إذا أتَتْ بالذُّكورِ والإناثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } ؛ أي كما فصَّلنَاكم ، فكذلكَ نُبيِّنُ الآياتِ في القرآن ، { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ في أمرِ الدُّنيا والآخرة ، وإنما خَصَّ بذلك من يتفَكَّرُ ؛ لأن الغافلَ عن ذلك والمتغافِلُ لا يكادُ ينتفع بهذه الأمور ، بل هو كالأنعامِ وأضَلُّ.
(0/0)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَاللهُ يَدْعُو إلَى عَمَلِ الْجَنَّةِ) ، وقالَ : اللهُ السَّلامُ ، وَدَارُهُ الْجَنَّةُ) { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي يُكْرِمُ مَن يشاءُ بالكرامةِ وبالهدايةِ إلى دينِ القيم ، قائمٌ برضاءِ الله وهو الإسلامِ ، ويقالُ : معنى دار السَّلام الدار التي يسلمُ أهلُها عن الآفاتِ والأمراض والهرَمِ والموت ، والسَّلامُ بمعنى كالرِّضاع والرِّضاعةِ.
(0/0)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } ؛ أي للَّذين أحسَنُوا العملَ في الدُّنيا لَهم الْحُسنَى وهي الجنةُ ولذاتُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزِيَادَةٌ } رُوي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه أنه قالَ حين تَلاَ هذه الآية : (أتَدْرُونَ مَا الزِّيَادَةُ ؟ قَالُواْ : مَا هِيَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : الْحُسْنَى الْجَنَّةُ وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ اللهِ تَعَالَى).
وعلى هذا القولِ حذيفةُ وأبو موسى وصُهيب وعبادةُ بن الصَّامت وكعبُ ابن عَجْرَةَ وعامرُ بن سعيد والحسنُ وعكرمة وأبو الجوزَاءِ والضحَّاكُ والسديُّ وعطاء ومقاتل ، وهو قولُ أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه يدلُّ عليه قولهُ صلى الله عليه وسلم : " إذا دَخَلَ أهْلُ الْجَنَّةِ نُودُوا : أنْ أهْلَ الْجَنَّةِ إنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ مَوْعِداً لَمْ تَرَوْهُ ، فَيَقُولُونَ : وَمَا هُوَ؟! ألَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُزَحْزِحْنَا عَنِ النَّار وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ؟ قَالَ : فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَوَاللهِ مَا أعْطَاهُمُ اللهُ شَيْئاً أحَبَّ إليَهِمْ مِنْهُ ".
وقال ابنُ عبَّاس : (لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الْحُسْنَى ؛ أيْ لِلَّذِينَ شَهِدُوا أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ الْجَنَّةَ) ، وروى عطيَّة : (أنَّ الْحُسْنُى هِيَ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْحَسَنَاتِ بوَاحِدَةٍ ، وَالزِّيَادَةُ التَّضْعِيفُ عَشْرُ أمْثَالِهَا إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ).
وَقِيْلَ : الْحُسْنَى النُّصْرَةُ ، وَالزِّيَادَةُ النَّظَرُ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة : 22-23] ، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ : (الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ ، لَهَا أرْبَعَةُ أبْوَابٍ) ، ويقالُ : الزيادة رضَا الرب ، كما رُوي أنَّ أهلَ الجنَّة يُؤتَونَ بالتُّحَفِ والكراماتِ ويقولُ لَهم رسولُ رب العزَّة (إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكُمْ : قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ فَهَلْ رَضِيتُمْ عَنِّي؟).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ أي لا يَعلُو وجوهَهم ولا يلحقُها سوادٌ وهو كُسُوفُ الوجهِ (وَذِلَّةٌ) أي ولا هَوَانٌ ولا حَزَنٌ ، ولا يكون نعيمُ الجنة كنعيمِ الدُّنيا ، ولا يشوبهُ التنغيصُ ولا التنكيد. والرَّهَقُ في اللغة هو الرُّهُوقُ ومنه قولُهم للصبيِّ إذا قاربَ البلوغَ : مُرَاهِقٌ ؛ أي قاربَ أن يبلغَ الاحتلامَ. والْقَتَرُ : غَيْرَةٌ فيها سوادٌ. وقرأ الحسنُ (قَتْرٌ) بإسكانِ التاء ، وهما لُغتان. وباقي الآية ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } ؛ معناهُ : والذين أبَوا طاعةَ اللهِ في ما أمَرَهم به ونَهاهُم عنه ، يجازِيهم اللهُ بما يستحقُّونه على العقوبةِ ، ولا يجازِيهم بأكثرَ من الاستحقاقِ ، بخلافِ الطاعة فإنه تعالى قد يتفضَّلُ على الْمُطِيعِ بزيادة الأجرِ ، فإنه كان يجوزُ أن يتَّصِلَ ابتداءً بتلك الزيادةِ ، والجزاءُ مرفوعٌ بإضمارٍ ، كقوله{ فَفِدْيَةٌ }[البقرة : 196] أي فَعَلَيْهِ ذلكَ ، ويجوزُ أن يكون مَرفوعاً بالابتداءِ خبرُ { بِمِثْلِهَا } أي مثلِ ، الباءُ فيه زائدةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } ؛ أي يَعْلُوهُمْ كآبَةٌ وكسُوفٌ وهوانٌ ؛ لأن العقابَ لا يكون عقاباً بمجرَّد الألَمِ ، وإنما يكون عِقاباً بما يُقَارِنْهُ بإرادة الإذلالِ والإهانةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } ؛ أي ما لَهم من حافظٍ يدفعُ عنهم عقابَ الله. وقولهُ تعالى : { مِنْ عَاصِمٍ } مِنْ هَهُنا صلةٌ.
وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ الْلَّيْلِ مُظْلِماً } ؛ أي كأنَّما ألبسَتْ وجُوهم قِطَعاً من اللَّيل ، أكثرُ القراءةِ على فتحِ الطَّاء وهو جمعُ قطعَةٍ ، ويكون { مُظْلِماً } على هذهِ القراءة نَصباً على الحالِ ، والقطعُ دونَ النعتِ كأنَّه أرادَ قِطَعاً من الليلِ المظلم ، فلما حذفَ الألفَ واللام نُصب على القطعِ. ويجوزُ أن يكون حالاً ؛ أي قِطَعاً من الليلِ في حال الظُّلمة.
وقرأ ابنُ كثير والكسائي ويعقوب (قِطْعاً) ساكنةً الطَّاء ؛ أي بَعْضاً كقوله تعالى : { بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيلِ }[الحجر : 65] ويكون { مُظْلِماً } نعتاً للقطعِ ، وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أهْلِ الشِّرْكِ). وقولهُ : { جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا } أي قِصَاصُ الشِّركِ بالله النارُ ، ليس في النارِ زيادةٌ على جزاءِ الْمِثْلِ ، إذ لا ذنبَ أعظمُ من الشِّرك ، ولا عِقَابَ أشدُّ من النار ، كما قال تعالى : { جَزَآءً وِفَاقاً }[النبأ : 26]. وقال صلى الله عليه وسلم : " أوْقِدَ عَلَى النَّار ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى احْمَرَّت ، ثُمَّ أُوْقِدَ عَلَيْهَا ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى ابْيَضَّتْ ، ثُمَّ أُوْقِدَ عَلَيْهَا ألْفَ سَنَةٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ ، فَهِيَ سَوْدَاءُ كَاللِّيْلِ الْمُظْلِمِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإنَّ لَوْنَهَا أشَدُّ سَوَاداً مِنَ الْقَبْرِ فِي عَيْنَيْنِ خََضْرَاوَيْنِ ، وَأهْلُهَا سُودٌ ، فَكَذلِكَ طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ ، لَوِ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ أهْلِهَا عَلَى الأَرْضِ لاَسْوَدَّتْ بهَا الأَرْضَ مِنْ شِدَّةِ سَوَادِهِ ".
(0/0)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } ؛ أي يوم نَجْمَعُهم جميعاً من قُبورِهم إلى الْمَحْشَرِ للفَصْلِ بينهم. ونَحْشُرُ في اللغة : جَمْعُ الحيوانِ من كلِّ مكانٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ؛ أي نقولُ للذِينَ أشرَكُوا في عبادتِهم مع اللهِ غيرَهُ ، وأشرَكُوا في أموالِهم كما أخبرَ اللهُ عنهم بقولهِ{ هَـاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآئِنَا }[الأنعام : 136].
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ } ؛ أي يقالُ لَهم : قِفُوا أنتم وآلهتكم ، وهذه كلمةُ تَهِديدٍ ، كما يقالُ للغيرِ : مَكَانَكَ ؛ أي الْزَمْ مكانَكَ حتى تنتظرَ ماذا حلَّ بكَ بسوءِ صَنِيعكَ ، وحتى نفصِلَ بينكَ وبين خصمِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } ؛ أي ففرَّقنا بين الكفارِ وبين آلهتِهم في القولِ بالاختلاف الذي يكون بينهم ، وليس هذا من الإزالة ولكنه من قولك : أزَلْتُ الشيءَ عن مكانهِ أُزِلْهُ أزيلاً ، والترسل الكثيرةُ من هذا الباب ، والمزايَلَةُ المفارقةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ شُرَكَآؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } ؛ معناهُ : إن اللهَ يسألُ الأصنامَ التي عَبدُوها : هل أمرتُم هؤلاءِ بعبادتِكم ؟ فيقولون للذين كانوا يعبدُونَها ردّاً عليهم : { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } بأمْرِنا ولم نعلَمْ بعبادتِكم ، ولم يكن فينا روحٌ فنفعلَ بعبادِتكم ، فيقولُ الكفار : بَلَى قد عبدنَاكم ، وأمرتُمونا فأطعنَاكم ، فتقولُ الأصنام ، كما قال تعالى : { فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } ؛ أي كفَى باللهِ فاصِلاً للحُكم بيننا وبينكم ، { إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ } ؛ لا نعلمُ شيئاً من ذلك. والفائدةُ في اختصارِ الأصنام أن يُظهرَ اللهُ للمشركين ضَعْفَ معبُودِهم ، وليزِيدَهم ذلك حسرةً على عبادتِهم.
(0/0)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ } ؛ من قرأ (يَبْلُو) بالياءِ فالمعنى فنخبرُ كلَّ نفسٍ ما قدَّمت من خيرٍ أو شر ، ومن قرأ (تَبْلُو) بالتاء فالمعنى تقرأ كل " نفسٍ " كتابَ عمَلِها. ويجوزُ أن يكون معناهُ : تَتَّبعَ كلُّ نفسٍ جزاءَ عملها ، و { هُنَالِكَ } من الظُّروف ، أصلهُ هُنَاكَ ، واللامُ زائدةٌ والكاف للمخاطَبةِ ، وكُسِرت اللامُ لسكونِها وسكونِ الألفِ.
وقولهُ تعالى : { وَرُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } ؛ أي رُدُّوا إلى جزاءِ الله وإلى الموضعِ الذي لا يملكُ الحكمَ فيه أحدٌ إلا الله ، والحقُّ هو الذي يكون معنى اللفظِ حاصلاً فيه على الحقيقةِ ، واللهُ تعالى حقٌّ لأنَّ الإلهيَّة حاصلةٌ له على الحقيقةِ ؛ لاقتدارهِ على جميعِ الأشياء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ وبَطَلَ عنهم ما كانوا يختَلِقُون من الكذب بالأصنامِ أنَّها آلهةٌ وأنَّها تشفعُ عندَ اللهِ.
(0/0)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي قل لكفَّار مكَّة : مَن يرزُقكم من السَّماء المطرَ ؛ و ؛ مِنَ { وَالأَرْضِ } ؛ النباتَ والثمارَ ، { أَمَّن يَمْلِكُ } يقدرُ على أن يخلُقَ لكم ، { السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } ؛ أي مَن يُخرِجُ الحيَّ مِن النُّطفةِ ، { وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ } ؛ أي مَن يخرِجُ النطقةَ من الحيِّ ، والفرخَ من البيضةِ ، والبيضةَ من الفرخِ ، والسُّنبلةَ من الحبَّة ، والحبةَ من السُّنبلةِ ، { وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ } ؛ أمَرَ العبادَ على وجهِ الحكمة ، { فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ } ؛ فيعرِفُون باللهِ تعالى هو الذي يفعلُ هذه الأشياءَ ، وأنَّ الأصنامَ لا تقدرُ على شيءْ من هذا ، { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ فقُل لَهم يا مُحَمَّد : أفَلا تخافون من عقاب الله ، ولِمَ تعبدون الأصنامَ.
(0/0)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ } ؛ الذي يرزقُكم من السَّماء والأرضِ ، ويُخرِجُ الحيَّ مِن الميت ، ويُخرج الميتَ من الحيِّ ، ويدبرُ الأمرَ ، وهو ربُّكم الحقُّ دون الأصنامِ الباطلة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } ؛ أي فما يردُّكم عن عبادةِ الله وهو الحقُّ إلى عبادةِ الأصنام الباطلةِ إلا الضَّلالَ ، ومِن أين { فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } ؛ عن الإيمانِ باللهِ وإخلاصِ الطاعة له بعدَ المعرفةِ.
(0/0)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي كما وجَبت كلمةُ العذاب فيهم ، وجبَ على كلِّ مَن تَمرَّدَ بالكفرِ ، وقوله : { أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يجرِي مجرَى التَّعليلِ ، كأنَّه قالَ بإصرارِهم على الكُفرِ ؛ لأنه كلما كان تمرُّدهم أكثرَ ، كانوا في الكفرِ أشدَّ ضلالةً ، وإلا فقد آمَنَ كثيرٌ من الكفار ، وقال ابنُ عبَّاس : (وَجَبَتْ كَلِمَةُ الْعَذَاب عَلَيْهِمْ وَهُمْ فِي صُلْب آدَمَ عليه السلام).
(0/0)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : هل مِن شركائِكم الذين أشرَكتُم مع اللهِ في العبادة من ينشئُ الخلقَ من النُّطفةِ بعد أنْ لم يكن ، ويجعلُ فيه الروحَ ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } فيه اختصارٌ ؛ لأنَّ الإعادةَ ردُّ الشيء إلى الحالةِ الأُولى ، ولا يكون ذلك إلا بعد فَنَاءٍ ، فيكون تقديرُ الآية : مَنْ يَبْدَأْ الخلقَ من النطفةِ ، ثم يُفْنِيهِ ، ثم يعيدهُ في الآخرةِ. { قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } ؛ أي مِن أين تُصرَفُون عن الإيمانِ بالله وإخلاصِ الطاعة له.
(0/0)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ } ؛ أي قل هل مِن آلهتِكم مَن يهتدي إلى الرُّشدِ ، وما فيه صلاحٌ لَهم ، { قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ } ؛ أي الرَّشَادِ وما فيه صلاحُ الإنسانِ ، يقالُ : هُدِيتُ إلى الحقِّ ، وهُدِيتُ لِلحَقِّ بمعنًى واحد.
وقولهُ تعالى : { أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى } معناهُ : أفمَن يدعو إلى عملِ الحقِّ أحقُّ أن يطاعَ ويُعمََل بأمرهِ ، أمَّن لا يهتدِي طريقاً إلا أن يُمل فيُذهبَ به حيث يرادُ ، يعني الأصنامَ ، كأنه قالَ : إن " الأصنام " التي يعبدونَها مِن دون الله لا تَهتدي بأنفُسِها إلا أنْ يهدى بها عند غيرِها.
واختلف القُرَّاء في قولهِ : { أَمَّن لاَّ يَهِدِّي } ، وأجودُها قراءَتان : (يَهَدِّي) فتح الهاء ، و(يَهِدِّي) بكسرِِ الهاء ، والأصلُ في ذلك يهتَدِي أُدغمت التاءُ في الدَّال ، وطُرِحَ فتحُها على الهاءِ ، وكُسرت الهاءُ لالتقاء السَّاكِنَين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؛ معناهُ : أيُّ شيءٍ لكم في عبادةِ الأوثان ؟ فيكفَ تقضون لأنفُسِكم ، فتعبدُون مَن لا يستحقُ العبادةَ؟
(0/0)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً } ؛ أي ما يعبدُ أكثرهم الأصنامَ إلاّ تقليداً لآبائِهم وقبائلِهم بظَنٍّ يظنُّونه في غيرِ يقين ، يعني أنَّ رؤَساءَهم قالت لَهم : إن الأصنَامَ تشفعُ لهم عندِ الله ، وأما السَّفَلَةُ فلا يعملون إلا ما قالت رُؤَساؤهم.
وقوله تعالى : { إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } ؛ أي إنَّ الظنَّ في موضعٍ يمكن الوقوفُ فيه على العلمِ لا يُغني عن الحقِّ شيئاً ؛ لأنه لا يكون ذلك بمنْزِلة مَن عرفَ شيئاً باليقينِ ثم تركَ ما عرفَ بالظنَّ ، فإن عِلْمَهُ بالظنِّ لا يُغني عن عمل الحقِّ شيئاً ، وعبادةُ الصَّنم بالظنِّ لا تُغني من عذاب الله شيئاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } ؛ وعيدٌ لهم على كُفرِهم.
(0/0)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ هَـاذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ هذا جوابٌ عن دعواهم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم الافتراءَ على اللهِ وقولهم : إئْتِ بقرآنٍ غيرِ هذا أو بدِّلهُ ، معناه : إن القرآنَ كلامُ اللهِ في أعْلاَ طبَقاتِ البلاغةِ بحُسنِ النظامِ ، فليس هذا مما يقدر أحدٌ أن يفتريَهُ عل اللهِ ، { وَلَـاكِن تَصْدِيقَ } ؛ الكُتُبَ المَنَزَّلة ، { الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، من التوراةِ والإنجيل والزَّبُورِ ؛ لِمَجيئهِ شاهداً لها بالصِّدقِ ، وبكونه مُصَادقاً بما تضمَّنته تلك الكتبُ من البشارةِ.
ويجوزُ أن يكون معنى التصديقِ لما { بَيْنَ يَدَيْهِ } أي التصديقُ بما بين يدَي القرآن من البعث والنُّشور والحساب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ } ؛ معناه : وتبيينَ المعاني المختلفةِ من الحلالِ والحرام والأمرِ والنهي ، { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ؛ أيْ لاَ شَكَّ فيه أنه حقٌّ ، { مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ }.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } ؛ معناهُ : بل يقولون : إنَّ مُحَمَّداً اختلقَ هذا القرآنَ من تِلْقَاءِ نفسهِ! قل يا مُحَمَّدُ : إن كان هو اخْتَلَقَهُ فَأْتُوا بسورةٍ من مثل " سُوَر " القرآنِ ، فإنَّما قال ذلكَ ؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَشَأ بين أظهُرِهم وتعلَّمَ اللغةَ منهم ، فإذا لم يَأْتُوا مع حرصِهم على تكذيبهِ وإبطالِ أمره ، دلَّ أنَّ مِثْلَهُ غيرُ مقدورٍ للبشرِ. ومعنى الآية : فلو قَدَرَ هو على افتراءِ القرآن لقَدرَتُم أنتم على الإتيانِ بسُورةِ مثلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي استَعِينُوا على الإتيان بسورةٍ مثل القرآنِ بكلِّ مَن قدرتُم عليه ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أن مُحَمَّداً اخْتَلَقَهُ من تلقاءِ نفسه ، فَإنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بأَنْ يَسْتَبدَّ إنْسَانٌ بالافْتِرَاءِ عَلَى كَلاَمٍ لاَ يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَأْتِيَ بِمثْلِهِ.
فلمَّا قرأ عليهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآيةَ فلم يُجيبوا ، فَأنزلَ الله :
قولَهُ تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } ؛ أي بل كذبوا بما لم يُدرِكوا من كيفيَّة ترتيبهِ ونَظْمِهِ ، وما فيه من الجنَّة والنار والبعثِ والقيامة والثواب والعقاب ، { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } ؛ أي ولَم يَأْتِهِمْ بعدُ حقيقةِ ما وُعِدُوا في الكتاب مما يَؤُولُ إليه أمرُهم من العقوبةِ والعذاب على التكذيب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أنبياءَهم من البعثِ ، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } ؛ يعني أنَّ عاقِبَتهم العذابُ والهلاك بتكذيبهم ، كذلك يكون عاقبةُ هؤلاءِ.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي وَمِنَ الْيَهُودِ مَنْ يُؤْمِنُ بالْقُرْآنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصِرُّ عَلَى كُفْرِهِ فَلاَ يُؤْمِنُ بهِ) ، { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ } ؛ باليهودِ مَن يؤمنُ ومَن لا يؤمنُ ، وقال مقاتلُ : (نَزَلَت فِي أهْلِ مَكَّةَ). وَقِيْلَ : في الآيةِ إشارةٌ إلى أنه لولاَ أنَّ اللهَ تعالى عَلِمَ أنَّ منهم مَن سيُؤمِنُ في المستقبلِ لأهلَكَهم جميعاً في الحالِ.
(0/0)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } ؛ أي إنْ كذبَكَ قومْكَ في ما أتَيْتَهم به فقل : لِي جزاءُ عمَلِي ، ولكم جزاءُ أعمَالِكم ، { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّآ أَعْمَلُ } ؛ من جزاءِ عمَلي ، { وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ؛ من جزاءِ أعمَالِكم ، وكان هذا القولُ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم على جهةِ حُسنِ العِشْرَةِ معهم لا لأنه كان شَاكّاً في جزاءِ عملهِ وجزاء عملهم ، وقال الكلبي ومقاتلُ : (هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بأيَةِ الْجِهَادِ).
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي يَهُودِ الْمَدِينَةِ ، كَانُوا يَبْلُغُونَ مَكَّةَ فَيَأْتُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَيَسْأَلُونَهُ وَيَسْتَمِعُونَ قِرَاءَتَهُ فَيُعْجِبُهُمْ ذلِكَ وَيَشْتَهُونَهُ ؛ ثُمَّ تَغْلِبْ عَلَيْهِم الشَّقَاوَةَ فَلاَ يُؤمِنُونَ بهِ). والمعنى : ومِنهم مَن يستمعُ إليك وهو في المعنى كأنَّهُ متفكِّرٌ في ما تقولُ وهو غيرُ متفكِّر فيهِ.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ } ؛ نظرَ مَن هو في الظاهرِِ مستمعٌ إلى كلامِكَ ، وطالبٌ الانتفاعَ به ، وليس في الحقيقةِ كذلكَ ، قوله : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ }[يونس : 42] أي كما لا يقدرُ أنْ يسمعَ كلامَكَ الصمُّ ، فكذلك لا يقدرُ على أن ينتفع مِنْ كلامِكَ غيرَ طالبٍ الانتفاعَ به ، وكما أنَّكَ لا تقدرُ على أن تُبْصِرَ العُمْيَ ، فكذلك لا تقدرُ على أنْ تنفعَ بما يأتي مَن الأدلَّة مَن ينظرُ ولا يطلبُ الانتفاعَ بها. وفي الآية ما يدلُّ على تفضيلِ السَّمعِ على البصرِ ؛ لأنه تعالى ذكَرَ مع الصم فُقدان العقل ، ولم يذكر مع العمَى إلا فقدانَ البصرِ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً } ؛ أي لا ينقصُ من حسناتِهم ، ولا يزيدُ في سيِّئاتِهم ما يمنعهم الانتفاعَ بكلامهِ وأدلَّتهِ ، { وَلَـاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ بأنْ لا يطلُبوا الانتفاعَ به ويُعرِضَوا عن التفكُّرِ فيه ، أخبرَ اللهُ في هذه الآيةِ أن تقديرَ الشَّقاوَةِ عليهم لم يكن ظُلماً منه ؛ لأنه يتصرَّفُ في مُلكهِ كيف يشاءُ ، وهم إذا كسَبُوا المعاصي فقد ظلَمُوا أنفُسَهم ؛ لأن الفعلَ منسوبٌ إليهم وإنْ كان القضاءُ من اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } ؛ أي ويوم يجمَعُهم في الموقف كأنْ لم يلبَثُوا في الدُّنيا إلا قدرَ ساعةٍ من النَّهارِ ، وفي هذا بيانُ أنْ الْمُكْثَ في الدُّنيا وإنْ طالَ ، كان في جَنْب الآخرةِ بمنْزِلة ساعةٍ من النَّهار. قوله تعالى : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي يعرِفُ بضعهُمْ بعضاً ، ويكون في معرفةِ بعضِهم لبعضٍ حَسْرَةٌ على مَن ضَلَّ بقيام الحجَّة عليهم.
وقال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ حِينَ يُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِهمْ ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ) ، وَقِيْلَ : معناهُ : كأَنْ لَم يلبَثُوا في قبُورِهم إلا ساعةً من نَهارِهم ، وقال الضحَّاك : (قَصْرَ عِنْدَهُمْ مِقْدَارُ الْوَقْتِ الَّذِي بَيْنَ مَوتِهِمْ وَبَعْثِهِمْ ، فَصَارَ كَالسَّاعَةِ مِنَ النَّهَارِ لِهَوْلِ مَا اسْتَقْبَلُوا مِنْ آخِرِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ ، يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ بتَوْبيخِ بَعْضِهمْ بَعْضاً ، يَقُولُ كُلُّ كَافِرٍ لآخَرَ : أنْتَ أضْلَلْتَنِي يَوْمَ كَذا ، وَأنْتَ أوْرَثْتَنِي دُخُولَ النَّارِ بمَا عَلَّمْتَنِي وَزَيَّنْتَهُ لِي). قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ } ؛ أي غُبنَ الذين كذبوا بالبعثِ بعد الموت بذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم ، { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }.
(0/0)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } ؛ في الآيةِ وعدٌ مِن الله لنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم أن ينتقمَ له منهم ، منهُ في حياتهِ أو بعدَ مَماتهِ ، قال المفسِّرون : كانت وَقْعَةُ بَدْرٍ مما أراهُ الله في حالِ حياته مما أوعدَ المشركين من العذاب { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } قبلَ أن نُريَكَ ، { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } بعدَ الموتِ فيجزيَهم بأعمالِهم.
قال الزجَّاج : (أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَقِمْ مِنْهُمْ فِي الْعَاجِلِ انْتَقَمَ مِنْهُمْ فِي الآجِلِ). وقولهُ تعالى : { فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } أي لا يفوتُونَنا ولا يُعجِزُوننا. وعن ابن عبَّاس قال : " نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ : إنَّ رَبي أمَرَنِي أنْ لاَ أُفَارِقَكَ الْيَوْمَ حَتَّى تَرْضَى ، فَهَلْ رَضِيتَ ؟ قَالَ : " نَعَمْ ؛ أرَانِي بَعْضَ مَا أوْعَدَهُمْ فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى ذلِكَ ". وقولهُ تعالى : { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ } ؛ مِن محاربَتِكَ وتكذيبكَ.
(0/0)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ } ؛ أي لكلِّ أُمَّةٍ من الأُمم رسولٌ يدعُوهم إلى ما أمَرَهم اللهُ به ونَهاهم عنه ، ويبشِّرُهم بالجنةِ ويخوِّفُهم بالنار ، { فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ } يومَ القيامةِ شاهدٌ عليهم بأعمالهم { قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ بالعدلِ فيُوَفَّى كلُّ إنسانٍ جزاءَ عمله لا يُنقَصُ من ثواب مُحْسِنٍ ، ولا يزادُ على عقاب مُسِيءٍ.
كما رُوي في الخبرِ : (أنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ألَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلِي بكِتَابي فِيْهِ حَلاَلِي وَحَرَامِي ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أتَانَا رَسُولٌ وَلاَ كِتَابٌ! ثُمَّ يُؤْتَى بالرَّسُولِ الَّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِمْ فَيَقُولُ : بَلْ يَا رَب قَدْ أْبْلَغْتُهُمْ كِتَابَكَ وَرسَالَتَكَ. فَيَقُولُ : مَنْ يَشْهَدَ لَكَ ؟ فَيَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ : نَحنُ نَشْهَدُ قَدْ أبْلَغَهُمْ رسَالَتَكَ وَكِتَابَكَ ، فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا هَؤُلاَءِ خَلْقُكَ يَشْهَدُونَ لَكَ بمَا شِئْتَ! فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى ألْسِنَتِهِمْ وَيَأْذنُ لِجَوَارِحِهِمْ فِي الْكَلاَمِ ، فَيَشْهَدُ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
(0/0)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَـاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي يقولُ الكفَّارُ : وَقِّتْ لنا وَقتاً بمجيء هذا الوعدِ الذي وَعَدتَنا به من العذاب إنْ كنتَ من الصَّادقين أنَّ العذابَ ينْزِلُ بنا.
(0/0)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } ؛ أي قل يا مُحَمَّدُ : لا أقدِرُ لنفسي على دفعِ ضَرٍّ وجرِّ نفعٍ إلا ما شاءَ اللهُ أن يقدرَ لي عليه ، فكيف أقدرُ لكم. { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } ؛ أي وقتٌ مضروب ، { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ؛ بعد الأجَلِ ولا يتقدَّمون.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنْ أتاكُم عذابُ الله لَيلاً أو نهَاراً ما الذي يستعجلُ من العذاب المشركونَ ، أي كيف يَصنعون وكيف يقبَلُ منكم إيمانكم وهو إيمانُ الإنجاءِ إذا نزلَ بهم العذابُ.
(0/0)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ } ؛ الألِفُ في أوَّل هذه الآية ألِفُ استفهامٍ ، ذُكرت على جهةِ الإنكارِ ، والمعنى إذا نزلَ عليكم العذابُ آمَنتُم به ؟ قالوا : نَعَمْ ، قل لَهم يا مُحَمَّدُ : { الآنَ } ؛ تؤمنون { وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } ؛ وهو العذابُ الدائم الذي لا ينقطعُ ، { ثُمَّ قِيلَ } ؛ أي يقولون ، { لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } ؛ أي تعملون في الدُّنيا.
(0/0)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ } ؛ ويَستَخبرُونَكَ يا مُحَمَّدُ : أحقٌّ ما تَعِدُنا من العذاب والبعث بعد الموت ؟ { قُلْ } ؛ نَعَمْ وأحْلِفْ عليه { إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ } ؛ إنه صدقٌ وكائن ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ؛ اللهَ عن إحلالِ العذاب بكم ، ويحتملُ أن يكون المرادُ بقوله تعالى { أَحَقٌّ } هو دينُ الإسلام ؟ قالَ الزجَّاج : (مَعْنَى قَوْلِهِ : (أي وَرَبي) : نَعَمْ إنَّهُ لَحَقٌّ ؛ أيْ إنَّ الْعَذابَ نَازلٌ بكُمْ).
(0/0)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ } ؛ أي لو أنَّ كلَّ إنسان ظالمٍ كان له ما في الأرضِ جَميعاً لافتدَى به من عذاب الله ، ثم لا ينفعهُ ذلك ولا يُقبَلُ منه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ } أي أسَرَّ القادةُ الندامةَ عن الأتباع حين رأوا العذابَ ، والمعنى : أخْفَى الرؤساءُ في الكفرِ الندامةَ عن الذين أضَلُّوهم وسَتَروها عنهم ، هذا قولُ عامَّة المفسِّرين.
وقال أبو عُبيد : (الإِسْرَارُ مِنَ الأَضْدَادِ ، يُقَالُ : أسْرَرْتَ الشَّيْءَ إذا أخْفَيْتَهُ ، وَأَسْرَرْتَهُ إذا أعْلَنْتَهُ) قَالَ : (مِنَ الإعْلاَنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ } أيْ أظْهَرُوهَا). قِيْلَ : معناهُ : وأخلَصُوا الندامةَ ، والإسرارُ الإخلاصُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ؛ أي قَُضِيَ بين الخلائقِ كلِّهم بالعدل ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ بأَنْ لا يُزادَ على عذاب الْمُسيءٍ على قدره المستحقِّ.
(0/0)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ لا يقدرُ أحدٌ على منعهِ من إحلالِ العقاب بمَملُوكِه ، { أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ بإحلالِ العقاب بالْمُجرِمين ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ } ؛ يعنِي قُريشاً ، والموعظةُ القرآنُ ، والمواعَظَة التي تدعو إلى الصلاحِ ، (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدور) أي دواءٌ لذوي الجهلِ ، والقرآنُ مزيلٌ للجهلِ وكاشفٌ لَعَمَاءِ القلوب ، { وَهُدًى } ؛ وبيانٌ من الضَّلالةِ ، { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي ونِعمَةٌ من اللهِ لأصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ومعنى الْمُوعِظَةُ الإِيَابَةُ بما يدعو إلى الصَّلاحِ بطريق الرَّغْبَةِ والرهبةِ. ومعنى الشَّفَاءِ ما يجدهُ مَن يستدلُّ إعجازَ القرآن من الرُّوح بزوالِ الشِّركِ والتشبيه ، وهو شرحُ الصَّدرِ الذي ذكرَهُ الله بقولهِ : { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ }[الزمر : 22]. ومعنى (الْهُدَى) بيانُ الشَّرائعِ من الحلالِ والحرام والفَرضِ والنَّدب والإيابة. وأما الرَّحْمَةُ فهي الإنعامُ على المحتاجِ بدليلِ أن مَلِكاً لو أهدَى إلى مَلِكٍ لم يكن لهُ منهُ رحمةً عليه ، وأما تخصيصُ المؤمنين بالرحمةِ ؛ فلأنَّهم همُ الذين ينتفِعون بنِعَمِ الدِّين.
(0/0)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهد والحسنُ وقتادة : (فَضْلُ اللهِ الإسْلاَمُ ، وَرَحْمَتُهُ الْقُرْآنُ) وهذا قولُ عامَّة المفسِّرين. وعن أبي سعيدٍ الخدري قالَ في معنى هذهِ الآية : (فَضْلُ اللهِ الْقُرْآنُ ، وَرَحْمَتُهُ جَعْلُكُمْ مِنْ أهْلِهِ) والمعنى : قل يا مُحَمدُ لأصحابكَ : بالقُرآنِ الذي أكرمَكَ اللهُ به والإسلام الذي وفَّقَكم له فَافْرَحُوا ، { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } يجمعُ اليهود والمشركون من الأموالِ.
وقرأ بعضُهم (فَلْتَفْرَحُوا) و(تَجْمَعُونَ) كِلاهما بالتاءِ المخاطبة. وعن محمَّد بن كعبٍ القرظي قال : (إذا عَمِلْتَ عَمَلاً رَجَاءَ ثَوَاب اللهِ فَافْرَحْ ، فَإنَّهُ خَيْرٌ لَكَ مِمَّا يَجْمَعُ أهْلُ الدُّنْيَا).
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ } ؛ أي قُل يا محمَّد لأهلِ مكَّة : أرأيتُم ما أنزلَ الله لكم في الكتاب من رزقٍ جعلَهُ لكم حَلالاً طيِّباً من الأنعامِ والحرث ، { فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً } ؛ أي جعلتُم البَحَائِرَ والسَّوَائِبَ حَلالاً للرِّجال منفعةً ، وحَراماً على النساءِ ، وجعلتُم لآلهتِكم من الحرثِ نَصيباً فحرَّمتموهُ على النساءِ ، وأحللتموهُ للرجال ، والله سبحانه لم يحرِّمْ شيئاً من ذلكَ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمدُ : { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } ؛ أمَرَكم بتحريمهِ ، { أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } ؛ تختَلِقُون الكذبَ ، يعني : بَيِّنُوا الحجةَ في ذلك ، وإلاَّ فأنتم تَفْتَرُونَ على ربكم.
ثم أوعدَهم على الكذب فقال : { وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي ما ظَنُّ الذين يَكْذِبُونَ على اللهِ في التحليل والتحريمِ ماذا يفعلُ بهم يومَ القيامةِ ، أتَظنُّون أن اللهَ لا يعاقبُهم على افترائِهم عليه ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } ؛ أي لَذُو مَنٍّ عليهم بتأخيرِ العذاب عنهم ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } ؛ نِعَمَ اللهِ.
(0/0)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } ؛ أي وما تكونُ في أمرٍ من الأمُور ، وقال الحسنُ : (مِنْ شَأْنِ الدُّنْيَا وَحَوَائِجِكَ فِيهَا ، وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ ، أيْ مِنَ اللهِ نَازلٍ مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ يُوحَى إلَيْكَ مِنْ سُورَةٍ أوْ آيَةٍ تَقْرَأُ عَلَى أُمَّتِكَ).
والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتُهُ داخلون فيه ؛ لأنَّ خطابَ الرئيس خطابٌ له ولأتباعهِ ، يدلُّ على ذلك قولهُ : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً } أي ما تعمَلون أنتم جميعاً يا بَنِي آدمَ عامَّة ويا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ من خيرٍ أو شرٍّ ، إلاّ كُنَّا على أمرِكم وتِلاوَتِكم وعمَلِكم شُهوداً إذ تدخلون فيه. قال الفرَّاء : (مَعْنَاهُ يَقُولُ : اللهُ تَعَالَى شَاهِدٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) وَالْمَعْنَى ألاَ يَعْلَمُهُ فَيُجَازِيكُمْ بهِ. والإفَاضَةُ الدخولُ في العملِ ، وقال ابنُ الأنباريِّ : (إذ تَنْدَفِعُونَ فِيْهِ) وقال ابنُ عبَّاس : (إذ تَأْخُذُونَ فِيْهِ).
قَوْلُهُ تََعَالَى : { وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ } ؛ أي ما يغيبُ وما يبعُد ، { مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } ، من وزنِ نَملَةٍ حميراء صغيرةٍ من أعمالِ العباد ، { فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ } ولا أخفَّ من الوزنِ من الذرَّة ، { وَلا أَكْبَرَ } ، ولا أثقلَ منه ، { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ، إلاّ وهو مع علمِ الله تعالى ومكتوبٌ في اللوحِ المحفوظ. والعُزُوبُ البُعْدُ والذهابُ ، ويَعْزُِبُ بضمِّ الزاي وكسرِها لُغتان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ } أي وَزْنَ ذرَة ، ومثقالُ الشيء ما وَازَنَهُ.
قال الفرَّاءُ : (مَنْ نَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَصْغَرَ } و { أَكْبَرَ } فَإِنَّمَا أرَادَ الْخَفْضَ يُتْبعْهُمَا الْمِثْقَالَ وَالذرَّةَ ، إلاَّ أنَّهُمَا لاَ يَنْصَرِفَانِ ؛ لأنَّهُمَا عَلَى وَزْنِ أفْعَلَ اتِّبَاعُ مَعْنَى الْمِثْقَالِ ؛ لأنَّكَ لَوْ لَقِيتَ مِنَ الْمِثْقَالِ مَنْ كَانَ رَفْعاً وَهُوَ كَقَوْلِهِ : مَا أتَانِي مِنْ أحَدٍ عَاقِلٍ وَعَاقلٌ ، وَكَذلِكَ : مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِهِ وَغَيْرُهُ).
وَقِيْلَ : رُفع على الابتداءِ ، وخبرهُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } فمَن قرأ (وَلاَ أصْغَرَ وَلاَ أكْبَرَ) بالنصب فالمعنى : وما يعزبُ عن ربك مِن مثقال ذرَّة ، ولا أصغرَ من ذلكَ ولا أكبرَ. ومَن رفع المعنى : وما يعزبُ عن ربكَ مِثقالُ ذرَّةٍ ، ولا أصغرُ ولا أكبر.
(0/0)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } معناهُ : ألا إنَّ أولياءَ الله تولاَّهم اللهُ بفحظهِ وحيَاطَتهِ ، لا خوفٌ عليهم يومَ القيامةِ ولا هم يَحْزَنُونَ على ما اختَلَفوا في الدُّنيا ، وقولهُ تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ؛ تفسيرُ أولياءِ الله ؛ أي الذين يؤمِنون بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ، ويتَّقون الشِّركَ والفواحشَ ، وعن رسولِ لله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ سُئِلَ عَنْ أوْلِيَاءِ اللهِ فَقَالَ : " هُمُ المُتَحَابُّونَ فِي اللهِ " وعنه صلى الله عليه وسلم قال : " هُمُ الَّذِينَ إذا رُؤُوا ذُكِرَ اللهُ " يعني إذا رآهمُ العامَّة ذُكِرَ من أجل سِيمَاهُم في وجوهِهم.
وسُئل عيسى عليه السلام عنهم فقال : (هُمُ الَّذِينَ نَظروا إلَى بَاطِنِ الدُّنْيَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ إلَى ظَاهِرهَا ، وَنَظَرَواْ إلَى آجِلِهَا حِينَ نَظَرَ النَّاسُ إلَى عَاجِلِهَا ، فأَحْيَوا ذِكْرَ الْمَوْتِ وَأمَاتُوا ذِكْرَ الْحَيَاةِ ، يُحِبُّونَ اللهَ وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ).
(0/0)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
قولهُ : { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ؛ معناهُ : لَهم البُشرى في الحياةِ بالقرآن ، وفي الآخرةِ بالجنة. ويقالُ : أرادَ بالبشرى في الدُّنيا بشَارَةَ الملائكةِ{ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ... }[فصلت : 30] الآية.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ بَعْدِي إلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ " قيل : وَمَا الْمُبَشِّراتُ ؟ قَالَ عليه السلام : " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِنَفْسِهِ " وقرأ له : " وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأرْبَعِينَ جُزءْاً مِنَ النُّبُوَّةِ ، فَمَنْ أُرِيَ ذلِكَ فَلْيُخْبرْ بهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } ؛ أي لا خلفَ في وعدِ اللهِ ، وقولهُ تعالى : { ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ؛ أي ذلِكم الذي وعدَكم اللهُ هو الثوابُ الوافِرُ والنجاةُ الوافرة.
(0/0)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } ؛ أي لا يحزُنكَ يا مُحَمَّدُ تكذيبُهم إيَّاكَ وتَهديدُهم لكَ بالقتلِ ، وفيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم على كُفرِهم وتكذيبهم ونِسبَتِهم له إلى الافتراءِ على ربه ، وقوله تعالى : { إِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } ؛ استئنافُ كلامٍ ، ولذلك كُسرت (إنَّ) ، والمعنى : فإنَّ القوةَ لله جميعاً يمنعُهم عنكَ بعزَّتهِ ، ولا يتعذرُ أحدٌ الا بإذنه وهو ناصِرُكَ وناصرُ دينِكَ ، و { هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لمقالةِ الكفَّار { الْعَلِيمُ } ؛ بضمائرهم. ولا يجوزُ أن يقرأ (أنَّ الْعِزَّةَ) بالنصب لاستحالةِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحزنهُ قولُ الكفارِ بأنَّ العزةّّ لله جميعاً.
(0/0)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَنْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي له مَن فيهما من الخلقِ على مَن لا يعقلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ شُرَكَآءَ } ؛ أي ما يتَّبعون شركاءَ على الحقيقةِ والمعرفة ، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } ؛ أي ما يدَّعونَهم إلا بالظنِّ بتقليد آبائِهم وقولِ بعضهم : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر : 3] ويظنُّون أنَّها تشفعُ لهم يومَ القيامةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } ؛ أي ما هُم إلا يكذِبون في قولِهم إنَّها تشفعُ لهم عند اللهِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
قولهُ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } ؛ أي هو الذي جعلَ لكم الليلَ لتنَامُوا فيه وتستريحوا عمّا لَحِقَكم من النَّصَب بالنهار ، وخلقَ النهارُ مُضيئاً للذهاب والمجيء وطلب المعيشةِ ، وسَمَّاهُ مُبصراً ؛ لأنه يُبصر فيه كما قال رُؤبة : (قَدْ نَامَ لَيْلِي ، وَتَجَلَّى هَمِّي). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ } ؛ أي في ذلك للدلالاتِ ، { لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } ؛ دلائلَ الله ، ويتفكَّرون فيها.
(0/0)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ } ؛ أي قال الكفارُ : اتَّخَذ اللهُ وَلَداً ، فإن المشركين قالُوا : الملائكة بناتُ الله ، واليهود قالوا : عزيرٌ ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيحُ ابن الله ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ أي تَنْزِيهاً له عن الولدِ ، والشَّريكِ ، { هُوَ الْغَنِيُّ } ، هو غنيٍّ عن اتخاذِ الولد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ معناهُ : إنَّ مَن كان له مُلْكُ السَّموات والأرضِِ وما بينهما ، فما حاجتهُ الى اتِّخاذ الولدِ؟! وإنما يتخذُ الولدَ ذو الضَّعْفِ ليتقوَّى به ، ويستعِينَ به على بعضِ أمُورهِ ، وذو الوَحشَةِ ليستأنسَ به ، ومَن يخافُ الموتَ على نفسهِ ، فيتَّخذُ الولدَ ليخلُفَهُ في أملاكهِ بعد موته ، واللهُ تعالى لا يجوز عليه السُّرور ولا المنافعُ والمصارف ، ولا يلحقهُ الموت ، فهو غَنِيٌّ عن اتخاذِ الولد.
ثم طالبَ الكفارَ بالحجَّة والبرهان ، فقال عَزَّ وَجَلَّ : { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـاذَآ } ؛ أي ما عنَدكم من حجَّةٍ وبرهان على هذا القولِ ، ثم أنكرَ عليهم ذلك تَبْكِيتاً لهم فقال تعالى : { أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ وهذا على حجَّة الإنكار والردِّ عليهم ؛ أي لِمَ تقولون على اللهِ ما لاَ علمَ لكم به ولا حجَّةَ لكم عليه.
(0/0)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } أي قُل يا مُحَمَّد إن الذين يختلقون كَذِباً ؛ يكذِبُون به على اللهِ تعالى لا يُفلِحُونَ في الدُّنيا بالحجَّة ولا بالآخرةِ في الثواب ، ولا يسعَدون في العاقبةِ وإن اغترُّوا بطول السَّلامة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا } ؛ رُفع على معنى ذلكَ متَاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به قليلاً ثم ينقضِي. وَقِيْلَ : لَهم متاعٌ في الدُّنيا يتمتَّعون به أيَّاماً يسيرةً ، { ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ } ؛ الغليظَ الذي لا ينقطعُ ، { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ، أي بكُفرِهم بالله ورسولهِ.
(0/0)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ } ؛ أي إقرَأ عليهم خبرَ نوحٍ ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } ؛ ثَقُلَ عليكم وعَظُمَ ، { مَّقَامِي } ؛ ومُكثِي فيكم ، { وَتَذْكِيرِي } ؛ وعِظَتي لكم { بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ } ؛ به وَثِقْتُ وإليه فوَّضتُ أمْرِي ، وذلك حين قالُوا له : { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ }[الشعراء : 116].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } ؛ أي اعِزمُوا علكى أمرِكم مع شركائِكم. وَقِيلَ : معناهُ : فاعِزمُوا على أمرِكم ، وادعُوا لآلهتِكم واستَعِينوا بهم ، وأجْمِعُوا على أمرٍ واحد. ومَن قرأ (فاجْمَعُواْ) بنصب الميم فهو من الْجَمْعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } ؛ أي يكُن أمرُكم عليكم ظاهِراً مُنكَشفاً لا يسترهُ شيء. والغُمَّةُ مأخوذةٌ من الغَمامَةِ ، ويقالُ الغَمُّ ؛ أي لا يكون أمرُكم غَمّاً عليكم وفرِّجوا عن أنفسكم ، { ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ } ؛ أي امْضُوا بما تقصِدُون من القتلِ ولا تُمهَلون.
قال الزجَّاجُ : (الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ { وَشُرَكَآءَكُمْ } بمَعْنَى مَعَ) والمعنى فاجْمِعوا أمرَكم مع شركائِكم ثم لا يكون أمرُكم عليكم مبهماً ، يعني ليكن أمركم ظاهراً منكشفاً لا تسترون معاداتي ، ثُمَّ امضُوا إلَيَّ بمكرُوهِكم وما توعدونني به. معنى قضاءِ الشيء امضاؤهُ والفراغُ منه ، وهذا أحدُ معجزاتِ نوحٍ عليه السلام ؛ لأنه كان وَحيداً ، وقد قَرَعَهم بالعجزِ عن الوصولِ اليه وإلى قتلهِ ، فلم يقدِرُوا عليه بسُوءٍ.
(0/0)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ } ؛ معناهُ : فإنْ أعرَضتُم عن الإيمانِ بما جئتكم به لم يضُرّني إعراضُكم ، فإنِّي لا أطلبُ أجراً ولا أدعُوكم إلى الإيمان لمطمع مني في مالكِم ، وما دعاني فيما أدعوكم عليه إلا الإيمان بالله ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ } ؛ أي وقد أمَرَني ، { أَنْ أَكُونَ مِنَ } ؛ أي مع ؛ { الْمُسْلِمِينَ } ؛ على دِينهم.
(0/0)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ } ؛ أي فنجَّيناهُ ومَن معه من المؤمنين من الغرَقِ في السفينةِ ، { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } ؛ أي جعلَ اللهُ الذين نَجَوا مع نوحٍ عليه السلام من الغَرَقِ خَلفاً ومَكاناً في الأرضِ مِن قومٍ أُهلِكُوا بالتكذيب كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ }[الصافات : 77] وذلك أنَّ الناسَ كانوا من ذرِّيته بعد الغرقِ ، وهَلَكَ أهلُ الأرضَ جميعاً بتكذِيبهم لنوحٍ.
قَوْلُه تَعَالَى : { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي بدلالَتها حسّاً ، { فَانْظُرْ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ } ؛ أي كيف صارَ آخِرُ أمرِ الذين أنذرَتْهم الرسلُ فلم يؤمنوا ، وهذا تَهديدٌ لقومِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهِ حتى لا يَنْزِلَ بهم مثل ما نزلَ بقومِ نوحٍ ، وتسليةُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ليصبرَ على أذاهُم كما صبرَ نوحُ عليه السلام على أذى الكفَّارِ مع قلَّة مَن معه من المؤمنين.
(0/0)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ } ؛ أي ثم بعثنا مِن بعدِ نوحٍ رسُلاً مثلَ هودٍ وصالح وإبراهيمَ ولوط وشُعيب وغيرِهم إلى قومهم ، { فَجَآءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ بالْحُجَجِ والبراهينَ ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } ؛ ليُصَدِّقوا ، { بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } ؛ في الابتداءِ ، والمعنى : فما كان الذين بُعِثَ إليهم الرسلُ ليُؤمِنوا بما كذبوا ، { مِن قَبْلُ } ؛ يعني قومَ نُوحٍ عليه السلام ؛ أي لَمْ يصدِّقوا به ، كما كذبَ قومُ نوح ، وكانوا مِثلَهم في الكفرِ والعنف ، قوله : { كَذَالِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ اللهُ تَعَالَى طَبَعَ عَلَى قُلُوبهِمْ فَأَعْمَاهَا فَلاَ يُبْصِرُونَ سَبيلَ الْهُدَى). وما بعدها من الآيات :
ظاهر التفسير : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ مُّوسَى وَهَـارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ بِآيَـاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ * فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَـاذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ * قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هَـاذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ }.
(0/0)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } ؛ أي قالُوا لموسى عليه السلام : أجِئتَنا لتَصرِفَنا عما وجَدنا عليه آباءَنا ، واللَّفْتُ هو الصَّرْفُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِي الأَرْضِ } ؛ أي ويكون لك ولِهارون السلطانُ والْمُلْكُ والشرف في أرضِ مصرَ ، { وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بمصدَّقين. وإنما سَمَّى الْمُلْكَ كبرياءً ؛ لأنه أكَبُرُ ما يطلبُ من أمرِ الدُّنيا ، والكبرياُ استحقاق صفة الكِبْرِ في أعلَى المراتب ، فلهذا لا يجوزُ أن يوصفَ به أحدٌ غيرُ اللهِ.
(0/0)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } ؛ أي بكلِّ حاذقٍ بالسِّحر ، { فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } قالَ هذا لَهم على وجهِ التعجيزِ لَهم ، إنَّكم لا تقدِرون على إبطالِ أمْرِي ، فيكون هذا أمرُ تعجيزٍ كقوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }[البقرة : 23] ولا يجوزُ أنْ يكون هذا أمراً بالسِّحر ، إذ عملُ السحرِ كفرٌ ، والأنبياءُ علَيْهِمْ السَّلاَمُ لا يَأْمُرونَ به.
(0/0)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَلْقُواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ } ؛ معناهُ : فلما ألقَتِ السَّحَرَةُ ما جاؤُا به ، قال لهم موسى : الذي جِئتُم به السحرُ والخداع ؛ أي الذي جئتم به سِحْرٌ. ووقفَ بعض القرِّاء على { مَا جِئْتُمْ } ثم قال : { السِّحْرُ } على معنى : أيُّ شيءٍ جئتُم بهِ أهُوَ السحرُ ؟ على جهةِ التوبيخ لهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ } ؛ أي يُبْطِلُ عملَ السَّحرة حتى يُظهرَ الحقَّ من الباطلِ ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ } ؛ أي لا يرضَى عملَ السَّاحِرين.
(0/0)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } ؛ أي ينصرُ دينَهُ الحقّ بالوعدِ الذي وعدَهُ لموسى كما قال تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ }[القصص : 35] الى آخرِ الآية. ويجوزُ أن يكون معنى الكلمات : ما كتبَهُ اللهُ تعالى في اللوحِ المحفوظ.
(0/0)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ } ؛ أي ما صدَّقَ بموسى وبما جاءَ به إلا ذريَّته من قومِ فرعون ، وهم قومٌ كان آباؤُهم من القِبْطِ وأمَّهاتُهم من بني إسرئيل ، فآمَنوا بموسى واتَّبعُوا أمَّهاتَّهم وأخوالَهم ، ولم يُسلِمْ آباؤُهم الذي كان موسى عليه السلام مبعوثاً اليهم.
وقال الحسنُ : (أرَادَ بقَوْلِهِ تَعَالَى (إلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَْوْمِ مُوسى) كَانَ فِرْعَونُ أجْبَرَهُمْ عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ وَجَعَلَهُمْ مِنْ أصْحاب نَفْسِهِ ، فَلَمَّا أسْلَمَتِ السَّحَرَةُ وَآمَنُوا بمُوسَى اتَّبَعَهُمْ هَؤُلاَءِ الذُّرِّيَّةُ فِي الإيْمَانِ). وكان يقولُ : (لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْقِبْطِ أحَدٌ إلاَّ الْمُؤمِنُ الَّذِي يَكْتُمُ إيْمَانَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ).
قولهُ : { عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } معناهُ على القول الأول : آمَنت به ذريَّتهُ على خوفٍ من فرعون وآبائِهم وقومِهم. وعلى القول الثاني : على خوفٍ من فرعون وأشرَافِهم ورُؤسائهم أن يعلمَ الأشرافُ أمرَهم فيُخبروا فرعونَ فيقتُلَهم ويعذبَهم أو يصرفَهم عن دينهم. وقال الزجَّاج : (إنَّمَا قَالَ : { فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } لأَنَّ فِرْعَوْنَ ذا أصْحَابٍ يَأْتَمِرُونَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ } ؛ أي لَمُسْتَكْبرٌ في أرضِ مصر ، { وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ } ؛ في الكفر والمعاصي ، والإسرافُ : هو التجاوزُ عن الحدِّ في كلِّ شيءٍ. وعن محمَّد بن المنكدرِ قَالَ : (عَاشَ فِرْعَوْنُ ثَلاَثَمِائَةً وَاثْنَيْنِ وَِعِشْرِِينَ سَنَةً لَمْ يَرَ مَكْرُوهاً ، وَدَعَا مُوسَى عليه السلام ثَلاَثِينَ سنةً).
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى ياقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ } ؛ أي قالَ موسى لبنِي إسرائيل : يا قومِي إنْ كُنتم صدَّقتُم باللهِ كما تقولون فأَسْنِدُوا أمُورَكم إليه ؛ { إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } ، إنْ كنتم مُخلصين مُستَسلِيمن لأوامرهِ ، وذلك حينَ قالوا لِمُوسى : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا }[الأعراف : 129]. وَقِيْلَ : إنَّ موسى خاطبَ بالخطاب المذكور في هذه الآية الذريَّةَ التي آمَنت على خوفٍ من فرعون وملئِِهم.
(0/0)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } ؛ أي قالَ موسى أسْنَدْنَا أموُرَنا إلى اللهِ ووَثِقْنَا به ، { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ أي لا تُظهِرْهُم علينا فيَظنُّوا أنَّهم على الحقِّ ، فيكون ذلك فتنةً لهم ولغيرِهم. ويقال : يعني لا يمكِنُهم أن يُنْزِلُوا بنَا أمراً لا نطيقُ الصبرَ عليه فننصرفَ به عن الدِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ؛ أي خَلِّصْنَا بطَاعِتكَ من استبعادِهم إيَّانا ، فاستجابَ اللهُ دعاءَهم كما ذكرَ من بعدُ.
(0/0)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً } ؛ وذلك أنَّ فرعونَ لَمَّا أتاهُ موسَى بالرسالةِ أمرَ بمسَاجدِ بني إسرائيل فكُسِّرت كلُّها وخُرِّبت ، ومنعُوهم من الصَّلاةِ علانيةً ، فأنزلَ الله هذه الآيةَ ، وأُمِرُوا أن يتَّخِذُوا مساجدَ في بيُوتِهم ويصَلُّون فيها خَوفاً من فرعون. والمعنى : وأوحَينا إليهما إنِ اتَّخِذا لقومِكما بمِصْرَ بيُوتاً ، يقال : بَوَّأهُ إذا عدَّ لغيرهِ بَيتاً ، وتبَوَّأ إذا اتخذ لنفسهِ بيتاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } ؛ أي اجعَلُوها مُصَلَّى ، { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ، فصَلُّوا فيها مُستَتِرين مِنْ فرعون وقومهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : واجعلوا بُيوتَكم مساجدَ. وقال الحسنُ : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَجِبَالِ الْكَعْبَةِ) قال : (وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنينَ).
وَقِيْلَ : إنَّما لم يذكرِ اللهُ الزكاةَ في هذه الآيةِ ؛ لأن فرعونَ قد استعبَدَهم وأخذ أموالَهم فلم يكن لهم ما يجبُ الزكاة فيهِ. قوله : { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي وبشِّرهُم بالثواب في الآخرة ، وبالنَّصرِ في الدُّنيا آجِلاً وعاجِلاً.
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي قالَ موسى : إنكَ أعطيتَ فرعونَ وملأَهُ زينةً ؛ أي زهرةً من المركَب والْحِلِيِّ والثياب ، وأموالاً كثيرةً من الدراهم والدنانير والعُروضِ. قولهُ : { رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } ؛ أي ربَّنا أعطيتَهم الزينةَ والأموالَ ليكون عاقبةُ أمرِهم أن يُضِلُّوا عن سبيلِكَ فلا يُؤمِنوا ، وهذه اللامُ لامُ العاقبة كما في قوله : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[القصص : 8].
قولهُ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ } ؛ معنى الطَّمْسِ على الأموالِ تغييرُها عن جِهَتِها إلى جهةٍ لا ينتفعُ بها ، وحقيقةُ الطَّمْسِ ذهابُ الشيءِ عن صُورتهِ بمَحْقِ الأثرِ. قال مجاهد وقتادة : (فَغَيَّرَ اللهُ أمْوَالَ فِرْعَوْنَ حَتَّى صَارَتْ دَرَاهِمُهُمْ وَدَنَانِِيرُهُمْ حِجَارَةً أنْصَافاً وَأثْلاَثاً وأرْبَاعاً ، وكَذلِكَ سَائِرُ أمْوَالِهِمْ حَتَّى السُّكَّرَ وَالْفَوَاكِهَ). قال قتادةُ : (بَلَغَنَا أنَّ حُرُوثاً لَهُمْ صَارَتْ حِجَارَةً). وقال عطاء : (لَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَعْدِنٌ إلاَّ طَمَسَ اللهُ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِه أحَدٌ).
قولهُ : { وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ؛ معناه : واربطْ على قلوبهم بالصبرِ حتى لا يتحوَّلوا عن بلادِهم إلى بلاد الخصب فيبقون في هذهِ العقوبة أبداً. وَقِيْلَ : معناهُ : امنَعهُم عن الإيمانِ بكَ ، والمعنى اطْبعْ عليها حتى لا تَلِينَ ولا تشرحَ الايمان. قولهُ : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ } ؛ قال الزجَّاجُ والفراء : (هَذا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ أيْضاً) ، والتأويلُ فلا آمنوا ، { حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } ؛ يعني الغرقَ.
(0/0)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا } ؛ أي قَالَ اللهُ تَعَالَى لموسى وهرون : قد أجبتُ دعوتَكما ، وذلك أنَّ موسى كان يدعُو بالدُّعاء المذكورِ في الآية ، وكان هرون يُؤَمِّنُ على دُعائهِ ، فسمَّاها اللهُ دََاعِينَ ، قوله { فَاسْتَقِيمَا } أي فاستقيما في دُعاءِ الناسِ إلى الإيمان ، { وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } لأن سبيلَهم كان الغَيَّ والضلالَ ، وخفَّفَ ابنُ عبَّاس (تَتْبَعَانِ) من تَبعَ يَتْبَعُ ، والنون الشديدةُ إنما دخلت مؤكِّدةً للنهي.
(0/0)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
قولهُ : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ } ؛ يعني بحرَ الْقَلْزَمِ وهو بقُرب نيلِ مصرَ ، جعلَهُ الله لهم يُبْساً حتى جاوزوهُ ، { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً } ؛ ليَبغُوا عليهم ، { وَعَدْواً } ؛ ويظلِمُوهم. قولهُ : { حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ } ؛ حتى إذا ألجمَ فرعونَ الغرقُ من إيمان الإنجاء فلم ينفعْهُ ذلك ، فلما ، { قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـاهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ؛ قال له جِبريلُ : { آلآنَ } ؛ أي عند الغرقِ ، { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ } ؛ بالكفرِ والمعاصي في وقتِ الْمُهْلَةِ.
رُوي عن ابنِ عباس : " أنَّ جِبْرِيلَ قالَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : لَوْ رَأيْتَنِي وَفِرْعَوْنُ يَدْعُو بكَلِمَةِ الإخْلاَصِ وَأَنَا أدُسَّهُ فِي الْمَاءِ وَالطِّيِنِ لِشِدَّةِ غَضَبي عَلَيْهِ مَخَافَةَ أنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " يَا جِبْرِيلُ وَمَا شِدَّةِ غَضَبكَ ؟ " قَالَ : يَا مُحَمَّدُ لِقَوْلِهِ أنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى وَهِيَ كَلِمَتُهُ الأََخِيرَةُ ، وَإنَّمَا قَالَهَا حِينَ انْتَهَى إلَى الْبَحْرِ ، وَكَلِمَتُهُ الأُوْلَى : مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي ، وَكَانَ بَيْنَ الأُوْلَى وَالأُخْرَى أرْبَعِينَ سَنَةً ".
وهذه الروايةُ صحيحةٌ إلاَّ قولهُ : (مَخَافَةَ أنْ يَتُوبَ فَيَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِ) لأنه لا يخلُوا إما أن يكون التكليفُ ثابتاً في ذلكَ الوقتِ أو غيرَ ثابتٍ ، فإنْ كان ثَابتاً لم يَجُزْ على جبريل عليه السلام أنْ يَمنَعَهُ من التوبةِ ، ولو منعَهُ من التكلُّم باللسانِ لكانت ندامةُ فرعون بالقلب كافيةً في توبتهِ ؛ لأن الأخرسَ إذا تابَ بالندمِ بقلبهِ وعزَمَ على تركِ المعاودةِ إلى القبيح كانت توبتهُ صحيحةً.
وإن لم يكن التكليفُ ثابتاً في ذلك الوقتِ لم يكن للمنعِ عن التوبة معنى بوجهٍ من الوجُوهِ ، وإنما لا يُقْبَلُ الإيمانُ في وقتِ الإلجاءِ ؛ لأنَّ الذي يؤمِنُ في تلك الحالةِ يعلمُ أنه لو حاولَ خلافَ ما يُؤمَرُ به حِيلَ بينه وبينه ، فلا يكون مُثاباً بإعلاءِ ذلك الإيمان معرفته من طريق الضرورةِ دون الاجتهاد.
(0/0)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
قوله : { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } ؛ أي فاليومَ نُلقِيكَ على نَجْوةٍ من الأرضِ ، وهي المكانُ المرتفع ؛ أي ببَدَنِكَ أي بدِرْعِكَ ، قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ فِرْعَوْنُ قَصِيراً طُولُهُ سِتَّةُ أشْبَارٍ ، وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ قَريباً مِنْ قَامَتِهِ ، وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ سَلاَسِلُهَا مِنْ ذهَبٍ يَعْرِفُهَا جَمِيعُ بَنِي إسْرَائِيلَ ، فَسَأَلَتْ مُوسَى بَنُو إسْرَائِيلَ فَدَعَا اللهَ فأَخْرَجَهُ ببَدَنِهِ حَتَّى وَارَاهُ ، وَعَرَفُوا الدِّرْعَ فَطَابَتْ أنْفُسُهُمْ بِـتِلْكَ).
ويقال : كان في بَنِي إسرائيل من لا يصدِّقُ بهلاك فرعون ، ولذلك سألَ موسى عليه السلام أن يُلقِيَهُ اللهُ علَى نَجْوَةٍ من الأرضِ ببدنهِ ؛ أي وحدَهُ دون قومهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : نُنْجِيكَ من الماءِ ببدنك دون رُوحِكَ ، فأما روحُكَ فتُعذبُ على كلِّ حال. قوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } ؛ أي لِمَن بعدَكَ من الكفَّار آيةً في النَّكَالِ ، لئَلاَّ تقول لأحدٍ بعدَكَ مثلَ مقَالَتِكَ ، وتعرفوا أَنَّكَ لو كُنتَ إلهاً ما غَرِقْتَ. قوله : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } ؛ يعني لغافِلُون عن التفكُّرِ في دلائِلنا.
(0/0)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } ؛ أي ولقد أنزَلَنا بني إسرائيلَ في موضعِ خَصْبٍ وأمْنٍ ، وهي أرضُ مصرَ ما بين أردن وفلسطين ، ويقال : هي الأرضُ المقدَّسة التي وَرِثوها من أبيهم إبراهيمَ عليه السلام ، وسَمَّاها مَنْزِلَ صِدْقٍ ؛ لأن فَضْلَهَا على سائرِ المنازل كفضْلِ الصِّدقِ على الكذب. وَقِيْلَ : هم بنُو قريظةَ والنضير أنزلناهم مبوَّأ صدْقٍ بين المدينة والشَّامِ من أرضِ يثربَ ، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } ؛ أي من النَّخلِ وما فيها من الرُّطَب والتمرِ.
قولهُ : { فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَآءَهُمُ الْعِلْمُ } ؛ معناهُ أنَّهم لم يزالوا مُؤمنين بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يجدونَهُ مكتوباً عندَهم في التوارةِ والإنجيل لم يختلفوا في ذلك ، بعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فآمَنَ به بعضُهم وكفرَ به بعضهم.
ومعنى الآيةِ : ما اختَلفُوا في تصديقِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإنه نبيٌّ حتى جاءَهم العلمُ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُريدُ الْقُرْآنَ الَّذِي جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) ، وقال الفرَّاء : (الْعِلْمُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم) لأنَّهُ كَانَ مَعْلُوماً عِنْدَهُمْ بنَعْتِهِ ، وَذلِكَ أنْ لَمَّا جَاءَهُمُ اخْتَلَفُوا فِيْهِ وَفِي تَصْدِيقِهِ فَكَفَرَ بهِ أكْثَرُهُمْ).
قَولهُ : { إِنَّ رَبَّكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، بتمييزِ الْمُحِقِّ من الْمُبْطِلِ ، ويُجَازي كُلاًّ منهم بما يستحُّقه ، { فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيُدخِلُ المصدِّقين بكَ الجنةَ ، ويُدخِلُ المكذِّبين النارَ.
(0/0)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
قولهُ : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ؛ قال أكثرُ أهلِ العلم : هذا خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ من الشُّكَّاكِ ، ومثل ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ }[الأحزاب : 1] الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ بدليلِ قوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }[النساء : 94] ، ولم يقُل بما تعملُ ، قال الزجَّاج : (إنَّ اللهَ يُخَاطِبُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَذلِكَ الْخِطَابُ شَامِلٌ لِلْخَلْقِ ، فالمعنى : فإن كنتُم في شكٍّ فاسأَلُوا).
وقال ابنُ عبَّاس : (لَمْ يُرِدْ بهِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّهُ لَمْ يَشُكَّ فِي اللهِ وَلاَ فِي مَا أوْحَى إلَيْهِ ، لَكِنْ أرَادَ مَنْ آمَنَ بهِ وَصَدَّقَهُ فِي أمْرِهِمْ أنْ يَسْأَلُوا لِئَلاَّ يُنَافِقُوا كَمَا شَكَّ الْمُنَافِقُونَ). وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا : إنَّ هَذا الْقُرْآنَ الَّذِي يَجِيءُ إلى مُحَمَّدٍ مَا يُلْقِيهِ الشَّيَاطينُ إلَيْهِ! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وَأَرَادَ بالَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مُؤْمِنِي أهْلِ الْكِتَاب عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ وَأصْحَابهِ ، فَإنَّهُمْ يَسُتْخِبُرونَكَ أنَّهُ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ، فَقَالَ النَّبيُّّ : " لاَ أسْأَلُ أحَداً وَلاَ أشُكُّ فِيْهِ بَلْ أشْهَدُ أنَّهُ الْحَقُّ " وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلمَ باللهِ تعالى وأشدَّ يقيناً من أن يسألَهم ، وإنَّّما التقديرُ : فإن كنتَ في شكٍّ أيُّها السامعُ مما أنزَلنا على نبيِّكَ. ومِن عادةِ العرب أنَّهم يُخاطِبون الرجلَ بشيءٍ يريدون به غيرَهُ كما قالوا : إيَّاكِ أعْنِي واسمعي يا جارةُ.
وكانت الناسُ على عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مراتب : مؤمنٌ ؛ وكافر ؛ وشاكٌّ ، فخاطبَ الله بهذه الآية الشاكَّ أمَرَهُ بسُؤال الذين يقرَءُون الكتابَ من قَبْلِهِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم المبَشَّر به حتى إذا وافقت صفتهُ في الكتاب المنَزَّل له قَبلَ القرآن صفةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على الشَّاكِّ هو المبشَّر به.
قوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ؛ الشَّاكِّين في الحقِّ ، وما في الآيةِ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } معناهُ : إن الذين أخبَر اللهُ عنهم أنَّهم لا يؤمنون ، { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } ؛ فيَصيرون مُلجَئِين إلى الإيمانِ ، فلم يُقبَلْ منهم الإيمانُ حينئذٍ.
قولهُ : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا } ؛ أي هلاَّ كانت قريةٌ آمَنت عندَ نزولِ العذاب فنفعَها إيمانُها وقُبلَ منهم ، { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ } ؛ لَمَّا آمنوا وعَلِمَ اللهُ منهم الصدقَ صرفَ عنهم عذابَ الهونِ ، { فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } ؛ آجالِهم المضروبةِ لهم.
وعن ابنِ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } والْمَعْنَى : لَمْ أفْعَلْ هَذا بأُمَّةٍ قَطُّ إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ ، فَتَكُونُ (لَوْلاَ) مَعْنَاهَا النَّفْيُ. وقال قتادةُ : (لَمْ يَكُنْ هَذا مَعْرُوفاً لأُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ كَفَرَتْ ، ثُمَّ آمَنَتْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذاب فَكُشِفَ عَنْهُمْ إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ كُشِفَ عَنْهُمْ الْعَذابُ بَعْدَ أنْ تَدَلَّى عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } آجالِهم ، وذلكَ : أن يونُسَ عليه السلام. بعثَهُ اللهُ إلى قومهِ ، فدعاهم إلى طاعةِ الله وتركِ الكُفرِ فَأَبَوا ، قال : رَب فَدَعَوْتُهُمْ فَأَبَوا ، فأوحَى اللهُ إليه : أنِ ادْعُوهُمْ فَإنْ أجَابُوكَ ، وَإلاَّ فَأَعْلِمْهُمْ بأَنَّ الْعَذابَ يَأْتِيهِمْ إلَى ثَلاَثَةِ أيَّامٍ. فدعاهُم فلم يُجيبوا ، فأخبَرهم بالعذاب وخرجَ مِن بينهم ، فقالُوا : ما جَرَّبْنَا عليه كَذِباً مُذْ كانَ ، فاحتَالُوا لأَنفُسِكم.
فلمَّا كان اليومُ الثالث رَأوا حُمْرَةً وسَوَاداً من السَّماء كهيئة النارِ والدُّخان ، فجعلوا يطلبُون يونُسَ فلم يجدوا ، فلما يَئِسُوا من يونُسَ وجعل يحطُّ السوادُ والحمرة ، فقال قائلٌ منهم : فإنْ لم تَجِدُوا يونسَ فإنَّكم تجدوا ربَّ يونس ، فادعوهُ وتضرَّعُوا إليه.
فخرَجُوا إلى الصحراءِ ، وأخرَجُو النساءَ والصبيان والبهائمَ ، وعَجُّوا إلى اللهِ مُؤمِنين به ، وارتفعتِ الأصواتُ ، وقرُبَتْ منهم الحمرةُ والدُّخان حتى غَشِيَ السوادُ سُطوحَهم وبلَغَهم حرُّ النار ، فلما عَلِمَ اللهُ منهم صدقَ التوبةِ رفعَ عنهم العذابَ بعد ما كان غَشِيَهم.
(0/0)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
قوله : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } ؛ أي لو شاء ربُّك يا مُحَمَّدُ لآمَنَ أهلُ الأرضِ كلُّهم. وَقِيْلَ : معناه : لو شاءَ ربُّكَ لأن يُجبرَ الناسَ على الإيمانِ لآمَنَ مَن في الأرضِ كلهم جميعاً ، كما آمَنَ قومُ يونس.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ؛ معناهُ أفَأنتَ تريدُ إكراهَ الناسِ على الإيمانِ إن لم يُرِدِ اللهُ إكراهَهم عليهِ مع أنه قادرٌ على إكراهِهم عليه ، فلا ينبغِي لكَ أن تريدَ هذا ، وأنت غيرُ قادرٍ على إكراهِهم عليه. وَقِيْلَ في سبب نزولِ هذه الآية : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان حَريصاً على أنْ يُسلِمَ عمُّه أبو طالبٍ وقومه ، فأعلمَهُ الله بهذه الآيةِ أنَّ إسلامَهم ليس بيدهِ.
(0/0)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ أي فتوفيقهِ ، ويقال : إلا بأمره وقد أمرَ اللهُ الكلَّ بالإيمانِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : إلا بتمكينِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (السُّخْطَ) ، قال أبو الحسنِ : (الْعَذابَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) أي على الذين لا ينتَفِعون بعقولِهم ، وقال الحسنُ : (يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ بالْكُفْرِ وَيَدْمُّهُمْ عَلَيْهِ).
(0/0)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
قولهُ : { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي قُل لهم يا مُحَمَّدُ تكفَّروا فيما في السمواتِ والأرض من الآياتِ والدَّلالاتِ نحو مَسِيرِ الشمسِ والقمر والنُّجُومِ في مَجَارِيها في أوقاتٍ معلومة على الدَّوام ، ووقوفِ السَّماء بغير عَمَدٍ ولا علاقةٍ ، وخروجِ النِّتاجِ من الأُمَّهات ، وانظروا إلى الجبال والشَّجر وغير ذلك ، وكلُّ هذا يقتضي مُدَبرَ الأمر يُشبهُ الأشياءَ ولا تشبهه ، { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ }. ثم قالَ حين لم يتفكَّروا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } معناهُ : ما تنفعُ الآياتُ ، ولا تدفعُ عمَّن سبقَ في علمِ الله أنه لا يؤمنُ ، فهل ينظرون إلا أن يصيبَهم مثل ما أصابَ الأُمَم قبلَهم من العذاب ، يقال : أيَّامُ فلان ، ويرادُ به أيام دولته ومحنتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ فَانْتَظِرُواْ } ؛ أي انتظِرُوا حلولَ العذاب الذي أوعدَكم به { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } ، لذلك.
(0/0)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ معناهُ : ثم نُنَجِِّي رسُلَنا والمؤمنين من العذاب الذي يحلُّ بالكفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي كما نُنجِي الرسُلَ من العذاب كان علينا أن ننجِي المؤمنين كلهم من العذاب الذي ينْزِلُ بالكفَّار.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
قوله تعالى : { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي قُل لَهم : يا أهلَ مكَّة إنْ كُنتم في شكٍّ من دِيني الذي أتيتُكم به ، فأنا مستيقنٌ فلا أشكُّ في بُطلانِ دِينكم ، فلا أعبدُ الذي تعبدُون من دونِ الله بشَكِّكُم في دِيني ، { وَلَـاكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ } ؛ أي يُمِيتُكم ويُعِيدُكم ، ولا أعبدُ الذي لا يقدر على الضرِّ والنفعِ والإحياء والإماتةِ ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } ؛ أي وأمِرْتُ أن أُخْلِصَ دِيني وعَمَلي للهِ ، والمرادُ بإقامةِ الوجه الإقبالُ على ما أُمِرَ به من أمُور الدِّين ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. وَقِيْلَ : أرادَ بذلك إقامةَ الصلاةِ. والحنيفُ : هو المستقيمُ في الدِّين. وَقِيْلَ : هو العادلُ عن الأديانِ الباطلة إلى دِين الحقِّ.
(0/0)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ } ؛ أي ما لا ينفعُكَ إنْ دعوتَهُ ، ولا يضرُّكَ إنْ تركتَ عبادتَهُ ، { فَإِن فَعَلْتَ } ، فإن دعوتَ غيرَ اللهِ إلهاً ، { فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ } ؛ الضَّارِّين لنفسِكَ.
(0/0)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } ؛ معناهُ : إنْ يُردِ اللهُ بك ضُرّاً فلا يقدرُ أحدٌ على دفعِ ذلك الضرر إلا هو ، { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } ؛ بنعمةٍ وأمر تُسَرُّ بهِ ، { فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } ؛ مانعٍ لعطيَّتهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } ؛ أي يختَصُُّ بالفضلِ مَن يشاءُ ، { مِنْ عِبَادِهِ } على ما توجِّهُ الحكمةُ على ما يستحقُّون بأعمالِهم ، { وَهُوَ الْغَفُورُ } ؛ لذُنوب العبادِ ، { الرَّحِيمُ } ؛ بمَن ماتَ على التوبةِ.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ للناسِ كلهم : قد جاءَكم الحقُّ من ربكم ؛ أي الكتابُ والرسول ، { فَمَنِ اهْتَدَى } ؛ بالكتاب والرسول ، { فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ } ؛ أي يرجعُ نفعُ هدايتهِ إليه ، { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ؛ فإنَّما يكونُ وبالَ ضلالهِ على نفسه ، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } ؛ أي لستُ بحفيظٍ عليكم ، أدفعُ عنك الضرَّ ، وأطلبُ إليكم النفعَ شِئتُم أو أبَيتُم.
(0/0)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ } ؛ أي اتَّبعْ يا مُحَمَّدُ ما تؤمرُ به في القرآنِ ، { وَاصْبِرْ } ؛ على أذاهم ، { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ } ؛ يقضِي الله بينَكَ وبينهم ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } ؛ أعدَلُ القَاضِينَ ؛ لأنَّ الحاكمَ لا يكون إلا بالصَّلاحِ والسَّدادِ ، وكان حكمهُ أنْ أمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بقتالِهم.
(0/0)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
{ الر } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ أنَا اللهُ الرَّحْمَنُ. وقولهُ : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } ؛ وَقِيْلَ : (كِتَابٌ) بدلٌ من قولهِ { الر } لأنه خبرهُ ، كأنه قال : هذه الحروفُ كتابٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ } أي أُحكِمَتْ بالأمرِ والنهي ، { ثُمَّ فُصِّلَتْ } ؛ بالثواب والعقاب ، وقال قتادة : (أُحْكِمَتْ عَنِ الْبَاطِلِ بالْحُجَجِ وَالدَّلاَئِلِ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بأَنْ أنْزِلَتْ شَيْئاً فَشَيْئاً). وقال الكلبيُّ : (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ لَمْ يُنْسَخْ بكِتَابٍ ، كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بهِ ، { ثُمَّ فُصِّلَتْ } بُيِّنَتْ بالأَحْكَامِ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ). وقولهُ : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } ؛ أي مِنْ عند حكيمٍ في خَلقهِ وتدبيرهِ ، خبيرٍ بمَن يصدِّقُ ويكذِّبُ به.
(0/0)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } ؛ أي أحْكَمَ اللهُ القرآنَ بالْحُجَجِ لِئَلاَّ يُطيعوا إلاَّ اللهَ. وَقِيْلَ : معناهُ : أمَرَكم أنْ لا تعبُدوا غيرَهُ إنَّني لكم من اللهِ مُعَلِّمٌ بموضعِ المخافة لتَحذرُوا ، وموضعِ الخيرِ لتطلُبوا ، ونذيرٌ بمعنى مُنْذِرٍ ، كما في قولهِ { أَلِيمٌ } يعني مؤلِم.
(0/0)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
قولهُ : { وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؛ أي وأمرَكم أن تطلبُوا المغفرةَ من ربكم ، واجعلُوها غرَضَكم وتوصَّلوا إليها بالتوبةِ وهي الندمُ على القبيح ، والعزمُ على تركِ المعاودة إليه. وَقِيْلَ : معناهُ : وإنِ استغفروا ربَّكم بالتوبةِ عما سلَفَ من ذُنوبكم ، ثم توبُوا إليه عمَّا يقعُ منكم من الذنوب في المستقبلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ { يُمَتِّعْكُمْ } جُزِمَ على جواب الأمر ؛ أي إنْ فعلتُم ذلك أنعَمَ اللهُ عليكم نِعَماً سابغةً حِسَاناً تستبقون بها إلى آجَالِكم التي قدَّرَها اللهُ لكم ، فلم يستَأْصِلكم كما استأصلَ الأُمَم المكذِّبَة به قبلَكم. قال القتيبيُّ : (أصْلُ الإمْتَاعِ الإطَالَةُ) يقالُ : جبلٌ مَاتِعٌ ، وقد مَتَعَ النهارُ إذا طالَ ، فمعنى يُمَتِّعْكُمْ يُعَمِّرْكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } ؛ أي مَن كان ذا فَضْلٍ في دينهِ فضَّلَهُ اللهُ في الآخرةِ بالثواب على عمله. وَقِيْلَ : يعطِي كلَّ ذِي عمَلٍ صالحٍ أجرَهُ وثوابه. وقال ابنُ عبَّاس : (يُعْطِي كُلَّ مَنْ فَضَلَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَضْلَهُ ؛ يَعْنِي الْجَنَّةَ وَهِيَ فَضْلُ اللهِ ، يِعْنِي أنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ). وعن ابنِ مسعود قال في هذه الآيةِ : (مَنْ عَمِلَ حَسَنَةً كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَمَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً كُتِبَتْ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً ، وَإنْ لَمْ يُعَاقَبْ بتِلْكَ السَّيِّئَةِ فِي الدُّنْيَا أُخِذ مِنْ عَشْرِ حَسَنَاتِهِ وَاحِدَةً وَبَقِيَتْ لَهُ تِسْعٌ) ثُمَّ قالَ : (هَلَكَ مَنْ غَلَبَتْ آحَادُهُ أعْشَارَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ؛ أي إنْ أعرَضُوا عنِ الإيمانِ والتوبة ، { فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } ؛ أي عظيمِ الشَّأنِ وهو يومُ القيامةِ ، وإنما ذكرَ الخوفَ في هذا الموضعِ ؛ لأن الخطابَ من الرسول صلى الله عليه وسلم ، والخوفُ عليه جائزٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ على إعادَتِكم.
(0/0)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ ، كَانَ حِينَ يُجَالِسُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُظْهِرُ لَهُ أمْراً حَسَناً ، وَكَانَ حَسَنَ الْمَنْظَرِ ، وَكَانَ حَسَنَ الْحَدِيثِ ، إلاَّ أنَّهُ كَانَ يُضْمِرُ فِي قَلْبهِ خِلاَفَ مَا يُظْهِرُ ، فَأْنَزَلَ اللهُ فِي أمْرِهِ هَذِهِ الآيَةَ).
يقالُ : إنَّ طائفةً من المشركين بَلَغَ بهم الجهلُ إلى أنْ قالُوا : إنَّا اذا أغلَقنا أبوابَنا ، وأرخَينا سُتُورَنا ، واسْتَغْشَيْنَا ثِيابَنا ، وثَنَيْنَا صُدورَنا على عداوةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم كيف يعلمُ بنا ؟ فَأَنْبَأَ اللهُ نَبيَّهُ عليه السلام عَمَّا كَتَمُوهُ. ومعنى الآيةِ : ألا إنَّهم يَثْنُونَ صُدورَهم على الكفرِِ وعداوةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لِيكتُموا منه ما في صدورهم من عداوتهِ بإظهار المحبَّة. ويقال : معنى (يَثْنُونَ) يعرضون بصدورهم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ؛ معناه : ألا حين يَتَغَطَّونَ بثيابهم يعلمُ الله ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وفيما بينهم وما يُظهرون من محبَّة أو غيرِها ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي عالِمٌ بالقلوب التي في الصُّدور ، لأن الصدورَ مواضعُ القلوب.
(0/0)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } ؛ أي ما من حيوان يدبُّ ، قال الزجَّاج : (الدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيْوَانٍ مُمَيِّزٍ وَغَيْرِهِ ، ذكَراً كَانَ أوْ أُنْثَى).
وفي الآيةِ بيانُ أن اللهَ عالِمٌ بالقلوب كلِّها ، وذلك أنه إذا كان ضَامِناً رزقَ كلَّ دابةٍ في الأرض ، فليس يرزِقُها إلاّ وهو يعلمُ صغيرَها وكبيرها ، من الذرِّ فما فوقَها وما دونَها ، وإذا عَلِمَها فقد عَلِمَ مستقرَّها ومستودَعَها ، المستقَرُّ موضعُ قَرَارِها وهو الموضعُ الذي تَأْوِي إليه ، والمستودَعُ هو الموضعُ الذي تُوَدعُ فيه ، قِيْلَ : إنه الرَّحِمُ ، وَقِيْلَ : هو الموضعُ الذي تُدْفَنُ فيه.
وقال قتادةُ ومجاهد : (أمَّا مُسْتَقَرُّهَا فَفِي الرَّحِمِن وَأمَّا مُسْتَوْدَعُهَا فَفِي الصُّلْب) { كُلٌّ } ؛ ذلكَ عندَ اللهِ ، { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ؛ يعني اللوحَ المحفوظ ، والمعنى : أن ذلك ثابتٌ في علمِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } قال المفسِّرون : فَصْلاً لا وجُوباً ، والله تَكَفَّلَ بذلك بفضلهِ. قال أهلُ المعانِي (عَلَى) ههُنا بمعنى (من) ، المعنى : إلاَّ مِنَ الله رزقُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } أي رزقُ كلِّ دابَّةٍ وأجلُهأ مكتوبٌ في اللوحِ.
قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ مِمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى لَوْحاً مَحْفُوظاً مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ ، دَفَّتَاهُ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ ، عَرْضُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، كِتَابُهُ نُورٌ وَقَلْبُهُ نُورٌ ، يَنْظُرُ اللهُ تَعَالَى فِيْهِ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ نَظْرَةً ، يَخْلُقُ بكُلِّ نَظْرَةٍ وَيُحْيي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) ، قال أبو رَوقٍ : (أعْلاَهُ مَعْقُودٌ بالْعَرْشِ ، وَأسْفَلُهُ فِي حِجْرٍ مَلَكٍ كَرِيمٍ يُسَمَّى مَا طُوتُون).
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ } ؛ يعني قبلَ أنْ خَلَقَ السموات والأرضَ ، قال ابنُ عبَّاس : (خَلَقَ اللهُ السَّّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ ، أوَّلُهَا يَوْمَ الأحَدِ وَآخِرُهَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، وَلَوْ أرَادَ سُبْحَانَهُ خَلْقَهَا فِي أقَلِّ مِنْ لَحْظَةٍ لَفَعَلَ).
قولهُ تعالى : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ } فيه بيانُ أنَّ السموات والأرضَ ليستاَ بأوَّلِ خَلْقِ ، وأنه تَقدَّمَهما خلقُ شيءٍ آخر ، وفيه زيادةِ القَدْرِ ؛ لأن العرشَ مع كونِه أعظمَ مِن السمواتِ والأرضِ كان على الماءِ ، ولم يكن ذلك الماءُ على قَرَارٍ ، ولكنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أمسكَهُ بقُدرتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ؛ أي ليَبلُوَكم فينظرَ أيُّكم أحسنُ عملاً ، فيُثِيبُ المطيعَ المعتَبرَ بما يَرى من آياتِ السموات والأرضِ ، ويعاقِبَ أهلَ العنادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ معناهُ : ولئن قُلتَ يا مُحَمَّدُ للكفار : إنَّكم مبعُوثون من بعدِ الموتِ ، ليقولُنَّ الذين كفَرُوا : ما هذا إلا تَمويهٌ ليس له حقيقةٌ ، وقد أقَرُّوا أنَّ الله خالقُ السمواتِ والأرض ويُمسِكُها بغيرِ عَمَدٍ ، لا يعجزهُ شيءٌ فكيف يشكُّون في البعثِ بعدَ الموتِ.
(0/0)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ } ؛ معناهُ : ولئن أخرنا العذاب عن الكفار ، { إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ } ، ليقولون : { مَا يَحْبِسُهُ } ، ما منعناهُ : قال ابنُ عبَّاس ومجاهد : (يَعْنِي إلَى أجَلٍ وَحِينٍ) ، والأُمَّةُ ههنا المدةُ ، ليقولُنَّ ما يحبسُ هذا العذابَ عنَّا إن كان ما يقولهُ مُحَمَّدٌ حقّاً ، يقول اللهُ تعَالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } ؛ العذابُ ، { لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } ؛ لا يقدرُ أحدٌ على صَرفهِ عنهم.
فالمعنى : أنَّهم لَمَّا قالوا : ما يحبسُ العذابَ عنَّا على وجهِ الاستهزاء ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ } يعني إذا أخذتْهم سيوفُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ لم تُغْمَدْ عنهم حتى تعلُو كلمةُ الإخلاصِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ؛ أي نَزَلَ بهم جزاءُ استهزائِهم وهو العذابُ.
(0/0)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ } لا يصبرُ على سَلْب تلك النعمةِ ، ويصيرُ أيْئَسُ شيء أقنطَهُ من رحمةِ الله ، قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ) ، وَقِيْلَ : في عبدِاللهِ بن أبي أُمَيَّة المخزوميِّ. والرحمةُ ههنا الرِّزْقُ ، وقوله : { كَفُورٌ } ؛ أي لا يشكرُ نِعَمَ اللهِ قبلَ أن تُسلَبَ عنه ، ولا يصبرُ بعد أنْ سُلِبَتْ.
(0/0)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي } ؛ أي ولئن أذقنا الكافرَ النَِّعَمَ الظاهرةَ بعد المضَرَّة الظاهرةِ التي أصابتْهُ ، ليقولَنَّ الكافرُ : ذهبَ الشدائدُ والضرُّ والفاقَةُ والآلامُ عَنِّي ، ويفرحُ بذلك ويَبْطَرُ ويَفْجُرُ به على الناسِ من دون أنْ يشكُرَ اللهَ على كشفِ الشدائد عنه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } ؛ أي بَطِرٌ مُفَاخِرٌ أوليائي بما وسَّعتُ عليه. وإنما نُصِبَ اللام في قولهِ { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ } لأنه في موضعِ الوِحْدَان ، وقوله : { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ }[هود : 8] بضَمِّ اللام في موضعِ لفظ الجماعةِ ، وقولهُ تعالى : { لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ }[هود : 7] بنَصب اللام أيضاً ؛ لأن الفعلَ مقدَّمٌ على الاسمِ فذُكِرَ بلفظِ الوِحْدَانِ.
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } ؛ استثناءٌ ليس من الأوَّل ، معناهُ : لكن الذين صَبَروا على الشدائدِ ، وعَمِلوا الصالحاتِ فيما بينهم وبين ربهم أٌولئك لهم مغفرةٌ لذُنوبهم وثوابٌ عظيم على طاعتِهم وصبرِهم.
(0/0)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } ؛ سببُ نزول هذه الآيةِ : أنَّ المشركين كانُوا يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : لو تركتَ سبَّنَا وسبَّ آلهتنا جالَسنَاكَ ، وكانوا يُؤذونَهُ ويقولون : لولا أُنزل على مُحَمَّدٍ كَنْزٌ من السَّماءِ فيعشُ به وينفعهُ ، أو جاءَ معه مَلَكٌ يشهدُ له ويُعِينُهُ على الرسالةِ.
وَقِيْلَ : إن المشركين قالوا للنبيَّ صلى الله عليه وسلم : لو أتَيتَنا بكتابٍ ليس فيه سبٌّ آلهتِنا حتى نؤمنَ بكَ ونتَّبعَكَ ، وقال بعضُ المتكبرين : هَلاَّ ينْزِلُ عليك يا مُحَمَّدُ مَلَكٌ يشهدُ لكَ بالصدقِ ، أو تُعطَى كَنْزاً تستَغني أنتَ وأتباعُكَ ؟ فَهَمَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يدعَ سَبَّ آلهتِهم فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ولا يجوزُ أن تكون كلمة (لَعَلَّ) في أولِ هذه الآية على جهة الشَّكِّ ، وإنما الغرضُ تثبيتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في ما أُمِرَ به ؛ كيلا يلتفتَ على قولِهم ، وكي لا ييأَسُوا عن تركِ أداء الرسالة.
فلما قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ }. يقولُ الله للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } ؛ أي عليكَ أن تُنذِرَهم وتُخوِّفَهم وتأتِيَهم بما يُوحَى إليكَ من الآياتِ ، وليس عليك أن تأتِيَ بشهوَاتِهم وما يفرَحُون من الآياتِ ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ } ؛ من مقالَتِهم وغيرِ ذلك ، { وَكِيلٌ } ؛ أي حفيظٌ.
والفرقُ بين ضَائِقٍ وَضَيِّقٍ ، أن الضائقَ يكونُ بضِيقِ عَارِضٍ ، والضِّيقُ قصورُ الشيءِ عن مقدارِ غيرهِ أنْ يكونَ فيه ، وموضعُ { أَن يَقُولُواْ } حذف الباء تقديرهُ : ضَائِقٌ به صدرُكَ بأَنْ يقُولوا.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } ؛ معناهُ : بل يقولُ الكفَّار : اختلقَ مُحَمَّدٌ القرآنَ من تلقاءِ نفسه ، قُل لَهم يا مُحَمَّد : إنْ كان هذا مُفْتَرَى على اللهِ فأَتُوا بعشرِ سُوَرٍ مثله مُفْتَرياتٍ مختلفات ، فإنَّ القرآنَ نزل بلُغَتكم ، وأنا نشأتُ بين أظهُرِكم ، فإن لم يُمكنكم أن تأتوا بمثلِ القرآن فاعلموا أنه من عندِ اللهِ ، { وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي استَعينوا بكلِّ أحدٍ يقدرُ على الإتيانِ بعشرِ سُوَرٍ مثله مفتريات ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ في مقالَتِكم أنَّ مُحَمَّداً اختلقَهُ.
وذهبَ بعض المفسِّرين : إلى أن المرادَ بالسُّوَر العشرِ : من سُورةِ البقرة إلى هذه السُّورة ، والأَوْلى أن يُقال : إن المرادَ فاتوا بعَشرِ سُور مثلِ سُوَر القرآنِ أيَّ سُورةٍ كانت ، لأن سُورةَ هُودٍ مكِّية ، وسورة البقرةِ وما بعدها مدَنِيَّاتٌ.
(0/0)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمسلمين ؛ أي فإن لم يُجِبْكَ هؤلاءِ الكفَّارُ إلى الإتيان بمثل القرآنِ ، فاعلَمُوا أنَّ هذا القرآنَ أنزلَهُ جبريلُ بعلمِ الله وأمرِه. ويجوز أن يكون بعلمِ الله ؛ أي بما أنزلَ اللهُ فيه من غَيْبٍ.
ويجوز أن يكون معناه : فإنْ لم يستجِيبوا لكُم ؛ أي فإن لم يُجِبْكُمُ الذين دعوتُموهم إلى المعاونةِ إلى الإتيان بمثل هذا القرآنِ ، فقد قامت عليكم الحجَّةُ ، فاعلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بعلمِ الله ، واعلما أنَّما أنزلَهُ إلاَّ هو ، ولا يُنْزِلُ الوحيَ أحدٌ غيرهُ ، فهل أنتم تخلِصُون للهِ في التوحيد والعبادةِ.
(0/0)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } ؛ في الآيةِ وجهَان :
أحدُهما : أنَّ المرادَ بالآيةِ إذا أتَى بالأعمالِ التي تكون حَسَنَةً في العقلِ مثل صِلَةِ الرَّحمِ والتصدُّقِ وإعانةِ المظلوم ، فإن اللهَ يجازيهِ على هذه الأعمالِ في الدُّنيا بأن يُمَكِّنَهُ مما حولَهُ ويعطيهِ ما يسعَى لطلبهِ وافراً عليه ويُقِرَّ عَيْنَهُ بذلك.
والثاني : أنَّ المراد بها المنافقُ إذا خرجَ للغزوِ مع المسلمين وهو يريدُ الغنيمةَ دون الثواب ونصرةِ الدِّين ، يجزيهِ الله على غَزوهِ بأن أمرَ بأعطائهِ سَهْمَهُ من الغنميةِ لا يُبْخَسُ عنه شيءٌ من سهمهِ.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين عَمِلُوا لغيرِ الله من الكفارِ والمنافقين ليس لهم في الآخرةِ إلا النارُ ، { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } ؛ من العمالِ الحسَنة ؛ لأنَّهم لم يرَوا لها ثواباً ، { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ من خيرٍ.
(0/0)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
قْولُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } ؛ اختصارٌ معناهُ : أفمَن كان على بَيِّنةٍ من ربه ، ويتلوهُ شاهدٌ منه كالذِي يريدُ الحياةَ الدُّنيا وزينَتها ، وأرادَ بالبيِّنة البرهانَ الذي هو من اللهِ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم على بُرهانٍ وحُجَّةٍ من ربه ، ويقرأ عليه القرآنَ شاهدٌ من اللهِ وهو جبريلُ عليه السلام ، هكذا قالَ أكثرُ المفسِّرين أنَّ المرادَ بقولهِ : أفَمَنْ كان على بيِّنة من ربهِ هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً } ؛ أي ومِن قبلِ القرآنِ كان جبريلُ يقرأ على موسَى التوراةَ إمَاماً يُقتَدى به ، ونعمةً من اللهِ لِمَن آمَنَ به ، و { إِمَاماً } بالنصب على الحالِ ، { وَرَحْمَةً } أي ذا رحمةٍ ، وَقِيْلَ : أرادَ بقوله : { أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ } جميعَ المؤمنين ، وأرادَ بالشَّاهدِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ؛ يعني أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن صَدَّقَهُ.
وقولهُ تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } ؛ أي مَن يكفُرْ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم من أصنافِ الكفَّار واليهودِ والنصارى وغيرهم ، فالنارُ مصيرهُ التي وعد َاللهُ في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } ؛ أي لا تكن في شَكٍّ من القرآنِ ، وظاهرٌ أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أن المرادَ به جميعُ الناسِ. وقولهُ تعالى : { إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } ؛ يعني القرآن ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي لا يصدِّقون في أنَّ القرآنَ من عندِ اللهِ.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي ليس أحدٌ أظلمَ لنفسهِ من الكاذب على ربه بأن زعمَ أن له وَلَداً وشَريكاً ، { أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ } ؛ معناهُ : أولئكَ الكاذبون يُسَاقُونَ يوم القيامةِ إلى ربهم ، ويُوقَفون في المقاماتِ التي يطالَبون فيها بأعمالِهم ، ويُسأَلون فيها ، ويُجَازُونَ عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ } ؛ قال ابنُ عباس ومجاهد : (الأَشْهَادُ هُمْ الْمَلاَئِكَةُ وَالأَنْبيَاءُ) ، وقال قتادةُ : (يَعْنِي الْخَلاَئِقَ) ، وقال مقاتلُ : (هُمُ النَّاسُ).
والأَشْهَادُ جمعُ شَاهِدٍ مثل نَاصِرٍ وأنْصَارِ وصَاحِبٍ وأصحابٍ ، ويجوزُ أن يكون جمعُ شَهِيدٍ مثل شريفٍ وأشرَافٍ. والمعنى : يقولُ الأشهادُ يومَ القيامة من الملائكةِ والنبِّيين والعلماءِ وعامَّة المؤمنين ، ويُشيرون إلى الكفارِ فيقولون : { هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ } فيُفضَحُ الكفارُ على رُؤوسِ الأشهادِ.
وقولهُ تعالى : { أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ؛ يجوزُ أن يكون من قولِ الأشهادِ ، ويجوز أنْ يكون من قولِ الله ، وأرادَ بالظَّالمين المشركين ، واللَّعْنَةُ : الإبعادُ من الخيرِ.
وعن ابنِ عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بذُنُوبهِ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : رَب أعْرِفُ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْرِفُ ؟ فَيَقُولُ : رَب أعْرِفُ ، فَيَسْأَلُهُ عَنْ مَا شَاءَ أنْ يَسْأَلَهُ ، قَالَ : فَإنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، ثُمَّ يُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ بيَمِينِهِ. وَأمَّا الْكُفَّارُ فَيُنَادَى عَلَيْهِ عَلَى رُؤُوسِ الأَشْهَادِ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذبُوا عَلَى رَبهِمْ ، ألاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ".
(0/0)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } ؛ أوَّلُ الآيةِ نعتٌ للظالمين ، والمعنى : الذين يسببون للصدِّ من دون اللهِ وطاعته ، ويبغُون للهِ سبيل الإسلام زَيغاً وعِوَجاً ، يتأوَّلون القرآنَ على خلافِ تأويلهِ ، { وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } ؛ أعادَ كلمةَ (هُمْ) ؛ تأكيداً لشأنِهم في الكفرِ.
(0/0)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُولَـائِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ معناهُ : أولئك ليسُوا بغائبين عن اللهِ في الأرضِ ، ولا مهربَ لهم من عذابهِ حتى يجزِيَهم بأعمالِهم الخبيثة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } أي لا يقتصرُ لهم على عقاب الكُفر ، بل يُعاقبون على الكفرِ ، وعلى الصدِّ عن سبيل اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : كلَّما مضَى ضِعْفٌ من العذاب جاءهم ضِعْفٌ من العذاب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } ؛ أي كان يَثْقُلُ عليهم سماعُ الحقِّ من شدَّة عداوتِهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، { وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } ؛ لأنهَّهم صُمٌّ عن الحقُّ عُمْيٌ لا يُبصرون ولا يهتدون.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } ؛ أي أهلَكُوا أنفُسَهم في الآخرةِ ، وذُكرَ الهلاكُ بلفظِ الْخُسرانِ ؛ لأن الخسرَان هو ذهابُ رأسِ المال ، ورأسُ مال الإنسان نفسهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ أي ذهبَ عنهم الانتفاعُ بأعمالهم التي كانوا يكذِبون بها على اللهِ كما قالوا في الدُّنيا ، وَقِيْلَ : معناهُ : ذهبَ عنهم الأصنامُ التي كانوا يعبدونَها في الدُّنيا ، يَفْتَرُونَ بقولهم إنَّها آلهةٌ.
(0/0)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ جَرَمَ } ؛ قيل : معنى { لاَ جَرَمَ } : لا بدَّ ، ويقال : لا محالة ، ويقال : حقاً ، قال سيبويه : (لاَ جَرَمَ بمَعْنَى حَقّاً). قوال الزجَّاج : (لا َبَقَاءَ لِمَا ظَنُّوا أنَّهُ يَنْفَعُهُمْ) كأنه قالَ : لا ينفعُهم ذلك جَرَمَ ، { أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ } ؛ أي كَسْبُ ذلك الفعلِ لهم الخسران ، وجَرَمَ معناه : كَسَبَ ، وذلك كقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }[المائدة : 2].
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ الإخْبَاتُ : الْخُشُوعُ والتواضعُ والطُّمَأنِينَةُ ؛ أي تواضَعُوا وخَشَغُوا لربهم. وقال مجاهد : (اطْمَأَنُّوا) ، وقال قتادة : (أنَابُوا). وهذه الآيةُ نازلةٌ في أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وما قبلَها نازلٌ في المشركين.
ثم ضربَ اللهُ مثَلاً في الفريقين فقال :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ } ؛ يعني الكفارَ ، { وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } ؛ يعني المؤمنينَ ؛ لأنَّهم سَمِعوا الحقَّ وأبصروهُ واتَّبعوه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ؛ أي هل يستوِي الأعمَى والأصمُّ والبصير والسميع عند عاقلِ ، كما لا يَستويان عندَ أحدٍ من العُقلاء ، فكذلك لا يتسوِي حالُ المؤمن والكافرِ عندَ الله في الدُّنيا والآخرة ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ أي أفلا تتَّعظون بأمثالِ القرآن.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ابتدأ بذكرِ أوَّل رسول الله جاءَ بالشريعةِ بعد آدَمَ عليه السلام وهو نوحٌ عليه السلام ، أوَّلُ مَن جاءَ بتحريمِ الأُمَّهات والأخوَاتِ ، وقولهُ تعالى : { إِنَّي لَكُمْ } مَنْ فتحَ الألِفَ كان التقديرُ : أرسَلنا نُوحاً بأنِّي لكم ، ومَن كسرَ فتقديره ليقول : إنِّي لكم.
(0/0)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
وقولهُ تعالى : { أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللَّهَ } ؛ أي وليقُولوا لاَ تعبُدوا إلا اللهَ فإنه لا إله إلا هو ، { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } ؛ أي إنِّي أعلمُ أن يكون عليكم إنْ لم تُؤمنوا عذابَ يوم أليمٍ ، وإنما وصفَ اليومَ بالألَمِ ؛ لأن أسبابَ الألَمِ تقعُ فيه ، فنَسَبَ الألَم إليه.
(0/0)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
وقوله : { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } ؛ أي قالَ الرُّؤساء والأشرافُ الذين كفَروا من قوم نوحٍ : ما نراكَ يا نوحُ إلا بَشَراً مثلَنا في الصورةِ والخفَّة ، فلِمَ صِرْتَ أولى أن تكون نَبيّاً وَسُولاً للهِ منَّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } ؛ ما نراكَ آمَنَ بكَ إلاّ الذين هم أسَافِلُنا وأخَسُّنا ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُونَ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ لا عُقُولَ لَهُمْ وَلاَ شَرَفَ وَلاَ مَالَ) والرَّاذِلُ الدُّونُ من كلِّ شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَادِيَ الرَّأْيِ } ؛ أي مَن قرأ (بَادِئَ) بالهمزِ فمعناهُ : أنَّهم اتَّبعوكَ بأوَّلِ الرأيِ من دون تفكُّر ونظرٍ ، مِن قولهم : بَدَأتُ الأَمْرَ ؛ أي ابتدأتهُ ، ويجوزُ أن يكون المعنى : بَادِيَ الرؤيةُ ؛ أي بأوَّل ما تقعُ الرؤية عليهم يعلمُ أنَّهم أراذِلُنا ، وقد يكون الرأيُ بمعنى الرُّؤيةِ. قَالَ : الله تَعَالَى : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ }[آل عمران : 13] أي رُؤيةَ العينِ : ومن قرأ (بَادِيَ) بغير همزٍ فمعناه : ظاهرَ الرأيِ وهم يعرِفون الظاهرَ ولا تمييزَ لَهم.
ويجوزُ أن يكون معناه : اتَّبعوكَ في الظاهرِ ، وباطنُهم على خلافِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } ؛ أي ما نرَى لكَ ولقومِكَ علينا من فَضْلٍ ، فإنّ الفضلَ يكون بكثرةِ المال ، وشرفِ النَّسب والمَنْزِلة في الدُّنيا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } ؛ فيما تقولونَهُ على اللهِ ، وفيما تدْعُون إليه.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } ؛ أي قالَ لهم نوحُ : أخبروني إنْ كنتُ على بُرهانٍ وحُجَّة من ربي ، { وَآتَانِي رَحْمَةً } ؛ نعمةً ، { مِّنْ عِندِهِ } ؛ وهي النبوَّة ، { فَعُمِّيَتْ } ؛ فخَفِيت ، { عَلَيْكُمْ } ، هذه النعمةُ التي ظهرَتْ لِمَن اتَّبعوني فلم تُبصِروها لتَفاوُتِكم ، { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } ، أمكَنَنا أن نجعلَكم قابلين لها ، { وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ } ؛ هذا مما لا يكونُ. قال قتادةُ : (وَاللهِ لَوِ اسْتَطَاعَ نَبيُّ اللهِ ألْزَمَهَا قَوْمَهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ ذلِكَ).
فإن قِيْلَ : فهَلاَّ قال فَعَمِيتُمْ عَنْهَا وهم الذين كانوا عموا ؟ قُلْنَا : قد بيَّنا إنه وَضع ذلك موضع : فخَفِيت عليكم ، ثم لا فرقَ بين اللفظين كما لا فرقَ بين قولهم : أدخلتُ الخاتمَ في الإصبع ، وأدخلتُ الإصبعَ في الخاتَم. ومن قرأ (فَعُمِّيَتْ) بضمِّ العين وتشديد الميم ، فالمعنى : ألَيْسَتْ عليكم نُبُوَّتِي؟.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً } ؛ أي لا أسألُكم على دُعائي لكم إلى اللهِ مالاً ، فتخشَون العدمَ في أموالكم بإجابَتي ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ما ثَوابي إلا على اللهِ يُعطيني في الآخرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ قال ابنُ جريج : (إنَّهُمْ سَأَلُوهُ طَرْدَ الَّذِينَ آمَنُوا لِيُؤْمِنُوا بهِ أنفَةً مِنْ أنْ يَكُونُوا مَعَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ ، فَقَالَ : لاَ يَجُوزُ لِي طَرْدُهُمْ بقَوْلِكُمْ وَازْدِرَائِكُمْ) ، { إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ } ؛ ما وعدَهم ، { رَبِّهِمْ } ؛ فيجزيهم بأعمالهم ، ويقال : فيُخاصِمُونِي عندَهُ إنْ طردتُّهم ، { وَلَـاكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } ؛ أوامرَ اللهِ وما فيه إصلاحُكم.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ } ؛ معناهُ : يا قومِ مَن يمنَعُني من العقاب النازل في يومِ القيامة إنْ طردتُ مَنْ آمن بي ، وآويتُ مَن كفرَ ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؛ تتَّعظون بما أقولُ لكم فتؤمنون.
(0/0)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } ؛ أي لا أرفعُ نفسي فوقَ منْزِلتي ، فأقولُ إنَّ عندي مقدوراتِ اللهِ ، فأخصًّ بذلك من أشاءُ ، وامنعهُ ممن أشاء. وقولهُ تعالى : { وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي ولا أدَّعي علمَ الغيب فإني لا أعلمُ إلا ما علَّمَني اللهُ.
ويقال : إنَّهم لما قالوا لنوح عليه السلام : إن هؤلاءِ إنما آمَنوا بكَ ، واتَّبعوكَ في ظاهرِ ما ترى منهم ، أجابَهم نوحُ بهذا ، فقال : لا أقولُ لكم عندِي خزائنُ اللهِ ، يعني غُيُوبَ اللهِ التي يعلمُ منها ما تُضمِرهُ الناس ، فلا أعلمُ الغيبَ ، ولا أعلمُ ما يُسِرُّونَهُ في أنفسهم ، فسَبيلي قَبُولُ إيمانِهم الذي ظهرَ لي ، ومضمراتُهم لا يعلمها إلاّ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ } ؛ هذا جوابٌ لقولهم : ما نراكَ إلا بَشَراً مثلنا ؛ أي لا أدَّعي أنِّي مَلَكٌ نزلتُ إليكم من السَّماء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً } ؛ أي لا أقولُ للذين تحتقِرُ أعيُنكم وتستصغرُ : لن يؤتيكم اللهُ صَلاحاً في الدُّنيا وفَلاحاً في الآخرةِ ، يعني المؤمنين الذين قالوا : هم أراذِلُنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي إن طردتُّهم تَكذِيباً ، الظاهرُ إيمانُهم.
(0/0)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } ؛ أي قالُوا : يا نوح قد خاصَمْتنا فيما دعوتَنا إليه من دِين غيرِ آبائنا ، فأكثرتَ خصُومتَنا ودُعاءَنا ، فلا نقبلُ منكَ ، { قَفَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } ؛ أي بما تعِدُنا أنَّ الله يُعذِّبنا على الكفرِ ، { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ أرادَ بهذا القول أن يُلْبسُوا على ضُعفائِهم أنَّ نوحاً عاجزٌ عن إنزالِ العذاب بهم.
(0/0)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِن شَآءَ } ؛ أي إن العذابَ ليس بيَدِي ، ولكنَّ اللهَ هو الذي يقدرُ عليه ، فيُنْزِلهُ عليكم إنْ شاءَ ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } ؛ من إنزال العذاب بكم ، عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ نُوحاً عليه السلام كَانَ إذا جَادَلَ قَوْمَهُ ضَرَبُوهُ ، فَإذا أفَاقَ قَالَ : اللَّهُمَّ اهدِ قَوْمِي ؛ فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ".
(0/0)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ } ؛ معناهُ : قال لَهم : لا ينفعُكم دُعائِي ، وتحذيرِي إيَّاكم إنْ أردتُ أنْ أحذِّرَكم من عذاب الله إنْ كان اللهُ يريدُ أن يُضِلَّكم عن الْهُدَى مجازاةً بعملِكم ، فإن إرادةَ اللهِ فوق إرادَتِي ، ويكونُ ما يريدُ لا ما أريدُ.
فإن قِيْلَ : كيف يجوزُ أن تكون إرادةُ إبليس موافقةً لإرادةِ الله ، وأرادةُ نوحٍ مخالفةً لإرادة الله ؟ فالجواب : إنَّ اللهَ تعالى شاءَ لأُؤلئك القومِ الكفرَ ، وشاءَ لنوحٍ أن يسألَهم الإيمانَ ، وشاءَ لإبليس أن يسألَهم الكفرَ ، فالكلُّ بمشيئةِ الله تعالى. ويقالُ : معنى قولهِ : { إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } إن كان اللهُ يريد أن يُهلِكَكم ، وينحِّيَكم من رحمتهِ بكُفرِكم ، كما قال : { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً }[مريم : 59] أي هَلاكاً وعذاباً ، والغَيُّ قد يكون بمعنى الْخَيْبَةِ ، كما قال الشاعرُ : فَمَنْ يَلْقَ خَيْراً يَحْمَدِ النَّاسُ أمْرَهُ وَمَنْ يَغْوَ لاَ يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لاَئِمَاأي ومَن يَخِبْ ، يقالُ : غوَى الرجلُ يَغْوِي غَيّاً ؛ إذا فسدَ عليه أمرهُ ، أو فسدَ هو في نفسهِ ، ومنه{ وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }[طه : 121] أي فَسَدَ عليه عيشهُ في الجنَّة ، وهذا يُؤَوَّلُ أيضاً إلى معنى الْخَيْبَةِ فيها فسادُ العيشِ.
وذكرَ الحسنُ في معنى الآية : (لاَ يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي الْيَوْمَ إذا نَزَلَ بكُمُ الْعَذابُ ، فَاسْتَدْركُوا أمْرَكُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْعَذاب لِتَنْتَفِعُوا بنُصحِي). قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ رَبُّكُمْ } أي مَالِكُكُم يقدرُ على إنزال العذاب بكم ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ؛ أي إليه مصيرُكم بعد الموتِ فيجزِيَكُم بأعمالكم.
وهذه الآيةُ مما يحتجُّ بها أنَّ الشرطَ إذا اعترضَ على الشرطِ مِن غير أن يتخلَّلهُما الجوابُ ، كان الشرطُ الثاني مُقدَّماً على الأوَّلِ في المعنى ، حتى لو قالَ قائلٌ : إنْ دخلتَ الدارَ ، إنْ كلَّمْتَ زيداً فعبدِي حرٌّ ، لا يحنَثُ حتى يكلِّمَ ثم يدخلَ. فيكون تقديرُ الآية : ولا ينفعُكم نُصحِي إنْ كان اللهُ يريد أن يُغوِيَكُمْ إن أردتُ أن أنصَحَ لكم.
(0/0)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } ؛ معناهُ : أنَّ قومَهُ يقولون : إنَّ نُوحاً قد تَقَوَّلَ على اللهِ الكذبَ ، فأمَرَ اللهُ نوحاً أن يُجيبَهم بالقولِ اللَّيِّنِ بعدَ المبالغةِ في إقامة الحجَّة عليهم ، فيقولُ لَهم : { إِنِ افْتَرَيْتُهُ } أي تَقَوَّلْتُ الكذبَ على اللهِ فعليَّ عقوبةُ إجرَامي ، { وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ } ؛ وأنا بريءٌ من عُقوبَةِ جُرمِكم. ويقالُ : معنى الآية : أم يقولُ أهلُ مكَّة إنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم قد افترَى قصَّةَ نوحٍ { قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } والإجرامُ يستعمل في كَسْب الإثم خاصَّة.
(0/0)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } أي وأوحَى اللهُ إلى نوحٍ : أنه لن يصَدِّقَ من قومِكَ سِوَى مَن صدَّقَ ، { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ؛ فلا تَغْتَمَّ بالْحُزْنِ عليهم ، والابْتِئَاسُ : هو الغَمُّ على وجهِ الاستكانةِ للحُزنِ على الشَّأن. فقيل : إنما دعاَ نوحُ عليه السلام بقولهِ : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً }[نوح : 26] بعدَ هذا الوحيِ.
(0/0)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } ؛ أي اصْنَعِ السَّفينة بحِفظِنا لكَ حفظَ الرَّاعِي لغيرهِ لدفع الضَّرَرِ عنه ، وذكرَ الأعيُنَ لتأكيدِ الحفظ. ويقالُ : معناهُ بأَعيُن الملائكةِ الذين يُعرِّفونَكَ كيف تُصنَعُ السفينةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَحْيِنَا } أي وبأمرِنا إيَّاك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي لاَ تُراجِعْني الكلامَ في نجاةِ الذين ظلَمُوا أنفسهم بالكفرِ ، { إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } ؛ بالطُّوفَانِ.
(0/0)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي لما أخذ نوحٌ في علاجِ السَّفينة. ويُروى أنه استأجرَ أُجَراءَ ينحِتُون معه ، وكلَّما مرَّ ملأٌ من قومهِ هَزِئُوا به لمعالجتهِ السفينةَ ؛ لأنَّهم كانوا يَرَونه يعملُ السفينةَ مع أنَّه لم يكن بقُربهِ ماءٌ ، وكان من لَدُنْ آدم عليه السلام إلى نوحٍ يُسْقَوْنَ من ماءِ المطر ، فلا بحرَ ولا نَهْرَ جَارٍ ، فكانوا يقُولون : انظروا إلى هذا الشَّيخِ الضالِّ يصنعُ هذه السفينةَ يخوِّفُنا بالغرقِ ، ويجعلُ للماءِ أكَافاً فأين الماءُ؟! وكانوا يقولون في كلامِهم : فَرَغْتَ من أمرِ النبُوَّة ، وأخذتَ في أمر النِّجارةِ! وكانوا يَرَونَهُ ينجرُ الخشبَ وهي شبهُ البيتِ العظيم ، فإذا سألوهُ عن ذلك ، قال أعملُ سفينةً تجري في الماءِ ، ولم يكن هناكَ قبل ذلك سفينةٌ ، فكانوا يتضَاحَكون ويعجَبُون من عملهِ.
و { قَالَ } ؛ لَهم نوحٌ : { إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا } ؛ الآنَ ، { فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } ؛ عندَ نزولِ العذاب ، { كَمَا تَسْخَرُونَ } ؛ أنتمُ الساعةَ ؛ أي إن كُنتم تسخَرون منَّا لِمَا تَرَوْنَ من صَنْعَةِ الفُلْكِ ، فإنَّا نعجبُ من غفلَتِكم عما أضَلَّكم ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؛ من أحقُّ بالسِّخريِّ مِنَّا ومنكم ، وتعلمون ، { مَن } ؛ الذي ، { يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ؛ في الدُّنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ } ؛ وينْزِلُ عليه ، { عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ؛ دائمٌ في الآخرة.
(0/0)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ اللهَ أوْحَى إلَيْهِ أنَّ مَوْعِدَكَ أنْ يَخْرُجَ الْمَاءُ مِنْ آخِرِ مَكَانٍ فِي دَاركَ وَهُوَ تَنُّورُ الْخَابزَةِ ، تَنُّورُ آدَمَ عليه السلام كَانَ يَوْمَ حَجَّ نُوحٌ عليه السلام رَأى تَنُّورَ آدَمَ عليه السلام فَحَمَلَهُ مَعَهُ ، وَوَهَبَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ).
ثمَّ قَالَ لَهُ : إذا رَأَيْتَ الْمَاءَ قَدْ فَاضَ مِنْهُ فَاحْمِلْ فِي السَّفِينَةِ مَا أُمِرْتَ بهِ مِنْ أجْنَاسِ الْحَيْوَانِ ، { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } ؛ واحمِلْ ؛ { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } ؛ بالعذاب وهي امرأتهُ الكافرة وابنهُ كنعان استثنَاهما اللهُ من جُملة أهلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ آمَنَ } ؛ أي احمِلْ مَن آمَنَ معكَ أيضاً في السَّفينة ، قال ابنُ عبَّاس وعكرمة الزهريُّ : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَفَارَ التَّنُّورُ } أيِ انْبَجَسَ الْمَاءُ عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ). وقال عليٌّ رضي الله عنه : (وَفَارَ التَنُورُ ؛ أيْ طَلَعَ الْفَجْرُ).
وقولهُ تعالى : { جَآءَ أَمْرُنَا } أي عذابُنا ، وقولهُ تعالى : { قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي احمِلْ في السفينةِ من كلِّ زوجين اثنين ، الذكَرُ زوجٌ والأُنثى زوجٌ ، وهو قولُ الحسنِ ومجاهد وقتادة ؛ قالوا : (ذكَراً وَأُنْثَى).
فلما فارَ الماءُ من التَّنورِ أرسلَ الله السماءَ بمطرٍ شديد ، فأقبلتِ الوحوشُ حين أصابَها مطرُ السماءِ إلى نوح وسُخِّرت ، فحَمل في السفينةِ من كلِّ طير زَوجين ، ومن كلِّ وحشٍ زوجين ، وكلِّ دابَّة وبَهيمة زَوجين ، ومن كلِّ سَبُعٍ زوجين ، وحمَلَ من البقرِ والغنم خمسةَ أزواجٍ.
وبعثُ اللهُ جبريلَ فقطعَ فِقَارَ العقرب ، وضربَ فمَ الحيَّة فحمَلَها في السَّفينة ، وكانت السماءُ تُمْطِرُ ، وكان هو عندَ قومهِ يحذِّرُهم حتى ابتلَّت أقدامُهم ، وصارَ الماءُ إلى الكعَبين ، ثم حذرَهم حتى صارَ الماءُ إلى نصفِ الساق ، ثم حذرَهم حتى صارَ إلى الرُّكَب وإلى الْحِقْوَيْنِ ، كلُّ ذلك يحذِّرُهم ويُنذِرهم ، وكان يَنُوحُ ويَبكِي عليهم ، وقال ابنُ عبَّاس : (سُمِّيَ نُوحاً ، لأنَّهُ كَانَ يَنُوحُ عَلَى الإسْلاَمِ حَيْثُ لَمْ يُقِرَّ به قَوْمُهُ).
فلمَّا بلغَ الماءُ الشِّدْوَةَ قالَ : غَرِقَ قَومِي ، ثم قال لابنهِ كنعانُ : (يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا) فكَثُرَ الماءُ حتى صار فوقَ الجبالِ خمسةَ عشر ذِراعاً بالذراع الأول ، وكان للسفينةِ ثلاثةُ أبوابٍ بعضُها أسفل من بعضٍ ، حملَ في الباب الأسفل السِّباع والهوامَّ ، وفي الباب الأوسط الوحْشَ والبهائِمَ ، وفي الباب الأعلَى بني آدمَ ، وكانوا ثمانين إنساناً ، أربعين رجُلاً وأربعين امرأةً ، سِوَى التي غَرِقَتْ ، وثلاثةَ بنين : سَامٌ وحَامٌ وَيَافِثُ ، ونساؤُهم وإثنان وسَبعُون إنساناً فيهم الْخَضِرُ وهو ابنُ بنتِ نوحٍ.
واختلَفُوا في مقدار السفينة ، قال الحسنُ : (كَانَ طُولُهَا ألْفاً وَمِائَتَي ذِرَاعٍ ، وَعَرْضُهَا سِتُّمِائَةِ ذِرَاعٍ) ، وقال ابنُ عبَّاس : (كَانَ طُولُهَا ثَلاَثمِائَةِ ذِرَاعٍ وَعَرْضُهَا خَمْسِينَ ذِرَِاعاً ، وَارْتِفَاعُهَا ثَلاَثِينَ) وهو قولُ قتادةَ قال : (وَكَانَ لَهَا بَابَانِ فِي عَرْضِهَا).
وقولهُ تعالى : { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } أي واحمِلْ أهلَكَ ، يعني ولدَهُ وعياله ، { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } يعني امرأتَهُ وأهله وابنهُ كنعان ، و { وَمَنْ آمَنَ } يعني واحمِلْ مَنْ آمنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } ؛ أي إلا نفرٌ قليل ، قِيْلَ : ثَمانون إنساناً ، وَقِيْلَ : ثلاثةُ بنين وثلاثُ كَنَائِن ، الكَنَائِنُ : زوجاتُ البَنِين ، وقال ابنُ جريج : (كَانُوا ثَمَانِيَةَ أنْفُسٍ).
(0/0)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } ؛ أي قالَ لَهم نوحُ : اركَبُوا في السفينةِ ، وقولهُ { بِسْمِ اللَّهِ } يجوزُ أن يكون متَّصلاً بقولهِ { ارْكَبُواْ } أي ارْكَبُوا بسمِ الله ، ويجوزُ أن يكون متَّصلاً بقوله { مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا } أي بسمِ الله إجراؤُها وإرسَاؤُها.
وقال الضحَّاك : (كَانُوا إذا أرَادُوا أنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ قَالُواْ : بسْمِ اللهِ ، فَجَرَتْ ، وإذا أرَادُوا أنْ يُرْسُوهَا قَالُواْ : بسْمِ اللهِ ، فَرَسَتْ) ، ومَن قرأها (مَجْرَاهَا* بنصب الميم فهو عبارةٌ عن الموضعِ الذي تَجْرِي فيه ، ولَم يقرأ أحدٌ (مُرْسَاهَا) الا بضَمِّ الميم ، ومَن قرأ (مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا) فهو نعتُ (اللهِ) ، والمعنى بسمِ الله الْمُجْرِي لها حيث يشاءُ ، { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
(0/0)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ } ؛ يعني : السفينة تجري بهم في موج كالجبال العظيمةِ ، { وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ } ؛ كنعان وكان كافراً ، { وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ } ؛ عنهُ ولَمْ يركب معه ، وَقِيْلَ : معناهُ : وكان في معزلٍ من دين أبيه : { يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا } ؛ في السّفينة بشرطِ الإيمانِ ، ولذلكَ قال : { وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } ؛ إي على دِينهم فتغرَقَ معهم ، وقال الحسنُ : (إنَّمَا دَعَاهُ إلى رُكُوب السَّفِينَةِ ؛ لأنَّ ابْنَهُ كَانَ يُظْهِرُ لَهُ الإيْمَانَ نِفَاقاً ، وَكَانَ يَحْسَ بُهُ مُؤْمِناً).
واختلفَتِ القراءةُ في قوله { يابُنَيَّ ارْكَبَ مَّعَنَا } : قرأ بعضُهم بكسرِ الياء على الإضافة وهو الأجودُ ؛ لأن الأصلَ يا بني ثلاثُ يَاءَاتٍ ، ياءُ التصغيرِ وياءُ الفعلِ وياءُ الإضافة ، فحُذفت ياءُ الإضافة ، وتُركت الكسرةُ دليلاً على الإضافة ، وأُدغِمَت أحدى اليائَين في الأُخرى. وقرأ بعضُهم (يَا بُنَيَّ) بفتحِ الياء على أن أصلَها : يا بُنَيَّا بالألف ، كما تقولُ العرب : يا غُلاَما أقْبلْ ، تريدُ يا غُلامِي أقْبلْ ، فتُبدَلُ الألفُ من ياءِ الإضافة على وجهِ النُّدْبَةِ والتَّفْجِيعِ ، وكان الأصلُ يا بُنَيَّا ثم حُذِفت الألف لسكونِها وسكونِ الراء من قولهِ { ارْكَبَ }.
(0/0)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَآءِ } ؛ أي قال ابنُ نوحٍ : سأذهبُ وأرجع إلى مأوًى من الجبل حَريزٍ يَمنعُنِي من آفاتِ الماء ، { قَالَ } ؛ له نوحُ عليه السلام : { لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ } ؛ بالنجاةِ ، وتقديرُ الكلامِ : لا عاصمَ اليومَ من عذاب الله إلا اللهُ تعالى ، وقال بعضُهم : لا عاصمَ اليومَ من عذاب الله إلا مَنْ رَحِمَهُ اللهُ ، وهو نوح عليه السلام فإنَّه قد جعلَ الله إليه إركابَ المؤمنين في السفينةِ وَقِيْلَ : معناهُ : لا معصومَ اليوم إلا من رَحِمَهُ اللهُ ، كما قال الحطيئة : { _@_دَعِ الْمَكَارمَ لاَ تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا _@_ وَاقْعُدْ فَإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي_@_ }الْمَطْعُومُ الْمَكْسُوُّ ، ومنه يقالُ : سِرٌّ كَاتِمٌ أي مكتومٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ } ؛ أي بين كنعانَ ونوح ، وَقِيْلَ : بين كنعان والجبلِ ، { فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ }.
(0/0)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
قولهُ : { وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي } ؛ أي قِيْلَ بعدَ ما تناهى أمرُ الطُّوفان ، وذلك لِمَا روى ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (أنَّ السَّمَاءَ مَطَرَتْ أرْبَعِينَ يَوْماً اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَخَرَجَ مَاءُ الأَرْضِ أرْبَعِينَ يَوْماً اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، وَسَارَتْ بهِمُ السَّفِينَةُ فَطَافَتْ بهِمُ الأَرْضَ كُلَّهَا فِي خَمْسَةِ أشْهُرٍ لاَ تَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى أتَتِ الْحَرَمَ فَلَمْ تَدْخُلْهُ ، وَطَافَتْ بالْحَرَمِ أُسْبُوعاً ، وَرُفِعَ الْبَيْتُ الَّذِي بَنَاهُ آدَمُ إلَى السَّمَاءِ ، وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، جُعِلَ الْحَجَرُ الأَسْوَدُ عَلَى أبي قُبَيْسٍ ، وَأُوْدِعَ فِيْهِ ، ثُمَّ ذهَبَتْ بهِمُ السَّفينَةُ في الأَرْضِ حَتَّى انْتَهَتْ بهِمْ إلَى الْجُودِيِّ وَهُوَ جَبَلٌ بَأَرْضِ الْمَوْصِلِ ، فََاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ بَعْدَ خَمْسَةِ أشْهُرٍ). ويقالُ : رَكِبَ نوحُ في السفينةِ لعشرٍ مضَين من رجب ، وخرجَ منها يومَ عاشوراء ، فذلك خمسةُ أشهر.
فلما استقرَّت السفينةُ على الْجُودِيِّ كشفَ نوح الطبقَ الذي فيه الطيرُ ، فبعثَ الغرابَ ليأتيه بالخبرِ فأبصرَ جِيفَةً ، فوقعَ عليها وأبطأَ على نوحٍ ولم يأتهِ ، فأرسلَ الْحَدْأَةَ على إثرهِ فأبطأت عليه ولم تأته ، فدعَا على الغراب أن يكون طويلَ العمر في مخافةٍ وشَقَاء. ثم أرسلَ الحمامة بعد الحدأة بسبعٍ فلم تجِدْ مَوقِعاً فرجعت ، فبسطَ لها نوحُ عليه السلام كفَّهُ فوقعت عليهِ ، ثم مكثَ نوح ما شاءَ الله ، ثم أرسلَها مرَّة أخرى فجاءت بعدَ ذلك فوقعت على الأرضِ وغابَت رجلاَها في الطِّين ، فعرفَ نوحٌ أن الأرضَ قد ظَهرت ، فدعَا بها فقالَ : كونِي آنَسَ طيرٍ وأنعمَهُ وأكيَسَهُ.
وقوله تعالى : { وَقِيلَ ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ } أي انْشِفِي الماءَ الذي خرجَ منكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياسَمَآءُ أَقْلِعِي } أي كُفِّي عن الصَّب ، يقال : أقلعَتِ السماءُ إذا استمسكَ المطرُ حتى لم يبقَ له أثرٌ ، وأقلعَتِ الْحُمَّى عن فلانٍ إذا تركتْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَغِيضَ الْمَآءُ } ؛ أي ونَشِفَ الأرض ماؤُها ، ويقال غاضَ الماءُ يَغِيضُ إذا غَارَ في الأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُضِيَ الأَمْرُ } ؛ أي وقعَ هلاكُ الكفار على التَّمامِ ، هَلَكَ مَن هلكَ ، ونَجا مَن نَجَا. قال ابنُ عبَّاس : (نَشَّفَتِ الأَرْضُ مَاءَهَا الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا ، وَذهَبَ مَاءُ السَّمَاءِ إلَى الْبُحُورِ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ { ياأَرْضُ ابْلَعِي مَآءَكِ } ).
قولهُ : { وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ } ؛ أي استوَتِ السفينةُ على الجوديِّ شَهراً ، وهو جبلُ بالجزيرةِ ، { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ يجوزُ أن يكون معناه : قَالَ اللهُ تَعَالَى : { بُعْداً } أي سخطٌ من رحمة الله للقوم الكافرين ، ويجوز أن يكون هذا مِن قول أهلِ السفينة حين نَجَوا من الغرقِ ، وخرَجُوا من السفينةِ ، قالوا : { بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ في الآخرة أيضاً.
(0/0)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } ؛ أي قَومِي ، { وَإِنَّ وَعْدَكَ } ؛ بنجاةِ قومي ، { الْحَقُّ } ؛ الصِّدقُ لا شكَّ فيه ، { وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } ؛ في قولِكَ وفعلِكَ ، وكان دعاءُ نوحٍ عليه السلام بهذا الدُّعاء حين حَالَ الموجُ بينَهُ وبين ابنهِ كنعان. { قَالَ يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } ؛ معناهُ : قال اللهُ : يا نوحُ إنَّهُ ليس من إهلِكَ الذين وعدتُكَ أن أُنْجِيَهُمْ ، إنما أهلُكَ دِينُكَ ، وإنَّ ابنَكَ كافرٌ ليس على دينكَ ، فانقطعَتِ العصمةُ بينَكَ وبينه بكُفرهِ وإيمانِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } أي إنَّ سؤَالَكَ إيَّايَ أنْ أُنْجِي كافراً عمَلٌ غيرُ صالحٍ ، قرأ الكسائيُّ ويعقوب (عَمِلَ) بكسرِ الميم وفتح اللام (غَيْرَ) منصوب ، أي إنه عَمِلَ بالشِّركِ والتكذيب ، وقرأ الباقون بالرَّفع والتنوينِ (غَيْرُ) بالرفع ؛ أي إنه ذُو عَمَلٍ غير صالح. وَقِيْلَ إنَّ سُؤالَكَ إيَّاي نجاةَ ولدِكَ الذي ليس من أهلِكَ سؤالٌ غيرُ مُرْضٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ؛ قرأ ابنُ كثير بتشديد النُّون وفتحِها ، وقرأ أهلُ المدينة والشام بتشديد النونِ وكسرِها ، والمعنى واحدٌ ؛ أي لا تسألني ما ليسَ لك به علمٌ أنه صوابٌ وأنا أفصِلهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ؛ إي إنِّي أعِظُكَ أن تسأَلَني سؤالَ الجاهلِ ، ولكن سَلْنِي سؤالَ العالِم بي. والوَعْظُ في اللغة : هو الزَّجْرُ عن القبيحِ ، وكان نداءُ نوح { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } نداءَ تعظيمٍ لله تعالى على ظنِّ أنَّ ابنَهُ من أهلِ دينه, وقولهُ تعالى { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } نداءُ تنبيهٍ على أنه ليسَ مِنْ أهلِ دينه ، ولا من أهلِ أن يلطفَ به.
واختلَفُوا في هذا الابنِ ، فقالوا : إنه لَمْ يكن ابنَ نوحٍ لقوله تعالى : { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي مِن ولدِكَ وهو قولُ مجاهد والحسنِ ، والمعنى على قولِهما إنهُ وُلِدَ لغيرِ رُشدهِ.
قال قتادةُ : (وسُئلَ الْحسَنُ عَنْهُ فَقَالَ : (وَاللهِ مَا كَانَ ابْنَهُ) ، وَقَرَأ{ فَخَانَتَاهُمَا }[التحريم : 10]! فَقُلْتُ : إنَّ اللهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أنَّهُ قالَ : { إِنَّ ابْنِي } وَقَالَ : (وَنَادَى نُوحٌ ابْنُهُ) وَأنْتَ تَقُولُ : لَمْ يَكُنِ ابْنَهُ! وَإنَّ أهْلَ الْكِتَابَيْنِ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أنَّهُ كَانَ ابْنَهُ ، فَقَالَ الْحَسَنُ : (وَمَنْ يَأْخُذُ دِينَهُ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب؟! إنَّهُمْ يَكْذِبُونَ). وقال ابنُ جريج : (وَنَادَاهُ وَهُوَ يَحْسَبُ أنَّهُ ابْنَهُ ، وَكَانَ وُلِدَ علَى فِرَاشِهِ). وقال بعضُهم : إنما كان ابنَ امرأتهِ ، واستدَلُّوا بقولهِ { إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } ولَمْ يقُل إن ابني منِّي ، وهو قولُ أبي جعفر الباقر.
وقال أكثرُ المفسِّرين : إنه كان ولدَهُ مِن صُلبهِ ، وقولهُ تعالى : { لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي الذي وعدتُكَ أن أُنْجِيَهُمْ ، قالُوا : ومَا بَغَتِ امرأةُ نَبيٍّ قط ، وإنَّما خيانَتُهما في الدِّين لا في الفراشِ ، ولأنَّ الله تعالى يعصِمُ أنبياءَهُ صلواتُ اللهُ عَلَيْهِمْ أن يقعَ مِن نسائهم ما يُلحِقُ بهم عَيْباً في الدُّنيا ، وإنْ كان قد يقعُ منهنَّ ما يكون عَيْباً في أمرِ الآخرة ، وفي الحديث :
(0/0)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } ؛ أي قال نوح : إني أمتنعُ بك أن أسألكَ ما ليس لي به علمٌ أنه صوابٌ ، { وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي } خَطِيئَتِي هذهِ وهي هذا السؤالُ ، { وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ } بالوِزْر والعقوبةِ.
(0/0)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قِيلَ يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى } ؛ قالَ اللهُ لنوحٍ : فاهبطْ من السَّفينة إلى الأرضِ بأَمْنٍ وسلامةٍ من الآفاتِ ، (وَبَرَكَاتٍ) وخَيرَاتٍ ثابتة عليك وعلى الذين معك مِن المؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي وأُمَمٌ سنمَتِّعُهم عليهم بعدَكَ في الدُّنيا ثم يَمسُّهم في الآخرةِ منَّا عذابٌ أليم ، وهم الكافرون وأهلُ الشَّقاوةِ.
فهبطَ نوحُ ومَن معه من الجوديِّ ، ولم يكن لواحدٍ منهم نَسْلٌ إلا لنوحٍ وأولادهِ ، كما قالَ اللهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ }[الصافات : 77] ، وعن محمَّد بن كعبٍ قال : (دَخَلَ فِي السَّلاَمِ وَالْبَرَكَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَدَخَلَ فِي الإمْتَاعِ وَالْعَذاب كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). وفي الآيةِ دلالةٌ على ذلك ؛ لأن لفظَ الأُمَمِ يدلُّ على الجماعاتِ الكثيرة ، ولم يكن مع نوحٍ في السفينة إلا قليلٌ.
(0/0)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } ؛ أي تلك القصَّةُ التي ذكرتُها لكَ يا مُحَمَّدُ قصةُ نوحٍ من الأمور الغائبة عنكَ ، { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـاذَا } ، القرآنِ وهذا مِنَّةٌ من اللهِ تعالى : { فَاصْبِرْ } ؛ على أذى الكفَّارِ ، كما صبرَ نوحُ على أذاهم ، واصبر على القيامِ بأمرِ الله وتبليغ الرِّسالةِ ، وما تلقَى من أذى قومِكَ كما صبرَ نوحُ على أذى قومهِ ، { إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ آخرَ الأمرِ بالسَّعادة والظَّفر والنصرِ للمتقين ، كما كانت لنوحٍ ومَن آمَنَ بهِ.
(0/0)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } ؛ أي وأرسَلنا إلى عادٍ أخاهم هُوداً في النَّسب ، { قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ } ؛ أي وَحِّدُوهُ دونَ الأصنامِ فإنَّها ليست بآلِهَةٍ ، وما أنتم إلا كاذبون في قولِكم إنَّها آلهةٌ.
(0/0)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياقَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } ؛ أي لاَ أسَألُكم على ما أُؤَدِّي إليكم من الرِّسالة مَالاً فتَتَّهمُونِي أنِّي أبتغِي بذلك كسبَ مالٍ أو تخشُون أن أُلزِمَكم غَرَماً في مالِكم ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي } ؛ أي ما ثَوابي إلا على الذي خلَقَني ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ أن الأمرَ على ما أقولهُ. وأصلُ الفَطْرِ الشَّقُّ ، وسمي الخلقُ فَطراً لأنه يظهرُ به المخلوق كما يظهرُ الشيء بالشَّقِّ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؛ أي استغفِرُوا ربَّكم من الكفرِ والذنوب ثم ارجِعُوا إليه بالنَّدم والعزم على تركِ العَوْدِ في الذُّنوب ، { يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ } ؛ بالمطرِ ، { مِّدْرَاراً } ؛ دائماً مُتواتراً ، { وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً } ؛ في أبدانِكم وأموالكم ، { إِلَى قُوَّتِكُمْ } ؛ التي لكم ، { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ } ؛ عمَّا أدعُوكم إليه مُذنِبين.
(0/0)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } ؛ أي حُجَّةٍ ، وقد جاءَهم بمعجزةٍ إلا أنَّهم لم يعتِقدُوها حجَّةً ، قًوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } ؛ أي قالُوا : ما نحنُ بتاركِي عبادةِ آلهتنا بقولِكَ ، { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } ؛ أي بمصدِّقين فيما تقولهُ.
(0/0)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } ؛ أي قالُوا ما نقولُ فيكَ إلا أنه أصابَكَ بعضُ آلهتنا بجُنونٍ فخَبَلَ عقلُكَ لسَبكَ إيَّاها ، وكان القومُ يعلمون وكلُّ أحدٍ أنَّ الذي يعقلُ ويُميِّزُ لو أرادَ أن يصيبَ غيره بجُنونٍ لم يقدِرْ على ذلكَ ، فكيف تقدرُ الأصنامُ التي لا عقلَ لها ولا تَمييزَ؟! والاعْتِرَاءُ افْتِعَالٌ من عَرَاةُ يَعْرُوهُ إذا مَسَّهُ وأصَابَه.
وقولهُ تعَالَى : { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } { مِن دُونِهِ } ؛ أي قالَ : هودُ : إنِّي أُشهِدُ الله على نفسِي ، واشهَدُوا أنتم أيضاً أنِّي بريءٌ مما تُشركون مع اللهِ في العبادة ، ولم يكن إشهادهُ إيَّاهم للاحتجاجِ بقولهم ، وإنما هو للاحتجاجِ عليهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } ؛ أي إنْ قدِرتُم على قَتلِي أنتم وآلهتُكم ، أو على إنزالِ السُّوء ، فافعَلُوا ولا تُمهلوني طَرَفَةَ عَينٍ ، ولم يقُل هذا على جهةِ الأمرِ لهم ، وإنما قال لبيانِ عَجزِهم.
(0/0)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } ؛ أي فوّضَتُ أمرِي إلى خالِقِي وخالِقُكم متمسِّكاً بطاعتهِ وتاركاً لمعصيتهِ ، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على اللهِ.
وقولهُ تعالى : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } ؛ أي ما مِن أحدٍ إلا وهو في قَهْرِ اللهِ وتحت قُدرَتهِ ، وإنما جعلَ الأخذ بالناصيةِ كنايةً عن ذلك ؛ لأنَّكَ إذا أخذتَ بناصيةِ غيرِكَ فقد قَهَرْتَهُ وأدْلَلْتَهُ ، والنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ شَعْرِ الرأسِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي هو في تدبيرِ عباده لا يفعلُ إلا الحقَّ ، فإنه عادلٌ لا يَجُورُ ، ويقالُ : إن معناهُ : أن طريقَ العبادةِ على الله كما قال تعالى{ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر : 14].
(0/0)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ } ؛ أي فإنْ توَلَّوا عن الإيمان فما هو تقصيرٌ مني في إبلاغِ الرسالة ، ولكن لسُوءِ اختياركم ، { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } ؛ أطوعَ له منكم ؛ أي يهلِكُكم بعذاب استئصالٍ ، قد يستخِلفُ بهلاكِكُم قوماً غيرَكم أطوعَ له منكم ، { وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً } ؛ أي لا تَقدِرُون على أن تُنقِصُوا شيئاً من مُلكهِ وهو سبحانهُ لا يجوزُ عليه المضَارُّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } ؛ أي هو شاهدٌ على أعمالِ العباد للمجازاةِ ، لا يخفَى عليه شيءٌ منها.
(0/0)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ } ؛ أي لما جاءَ أمْرُنا بعقاب قوم هُودٍ بالرِّيحِ العَقِيمِ ، نَجَّيْنَا هُوداً والمؤمنين به من ذلكَ العقاب ، { بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } ؛ يُحتمل أن يكون المرادُ : أنْ نَجَّاهُمْ مِن الريحِ العقيمِ ، إلا أنه أعادَ ذِكْرَ النجاةِ للتأكيدِ وتفخيم الحال. ويحتملُ أن يكون معناهُ : كما نَجَّينَا المؤمنين مِمَّا عُذِّبَ به عادٌ في الدُّنيا ، فكذلك نَجَّينَاهم من عذاب الآخرة.
(0/0)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } ؛ أي كذبوا بدلائلِ الله الدالَّة على وَحْدَانِيَّتِهِ وصِدْقِ أنبيائهِ ، وعَصَوا هُوداً ومَن قبلَهُ ومَن بعدَهُ ؛ لأنه عليه السلام أُرْسِلَ بتصديقِ مَن قبله وبالبشارةِ لمن بعده ، فلما كذبوهُ فقد كذبوا الرُّسُلَ كلَّهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ؛ أي أمرَ كلِّ طَاغٍ عَاتٍ مُعرِضٍ عن اللهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً } ؛ أي أتبعُوا بعدَ الهلاكِ في هذه الدُّنيا بالإبعادِ عليهم باللَّعْنِ ، فلَعَنَتْهُمُ الملائكةُ والناس ما دامَتِ الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي ويومَ القيامةِ يُبعَدُونَ من رَحمةِ الله كما أُبعدوا في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } ؛ أي جَحَدوا ، { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } ، أي أبعدَهم الله من رحمتهِ إبعاداً. وفي هذا تَهْدِيدٌ للكفار ، كأنَّهُ تعالى قالَ : انظُروا يا أهلَ مكَّة كيف فعلَتْ عادٌ وكيف فُعِلَ بهم ، فاحذرُوا أنْ يُصيبَكم مثلَ ما أصابَهم.
(0/0)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً } ؛ في النَّسَب ، { قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ } ؛ أي أنشأَ آباءَكم كما قالَ في آيةٍ أخرى{ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ }[الروم : 20] ، { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } ؛ أي المرادُ أن تكونوا عُمَّارَ الأرضِ وسُكَّانَها ، فمَكَّنَكم من عِمارَتِها وأحوَجَكم إلى المسكنِ فيها. وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : أعْمَرَهَا لَكُمْ مُدَّةَ أعْمَارِكُمْ) مِنَ الْعُمَرَى ، وَهِيَ الْهِبَةُ الَّتِي يَهَبُهَا الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ عَلَى أنْ تَكُونَ لِلْمَوْهُوب لَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الْوَاهِب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؛ أي استغفروهُ من الشِّرك والذنوب ، ثم دُومُوا على التوبةِ ، { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ } ؛ ممن تقرَّبَ إليه ، { مُّجِيبٌ } ؛ لِمَن دعاهُ وأطاعَهُ. وأراد بالقُرب الإسراعَ بالرَّحمة والإجابَةِ ؛ لا قُرب المسافةِ.
(0/0)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
قْولُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياصَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـاذَا } ؛ أي قد كُنَّا نَرجُوا فيكَ الخيرَ قبلَ هذا اليوم لِمَا كان فيكَ من الخلائقِ الحسَنة والشمائلِ المرْضِيَّة ، والآنَ قد دعوتَنا إلى غيرِ دين آبَائِنا قد يَئِسنَا منكَ ، { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } ؛ الألفُ ألِفُ استفهامٍ بمعنى الإنكارِ. وقولهُ تعالى : { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } ؛ أي لو أجبنَاكَ إلى ما تدعُونا إليه لأجَبنَاكَ على شَكٍّ ظاهرٍ ، فإنَّا لا نعلمُ صِدقَكَ فيما تقولُ.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ } ؛ أخبرُونِي ، { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً } ؛ برهانٍ وحجَّة ، { مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً } ؛ نعمةً وهي النبوَّةُ ، { فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ } ؛ فمَن يمنعُ عذابَ الله عنِّي إنْ عصَيتهُ مع نعمتهِ علَيَّ ، { فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ } ؛ إنْ عصيتُ اللهَ في اتِّباع دينِكُم إلا خُسران الدُّنيا والآخرةِ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } ؛ أي دلالةً ومُعجِزَةً على صِدْقِ قَولِي حيث اخرجتُهما لكم بإذن الله ناقةً عَشراءَ من صخرةٍ ملسَاءَ كما سألتُم ، { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ * فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } ؛ وقد تقدمَ ذلك في سورةِ الأعراف.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } ؛ أي لما جاءَ أمرُنا بالعذاب نَجَّينا صَالحاً من ذلك ، ونَجَّينا الذين آمَنُوا معهُ بنعمةٍ منَّا ، { وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ } ، الْخِزْيُ : هو الذل الذي يُستَحَى منهُ ، وهو ما نَزَلَ بم في كلِّ يومٍ من عَلاَمةِ الأشقياءِ من اصْفِرَارِ وجُوهِهم في اليوم الأوَّل ، واحْمِرَارِها في اليومِ الثانِي ، واسوِدَادِها في اليومِ الثالث ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } ؛ أي هو القادرُ على أخذِ أعدائه ، العزيزُ المنتَقِم مِمَّن عصاهُ.
(0/0)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قَوْلُهُ تَعََالَى : { وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } ؛ معناهُ : الذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكفرِ ، وَقِيْلَ : الذين ظلَمُوا الناقةَ. والصَّيحَةُ : جِبرِيلُ عليه السلام صَاحَ بهم صيحةً هائلةً عند صباحِ اليوم الرابعِ ، لَمْ تحتَمِلها قلوبُهم فهلَكُوا.
وإنَّما قالَ في هذهِ الآية : (وَأخَذ) ، وفي آيةٍ أُخرى : (وَأخَذتْ) ؛ لأنَّ الصيحةَ والصِّياحَ واحدٌ ، فردَّ الكنايةَ مرَّة إلى الصيَّاحِ ومرَّة إلى الصَّيحَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ؛ أي مَيِّتِينَ قد هَمَدُوا رَمَاداً جُثُوماً على الرُّكَب. ويقال : أصبَحُوا في بلادِهم جَاثِمين على وجُوهِهم على الطَّرفِ. وقولهُ تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } ؛ أي كأَنْ لم يكونُوا في الأرضِ قَطُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ } ؛ أي برَبهِم ، { أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ } ؛ أي أبعَدَهم اللهُ من رحمتهِ. وقرىء (لِثَمُودِ) بالكسرِ لقُربها من قولهِ { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ } ، فمَنْ صرفَهُ جعله اسماً ، ومَن لم يصرِفْهُ جعله اسماً للقبيلةِ.
(0/0)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى } ؛ قالَ ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ جِبرِيلَ وَمَنْ مَعَهُ اثْنَي عَشَرَ مَلَكاً جَاؤُا إلَى إبْرَاهِيمَ لِيُبَشِّرُوهُ بإسْحَقَ مِنْ زَوْجَتِهِ سَارَةَ).
فلما دخَلُوا عليه ، { قَالُواْ سَلاَماً } ؛ أي سلَّمُوا عليه سَلاَماً ، وَقِيْلَ : قالوا : نُسَلِّمُ سَلاماً ، وهو نَصْبٌ على المصدرِ ، وقولهُ : { قَالَ سَلاَمٌ } ؛ أي أجابَهم إبراهيمُ بأن قالَ : عليكم سَلامٌ. وإنما لم يقل عليكُم سَلاماً بالنصب ؛ لأنه لو كان كذلكَ لكان يُتوَهَّمُ أن إبراهيمَ عليه السلام حكَى قولَ الملائكةِ أنَّكُم سلَّمْتُم سلاماً ، فخالَفَ بينهما ليكون قولهُ جَواباً لَهم. ومَن قرأ بكسرِ السِّين ، فالسِّلْمُ السَّلامُ بمعنى واحدٍ ، كحَلَّ وحَرُمَ مثل حلالٍ وحرام.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } ؛ أي ما لَبثَ إبراهيمُ أن جاءَ بعِجْلٍ مَحْنُوذٍ ؛ أي مَشْوِيٍّ ، قال ابنُ عبَّاس : (الْحَنِيذُ : النَّضِيجُ) هو قولُ مجاهد وقتادة ، والْحِنْذُ : إشْوَاءُ اللَّحمِ بالحجارةِ الْمُحَمَّاةِ في شَوْءٍ مِن الأرضِ ، وهو مِن فِعْلِ الباديةِ ، وقال مقاتلُ : (إنَّمَا جَاءَهُمْ بعِجْلٍ لأنَّهُ كَانَ أكْثَرُ مَالِهِ الْبَقَرَ).
وقال الحسنُ : (إنَّمَا جَاءَهُمْ بالطَّعَامِ لأنَّهُمْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الآدَمِيِّينَ ، عَلَى هَيْأَةِ الأَضْيَافِ ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الضَّيفَانِ ، وَلَوْ جَاؤُهُ عَلَى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ لَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ إلَيْهِمْ ذلِكَ لِعِلْمِهِ باسْتِغْنَاءِ الْمَلاَئِكَةِ عَنِ الطَّعَامِ).
(0/0)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } ؛ أي لَمَّا وضعَ الطعامَ بين أيديهم ، فرَآهُم لا يَمُدُّونَ إليه أيدِيَهم أنْكرَهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ } ؛ أضمَرَ في نفسهِ ، { خِيفَةً } ؛ خَوْفاً منهم ، وكان أهلُ ذلك الزمانِ إذا لم يأكُلْ بعضُهم من طعامِ بعضٍ خَافُوا من غَائِلَتِهِ. فلما عَلِمتِ الملائكةُ خوفَهُ منهم ، { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } ؛ منَّا يا إبراهيمُ ، { إِنَّا أُرْسِلْنَا } ، أي إنَّ اللهَ أرسَلنا ، { إِلَى قَوْمِ لُوطٍ } ؛ لنُهلِكَهم.
(0/0)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ } ؛ معناهُ : وامرأتهُ سَارَةُ كانت قائمةً معه على رؤُسِهم بالخدمةِ ، ويقالُ : كانت قائمةً من وراءِ السَّترِ في حالِ محاروة إبراهيمَ مع الملائكةِ ، ويقال : إنَّ سارةَ بنتُ عمِّ إبراهيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَضَحِكَتْ } أي ضَحِكَتْ من سُرورِها بالسَّلام ، فزَادُوها بشَارةً بإسحقَ عليه السلام ، وقال السديُّ : (إنَّ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَهُمْ : ألاَ تأْكُلُونَ؟! قَالُوا : إنَّا قَوْمٌ لاَ نَأْكُلُ إلاَّ بالثَّمَنِ ، قَالَ : كُلُوا وَأدُّوا ثَمَنَهُ ، قَالُواْ : وَمَا ثَمَنُهُ ؟ قَالَ : أنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ فِي آخِرِهِ. فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إلَى مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَقَالَ : حَقٌّ لِهَذا أنْ يَتََّخِذهُ اللهُ خَليلاً ، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ : عَجَباً لأَضْيَافِنَا نَخْدِمُهُمْ بأْنفُسِنَا تَكْرِمَةً لَهُمْ وَهُمْ لاَ يَأْكُلُونَ طَعَامَنَا!).
وقال قتادةُ : (ضَحِكَتْ لِغَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ ، وَقُرْب الْعَذاب مِنْهُمْ). وَقِيْلَ : ضَحِكَتْ سُروراً بالأمْنِ منهم لَمَّا قالوا : لاَ تَخَفْ ، وقال عكرمةُ : (ضَحِكَتْ أيْ حَاضَتْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } ؛ قرأ ابنُ عامر وحمزة ويعقوب بالنصب على معنى : وَوَهَبْنَا لها من وراءِ اسحقَ يعقوبَ ، وَقِيْلَ : بنَزعِ الخافض ؛ أي وبشَّرنَاها من وراءِ اسحقَ بيعقوب ، فلما حُذفت الباء نُصِبَ.
وقال الزجَّاج : (لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذلِكَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ عَلَى ذلِكَ ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَ الْجَارِّ والْمَجْرُورِ وبَيْنَهُمَا وَاوُ الْعَطْفِ إلاَّ بإعَادَةِ حَرْفِ الْجَرِّ ؛ لأنَّهُ لاَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ : مَرَرْتُ بزَيْدٍ فِي الدَّار وَالْبَيْتِ وَعَمْرٍو ، حَتَّى يَقُولَُ : وَبعَمرٍ).
وقولهُ { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ } قال المفسِّرون : كان إبراهيمُ قد وُلِدَ له من هاَجَرَ وكَبرَ وشَبَّ ، فتمَنَّت سارةُ أن يكون لها ابنٌ وآيَسَتْ من ذلك لكبَرِ سِنَّها ، فبُشِّرت على كِبَرِ السنِّ بولدٍ يكون نبيّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } قال الزجَّاج : (بَشَّرُوهَا أنَّهَا تَلِدُ اسْحَقَ ، وَأنَّهَا تَعِيشُ إلَى أنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهِ ، وَوَرَاءَ هَهُنَا بمَعْنَى بَعْدَ)
(0/0)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً } ؛ لا يجوزُ أن يكون هذا على جهةِ الإنكارِ ، فإن (يَا وَيْلَتَا) كلمةٌ تستعمِلُها النساءُ عند وقوعِ أمرٍ فظيع ، فاستعمَلَتها في هذا الموضعِ على جهة التعجُّب ، ولهذا قالت : { إِنَّ هَـاذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ }. وأصلهُ : يَا وَيْلَتِي فأُبدل من الياءِ الألف لأنه أخَفُّ من الياءِ والكسرِ.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانَتْ سَارَةُ بنْتَ ثَمَانٍ وَتِسعِينَ سَنَةً ، وَكَانَ زَوْجُهَا ابْنَ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَتَعَجَّبَتْ بأَنْ يَكُونَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ كَبيرَيْنِ وَلَدٌ) ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً } أي هذا الذي يعرفونَهُ بَعْلِي ، ثم قالت (شَيْخاً) أي انتَبهوا له في حالِ شيخوخَتهِ فهو نُصِبَ على الحالِ ، وذهبَ الكوفيُّون إلى أنه نُصِبَ على القطعِ عن المعرفة إلى النَّكرة كما يقالُ : خَرجَ زَيدٌ راكباً.
(0/0)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } ؛ أي قالت الملائكةُ : أتَعجَبينَ من قُدرة اللهِ وأنت عارفةٌ أنَّ الله قادرٌ على كلِّ شيء ؟ قال السديُّ : (أخَذ جِبْرِيلُ عُوداً يَابساً فَدَلَكَهُ بَيْنَ إصْبعَيْهِ فَإذا هُو أخْضَرُ يَهْتَزُّ ، فَعَرَفَتْ أنَّهُ مِنَ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ } ؛ معناهُ : نعمةُ اللهِ عليكم في الدِّين والدنيا وخيراتهِ التامَّة عليكم يا أهلَ البيتِ بيتِ إبراهيم عليه السلام ، { إِنَّهُ حَمِيدٌ } ؛ لأعمَالِكم ، { مَّجِيدٌ } ؛ أي كريمٌ يُكرِمُكم بالنِّعَمِ ، الكريمُ هو الذي يَبْتَدِئُ بالنعمةِ قبل الاستحقاقِ ، والْمَجِيدُ الْمَاجِدُ وهو ذو الشَّرَفِ والمجدِ والكرَمِ.
(0/0)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
قوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ } ؛ أي الخوفُ والفَزَعُ ، { وَجَآءَتْهُ الْبُشْرَى } ؛ بإسحقَ جعلَ ، { يُجَادِلُنَا } ؛ يجادِلُ رسُلَنا ، { فِي قَوْمِ لُوطٍ }.
واختلَفُوا في هذهِ المجادلة ، فقال بعضُهم : سألَ عن سبب تعذيب اللهِ لهم سؤالَ مُسَتقْصٍ حتى قالَ : إنَّ اللهَ أمرَ باستئصالِهم وبتخويفِهم بالعقاب ، وحتى قال : إنَّ فيها لُوطاً. وقال بعضُهم : أراد بالمجادلةِ الدُّعاءَ والتضرُّعَ وشدةَ الحرصِ على نجاة القومِ رجاءَ إيمانِهم.
كما رُوي أنَّ إبراهيمَ عليه السلام قامَ من الليلِ يُصلِّي وهو يقولُ : يا رب أتُهِلكُ قومَ لوطٍ ؟ قِيْلَ : يا إبراهيمَ ليس فيهم مؤمنون ، قال : يا رب فإن كان فيهم خمسونَ أهلُ بيتٍ مُؤمنون أتُهلِكُهم ؟ قِيْلَ : لا ، قال : فأربعونَ ؟ قِيْلَ : لاَ ، فَلَمْ يزل يُرَدِّدُ حتى قِيْلَ : إنْ كان يهم خمسةُ أبياتٍ مؤمنين رفَعنا عنهم البلاءَ. يقولُ الله تعالى : { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ }[الذاريات : 36].
قِيْلَ : لَمَّا جادَلَهم إبراهيمُ عليه السلام قالت له الرُّسُل : يا إبراهيم أعْرِضْ عن هذا الجدالِ ، إنه قد جاءَ أمرُ ربكَ بعذابهم ، وإنَّهم آتِيهم عذابٌ غير مردودٍ ، قوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ } ؛ أي وَقُورٌ بَطِيءُ الغضب ، والحليمُ : الْمُحْتَمِلُ للأَذى مع قُدرتهِ على العقوبةِ والمكافأة ، { أَوَّاهٌ } ؛ بالدعاء ، ويقال : الرحيمُ ، ويقال المتأَوِّهُ خَوفاً وأسَفاً على الذُّنوب ، و { مُّنِيبٌ } ؛ هو الراجعُ إلى اللهِ.
(0/0)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
قوْلُهُ تَعَالَى : { يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَآ } ؛ أي عن جِدَالِكَ ، { إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } بهلاكهم ، { وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } ؛ غيرُ مُنْصَرِفٍ عنهم.
(0/0)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } ؛ يعني لَمَّا جاءت الملائكةُ لوطاً ساءَهُ مجيئُهم ، وضاقَ بهيأتهم قلبُه ؛ فإنَّهم جاؤهُ في صورةِ الغُلمَانِ الْمُرْدِ الحِسَانِ ، وكان قد عَلِمَ عادةَ قومهِ ، فخافَ عليهم من صنع قومه ، { وَقَالَ } ؛ في نفسِه : { هَـاذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ } ؛ أي شديدٌ لازم شرُّهُ كالمعصُوب بالعُصبةِ ، كأنَّهُ قال : هذا يومٌ الْتَفَّ الشرُّ فيه بالشرِّ ، وأما ضِيقُ الذرْعِ فيوضعُ موضعَ ضيقٍ الصَّدر ، يقال : ضاقَ فلانٌ بأمرهِ ذرْعاً إذا لم يجد من الْمَكْرَهِ في ذلك مَخْلصاً.
قِيْلَ : معناهُ : ضَاقَ بهم وسْعاً. وكان لوطُ ضاقَ وسعَهُ بهم أنْ يحفَظَهم. وفي الخبرِ : أنه جعلَهم فيما بين مَواشِيهم ، فلما كان في وقتِ غفلةِ الناس حَمَلَهُم إلى دارهِ ، فذهبت امرأتهُ الخبيثة وأخبرَتْهم ، وقالَتْ لَهم : إنه قد نزلَ عند لُوطٍ أضيافٌ لم يُرَ قط أحسَنَ وُجوهاً منهم ، ولا أطيبَ ريحاً ، ولا أنظفَ ثياباً.
(0/0)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قْولُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ } وذلك أنَّ امرأةَ لوط لَمَّا أخبرَتْهم بأضيافهِ ، جاؤُا إلى دارهِ يُسرِعُونَ إليه ، ويُهَرْوِلُونَ هَرْوَلَةً ، والإهْرَاعُ : مَشْيٌ بين مِشيَتَينِ ، ومِن قبلِ ذلك كانوا يعمَلون المعاصِي ، وهي ما كانوا يعمَلون من الفاحشةِ مع الذُّكور ، فإنَّهم كانوا يعمَلون ذلك مِن دون أن يُخَفِي بعضٌ عن بعضٍ.
{ قَالَ } : لَهم لوطُ عليه السلام : { ياقَوْمِ هَـاؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } ؛ عَرَضَ عليهم بناتَهُ نِكَاحاً ، وأظهرَ من نفسهِ في صونِهم ما لا شيءَ أبلغُ منه ، أظهرَ الكرامةَ في باب الأضيافِ ، فذكَرَ بناتَهُ ليدلُّ بذلك على التشديدِ في دَفعِهم عمَّا أرَادُوا. فكان يجوز في ذلك الوقتِ تزويجُ الْمُسْلِمَةِ من الكافرِ ، كما كان يجوزُ في شَريعتنا في ابتداء الإسلام ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ ابنتَهُ من ابنِ العاص بن الرَّبيع. ويقالُ : أرادَ بقوله { بَنَاتِي } بناتَ قومهِ ؛ لأن النبيَّ يكون للقومِ بمنْزِلة الوالدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } ؛ أي اتَّقُوا عقابَ الله ، ولا تُلزِمُونِي عَيباً في ضَيفِي ، { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } ؛ في نفسهِ فَيَنْزَجِِرُ عن هذا الأمرِ ، ويزجرُكم عنه.
(0/0)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } ؛ أي مَيلَنا إلى الغِلمَانِ دون النِّساء ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } ؛ أدفَعُكم بها عن أضيَافِي ، ويُمكِنُني ، { أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ } ؛ إلى قبيلةٍ أستغيثُ بها على دَفعِكم لَمَنَعْتُكُمْ أشدَّ المنعِ عما تُحاولون.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : " رَحِمَ اللهُ أخِي لُوط لَقَدْ آوَى إلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ " أي التجأَ إلى اللهِ وملائكته ، وقال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا عَلِمَ جِبْرِيلُ وَالْمَلاَئِكَةُ خَوْفَ لُوطٍ مِنْ تَهدِيدِ قَوْمِهِ ، وَقَدْ كَانَ لُوطُ أغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمَلاَئَكَةِ وَهُوَ يُنَاشِدُ قَوْمَهُ ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : يَا لُوطُ إنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ ، وَإنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ).
(0/0)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ } ؛ فافتَحِ البابَ ودَعْنا وإيَّاهم ، ففتحَ البابَ فدخَلُوا ، فقامَ جبريلُ في الصُّورةِ التي يكون فيها في السَّماء ، فنَشَرَ جناحَهُ وضربَ به وُجوهَهم فطَمَسَ أعيُنَهم وأعمَاهُم ، فصارُوا لا يعرفون الطريقَ ولا يهتَدُون إلى بُيوتِهم.
فقالَ لوطُ عليه السلام متَى مَوعِدُ هَلاَكِهم ؟ قالوا : الصُّبْحَ ، قالَ : أريدُ أسرعَ من ذلك ، فقالوا : أليس الصُّبح بقريبٍ ؟ وذلك قولهُ تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ }[القمر : 37].
ثُم قالوا له : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ } ؛ وفيه قراءَتان (فَأَسْرِ) بالهمز والوصلِ ، يقال سَرَى وأسْرَى بمعنى واحدٍ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ } ؛ أي في آخرِ الليل عند السَّحَرِ والهدوءِ ، وقال الضحَّاك : (بقِطْعٍ أيْ ببَقِيَّةٍ) ، وقال قتادةُ : (بَعْدَ مَا مَضَى صَدْرُهُ) ، { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ }.
قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو (امْرَأَتُكَ) رفعاً على الاستثناءِ من الإلتفات ؛ أي ولا يلتَفِت أحدٌ إلا امرأتُكَ ، فإنَّها تلتفِتُ فتهلَكُ. وقرأ الباقون بالنصب على الاستثناء من الإسراءِ ؛ أي فَاسْر بأهلِكَ إلا امرأتُكَ فلا تَسْرِ بها وخلِّفها مع قومِها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ } ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ } ؛ أي قالت الملائكةُ : إن وقتَ هلاكِهم ، { الصُّبْحُ } ؛ فقالَ لوط : الآنَ يا جبريلُ ، وإنما ذلكَ لضيقِ صدرِه منهم وشدَّة غَيظِه ، فقالَ جبريلُ : { أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ } ، وفي هذا بيانُ أنَّ اللهَ لا يُهلِكُ أحداً قبلَ انقضاءِ مدَّتهِ ، وإنْ ضَاقَتْ صدورُ أوليائهِ عنه.
وعن ابن عبَّاس : (أنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا قَالَ لِلُوطٍ : فَاسْرِ بأَهْلِكَ بقِطَْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ، قَالَ لُوطُ : يَا جِبْرِيلُ كَيْفَ أصْنَعُ وَأَبَوابُ الْمَدِينَةِ قَدْ أُغْلِقَتْ ، فجَمَعَ لَهُ جِيْرِيلُ أهْلَهُ وَبَقَرَهُ وَغَنَمَهُ وَمَالَهُ ، وَاحْتَمَلَهُمْ عَلَى جَنَاحِهِ حَتَّى أخْرَجَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ ، فَانْطَلَقَ بهِمْ مُتَوَجِّهاً إلَى صَغَرْ ، وَهِيَ عَلَى أرْبَعَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَدَائِنِ لُوطٍ ، وَهِيَ إحْدَى الْقَرَى الْخَمْسِ : سَدُومُ وَدَادَ وَمَاو وَعَامُورا وَصَغَرْ ، وَلَمْ يَكُنْ أهْلُ صَغَرْ يَعْمَلُونَ عَمَلَهُمْ ، وَكَانَ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ ألْفُ مُقَاتِلٍ ، فَمَا سَارَ لٌُوطُ فَرْسَخَيْنِ حَتَّى سَمِعَ الصَّيْحَةَ).
كما رُوي أنَّ جبريل عليه السلام جعلَ جناحه في أسفلِها فرَفَعها من الأرضِ السَّابعة إلى السَّماءِ حتى سَمِعَ أهلُ السَّماء نباحَ الكلاب وصياحَ الدِّيَكة ، ثم قلَبَها وجعلَ أسفلها أعلاَها ، وأعلاها أسفَلَها ، وأقبَلَت تَهوِي من السَّماءِ إلى الأرضِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } ؛ قال وهبُ : (لَمَّا رُفِعَتْ إلَى السَّمَاءِ أمْطَرَ الله ُعَلَيْهَا حِجَارَةَ الْكِبْرِيتِ بالنَّارِ ، ثُمَّ قُلِبَتْ عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } قِيْلَ : أمطرَ اللهُ الحجارةَ على شُذاذِهم ومُسافرِيهم. واختلَفُوا في السِّجِِّيلِ ، فقيل : هو فارسيةٌ مُعرَّبَة ، وفيه بيانُ أن تلك الحجارةَ كانت شديدةً صَلِبَةً ، ونحو ما يُطبَخُ من الطِّين فيصيرُ كالآجُرِّ وأصلبَ منه ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى :
(0/0)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } ؛ أي وإلى ولَدِ مِديَنَ بن إبراهيم أخاهُم في النَّسب ، { قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } ؛ أي ولا تَنقُصُوا حقوقَ الناسِ عند الكَيْلِ والوزنِ عليهم بالتَّطفِيفِ ، { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } ؛ أي إنِّي أراكُم في الخصُب والرُّخْصِ ما أوفَيتُم للناسِ حقوقَهم. وَقِيْلَ : معناهُ : إنِّي أراكم في كَثرَةِ الأموالِ ، وأنتم مُستَغنون عن نُقصَانِ الكَيْلِ والوزنِ ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي عَذاباً يحيطُ بكم فلا يفلتُ منكم أحد.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } ؛ أي بالعدلِ ، { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } ؛ أي ولا تَنقُصوهم حُقوقَهم ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ؛ أي لا تضطَرِبوا في الأرضِ بالقبيح مُفسدِين بالمعاصِي.
(0/0)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ } ؛ معناهُ : ما أبقاهُ الله خيرٌ لكم من الحلالِ بعد إتْمَامِ الكيلِ والوزن خيرٌ لكم مما حرَّمَ عليكم من البخْسِ والتطفيفِ إنْ كنتم مصدِّقين ما أقولهُ لكم. ويقالُ : أراد بالبقيَّة طاعةَ الله ، فإنَّها هي التي يبقَى ثوابُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ؛ أي لم أوَكَّلْ بحفظِكم فأُقاتِلَكم وأمنَعَكم.
(0/0)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياشُعَيْبُ أَصَلَاوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } ؛ أي قالوا يا شُعيبُ : أكثرَةُ صَلواتِكَ التي تفعَلُها تأمرُكَ أن نتركَ عبادةَ ما يعبدُ آباؤنا ، وتأمُرك أن تأمُرَنا بأنْ لا نفعلَ في أموالنا ما نشاءُ ، وقال عطاء : (مَعْنَى قَوْلِهِ : أصَلاَتُكَ ؛ أيْ دِينُكَ يَأْمُرُكَ ، فَكَنَّى عَنِ الدِّينِ بالصَّلاَةِ ؛ لأنَّهَا مِنْ أمْرِ الدِّينِ ، وَكَانَ شُعَيْبُ كَثِيرَ الصَّلاَةِ ، فَلِذلِكَ قَالُواْ هَذا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } ؛ السفيه الجاهل ، فذكروا الحليم الرشيد على جهةِ الاستهزاء ، هكذا رُوي عن ابنِ عبَّاس ، وياقل : قالوا ذلك علَى جهةِ التحقيقِ إنكَ لأنتَ الحليمُ الرشيد في قومِكَ ، فكيف تَنهَانَا عن عبادةِ ما يعبدُ آباؤنا وعن أن نفعلَ في أموالِنا ما نشاءُ من البَخْسِ والتَّطفِيفِ ، كأنَّهم استبعَدُوا أن يكون آباؤُهم قد أخطَأُوا في دِينهم ورباهم.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
قولُهُ تَعَالَى : { قَالَ ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } ؛ أي قال لَهم شعيبُ : أخبروني إنْ كنتُ على دلالةٍ واضحة من ربي ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } ؛ قِيْلَ : أرادَ البنوَّةَ فإنَّها أعظمُ رزْقِ الله تعالى. وَقِيْلَ : أراد به المالَ الحلالَ. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ شُعَيْبُ عليه السلام كَثِيرَ الْمَالِ كَثِيرَ الصَّلاَةِ) ، وَقِيْلَ : معنى قولِه : { رِزْقاً حَسَناً } أي عِلْماً ومعرفةً. وأما جوابُ قولهِ { إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي } المالَ الحلال اتبعهُ الضلالَ فأبْخَسُ وأُطَفِّفُ ، أشُوبَ الحلالَ بالحرامِ كما تفعلون به.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } ؛ أي ما أريدُ أن تترُكوا ما نَهيتُكم عنه لأعملَ أنا به فانتفعَ ، والمعنى لستُ أنْهاكُم عن شيءٍ ثم أدخلُ فيه ، { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ } ؛ أي ما أريدُ إلا الإصلاحَ في أمرِ الدين والمعاشِ بقدر استطاعَتي ، { وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ } ؛ أي ما توفيقي للصَّلاحِ إلا مِنَ اللهِ ، والتوفيقُ من اللهِ ، هو كلُّ فِعْلٍ يَتَّفِقُ مَعَ الْعَبْدِ عِنْدَ اخْتِيَار الطَّاعةِ وَالصَّلاحِ ، وَلَوْلاَهُ لَكَانَ يَخْتَارُ خِلاَفَ ذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ؛ أي فوَّضتُ أمرِي إلى اللهِ ، وقولهُ تعالى : { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ؛ أي أرجِعُ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ } ؛ أي يا قومِ لا يكسِبَنَّكم عدَاوتِي أنْ لا تُؤمِنُوا فيصِيبُكم مثلُ ما أصابَ قومَ نوحٍ من الغرَقِ ، { أَوْ قَوْمَ هُودٍ } ؛ من الرِّيح العقيمِ ، { أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } ؛ من الصَّيحَةِ ، { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } ؛ أي قد بلَغَكم ما أصابَهم وهم أقربُ إليكم ممن تقدَّمَهم. يجوزُ أن يكون المراد بذلك قُرْبَ زمانِهم ، ويجوز أن يكون المرادُ به قربَ ديارهم منهم ، وكلُّ ذلك أقربُ إلى الاعتبار.
(0/0)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
قولهُ : { وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ } ؛ أي استَغفِرُوهُ من الشِّركِ والذنوب ، ثم تُوبُوا إليه بإخلاصٍ ، { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } بعبادهِ ، { وَدُودٌ } مُتَوَدِّدٌ بالنِّعم وقَبول التوبةِ.
(0/0)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ } ؛ أي ما نَفْهَمُ كثيراً ما تقولُ ، قال ابنُ الأنباريِّ : (مَعْنَاهُ مَا نَفْقَهُ صِحَّةَ كَثِيرٍ مِمَّا تَقُولُ ، يَعْنُونَ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ ، وَمَا يَأْمُرُهُمْ بهِ مِنَ الزَّكَاةِ وَتَرْكِ الْبَخْسِ ، وَالْفِقْهُ فِي اللُّغَةِ هُوَ اسْتِدْرَاكُ مَعْنَى الْكَلاَمِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } ؛ قالَ ابنُ عبَّاس : (أرَادُوا بالضَّعْفِ أنَّهُ ضَرِيرُ الْبَصَرِ) ، وقال ابنُ جبير : (مَعْنَاهُ إنَّا لَنَرَاكَ أعْمَى) ، وقد رُوي أنه كان قد ذهبَ بصرهُ من كثرةِ بُكائِهِ من خِشيَةِ اللهِ تعالى. وفي بعضِ الرِّوايات : أنه عَمِيَ ثلاثَ مرَّات ، وكان اللهُ تعالى يرُدُّ عليه بَصَرَهُ حتى أوحَى إليه : يا شعيبُ ما هذا البكاءُ ؟ قال : شَوقاً إليك يا رب. " وسُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ شُعَيْبٍ قَالَ : " ذاكَ خَطيبُ الأَنْبيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } ؛ أي ولو لا عَشِيرتُكَ لقَتلنَاكَ بالحجارةِ ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } ؛ أي إنا لا نَدَعُ قتلَكَ لعزَّتِكَ علينا ، ولكن لأجلِ قومِكَ. والمعنى : لستَ تَمتَنِعُ علينا أنْ نقتُلَكَ لولا ما نُراعِي من حقِّ عَشيرِتَكَ.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ياقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي إنَّكم تزعُمون أنَّكم تتركون قَتلِي إكراماً لرَهْطِي واللهُ تعالى أوْلَى بأن يُتَّبَعَ أمرهُ ؛ إنَّكم تركتم قَتلِي لأجلِ عشيرتِي ، ولا تتركونَهُ لأجلِ اللهِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } ؛ أي نَبَذْتُمْ أمرَ اللهِ وراءَ ظُهورِكم ، والظِّهْرِيُّ : ما نَبَذهُ الإنسانُ وراءَ ظَهرهِ ، { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ؛ أي عليمٌ ، لا يَعْزِبُ عنه عِلمُ شيءٍ.
(0/0)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَياقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } ؛ أي اعمَلُوا على دِينِكم إنِّي عاملٌ على دِيني ، وهذا على سبيلِ التَّهديد والوعيدِ ، والْمَكَانَةُ والمكانُ بمعنى واحد. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } ؛ أي يُذِلُّهُ ويُهِينُهُ ، وَتعلمُون { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } ؛ على اللهِ ، { وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } ؛ أي انتَظِروا إنِّي منتظرٌ معكم.
(0/0)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } ؛ أي نَجَّينا شُعيباً من ذلك العذاب ، ونَجَّينَا الذين آمَنوا معه برحمةٍ منَّا ، { وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } ؛ يعني من قومِ شُعيب.
يقال : إنَّ جبريل صاحَ بهم صيحةً ، فخرجت أرواحُهم من أجسادِهم ، { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ؛ أي ميِّتين سَاقِطِين صَرْعَى. وَقِيْلَ : بل وَاقِفِين على رُكَبهم ، { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } ؛ أي كأنْ لم يكونوا في الأرضِ قطٌّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } ؛ معناهُ : ألاَّ سُحْقاً وهلاكاً لقومِ شُعيب كما هلَكت ثَمُودُ ، وإنما شبَّهَهم بثَمُودَ ؛ لأن الصيحةَ كانت سَبباً في هلاكِ الفريقين جميعاً.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ مَدْيَنَ أصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيدٌ ، وَلَمْ تَتَحَرَّكِ الرِّيحُ لَيْلاً وَلاَ نَهَاراً ، فَكَانَ يُحْرِقُهُمْ باللَّيْلِ حَرُّ الْقَمَرِ ، وَبالنَّهَار حَرُّ الشَّمْسِ ، فَنَشَأَتْ لَهُمْ سَحَابَةٌ كَهَيْئَةِ الظُّلَّةِ فِيْهَا عَذابُهُمْ ، فَأَتَوهَا يَسْتَظِلُّونَ تَحْتَهَا وَيَطْلُبُونَ الرُّوْحَ ، فَسَالَ عَلَيْهِمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَرَجَفَتِ الأَرْضُ مِنَ الْعَذاب وَأحْرَقَتْهُمُ السَّحَابَةُ ، وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[الشعراء : 189]).
قال : (وَلَمْ يُعَذبْ أُمَّتَانِ بعَذابٍ وَاحِدٍ إلاَّ قَوْمَ شُعَيْبَ وَصَالِح ، فَأَمَّا قَوْمُ صَالِحٍ فَأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةُ مِنْ تَحْتِهِمْ ، وَأمَّا قَوْمُ شُعَيْبٍ فأَخَذتْهُمُ الصَّيْحَةَ مِنْ فَوْقِهِم).
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ أي أرسَلنا مُوسَى بدَلائِلنا ، والآيةُ العلامةُ التي فيها العِبرَةُ ، وقولهُ تعالَى : { وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي وحجَّة بيِّنَةٍ مسلَّطة على إبطَال الفاسد. وقولهُ تعالى : { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } ؛ وأشرافِ قَومِهِ ، { فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ } ؛ أي اتَّبعوا قولَهُ وترَكُوا أمرَ الله ، { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } ؛ أي ما هو بصَائبٍ ، إلا أنَّهم اتبعوا وخالَفُوا أمرَ موسى.
(0/0)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } ؛ أي يَمشِي أمامَ قومهِ يومَ القيامةِ حتى يهجُمَ بهم على النارِ ، وإنما يمشِي أمامَ قومهِ يومَ القيامة لأنَّهم اتبعوهُ في الدنيا حتى هدَاهُم إلى طريقِ النار ، فكذلكَ يمشي بهم في الآخرةِ حتى يدخلَ بهم النارَ.
وأما عطفُ الماضي الذي هو (فَأَوْرَدَهُمْ) على المستقبلِ فهو على معنى فهو إذا قَدِمَهُمْ أوردَهم النارَ. وإنما تقدَّمَهم ولم يقل يسبقُ ؛ لأن قولَهُ يسبقُ قومَهُ لا يدلُّ على أنه يَمشِي بين أيديهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ } فيه إلى النارِ ، والوِرْدُ في الحقيقة إنما يستعملُ في الماءِ كما قالَ تعالى{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ }[القصص : 23] ، ولكنْ لَمَّا كان فرعونُ وقومه في الآخرةِ يكونون عَطَاشَى ويَرِدُونَ على ما بهم من العطشِ استعملَ فيهم هذه اللَّفظة.
(0/0)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـاذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ أي وأتْبَعَهُم اللهُ في الدنيا لعنةً بإبعادهِم عن الرَّحمة بالغرقِ { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } لَهم لعنةٌ أُخرى وهي النارُ ، { بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ } ؛ بئْسَتِ اللعنةُ على إثْرِ اللعنة ، تَرَادَفَتْ عليهم اللَّعَنَاتُ الغرَقُ في الدنيا والنارُ في الآخرةِ.
والرِّفْدُ في اللغة : هو العَوْنُ في الأمرِ إلا أن العطيةَ تُسمَّى رِفْداً لما فيها من العَوْنِ ، كأنَّهُ قالَ : بئْسَ العطاءِ ما أعطَى. وقال بعضُهم : هذا من الْمَقْلُوب ؛ أي بئْسَ الرِّدْفُ الْمَرْدُوفُ ، فالرِّدْفُ : لَعْنَةُ اللهِ إياهم ، والمردوفُ لَعْنَةُ الأنبياءِ والمؤمنين.
(0/0)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ } ؛ أي ذلكَ الذي ذكرتُ يا مُحَمَّدُ من أخبارِ الأُمَمِ الماضيةِ ينْزِلُ به عليكَ جبريلُ عليه السلام نقصُصهم عليكَ مرَّةً بعد مرةٍ ، مأخوذٌ من إتبَاعِ الشيءِ الشيءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } أي منها قائمٌ الأبنِية وقد بادَ أهلهُ كما قالَ تعالى : { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }[الحج : 45] ، والحصيدُ ما هَلَكَ بأهلهِ فلا يبقَى له مكان ولا أثرَ نحو مدائنِ قومِ لوط حُصدت من الأرضِ السُّفلَى. والمعنى منها قائمٌ بقيَت حيطانهُ ومنها حصيدٌ مخسوفٌ به قد أُمْحِيَ أثرهُ ، قال ابنُ عبَّاس : (قَائِمٌ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ وإلَى مَا بَقِيَ مِنْ أثَرِهِ ، وَحَصِيدٌ قَدْ خَرِبَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أثَرٌ شَبيهٌ بالزَّرْعِ إذا حُصِدَ).
(0/0)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـاكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ؛ أي ما ظلَمنَاهم بإهلاكِهم ، ولكن ظلَمُوا أنفُسَهم بسوءِ اختيارِهم ، { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ } ؛ أي فما نفعَتهُم آلهتُهم ، { الَّتِي يَدْعُونَ } ؛ التي كانوا يعبُدونَها ، { مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } ؛ أي تَخْسِيرٍ ومنهُ : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }[المسد : 1] أي خَسِرَتْ يداهُ وخَسِرَ هو.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } ؛ معناهُ : كما أخذ ربُّكَ فرعون ومَن تَقدَّمَهُ من الكفارِ ، فكذلك أخْذُ ربكَ إذا أخذ القُرى وهي كافرةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ؛ ظاهرُ المعنى. وقولهُ تعالى : { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } من صِفَةِ القُرَى وهي في الحقيقةِ لأهلِها وسُكانِها ، ونحو هذا قوله { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } [الأنبياء : 11].
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ } ؛ أي إنَّ في ذلك لعِبرَةً لمن خافَ عذابَ الآخرةِ فلا يَقتَدِى بهم ، وقولهُ تعالى : { ذلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ } ؛ معناهُ : إن يومَ القيامة يومُ يُجْمَعُ فيه الأوَّلون والآخِرون ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } ؛ أي يشهدُه أهلُ السموات والأرضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } ؛ وقد عَدَّهُ الله ، وعَلِمَ أن صلاحَ الخلقِ في إدامة التكليفِ عليهم إلى ذلك الأجَلِ.
(0/0)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ؛ مَن قرأ (يَأْتِي) بإثبات الياء فعلَى الأصلِ ، ومعناهُ : يوم يأتِي ذلك اليومُ لا تَكَلَّمُ نفسٌ في الشَّفاعةِ إلا بأمرِ الله ، ويقالُ : لا يجبرُ أحدٌ أن يتكلَّم بالاحتجاجِ وإقامة العُذرِ من مَشِيئَةِ اللهِ إلا بإذنه ، ومَن قرأ (يَأْتِ) بغيرِ ياء فهي لُغة هُذيلٍ ، وهكذا في مُصحَفِ عُثمان ، ومنه يقولُ العرب : لاَ أدْرِ ولا أمْضِ ، فيحذفُ الياءَ ويجتزئُ بالكسرِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } ؛ أي مِن الناس شَقِيٌّ وسعيدٌ.
(0/0)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ } ؛ أي فأمَّا الذين كُتبت عليهم الشقاوةُ ففي النارِ ، وقال بعضُهم : شَقُوا بفِعلِهم ، وقال بعضُهم : شَقُوا في بطُونِ أمَّهاتِهم ، فما شَقِيَ أحدٌ بفعلٍ إلا بعدَ ما شَقِيَ في بطنِ أُمه ، وما شَقِيَ في بطنِ أُمه إلا بعدَ سابق علمِ الله فيه ، وإنما يلحقهُ اللَّومُ بالشقاوة المحتومةِ لا بالشقاوة المعلومة ، وكذلك السعادةُ على هذه الجملة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } ؛ الزفيرُ شدَّةُ الأَنِينِ في الصَّدرِ ، والشيهقُ الأَنِينُ الشديدُ المرتفع نحوَ الزَّعْقَةِ التي تكون من شدَّةِ الكَرْب والحزنِ ، وربَّما يتبعُها الغَشْيَةُ ، ومن هذا قالوا : إن الزفيرَ أوَّلُ صوتِ نَهيق الحمارِ ، والشهيقُ آخر صوت نَهيقهِ ، وسُمي رأسُ الجبلِ شاهقاً لارتفاعهِ.
(0/0)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا } ؛ أي دَائمين في النارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } ؛ قال بعضُهم : أرادَ بذلك مقدارَ سماء الدُّنيا وأرضها ، وذلكَ أنَّ العربَ إذا أرادت تأكيدَ التأكيدِ والتبعيد قالت : ما دامتِ السمواتُ والأرض ، وما لاحَ كوكبٌ ، وما أضاءَ القمرُ ، وما اختلفَ الجديدان ، لا يريدُ بذلك الشرطَ ، وإنما يريد بذلك التأكيدَ والتبعيدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } ؛ أي سِوَى ما شاءَ ربُّكَ من الْخُلُودِ بعدَ مُضِيِّ مقدارِ سماء الدُّنيا وأرضها. وقال بعضُهم : معنى الآية : ما دامَت سماءُ الدُّنيا وأرضها ، وسماءُ الجنَّة وأرضها ، وسماءُ الجنَّة وأرضها ، وقوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } مذكورٌ على وجه التأبيدِ أيضاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ؛ أي يفعلُ ما شاءَ.
(0/0)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ } ؛ مَن قرأ (سُعِدُوا) بضمِّ السين فمعناهُ : رُزقُوا السعادةَ ، ومِمَّن قرأ ذلك أهلُ الكوفة ، قولهُ : { فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } ؛ أي أعطَاهم النعيمَ عطاءً غير مجذوذٍ أي غير مقطوعٍ.
(0/0)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ } ؛ أي فلا تكن أيُّها الشاكُّ في مِرْيَةٍ ، { مِّمَّا يَعْبُدُ هَـاؤُلاءِ } ؛ من دون الله أنه باطلٌ ، والْمِرْيَةُ هي الشكُّ مع ظهور دلائل التُّهمةِ ، وقولهُ تعالى : { مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ } ؛ معناهُ : ما يعبدون إلا على جهةِ التقليد لآبائهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } ؛ أي حظَّهم من العذاب غيرَ منقوصٍ عن مقدار ما استحَقُّوا ؛ آيسَهم الله بهذا القول عن العفوِ ، وَقِيْلَ : أرادَ بالنصيب الأرزاقَ والآجال ، وما قُدِّرَ لهم في دُنياهم.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ } ؛ أي ولقد أعطينا موسى الكتابَ ، فصدَّق به بعضُهم ، وكذب بهِ بعضهم ، { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } ؛ أي لولاَ وعدُ الله سبقَ بإبقاء التكليفِ عليهم إلى ذكرِ الوقت لقضى بتعجيلِ العقاب لمن استحقَّ العقابَ في الدُّنيا ، وبتعجيلِ الثواب لمن استحقَّ الثوابَ في الدنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } ؛ أي وإنَّهم لفِي شكٍّ من القرآنِ يريبُهم أمرهُ.
(0/0)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ } ؛ معناهُ : وإنَّ كُلاًّ من الفريقَين المصدِّق والمكذِّب يجتمعان يومَ القيامة فيُوفِّيهم ربُّكَ ، { أَعْمَالَهُمْ } ؛ على التمامِ ، { إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ؛ وبما يستحقُّون من الجزاءِ خَبِيرٌ.
قرأ ابنُ كثير ونافع (وَإنْ كُلاًّ لَمَا) كلاهما بالتخفيفِ ، وقرأ أبو بكر عن عاصم (وَإنْ) مخفَّفة (لَمَّا) مشدَّدة ، والباقون كلاهما بالتشديدِ ، فحُجة أبو عمرِو والكسائي أن اللامَ في قوله : (لَمَّا) لامُ التأكيدِ دخلت في خبرِ إن ، واللامُ التي في { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } لامُ القسمِ ، تقديره : واللهِ ليُوَفِّينَّهُمْ ، دخلت (مَا) للفصلِ بين اللاَّمَين.
وأما حُجة نافع وابن كثير في نصبهِ (كُلاً) ما قال سيبويه : إنَّهُ سَمِعَ مِنَ الْعَرَب مَنْ يَقُولُ : إنْ عَمراً لَمُنْطَلِقٌ ، فَيُخَفِّفُونَ إنْ وَيُعْمِلُونَهَا ، وأنشدَهُ الشاعرُ : وَوَجْهٌ حَسَنُ النَّحْرِ كَأنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِوالمعنى على قراءةِ أبي عمرو (وَإنَّ كُلاً) من السعيدِ والشقيِّ ليُوفِّيَنَّهُمْ ربُّك أعمالَهم ، و(مَا) زائدةٌ في قولهِ (لَمَّا) ، ومَن خفَّف (إنْ) كان معناه من معنى المشدَّدة ، تقول : إنْ زَيْداً لْقَائِمٌ ، وَإنَّ زَيْداً لَقَائِمٌ ، تريدُ إثباتَ قيامهِ ، فإذا قُلتَ : إنْ زَيْدٌ قَائِمٌ ، فمعناهُ : مَا زَيْدٌ قَائِمٌ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ }[الطارق : 4] بتخفيفِ (لَمَا) ، تقدير لعلَّها حافظٌ ، ومن خفَّف (إنْ) وشدَّدَ (لَمَّا) فتأويلهُ الجحدُ والتحقيق ؛ أي ما كلٌّ إلا ليُوَفينَّهم ، ونُصبَ (كُلاًّ) على هذا التأويلِ بـ (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) لا بـ (أنْ).
(0/0)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } ؛ أي استقِمْ يا مُحَمَّدُ في التمسُّكِ بطاعةِ اللهِ تعالى كما أُمِرْتَ وَليستقم ، { وَمَن تَابَ مَعَكَ } ؛ من الشِّركِ ، { وَلاَ تَطْغَوْاْ } ؛ بمجاوزَةِ أوامرِ الله تعالى ، { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ ، { بَصِيرٌ }.
(0/0)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي لا تَميلُوا إلى الذين ظَلموا بالأُنس بهم والمحبَّة والرضا بفِعلِهم ، قال السديُّ : (وَلاَ تُدَاهِنُواْ الظَّلَمَةَ) ، وقال أبو العاليةِ : (لاَ تَرْضَوا بأَعْمَالِهِمْ) ، وقال عكرمةُ : (هُوَ أنْ يُحِبَّهُمْ) ، وقال قتادةُ : (وَلاَ تَلْحَقُواْ الْمُشْرِكِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } أي فتُصِيبَكم كما تصيبُهم ، { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ } ؛ من أعوانٍ يدفعون عنكم عذابَ الله ، { ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } ؛ على أعدائِكم ؛ لأنَّ الله تعالى إنما ينصرُ المطيعِين.
(0/0)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ } ؛ أي وقتَ الغَدَاةِ والعصرِ ، { وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ } ؛ أي ساعةً بعد ساعةٍ من الليل ، يعني صلاةَ المغرب والعِشَاء. والزُّلْفَى جَمْعُ الزُّلْفَةِ ؛ هي الساعةُ القريبة من أوَّلِ الليل.
ويقالُ : إن صلاةَ الظُّهر داخلةٌ في قوله { طَرَفَيِ النَّهَارِ } ؛ لأنَّها لا تقامُ إلا بعدَ الزوالِ ، فإذا زالتِ الشمسُ فقد دخلَ الطرفُ الآخر خُصوصاً إذا اعتبرَ النهارُ من طلوعِ الفجر.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } ؛ أي إن الصلواتِ الخمس يُذهِبْنَ الصغائرَ ، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ ". وَقِيْلَ : إنَّ التوبةَ تُكَفِّرُ عقابَ السيِّئات ، وَقِيْلَ : أرادَ بالحسناتِ : سُبحان الله ؛ والحمدُ للهِ ؛ ولا إلهَ إلا اللهُ ؛ واللهُ أكبر. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي ذلك الخطابُ تذكيرٌ للذاكرِين الذين يذْكُرون أوامرَ اللهِ ويأخذون بها ، ويذكرون نَواهِيَهُ فيجتبنونَ معاصيه.
وعن ابنِ عبَّاس قال : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ عُمَرَ بْنَ عَرَفَةَ الأَنْصَاريّ ، أتَتْهُ امْرَأةٌ تَبْتَاعُ تَمْراً فَأَعْجَبَتْهُ ، فَقَالَ : إنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْراً أجْودَ مِنْهُ ، فانْطَلِِقِي مَعِي حَتَّى أُعْطِيكِ مِنْهُ.
فَانْطَلَقَتْ مَعَهُ ، فَلَمَّا دَخَلَتِ الْبَيْتَ وَثَبَ عَلَيْهَا ، فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً مِمَّا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالْمَرْأةِ إلاَّ وَقَدْ فَعَلَهُ ، إلاَّ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا - يَعْنِي أنَّهُ ضَمَّهَا وَقَبَّلَهَا وَحَذفَ شَهْوَتَهُ - فَقَالَتْ لَهُ : اتَّقِ اللهَ ، فَتَرَكَهَا وَنَدِمَ ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَأتَى رَسُولِ اللهِ. فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ رَاوَدَ امْرَأةً عَنْ نَفْسِهَا ، وَلَمْ يُبْقِ شَيْئاً مِنْ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ بالنِّسَاءِ غَيْرَ أنَّهُ لَمْ يُجَامِعْهَا ؟
فَقَالَ عُمَرٌ : لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ! وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً ، فَقَالَ : " مَا أدْرِي ، مَا أدْرِي عَلَيْكَ حَتَّى يَأْتِي فِيكَ شَيْءٌ " فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّلاَةِ ، نَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام يُنْبؤُهُ بهَذِهِ الآيَةِ ، فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أخَاصٌّ لَهُ أمْ عَامٌّ ؟ فَقَالَ : " بَلْ عَامٌّ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ ".
(0/0)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ } ؛ أي فهَلاَّ كان مِن القرون الماضية ، وَقِيْلَ : ما كان من القُرونِ من قبلِكم ذو تَمييزٍ ، { يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ } ؛ عن المعاصِي ؛ أي ولِمَاذا أطبَقُوا كلُّهم على المعصيةِ حتى استحَقُّوا بذلك عذابَ الاستئصالِ ، والبَقِيَّةُ في اللغة : ما يُمْدَحُ به الإنسانُ ، يقال : فلانٌ في بَقِيَّةٍ ، وفي بني فُلان بَقِيَّةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } ؛ كانوا ينهَون عن الفسادِ ، وهم الأنبياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والصالحون ، فأنْجَينَاهُم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } ؛ أي أقبَلُوا على ما خُوِّلوا من دُنياهم ، واستَغنوا بذلك عن طاعةِ الله ، فلم يَنْهَوا عن الفسادِ ، وعَتَوا عن أمرِ الله ، وآثَرُوا الدُّنيا وبَطَرُوا ، { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } ؛ أي وكانوا مُذنِبين بتركِ الأمرِ بالمعروف.
(0/0)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } أي لم يكن ليُهلِكَ أهلَ القرى بظُلمٍ منهُ عليهم إذا كان أهلُها مصلحين ، ولكن إنَّما كان أهلَكَهم بظُلمِهم لأنفسهم. وعن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه أنَّ معناهُ : (مَا كَانَ لِيُهْلِكَ أهْلَ الْقُرَى بشِرْكِهِمْ وَهُمْ مُصْلِحُونَ ، يَتَعَاطَوْنَ الْحَقَّ بَيْنَهُمْ ، أيْ لَيْسَ مِنْ سَبيلِ الْكُفَّارِ إذا قََصَدُواْ الْحَقَّ فِي الْمُعَامَلَةِ ، وَتَرْكِ الظُّلْمِ أنْ يُنْزِلَ اللهُ بهِمْ عَذاباً يُهلِكُهُمْ). والمعنى : ما كان اللهُ ليُهلِكَهم بشِرْكِهم ، وهم مُصلِحون ما بينهم لا يتظالَمون ويتعاطَون الحقَّ بينهم ، وإنما يهلِكُهم إذا تظَالَموا ؛ لأنَّ مكافأةَ الشِّركِ النارُ ؛ أي إنما يُهلِكُهم بزيادةِ المعصية على الشِّرك ، كما في قومِ لُوطٍ وقومِ صالح وقومِ موسى وغيرهم.
(0/0)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي لجعلَهم كلُّهم على دينِ الإسلام ، ولكن عَلِمَ أنَّهم كلُّهم ليسوا بأهلٍ لذلك ، وَقِيلَ : لو شاءَ لأَلْجَأَهُمْ إلى الإيمانِ لآمَنُوا كلُّهم ضرورةَ ، ولكن لو فَعَلَ ذلك لزَالَ التكليفُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } ؛ أي في الدِّين على أدْيَانٍ شتَّى من يهودِيٍّ ونصرانِيٍّ ومجوسي وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ؛ إلا مَن عَصَمَهُ اللهُ من الباطلِ والأديان والمخالفَةِ بأنْ لَطَفَ به ، ووفَّقَهُ للإيمان المؤدِّي إلى الثواب ، فهو نَاجٍ من الاختلاف بالباطلِ.
(0/0)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِذالِكَ خَلَقَهُمْ } ؛ أي وللرَّحمةِ خلَقَهم ؛ أي لكي يُؤمِنُوا فيَرحَمَهم. وَقِيْلَ : معناهُ وللاختلافِ خلَقَهم ، فتكون اللامُ في هذا لامَ العاقبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } ؛ أي من كفَّار الجنِّ وكفار الإنس.
(0/0)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } ؛ أي كلُّ القِصَصِ وكلُّ ما يحتاجُ إليه نبيِّنهُ لكَ من أخبار الرُّسل ما يطيبُ ويسكنُ به قلبُكَ ويزيدُكَ يَقِِيناً ويقوِّي قلبَكَ. وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان ضَاقَ صدرهُ بما يكون من أذى قومهِ في الله ، فقَصصَ اللهُ عليه شيئاً من أخبار الرُّسل المقدِّمين مع أُمَمِهم لنثبتَ به فُؤادَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَكَ فِي هَـاذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ } ؛ أي في هذه السُّورة الصِّدق من أقاصيصِ الأنبياء وللوعظِ وذكر الجنَّة والنار.
وخُصَّت هذه السورةُ بمجيءِ الحقِّ فيها تَشريفاً لها ورَفعاً لمْنزِلَتِها. وقِيْلَ : أرادَ بقولهِ { فِي هَـاذِهِ } الدُّنيا ، والموعظةُ : تعريفُ القبيحِ للزَّجرِ عنه ، وتعريفُ الحسَنِ للترغيب فيه ، و ؛ هي ؛ { وَذِكْرَى } ؛ الذِّكرى : { لِلْمُؤْمِنِينَ }.
(0/0)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ } أي اثبتُوا على ما أنتم عليه كثباتِ الرَّجُل على مكانهِ ، وهذا على وجهِ التهديد ، { وَانْتَظِرُواْ } ؛ ما يَعِدُكم الشيطانُ ، { إِنَّا مُنتَظِرُونَ } ؛ ما وَعَدَ اللهُ بنا ونزول ما وعدَ الله بكم.
(0/0)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له ما غابَ عن البلادِ في السَّموات والأرضِ ، { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ } ؛ أمرُ العبادِ ، كُلُّهُ ؛ فأَطِعْهُ وفوِّضْ أمرَكَ إليه ، { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي يَجزِي المحسِنين بإحسانهِ ، والمسيءَ بإساءَتهِ. وقرأ (يَعْمَلُونَ) بالياءِ على معنى قُل لَهم ذلك.
عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ هُودٍ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ مَنْ صَدَّقَ نُوحاً وَهُوداً وَشُعيباً وَلُوطاً وَصَالِحاً وَإبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ، وَمَنْ كَذبَهُمْ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، وَكَانَ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ السُّعَدَاءِ ".
(0/0)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
{ الر } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، قولهُ : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } ؛ قِيْلَ : معناهُ : هذه الآياتُ الكتاب المبين ، وَقِيْلَ : معناهُ : سورةُ يوسف آياتُ الكتاب على القول الذي يقولُ : إن (الر) اسمُ السورةِ. وقولهُ تعالى : { الْمُبِينِ } ؛ لأنه يُبَيِّنُ الهدَى والرُّشدَ ، وَقِيْلَ : البَيِّنُ حلاله وحرامهُ وحدوده وأحكامهُ.
(0/0)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } ؛ أي أنزلَنا القرآنَ على مجاري كلام العرب في مخاطباتِهم ، { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ؛ أي لكي يُدرِكُوا معناهُ ويَفهَموا ما فيهِ ، ولو نزلَ بغيرِ لغة العرب لم يعلموهُ.
(0/0)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
قَوْلُهُ تعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْآنَ } ؛ أي نحن نُبَيِّنُ لكَ أحسنَ البيناتِ ، والقاصُّ هو الذي يأتِي بالقصةِ على حقيقتِها.
واختلفَ العلماءُ لِمَ سُميت بأحسَنِ القصصِ من بين الأقاصيص ، فقيل : سماها أحسن القصص ؛ لأنه ليس قصَّةٌ في القرآنِ تتضمَّنُ من العبرةِ والحِكَمِ والنكت ما يتضمَّنُ هذه القصة. وَقِيْلَ : سماعاً أحسنَ القصصِ لامتداد الأوقات في ما بين مبتدَأها إلى مُنتهاها. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَسِيرَاتِه وَإخْوَانِهِ أربََعُونَ سَنَةً).
وَقِيْلَ : سَمَّاها أحسنَ القصصِ ؛ لأنّ فيها ذِكرَ الأنبياءِ والملائكة والصالحين ، والإنسِ والجنِّ والأنعام والطيرِ ، والملك والمماليكِ والبحار ، والعلماءِ والجهَّال ، والرجال والنساءِ وحِيَلِهِنَّ ومَكرِهن ، وفيها أيضاً ذكرُ التوحيدِ والفقه والسيَر ، وتعبيرِ الرُّؤيا والسياسَة والمعاشَرة والتدبير والمعايش ، فصارَتْ أحسنَ القصصِ لما فيها من المعانِي الجزيلةِ والفوائد الجليلةِ التي تصلُح للدنيا. وَقِيْلَ : أحسنُ القصصِ بمعنى أعجَب.
وَقِيْلَ : أرادَ بأحسنِ القصص جميعَ القصصِ التي في القُرآن ، فإنَّ اللهَ تعالى ذكرَ في القرآنِ أخبارَ الأُمم الماضية ، وحالَ رسُلِهم عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ وَالسَّلامُ ، وذكرَ جميعَ ما يحتاجُ العباد إليه إلى يومِ القيامة بأعذب لفظٍ في أحسنِ نَظْمٍ وترتيبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هَـاذَا الْقُرْآنَ } أي أوحَينا إليك هذا القرآنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ } ؛ أي وقد كُنتَ من قبلِ نُزول جبريل عليكَ بالقرآنِ غَافِلاً عن قصَّة يوسُفَ وعن الحكمةِ فيها.
(0/0)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ ياأَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } ؛ الآيةُ متَّصلةٌ بما قبلَها ، فإنَّ معناهُ : نحن نقصُّ عليكَ أحسنَ القصص ، إذ قالَ يوسفُ لأبيهِ. قرأ طلحة بن مصرف (يُوسِفُ) بكسرِ السين ، ثم قرأ ابنُ عبَّاس (يَا أبَتَ) بفتح التاء في جميعِ القرآن ، وأصلهُ على هذا يا أبَتَا ، ثم حُذفت الألف ، وأبقى فتحةً دلالةً عليها ، قال رُؤبة : تَقُولُ بنْتِي قَدْ أنَى أنَاكَا يَا أبَتَا عَلَّكَ أَوْ عَسَاكَاوقرأ الباقون (يَا أبَتِ) بالكسرة على الإضافةِ يقدِّرُها بعدَها ، وَقِيْلَ : كُسرت ؛ لأنَّها أُجريت مجرَى التأنيثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } قال المفسِّرون : رأى يوسفُ عليه السلام هَذِهِ الرُّؤيا وهو ابنُ اثنى عشرَ سنةً ، قال ابنُ عبَّاس : (وذلِكَ أنَّهُ قَالَ لأَبيهِ : يَا أبَتِ إنِّي رَأيْتُ فِي الْمَنَامِ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً نَزَلَتْ مِنْ أمَاكِنِهَا فَسَجَدَتْ لِي ، وَرَأيْتُ { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } ؛ نَزَلاَ مِنْ أمَاكِنِهمَا فَسَجَدَا لِي ، وأرَادَ بذلِكَ سَجْدَةَ التَّحِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، كَمَا يَقُومُ الْمَلاَئِكَةُ بالسُّجُودِ لآدَمَ عليه السلام).
قال : (وَكَانَتِ الرُّؤْيَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ ، وَكَانَ تَأْويلُ رُؤيَاهُ عِنْدَ يَعْقوبَ : أنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هُوَ فِي حَالَتِهِ ، وَأنَّ أُمَّ يُوسُفَ وَهِيَ رَاحِيلُ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ ، وَأنَّ الأَحَدَ عَشََ كَوْكَباً إخْوَةُ يُوسُفَ وَكَانُواْ أحَدَ عَشَرَ أخاً ، وإنَّهُمْ كُلُّهُمْ سَيَخْضَعُونَ لِيُوسُفَ). وَإنَّمَا تَأَوَّلَهَا يَعْقُوبُ عَلَى ذلِكَ ؛ لأنَّهُ لاَ شَيْءَ أضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَيَهْتَدِي بضَوْئِهِمَا أهْلُ الأَرْضِ ، ثُمَّ لاَ شَيْءَ بَعْدَهُمَا أضْوَأُ مِنَ الْكَوَاكِب ، فَدَلَّتْ رُؤْيَاهُ عَلَى أنَّ الَّذِي يَخُضَعُونَ لَهُ أئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ يَهْتَدِي النَّاسُ بهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } ؛ ثانياً ليس بتكرارٍ ؛ لأنه أرادَ بالرُّؤية الثانية رؤيةَ سُجودِهم له ، وإنما حُملت الآية على الرؤيا لا على رؤيةِ العين ؛ لأنا نعلمُ أن الكواكبَ لا تسجدُ حقيقةً للآدميِّين ، ولهذا قال يعقوبُ : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ }.
وعن ابنُ عبَّاس أنَّهُ قَالَ : (لَمَا قَصَّ يُوسُفُ رُؤْيَاهُ عَلَى أبيهِ نَهَرَهُ وَزَجَرَهُ لِئَلاَّ يَفْطَنَ إخْوَتُهُ ، وَقَالَ لَهُ فِي السِّرِّ : إذا رَأيْتَ رُؤْيَا بَعْدَهَا لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى أخْوَتِكَ). فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ يابُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } ؛ لأن رؤيا الأنبياء وحيٌ ، يعلم يعقوب أن الإخوة إذا سمعوا بها حسَدوهُ فأمرَهُ بالكتمان ، وإنما كان قَصَّهَا على يعقوبَ فقط ، وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية ، أي لا تُخبرهُم بذلك لَئَلاَّ يحمِلُهم الحسدُ إلى قصدِكَ بسوءٍ ، ومن الخضوعِ له على إنزال التثريب عليه والاحتيالِ لهلاكه ، والكَيْدُ : هو طلبُ الشرِّ بالإنسان على جهةِ الغَيْظِ عليه.
اختُلِفَ فيما عناهُ فيه هذه اللامِ التي في قولهِ تعالى : { فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } قال بعضُهم : معناهُ : فيَكِيدُوكَ واللامُ صِلَةٌ كقولهِ تعالى : { لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ }[الأعراف : 154] ، وقال بعضُهم : هو مثلُ قولِهم : نصَحتُكَ ونَصحتُ لكَ وأشباههِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي إنَّ الشيطان عدوٌّ ظاهرُ العدوان لبني آدمَ ، فلا تذكُرْ رؤياكَ لإخوتِكَ ؛ لئلا يحملُهم الشيطان على الحسَدِ وإنزال الضُّرِّ بكَ.
وهذا أصلٌ في جوازِ تركِ إظهار النِّعمة عند مَن يُخشى حسدهُ وكَيدهُ ، وإنْ كان الله تعالى : قال : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ }[الضحى : 11] ، وعن رسولِ اللهِ صلى الله علي سلم أنَّهُ قالَ : " اسْتَعِينُواْ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِكُمْ بالْكِتْمَانِ ، فَإنُّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ ".
(0/0)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } ؛ أي مثلَ ما رأيتَ من سُجودِ الشمسِ والقمر والكواكب ، كذلكَ يصطَفِيكَ ربُّكَ ويختارُكَ ، { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } ؛ قِيْلَ : معناهُ : من تأويلِ الرُّؤيا لأنَّ فيه أحاديثَ الناسِ عن رُؤياهم. وَقِيْلَ : معناهُ : من تأويلِ الرُّؤيا لأنَّ فيه أحاديثَ الناسِ عن رُؤياهم. وَقِيْلَ : معناهُ : أفْهَمَكَ عواقبَ الأمُورِ الحوادث. ويقالُ : يعلِّمُكَ الشرائعَ التي لا تُعْلَمُ إلا من قِبَلِ اللهِ تعالى.
قَوْلُ تَعَالَى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ } ؛ أي يُتِمُّ نِعمَتَهُ عليك بالنبوَّة كما أتَمَّ النعمةَ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَآ أَتَمَّهَآ عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ } ؛ أي يُتِمَّ النعمةَ أيضاً على أولادِ يعقوبَ بكَ ؛ لأن ذلك يكون سرَّ حالِهم ؛ أي تكون النبوَّةُ فيهم ، { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، في أفعالهِ.
وفي بعض التفاسيرِ : أنَّ يعقوب عليه السلام كان خطبَ إلى خالهِ ابْنَتَهُ راحيلَ على أن يخدمَهُ سبعَ سنين فأجابَهُ ، فلما حلَّ الأجَلُ زوَّجَهُ ابنتَهُ الكبرى لاَيَا ، فقالَ يعقوبُ لخالهِ : لَمْ يكن هذا على شَرطِي ، قال : إنَّا لا نُنكِحُ الصغيرةَ قبلَ الكبيرةِ ، فهَلُمَّ فَآخُذْ منِّي سبعَ سنين أُخرى وأزَوِّجُكَ راحيلَ ، وكانوا يجمعون بين الأُختين ، فرعَى يعقوبَ سبعَ سنين أُخرى وزوَّجه راحيل ، ودفعَ لكلِّ واحدةٍ من ابنتيه أمَةً تخدمها فوهبتاهما ليعقوبَ عليه السلام فولَدت لاَيَا أربعةَ بَنين : روبيل وسَمعون ويهودَا ولاَوِي ، ووَلَدت راحيل : يوسُفَ وبنيامين ، وولدت الأَمَيَانِ : بنيامين وهابيل ودان ويسائيل وجادوان وآشير. فجملة بَنيهِ اثنا عشرَ ولداً سِوَى البنتينِ.
فإن قالَ قائلٌ : إنْ كان يعقوبُ عَلِمَ أنَّ الله يجتبي يوسُفَ ويعَلِّمهُ مِن تأويلِ الأحاديث ، فلِمَ إذاً قال : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ }[يوسف : 5] ؟ وكيفَ قالَ لَهم : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ }[يوسف : 13] مع علمهِ أنَّ الله سيبعثهُ رَسُولاً؟
والجوابُ : أنه عليه السلام كان عَالِماً من طريقِ القطعِ أنَّ سيُبلِغُهُ هذه المنْزِلة ، ولكن كان مع ذلك يخافُ من وصُولِ الْمَضَارِّ إليه بكَيدِهم ، وإنْ لم يخَفِ الهلاكَ. وأرادَ بقولهِ : { أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ }[يوسف : 13] الزجرَ لهم عن التَّهاوُنِ في حفظهِ ، وإنْ كان يعلمُ أن الذئبَ لا يَصِلُ إليه ، ولذلك لَمْ يصَدِّقهم في قولِهم : { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ }[يوسف : 17] ، بل حاجَّهم بما يظهرُ به كَذِبُهم.
وَقِيْلَ : أرادَ بقوله { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } التخلُّصَ من السِّجنِ ، كما خَلَّصَ اللهُ إبراهيمَ عليه السلام من النار ، وإسحقَ من الذبحِِ.
(0/0)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
قْوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } ؛ معناهُ : لقد كان في خَبَرِ يُوسُفَ وإخوَتهِ عبرةٌ للسَّائلين عنهم. وقرأ ابنُ كثير (آيَةً) كأنَّهُ جعلَ شأنَهُ كُلَّهُ آيةً للسائلين ، " وذلك أنَّ اليهودَ سألَت النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن قصَّة يوسُفَ ، فأخبَرَهم بها كما في التَّوراة ، فعَجِبُوا منهُ وقالوا : مِن أين لكَ هذا يا مُحَمَّدُ ؟ قالَ : " عَلَّمَنِيَهُ رَبي ". وَقِيْلَ : معناهُ : للسَّائلين أي لِمَن سألَ عن أمرِهم.
(0/0)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا } ؛ هذه لامُ القَسَمِ ، تقديرهُ : واللهِ ليُوسُفُ وأخوهُ بنيامين أحَبُّ إلى أبينَا منَّا ، { وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } ؛ أي جماعةً وكانوا عشرةً ، سُموا عصبةً ؛ لأن بعضَهم يتعصَّبُ لبعضٍ ، ويُعِينُ بعضُهم بعضاً. والعُصبَةُ : ما بين الواحدِ إلى العشرةِ ، وَقِيْلَ : إلى الخمسةَ عشر.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي من الْخَاطِئِين في تَرْكِ العدلِ في المحبَّة بينَنا لَفِي خطأ بَيِّنٍ من التدبيرِ باختياره الصغيرين ، ولا منفعةَ له فيهما علَينا مع أنَّا نسعى في منافعه ونرعَى له غَنَمَهُ ونتعهَّدها.
(0/0)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } ؛ اختلَفُوا في قائلِ هذا القول ، قال وهب : (قَائِلُهُ سَمْعُون) ، وقال مقاتلُ : (قَالَهُ روبيل) ، وقوله تعالى { أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً } يعنون أبْعِدُوهُ على وجهٍ يقعُ به اليأسُ من اجتماعهِ مع أبيه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } أي يَخْلُ لكم وجههُ عن يوسُفَ ، ويخلصُ محبَّتَهُ لكم ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } ؛ أي تَتُوبُوا بعدَ ذلك من هذا الذنب ، ويصلحُ حالتكم مع أبيكم.
(0/0)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ } ؛ قال أكثر المفسِّرين : القائلُ بهذا هو يَهُودَا ، وكان أعقلَهم وأشدَّهم قوةً ، والمعنى أنه قالَ لهم اطرحوهُ في قعرِ البئر ، { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ } ؛ على الطريقِ. والغَيَابَةُ : هو الموضعُ الذي غابَ عن بصَرِكَ ، والْجُبُّ : هو البئرُ التي لم يُطْوَ بالحجارةِ.
قَوْلهُ تَعَالَى : { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } ؛ معناهُ : قال لَهم : إنْ كُنتم لا بدَّ فَاعِلين به أمراً فَاعْدِلُوا إلى هذا الأمرِ ، وإلاَّ فاتركُوا كلَّ ذلك. والظاهرُ من قولهِ (الْجُب) أنه جُبُّ مُشار إليه معروفٌ ، قال وهب : (هُوَ بأَرْضِ الأُرْدُنِّ عَلَى ثَلاَثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقوبَ).
فلمَّا أبْرمُوا هذا التدبيرَ وعَزَمُوا عليهِ تلَطَّفوا بالوصُول إلى مُرادِهم ، وجَاؤُا إلى أبيهم ، فقالوا كما قالَ اللهُ : { قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } ؛ أي مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عليه ، فتُرسِلَهُ معنا وإنَّا له لناصحون في الرَّحمةِ والبرِّ. قولهُ : { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ؛ أي يذهبُ ويجيء وينشطُ ؛ ويقرأ كلاهما بالنُّون والياءِ.
والرَّتْعُ : هو التردُُّدُ يَميناً وشِمالاً للاتساعِ في الملاذِ. ومن قرأ (يَرْتَعْ) بالياء فهو من يَرْتَعُ ؛ أي يرعَى ما شيتَهُ ، واللَّعِبُ : هو الفعلُ الذي يطلبُ منه التَّفْرِيحُ من غيرِ عاقبةٍ محمودة ، وهو على وَجيهن : مباحٌ ومحظور ، كما قالَ عليه السلام : " كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلاَّ ثَلاَثَةٌ : مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ أهْلُهُ ، وَنَبْلُهُ بقَوْسِهِ ، وَتأَدِيبُهُ فَرَسَهُ " { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ؛ عن الأَسْوَاءِ ؛ وعن كلِّ ما يخافُ عليه.
(0/0)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
قَولهُ : { قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } ؛ أي يحزِنُنِي ذهابُكم به ؛ لأنه يُفارقُني فلا أراهُ ، { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } ؛ ذكرَ شَيئين : الحزنُ لذهابهم ، والخوفُ عليه أن يجده الذِّئبُ وحدَهُ وقتَ غَفلَتِهم عنه فيأكلَهُ. وكان يعقوبُ قد رأى في منامهِ كأَنَّ ذِئْباً قد عَدَا على يُوسفَ ، فكان خَائفاً عليه ، فمِن ذلك قال : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ }.
(0/0)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } ؛ أي ونحن جماعةٌ ترَى الذِّئبَ قد قصَدَ ، { إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } ؛ أي لعَاجِزُونَ والْخُسْرَانُ هنا العجزُ.
(0/0)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ } ؛ أي فأرسَلَهُ معهم ، فلَمَّا ذهبوا به اتَّفَقَتْ دَوَاعِيهم أن يجعلوهُ في الْجُب ، قال السديُّ : (خَرَجُوا بهِ مِنْ عِنْدِ أبيهِمْ وَهُمْ مُكْرِمُونَ لَهُ ، فَلَمَّا صَارُواْ فِي الْبَرِّيَّةِ أظْهَرُواْ لَهُ الْعَدَاوَةَ ، فَجَعَلَ أخٌ لَهُ يَضْرِبُهُ ، فَيَسْتَغِيثُ بالآخَرِ فَيَضْرِبُهُ ، لاَ يَرَى فِيْهِمْ رَحِيماً ، فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُواْ يَقْتُلُونَهُ.
فَجَعَلَ يَصَيحُ وَيَقُولُ : يَا أبَتَاهُ لَوْ تَعْلَمُ مَا صُنِعَ بابْنِكَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَهُودَا : ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتُمُوهُ مَوْثِقاً ألاَّ تَقْتُلُوهُ ؟ فَانْطَلَقُواْ بهِ فِي الْجُب فَدَلُّوهُ فِيْهِ ، فَتَعَلَّقَ بشَفِيرِ الْبئْرِ ، فَرَبَطُواْ يَدَيْهِ وَنَزَعُواْ قَمِيصَهُ وَقَالَ : يا إخْوَتَاهُ رُدُّواْ عَلَيَّ قَمِيصِي أتَوَارَى بهِ ، فَقَالُواْ : أُدْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً يُلْبسُوكَ وَيُؤْنِسُوكَ ، فَدَلّوهُ حَتَّى إذا بَلَغَ نِصْفَ الْبِئْرِ ألْقَوْهُ وَأرَادُواْ أنْ يَمُوتَ ، وَكَانَ فِي الْبئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيْهِ ، وَآوَى إلَى صَخْرَةٍ فَقَامَ عَلَيْهَا وَجَعَلَ يَبْكِي ، فَنَادَوا فَظَنَّ أنَّ الرَّحْمَةَ أدْرَكَتْهُمْ فَأَجَابَهُمْ ، فَأَرَادُوا أنْ يَرْضُخُوهُ بالْحِجَارَةِ لِيَقْتُلُوهُ فَمَنَعَهُمْ يَهُودَا ، وَكَانَ يَهُودَا يَأْتِيهِ بالطَّعَامِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَـاذَا } ؛ قال المفسِّرون : أوحَى اللهُ إلى يوسفَ في البئرِ تَقْويَةً لقلبهِ : لَتَصْدُقَنَّ رُؤْيَاكَ ، وَلَتُخْبرَنَّ إخْوَتَكَ بصُنْعِهِمْ هَذا بَعْدَ الْيَوْمِ ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ بأنَّ يوسفَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم ، وكان فيما أُوحي إليه : أنِ اصبر على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالَكَ ، فإنَّكَ تُخبرُهم بما فَعَلُوا بكَ.
وعن ابنِ عبَّاس : قال : (كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةِ سَنَةً وَبَقِيَ فِي الْجُب ثَلاَثَةَ أيَّامٍ). وفي بعضِ الروايات : أنه لَمَّا أُلقِيَ في الْجُب جعلَ يقول : يا شاهداً غيرَ غائبٍ ، ويا قريباً غيرَ بعيدٍ ، ويا غالباً غيرَ مغلوبٍ : اجعَلْ لي من أمْرِي فَرَجاً ومَخرجاً ، فأوحَى اللهُ إليه وهو في البئرِ : اصبرْ على ما أصابَكَ واكْتُمْ حالكَ ، فإنَّكَ تخبرُ إخوانَكَ في وقتٍ عن ما فعَلُوا بكَ في وقتِ إخباركَ إيَّاهم بأمرِهم.
ثم عَمَدوا إلى سَخْلَةٍ فذبَحوها ، وجعلوا دَمَها على قميصِ يوسف ، { وَجَآءُوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } ؛ أي يتَبَاكون ، { قَالُواْ يَاأَبَانَآ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نتسابقُ في الرَّمي ، وَقِيْلَ : نُسابَقُ في الاصطيادِ ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } ؛ ليحفظَهُ ، { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } ؛ أي بمُصدِّقٍ لنا في أمرِ يوسف لفَرطِ محبَّتِكَ له وتُهمَتِكَ إيانا فيه ، { وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } ؛ محل الصدقِ عندكَ في غير هذا الحديثِ.
ثم أرَوهُ قميصَهُ ملطَّخًا بالدمِ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } ؛ أي بدَمٍ كذبٍ ، فلمَّا نظرَ يعقوبَ إلى القميصِ قال : ما عهدتُ ذِئْباً حَلِيماً مثلَ هذا الذئب! فَكَيْفَ أكلَ لحمه ولم يخرِّقْ قميصَهُ؟! ولو أنَّهم كانوا مزَّقُوا قميصَهُ حين لطَّخوهُ بالدم ، كان ذلك أبعدَ عن التُّهمةِ عنهم ، ولكن لا بدَّ في المعاصِي أن يقترنَ بها الحزنان ، { قَالَ } ؛ يعقوبُ : كَذبْتُمْ ، { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } أي زيَّنت لكم أنفسُكم في هلاكِ يوسف فضيَّعتموهُ ، يقالُ : إن يعقوب كما قال لَهم : لو أكلَهُ الذئبُ فشَقَّ قميصَهُ! قالوا : لو قتَلهُ اللصوصُ لَمَا ترَكُوا قميصَهُ ، هل يريدون إلا الثيابَ والمتاعَ ، فَسَكَتوا متحيِّرين.
(0/0)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ } ؛ أي جاءَت قافلةٌ من المسافرين بعد أن مكثَ يوسفُ عليه السلام في الْجُب ثلاثةَ أيَّام. يُروى أنَّهم جاءوا من قِبَلِ مَدْيَنَ يريدون مُعَرِّفاً خطرَ الطريقِ ، فتحيَّرُوا وجعلوا يَهِيمُونَ حتى وَقَعُوا في الأرضِ التي فيها الْجُبُّ ، فأَرسَلَ كلُّ قومٍ منهم وارِدَهم ، والوارِدُ الذي يُقَوِّمُ القومَ لطلبِ الماء ، فوافقَ الْجُبُّ مَالِكَ بْنَ ذعَرٍ وهو رجلٌ من العرب من أهل مَديَنَ ، { فَأَدْلَى دَلْوَهُ } في البئرِ ، فتعلَّقَ بها يوسفُ ، فلم يَقدِرُوا على نَزْعِهِ ، فنَظَرُوا فرأوا غُلاماً قد تعلَّقَ بالدَّلْوِ ، فنادَى أصحابَهُ فَـ { قَالَ يابُشْرَى هَـاذَا غُلاَمٌ } ، قال : مَا ذاكَ يا مالِكُ ؟ قال : غلامٌ أحسنَ ما يكون من الغِلمَانِ. فاجتمَعُوا عليه وأخرَجوهُ.
قال كعبٌ : (كَانَ يُوسُفْ حَسَنَ الْوَجْهِ جَعِدَ الشَّعْرِ ضَخْمَ الْعَيْنِ مُسْتَوِيَ الْبَطْنِ صَغِيرَ السُّرَّةِ ، وَكَانَ إذا تَبَسَّمَ رَأيْتَ النُّورَ فِي ضَوَاحِكِهِ ، َلاَ يَسْتَطِيعُ أحَدٌ وَصْفَهُ ، وَكَانَ حُسْنَهُ كَضَوْءِ النَّارِ وَكَانَ يُشْبهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى قَبْلَ أنْ يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ). ويقال : إنه وَرِثَ ذلك الجمالَ من جدَّتهِ سارة ، وكانت قد أُعطيت سُدُسَ الْحُسْنِ.
وقولهُ تعالى : { قَالَ يابُشْرَى هَـاذَا غُلاَمٌ } من قرأ (يَا بُشْرِي) أي بياء الإضافة ، فهو خطابٌ للفرَحِ على القلب ، كما قالَ : يا فَرَحِي يا طُوبَايَ ويا أسَفِي. ومن قرأ بغيرِ ياء الإضافة فمعناهُ تبشيرُ الأصحاب ، كما يقالُ : يا عَجَبَا ويرادُ به يا أيُّها القومُ اعجَبُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } ؛ أي أسَرَّ الذين وجَدُوا يوسُفَ من رُفَقَائِهم ومِن القافلة مخافةَ أن يَطلُبَ أحدٌ منهم الشِّركَةَ معهم في يوسف عليه السلام ، قولهُ : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي قالوا في ما بينَهم : إنَّا نقولُ إن أهلَ الماءِ استَبضَعُوكَ بضاعةً ، ويجوزُ أن يكون (بضَاعَةً) نَصباً على الحالِ على معنى أنَّهم كَتَمُوهُ حين أعقَدُوا التجارةَ فيه.
ويقال : إن قولَهُ { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } راجعٌ إلى إخوَةِ يوسف ، فإنه رُوي أنَّهم جَاؤُا بعدَ ثلاثةِ أيَّام فلم يجدُوا في البئرِ ، فنظَرُوا فإذا القومُ نُزُولٌ بقُرب البئرِ ، فإذا هم بيوسُفَ ، فقالوا لَهم : هذا عبدٌ آبقٌ منذُ ثلاثةِ أيام ، وقالوا لِيُوسُفَ : لئِنْ أنكرتَ أنَّكَ عبدٌ لنا فَلَنَقتُلَنَّكَ ، وقالوا للقومِ : اشتَرُوا مِنَّا فذلك معنى قولهِ { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } بأن طلَبُوا من يوسُفَ كتمانَ نسَبهِ ، إلا أنَّ القولَ الأوَّلَ أقربُ إلى ظاهرِ الآية. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ؛ أي بيوسُفَ ، وهذا يجرِي مجرَى الوعيدِ.
(0/0)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } ؛ أي بَاعوهُ أخوتهُ من مالكِ بن ذعْرٍ بعشرِينَ دِرهَماً ، فأصابَ كلٌّ منهم دِرهَمين فلم يأخُذْ يهُودَا نصيبَهُ ، وأخذهُ الباقون ، وقال الضحَّاكُ : (بَاعُوهُ باثْنَي عَشَرَ دِرْهَماً). وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ { بِثَمَنٍ بَخْسٍ } أيْ بثَمَنٍ حَرَامٍ ؛ لأنَّهُ سَمَّى الْبَخْسَ حَرَاماً ، وَسَمَّى الْحَرَامَ بَخْساً ؛ لأنَّهُ لاَ بَرَكَةَ فِيْهِ). وقال الكلبيُّ : (بَاعُوهُ باثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ دِرْهَماً). وقولهُ تعالى : { مَعْدُودَةٍ } أي قليلةٍ ، وذِكْرُ العددِ عبارةٌ عن القلَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } ؛ أي لم يكُن لَهم فيه رغبةٌ ولا في ردِّهِ على أبيهِ ، ولم يعلَمُوا منْزِلتَهُ من اللهِ تعالى ، يعني : أنَّ إخوةَ يوسُفَ كانوا في يوسف من الزَّاهدِين ؛ لأنَّهم لم يعرِفُوا كرامتَهُ على اللهِ تعالى. وَقِيْلَ : كانوا في يُمْنِهِ من الزَّاهدين أن عرضهم أن يُغَيِّبُوهُ عن أبيهِ ، وكتَمَ يوسفَ شأنه مخافةَ أن يقتلَهُ إخوتهُ ، و { وَشَرَوْهُ } أي باعوهُ ، قال الشاعرُ : وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْأي بعتُ بُرْداً وهو غلامهُ.
ثم انطلقَ مالك بن ذُعْر وأصحابهُ بيُوسُفَ ومعهم إخوتهُ يقولون : استَوثِقُوا منه فإنه آبقُ سارقٌ كاذب ، وقد بَرِئْنَا إليكم من عُيوبهِ. فحمله مالِكُ بن ذُعر على ناقتهِ وسارَ به نحو مِصْرَ ، وكان طريقُهم على قبرِ أُمهِ ، فلما بلغَ قبرَ أُمه أسقطَ نفسه من الناقةِ وهو يبكِي ويقولُ : يا أماهُ ارفَعِي رأسَكِ من الثَّرى ، وانظُرِي إلى ولدكِ يوسفَ وما لَقِيَ بعدَكِ من البلايَا ، يا أماهُ لو رأيتِي ضَعفِي ودُلِّي ، ويا أماه لو رأيتِني ، نزَعُوا قميصي وشدُّونِي ، وفي الْجُب ألقونِي وعلى حرِّ وجهي لطَمُونِي ، وبالحجارةِ رجَمونِي.
ثم فقدَهُ مالك بن ذُعر فصاحَ في القافلةِ : ألاَ إنَّ الغلامَ رجعَ إلى أهلهِ ، فطلبوهُ فوجدوه ، فقال له رجلٌ منهم : يا غلامُ قد أخبَرَنا مواليكَ أنكَ آبقٌ سارقٌ ، فلم نصدِّقْ حتى رأيناكَ ، فقال : واللهِ ما آبقْتُ ، ولكنَّكم مرَرتُم على قبرِ أُمِّي ، فلم أتَمالَكْ أن رميتُ نفسي عليه ، فرفعَ فلطَمَ وجهَهُ حتى حمله على ناقتهِ.
وذهَبُوا به حتى قَدِمُوا مصرَ ، فأمرَهُ مالك بن ذُعر حتى اغتسلَ ولَبِسَ ثَوْباً حَسَناً ، وعرضَهُ على البيعِ ، فاشتراهُ قطفيرُ بن رُوَيحِب لامرأته ، قال وهب : (تَرَافَعَ النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ وَتَزَايَدُواْ حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُهُ وَزْنَهُ مِسْكاً وَوَرِقاً ، فابتاعَهُ قطفيرُ بهذا الثمنِ وأتى به إلى منْزِله).
(0/0)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ } ؛ واسْمُها رَاعِيل : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ؛ أي أحْسِني طولَ مُقامهِ عندَنا ، { عَسَى أَن يَنفَعَنَآ } ؛ في أمُورنا ونبيعُ فنربح في ثَمنِه ، { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } ؛ نسبناه ، وكان العزيزُ عَقيماً ، أو حصُوراً لا يولَدُ له ، إنما قالَ لِمَا رأى على يوسُفَ من الجمالِ والعقل والهداية إلى الأمُور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي كما خلَّصناهُ من البئرِ وإخوته كذلك مكَّنَّاهُ فيها حتى بلَغَ ما بلغَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } ؛ أي لنُعلِّمَهُ من ضُروب العلومِ ، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } أي لا يقدرُ أحدٌ منكم دفعِ ما أرادَ من أمرهِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أن اللهَ غالبٌ على أمرهِ وهم المشركون.
(0/0)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا بَلَغَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سنَةَ آتَيْنَاهُ النُّبُوَّةَ وَالْفِقْهَ ، وَجَعَلْنَاهُ حَكِيماً عَلِيماً) ، قال : وَالأَشَدُّ مِنْ ثَمَانِي عَشَرَة إلَى ثَلاَثِينَ سَنَةً). ويقال : أقصاهُ اثنانِ وستُّونَ سنةً ، فأما الاستواءُ فهو أربعونَ سَنةً. وقال الحسنُ : (أُعطِْيَ يُوسُفُ الرِّسَالَةَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَكَانَ أُعْطِيَ النُّبُوَّةَ مِنْ قَبْلُ).
ويقال : معناه : وآتيناهُ حُكماً وعلماً بين الناسِ ، فإذا الناسُ كانوا تحاكَمُوا إلى العزيز ، أمرَهُ أن يحكمَ بينهم ؛ لِمَا رأى من عقلهِ وأمانته وعلمه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي كما جَزَينا يوسُفَ على صبرهِ على الْمِحَنِ ، كذلك نَجزِي الْمُحسِنين في أقوالِهم وأفعالهم.
(0/0)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ } ؛ أي رَاوَدَتْهُ امرأةُ العزيزِ واسْمُها زُلَيْخَا ، وكان يوسفُ من أحسنِ البشر ، وكان كضَوءِ النَّهار ونور الشَّمسِ ، وكان بحيث لا يستطيعُ آدميٌّ أن يصِفَهُ ، فراودَتهُ أي طالَبَته لِمُرادِها منه ، { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } ؛ عليهِ وعليها وطلَبت منه أن يُواقِعَها ، قولهُ { وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ } قال المفسِّرون أغلَقَت سبعةَ أبوابٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } ؛ أي هَلُمَّ إلى ما هُيِّءَ لك ، قرأ ابنُ كثير (هَيْتُ لَكَ) بفتح الهاء وضمِّ التاء ، وقرأ أهلُ المدينة والشام بكسرِها وبفتح التاءِ ، وقرأ الباقون بفتح الهاءِ والتاء ، وهي قراءةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ومعناهُ جميعاً ، هَلُمَّ وأقبلْ ، قال مجاهدُ : (تَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهَا وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } ؛ أعوذ باللهِ أن أفعلَ ما لا يجوزُ لِي فِعْلهُ. وَقِيْلَ : اعتصمُ باللهِ عن فعلِ ما تدُعُنَّني إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ؛ ذهبَ أكثرُ المفسِّرين إلى أنَّ معناهُ : إنَّ زوجَكِ سيِّدي أحسنَ تَربيَتي ومنْزِلَتِي مدَّة مُقامِي عندَهُ ، لا أخونهُ في أهلهِ.
سَمَّاهُ رَبّاً للرقِّ الذي كان ثبتَ له في الظاهرِ عليه. وَقِيْلَ : معناهُ : إن اللهَ تعالى ربي أحسنَ إلَيَّ بتخليصِي من البئرِ وما قصدَنِي قَوْمِي من الهلاكِ ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي لا يأْمَنُ ولا ينجُو من عذاب الله الذين يظلِمُون أنفسهم ، أراد بهم الزُّنَاةَ ، ويجوزُ أن يكون أرادَ لو فَعَلَ ما دَعَتْهُ إليه لكان ظَالِماً لزَوجِها في أهلهِ.
وفي قولهِ (هَيْتَ) خلافٌ من فتحِ التاء فلِسُكونِها وسكونِ الياء قبلَها نحوُ : كيفَ وأينَ ، ومَن ضَمَّ التاءَ فعلى أنَّها مبنيَّةٌ على الضمِّ نحو حيثُ ومنذ ، ومَن قرأ بفتحِ الهاء وكسرِ التاء فلأنَّ الأصلَ في التقاءِ السَّاكِنَين حركةُ الكسرِ ، ويجوز أن يكون مبنيّاً على الكسرِ مثل أمسِ وجَيْرٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } ؛ قال الحسنُ : (أمَّا هَمُّهَا فَأَحَبُّ هَمٍّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْفَاحِشَةِ ، وَأمَّا هَمُّهُ فَهُوَ مَا طُبعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ شَهْوَةِ النِّسَاءِ مِنْ دُونِ عَزْمٍ عَلَى الزِّنَا).
واختلفَ أهلُ العلمِ في ذلك ، فرُوي عن ابنِ عبَّاس أنه سُئِلَ : مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ ؟ قَالَ : (حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الْخَاتِنِ). وعن ابن أبي مليكة قال : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ : مَا بَلَغَ مِنْ أمْرِ يُوسُفَ ؟ قَالَ : (اسْتَلْقَتْ لَهُ عَلَى قَفَاهَا وَقَعَدَ بَيْنَ رَجْلَيْهَا يَنْزِعُ ثِيَابَهُ) وهو قولُ سعيدِ بن جُبير والضحَّاك والسديُّ.
ورُوي عن ابنِ عبَّاس : (أنَّه لَمَّا راوَدت يوسُفَ جعلت تذكرُ محاسنَهُ وتشوِّقه إلى نفسها ، فقالت : يا يوسفُ ما أحسنَ ماء عينيكَ ؟ قال : هو أوَّلُ ما سِيلَ على الأرضِ من جسَدِي ، قالت : ما أحسنَ وجهَكَ ؟ قال : هو للتُّراب يأكلهُ ، قالت : ما أحسنَ شَعْرَك ، قال : هو أوَّلُ سَتْرٍ من بدَنِي ، قالت : ما أحسنَ صُورَتَكَ ، قال : رَبي صوَّرَنِي ، قال ، يا يوسفُ صورةُ وجهِكَ أنْحَلَتْ جسمي ، قال : إن الشيطانَ يُعِينُكِ على ذلكَ ، قالت : فراشُ الحريرِ قد بسطتهُ قم فاقضِ حاجَتي ، قال : إذن يذهبُ نصيبي من الجنَّة ، قالت : أُدخل في السترِ معي ، قال ليس بشيءٍ يستُرنِي من ربي.
فلم تزَلْ تدعوهُ إلى اللذة ، ويوسف شابٌّ مستقبلٌ يجد من شبق الشباب ما يجدُ الرجل ، وهي حسناءُ جميلة حتى لاَنَ لها لما يرى من كَلَفِها به وهمَّ بها).
فهذه أقاويلُ أجِلَّةِ أهلِ التفسير ، وقال جماعةٌ من المتأخِّرين : (لاَ يَلِيقُ هَذا بالأَنْبيَاءِ) وأوَّلوا الآيةَ ، قال بعضُهم : هَمَّ بالفرار ، وهذا لا يصحُّ لأن الفرارَ مذكَّرٌ ، وَقِيْلَ : هَمَّ بضَربها ودَفعِها ومخاصمتها ، قال بعضُهم معنى قوله : { وَهَمَّ بِهَا } بمُنَاهَا أن تكون له زوجةً.
وقال أهلُ الحقائقِ : الْهَمُّ هَمَّانِ : همٌّ مقيمٌ ثابت ، وهو إذا كان معه عَزْمٌ وعقدٌ ونيَّة ورضًى مثل هَمِّ امرأةِ العزيزِ ، فالعبدُ مأخوذُ به ، وهَمٌّ عارضٌ وارد وهو الْخَطْرَةُ والفكرةُ وحديث النَّفسِ من غيرِ اختيارٍ ولا عَزْمٍ مثل همِّ يوسف ، والعبدُ غير مأخوذٌ به.
وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " إنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بهِ أنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُواْ أوْ يَفْعَلُواْ بهِ ". عن ابن عبَّاس قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ أحَدٍ يَلْقَى اللهَ قَدْ هَمَّ بخَطِيئَةٍ قَدْ عَمِلَهَا ، إلاَّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا فإنَّهُ لاَ يَهِمُّ ولَمْ يَفْعَلْ ".
وقال بعضُهم في قولهِ { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا } قال أبو العبَّاس أحمدُ بن يحيى ثعلب : (هَمَّتِ الْمَرْأةُ بالْمَعْصِيَةِ مُصِرَّةَ عَلَى ذلِكَ ، وَهَمَّ يُوسُفُ بالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَأْتِهَا). وَقِيْلَ ، هَمَّت المرأةُ عازمةً على الزنَى ، ويوسفُ عارَضَهُ ما يعارضُ الشبابَ من خَطَراتِ القلب وحديث النَّفس ، فلم يلزمه ، وهذا الْهَمُّ ليس ذنباً إذ الرجلُ الصائم يخطرُ بقلبهِ شرابُ الماءِ البارد ، فإذا لم يشرب كان غيرَ مُؤَاخَذٍ بما يحسُّ في نفسهِ فيه.
(0/0)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ } ؛ قال السديُّ : (ذلِكَ أنَّ زُلَيخَا قالَتْ لِيُوسُفَ حِينَ أغْلَقَتِ الْبَابَ : مَا أحْسنَ شَعْرَك رضي الله عنه إلَى آخِرِ الْكَلاَمِ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذلِكَ حَتَّى هَمَّ بَها ، فَلَمَّا رَأى الْبُرْهَانَ قَامَ مُبَادِراً إلَى الْبَاب هَارِباً ، فَاتَّبَعَتْهُ الْمَرْأةُ فَأَدْرَكَتْهُ ، فَلَمَّا أحَسَّتْ بقُوَّتِهِ مَزَّقَتْ آخِرَ قَمِيصِهِ مَانِعَةً لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ. والقَدُّ قطعُ الشيءِ بأَسرهِ طُولاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ } ؛ صَادفا زوجَها عند الباب جَالساً ، فلمَّا رأتْهُ هَابَتْهُ ، و { قَالَتْ } سابقةً بإلقاءِ الذنب على يوسف : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } ؛ يعني الزِّنَى ، { إِلاَّ أَن يُسْجَنَ } ؛ أن يُودَعَ في السجنِ ، أَوْ ؛ يُعَذبَ ، { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ يعني الضَّربَ الوجيعَ.
فلمَّا قالت المرأةُ ذلك ، لَمْ يجدْ يوسُفُ بُدّاً من تبرئةِ نفسه ، { قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } ؛ أي طالَبَتني بمُرادِها من نفسي فأبَيتُ وفرَرْتُ منها ، فأدرَكَتْنِي وشقَّتْ قَمِيصِي ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ } ، وكان مع زوجِها بالباب ، { مِّنْ أَهْلِهَآ } ، ابنُ عمٍّ لها حكيم ، فقال ابنُ عمِّها : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } ؛ إنْ كان شُقَّ القميصُ مِن قُدَّامِهِ ، { فَصَدَقَتْ } ؛ فهي صادقةٌ ، { وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } ، وإنْ كَانَ من خَلْفِهِ فهو صادقٌ ، وقال الضحَّاك : (كَانَ الشَّاهِدُ صَبيّاً فِي الْمَهْدِ فَأَنْطَقَهُ اللهُ تَعَالَى). قِيْلَ : كان ذلك الصبيُّ ابنَ خالِ المرأة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } ؛ أي فلَمَّا رأى ابنُ عمِّها قُدَّ القيمصُ من خلفٍ ، ويقال : فلمَّا رأى زوجُها ذلك ، { قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } ؛ أي قولُها { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا } من مَكْرِكُنَّ ، { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ }.
ثم قالَ ليوسُفَ بعدَما ظهَرتْ براءتهُ : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـاذَا } ؛ يعني أمْسِكْ ذِكرَهُ حتى لا ينتشرَ في البلدِ وفي ما بين الناس ، ثم أقبلَ عليها وقال : { وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ } ؛ فإن الخطابَ كان منكِ ألقَيتِهِ على يوسف.
وقد احتجَّ مالكُ والحسنُ بن حيٍّ في الحكمِ بالعلامة بهذه الآيةِ : أنَّ اللُّقَطَةَ إذا ادَّعَاهَا مُدَّعٍ وَوَصَفَها وَجَبَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ أنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى مَذْهَبهِمَا. ولا حجَّةَ لهما في هذه الآيةِ ، إذ لا خلافَ بين الفُقهاءِ أن الأملاكَ والأيدي لا تستَحقُّ بالعلاماتِ ، فإنَّ العطَّارَ والدباغَ إذا اختلفَا في عِطْرٍ في أيدِيهما لم يكن العطارُ أوْلَى به من الدَّباغِ ، وكذلك الاسكافِيُّ الصَّيرَفِيُّ إذا اختلفَا في حذاءٍ في يدِ الصيرفِيِّ لم يستحقُّهُ الاسكافِيُّ ؛ لأن ذلك من صِنَاعتهِ.
وعن مجاهد : (أنَّ امْرَأَتَيْنِ اخْتَصَمَتَا إلَى شُرَيْحٍ فِي وَلَدٍ لَهُنَّ ، فَقَالَ شُرَيْحُ : ألْقُوهَا مَعَ هَذِهِ ، فَإنْ هِيَ رَدَّتْ وَفَرَّتْ وَاسْتَفَزَّتْ فِهِيَ لَهَا ، وَإنْ هَرَبَتْ وَفَرَّتْ فَلَيْسَتْ لَهَا). وكان ذا القولِ من شُريح على جهةِ ما يغلبُ في الظنِّ ليميِّز المبطلَ من المدعِيَين فنحكمُ عليه بالإقرار.
(0/0)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُنَّ أرْبَعُ نِسْوَةٍ : أمْرأَةُ سَاقِي الْمَلِكِ ، وَامْرَأةُ خَبَّازِهِ ، وَامْرَأَةُ صَاحِب سِجْنِهِ ، وَامْرَأَةُ صَاحِب دَوَابهِ ، قُلْنَ فِي امْرَأةِ الْعَزِيزِ : إنَّهَا تَدْعُو عَبْدَهَا إلَى نَفْسِهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } ؛ قد خَرَقَ حبُّهُ حجابَ قلبها فلا يعقلُ غيره ، ويقال : قد أحبَّتهُ حتى دخلَ حُبُّهُ شِغَافَ قَلبها. والشِّغَافُ : جلدةٌ تشتملُ على القلب ، يقالُ : شَغفَهُ إذا رماهُ فأصابَ ذلك الموضعِ منه كما يقالُ كَبَدَهُ إ ذا أصابَ كَبدَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حُبّاً } نُصِبَ على التمييزِ كأنَّهُنَّ قُلنَ : أصابَ حبُّه وسطَ قلبها وسويداءَ قلبها. وقرأ أبو رجاءٍ والشعبي : بالعين المهملة ، ومعناه ذهبَ بها الحبُّ كلَّ مذهبٍ ، مشتقٌ من شِعَافِ الجبالِ أي رُؤوسها. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي في الخطأ البيِّن.
قال ابنُ عبَّاس : (فَجَعَلْنَ يُفْشِينَ هَذا فِي الْمَدِينَةِ ، فَبَلَغَ ذلِكَ زُلَيْخَا) فهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } ؛ أي فلما سَمعت بكلامَ هؤلاء النِّسوة وذمِّهن لها أرسَلت إليهنَّ ، فدَعَتهُنَّ لوليمةٍ أعدَّتْها لهن ، ويقال : إنما سمُي قولُ النسوةِ مَكْراً ؛ لأنَّها كانت أطلَعَتْهُنَّ واستكتَمَتْهن فأَفْشَيْنَ سِرَّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ؛ أي أصلَحت وهيَّأَتْ لهن أمكنةً يقعُدن عليها ، ووسائدَ يتَّكِينَ عليها ، وفي قراءة ابنِ عباس (مُتْكاً) بالتخفيف بغير همز ، قال : (وَالْمُتْكُ : الأَتْرُجّ).
قال وهبُ : (دَعَتْ أرْبَعِينَ امْرأَةً ، وَأعَدَّتْ لَهُنَّ أتْرُجاً وَبطِّيخاً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ؛ لتقطعَ بها الفواكِهَ والأُترج على ما جَرت به العادةُ ، ويقال : كانت وضَعت لَهُنَّ خُبزاً ولَحماً وهذه الفواكه ، { وَقَالَتِ } ؛ ليوسُف : { اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } ؛ وذلك أنَها كانت قد أجْلَسَتهُ في مجلسٍ غير الذي كُنَّ جلسنَ فيه. قال عكرمةُ : (وَكَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى النُّجُومِ).
وعن أبي سعيدٍ الخدري قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي فَرَأيْتُ يُوسُفَ عليه السلام ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا ؟ فَقَالَ : يُوسُفَ " قَالَ : كَيْفَ رَأيْتَهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ". ورُوي أن يوسف عليه السلام كان إذا مشَى في أزِقَّة مصرَ يُرى نورُ وجههِ على الجِدَارَاتِ كما ترى نورَ الشمسِ والماء على الجدار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } فخرجَ عليهن ، { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } ؛ أي عَظُمَ عندَهُن ، وَ ؛ بلغَ من شَغْلِ قُلوبهن برؤيته ما ، { وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ؛ بالسَّكاكين. قال قتادةُ : (قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ حَتَّى ألْقَيْنَهَا وَهُنَّ لاَ يَشْعُرْنَ) ، ويقالُ : معنى (أكْبَرْنَهُ) أي حِضْنَ ، ويقال : معنى (أكْبَرْنَ) آمَنَّ. قِيْلَ : أنَّهن كُنَّ يقَطِّعن أيديهن وهن يحسَبن أنَّهن يُقَطِّعنَ الأتْرَجُ ، ولم يجدن الألَمَ لاشتغالِ قُلوبهن برؤيةِ يوسف. قال وهب : (وَبَلَغَنِي أنَّ سَبْعاً مِنَ الأرْبَعِينَ مِمَّنْ كُنَّ فِي ذلِكَ الْمَجْلِسِ وَجَدْنَ بيُوسُفَ عليه السلام).
(0/0)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } ؛ رُوي : أنه دخلَ على يوسُفَ بعدَ دخولهِ الخمسَ سنين عَبْدَانِ للملكِ ، وهو صاحبُ شرابهِ وصاحبُ طعامهِ ، غَضِبَ عليهما الملكُ ، واتَّهَمَ صاحبَ الطعامِ أنه يريدُ أن يَسُمَّهُ ، وصاحبَ الشَّراب بأنه مَالأَهُ على ذلك ، وذلك أنَّ أعداءَ الملكِ أرادوا الْمَكْرَ بالملكِ واغتيالهِ ، فطَلَبوا هذين وضَمِنُوا لهما مَالاً ليَسُمَّا طعامَ الملكِ وشرابَهُ ، فأبَى السَّاقِي وقَبلَ الخبَّازُ الرِّشْوَةَ فسَمَّ الطعامَ.
فَلَمَّا حضرَ وقتهُ قال السَّاقِي : أيَّها الملكُ لا تأكُلْ فإنه مسمومٌ ، وقال الخبازُ : أيُّها الملكُ لا تشرب فإنه مسمومٌ. فقال الملكُ للسَّاقي : اشْرَبْ ، فَشَرِبَ فلم يضُرَّهُ ، وقال للخباز : كُلْ من طَعامِكَ فأَبَى ، فجرَّبَهُ الملكُ على دابَّة فأكلت من الطعامِ فمَاتَتْ ، فأمرَ الملكُ بحبسِهما.
وكان يوسفُ قد قالَ لأهلِ السِّجن لَمَّا دخله : إنِّي أعَبرُ الأحلامَ ، فقال أحدُ هَذين القيمين لصاحبهِ : هلُمَّ فلنُجَرِّبْ هذا العَبْرَانِيَّ برُؤيا له ، فسأَلاهُ من غيرِ أن يكونا رأيا شيئاً. قال ابنُ مسعود : (مَا رَأيَا شَيْئاً إنَّمَا كَانَا تَحَالَمَا عَلَيْهِ لِيُجَرِّبَا عِلْمَهُ).
وقال قومٌ : كانَا رأيَاها على حقيقةٍ ويقين ، فقالَ السَّاقي : أيُّها العالِمُ إنِّي رأيتُ كأنَّي في بُستانٍ وإذا بكُرَةٍ عليها ثلاثةُ عناقيد فجنَيُتها ، وكأنَّ كأسَ الملكِ بيدي فعصَرتُهم فيه وسقَيتُ الملكَ فشَرِبَهُ ، وقال الخبَّازُ : إنِّي رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي ثلاثَ سِلاَلٍ من خُبْزٍ وألوانِ الأطعمَةِ فإذا سِبَاعُ الطيرِ تَنْهَشُه.
وإنما سُمي العنبُ باسمِ الخمر لأن الشيءَ يُسمَّى بما يؤُولُ إليهِ ، وقال الضحَّاك : (الْخَمْرُ هُوَ الْعِنَبُ) بَعَيْنِهِ بلُغَةِ عُمَانَ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرٍَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (إنِّي أرَانِي أعْصِرُ عِنَباً). قال الأصمعيُّ : (أخْبَرَنِي الْمُعْتَزُّ أنَّهُ لَقِيَ أعْرَابياً مَعَهُ عِنَبٌ ، فَقَالَ : مَا مَعَكَ ؟ قَالَ : خَمْرٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } ؛ أي أخبرنا بتفسيرهِ وتعبيره ، وما يؤولُ إليه أمرُ هذه الرُّؤيا ، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي العالِمينَ الذين أحسَنُوا العلمَ. وَقِيْلَ : من الْمُحسِنين إلينا إنْ قلتَ ذلك وفسَّرتَ رُؤيانا. وعن الضحَّاك في قولهِ تعالى : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } قال : (كَانَ إحْسَانُهُ إذا مَرِضَ رَجُلٌ فِي السِّجْنِ قَامَ عَلَيْهِ ، وَإذا أضَاقَ وَسَّعَ عَلَيْهِ ، وَإذا احْتَاجَ سَأَلَ لَهُ). وقيل : إحسَانهُ أنه كان يُداوِي مَريضَهم ، ويُعزِّي حَزينَهم.
قال : (فَكَرِهَ يُوسُفُ أنْ يُعَبرَ لَهُمَا لَمَا عَلِمَ فِيْهِ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أحَدِهِمْ ، فَأَعْرَضَ عَنْ سَؤَالِهِمَا وَأخَذ فِي غَيْرِهِ) و { قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } ؛ أي لا يَأتِكُما طعامٌ تَطعَمَانِهِ وتأكُلانهِ إلاّ نبَّأتُكما بتفسيرهِ وَلَونهِ أيَّ طعامٍ أكلتمُوهُ ، قالاَ له : هذا مِن فعلِ الكَهَنةِ ، قال : ما أنَا بَكاهنٍ وإنما : { ذالِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }.
(0/0)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ } ؛ معنى الآيةِ : أما أحدُكما وهو السَّاقي ، فيَسقِي سيِّدَهُ يعني الملِك خَمراً ، وأما العناقيدُ الثلاثة التي رَآها فإنَّها ثلاثةُ أيام يبقَى في السجنِ ، ثم يخرِجهُ الملكُ ويعود في ما كان عليه ، وأما الآخَرُ فيُصلَبُ والسِّلالُ التي رَآها فإنَّها ثلاثةُ أيَّام يبقَى في السجنِ ، ثم يخرجهُ الملك في اليومِ الرابع فيَصلِبَهُ فتأكلُ الطيرُ من رأسهِ.
فقال الخبَّازُ : إنِّي لَمْ أرَ شيئاً ، فقال لَهما يوسفُ : { قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } ؛ أي فَرَغَ من الأمرِ الذي سأَلتُما عليه فهو كائنٌ ، رأيتُما أو لَم تَرَيَا.
(0/0)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } ؛ أي قالَ يوسفُ للذي عَلِمَ أنه ناجٍ منهما ، وهو صاحبُ الشَّراب : اذْكُرِنِي عندَ سيِّدِكَ الملِك أنِّي مظلومٌ ، عَدَا عليَّ أخْوَتِي فبَاعُوني وأنا حرٌّ ، وحُبستُ في السجنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } ؛ أي أنسَى الشيطانُ السَّاقي أنْ يذكُرَ يوسف عندَ الملكِ ؛ أي شَغَلَهُ عن ذلك بما كان يدعوهُ إليه من اشتغالهِ برُكوب سَوْأتِهِ وخدمتهِ للملك. وَقِيْلَ : معناهُ أنسَى الشيطانُ يوسف ذِكْرَ ربهِ حتى التمسَ من النَّاجي منهما أن يذكُرَهُ عند ربه ، وكان مِن حقِّه أن يتوَكَّل على اللهِ في ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ } ؛ والبِضْعُ ما بين الثَّلاث إلى التسعِ.
وفي الخبر : أنه يبقَى في السجنِ بعد هذا القولِ سبعَ سنين. وعن الحسنِ : عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " رَحِمَ اللهُ أخِي يُوسُفَ لَوْ أنَّهُ ذكَرَ رَبَّهُ ، وَلَمْ يَسْتَغِيثْ بالْمَلِكِ لَمْ يَلْبَثْ فِي السِّجْنِ مَا لَبثَ " قال : ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ وَقَالَ : (نَحْنُ إذا نَزَلَ بنَا أمْرٌ فَزِعْنَا إلَى النَّاسِ).
وقالَ مالكُ بن دينار : (لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي : أذْكُرْنِي عِنْدَ رَبكَ ، قِيْلَ لَهُ : يَا يُوسُفُ أتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلاً ، لأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ ، فَبَكَى يُوسُفُ وَقَالَ : يَا رَب أنْسَى قَلْبي كُثْرَةُ الْبَلْوَى).
ويُحكى : أنَّ جبريل عليه السلام دخلَ على يُوسف السجنَ ، فلمَّا رآهُ يوسف عَرَفَهُ وقال : يا أخَا المنذرِين ، ما لِي أراكَ بين الخطائِين ؟ فقالَ له جبريلُ : ربُّكَ يُقرِؤُكَ السلامَ ويقول لكَ : ما استَحيَيتَ منِّي إذِ استشفَعتَ بالآدمِيِّين! فَوَعِزَّتِي لأُلبثَنَّكَ في السجنِ بضعَ سنين ، قال يوسفُ : أهو عنِّي في ذلك راضٍ ؟ قال : نعم ، قال : إذاً لا أبَالِي.
(0/0)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } ؛ رُوي أن يوسفَ مَرِضَ في السجنِ ، فأمرَ اللهُ جبريلَ أن يَعُودَهُ ، فعاده فعرفَهُ لكثرةِ اختلافه إلى آبائهِ ، فقال له جبريلُ : يا طاهرَ بن الطاهرِ ، ربُّ العزَّة يقولُ لكَ : مَنِ حبَّبَكَ إلى أبيكَ من بين إخوتِكَ ؟ قالَ : هو ، قال : فمَن أنقذكَ من أيدِي إخوتِكَ ؟ قالَ : هو ، قال : فمَن سهَّلَ لك السيَّارةَ في الأرضِ القِفْرِ حتى أخرَجوكَ من قعر البئرِ ؟ قال : هو.
ثم نَشَرَ جبريلُ جناحه ، وأشارَ إلى الأرضِ فانفَرَجَت ، قال : يوسفُ انظر ما ترَى ؟ قال : أرَى هو ، ثم أشارَ إلى الأرضِ ثانية فانفَرَجت كهلا حتى نظرَ يوسفُ إلى الصخرةِ التي عليها الأرضُون ، فقال جبريلُ : ما ترَى ؟ قال : صخرةٌ عليها دُرَّةٌ ، قال فما ترَى في فمِ الدُّرَّةِ ؟ قال : أرَى طعاماً ، قال ربُّ العزة يقول لكَ : أنا أذْكُرُ هذه الدرَّة في هذا الموضعِ ثم أنساكَ على وجهِ الأرض ؟ أما استحيَيتَ مني حتى تقولَ لعبدِ مَلِكٍ اذكُرني عندَ ربك ، ولم تقُل يا رب ، فعندَ ذلك قال يوسفُ : يا رب فاسأَلُكَ بمَنَّكَ القديمِ ، وفضلِكَ العميمِ إلاّ غفرتَ لي ، قال : يا سوفُ أغفِرُ لكَ وأخرِجُكَ من السجنِ ، ثم كان من رُؤيا الملكِ ما كان.
ومعنى الآية : أن الملِكَ واسمه زيَّان بن الوليدِ رأى في النومِ سبعَ بقَراتٍ سِمَانٍ خرجنَ من نَهرٍ من أنْهَار مصرَ ، فخرجَ من بعدِهنَّ سبعُ بقَرِاتٍ عِجَافٍ ، فابتلعَ العجافُ السِّمانَ فدخلن في بُطونِهِنَّ ولم يزد منهنَّ شيئاً ، فعَجِبَ منُهنَّ ، ورأى سبعَ سُنبلات خُضْرٍ وسبعَ سُنبلات أخَرَ يابساتٍ ، الْتَوَتِ اليابساتُ على الْخُضْرِ فقَلَبن خُضرَتَهُنَّ ولم يسير عليهن شيءٌ منهن.
فأرسلَ الملِكُ في هذه الرُّؤيا إلى السَّحَرةِ والكَهَنة ، فجمَعَهم ثم قصَّ عليهم ذلك وقال لهم : { ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ * قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ } ؛ أي قالتِ الكهننةُ والسَّحرة : هذه الرُّؤيا أباطيلُ الأحلامِ كاذبَةٌ ، وما نحنُ بتأويلِ الإحلامِ المختلفة بعالِمين ، ليس لها عندنا تأويلٌ.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } ؛ قالَ صاحبُ الشَّراب الذي نَجَا من السِّجنِ والقتل وتذكَّر بعد سِنين ، ويقالُ : هذا بعدَ انقراضِ أُمَّة ، والأُمَّة في اللغة هي المدَّة الكثيرةُ كما أنَّها في الجماعةِ الجماعةُ الكثيرة. ومَن قرأ (بَعْدَ أُمَّةٍ) فمعناهُ : بعدَ نسيانٍ.
وقولهُ تعالى : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ } قولُ صاحب الشَّراب لَمَّا عجزَ الكهنةُ عن تأويلِ رُؤيا الملكِ ، جاءَ ووقفَ بين يديه فخاطبَهُ بلفظِ الجماعة كما يخاطَبُ الملكُ ، وقال : أنا أخبرُكم بتعبيرِ هذه الرُّؤيا ، فأَرسِلُون إلى السِّجن. ثم قالَ : إنَّما كنتُ عصَيتُ فحبَستَني أنا وخبَّازُكَ ، فرَأينا فيها رُؤْيا فقصَصْنَاها على رجُلٍ في السجنِ عالِمٍ صالح صادقٍ ، فأخبَرَنا بها فكان كما أخبرَ ، فأرسِلُون إليه. فأرسلوهُ فدخلَ السجنَ وقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ } ؛ وحذفَ كلمةَ النداءِ اختصاراً ، والصِّدِّيقُ : الذي يَجرِي على عاداتهِ في الصِّدق والتصديق بالحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ } ؛ خرَجْنَ من نَهر بيتٍ تبعَهُنَّ { يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ } ؛ بقراتٍ ، { عِجَافٌ } ؛ هالِكات من الهزالِ ، وفي { وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } ؛ التَوَينَ على الْخُضْرِ وغَلَبْنَ خُضرَتَهن. قولهُ تعالى : { لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } ؛ أي لإِنَّ أرجِعَ بتأويلِ ذلك إلى الملِك والناسُ يعملونَهُ.
فقال له يوسفُ : أما سبعُ بقراتٍ سِمَانٍ فهي سبعُ سنين خَصْبَةٍ ، وأما سبعُ بقرات عِجَافٍ فهي السُّنون السَّبع الْجَدْبَةِ ، وأما سبعُ سُنبلات يابساتٍ فهو القحطُ والغَلاءُ في السِّنين الجدبَة ، ثم عَلَّمَهُ يوسفُ عليه السلام كيف يصنَعون ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } ؛ أي على ما هو عادتُكم في الزراعةِ ، وَقِيْلَ : معنى قوله { دَأَباً } بجِدٍّ واجتهادٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ } ؛ أي فما حصَدتُم من الزَّرعِ ، فاتركوهُ في سُنبُلِهِ ولا تدرسوهُ ، { إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } ؛ مِن ذلك في كلِّ سَنة ، وإنما أمَرَهم بهذا ؛ لأن الحنطةَ إذا كانت في سُنبلها كانت أبقَى منها اذا دُرسَتْ ، فإنَّها إذا دُرست تآكَلَت ، وفَسَدت بمُضِيِّ المدَّة عليها.
(0/0)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ } ؛ أي قَحْطَةٌ ضيِّقةٌ على الناسِ ، تأكلون فيها ما ادَّخَرتُم من زُروعِ السِّنين الخصبَة ، { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } ؛ إلا شيئاً قليلاً تُحصِنُونَهُ في موضعٍ من المواضع ، ونسبَ الأكلَ إلى السِّنين القحطِ على التوسُّع ؛ لأن الأكلَ كان يقعُ فيها.
(0/0)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } هذا خبرٌ من يوسف عليه السلام عما لم يكن في رُؤيا الملِك ، ولكنه من علمِ الغيب الذي آتَاهُ الله إياه ، كما قال قتادةُ : (زَادَهُ اللهُ عِلْماً سَنَةً لَمْ يَسْأَلُوهُ عَنْهَا).
والمعنى : أنَّ يوسف عليه السلام قالَ له : ثم يأتِي من بعدِ هذه السنين الأربعَةَ عشرةَ ، سنةٌ فيها يغالُ الناس. يجوز أن يكون هذا من الغَوْثِ ؛ أي يُغِيثُ اللهَ في تلك السَّنة عبادَهُ فتزَكُوا فيها زرُوعَهم وفَواكههم وأعنَابُهم. ويجوز أن يكون من الغَيْثِ وهو المطرُ ؛ أي آتَاهُم اللهُ بالأمطارِ والخصب في تلك السَّنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } قرأ أهلُ الكوفة إلاَّ عَاصِماً بالتَّاء ؛ لأن الكلامَ كلَّه خطابٌ ، وقرأ الباقون بالياءِ ردَّهُ إلى الناسِ ، قال أكثرُ المفسِّرين : يَعْصِرُونَ العِنَبَ خَمْراً ، والزيتونَ زَيْتاً ، والسمسُمَ دُهناً ، وهنا أراد يعصِرون الأعنابَ والأثمارَ والحبوب من كثرةِ الغيثِ والخير. وَقِيْلَ : معناهُ : يَنْجُونَ من البلاءِ والشدَّة ، والعُصْرَةُ النجاةُ والملجَأُ ، وقال الشاعر : صَادِياً يَسْتَغِيثُ غَيْرَ مُغَاثٍ وَلَقَدْ كَانَ عُصْرَةَ الْمَنْجُودِومَن قرأ (يُعْصَرُونَ) بضمِّ الياء ونصب الصاد ، فمعناهُ يُعْصَرُونَ من قولهِ{ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً }[النبأ : 14].
فلمَّا رجعَ الرسولُ إليه وأخبرَهُ بمقالتهِ ، قالَ الملِكُ : ائْتُونِي به ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ } ؛ قال له : إن الملِكَ يدُعوكَ ، { قَالَ } ؛ له يوسفُ : { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } ؛ سيِّدِكَ الملكِ ، { فَاسْأَلْهُ } ؛ حتى يسألَ ، { مَا بَالُ } ، عن شأنِ ، { النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } ؛ أكُنَّ صادقاتٍ على يُوسُفَ أم كاذباتٍ عيه ، وليعلمَ صحَّةَ بَراءَتِي ، وأنِّي مظلومٌ بالحبسِ ، وأبَى أن يخرُجَ مع الرسولِ ، { إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } ؛ وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لَقَدْ عَجِبْتُ مِنْ صَبْرِ أخِي يُوسُفَ وَكَرَمِهِ ، وَلَوْ كُنْتُ أنَا الَّذِي دُعِيتُ إلَى الْخُرُوجِ لَبَادَرْتُهُمْ إلَى الْبَاب ، وَلَكِنَّهُ أحَبَّ أنْ يَكُونَ لَهُ الْعُذْرُ ".
(0/0)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } ؛ فيه إضمارٌ ، تقديرُ الكلامِ : فرجعَ الرسولُ إلى الملِك فأعلمهُ بذلكَ ، فأرسلَ الملكُ إلى النسوةِ فأحضرَهنَّ ، ثم قالَ لهن : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي ما شأنُكن إذا طلبتُنَّ يوسف عن نفسهِ ، { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ } ؛ هذا جوابُ النسوةِ للملك بكملة التَّنْزِيهِ ، نزَّهنَ يوسفَ عن ما اتُّهِمَ بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } ؛ أي من قبيحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ } ؛ أي تَبَيَّنَ وظهرَ الحقُّ ليوسف ، { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ } ؛ أي دعوتهُ إلى نفسي ، { وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ في قولهِ إنه لَمْ يُراوِدْنِي.
قال ابنُ عبَّاس : (فَرَجَعَ صَاحِبُ الشَّرَاب إلَى يُوسُفَ فَأَخْبَرَهُ بذلِكَ ، فَقَالَ يُوسُفَ : { ذلِكَ } ، الَّذِي فَعَلْتُ مِنْ رَدِّي رَسُولَ الْمَلِكِ إلَيْهِ فِي شَأْنِ النِّسْوَةِ) { لِيَعْلَمَ } العزيزُ ، { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } في زوجتهِ في حال غَيْبَتهِ عنِّي.
قال أهلُ الوعظ : فقال جبريلُ : بل ولاَ هَمَمْتَ بها ، فقال يوسفُ : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِي } ؛ فإن صحَّت هذه الروايةُ كان المعنى : وما أُبَرِّئُ نفسسي من الْهَمِّ ؛ أي ما أُزَكِّيها ، وتزكيةُ النفسِ مما يُذمُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ } ؛ أي بالقبيحِ ، وذلك لكثرةِ ما تَشتَهيهِ وتسارعُ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي } ؛ أي إلا ما عَصَمني ربي بلُطفِه ، و(ما) بمعنى (من) ، كقولهِ{ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ }[النساء : 3] ، وفي هذا دليلٌ أنَّ أحداً لا يمتنعُ من المعصيةِ إلا بعصمةِ الله ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي غفورٌ لذنوب المذنِبين ، رحيمٌ بهم بعد التوبةِ.
(0/0)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } ؛ إي قالَ الملكُ : ائتُونِي بيوسُفَ أجعلْهُ خَالصاً لنفسِي أرجعُ إليه في تدبيرِ مملكَتي ، وأعملُ على إشارته ، فلما جاءَهُ الرسولُ قال : أجِب الملكَ ، قال : الآنَ.
فخرجَ يوسفُ ، { فَلَمَّا } ؛ دخلَ على الملكِ ، { كَلَّمَهُ } ، قال : اللَّهُمَّ إنِّي أسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَعُوذ بكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ ، ثم سَلَّمَ عليه يوسف بالعربيَّة ، فقالَ له : وما هذا اللسانُ ؟ قال : لسانُ عَمِّي إسماعيل ، ثم دعَا له بالعبرانيَّة ، فقال له : وما هذا اللسانُ ؟ قال : لسانُ آبَائِي. فأُعجِبَ الملكُ ما رأى منه.
وكان يوسفُ يومئذٍِ ابنُ ثلاثين سَنة ، فلما رأى الملك حَدَاثَةَ سِنِّهِ قال لِمَن عندَهُ : إنَّ هذا عَلِمَ تأويلَ رُؤيَايَ ، ولَم تَعْلَمْهُ السحرةُ ولا الكهنة ، ثم أجلسَهُ وقال له : إنِّي أحبُّ أن أسمعَ تأويلَ رُؤيَايَ شِفَاهاً منك.
قال : أيُّها الملكُ ، رأيتَ سبعَ بقراتٍ سِمَانٍ حِسَانٍ كشفَ لكَ عنهُنَّ النيلُ ، خرجنَ عليكَ من شاطئهِ ، فبينما أنتَ تنظرُ إليهن ، ويُعجِبُكَ حُسْنُهُنَّ إذ نَضَبَ النيلُ وغَارَ ماؤهُ ، فخرجَ من حَمْأَتِهِ وَوَجَلِهِ سبعُ بقراتٍ عِجَافٍ شُعْثٍ غيرِ مقلصات البُطون ، ليس لهن ضُروعٌ ولهن أضراسُ وأنياب وأكُفٌّ كَأَكُفِّ الكلاب ، فاختطَفن بالسِّمانِ فافتَرسُوهنَّ افتراسَ السَّبُعِ ، فأكلنَ لُحومَهن ومزَّقْنَ جُلودَهن ومَشْمَشَنَ مُخَّهُنَّ وحطَّمن عِظَامَهُنَّ.
فبَينا أنتَ تتعجَّبُ إذ بسبعِ سنبلات خُضْرٍ وسبع آُخر سُود في منبتٍ واحد وأصولُهن في الماءِ ، إذ هبَّت ريحٌ فجعلت اليابساتِ السودِ على الْخُضْرِ المثمِرات ، فأشعَلَت فيهن النارَ فأحرقتهن ، فهذا ما رأيتَ من الرُّؤيا. فقال الملكُ : واللهِ إن هذه الرؤيا وإنْ كانت عَجَباً ، فإن الذي سمعتُ منك أعجَبُ ، فما ترَى فيها ؟ فقال تَأْويلُها كذا وكذا كما قد تقدَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } ؛ أي قالَ له الملكُ : إنَّك اليومَ لدينا مُتَمَكِّنٌ من فعلِ ما تريدُ ، نافذُ القولِ والأمرِ ، قد ظهَرت أمَانَتُكَ ، وظهرَ كَذِبُ النساءِ عليكَ ، ولم تظهرْ منكَ خيانةٌ.
(0/0)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } ؛ أي قال يوسفُ : اجعَلنِي على خزائنِ أرضِكَ ، واجعَلْ تدبيرَها إلَيَّ ، وأرادَ بذلك الخزائنَ التي يُجمع فيها طعامُ الأرضِ وأموالُها التي كان مصيرُها إلى الملكِ ، وكانت أرضُ مصر أربعين فَرسخاً في أربعين فرسخاً. وإنما قال يوسف ذلك لصلاحِ الْخَلْقِ ؛ لأن الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ بُعِثُوا لإقامةِ العدلِ ووضعِ الأشياء مواضِعَها ، فعَلِمَ يوسف أنه لا أحدَ أقْوَمُ بذلك منهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } أي حافظٌ للخزائنِ ، عالِمٌ بوَضعِها مواضعها ، وَقِيْلَ : لجميعِ ألْسُنِ الغرباء الذين يأتونَك ، فإنه كان يتكلَّمُ بالعربيِّ والعبرانِي والسريانِي والقِبْطي.
وقيل عالِمٌ بساعات حاجاتِ الناس ، وذلك أنْ أمَرَ الخبَّازين أن يجعلوا غداءَ الملكِ نصفَ النهارِ ، فمَن ثمَّ جعلَ الملوكُ غداءَهم نصفَ النهار ، فلما كانت الليلةُ التي وقعَ فيها الجوعُ أوَّل السنين الْجَدْبَةِ ، أمَرَ الخبَّازين أن يجعلُوا غَدَاءَهُ مع عشَائهِ ففعلوا ، فوقَعَ الجوعُ فِي نصفِ الليل ، فهتفَ الملكُ : يا يوسفُ الجوعَ الجوعَ ، فقرَّب إليه طعامَهُ. وفي الآية دليلٌ على أنه لا يجوزُ للإِنسان أن يمدحَ نفسه بالأفضلِ عند مَن لا يعرفهُ ، وأنَّ المرادَ بقولهِ تعالى : { فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ }[النجم : 32] النهيُ من تزكيةِ النفس للفَخْرِ والسُّمعة.
(0/0)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } ؛ أي كما برَّأنا سَاحَتَهُ وخلَّصانهُ من الحبسِ ، كذلك مَكَّنَا له في أرضِ مصر { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا } أي يَنْزِلُ بها حيثُ يشاء ، { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ }.
ورُوي أن الملكَ تَوَّجَهُ وأعطاهُ سَيْفَهُ ووضعَ له سَريراً من ذهبٍ مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوتِ ، ثم أمرَ بأن يجلسَ عليه ، فجلسَ ولَزِمَ الملكُ بيته وفوَّضَ إليه كلَّ أمُورهِ ، وذلَّت له سائرُ الملوكِ ، فلَطَفَ يوسفُ بالناسِ وأقامَ فيهم العدلَ وأخذ يدعوهم إلى الإسلامِ ، فأحبَّهُ الناسُ كلهم وآمَنَ كثيرٌ منهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ على إحسانِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي ولَثَوابُ الآخرةِ خيرٌ من ثواب الدُّنيا للذين آمَنُوا بالله وكتُبهِ ، { وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ؛ الكفرَ والفواحشَ.
(0/0)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ } ؛ وهم عشرةٌ ، جَاؤُا من بعدِ أبيهم في سِنِيِّ القحطِ لطلب الطعام كما يجيءُ غيرهم ، فدخَلُوا عليه وكلَّموهُ بالعبرانية ، وعليه ثيابُ حريرٍ وطَوْقُ ذهَبٍ ، وهو جالسٌ على سريرِ مُلكهِ ، { فَعَرَفَهُمْ } ؛ أنَّهم إخوَتهُ ، { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } ، وكانوا لا يعرفونَهُ لطُولِ العهدِ ؛ لأنَّهم كانوا رَأوْهُ صَغيراً ، ولم يظُنُّوا أنه مَلِكاً ، فأَمَرَهُمْ وأحسنَ إليهم ، وفاوضَهم في الحديثِ حتى حدَّثوهُ بحديث أبيهم ، وقالوا : إنَّ لنا أباً شَيخاً كبيراً وكُنا اثني عشرَ ، فهلكَ واحدٌ منَّا في الغنَمِ ووجدنا قميصَهُ وعليه دمٌ فأتَينا به أبَانَا ، ولهُ أخٌ وهو آثرُ إلى أبينَا مِنَّا.
(0/0)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ } ؛ لهم : { ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } ؛ أي لمََّا أعطاهم الْمِيرَةَ وكالَ لهم كَيلَهم ، قال لَهم : { ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ } { أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ } ؛ أعطِي الناسَ حُقوقَهم على التمامِ ، { وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } ؛ للأُمور منَازلُها ، { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ } ؛ مرَّة أُخرى.
(0/0)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
قولهُ : { قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ } ؛ أي قالُوا : سَنَطْلُبهُ من أبيهِ ، { وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } ؛ أين سنَجِيء به ، وخافَ يوسفُ أن لا يكون عند أبيهم من الرِّزقِ ما يرجِعُون به إليه مرَّة أُخرى.
فأمَرَ أن يجعلَ درَاهِمَهم في أوعِيَتهم من غيرِ علمٍ لَهم ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ } ؛ أي قالَ يوسفُ لِخُدَّامِهِ مِن مماليكهِ : اجعَلُوا دَراهِمَهم ودنانِيرَهم التي جَاؤُا بها في رحالِهم ، { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ } ، لكي يعرِفُوا هذه الكرامةَ مِنِّي. ويقال : كي يعرِفُوا أنَّها دَرَاهِمي ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، فيرجِعُوها فيردُّها عَلَيَّ.
(0/0)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ } ؛ في المستقبلِ إن لم تُرسِلْ معنا بنيامين ، { فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ } ؛ لنَا ولَهُ. ومن قرأ (يَكْتَلْ) بالياء أخُونَا ، يأخذ لنفسهِ حِمْلاً ، { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ؛ حتى نَرُدَّهُ عليكَ. { قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ } ؛ يوسُفَ ، { مِن قَبْلُ } ؛ فضيَّعتموهُ وغيَّبتموهُ عني ، ولئن أرسلتُ معكم بنيامين ، { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً } ، أي فعلَى اللهِ أتوكَّلُ ، فإنَّ حِفْظَ اللهِ خيرٌ من حفظِكم. ومن قرأ (حَافِظٍ) أي خيرُ حافظٍ ، وكُلاًّ نُصب على التمييزِ ، { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }. قال كعبٌ : (لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ : واللهُ خَيْرٌ حَافِظاً ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : وَعَزَّتي لأَرُدَّنَّ عَلَيْكَ كِلاَهُمَا بَعْدَ مَا تَوَكَّلْتَ عَلَيَّ).
(0/0)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ } ؛ أي لما فتَحُوا أوعِيَتهم وجدوا دارهِمهم رُدَّتْ إليهم ، { قَالُواْ } ؛ لأَبيهم : { ياأَبَانَا مَا نَبْغِي } ؛ أي ما نظلِمُ ولا نكذبُ في ما أخبَرنَاكَ به أنَّ مَلِكَ مصرَ أكرَمَنا وألطفنا ، وهذا إذا كان قولهُ : { مَا نَبْغِي } من البغيِ ، فأما إذا كان من الطلب ، فمعناهُ الاستفهامُ دون الجحدِ ، وموضع (مَا) نَصْبٌ تقديرهُ أيُّ شيءِ نريدُ ، وفي قراءةِ عائشةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مَا نَبْغِي مَعْنَاهُ مَا نَطْلُبُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } ؛ ابتداءُ كلامٍ معناهُ : درَاهمنا وهي ثمنُ الطعامِ الذي اشتريناهُ بمصرَ رُدَّتْ إلينا ، وقولهُ تعالى : { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } ؛ أي نَمْتَارُ لأهلنا ، بقولهِ مَارَ فُلانٌ لأَهْلِهِ إذا حَمَلَ إليهم قُوتَهم من غيرِ بلدةٍ. ومَن قرأ (نُمِيرُ) بضم النون ، أي نجعلهم أصحابَ مِيرَةٍ ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا } ؛ مِن أن يضيعَ ، { وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } ؛ إذا كان هُوَ مَعنا ، وسُمي الْحِمْلُ كَيْلاً ؛ لأنه يُكَالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ } ؛ أي هَيِّنٌ سريع لا حَبْسَ فيه إنْ أرسَلتَهُ معَنا.
(0/0)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ } ؛ لهم يعقوبُ : { لَنْ أُرْسِلَهُ } ؛ بنيامين ، { مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً } ؛ أي تُعطونِي عَهْداً وثيقاً ، { مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ } ؛ لتَرُدُّنَّهُ عليَّ ، { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } ، يُنْزِلُ بكُم أمِينُ السَّماءِ والأرض لا تَقدِرُون على دفعِ ذلك ، { فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } ؛ أي لما حَلَفوا ، { قَالَ } ؛ لَهم يعقوبُ : { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } ؛ أي شهيدٌ حفيظ.
(0/0)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ يابَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } قال ابنُ عبَّاس : (خَافَ يَعْقُوبُ عَلَى بَنِيهِ الْعَيْنَ لِجَمَالِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ ، وَكُلُّهُمْ بَنُو أبٍ وَاحِدٍ). ثم رجعَ إلى علمهِ ، { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } ؛ أي ما القضاءُ إلا اللهِ ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ؛ إليهِ فوَّضتُ أمرِي وأمْرَكم مع التمسُّك بطاعتهِ والرضا بقضائهِ ، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }.
واختلفَ العلماءُ في أمرِ العَيْنِ ، فقالَ بعضُهم : هي حَقٌّ ، واستدَلُّوا بما " رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَوَّذ الْحَسَنَ وَالْحَسَيْنَ وَرَقَّى لَهُمَا مِنَ الْعَيْنِ وَقَالَ " وَأُعِيذُكُمَا باللهِ مِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ " ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَالْعَيْنُ حَقٌّ ". وقال بعضُهم : إنه يَمْتَدُّ من عينِ الناظر أجزاء ، فتتصلُ بما يَسْتَحسِنهُ فتؤثِّرُ فيه كتأثيرِ اللَّسْعِ من النارِ والسُّمِّ.
وأنكرَ بعضُ العلماءِ الإصابةَ بالعينِ ؛ لأنه لا شُبهةَ في أنَّ الأمراضَ والأسقامَ لا تكون إلا مِن فعلِ اللهِ ؛ لأن الإنسانَ لا يقدرُ على ذلكَ. وفي قولهِ : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } بيانُ أنه لا ينفعُ حَذرٌ مِنْ قَدَرٍ.
(0/0)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم } ؛ أي لَمَّا دخَلُوا مصرَ من أبوابٍ متفرِّقةٍ ، وكان لمصرَ أربعةُ أبوابٍ ، فدخَلُوها من أبوابها كلِّها كما أمَرَهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ } ؛ أي ما كان يُغنِي يدفعُ عنهم شَيئاً من قضاءِ الله ، يعني : لو قَدَّرَ اللهُ أن تُصِيبَهم العينُ لأصَابَتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } ؛ وهي دخولُهم مصرَ من أبوابٍ متفرِّقة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } ؛ أي إن يعقوبَ لَذُو يَقينٍ ومعرفةٍ بالله وبأمر الدِّين لتَعلِيمِنَا إياهُ أن لا يصيبَ أحداً شيءٌ إلا بقضاءِ الله ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ ذلكَ.
(0/0)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } ؛ أي ضَمَّ أخاهُ بنيامين إلى نفسهِ ، وَقِيْلَ : أذِنَ له بالدُّخولِ عليه ، وجَلَسَ إخوتهُ بالباب ، فلما دخلَ عليه قالَ : ما اسْمُكَ ؟ قال : بنيَامِينَ ، قال : مَا اسمُ أُمِّكَ ؟ قال : رَاحِيل ، قال : فهَلْ لَكَ والدٌ ؟ قالَ : نَعَمْ ، قالَ : هل لك إخوةٌ من أبيكَ ؟ قالَ : عشرةٌ ، فقال : هل لكَ أخٌ من أُمِّكَ ؟ قال : كانَ لِي أخٌ من أُمِّي هَلَكَ ، قال : أُحِبُّ أنْ أكونَ أخاكَ بدلَ أخِيكَ الهالِكَ ؟ فقال : أيُّها الملِكُ ومَن يجدُ أخاً مثلكَ ؟ لكن لَمْ يَلِدْكَ يعقوبَ ولا راحيلُ.
فخَنقَتْ يوسفُ العبرةَ ، فبَكَى ثم وثبَ إليه فَاعتنَقَهُ ، و { قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ } ؛ وبكَى كلُّ واحدٍ منهما ، ثم أعلَمَهُ يوسف أنه سَيحتَالُ في إحباسهِ عنده ، ثم أذِنَ لإخوتهِ بعدَ ذلك في الدُّخولِ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي لا تَحْزَنْ بما كانوا يعمَلون بي وبكَ مِن حَسدِنَا ، وصَرْفِ وجهِ أبينَا عنَّا. فقد جمعَ اللهُ بيني وبينكَ ، وأرجُو أن يجمعَ اللهَ بيننا وبين يعقوب ، ثم أوْفَى يوسفُ لإخوتهِ الكيلَ.
(0/0)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } ؛ أي فلمَّا كَالَ لَهم ، أمَرَ أصحابَهُ المختصِّين به أن يجعَلُوا الصاعَ في رَحْلِ أخيهِ بنيامين ، وسُمِّيَ الصاعُ سقايةً ؛ لأنه كان قبلَ ذلك مما يَسْتَقِي به الملِكُ الخمرَ وكان من ذهبٍ. وقال ابنُ عبَّاس : (كَانَ قَدَحاً مِنْ زُبُرْجَدٍ). وَقِيْلَ : كان من فضَّةٍ مُمَّوَّهٍ بالذهَب ، وكان الشُّربُ في مثلِ ذلك الإناء جَائزاً في شَريعَتِهم ، فلما كان في أيَّام القحطِ أمَرَ الملِكُ أن يُكالَ به الطعامُ للناسِ.
قِيْلَ : فلمَّا قال يوسفُ لبنيامين : إنِّي أنا أخُوكَ ، قال لهُ : فإنِّي لا أُفارِقُكَ أبداً ، قال يوسفُ : قد علمتُ اغتِمامُ وَالِدي لي ، فأخافُ إنْ حبَستُكَ معي ازدادَ غَمُّهُ ، ثم لا يُمكِنُني حَبُسُكَ إلاَّ أُشَهِّرَكَ بأمرٍ فظيع ، قال : لاَ أُباليِ فافعَلْ ما شئتَ.
قال : فإنِّي أدُسُّ صَاعِي هذا في رَحلِكَ ، ثم أُنادِي عليكَ بالسَّرقة ليَتهَيَّأَ لِي حَبسُكَ معي ، { ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ } ، أي فلما رَحَلت إخوةُ يوسفَ نادَى مُنَادٍ : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ؛ وكان النداءُ على ظنٍّ مِن هؤلاءٍ الموَكَّلِين بالصاع أنَّهم كذلكَ.
ولم يكن هذا النداءُ بأمر يُوسف ولا يعلمهُ ؛ لأن الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يَأْمُرُونَ بالكذب ، ومَن قالَ : إنَّ هذا النداءَ كان بأمرِ يُوسُفَ ، فيحتملُ أنْ يكون معناهُ : إنَّكم لسَارِقُونَ يُوسُفَ على أبيهِ حين غيَّبتموهُ عنه. والعِيرُ اسمٌ لقافلةِ الْحَمِيرِ دُون قافلةِ الإبل ، ثم كَثُرَ استعمالهُ في كلِّ قافلةٍ.
(0/0)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ؛ أي قالَتْ إخوةُ يوسُفَ وَأقبَلُوا على المنادِي وأصحابهِ : ماذا تَطلبُون أتَنسِبُونا إلى السَّرقَةِ ، { قَالُواْ نَفْقِدُ } ؛ أي نَطْلُبُ ، { صُوَاعَ الْمَلِكِ } ؛ والصُّوَاعُ والصَّاعُ واحدٌ وهو والسِّقايَةُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } ؛ من الطَّعامِ ، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } ؛ أي كَفِيلٌ ، قالَ هذا القولَ المؤَذِّنُ ، وقال لَهم أيضاً : إنَّ الملِكَ قَدِ اتَّهَمَنِي ، وأخافُ عقوبتَهُ وسقوطَ مَنْزلَتي عندَهُ إنْ لم أجدِ الصَّاعَ.
(0/0)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي حلَفُوه باللهِ وقالوا : لقد عَلِمتُم ما جِئْنَا لنُفسِدَ في أرضِ مِصْرَ بالسَّرقة من الناسِ ، { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } ؛ ما تَظُنَّونَهُ.
(0/0)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } ؛ أي ما جزاءُ مَنْ سَرَقَ إنْ كنتم كَاذِبين ، { قَالُواْ جَزَآؤُهُ } السارقُ ، { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } أُخِذ عَبداً لسَرِقته ، { فَهُوَ جَزَاؤُهُ } استِرقاقهُ ، { كَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } أي هكَذا جزاءُ السَّارقين في أرضِنا وهي سُنَّةُ يعقوبَ عليه السلام ، حَكَمُوا على أنفُسِهم بما كان يطلبُ يوسُفَ من احتباسِ أخيه.
(0/0)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ } ، أي فبدأ يوسفُ بتفتيشِ أوعِيَتهم قبلَ وعاءِ أخيه ، { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } ؛ فلَمَّا فتَّشَ وعاءَ أخيهِ وجدَ الصَّاعَ ، فلما رأى أخوةَ يوسُفَ ذلك ، تحيَّرُوا ونَكَّسُوا رُؤوسَهم ، وقالوا لبنيامين : يَا ابْنَ المشؤومةِ وأخُوا المشؤومِ! ما الذِي حَمَلَكَ على أن تسرُقَ صُواعَ الملكِ فتَفضَحَنا وتُزْري بأَبيكَ يعقوبَ ، فجعلَ يحلِفُ باللهِ ما سرقتهُ ولا عِلْمَ لِي بمن وضعَهُ.
فلم يقبَلُوا منهُ وقالوا له : فمَن وضعَهُ في متَاعِكَ ؟ قال : الذي وضعَ بضاعَتَكم في رحالِكم في المرَّة الأُولى ، فقالُوا فيما بينهم : لعلَّ هذا الملكُ يريد بنَا أمراً ، فبينما هُم في الخصومةِ إذ أقبلَ فتى يُوسف فأخذ برَقبَةِ بنيامينَ وذهبَ به إليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } كذلك ضَنَعنا ليوسُفَ حتى أخذ أخاهُ ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ يوسُفَ كان مأْذُوناً له من جهةِ الله في هذه الحيلةِ ليُضَاعِفَ الثوابَ ليعقوبَ على فَقدِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ } { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } ؛ أي ما كان ليأخُذ أخاهُ في قضاءِ الملك ، لأن من حُكمِ الملكِ في السَّارق أن يُضْرَبَ ويَغْرَمَ ضِعْفَي ما سَرَقَ ، فلم يكن يوسفُ يتمكَّنُ من حبسِ أخيه عندَهُ في حُكمِ الملكِ لولا ما كادَ اللهُ له تلطُّفاً حتى وجدَ السبيلَ في ذلك ، وهو ما جرَى عليه ألسِنَةُ إخوتهِ أنَّ جزاءَ السارقِ الاسترقاقُ ، فأمِرُوا به وكان ذلك مُراده ، وهو معنى قولهِ { إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } وكان ذلك بمشئةِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } ؛ أي في العلمِ كما رفَعنا درجةَ يوسف ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } ؛ أي فوقَ كلِّ عالِم عالِمٌ حتى ينتهِي العلمُ إلى اللهِ.
(0/0)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } ؛ لأبيهِ وأُمِّه ، { مِن قَبْلُ } ؛ أي قالَ أخوةُ يوسف : إنْ يسرِقْ بنيامينُ سقايةَ الملكِ { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } يَعْنُونَ يوسف ، وذلك أنَّ عمَّةَ يوسف كانت تُحِبُّهُ وهو صغيرٌ ، وكان يعقوبُ لا يتركهُ عندَها ، فاحتَالَتْ وجاءَتْ بمِنْطَقَةِ أبيها إسحقَ فشَدَّتْها على وسط يوسُفَ تحتَ القميصِ ، ثم قالت : فقد سَرَقَ مِنْطَقَةَ أبي فأنا آخذهُ بذلكَ. فهي التي أرادَ إخوتهُ بإضافتِهم السرقةَ إليه.
وعن مجاهدٍ : (أنَّ يُوسُفَ جَاءَهُ سَائِلٌ يَوْماً ، فَسَرَقَ بَيْضَةً مِنَ الْبَيْتِ فَنَاوَلَهُ إيَّاهَا ، فَعَيَّرُوهُ بذلِكَ). وَقِيْلَ : كان يُخَبىءُ الطعامَ من المائدةِ للفُقراء ، وَقِيْلَ : جاءَ سائلٌ ولم يكن في المنْزِل معه أحدٌ ، فأعطاهُ جَدْياً من غيرِ أمرِ أبيه فهذه سرَقتهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ } ؛ أي أخَّرَ هذه الكلمةَ في نفسهِ ، ولم يُظهِرْ لَهم جَواباً ، بل { قَالَ } ؛ في نفسهِ : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ؛ أي صُنعاً من يوسُف بما قدَّمتُم عليه من ظُلْمِ أخيكم وعُقوقِ أبيكُم ، { وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } ؛ به يُوسُفَ.
(0/0)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } ؛ رُوي أنَّ يَهُودَا كان أشدَّ بني يعقوبَ غَضباً ، وكان إذا غَضِبَ صاحَ فلا تسمَعُ صوتهُ حَامِلٌ إلاَّ وضَعَتْ ، وكان إذا غَضِبَ تقومُ كلُّ شعرةٍ من جسدهِ وتنتفخُ ، فلا يسكنُ غضبهُ حتى يَمَسَّهُ واحدٌ من آلِ يعقوب.
فقال يَهُودا لبعضِ أخوَتهِ : انظرُوا كَمْ سُوقاً بمصْرَ ؟ فنَظَروا فإذا هي عشرةٌ ، فقالَ لأخوته : اكفوني مِن هذه الأسواقِ حتى أكفِيكُمْ من الملكِ ، ثم قالَ : تباعَدُوا منِّي ، فأمرَ يوسفُ ابناً له صَغيراً ، فقال : اذهَبْ فمُسَّ ذلك الرجلُ ، فدَنَا منه فمَسَّهُ فذهبَ غضبهُ ، ثم هَمَّ أن يصبحَ ثانيةً ، فقامَ إليه يوسفُ فَرَكَضَهُ برجلهِ ليُرِيَهُ أنه شديدٌ ، ودفعَهُ ثم أخذ بتَلاَبيبهِ فجَذبَهُ فوقعَ في الأرضِ. ثُم قال : إنَّكم تَرونَ مَعْشَر العبرانيِّين أنَّ أحداً ليس مِثلَكم في الشدَّة.
فقال يَهُودَا لإخوتهِ : هل مَسَّني أحدٌ من آل يعقوبَ ؟ قالوا : لاَ ، وذلَّ يهودا عند ذلكَ ، وقال : أيُّها العزيزُ إنَّ له أباً شَيخاً كبيراً في السنِّ ، فذكَروا هذا على جهةِ الاستِرحَامِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : كبيرَ القَدْر لا يحسبن ، أين مِثْلهُ ؟ فخُذْ أحدَنا مكانه عَبداً. وَقِيْلَ : وفي هذه دليلٌ أنه كان يجوزُ لإنسان أن يُرِقَّ نفسه لغيرهِ ، وقد نُسِخَ هذا بشريةِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ إلى كُلِّ مَن يأتيكَ وقد أوفَيتَ لنا الكيلَ ، ورَدَدتَّ علينا بضَاعَتنا وقضَيتَ حاجَتنا ، فإنْ رَدَدْتَّ معَنا أخانا كان أعظمَ مِنَّةٍ علينا مِن جميعِ ما سبقَ.
(0/0)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ } ؛ يوسفُ : { مَعَاذَ اللَّهِ } ؛ وهذا نُصِبَ على المصدرِ ؛ أي أعودُ باللهِ ، { أَن نَّأْخُذَ } ؛ أي أن آخُذ بالسَّرقة ، { إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } ؛ إذا فَعَلنا ذلك كُنَّا ظَالِمين ، نحبسُ مَن لم نجِدْ متَاعَنا عندَهُ. يجوزُ أن يكون أرادَ إنَّا ، { إِنَّـآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } ، عندكم وفي حكمكم.
(0/0)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً } ؛ أي لَمَّا يَئِسوا من يوسُفَ أن يَرُدَّ أخَاهم عليهم انفَرَدُوا مُتناجِينَ فيما بينهم يتشاوَرُون كيفَ يرجِعُون إلى أبيهم وماذا يقُولون له. والتَّنَجِّي مصدرٌ يُعَبرُ بهِ عن الواحدِ والجميع ، وقد يُجْمَعُ النَّجِيُّ أنْجِيَةً ، قال الشاعرُ : إنِّى إذا مَا الْقَوْمُ صَارُواْ أنْجِيَهْ وَاخْتَلَفَتْ أعْنَاقَهُمْ الأَرْشِيَهْهُنَاكَ أُوْصِي وَلاَ يُوصَى بيَهْ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي قالَ لهم رُبيل وهو أكبرُهم في السنِّ : ألَمْ تعلَمُوا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم عَهْداً من اللهِ لَتَرُدُّنَّهُ عليهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ } ؛ أي وتعلَمُون تفرِيطَكم في يوسف ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ } أي أرضَ مصرَ ، { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في البَرَاحِ ، { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } ؛ في موتٍ ، أو وصُولٍ إلى أخِي فأَرُدُّهُ إلى أبيهِ { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } ؛ لا يحكمُ إلا بالحقِّ.
ثُم قالَ لأخوتهِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } ؛ صُوَاعَ الملكِ. وقرأ ابنُ عبَّاس (سُرِّقَ) بضمِّ السين وتشديدِ الراء ، { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } ؛ إخبارٌ عن ظاهر وجودِ الصَّاع في رَحْلِ بنيامين أنه هو الآخذُ له ، { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } ؛ أي ما كُنَّا ندري باطنَ الأمرِ في السَّرقة أنه سَرَقَ أو كُذِبَ عليه.
(0/0)
وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } ؛ أي اسأَلْ مَن شِئْتَ من أهلِ القرية التي كُنَّا فيها وهي مصرَ ، فإنَّ أمرٌ شائع فيهم ، يخبرْكَ به مَن سألتَهُ. وسَمَّى مصرَ قَريةً ؛ لأن العربَ تُسمِّي الأمصارَ والمدائنَ قُرَى. وَقِيْلَ : أرادَ بالقريةِ قريةً من قُرَى مصرَ وهي التي ارتَحَلُوا من مصرَ إليها.
قوله : { وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } ؛ أي واسأَلْ أهلَ القافلةِ التي رجَعنا منهم ، وكان قد صَحِبَهم قومُ كنعان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } ؛ أي لصَادِقُون فيما نقولُ لكَ. فقالَ لَهم يعقوبُ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ؛ أي قالَ : إنَّ ابنيِ لا يسرقُ ، وإنَّما سهَّلَت لكم أنفسُكم أمراً إذا قُلتم فيه سَرَقَ ، فأمرِي صبرٌ جميل لا جَزَعَ فيهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً } ؛ أي بيوسُفَ وبنيامينَ وروبيل ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } ؛ بعبادهِ ، { الْحَكِيمُ } ؛ في تدبيرِ أمرِ خَلْقِهِ.
(0/0)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَلَّى عَنْهُمْ } ؛ أي أعْرَضَ عنهم لشدَّة الحزن ، { وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } ؛ أي أقْبلْ أيُّها الأسَفُ فقد حانتَ وقتُكَ ، والأسَفُ والحزنُ واحدٌ. وَقِيْلَ : الأسَفُ أشدُّ من الحزنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ } ، من شدَّة البُكاءِ وإلاَّ فالحزنُ لا يُبَيِّضُ العينَ ، والدمعُ مما لا يمكن الاحترازُ عنه كما قالَ صلى الله عليه وسلم : " الْقَلْبُ يَحْزَنُ وَالْعَيْنُ تَدْمَعُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُوَ كَظِيمٌ } ؛ أي مُمسِكٌ للحُزنِ يتردَّدُ حزنهُ في جَوفهِ ، وقال عطاءُ : (الْكَظِيمُ الْحَزِينُ) ، وقال الضحَّاك : (كَمِيدٌ) ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَهْمُومٌ) قال مقاتلُ : (لَمْ يُبْصِرْ بعَيْنَيْنِ سِتَّ سِنِينَ حَتَّى كَشَفَهُ اللهُ بقَميصِ يُوسُفَ) ، قِيْلَ : بلغَ من حُزنِ يعقوبَ حزن سَبعين ثكلَى.
(0/0)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ } ؛ أي قالَ أولادُ يعقوبَ : واللهِ لا تزالُ تذكرُ يوسفَ حتى تكون دَنفاً أو تَموت ، والْحَرَضُ الذائِبُ البَالِي. وعن الحسن : (حَتَّى تَكُونَ حُرُضاً) بضَمَّتَيْنِ ، أرَادَ كَالأشْنَانِ الْمَوْقُوفِ. وقال الربيعُ : (الْحَرْضُ يَابسُ الْجِلْدِ عَلَى الْعَظْمِ). وَقِيْلَ : هو الضَّعِيفُ الذي لا حِرَاكَ بهِ.
وإنما أضمرَ (لاَ) في قولهِ (تَفْتَؤُ) لأنَّ العربَ تقولُ : و اللهِ تدخلُ هذا الدارُ ، تريدُ بذلك نفيَ الدخولِ ، فإذا أرادَتْ للإثباتِ قالت : لَتَدْخُلُنَّ.
(0/0)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } ؛ أي قالَ يعقوبُ : إنَّما أشْكُو غَمِّي وحُزْنِي إلى اللهِ. والْبَثُّ : هو تفريقُ الحزنِ الذي لا يكادُ يصبرُ عنه صاحبهُ حتى يَبُثَّهُ.
ورُوي أنَّ رجُلاً قالَ ليعقوب عليه السلام : مَا الذي أذهبَ بصَرَكَ ؟ قال : حُزْنِي على يوسُفَ ، قال : فما الذي قَوَّسَ ظَهرَك ؟ قال : حُزنِي على أخيهِ. فأوحَى اللهُ إليه : يا يعقوبُ أتَشْكُونِي ؟ وعِزَّتِي لا أكشفُ ما بكَ حتى تَدعُوَنِي ، فقال عند ذلك : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } فأوحَى اللهُ إليه : وعِزَّتِي وجَلالِي لو كانَا مَيِّتَينِ لأحيَيتُهما لكَ حتى تنظُرَ إلَيهما.
وَقِيْلَ : إنَّ رجُلاً دخلَ عليه فقالَ له : يا يعقوبُ ما لِي أراكَ قد انْهَشَمْتَ وَفَنَيْتَ ؟ قال : هَشَّمَنِي وَأفْنَانِي ما ابتلانِي اللهُ به من هَمِّ يوسُفَ ، فأوحَى اللهُ إليه : أتَشْكُونِي إلى خَلقِي ؟ فقالَ : يا رب خطيئةٌ أخطَأْتُها فَاغفِرْها لِي ، فقال : قد غفَرتُها لَكَ ، فكان بعدَ ذلك إذا سُئلَ قال : { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ }.
قال وهبُ بن مَنبه : (أوحَى اللهُ إلى يعقوبَ : أتدري لِمَ عاقبتُكَ وحبستُ عنك يوسف ثمانين سنةَ ؟ فقالَ : لاَ ، قال : لأنَّكَ شويتَ وقتَّرْتَ على جارِكَ وأكلتَ ولم تُطعِمْهُ!). ويقالُ : إن سببَ ابتلاءِ يعقوب ، أنه كان له بقرةٌ وكان لها عِجْلٌ ، فذبحَ عِجلَها بين يديها وهي تخورُ ، فلم يَرحَمْها يعقوبُ فأخذهُ الله به وابتلاهُ بفقدِ أعزِّ أولادهِ من وسيطٍ الواحد!
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي أعلمُ أن رُؤيا يوسف صادقةٌ وإنَّا سنسجدُ له. وَقِيْلَ : أعلمُ أن يوسف حيٌّ لم يَمُتْ ؛ لأنه رويَ أن مَلَكَ الموتِ دخلَ على يعقوبَ ، فقال له يعقوبُ : هل قبضتَ روحَ ولَدي يوسف في الأرواحِ ؟ قال : لاَ وستراهُ عاجلاً.
فعندَ ذلك قال يعقوبُ لأولادهِ كما قَالَ اللهُ تََعَالَى : { يابَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ } ؛ أي اذهَبُوا واسْتَخْبرُوا واطلبُوا يوسف وأخاهُ ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : فالْتَمِسُوا يُوسُفَ وَأخَاهُ) ، { وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ } ؛ أي لا تقنَطُوا من فَرَجِ اللهِ ، { إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } ؛ وسُئل ابنُ عبَّاس عن الفرقِ بين التَّحْسِيسِ والتَّجْسِيسِ ، فقالَ : (التَّحَسُّسُ فِي الْخَيْرِ ، وَالتَّجَسُّسُ فِي الشَّرِّ).
ورُوي أن يعقوبَ كتبَ كتاباً إلى عزيزِ مصرَ : بسمِ الله الرَّحمنِ الرحيم : من يعقوبَ بن اسحقَ بن إبراهيم إلى عزيزِ مصرَ ، أمَا فإنَّا أهلُ بيتٍ موَكَّل بنا البلاءُ ، ابتلَى اللهُ جَدِّي بأن طُرِحَ في النار فجعلَها اللهُ عليه بَرْداً وسَلاَماً ، وابتَلَى عمِّي إسماعيلَ بالذبْحِ ، ففداهُ اللهُ بكَبْشٍ عظيمٍ ، وابتلَى أبي بالعمَى ، وابتُلِيتُ أنا بغَيْبَةِ ابنِي يوسُفَ فذهبَ بصَرِي ، وزعمتَ أنَّ ابني سَرَقَ ، وما ولدتُ سَارقاً ، فخَلِّ سبيلَ ابني وإلا فإن اللهَ يفعلُ ما يشاء.
(0/0)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } ؛ رُوي أنَّهم لما دفَعُوا الكتابَ إليه وقرأهُ أرعدَ حتى سقطَ الكتابُ من يدهِ ، ثم انتحبَ انْتحَابَةً كادَ أن يتقطَّعَ منها قلبهُ ، وقال لَهم عند ذلكَ : هل علمتُم ما فعلتم بيوسُفَ وأخيهِ ، وقصَّ عليهم جميعَ ما عمِلوهُ به من إلقائِهم أياهُ في الْجُب ، وبَيعِهم له وقولهم : إنْ يَسرِقْ فقد سرقَ أخٌ له من قبلُ ، وفعلهم بأخيهِ حتى ضارَ ذليلاً فيما بينهم. وأرادَ بقولهِ { إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } جهالةَ الصِّبا ، وَقِيْلَ : أرادَ إذ أنتم شبابٌ أحداث لا تعرِفون أمُورَ الدينِ.
فلما قصَّ عليهم ذلك ، { قَالُواْ أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـاذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ } ؛ بصبرِنا على الشدَّة ، { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } ؛ المعاصيَ ، { وَيَِصْبِرْ } ؛ على الشدائدِ ، { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ } ؛ أي ثوابَ { الْمُحْسِنِينَ }.
(0/0)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } ؛ أي فضَّلَكَ بما أنعمَ عليكَ ، { وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ } ؛ أي وقد كُنَّا عَاصِينَ للهِ في ما فَعَلنا ، وهذا يدلُ على أنَّهم نَدِموا على ما فعلوا.
(0/0)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ؛ أي لا تَعْييرَ عليكم اليومَ ؛ أي لا أذكرُ لكم ذنبَكم بعد هذا اليوم. وقال ابنُ عبَّاس : (لاَ لَوْمَ عَلَيْكُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ؛ بعبادهِ.
(0/0)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي } ؛ أي قالَ لَهم : اذهبوا بقمِيصي هذا فألقوهُ على وجهِ أبي يرجعُ ، { يَأْتِ بَصِيراً } ؛ كما كانَ ، قال الضحَّاك : (كَانَ ذلِكَ الْقَمِيصُ مِنْ نَسْجِ الْجَنَّةِ). وقولهُ تعالى : { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } ، رُوي أنُّهم كانوا نحو سَبعين إنساناً.
وقولهُ تعالى : { وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ } ؛ رُوي أنه لمَّا خَرجت القافلةُ من العريشِ وهي قريةٌ بين مصرَ وكنعان ، بينهم وبين يعقوب ثَمانية أيَّام ، { قَالَ أَبُوهُمْ } ؛ قال يعقوبُ لولدِ وَلَدِه ، وكان أولادُه كلُّهم بمصرَ : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ }. رُوي أن الريحَ حَملت رائحةَ يوسف إلى أبيهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } ؛ تُسَفِّهُونِي في الرأيِ لقُلتُ إنه حيٌّ.
وقال الخليلُ : (الْفَنْدُ إنْكَارُ الْعَقْلِ مِنْ هَرَمٍ ، يُقَالُ شَيْخٌ مُفْنِدٌ ، وَلاَ يُقَالُ عَجُوزٌ مُفْنِدَةٌ ؛ لأنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي شَبيبَتِهَا ذاتَ رَأيٍ فَتُفْنِدُ). وقال ابنُ عبَّاس : (تُفَنِّدُونِ تُجَهِّلُون) ، وعن مجاهد : (لَوْلاَ أنْ تَقُولُوا ذهَبَ عَقْلَكَ) ، وقال الضحَّاك وابنُ جبير : (لَوْلاَ أنْ تُكَذِّبُونِ) ، وَقِيْلَ : لولا أنْ تقولوا إنِّي شيخٌ خَرِفٌ ، وقال أبو عُبيدة : (تُضَلِّلُونِ) ، والفَنْدُ الْفَسَادُ ، قال الشاعرُ : يَا صَاحِبَيَّ دَعَا لَوْمِي وَتَفْنِيدِي فَلَيْسَ مَا فَاتَ مِنْ أمْري بمَرْدُودِوفي بعضِ الرِّوايات : أنَّ ذلك القميصَ كان من الجنَّة ، وكان اللهُ ألبسَهُ إبراهيمَ حين أُلقي في النار فصارت عليه بَرْداً وسلاماً ، ثم كساهُ إبراهيمُ اسحقَ وكساهُ يعقوبَ ، وكان يعقوبُ أدرَجَ ذلك القميصَ في قصبةٍ وعلَّقه على يوسف لما كان يخافُ عليه من العينِ. وأمرَهُ جبريلُ أن أرسِلْ إليه قميصكَ هذا فإن فيه ريحَ الجنَّة ، لا يقعُ على مُبتَلَى أو سَقيمٍ إلا عُوفِيَ ، فلذلك أصابَ يعقوب ريحه من بعد ثمانيةِ أيَّام ، { قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ }.
(0/0)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً } ؛ البشيرُ هو يَهُودَا ، وذلك أن يهودَا قال ليوسف : أنا ذهبتُ بالقميصِ وهو ملطَّخٌ بالدمِ إليه ، فأنا أذهبُ بالقميصِ إليه فأُخبرهُ بأنَّكَ حيٌّ وأفَرِّحُهُ كما أحزنتهُ ، فكان هو البشيرُ ، فحملَ القميصَ وخرجَ حاسراً حافياً ، وكان معه سبعةُ أرغفةٍ لم يشوَّقْ أكلَها حتى بلغَ كنعان ، وكانت المسافةُ ثمانين فرسخاً ، فلما أتاهُ ألقاه على وجههِ فارتدَّ بصيراً.
قال الضَّحاك : (رَجَعَ بَصَرَهُ بَعْدَ العَمي ، وَقُوَّتُهُ بَعْدَ الضَّعْفِ ، وَشَبَابُهُ بَعْدَ الْهَرَمِ ، وَسُرُورُهُ بَعْدَ الْحُزْنِ) ، ثم قال يعقوبُ للبشيرِ : على أيِّ دينٍ تركتَ يوسفَ ؟ قال : على الإسلامِ ، قال : الآنَ تَمَّتِ النعمةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي ألَمْ أقُلْ لكم إن يوسُفَ حَيٌّ وكنتم لا تعلمون ذلك.
(0/0)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ } ؛ أي ادْعُ اللهَ أن يغفرَ لنا ذنُوبنَا ، { إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ } ؛ أي مسيئين عاصِين لله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي } ؛ رُوي أنه قال لَهم يوسف : أدعُو لكم ربي ليلة الجمعة آخرَ السَّحَر ، { إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ } ؛ لعبادِه ، { الرَّحِيمُ } لَهم ، ويقال : إنَّهم التَمَسُوا منه أن يستغفرَ لهم على الدوامِ ، وأن يجعلَهم في ورْدِهِ في الدُّعاء.
(0/0)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } ؛ رُوي أن يوسف كان يبعثُ إلى يعقوبَ بمائتي راحلةٍ ، وسألَهُ أن يأتيَهُ بأهلهِ أجمعين ، فتهيَّأَ يعقوبُ للخروجِ ، فلما دنَا من مصرَ ، وكان يوسف قد خرجَ في أربعةِ آلاف من الجند ، فلما رأى يعقوب الخيلَ قال : ما هذا؟.
قال هو ابْنُكَ ، فلما دنَا كلُّ واحد من صاحبهِ ، ابتدأ يعقوبُ بالسلامِ فقال : السلامُ عليكَ يا مُذهِبَ الأحزانِ ، ثم عانقَ كلُّ واحدٍ منهما صاحبَهُ وبَكَيَا. فقال يوسفُ : يا أبَتِ بكيتَ عليَّ حتى ذهبَ بصَرُكَ ؟ قال : نعم ، قال : يا أبَتِ حزنتَ عليَّ حتى انحنيتَ ؟ قال : نعم ، قال : يا أبتِ أما علمتَ أن القيامةَ تجمَعُنا ؟ قال : إنِّي خشيتُ أن يُسلَبَ دِينُكَ فلا نجتمعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } أي ضمَّهُما إلي نفسهِ وأنزَلَهما عندَهُ ، قال عامَّةُ المفسِّرين : يعني أباهُ وخالتَهُ ؛ لأن أُمَّهُ كانت قد ماتَتْ قبلَ ذلك ، وكان موتُها نفاسها ببنيامين ، ولأن بنيامين بلغَةِ العبرانية ابنُ الوجيعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } ؛ من العدُوِّ والقحطِ والأسْوَاءِ كلِّها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ } ؛ أي رفَعَهُما معه على سريرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } ؛ أي سجدَ له أبوهُ وخالته وإخوتهُ الأحدَ عشر سجودَ تحيَّةٍ وتشريف ، وكان في ذلك الزمانِ يسجدُ الوضيعُ للشريفِ ، وقد تقدَّمَ نَسْخُ هذا السجودِ في سورة البقرةِ ، وعن عمرَ رضي الله عنه : (أنَّهُ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْقُرَى ، فَخَرَجَ إلَيْهِ رَئِيسُ أهْلِ الْقَرْيَةِ فَسَجَدَ لَهُ ، فَقَالَ : مَا هَذا؟! قَالَ : شَيْءٌ نَصْنَعُهُ للأُمَرَاءِ وَالْخُلَفَاءِ ، فَقَالَ : أُسْجُدْ لِرَبكَ الَّذِي خلَقَكَ).
ويقالُ في معنى هذا : إنَّهم سَجَدوا شُكراً للهِ على ما أنعمَ اللهُ عليهم من اجتماعهم على أيسَرِ الأحوالِ. ويجوزُ أن يكون معنى السجودُ الْمَيَلاَنُ والانحناءُ ، عن ابنِ عبَّاس : (أنَّ مَعْنَاهُ : وَخَرُّوا للهِ سُجَّداً), وقولهُ (لَهُ) كنايةٌ عن اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ ياأَبَتِ هَـاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } ؛ أي هذا السجودُ تصديقُ رُؤيَايَ التي رأيتُها من قبلُ ، { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي } أي أحسنَ إلَيَّ ، { إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ } ؛ هذا ثناءٌ منه على اللهِ تعالى بإنعامهِ عليه ؛ إذ خَلَّصَهُ وَنَجَّاهُ من العبوديَّة ، { وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ } ؛ وجاءَ بأبيهِ وإخوته من الباديةِ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } ؛ بالحسدِ ، { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } ؛ أي لطيفٌ في تدبيرِ عباده وبلُطفهِ جمعَ بيننا على أحسنِ الأحوال ، { إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ } ؛ بمصالحِ عبادهِ ، { الْحَكِيمُ } في تدبيرِهم.
واختلَفُوا في المدَّة التي كانت بين رُؤيا يوسف وبين تَصدِيقها ، قال سلمانُ رضي الله عنه : (أرْبَعُونَ سَنَةً) ، وقال ابنُ عبَّاس : (اثْنَانِ وَعُشْرُونَ سَنَةً).
(0/0)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } ؛ يعني مُلْكَ مصرَ أربعين فرسخاً في أربعين فرسخاً ، { وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ } ؛ أي تعبيرِ الرُّؤيا وتأويل كُتب الدين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ نُصِبَ على النداءِ ؛ أي يا فاطرَ السماءِ والأرض مُنشِئُهما على غيرِ مثالٍ ، { أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ } ؛ أي تتَولَّى حِفظِي وصيانتي ، { تَوَفَّنِى مُسْلِماً } ؛ أي ألطُفْ بي لُطفاً أثبتُ به على الإيمانِ إلى أن يلحَقُني الموت ، { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } ؛ يعني يلحقهُ بآبائه.
وأما ما كان من أخرِ زُليخا فإنه لما ماتَ العزيزُ وبَقِيت أرملةً ، قالت : أنا مِن يوسف على رجاءٍ ، وأمري كلَّ يوم إلى نقصٍ ؛ وذلك بمَعصِيَتي لآلهِ يوسف ، فكيف لا أقومُ إلى هذا الصَّنم والمشؤومِ فأجعلهُ جُذاذاً ، وألْحَقُ بيوسف وأُسلِمُ على يدهِ ؟ لعلَّ إلَهَهُ يرحَمُني ويقضي حاجَتي ، فقامت وكسرت صنَمَها وجاءت إلى طريق يوسف ، فوقفت له في يومِ ركوبهِ فأقبلَ مع الأعلامِ والرايات مكتوبات عليها : { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }[يوسف : 108].
فلمَّا صارَ يوسف بحذاءِ زُليخا نادت : سُبحان من يعلي العبيد ويجعلَهم مُلوكاً بطاعتهِ ، ويذِلُّ الموالِي ويجعلهم عبيداً بمعصيتهِ. فسَمِعَ ذلك يوسف فقال : علَيَّ بصاحبةِ هذا الكلامِ ، فأُتِيَ بها إليه فقال : مَن أنتِ ؟ قالت : زُليخا أمَا تعرِفُنِي؟! قال : لا ، قالت : قد أنكَرتَني ؟ قال : أشدَّ الإنكار ، قالت : أنا الذي راودتُكَ عن نفسك فاستعصمتَ بإلهِ السَّماء ، فرفعَكَ ووضعَنِي ؛ وأعزَّكَ وأذلَّني ؛ وأغناكَ وأفقرَنِي ، فعلمتُ أني في باطلٍ وغُرورٍ ، فكسرتُ صنَمِي وجئتُكَ طائعةً مؤمنةً أقولُ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، لِيَرْحَمَنِي ، فوقعت رحمتُها في قلبهِ ، فقالَ : سَلِي حاجتَكِ ، قالت : أتفعلُ ؟ قال : نعم ، قالت : لي ثلاثُ حوائجَ يا يوسف قد ذهبَ بصَري فادعُ اللهَ أن يرُدَّ عليَّ لأنظُرَ إلى جمالِ وجهك ، فدعا اللهَ فردَّ عليها بصرَها فأقبلت تنظرُ إلى يوسف ، ثم قالت : وادعُ اللهَ أن يرُدَّ علي حُسني وجَمالي ، فدعَا اللهَ فردَّه عليها ذلك.
فلما نظرَ يوسفُ إليها نكَّسَ رأسه وقال : أما تسأَلِي الثالثةَ يا رأسَ الفتنةِ ؟ قالت : تتزوَّجُ بي حلالاً ؟ قال لها : قُومِي يا رأسَ الفتنةِ هذه حاجةٌ ليس في نفسي قضاؤُها ، قالت : أما أنا فلا أقنطُ من رحمةِ اللهِ ، فنَزل جبريلُ على يوسف وقال : إن اللهَ يأمُركَ أن تتزوجَ بها ، فجعلت تحمدُ اللهَ وتشكرهُ فتزوَّجَها ، فلما دخلَ بها وجدَها عذراءَ ، فولَدَت له وَلَدَين ، وأقامَ يعقوبُ عند يوسف ثَماني عشرةَ سنةً ، ومات قبل يوسف بسنتين.
(0/0)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ؛ أي ذلكَ الذي ذكرتُ لكَ يا مُحَمَّد من قصَّة يوسف وإخوته من أخبار ما غابَ علمهُ عنكَ نوحيه إليك. قولهُ : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ } ؛ أي وما كنتَ عندهم إذ عزَمُوا أمرَهم على إلقاءِ يوسف في الْجُب ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } ؛ به ، وكان مَكرُهم إلقاءَهم إياه في البئرِ.
(0/0)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } ؛ أي وما أكثرُ الناسِ بمؤمنين بالقرآن والرسول ولو حرصتَ يا مُحَمَّدُ على دعائِهم إلى الإيمان وجهدتَ كلَّ الجهد.
(0/0)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } ؛ أي وما تسأَلُهم يا مُحَمَّدُ على دعائِهم إلى الله من جُعْل في مالِهم فيصدُّهم ذلك عن الإيمان. قَوْلُهُ تَعَالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ؛ أي ما القرآن إلا موعظةٌ للعالَمين.
وقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } ؛ أي فكم من آيةٍ دالَّة على وحدانيَّة اللهِ مما في السَّموات من الشمسِ والقمر والنجوم ، وما في الأرضِ من الأشجارِ والجبال والنبات وغيرِ ذلك من الحيوانات ، يرَونَها ويشاهدونَها ثم لا يستدلُّون بذلك على أنَّ لها مُدبراً حكيماً عليماً قادراً لا يشبههُ شيء من المخلوقاتِ. ويقال : أرادَ بالآياتِ التي في الأرضِ آيات عادٍ وثَمود وقومِ لوط وغيرهم ، كان أهلُ مكة يَمُرُّونَ عليها في أسفارِهم ولا يتَّعظون بهم.
(0/0)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } ؛ أي ما يُصَدِّقُ أكثرُهم بلسانِهم إلا وهم مُشركون به غيرَهُ ؛ لأنَّهم يؤمنون من وجهٍ ، كما قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ }[الزخرف : 87] ويُشرِكون من وجهٍ وهو عبادتُهم الأصنامَ ، وقال الحسنُ : (الْمُرَادُ بهَذِهِ الآيَةِ أهْلُ الْكِتَاب مَعَهُمْ إيْمَانٌ مِنْ وَجْهٍ وَشِرْكٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَإنَّ مَعَ الْيَهُودِ إيْمَاناً بمُوسَى وَكُفْراً بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
(0/0)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
قولهُ : { أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ } ؛ أي أفَأَمِنَ الكفارُ أن يغشاهم العذابُ من اللهِ ، { أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ينُزول العذاب.
(0/0)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي } ؛ أي هذه الدَّعوةُ دِيني ، وإنما قالَ : (هَذِهِ) لأن السبيلَ يذكَّر ويُؤنَّثُ ، { أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } ؛ على معرفةٍ منِّي باللهِ تعالى ، وقوله تعالى : { أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي } ؛ معناهُ : يدعُو إلى اللهِ ، { وَسُبْحَانَ اللَّهِ } أي وقُل : سبحانَ اللهِ ، { وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ؛ أي لستُ معَهم على دِينهم.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى } أي وما أرسَلنا مِن قبلِكَ يا مُحَمَّدُ إلا رجَالاً منسُوبين إلى القُرى مثلكَ يُوحَى إليهم كما يوحَى إليكَ ، قال الحسنُ : (لَمْ يُرْسِلِ اللهُ امْرَأَةً وَلاَ رَسُولاً مِنْ أهْلِ الْبَادِيَةِ ؛ وَذلِكَ لأَنَّ أهْلَ الأَمْصَارِ يَكُونُونَ أثْبَتَ عُقُولاً مِنْ أهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَأشَدَّ أحْلاَماً مِنْهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ يعني أفَلَم يسير أهلُ مكة في الأرضِ ، { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } ؛ فيَرَوا آثارَ ديارِ ، { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ من الكفَّار فيخافون ما ينْزِلُ بهم من عذاب الله وما نزلَ بأولئِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ يعني قولهُ (دَارُ الآخِرَةِ) الجنَّة (خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوا) الكفرَ والفواحشَ (أفلاَ يَعْقِلُونَ) معناهُ : أفليسَ لهم ذهنُ الإنسانية أنَّ الآخرةَ الباقيةَ خيرٌ من الدنيا الفانية ، وأضافَ الدارَ الآخرةِ على سبيلِ إضافة الشيء إلى نفسه كما يقالُ يومُ الجمعُة.
(0/0)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } ؛ أي حتى إذا يَئِسَ الرسلُ عن إجابة الأُمَم وأيقنوا أن القومَ ، { قَدْ كُذِبُواْ } ؛ تَكذيباً لا يرجعون عنه ، { جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } ؛ بإهلاكِ قومهم ، ومن قرأ (كُذِبُوا) بالتخفيف فمعناهُ : وظنَّ المرسَلُ إليهم أن الرُّسُلَ قد كذبُوهم في ما أوعَدُهم من العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي لا يُرَدُّ عذابُنا عن الكافرينِ.
(0/0)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } ؛ أي لقد كان في قَصَصِ مَن تقدَّم من الأنبياءِ عبرةٌ لذوِي العقولِ من الناس. وَقِيْلَ : إن قصةَ يوسف وإخوته عبرةٌ لمن أرادَ أن يعتبرَ فيصبر على البلاءِ والْمِحَنِ ، كما صبرَ يعقوبُ ويوسف حتى خَتَمَ لهما بالْمُلْكِ والعُلُوِّ ، والفرَجِ من الأحزان ، ولا يَحْسُدُ أحداً كما حَسَدَ إخوة يوسف ، فلم يُغْنِ عنهم كَيدُهم شيئاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـاكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ أي ما كان القرآنُ حديثاً يختلَقُ و لكن كان تَصديقاً للكُتب التي بين يديهِ من التوارة والإنجيل وغيرهما ، ومَن قرأ (تَصْدِيقُ) بالرفع فعلى إضمار هو.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ أي وبيانَ كلِّ شيءٍ يحتاجُ الناس إليه في دِينهم ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ ودلالةً ونجاةً من العذاب الأليم لقوم يصدِّقون بمُحَمَّدٍ والقرآنِ.
(0/0)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
{ المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى المر : أنَا اللهُ أعْلَمُ وَأرَى). وقولهُ تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي هذهِ آياتُ القرآنِ ، وقولهُ تعالى : { وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ } هو القرآنُ أيضاً ، وقال قتادةُ : (الْمُرَادُ بقَوْلِهِ { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } الآيَات الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُب ، وَالْمُرَادُ بـ { وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ } الْقُرْآنُ) ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } ؛ أي هو الذي رَفَعَ السَّموات ، وأقامَها واقفةً على غير عَمَدٍ تَرونَها أنتم كذلكَ بلا عَمَد ، هكذا قال أكثرُ المفسِّرين ، وعن ابنِ عباس في روايةٍ (بعَمَدٍ لاَ تَرَوْنَهَا ، كَأَنَّهُ قَالَ : بغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ). والأولُ أقربُ إلى الصحَّة ؛ لأنه لو كان للسَّماء عِمَادٌ لكُنَّا نرى ذلك العمادَ ، لأن مثلَ السموات في ثُقلِها وارتفاعها وعِظَمها لا يُقِلُّها عمادٌ إلاّ وقد يكون ذلك العمادُ جَسيماً عظيماً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
وقولهُ تعالى : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ } ؛ تقديرُه : اللهُ الذي رفعَ السموات بغيرِ عَمَدٍ ، ثم سخَّرَ الشمسَ والقمرَ وهو مستوٍ على العرشِ ، لأنَّ استيلاءَ الله على الأشياءِ قدرتهُ عليها ، وقدرةُ الله لا تكون مُحدَثَةً. وتسخيرُ الشمسِ والقمر إجراؤُهما لمنافعِ بني آدم ، ومعنى السَّخْرِ أن يكون الشيءُ مَقهوراً لا يملكُ لنفسهِ ما يخلِّصُه من القهر. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى } ؛ إلى وقتٍ معلوم وهو وقتُ فَنَاءِ الدُّنيا ، فإذا انْفَنَتُ الُّدنيا كَوِّرَتِ الشمسُ وانكَدَرت النجومُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ } ؛ أي يقضِي القضاءَ ، ويبعثُ الملائكةَ بالوحي ، ويُنْزِلُ الرزقَ والأقضيةَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي يأتِي بآيةٍ في إثْرِ آيةٍ ليكون أمكنَ للاعتبار والفكر. وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } ؛ أي لِتَسْتَيْقِنُوا بالبعثِ وبما وعَدَكم الله به من الثواب والعقاب.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ } ؛ بسَطَها طُولاً وعَرضاً ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ } ؛ أي خَلَقَ فيها جِبَالاً ثوابتَ أوتَاداً لها ، ولو أرادَ أن يُمسِكَها من غير رواسي لفعلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْهَاراً } ؛ أي وأجرَى فيها أنْهَاراً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } ؛ أي وخلَقَ من جميعِ الثمرات من كلِّ شيء لَونَين اثنين ، وجعلَ فيها الحلوَ والحامضَ ، والأسود والأبيضَ.
وقولهُ تعالى : { يُغْشِى الَّيلَ النَّهَارَ } ؛ أي يأتِي بالليلِ ليَذْهَبَ بضياءِ النهار ، فتسكُنَ الناسُ بالليل ، ويأتِي بضياء النهار ليمحَوَ ظلامَ الليل فتصرفَ الناسُ فيه معايشَهم ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ في صُنعِ الله ، فيستدِلُّون بذلك على توحيدهِ.
(0/0)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } ؛ منها الجبلُ الصَّلبُ ، ومنها الأرضُ الْجَرُزُ التي لا يمكن النباتُ عليها إلا بالمشقَّة ، ومنها الأرضُ النَّحِسَةُ ، ومنها الأرض الطَّيبة ، وهذه الأراضِي في ذلك متجاوراتٌ ملتزِقَةٌ ، { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ } ؛ أي وبساتين من كُرُومٍ ، { وَزَرْعٌ } ؛ ويجوزُ في القراءةِ (وَجَنَّاتٍ) على معنى : وجعلَ فيها جناتٍ ، ومَن قرأ (وَزَرْعٌ) بالضمِّ فهو عطفٌ على القِطَعِ لأن الزرعَ لا يكون في الجنَّات ، وقرأ العامَّة (وَزَرْعٍ ونَخِيلٍ) بالكسر على المجاورة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } ؛ أي مجتمعٌ أصولُها في أصلٍ واحد ، ونخيلٌ متفرِّق أصولُها ، والصِّنْوَانُ جمعُ الصِّنْوِ ، ويعني الصِّنوانُ أن يكون أصلٌ واحد تخرجُ منه النَّخلتان والثلاث والأربعِ كما وردَ في الحديثِ : " عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ } ؛ إما المطرُ وإما النهرُ ، { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ } ، بعض أكُلِها أفضلُ من بعضٍ في الطَّعم حتى يكون بعضُها حُلواً ، وبعضها حامضاً ، وبعضها مُرّاً ، والترابُ واحدٌ ، وألوانُ الثمر وطعمُها مختلفة ، وذلك من الدليلِ على وحدانيَّة اللهِ عَزَّ وَجلَّ ؛ لأنه الْمُحْدِثُ لها ، واللهُ تعالى قَديرٌ حكيم قد أحدَثَها على علمٍ منه بها ،
وقال مجاهدُ : (هَذا مِثْلُ بَنِي آدَمَ ، أصْلُهُمْ تُرَابٌ وَاحِدٌ ، ثُمَّ مِنْهُم صَالِحٌ وَخَبيثٌ ، وَكَامِلُ الْخِلْقَةِ وَنَاقِصُ الْخِلْقَةِ ، وَسَيِّءُ الْخُلُقِ) ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ } ؛ أي لعلاماتٍ دالاَّتٍ على وحدانيَّة الله ؛ { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ إنَّ في ذلك من اللهِ.
(0/0)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ معناهُ وإنْ تعجَبْ يا مُحَمَّدُ من تكذيب أهلِ مكة وإشرَاكِهم بالله مع ما تقدَّمَ من الدلائلِ على توحيد اللهِ قولُهم عجبٌ عند العقلاءِ العارفين حيث قالوا : إذا كُنَّا تراباً أنُبْعَثُ وتُرَدُّ فينا الروحُ بعدَ الموتِ والبلاء؟! وإنما سُمي قولُهم { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً } أعجبَ ؛ لأن البعثَ أسهلُ في القدرةِ مما بيَّن اللهُ لَهم ؛ إذِ البعثُ إعادةٌ إلى ما كانَ ، والإعادةُ أسهل في طِبَاعِ الآدميِّين من الإنشاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } ؛ أي تَغُلُّ أيْمَانَهم إلى أعناقِهم السلاسِلُ في النار ، ويكون يسارُهم وراءَ ظهُورِهم وهم مُصْفَدُونَ من قُرونِهم الى أقدامِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوْلَـائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ }.
(0/0)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ } ؛ أي يستعجِلُونكَ بالعذاب الذي توعِدُهم به على وجهِ التكذيب والاستهزاءِ قبلَ الثواب الذي تعِدُهم على الإيمان ، يعني مُشركي مكَّة سأَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتِيَهم العذابُ استهزاءً منهم بذلك ، فقالوا : { اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ }[الأنفال : 32].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ } ؛ العقوباتُ من الله في الأمَمِ الماضية ، والْمَثُلَةُ العقوبةُ في اللغة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ } ؛ أي لذُو تَجاوُزٍ على الناس على ظُلمِهم لأنفسهم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ لِمَن استحقَّهُ.
(0/0)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ؛ أي ويقولُ الذين كفَرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ : هَلاَّ نُزِّلَ عليه آيةٌ من ربه لنُبوَّتهِ ، يعنون الآياتِ التي كانوا يقترحونَها عليه نحو ما ذكرَ اللهُ تعالى من قولِهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً }[الإسراء : 90]. الى آخرِ الآيات.
يقولُ الله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ } ؛ أي أنتَ يا مُحَمَّد مُعَلِّمٌ بموضعِ الْمَخَافَةِ ، وليس إنزالُ الآيات إليكَ ، وإنما هو إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } ؛ مَن جعل هذه الواوَ للجمعِ فوصَلها بما قبلها كان تقدير الكلام : إنما أنتَ منذرٌ وهادٍ لكلِّ قومٍ. ومَن قطعَ هذه الواوَ كان المعنى : لكلِّ قومٍ هادٍ ؛ أي نَبِيٌّ مثلُكَ يهديهم. وقال سعيدُ بن جبير والضحَّاك : (الْهَادِي هُوَ اللهُ) ، والمعنى : أنتَ منذرٌ تُنْذِرُ ، واللهُ هادي كلَّ قومٍ ، يهدِي من يشاءُ.
(0/0)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى } ؛ يعني من عَلَقَةٍ أو مُضْغَةٍ أو ذكرٍ أو أُنثى أو كامل الْخَلْقِ أو ناقصِ الخلق أو واحدٍ أو اثنين أو أكثرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } ؛ أي وما تنقصُ من الأشهُرِ التسعةِ في الحمل وما تزدادُ عليهما ، فإن الولدَ قد يولدُ في ستَّة أشهر فيعيشُ ، ويولدَ لسنتَين فيعيشُ ، وقال الحسنُ : (وَمَا تَنْقُصُ بالسَّقْطِ ، وَمَا تَزْدَادُ بالتَّمَامِ). والغَيْضُ هو النُّقصان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } ؛ أي بحَدٍّ لا يجاوزهُ ولا ينقص منه ، ويدخلُ الولد فيه لأنه قد قَدَّرَ أجلَ حياتهِ وموتهِ ، وصحَّته ومرَضهِ ، ونقصان عقلهِ وكماله ، وقَدَّرَ له ما جرَى من رزقٍ وما سيكونُ منه من طاعةٍ ومعصية وولدٍ وغير ذلك.
(0/0)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } ؛ أي عالِمُ ما غابَ عن العبادِ ، وما عَلِمَهُ العبادُ. وَقِيْلَ : الغيبُ ما يكون ، والشَّهادة ما كان. الكبيرُ : السيد الكامل المالِكُ المقتدرُ على كلِّ شيء ، الْمُتَعَالِ عمَّا يقول المشرِكون.
(0/0)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } ؛ أي سواءٌ من أخفَى القولَ وكَتَمَهُ ، ومن جهرَ به وأظهرَهُ ، فالسِّرُّ والجهرُ عند الله سواءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } ؛ أي ومن هو مُسْتَتِرٌ مُتوارٍ بالليلِ ، (وسَارِبٌ بالنَّهَار) أي ظاهرٌ في الطُّرقات ، عِلْمُ الله فيهم سواءٌ.
قال الزجاجُ : (مَعْنَى الآيَةِ : الْجَاهِرُ بنُطْقِهِ ، وَالْمُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ ، وَالظَّاهِرُ فِي الطُّرُقَاتِ وَالْمُسْتَخْفِي فِي الظُّلُمَاتِ ، عِلْمُ اللهِ فِيْهِمْ جَمِيعاً سَوَاءٌ). ومعنى السَّارب : الظاهرُ بالنهار في سِرْبهِ ؛ أي في طَريقهِ وتصرُّفه في حوائجهِ ، وعن قُطرب في : (مُسْتَخْفٍ باللَّيْلِ : أيْ ظَاهِرٍ ، وَسَارِبٌ بالنَّهَارِ : أيْ مُسْتَتِرٌ) يقالُ : سَرَبَ الوحشُ إذا دخل في كِنَاسِهِ ، والأولُ أبْيَنُ وأبلغُ في وصفِ عالِمِ الغيب.
(0/0)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ؛ أي للإنسان مُسَاوياتٌ ، والكنايةُ في قولهِ تعالى (له) رُدَّ على من أسَرَّ القولَ ومَن جَهَرَ به وهم الآدميُّون. وقال بعضُهم : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أي للهِ تعالى ملائكةٌ يتعاقَبُون بالليلِ والنهار ، فإذا صعَدت ملائكةُ الليلِ أعقَبَها ملائكةُ النَّهارِ ، وإذا صعَدت ملائكةُ النهار أعقبَتها ملائكةُ الليلِ.
وقولهُ تعالى : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } يعنِي من قُدَّامِ هذا المستخفِي بالليل والسَّارب بالنهار ، ومِنْ خَلْفِهِ ؛ أي وراءِ ظهره ملائكةٌ يحفظونَهُ من بين يديهِ ومِن خلفهِ ، فإذا جاءَ القَدَرُ خَلَّوا عنه.
واختلَفُوا في الْمُعَقِّبَاتِ ، قال بعضُهم : الْكِرِامُ الْكَاتِبُونَ ؛ وهم أربعةً : ملَكان بالليلِ وملَكان بالنَّهار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } ؛ أي بأمرِ الله حتى ينهوا به إلى المقاديرِ ، فيُخَلُّوا بينه وبين المقاديرِ ، قال كعبُ الأحبار : (لَوْلاَ أنَّ اللهَ وَكَّلَ بكُمْ مَلاَئِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ فِي مَطْعَمِكُمْ وَمَشْرَبكُمْ وَعوْرَاتِكُمْ لَخَطَفَتْكُمُ الْجِنُّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ؛ أي لا يسلبُ قوماً نعمةً حتى يعمَلُوا المعاصِي ، يعني بهذا أهلَ مكَّة ، بعثَ فيهم رسولاً منهم ، وأطعَمَهم من جوعٍ ، وآمَنَهم من خوفٍ ، فلم يعرِفُوا هذه النعمةَ وغيَّرُوها وجعلُوها لأهلِ المدينة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } ؛ أي إذا أرادَ اللهُ إنزالَ عذابٍ على قومٍ فلا دافعَ له ، { وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } ؛ يتوَلاَّهم وينصرُهم ، ويقال : من مَلْجَأ يلجَؤُون إليه ، والْمَوْئِلُ هو الْمَلْجَأُ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً } ؛ أي خَوْفاً للمسافرِ أن يُؤذيهِ ويُبلَّ ثيابَهُ وطريقه فلا يمكنه السيرُ ، وطمَعاً للمقيمِ أن يسقي حرثَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } ؛ أي يخلقُ السحابَ الثِّقال بالمطرِ فيُجرِيَهُ في الجوِّ.
(0/0)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } ؛ رُوي أن الرَّعْدَ اسمُ ملَكٍ يزجرُ السحابَ يؤلفُ بعضه إلى بعضٍ ، وتسبيحهُ زَجْرُهُ للسحاب ، قال عكرمةُ : (هُوَ كَالْحَادِي لِلإبلِ).
وعن ابن عبَّاس قال : " أقْبَلَتِ الْيَهُودُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : يَا أبَا الْقَاسِمِ نَسْأَلُكَ عَنْ أشْيَاء ، فَإنْ أصَبْتَ فِيْهَا اتَّبَعْنَاكَ وَآمَنَّا بكَ ، قَالَ : " اسْأَلُوا " قَالُواْ : أخْبرْنَا عَنِ الرَّعْدِ ، قَالَ : " مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُوَكَّلٌ بالسَّحَاب ، مَعَهُ مَخَاريقَ يَسُوقُ بهَا السَّحَابَ حَيْثُ يَشَاءُ اللهُ " قَالُواْ : صَدَقْتَ ، فَمَا الَّذِي يُسْمَعُ ؟ قَالَ : " زَجْرُ السَّحَاب إذا زَجَرَهُ الْمَلَكُ " قَالُواْ : صَدَقْتَ ".
وقال عطيَّةُ : (الرَّعْدُ مَلَكٌ وَهَذا تَسْبيحُهُ ، وَالْبَرْقُ سَوْطُهُ الَّذِي يَزْجُرُ بهِ السَّحَابَ ، يُقَالُ لِذلِكَ الْمَلَكِ : رَعْدٌ ، وَلِصَوْتِهِ : رَعْدٌ). وقالَ أبُو هريرةَ : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ : سُبْحَانَ مَنْ يُسَبحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ " ، وكان ابنُ عبَّاس إذا سَمِعَ الرعدَ قالَ : (سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ).
قال ابنُ عبَّاس : (مَنْ سَمْعَ صَوْتَ الرَّعْدِ فَقَالَ : سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبحُ الرَّعْدُ بحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. فَإنْ أصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَعَلَيَّ دِيَتُهُ). و " عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كَانَ إذا سَمِعَ الرَّعْدَ وَالصَّوَاعِقَ قَالَ : " اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بَغَضَبكَ ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بعَذابكَ ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذلِكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } ؛ يعني ويُسَبحُ الملائكةُ من خِيْفَةِ اللهِ وخِشيَتِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } ؛ أي يرسلُ النِّيرانَ التي تسقطُ من الغيُومِ فيحرِقُ ما تقع عليه نيران البرقِ ، فيُهلِكُ بها من يشاءُ من خلقهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ } ؛ أي الكفارُ يخاصِمون في اللهِ وفي إثبات شريكٍ معه ، { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي شديدُ القوَّة والعقوبةِ.
(0/0)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ؛ أي له كلمةُ الإخلاصِ ، شهادةُ أن لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي آلِهَتُهم ، { لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ } ما يستجيب { إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ } يدعوهُ لعطشهِ مُشِيراً مُريداً بإشارتهِ أن ، { لِيَبْلُغَ } الماءُ ، { فَاهُ وَمَا هُوَ } أي وليس الماءُ ، { بِبَالِغِهِ } ومن الْمُحَالِ أن يُجيبه بإشارتهِ ، وإنْ كان الماءُ في بئرٍ ، أو ماءٍ على بُعْدٍ نهرِ أبعدُ في الإحالة ، وكما لا يبلغُ الماءُ فَمَ هذا الرجلِ ولا يجيبهُ وإن ماتَ من العطشِ ، كذلك لا ينفعُ الصَّنم لِمَن عبدَهُ بوجهٍ من الوجوهِ ، قال عطاءُ : (مَعْنَاهُ كَالرَّجُلِ الْعَطْشَانِ الْجَالِسِ عَلَى شَفِيرِ الْبئْرِ ، يَمُدُّ يَدَهُ فِي الْبئْرِ فَلاَ يَبْلُغُ الْمَاءَ وَلاَ الْمَاءُ يَرْتَفِعُ إلَى يَدِهِ) ، { وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ؛ عن الصواب وذهابٍ عن الحقِّ ؛ لأن الأصنامَ لا تسمعُ ولا تقدر على الإجابةِ.
(0/0)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } ؛ وللهِ يسجدُ ويُصَلِّي ويعبدُ مَن في السَّموات والأرضِ والملائكة ، ومَن دخلَ الإسلامَ طَوْعاً يسجدُ له طائعاً ، والْمُكْرَهُ هو الذي قُوتِلَ وسُبيَ وأُجبرَ على الإسلامِ ، ويقالُ : أرادَ بقوله (طَوْعاً) أهلَ الإخلاصِ ، و(كَرْهاً) أهلَ النفاقِ ، قوله { وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ } يعني إذا سجدَ الإنسانُ سَجَدَ معه ظِلُّهُ ، قال الحسنُ : (أمَّا ظِلُّ الْكَافِرِ فَيَسْجُدُ للهِ ، وَأمَّا هُوَ فَلاَ يَسْجُدُ ، فَبئْسَ وَاللهِ مَا يَصْنَعُ).
(0/0)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : مَن ربُّ السموات والأرض ؟ فَإن أجابُوكَ وقالوا : هو اللهُ ، وإلاّ فقُلِ : اللهُ ربُّهما ، و { قُلْ } ؛ لَهم : { أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ أي أربَاباً ، { لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً } ؛ فكيف يَملِكون لكم النفعَ والضر.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ؛ أي قُل لَهم : هل يستوي أعمَى القلب الذي يعدلُ عن عبادةِ الخالق ؟ هل يستَوِي مع البصير بقلبه ، العالم بأنه تعالى إلَهُهُ ووليُّهُ والقادرُ على نفعهِ ودفعِ الضُّرِّ عنهُ ، { أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ } ؛ فيه تشبيهُ الكفرِ بالظُّلمات ، وتشبيهُ الإيمانِ بالنُّور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ } ؛ معناه : أجَعَلَ الكفارُ لله شُركاءَ ، خلَقَت شركاؤُهم شيئاً كما خَلَقَ اللهُ ، { فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ } ؛ فلم يعرفُوا خلقَ الشركاء من خلق اللهِ فأشرَكُوها معه في العبادةِ ؛ { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ بلا شريكٍ ، فإذا لم يكن الخلقُ إلا من واحدٍ لم يكن الخالقُ إلا واحداً ، فهو الذي يستحقُّ العبادةَ بلا شريكٍ ، { وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } ؛ الغالبُ لكلِّ شيء ، لا يقهَرهُ أحدٌ.
ثم ضربَ اللهُ مثلاً للحقِ والباطل ، وقال تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } ؛ أنزلَ مطراً فسَالَتْ أودِيةٌ من ذلك المطرِ بقدرِ الأودية ، فما كان منها كبيراً سالَ بقدرهِ ، وما كان صَغيراً سالَ بقَدرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } أي عَالياً مُرتفعاً على الماءِ ، والسَّيلُ ما يسيلُ من الموضعِ المرتفع.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ } ؛ أي ومما تطرَحون في النارِ من الذهب والفضَّة لطلب حِلْيَةٍ تلبَسونَها زَبَدٌ ؛ أي خَبَثٌ مثلُ زبَدِ الماءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ } ؛ أرادَ به الحديدَ والرصاص وما يشاكِلهُ مما يوقَدُ عليه في النار ؛ لاتِّخاذ المتاعِ له زَبَدٌ ؛ أي خَبَثٌ مثل ذلك الماءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ } ؛ أي هكذا يضربُ الله مَثَلَ الحقِّ والباطل ، { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً } ؛ أما زبَدُ هذه الأشياء ، فيذهبُ ناحيةً لا ينتفعُ به ، فإن زبدَ الماء يتعلَّقُ بأصولِ الأشجار وجَنَباتِ الوادي. والْجُفَاءُ : ما رَمَى به الوادِي ، وجُفَاهُ في جَنَبَاتِهِ ، يقال : أجْفَأَتِ القِدْرُ زبَدَها إذا قذفَتْ به ، وكما أنَّ زَبَدض الماءِ يذهبُ بحيث لا ينتَفعُ به ، كذلك خبَثُ الذهب والفضة والحديد ، { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ }.
قَوْلُهُ تعَالَى : { كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ } ؛ للناسِ في أمر دِينهم ، كما ضربَ لكم المثلَ ، قال قتادةُ : (هُنَّ ثَلاَثَةُ أمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللهُ فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ ، يَقُولُ : كَمَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ، فَسَالَتْ أوْدِيَةٌ بقَدَرِهَا ، الصَّغِيرُ عَلَى مِقْدَارِهِ ، وَالْكَبيرُ عَلَى مِقْدَارِهِ ، كَذلِكَ أنْزَلَ اللهُ الْقُرْآنَ ، فَاحْتَمَلَ الْقُلُوبَ عَلَى قَدَرِهَا ، ذا الْيَقِينِ عَلَى قَدْرِ يَقِينِهِ ، وَذا الشَّكِّ عَلَى قَدْرِ شَكِّهِ).
قَالَ : (ثُمَّ شَبَّهَ خَطَرَاتِ وَوَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ بالزَّبَدِ يَعْلُو عَلَى الْمَاءِ ، وَذلِكَ مِنْ خَبَثِ الْبَرِّيَّةِ لاَ عَيْن الْمَاءِ ، كَذَلِكَ مَا يَقَعُ فِي النَّفْسِ مِنْ وَهْمٍ وَشَكٍّ فَهُوَ ذاتُ النَّفْسِ لاَ مِنَ الْحَقِّ).
قَالَ : (ثُمَّ بَيَّنَ أنَّ الزَّبَدَ يَذْهَبُ جُفَاءً ؛ أيْ هَبَاءً بَاطِلاً وَيَبْقَى صَفْوُهُ ، كَذلِكَ الْبَاطِلُ يَذْهَبُ وَيَبْقَى الْحَقُّ).
(0/0)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى } ؛ فيه بيانُ الذي يبقَى مما تقدَّم ذِكرهُ فهو مثلٌ لِمَن يستجيبُ لرَبهِ ، والذي يذهبُ جُفاءً هو مَثَلٌ لِمَنْ لا يستجيبُ. والمرادُ بـ (الْحُسْنَى) في الآيةِ الْجَنَّةَ ونَعيمها.
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } ؛ أي الذين لم يستجِيبُوا لربهم إلى الإيمان ، { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ؛ من الذهب وسائر الأموالِ ، { وَمِثْلَهُ مَعَهُ } ؛ وضِعفُهُ معه ، { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ } ؛ لفَادَوا به أنفُسَهم من عذاب الله يومَ القيامةِ لو قُبلَ منهم ذلك ولكن لا يُقْبَلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ } ؛ أي شدَّتهُ ، والمناقشةُ فيه ، قال إبراهيمُ النخعي : (هُوَ أنْ يُؤَخَذُوا بذُنُوبِهِمْ كُلِّهَا مِنْ دُونِ أنْ يُغْفَرَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ أي مَصيرُهم في الآخرةِ جهنَّمُ ، { وَبِئْسَ الْمِهَادُ } ؛ أي المأْوَى ، يتقلَّبون في النار ويقعُدون ويضطَجِعون عليها.
(0/0)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى } ؛ معناه : أفمَن يعلمُ إنما أُنزل إليك مِن القرآن أنه الحقُّ فآمَنَ به ، كمَن هو كافرٌ يعلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ؛ أي ذوُو العقولِ.
(0/0)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
ثم وصَفَهم فقالَ : { الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ } يريدُ بالعهدِ الذين عاهَدتُم عليه في صُلب آدمَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ } ؛ قِيْلَ : المرادُ به مواصلَةُ المؤمنين فيما بينهم بالموالاَةِ وصِلَةِ الرَّحِم بالبرِّ والشَّفقة ، وَقِيْلَ : أرادَ بذلك الإيمانَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وجميعِ الرسُل ، { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } ؛ أي عقابَ ربهم ، { وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } ؛ أي يخافون أن يؤاخَذُوا بالعقاب.
(0/0)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ } ؛ معطوفٌ على قولهِ{ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ }[الرعد : 20] ومعناهُ : الذين صَبَروا على أداءِ الفرائض واجتناب المحارم ومُقَاسَاةِ شدائدِ الدُّنيا لطلب ثواب الله ورضاهُ ، { وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ المفروضةَ ، { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } ؛ أي أخرَجُوا من أموالهم جميعاً الصَّدقاتِ المفروضات خِفْيَةً وجهراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } ، وإنما يكون دَرْؤُهم بالحسنةِ السيئةَ على وجهين ، أحدُهما : العِلْمُ والوعظُ بالكلام الحسَنِ ، والثاني : أن يقاتِلُوهم ويقبضُوا على أيديهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة لهم الدارُ التي أعقَبَتها لهم أعمالُهم وهي الجنَّة. ثم بيَّن اللهُ صفةَ الجنة فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَهِيَ وَسَطُ الْجَنَّةِ ، وَهِيَ مَعْدِنُ الأَنْبيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } ؛ أي ويدخُلها مَن صَلُحَ من آبائهم وأزواجِهم وذُرِّياتِهم ، { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ } يعني من أبواب البساتين يقولون لَهم : { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } على شدائدِ الدُّنيا ، وعلى المشقَّة في طاعةِ الله ، فِنِعْمَ الدارُ التي أعقَبَتُها لهم أعمالهم ، قال ابنُ عبَّاس : (لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أهْلِ جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّةً مِنْ دُرَّةٍ مُجَوَّفَةٍ لَهَا ألْفُ بَابٍ مِصْرَاعُهُ مِنَ الذهَبِ ، يَدْخُلُ عَليَْهِ مِنْ بَابٍ مَلَكٌ يَقُولُونَ : سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بمَا صَبَرْتُمْ ، { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ }.
(0/0)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } ؛ أي الذين يترُكون فرائضَ الله من بعد تأكيد العهدِ عليهم ، { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } ؛ بالظُّلم والدعاءِ إلى غير عبادة الله ، { أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } ؛ أي ما يُبعِدُهم من رحمةِ الله ، { وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ؛ وهو النارُ في الآخرةِ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " أعْجَلُ الْخَيْرِ ثَوَاباً صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَأعْجَلُ الشَّرِّ عِقَاباً الْبَغْيُ وَاليَمِينُ الغَمُوسٌ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلاَقِعَ ".
(0/0)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } ؛ أي يوسِّعُ الرزقَ في الدُّنيا على مَن يشاءُ ، ويضيِّقُ على مَن يشاءُ ، { وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا } يعني مُشركي مكَّة أشِرُوا وبَطِرُوا ، { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي } ؛ جنب نعيمِ ، { الآخِرَةِ إِلاَّ } ؛ شيءٌ قليل ، { مَتَاعٌ } ؛ كمتاع يتمتَّعُ به ثم يفنَى ويذهبُ ، قال صلى الله عليه وسلم : " وَمَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ كَمِثْلِ مَا جَعَلَ أحَدُكُمْ إصْبعَهُ فِي الْيَمِّ ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِعُ ".
(0/0)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي يقولون على جِهة التّعَنُّتِ : { لَوْلاَ } ؛ هَلاَّ ، { أُنزِلَ عَلَيْهِ } ؛ على مُحَمَّدٍ ، { آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ؛ يعني الآياتِ التي يَقترِحونَها عليه ، { قُلْ } يا مُحَمَّدُ : { إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } عن ثوابهِ وكرامته ، { وَيَهْدِي } ، لدينه مَن أقبَلَ ، { إِلَيْهِ } ؛ إلى الله و ، { مَنْ أَنَابَ } ؛ رجَعَ عن الكفر.
(0/0)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : الذين آمَنوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ ، تسكنُ قلوبُهم إلى ما وعدَهم اللهُ به من ثوابٍ ، { أَلاَ بِذِكْرِ } ؛ بوَعدِ الله ، { اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }.
(0/0)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ } ؛ أي لهم العيشُ الطيِّبُ والكرامةُ والغِبطَةُ ، { وَحُسْنُ مَآبٍ } ؛ حُسْنُ المرجعِ ، وقال مجاهدُ : (طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بلُغَةِ الْحَبَشَةِ) ، وعن أبي هريرة : (اسْمُ شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ سَاقُهَا مِنْ ذهَبٍ ، وَوَرَقُهَا الْحُلَلُ ، وَثَمَرُهَا مِنْ كُلِّ لَوْنٍ وَأغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، لَيْسَ مَنْزِلٌ إلاَّ وَفِيْهِ غُصْنٌ مِنْ أغْصَانِهَا ، وَتَحْتَهُ كُثْبَانُ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفرَانِ ، لَوْ رَكَبَ رَجُلٌ قُلُوصاً ، ثُمَّ دَارَ بالشَّجَرَةِ لَمْ يَبْلُغِ الْمَكَانَ الَّذِي ارْتَحَلَ مِنْهُ حَتَّى يَمُوتَ الْقُلُوصُ هَرَماً).
(0/0)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ } ؛ أي هكذا أرسَلناك إلى أُمَّة قد مَضَتْ من قبلِها أُمَمٌ أرسَلنا فيهم الرُّسل ، { لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } ؛ يعني القرآنَ ، { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَـانِ } ؛ يعني أهلَ مكَّة فإنَّهم كانوا يقولون ما نعرفُ الرحمنَ إلا مُسَيْلَمَةَ ، وكانوا يُسمُّونَهُ رحمانَ اليمامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ قل لَهم : الرَّحْمَنُ رَبي لا إلهَ إلا هو ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي وإليه أتوبُ من ذنُوبي.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } ؛ وذلكَ أنَّ عبدَالله بن أُمية المخزومي ، وجماعةٌ من كفَّار مكة قالوا : يا مُحَمَّدُ سَيِّرْ لنا جبالَ مكَّة ، فأَذهِبْها حتى تنفسحَ فيها فإن أرضَنا ضيِّقة ، ثم اجعَلْ لنا فيها عُيوناً وأنْهَاراً ، وقرِّبُ أسفَارَنا فيما بيننا وبين الشَّام فإن السفرَ بعيدٌ ، وافعَلْ كما فعلَ سُليمان بالرياحِ بزَعمِكَ ، فأَنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناها : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ } أُذهِبَتْ به الجبالُ عن وجهِ الأرض قُطِّعت به الأرضُ مسيرةَ شهرٍ في يومٍ أو أُحيي به الموتَى فتكلَّموا ، لكان هذا القرآنُ لِمَا فيه من الدَّلالاتِ الكثيرةِ على صحَّة هذا الدِّين ، ولو أمكن أن نجعلَ هذه الأمُورَ لشيءٍ من كُتب الله لأمكنَ بهذا القرآنِ.
وأما حذفُ جواب (لَوْ) في هذهِ الآية فهي على وجهِ الاختصار ؛ لأنَّ في الكلامِ دليلاً عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَل للَّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً } ؛ أي بلِ اللهُ هو المالِكُ لهذه الأشياءِ ، القادرُ عليها ، ولكن لا يختار إلا ما فيه مصلحةُ العبادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ معناهُ : أفلَمْ يعلمِ الذين آمَنوا ، { أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً } ؛ إلى الإيمان بالإلجاءِ إليه أن اللهَ تعالى قادرٌ على ذلك ، ولكن لو فَعَلَ لبَطَلَ الامتحانُ والتكليف ، والإياسُ بمعنى العلمِ في لُغة النخَعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } ؛ أي ولا يزالُ الذين كفَروا في عقوباتٍ مِن قِبَلِ اللهِ يزجرُهم عن الكفرِ ، ويحثُّهم على التمسُّك بدين اللهِ ، كما نَزَلَ بقريش من القَحطِ ، وبقوم فرعونَ من الشدائدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } ؛ راجعٌ إلى القَارعةِ ، والقَارعَةُ : هي النَّازلَةُ والشدائدُ التي تنْزِلُ بأمرٍ عظيم ، ويقالُ : أراد بالقارعةِ سَرَايا النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وبقوله { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً } معناه : أو تَنْزِلُ أنتَ يا مُحَمَّدُ مع أصحابكَ قربياً من مكَّة تقاتِلُهم على الدِّين ، { حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ } ؛ أي وقتُ إهلاكِ الكفَّار ، وَقِيْلَ : فتحُ مكَّة ، وَقْيَلَ : ما وعدَ اللهُ من عذابهم في الآخرة ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } ؛ ما وعدَ من عقاب الكفار.
(0/0)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } ؛ أي ولقدِ استُهزئَ بالأنبياءِ من قبلِكَ كما استهزَأ بكَ قومُكَ ، { فَأَمْلَيْتُ } فأمهَلتُ ، { لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } بعد استهزائِهم بالرُّسل ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } بذُنوبهم ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فانظُرْ كيف كان عاقبةُ ما حلَّ من عقاب الله بهم ، فلا يكن في صدرِكَ حرجٌ من استهزائِهم.
(0/0)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } ؛ بالتدبيرِ ويعلمُ ما كسَبَت ويجازيها عليه ، كمَن لا يعلمُ ذلك ولا يقدرُ على المجازاةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } ؛ في العبادةِ بين الأصنام ، { قُلْ سَمُّوهُمْ } ؛ هؤلاء الشُّركاء بأسمائهم التي تستحقُّها ، وسَمُّوا منفعتَها وتدبيرَها ؛ لأن لها شركةً مع اللهِ ، كما يوصَفُ الله بالخالقِ والرازق والمحيي والمميت.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ } ؛ أي أتُخبرونَ اللهَ بما لا يصحُّ أن يكون مَعلوماً وهو كون الأصنامِ مستحقَّةً للعبادةِ ، وهذا على وجه الإنكارِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ } ؛ إنكارٌ أيضاً معناهُ : أسَمَّيتم الأصنامَ آلهة بظاهرِ كتابٍ من كتُب الله ، وَقْيْلَ : أسَمَّيتمُوهم آلهةً بحجَّةٍ ظاهرةٍ ، بل سَمَّيتموهم بقولٍ باطل ليس لكم دليلٌ عليه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } ؛ أي زُيِّنَ لهم قولُهم وفعلُهم في عبادةِ غيرِ الله ، وتكذيب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ } ؛ من قرأ بفتحِ الصَّاد فالمعنى صَرَفوا الناسَ عن دينِ الله ، وَمن قرأ برفعها فالمعنى صَدَّهم رؤساؤُهم عن دينِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ الأسقامُ والقتل والأسرُ ، { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ } ؛ أي أغلَظُ من عذاب الدُّنيا ، { وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } ؛ يَقِيهِم من عذاب الله.
(0/0)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } ؛ أي صفةُ الجنة التي وُعِدَ المتَّقون الكفرَ والمعاصي : أنَّها تجرِي من تحتها الأنْهارُ ، ثَمرُها دائمٌ ، لا كجِنَانِ الدُّنيا تظهرُ بظهور ورَقِها في حالٍ دون حال ، وظِلُّلها أيضاً دائمٌ ليس فيه شمسٌ ولا أذَىً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ } ؛ أي دارُ المتَّقين الجنةُ في العاقبةِ ، { وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ } ، ودارُ الكافرين في العاقبةِ النارُ ، وفي الحديثِ : " أنَّ الرَّجُلَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ تُقْسَمُ لَهُ شَهْوَةُ رَجُلٍ مِنْ أهْلِ الدُّنَيَا ، فَإذا أكَلَ سُقِيَ شَراباً طَهُوراً ، فَتَصِيرُ رَشَحاً تَخْرُجُ مِنْ جَسَدِهِ أطْيَبَ مِنْ ريحِ الْمِسْكِ ، ثُمَّ تَعُودُ شَهْوَتُهُ إلَى مَا كَانَتْ ".
(0/0)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } ؛ وذلك أن عبدَاللهِ بن سلام ، ومَن أسلمَ معه من أهلِ الكتاب ، قالوا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا شَأْنُ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فِي الْقُرْآنِ قَلِيلٌ وَهُوَ فِي التَّوْرَاةِ كَثِيرٌ ؟ فَنَزَلَ{ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـ }[الاسراء : : 110] ونزل { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } مِن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ وغيرِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } ؛ أي ومِن اليهود والنصارَى من ينكرُ بعضَ " ما في " القرآن ، وإنَّهم كانوا يُقِرُّونَ بصحَّة " قصة " يوسف وغيرِها مما لا يكون فيه نسخُ شريعَتِهم ، وكانوا يُنكِرُونَ مِن القرآن ما لا يوافقُ مذهَبَهم ودينَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو } ؛ الخلائق { وَإِلَيْهِ مَآبِ } ؛ رجُوعي في الآخرةِ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } ؛ أي كما أنزلنا على الأنبياء المتقدمين بلسانهم كذلك أنزلنا اليك القرآن حُكماً عربياً ، والْحُكَمْ : هو الفصل بين الشيئين على ما توجبه الحكمة ، وقد يكون الحكم بمعنى الحكمة ، كما في قوله تعالى{ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً }[مريم : 12] أي الحكم والنبوة.
قوله تعالى : { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم } ؛ أين دين اليهود وقبلتهم { بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ } ؛ أي دين الله دين ابراهيم وقبلته الكعبة { مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ } ؛ أي من ناصر ينصرك ، { وَلاَ وَاقٍ } ؛ أي لا دافع يدفع العقاب عنك.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُعَيِّرُونَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بتَزَوُّجِ النِّسَاءِ حَتَّى قَالُواْ : لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبيَّنَا لَشَغَلَتْهُ النُّبُوَّةُ عَنْ تَزْويجِ النِّسَاءِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). والمعنى : ولقد أرسَلنا رسُلاً من قبلِكَ ، وجعلنا لهم نِسَاءً أكثرَ من نسائِكَ ، وأولاداً أكثرَ من أولادك ، كان لداودَ عليه السلام مائة امرأةٍ ، ولسُليمان ثلاثمائة امرأةٍ مهرية وستُّمائة سريَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ أي هل يملِكُ أحدٌ من الرُّسل أن يأتي بآيةٍ إلا بإذنِ الله ، سبحانهُ هو المالكُ للآياتِ لا يقدرُ أن يأتي أحدٌ شيئاً منها إلا بإذنهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } ؛ أي لكلِّ مدَّةٍ من آجَال العباد في الحياةِ والفَناءِ كتابٌ قد كتبَ اللهُ ذلك للملائكةِ ؛ يدُلَّهم به على علمهِ بالأَشياء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } ؛ قال ابنُ عباس : (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا كَتَبُوهُ مِنْ أعْمَالِ الْعِبَادِ مَا لاَ جَرَاءَ لَهُ ، وَيَتْرُكُ مَا لَهُ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ). وقال الضحَّاكُ : (يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ ، وَيُثْبتُ مَا يَشَاءُ فَلاَ يَنْسَخُهُ) ، وعن الحسنِ : (يَمْحُو أجَلَ مَنْ حَانَ أجَلُهُ ، وَيَدَعُ أجَلَ مَنْ لَمْ يَحِنْ أجَلُهُ مَيِّتاً). وَقِيْلَ : يَمحُو الله ما يشاءُ من الطاعاتِ بإحباطِها بالمعاصي ، ومن المعاصِي بتكفيرها بالطاعاتِ.
وقدِ اختلَفُوا : هل يدخلُ في الْمَحوِ والإثباتِ السعادةُ والشقاوة ، والموتُ الحياة أم لا ؟ قال ابنُ عبَّاس : (لاَ يَدْخُلُ) ، وقال عمرِو بن مسعود : (تَدْخُلُ فِيْهِ السَّعَادَةُ وَالشَّقَاوَةُ) ، وكان من دُعاء عمرَ : (اللَّهُمَّ إنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبتْنَا ، وَإنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أشْقِيَاءَ فَامْحُنَا وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ ، فَإنَّكَ تَمْحُو وَتُثْبتُ مَا تَشَاءُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَاب)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ؛ أي أصلُ الكتاب ، قِيْلَ : إنه اللوحُ المحفوظ كَتَبَ اللهُ فيه كلَّ شيء قبلَ أن يخلُقَ العبادَ ، ولا يُزَادُ فيه شيءٌ ولا ينقص منه شيء.
(0/0)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } ؛ أي فإما نُرِيَنَّكَ يا مُحَمَّدُ بعض الذي نَعِدُهم من نصرِ المؤمنين على الكفَّار ، أو نَقبضُكَ إلينا قبلَ أن يكون ما نَعِدُهم من العذاب في حياتك ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ } ؛ أي بلاغُ ما أُنزِلَ إليك ، { وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } ؛ وعلينا حسابُ ما يعمَلون ، والجزاءُ عليه.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ أوَلَمْ يَرَ أهْلُ مَكَّةَ أنَّ نَنْقُصُ الأَرْضَ مِنْ أطْرَافِهَا بفَتْحِ دِيَارهِمْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ) ، وقال الحسنُ : (أرَادَ بنَقْصِ أطْرَافِ الأَرْضِ ذهَابِ فُقَهَائِهَا وَخِيَارَ أهْلِهَا). قال : (وَمَثَلُ الْعُلَمَاءِ مَثَلُ النُّجُومِ إذا بَدَتْ اقْتَدَوْا بهَا ، وإذا أظْلَمَتْ سَكَنوا ، وَمَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الإسْلاَمِ ، لاَ يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } ؛ أي واللهُ يحكمُ بفَتْحِ البُلدانِ لا يتعقَّبُ أحدٌ حُكمَهُ بالردِّ ، { وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ؛ إذا حاسبَ محاسبةً سريعُ الحساب.
(0/0)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أي قد مَكَرَ الذين من قبل هؤلاء الكفارِ بأنبيائهم صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، وبِمَنْ آمَن به ، { فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً } ؛ وعندَ اللهِ جزاءُ مكرِهم جميعاً ، فإنَّ ما يفعلهُ الله من إيصالِ المكروه يثبتُ ، ومكرهم يضمحلُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } ؛ من خيرٍ أو شرِّ فيُجازِيها عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ } ؛ تَهديدٌ لهم أنَّهم إذا جَهِلوا اليومَ عاقبةَ أمرِهم فسيعلمون إذا صاروا إلى الآخرةِ ، { لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ } ؛ المحمودةِ ، لهم أمْ للمؤمنين؟
(0/0)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً } ؛ أي ويقولُ الذين كفَرُوا من اليهود وغيرِهم : يا مُحْمَّدُ لستَ مُرسَلاً من اللهِ ، ومَن يشهدُ لكَ على رسَالَتِكَ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحْمَّدُ : { كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ؛ على أنِّي مرسَلٌ إليكم ، شهادةُ الله على أنَّنِي نَبيُّهُ من المعجزاتِ لا شاهدَ أعدلَ من ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ } ؛ كان ابنُ عباس يقرأ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ) بالنصب ويقولُ : (هُوَ عَبْدُاللهِ بَنُ سَلاَمٍ وَأصْحَابُهُ ، كَانَ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ نَعْتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَصِفَتُهُ) وكان يقولُ : (هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ بالْمَدِينَةِ ؛ لأَنَّ هَؤُلاَءِ أسْلَمُواْ بالْمَدِينَةِ).
وكان ابنُ مسعودٍ يقرأ (وَمِنْ عِنْدِهِ) بالخفضِ على معنى أنَّ القرآنَ مِن عندِ الله ، وكان يقولُ : (هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ ، وَعَبْدُاللهِ بَنُ سَلاَمٍ أسْلَمَ بالْمَدِينَةِ وقُرئ (وَمِنْ عِنْدِهِ عُلِمَ الْكِتَابُ) بخفض (مِن) وضمِّ العين وكسرِ اللام من علم ، هكذا رُوي عن سعيدِ ابن جُبير.
(0/0)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } ؛ قد تقدَّم تفسيرُها ، وقولهُ تعالى : (كِتَابٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، ويجوز أن يكون خبرَ (ألر) { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ؛ أي مِن ظُلماتِ الكفرِ إلى نور الإيمان ، { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } بأمرِ ربهم أمَرَك أن تَدعُوَهم إلى الإيمانِ ، وتزجُرَهم عن الكفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ؛ أي الى دينِ العزيزِ الحميد الذي لا يمكنُ أن يُغلَبَ ويقهرَ ، والحميدُ المستحقُ للحمدِ.
(0/0)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ مَن قرأ برفع الهاء فعلى الابتداءِ ، وَمن قرأ بالخفضِ جعلَهُ بدَلاً من الحمدِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } ؛ الويلُ كلمةٌ تستعمَلُ في الشدَّة ، ويقالُ : هو وادٍ في جهنَّم.
(0/0)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } ؛ أي يختارُونَها عليها ، { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي يُعرِضُونَ عن طاعةِ الله من الصدِّ وهو الإعراضُ ، ويجوز أن يكون معناهُ : ويَمنَعُونَ الناسَ.
وقولهُ تعالى : { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } ؛ أي ويطلبُونَ بدينِ الله العِوَجَ ، والعِوَجُ بكسرِ العين في الدِّين ، وبفتحِها في العصا ، وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ؛ أي في ذهابٍ عن الحقِّ بعيدٍ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ؛ أي بلُغَتِهم ليبيِّن لهم ما أُمِرُوا به ونُهوا عنه ، فيفهَمُوا ويتعلَّموا ، { فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ } ؛ مَن كان أهْلاً لذلك ، { وَيَهْدِي } ؛ لدينهِ ، { مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ } ؛ أي بدَلائِلنا وحُجَجِنا التي دلَّت على صحَّة نُبوَّتهِ مثلُ العصا واليدِ وغيرهما ، { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ } ؛ أي بنَعِيمِ الله ، وَقِيْلَ : بوقائعِ الله في الأيَّام السالفةِ من قوم نُوحٍ وعادٍ وثَمود. وَقِيْلَ : بنَعِيمِ اللهِ ونِقَمِهِ ، والمعنى : عِظْهُمْ بالترغيب والترهيب والوعدِ والوعيد.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } ؛ أي إنَّ في ذلك التذكيرِ لدلالاتٍ على قدرةِ الله لكل صبَّارٍ شَكُورٍ على طاعتهِ ، وعن معصيتهِ ، وشكُورٍ لأَنعُمِ اللهِ ، والشُّكرُ هو إظهارُ النعمةِ على جهة الاعتراف بها.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } ؛ هذه الآيةُ قد سبقَ تفسيرُها في سورةِ البقرة.
(0/0)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } ؛ هذه عطفٌ على قولهِ{ إِذْ أَنجَاكُمْ }[ابراهيم : 6] كأنه قالَ : اذكرُوا نعمةَ اللهِ عليكم إذ أنْجَاكُم ، وإذ تأذنَ ربُّكم ، وهذا إخبارٌ عن ما قالَ موسى لقومهِ ؛ أي أعلَمَكم في الكتاب ، { لَئِن شَكَرْتُمْ } نعمَتي { لأَزِيدَنَّكُمْ } نعمةً ، { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } ؛ نِعمَتي ، { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ؛ لِمَن كفرَ.
قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى الآيَةِ : لَئِنْ وَحَّدْتُمُونِي وَأطَعْتُمُونِي ، لأَزيدَنَّكُمْ نِعْمَةً) ، قال قتادةُ : (حَقُّ اللهِ أنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ ، وَيَزِيدَ مَنْ شَكَرَهُ) ، وقولهُ تعالى { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } أي جَحَدتُّم حقِّي وحقَّ نِعْمَتي إنَّ عذابي لشديدٌ.
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ؛ بنعمتهِ ، { فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ } ؛ عن طاعَتِكم ، لم يأمُرْكم بطاعته لحاجتهِ إليها وهو الـ { حَمِيدٌ } ؛ لِمَن وَحَّدَهُ وأطاعَهُ.
(0/0)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } ؛ قِيْلَ : إنَّ الخطابَ في هذه الآية لأُمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَقِيْلَ : هو خطابُ موسى لقومهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } يعني قومَ شُعيب وغيرهم ، { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ } ، لا يعلمُ عددَهم إلاّ الله ، { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَـاتِ } ؛ أي بالدَّلائلِ الواضحاتِ { فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (عَضُّوا أنَامِلَهُمْ غَيْظاً عَلَى الرُّسُلِ فِيْمَا ادَّعَواْ مِنَ النُّبُوَّةِ) ، وقال مجاهدُ : (هَذا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَحْدِ وَالتَّكْذِيب). وَقِيْلَ : معناهُ : وضعَ الكفارُ أيدِيَهم على أفواهِ أنبيائهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ } ؛ بسببٍ من التوحيد ، { مُرِيبٍ } ؛ ظاهرِ الشكِّ ، والرَّيْبُ الشكُّ مع التُّهمَةِ.
(0/0)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ } ؛ أي في توحيدِ الله شَكٌ ، وهذا إنكارٌ من الرسُل عليهم ؛ أي لا شكَّ في توحيدِ الله ، { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي خالِقِهما فكيف يشُكُّون فيه ودلائلُ وحدانيَّته ظاهرةٌ ، { يَدْعُوكُمْ } ؛ إلى دينهِ ، { لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } ؛ في الجاهليَّةِ ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّـى } ؛ منتهَى آجَالِكم ، فلا يعذِّبُكم بعذاب الاستئصال.
وأما دخولُ (مِنْ) في قولهِ { مِّن ذُنُوبِكُمْ } فيجوزُ أن تكون للجنسِ ، كما في قوله{ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ }[الحج : 30] ، ويجوزُ أن تكون للتبعيضِ ؛ أي ليغفرَ لكم بعضَ ذُنوبكم ، فادْعُوا اللهَ وارغَبُوا إليه في مغفرةِ الذُّنوب كلِّها.
قولهُ : { قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } ؛ أي قالت الأُمَمُ لرُسُلِهم : هل أنتم إلاّ آدميُّون مثلُنا لا فضلَ لكم علينا ، { تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا } ؛ تَمْنَعُونَا ، { عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا } ؛ من الأصنامِ ، { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } ؛ فَأْتُوا بحجَّة واضحةٍ بيِّنة ، يعنون الآياتِ التي كانوا يقتَرحونَها على أنبيائهم.
(0/0)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ؛ كما قُلتم ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ؛ كما أنعمَ علينا بأن أرسَلَنا ، { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ ولا نملكُ الآيات التي تقتَرحون علينا ونحن بشرٌ مثلكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ظاهرُ المعنى.
قالَتِ الكفارُ لَهم : فتوَكَّلوا أنتم على اللهِ حتى ترَونَ ما يفعلُ بكم ، قالت الرُّسل : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا } ؛ أي حسبُنا ، والهدايةُ من اللهِ هي الدلالةُ على الحقِّ والرشدِ ، { وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا } ؛ على أذاكُم ، { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ؛ والتوكُّلُ هو التمسُّكُ بطاعةِ الله مع الرِّضا بقضائهِ وتدبيره.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ } ؛ أي قالت الكفارُ لرُسُلِهم : لا نُسَاكِنُكم على مخالفتِكم ديننا { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وقد ذكرنَا في قصَّة شعيب ، { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ } ، فأوحَى اللهُ إلى الرُّسُلِ : { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } ، أي الكفارِ ، { وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ } ؛ أرضَهم وديارهم ، { مِن بَعْدِهِمْ } ؛ من بعد هلاكِهم ، وهذا نِهايةُ ما في الإنعامِ ، فإن هذا جزاءُ مَن توكَّلَ على اللهِ ، { ذلِكَ } ؛ جزاءٌ ، { لِمَنْ خَافَ مَقَامِي } ؛ مقامَ العبادِ عندي ، { وَخَافَ وَعِيدِ } ؛ وخاف وعيدي بالعقاب ولِمَن عصانِي.
(0/0)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } ؛ أي سألَتِ الرُّسل ربَّهم أن يحكُمَ بينهم وبين الكفارِ ؛ لأن الفتحَ ها هنا بمعنى الْحُكْمِ ، يقال للحاكِم : الفَتَّاحُ ، فلما فزِعَتِ الرسلُ إلى ربهم بانجاز الوعد ، فتحَ لهم ما طلبوهُ فخابَ كلُّ جبارٍ عنيد.
والجبارُ : هو الطالبُ للخير والعُلُوِّ فوقَ كلِّ عُلُوٍّ ، والعنيدُ : هو الدافعُ للحقِّ على جِهةِ الاستنكار ، وقال قتادةُ : (الْعَنِيدُ : الْمُعْرِضُ عَنْ طَاعَةِ اللهِ) ، وقال مجاهدُ : (هُوَ الْمُجَانِبُ لِلْحَقِّ).
(0/0)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } ؛ معناهُ أمامَ هذا الجبَّارِ بعدَ الموتِ جهنَّمُ ، والوراءُ يكون من خَلْفٍ وقُدَّامٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } ؛ أي يُسقَى من ماءٍ يَسِيلُ من جُلودِ أهلِ النَّار من القيحِ والدَّمِ ، قال ابنُ عبَّاس : (فِي جَهَنَّمَ أوْدِيَةٌ ، فِي تِلْكَ الأَوْدِيَةِ صَدِيدُ أهْلِ النَّار وَقَيْحُهُمْ وَدِمَاؤُهُمْ ، فَيُسْقَوْنَ مِنْ ذلِكَ الصَّدِيدِ قَدْ نَتَنَ رِيْحُهُ) { يَتَجَرَّعُهُ } ؛ شارِبهُ ، والملَكُ يضربهُ بالمقامعِ ويقولُ له : اشرب ، فيقولُ : لاَ أُطِيقهُ ، فيضربهُ حتى يشربَهُ جرعةً جرعةً ، ولا يكاد يسيغهُ من نتنه وحرِّه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } ؛ لا يقدرُ أن يبتلعَهُ ، والإسَاغَةُ هو دخولُ المشروب في حَلقهِ مع قَبُولِ النفسِ له ، وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " يُقَرَّبُ إلَيْهِ فَيَكْرَهُهُ ، فَإذا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ ، وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأسِهِ فِيْهِ ، فَإذا شَرِبَهُ قَطَّعَ أمْعَاءَهُ ، فَتَخْرُجُ أمْعَاؤُهُ مِنَ الْجَانِب الآخَرِ " كما قال تعالى : { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ }[محمد : 15].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } ؛ أي ويأْتيهِ غَمُّ الموتِ من قدامه ، ومن كلِّ مكان كان فيه يموتُ بدون ذلك في الدُّنيا ، قال ابنُ عبَّاس : (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ). قِيْلَ : وتأتيهِ النيرانُ من كلِّ جانبٍ ، { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } ، فيستريحُ من العذاب ، { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } ؛ أي ومن بعدِ ذلك عذابٌ شديد أشدُّ مما تقدَّمَ لا ينقطعُ ولا يَفْتُرُ.
(0/0)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } ؛ أي مثَلُ أعمالِ الذين كفَرُوا بربهم في انتفاعهِ بها كرمادٍ اشتدَّتْ به الريحُ في يومِ ذي عَاصِفٍ ، يقولُ : كما لا يقدرُ أحدٌ على الانتفاعِ على جمعِ ذلك الرَّماد إذا ذرَّتُهُ الريحُ الشديدة ، فكذلك هؤلاءِ الكفَّار ؛ { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ } ؛ أي لا يقدرون على الانتفاعِ بشيءٍ من الأعمالِ التي عَمِلُوها على جهةِ البرِّ مثلَ صِلَةِ الرَّحِمِ ونحوِها. وأما الكفرُ والمعاصي فلا يكون كرَمادٍ اشتدَّتْ به الريحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ } ؛ أي ذلك الذي ذُكِرَ هو الذهابُ عن التنفُّعِ البعيدِ عن الحقِّ والهدَى.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ } ؛ أي ألَم تعلَمْ - يا محمَّدُ - أنَّ اللهَ خلقَ السموات والأرضَ على ما توجِبُ الحكمة وتقتضيه المصلحةُ ، والحقُّ هو وضعُ الشيء موضعِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } ؛ أيُّها الكفار ؛ أي يهلِكْكم ، { وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } ؛ ويخلُقُ قَوماً آخرين أطوعَ للهِ منكم ، { وَمَا ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } ، أي وليس ذلك على اللهِ بشديدٍ ولا متعذِّر.
(0/0)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً } ؛ أي إذا كان يومُ القيامةِ بَرَزَ الناسُ من قُبورهم للمُسَائَلَةِ والمحاسبةِ ، فيُسأَلون عن أعمالهم ويُجَازَوْنَ عليها ، { فَقَالَ الضُّعَفَاءُ } ؛ أتباعُ الظَّلَمَةِ والعُصاة ، { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ } ؛ وهم الرؤساءُ والقادة : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } ؛ في المعصيةِ والظُّلم في الدُّنيا ، { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ } ؛ دَافِعُونَ ، { عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ }. فيقولُ لهم رؤساؤهم : { قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ } أي ما نخلصُ به من هذا العذاب ، { لَهَدَيْنَاكُمْ } ؛ إليه ؛ أي لا مَطْمَعَ لنا في ذلك ، فكيف تطمَعون في مثلهِ من جِهَتنا ؟ { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } ؛ أي لا حِيلَةَ لنا سواءً أجَزِعْنَا أم صَبَرنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ مِنْ هذا العذاب.
(0/0)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ } ؛ هذا إخبارٌ عن خُطبةِ الشيطانِ ، وذلك أنه إذا دخلَ أهلُ الجنَّةِ الجنةَ ، وأهلُ النارِ النارَ ، قامَ إبليسُ خَطيبًا على مِنبَرٍ من نارٍ ، فقال : يا أهلَ النار إنَّ اللهَ وعدَكم وعداً ، وكان حقّاً وعدهُ ، { وَوَعَدتُّكُمْ } ، أنا ، { فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } الإكراهِ على المعصية ، ولا حجَّة على ما قلتُ ، { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } ؛ إلى طاعَتي بالوَسْوَسَةِ ، { فَاسْتَجَبْتُمْ لِي } ؛ بسوءِ اختياركم ، { فَلاَ تَلُومُونِي } ؛ على ما حَلَّ بكم من العقاب ، { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } ؛ فإنِّي لَمْ أُجْبرْكُمْ على المعصيةِ ، { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } ؛ أي بمُغِيثِكم ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } ؛ ولا أنتم بمُغِيثِيَّ ، والإصْرَاخُ في اللغة : هو الْمُسْتَغِيثُ إغَاثَةً بهِ. ويُحكى أنَّ أعرابياً أتَى على رجُلٍ يقرأ هذه الآيةَ ، فقال : قَاتلَهُ اللهُ مَا أفْصَحَهُ!
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } ؛ إخبارٌ عن كلامِ إبليس ، ومعناهُ : إنِّي كفرتُ من قَبْلُ بالذي أشرَكتُمونِ به في الطاعةِ من قبلِ أن أشركتُمونِي به ؛ أي كفرتُ برَبي من قبلِ ما عدلتُموني بهِ. ويقال : معناهُ : إنِّي كفرتُ الآنَ بما كان من إشرَاكِكُمْ إيَّاي في الطاعةِ إذا أطعتُمونِي وجعلتُمونِي كأنِّي ربٌّ ، فصيَّرتُمونِي شَريكاً لربكُم ، وأنا أكفرُ اليومَ بشِركِكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي قَالَ اللهُ تَعَالَى : إن الظالِمين من إبليسَ وغيرهِ لهم عذابٌ وَجِيعٌ يخلصُ وجعهُ إلى قُلوبهم.
(0/0)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي في جنَّات تجرِي من تحت قُصورِها وأشجارها الأنْهارُ ، { خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ؛ أي يُحَيِّي بعضُهم بعضاً بالسَّلام ، ويرسلُ اللهَ الملائكة إليهم بالسَّلام.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } ؛ أي ألَم تعلَمْ يا مُحَمَّدُ كيف وصفَ اللهُ شبهاً كلمةً طيِّبةً وهي كلمةُ التوحيدِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ والإقرَارُ بالنبُوَّة ؛ كشجرةٍ طيِّبةِ الثمرِ ، وهي النخلةُ التي لا شيءَ أحلىَ من ثَمرِها وهو الرُّطَبُ ، كما لا كلامَ أحسنَ من كلمةِ الرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ } ؛ فيه شَبَّهَ ثباتَ الإيمان وما فيهِ من الأدلَّة ، بقَرَارِ النخلةِ التي أصلُها ثابتٌ على نِهاية الثباتِ في تَمَكُّنِ فرعها في الأرضِ ، بل المعرفةُ في قلب المؤمن أثبتُ من عروقِ النخلة ؛ لأن النخلةَ تُقلَعُ ، ومعرفةُ العارفِ لا يقدر أحدٌ من الناسِ أن يُخرِجَها من قلبهِ.
وقولهُ تعالى : { وَفَرْعُهَا فِي السَّمَآءِ } ؛ تُؤتِي أكُلَها ، فيه تشبيهُ أعمالِ المخلِصين التي هي فروعُ الإيمان في أنَها ترتفعُ وتعلُو إلى جانب السَّماء ؛ لأن الأعمالَ لا تصلحُ إلا بالإيمانِ ، والأصلُ هو الإيمانُ ، والفروعُ هو الأعمالُ الصالحة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } ؛ فيه تشبيهُ ما يحصلُ من الثواب الدائم الذي لا منْزلةَ أعلىَ منه ، وقولهُ تعالى : { بِإِذْنِ رَبِّهَا } ؛ أي بعِلْمِهِ وقُدرتهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ } ؛ أي يُبَيِّنُ اللهُ الأشياءَ للناسِ في صفة التوحيدِ والدين ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } لكي يتَّعِظُوا ويؤمنوا.
(0/0)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } ؛ يعني كلمةَ الشِّرك ، { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } ؛ يعني شجرةَ الْحَنْظَلِ ليس فيها حلاوةٌ ولا منفعة ولا رائحة طيِّبة ، بل تضرُّ مَن تناولَها ، فكذلك كلمةُ الكفرِ تضرُّ صاحبَها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ } ؛ أي اقتُلِعَتْ ، معناهُ : كما أنه ليس لشجرةِ الحنظل أصلٌ تثبتُ عليه وتَقَرُّ ، ولكن تُقلع وتؤخذ حبَّتهُ من أصلهِ ، فكذلك الكفرُ يُبْطِلُهُ الله ويستأصلُ أهلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } ؛ فإن الريحَ تقلَعُها وتذهبُ ، كذلك ليس لكلمةِ الكفر حجَّة يحتجُّ بها صاحبها.
(0/0)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ؛ أي يُثَبتُ اللهُ الذين آمَنوا بقولٍ ثابت وهو : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ في الحياةِ الدُّنيا ، وفي الآخرةِ يعني القبرَ ، كما روُي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ الْمُؤْمِنَ إذا دَخَلَ قَبْرَهُ وَأتَاهُ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ وَقَالاَ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ وَمَا دِينُكَ ؟ وَمَنْ نَبيُّكَ ؟ فَيُثَبتُهُ اللهُ فَيَقُولُ : اللهُ رَبي ؛ وَالإسْلاَمُ دِينِي ؛ وَمُحَمْدٌ نَبيِّي. فَيَقُولاَنِ : صَدَقْتَ هَكَذا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّار ، فَيَقُولاَنِ لَهُ : هذا كَانَ مَنْزِلَكَ لَوْ كَفَرْتَ برَبكَ ، فَإذا آمَنْتَ برَبكَ فَهَذا مَنْزِلُكَ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُفْتَحُ لَهُ فِي قَبْرِه.
وَإنْ كَانَ كَافِراً أوْ مُنَافِقاً فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَا تَقُولُ لِهَذا الرَّجُلِ ؟ فَيَقُولُ : لاَ أدْري ، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ كَذا وَكَذا. فَيَقُولاَنِ لَهُ : لاَ دَرَيْتَ وَلاَ اهْتَدَيْتَ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : هَذا لَكَ لَوْ آمَنْتَ ، فَأَمَّا إذا كَفَرْتَ فَإنَّ اللهَ بَدَّلَكَ بهِ هَذا ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ ، ثُمَّ يَقْمَعُهُ بالْمِطْرَاقِ قَمْعَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهُ خَلْقُ اللهِ كُلُّهُمْ غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ ، فَلاَ يَسْمَعُ صَوْتَهُ شَيْءٌ إلاَّ لَعَنَهُ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إلَى النَّارِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْ ريحِهَا وَسَمُومِهَا ، وَيُقَالُ لَهُ : نَمْ نَوْمَةَ اللَّدِيغِ ، ثُمَّ يُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ عَلَيْهِ أضْلاَعُهُ " فَذلِكَ قولهُ { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } ؛ { وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ } ؛ أي ويهلِكُهم ، { وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ } ؛ من التَّثبيتِ والإضلالِ ، لا مانعَ له مما يفعلهُ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً } ؛ فيه تعجيبٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من صُنعِ المشركين ، فإنَّهم بدَّلوا نعمةَ الله بالكُفرِ ، ثم لم يقتَصِروا على هذا في أنفسهم حتى أضَلُّوا قومَهم ، { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } ؛ أي دارَ الهلاكِ وهي : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } ؛ أي يدخُلونَها يومَ القيامةِ ، { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } ؛ قرارُ من يكون قرارهُ النار ، وقوله تعالى : { جَهَنَّمَ } بنَصب (يَصْلَوْنَهَا).
(0/0)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } ؛ أي أمْثَالاً ونُظرَاءَ ، { لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } ؛ أي كان عاقبَتُهم الضلالَ عن دينِ الله ، { قُلْ تَمَتَّعُواْ } ؛ قَليلاً في الدنيا ، { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ }.
(0/0)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ؛ في الآية أمرٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأن يأمُرَ المؤمنين بما يؤدِّيهم إلى النعيم المقيم ، وقولهُ تعالى : { يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } أي يُؤدُّونَها لمواقيتها بشَرائِطها.
واختلَفُوا في جزمِ { يُقِيمُواْ } قِيْلَ : لأنه جوابُ الأمرِ ، وقال بعضُهم : تقديره : قُل لعباديَ الذين آمَنوا أقِيمُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً } ؛ من الأموالِ في وجه البرِّ من الفرائضِ والنوافل ، سِرّاً في النوافلِ ، وعلانيةٌ في الفرائضِ ، { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ } ؛ يومَ لا يُقبَلُ البدلُ للتخلُّصِ من النار ، { وَلاَ خِلاَلٌ } ؛ أي ولا مَوَدَّةٌ يكون فيها تخليصُ أحدهما للآخرِ.
(0/0)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ } ؛ أي من الثمارِ ما تنتفعون به. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ } ؛ أي السُّفُنَ ، { لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ } ، وتجرِي حيث تشاؤُون ، { وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ } ؛ أي سخَّرَها لكم إلى يومِ القيامة ، { وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ } ؛ بأن أتَى بهما متعاقِبَين لينصرفَ الناسُ في معايشهم بالنهار ويهدأوا بالليلِ.
(0/0)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } ؛ من العاقبةِ وغير ذلك ، ومَن قرأ (مِنْ كُلٍّ) بالتنوين فالمعنى : أعطاكُم من كلِّ ما تقدَّمَ ذِكرهُ من النِّعَمِ ، ثم قالَ (مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي لَم تسألوهُ ، بلِ ابتدأكم بذلك تفضُّلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } ؛ أي إنعَامهِ ، والنِّعمةُ ها هنا اسمٌ أُقيمَ مقامَ المصدر ، ولذلك لم يُجمع ، (لاَ تُحْصُوهَا) أي تَأْتُوا على جميعِها بالعدِّ. وَقِيْلَ : لا تحفَظُوها ولا تطيقوا عدَّها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } ؛ معناهُ : إن الإنسانَ مع هذه النِّعَمِ لظلومٌ لنفسهِ كفَّارٌ لنِعَمِ ربهِ. والإنسانُ : اسمُ جنسٍ لكن يُقصد به في هذا الموضعِ الكافرُ خاصَّة.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً } ؛ أي واذْكُرْ إذ قالَ إبراهيمُ بعدَ ما بَنَى البيتَ : رب اجعل مكَّة آمِناً يأمَنُ فيها الناسُ والوحش ، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ حتى اجتمعَ فيه الناسُ مع شدَّة العداوةِ بينهم ، وتَدْنُوا الوحوشُ فيه من الناسِ فتأمَنُ منهم. وإنما عَرَّفَ البلدَ في هذه الآيةِ ونَكَّرَها في البقرةِ ؛ لأن النَّكِرَةَ إذا أُعيدت تعرَّفت.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ } ؛ أي وَالْطُفْ بي وَبَنِيَّ لُطفاً نتجنَّبُ به عبادةَ الأصنامِ ، { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ } ؛ يعني الأصنامَ ، وأضافَ الإضلالَ إلى الأصنامِ ، وإنْ لم تكن تفعلُ شيئاً ؛ لأنَّهم ضَلُّوا بعبادتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي } أي فمَن تَبعَنِي على دِيني فإنه منِّي ومعي ، { وَمَنْ عَصَانِي } ؛ خالَفَني في دِيني ، { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي غفورٌ لذُنوبهم ، رحيمٌ بهم.
(0/0)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } ؛ أي قالَ إبراهيمُ : إنِّي أسكنْتُ بعضَ ذُرِّيَتي ، وهو إسماعيلُ مع أُمِّه هَاجَرَ ، بوادٍ جَدْبٍ لا يُنبتُ شيئاً ، وأرادَ به وادِي مكَّة وهو الأَبْطَحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } ؛ أي عندَ المسجدِ الحرام ، سَمَّاهُ الْمُحَرَّمَ لأنه لا يستطيعُ أحدٌ الوصولَ إلا بالإحرامِ. وَقِيْلَ : أرادَ به حُرمَةَ الاصطيادِ والقتلِ ، كما رُوي في الخبرِ : " أنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ لاَ يُخْتَلَي خَلاَؤُهَا ، وَلاَ يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ } ؛ أي أسْكنتُهم عندَ بيتكَ الْمُحَرَّمِ ليُقِيمُوا الصلاةَ بحرَمِ مكَّة ، { فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ } ؛ أي تُسرِعُ إليهم ، قال مجاهدُ : (لَوْ قَالَ إيْرَاهِيمُ : أفْئِدَةَ النَّاسِ ، لَزَاحَمَتْهُمُ الرُّومُ وَفَارِسُ ، وَلَكِنْ قَالَ : أفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ، وقال ابنُ جُبير : (لَوْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ : أفْئِدَةَ النَّاسِ ، لَحَجَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : أفِئَدَةً مِنَ النَّاسِ فَهُمُ الْمُسْلِمُونَ).
وقُرئ (تَهْوَى) بنصب الواو من هَوَى يَهْوَى إذا أحبَّ ، إلاَّ أن القراءةَ المعروفة بالكسرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } ؛ أي ما تُسِرُّ أنفسُنا وما تُظهِرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ } ؛ يحتملُ أن يكون من كلامِ إبراهيمَ ، ويحتملُ أن يكون قَولاً من اللهِ معترضٌ بين الكلامَين ، كأنه صدَّقَ إبراهيمَ فإنه لا يخفَى على اللهِ من شيءٍ.
ثم رجعَ إلى قولِ إبراهيمَ : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ؛ رُوي أنَّ إبراهيمَ كان ابن مائة سَنة يومَ وُلد له إسحاق ، وكانت سارةُ يومئذٍ بنتَ تسع وتسعين سَنةً ، وكان إسماعيلُ أكبرَ من إسحق بثلاثةِ عشرة سَنة. وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ } ؛ أي قابلُ للدُّعاءِ.
(0/0)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ } ، أي مُدَاوِماً على إقامةِ الصَّلاة ، وَاجعل ؛ { وَمِن ذُرِّيَتِي } ؛ مَن يقيمُ الصلاةَ ، { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } ؛ أي أجِبْ دُعائِي ، { رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } ؛ قال بعضُهم : أرادَ آدمَ وحوَّاء ؛ لأن اللهَ تعالى كان نَهَاهُ عن الاستغفارِ لأبيه من بعدِ ما تبيَّن له أنَّهُ عدُوُّ للهِ.
وقال بعضُهم : أرادَ أبوَيه الأدنَيَين ، فكان إبراهيم يستغفرُ لأبَويه عن مَوعِدَةٍ وعدَ بها إياه. وقرأ بعضُهم (وَلِوَالِدَتِي) لأن أُمَّهُ كانت مسلمةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ } ؛ أي يومَ يحاسَبُ الخلقُ.
(0/0)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي لا تظُنَّنَّ اللهَ يا مُحَمَّدُ غافلاً عن أعمال الظَّالمين ومجازَاتِهم على ما يعملون ، { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (إذا سِيقُوا إلَى النَّار شَخَصَتْ أبْصَارُهُمْ إلَيْهَا) ، وقال الحسنُ : (تَشْخَصُ أبْصَارُهُمْ إلَى إجَابَةِ الدَّاعِي حِينَ يَدْعَوهُمْ مِنْ قُبُورهِمْ ، لاَ يُغْمِضُونَ أعْيُنَهُمْ مِنْ هَوْلِ ذلِكَ الْيَوْمِ).
(0/0)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } ؛ أي مُسرِعين نحوَ البلاءِ الذي ينْزِلُ بهم ، والإهْطَاعُ : الإسْرَاعُ ، وقال مجاهدُ : (مُهْطِعينَ ؛ أيْ مُدِيْمِينَ النَّظَرَ) ، قال الخليلُ : (الْمُهْطِعُ : الَّذِي قَدْ أقْبَلَ عَلَى الشَّيْءِ بنَظَرِهِ وَلاَ يَرْفَعُ عَيْنَيْهِ عَنْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } أي رَافِعي رؤوسِهم إلى يَرَون في السَّماء من الانفطار ، وانتشار الكواكب ، وتكويرِ الشَّمس ونحوِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } ؛ أي لا يُغمِضُونَ أعْيُنهم من الهولِ والفزَعِ ، وقولهُ تعالى : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أي قلوبُهم خاليةٌ من خيرٍ ، وَقِيْلَ : مجوَّفَةٌ لا عقولَ فيها ، قال السديُّ : (هَوَتْ أفْئِدَتُهُمْ بَيْنَ مَوْضِعِهَا وَبَيْنَ الْحِنْجَرَةِ ، فَلاَ هِيَ عَائِدَةٌ إلَى مَوْضِعِهَا ، وَلاَ هِيَ خَارجَةٌ مِنْهَا).
ثم عادَ إلى خطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ } أي أعلِمْهُم بموضعِ المخافة يوم يأتيهم العذابُ وهو يومُ القيامةِ ؛ { فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي الكفارُ : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ؛ أعِدْنَا إلى حالِ التكليف ، { نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ } ؛ واستَمْهَلوا مدَّةً يسيرةً كي يُجيبوا الدعوةَ ويتَّبعُوا الرسُلَ ، فقَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ } ؛ أي حَلَفْتُمْ مِن قبلِ هذا في الدُّنيا ، { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } ؛ من الدُّنيا الى الآخرةِ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ }[النحل : 38].
(0/0)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } ؛ أي سكَنتُم في مساكنِ عادٍ وثَمودَ ، { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } ؛ أي ظهرَ لكم كيفَ كفَرُوا باللهِ ورسُلهِ ، وكيف عاقَبَهم اللهُ ، والمعنى : كان ينبغِي أن يَنْزَجِرُوا أو يَرْتَدِعُوا الكفرَ اعتباراً بمساكنِهم بعدَ ما تبيَّن لكم كيف فعلنا بهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } ؛ أي وبَيَّنَّا لكم الأمثالَ في القرآنِ الْمُنَبهِ على التفكُّرِ ، فلم يعتَبروا تلكَ الأمثالِ.
(0/0)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ } ؛ أي قد مكَرت الأُمَمُ الماضيةُ بأنبيائِهم ما أمكنَهم من المكرِ ، واللهُ تعالى عالِمٌ بمكرِهم ، { وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ } ؛ جزاءُ ، { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } ؛ مَن قرأ (لِتَزُولَ) بكسر اللام فالمعنى : وإنْ كان مكرُهم قصداً منهم إلى أن تزولَ منه الجبالُ ، ثم لا تزولُ منه الجبال ، فكيف يزولُ منه الدِّينُ الذي هو أثبتُ من الجبالِ.
وَقِيْلَ : معناه الجحدُ ، كأنه قال : وما كان مكرُهم ليزولَ منه دينُ الإسلام وثُبوته كثُبوتِ الجبالِ ، واستحقرَ مكْرَهم. ومن قرأ (لَتَزُول) بفتح اللامِ فمعناهُ : وإنَّ مكرَهم قد بلغَ منتهاهُ حتى تزولَ منه الجبالُ ، فلا يضرُّ ذلك أنبياءَ الله ورسُلَهُ ، فإن اللهَ وعدَ رسُلَهُ النصرَ ، لقولهِ : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ }[الفتح : 228].
(0/0)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } ؛ أي لا تَظْنَّنَّ اللهَ يا مُحَمَّدُ مُخْلِفَ رُسُلِهِ ما وعدَهم من النصرِ وإظهار الدِّين ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } ؛ لا يعجزهُ شيْءٌ ، { ذُو انْتِقَامٍ } ؛ ذو نِقْمَةٍ ممن عصاهُ وكفرَ به.
(0/0)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } ؛ تبديلُها أنْ يُزادَ فيها وينقصَ منها ، وتستوِي جبالُها وأوديتها ، وتُمَدَّ الأدِيْم العُكَاظِيِِّ أرضاً بيضاءَ كالفِضَّة ، وتبديلُ السَّموات انفطارُها وانتشارُ كواكبها وتكويرُ شَمسِها وخسوفُ قمَرِها.
وذهب بعضُهم : إلى أنَّ الآيةَ على ظاهرِها ، وأن هذه الأرضَ تُبَدَّلُ يومئذٍ بأرضٍ أُخرى ، كما رُوي عن عائشةَ : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأ عَلَيَّ هَذِهِ الآيَةَ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ تَكُونَ النَّاسُ ؟ قَالَ : " عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ " يعني الصِّراطَ ، وأما السمواتُ على هذا القولِ ، فإنَّها تُطْوَى وتبدَّلُ سماءً أُخرى ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَطْوِي السَّمَآءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ }[الأنبياء : 104]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } ؛ أي وبرَزُوا من قبورِهم للمحاسَبة.
(0/0)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ } ؛ أي وترَى يا مُحَمَّد الذين أجرَمُوا يومَ القيامةِ (مُقَرَّنِينَ) أي مجمُوعِين مع الشياطين { فِي الأَصْفَادِ } أي في الأغلالِ والسَّلاسلِ ، كما رُوي في الخبرِ : " أَنَّهُ يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي غِلٍّ مِنْ حَدِيدٍ وَقَيْدٍ مِنْ مِنْ حَدِيدٍ " والأصفادُ الأغلال ، واحدها صِفْدٌ وصِفَادٌ. وَقِيْلَ : الأصفادُ الأغلال والقيُودُ.
(0/0)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } ؛ أي قَميصُهم من نارٍ سَوداء كالْقَطْرَانِ ، وهو الذي تُهْنَأٌ به الإبل ، ومَن قرأ (مِنْ قِطْرٍ) فالمعنى : من نُحاسٍ مُذابٍ قد بلغَ النهاية في الحمايةِ. وتحتملُ أنَّهم يُسَرْبَلُونَ سَرْباً ؛ لأن أحدَهما من القِطْرِ ، والاخر من القِطْرَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ؛ أي يعلُو وجوهَهُم النارُ ، وذلك أنَّ بين الكافر وشَيطانهِ حَجَراً من الكبريتِ يشتعلُ في وجههِ ، { لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } ؛ ليجزِيَ الذين أسَاؤُا بما عمِلُوا ، ويجزي الذين أحسَنُوا بالْحُسْنَى ، { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } ؛ إذا حاسب فحسابه سريعٌ ؛ لأنه لا يحاسِبُ بعقدٍ وإشارة ، ولا يتكلَّمُ بلسانٍ ، وإنه يكَلِّمُ الجميعَ في وقتٍ واحد.
(0/0)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ؛ أي هذا القرآنُ ذِكْرٌ بالغٌ وموعظة كافيةٌ للناسِ ، وليُخَوَّفوا بذكرِ العقاب ، { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } ؛ أي ليَتَّعِظَ ذوُو العقولِ من الناسِ ، فيوصلَهم ذلك إلى الجنةِ ، ويخلِّصَهم من النارِ.
عن أُبَيِّ بن كعبٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ إبْرَاهِيمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بعَدَدٍ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ ، وَبعَدَدِ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا ".
(0/0)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
{ الرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ الر ، ومعنَى { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ } أي هذه آياتُ الكتاب الذي وعدتُ إنزالَهُ عليكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } أي مبَيِّنٌ للحلالِ والحرام ، مميِّزٌ بين الحقِّ والباطلِ.
(0/0)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } ؛ أي ربَّما يأتِي على الكفارِ يوم يتمَنَّون أن لو كانوا مُسلمين ، وذلكَ في الآخرةِ إذا صارَ المسلمون إلى الجنَّة والكفارُ إلى النارِ.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى إذا أدْخَلَ أهْلَ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأهْلَ النَّارِ النَّارَ ، أُحْبسَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ عَلَى الصِّرَاطِ ، فَيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لَهُمْ : نَحْنُ حُبسْنَا بكُفْرِنَا وَنِفَاقِنَا ، فَمَا نَفَعَكُمْ بِمُحَمَّدٍ ؟ فَعِنْدَ ذلِكَ يَصِيحُونَ صَيْحَةً لَمَّا عَيَّرَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، فَيَسْمَعُهَا أهْلُ الْجَنَّةِ ، فَيَقُومُونَ إلى آدَمَ ثُمَّ إلى إبْرَاهِيمَ ، ثُمَّ إلى مُوسَى ، ثُمَّ إلى عِيسَى يَطْلُبُونَ الشَّفَاعَةَ لَهُمْ ، فَيُحِيلُونَهُمْ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَشْفَعُ لَهُمْ ، وَذلِكَ هُوَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ ، فَيُدْخِلُهُمُ اللهُ الْجَنَّةَ ، فَإذا نَظَرَ الْمُنَافِقُونَ إلَيْهِمْ تَمَنَّواْ أنْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ).
(0/0)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ } ؛ أي اترُكهم يا مُحَمَّد يأكُلوا في الدُّنيا كالأنعامِ ، ويتلذذُوا قَليلاً ، ويُشغِلْهم الأملُ الطويل عن طاعةِ الله ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ، فسيعلمون ماذا ينْزلُ بهم من العذاب ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " إنَّ أخْوَفَ مَا أخَافُ عَلَى أُمَّتِي شَيْئَينِ : طُولَ الأَمَلِ وَاتِّبَاعَ الْهَوَى ، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ ، وَأمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ".
(0/0)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ * مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } ؛ أي أجلٌ ينتَهون إليه لا يُهلِكُهم اللهُ حتى ينتهون إليه ، لا يهلِكُ أُمَّة قبل أجلِها الذي كتبَ لها ، ولا تؤخَّرُ عن أجلِها طرفةَ عينٍ ، فلا يفترُ هؤلاء الكفار بتأخيرِ وقت إهلاكهم ، فإنه إذا جاءَ الوقتُ الذي كتبَ الله هلاكَهم فيه ، لم يتأخَّروا عنه كما لا يتقدمون عليه.
وفي هذا بيانُ أنه لا يموتُ أحدٌ ولا يقتلُ إلاّ لأَجَلهِ الذي جعلَهُ الله له ، ولا يعترضُ على هذا بقولِ مَن قالَ : يجبُ أن لا يكون القاتلُ ظالماً للمقتولِ ؛ لأنه لو لم يقتلْهُ كان يموتُ في ذلك الوقتِ! قُلنا : كان يموتُ من غير ألَمِ القتلِ ، فكان القاتلُ بإيصالِ ذلك الألَمِ إليه ظَالماً له.
(0/0)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } ؛ أي قالَ الكفارُ مِن أهلِ مكَّة وهم : عبدُالله بن أُمَية المخزومي وأصحابهُ ؛ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : يا أيُّها الذي نزلَ عليه الذِّكرُ في دعواهُ وفي زعمهِ إنَّكَ لَمجنون في دعواكَ أنه نَزَلَ عليكَ هذا. فإنَّهم كانوا لا يُقِرُّونَ بأن القرآنَ أُنزِلَ عليه ، وقولهُ تعالى : { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ } ؛ أي هَلاَّ تأتِينَا بالملائكةِ من السَّماء يشهَدُون أنَّكَ رسولُ اللهِ ، { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ فيما تدَّعي.
(0/0)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ } ؛ جوابٌ من اللهِ لَهم يقولُ : ما تَتنَزَّلُ الملائكةُ من السَّماء إلا بالرِّسالةِ والعقاب والموتِ ، كلُّ ذلك حقٌّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } ؛ أي وما كانوا إذاً مؤَجَّلين إذا نزلت عليهم الملائكةُ ، بل يُستَأصَلُونَ بالعذاب حينئذٍ ، إلا مَن يكون له المعلومُ من حالهِ أنه يؤمنُ.
(0/0)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ؛ الذي جعلنَاهُ مُعجِزاً لا يقدرُ على الإتيان بمثلهِ ، فهو محفوظٌ من الزِّيادة والنقصان ، ويقال : هو محفوظٌ من كَيْدِ المشركين بالإبطال.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ } ؛ أي ولقد أرسَلنا رسُلاً من قبلِكَ في الأُمَم الأوَّلين ، والشِّيَعُ : جمعُ شِيعَةٍ ، والشِّيعَةُ : الأمَّةُ والفِرقَةُ.
(0/0)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ في إنكار التوحيد والبعثِ ، كما يفعلُ بكَ قومُكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ؛ بأن تُسمِعَهم ويُفهِمَهم ثم لا يؤمنون بهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : كذلك نسلكُ الاستهزاءَ ف قلوب الْمُجرِمين حتى يَمتَنِعُوا عنه. والسَّلْكُ : إدخالُ الشيءِ في الشيء. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } بعذاب الاستئصالِ عندَ مُعاندَتِهم في التكذيب.
(0/0)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } ؛ أي لو فَتحنا على هؤلاءِ الكفار بَاباً من السَّماء ينظُرون إليه ، فظَلُّوا يصعَدُون إليه وينْزِلُونَ عنه ، لَم يؤمنوا وقالُوا : (إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا) أي غُطِّيَتْ أبصارُنا وأُغْشِيَتْ عن حقيقةِ الرُّؤية ، { بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } ؛ نحن قومٌ قد سُحِرْنَا ، وتُخَيَّلُ لنا هذه الأشياءُ على خلافِ حقَائِقها ، كما قالوا حين انشقَّ القمرُ وعاينوهُ : هَذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.
ومَن قرأ (سُكِرَتْ) بالتخفيفِ فهو من السُّكْرِ ، وقراءةُ التشديدِ ؛ لتكثير الفعلِ والمبالغة.
(0/0)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً } ؛ وهي منازلُ الشَّمسِ والقمر والكواكب التِّسعة ، وهي اثنَا عسرَ بُرجاً : أوَّلُها الْحَمَلُ والثورُ إلى آخرها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } ؛ أي زيَّنا السماءَ بالكواكب للناظِرين إليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } ؛ أي حَفِظْنَا السماءَ أن يدخُلَ فيها شيطانُ يمكنه الاستماعُ إلى كلامِ الملائكة.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لاَ تُحْجَبُ عَنِ السَّمَوَاتِ كُلِّهَا ، وَكَانُواْ يَقْعُدُونَ فِي السَّمَاءِ مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ ، فَيَسْتَمِعُونَ إلى مَا هُوَ كَائِنٌ فِي الأَرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ ، فَيَنْزِلُونَ بهِ عَلَى كَهَنَتِهِمْ ، فَيَتَكَلَّمُ بهِ الْكَهَنَةُ لِلنَّاسِ ، حَتَّى بُعِثَ عِيسَى عليه السلام فَمُنِعُواْ مِنْ ثَلاَثِ سَمَوَاتٍ ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ إلَى أرْبَعِ سَمَوَاتٍ إلَى أنْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَمُنِعُواْ مِنَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ، وَحُرِسَتِ السَّمَاءُ بالنُّجُومِ وَالْمَلاَئِكَةِ ، فَمَا مِنْهُمْ أحَدٌ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إلاَّ رُمِيَ بشِهَابٍ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ ، وَمِنْهُمُ مَنْ يَخْبَلُ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ } ؛ أي نجمٌ مُضِيءٌ حارٌّ يتوقدُ لا يخطؤهُ ، والشِّهَابُ : هو الكوكبُ الْمُنْقَضُّ.
(0/0)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا } ؛ أي بسَطنَاها ، { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } ؛ أي جِبَالاً ثوابتَ أوتاداً لها ، { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا } ؛ أي في الجبالِ ، { مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) ؛ من كلِّ ما يوزَنُ مثل الذهب والفضة والحديد والصُّفرِ والنُّحاس والرصاصِ. ويجوز أن يكون المعنى : وأنبَتْنَا في الأرضِ من كلِّ شيءٍ من النباتِ والثمار مقدورٍ مقسومٍ لا يجاوِزُ ما قَدَّرَهُ اللهُ على ما تقتضيه الحكمةُ. وأما تخصيصُ الموزون فلأنَّ ما يُكَالُ من الحبوب يعاقبهُ الوزن أيضاً.
(0/0)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } أي جعلنَا لكم في الأرضِ معايشَ مما تأكُلون وتشرَبُون وتلبَسون ، وقولهُ تعالى : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } ؛ أي وجَعلنا لِمَن لستُمْ له برَازِقِينَ معايشَ من الدواب وغيرِها ، وجاءت (مَنْ) لغيرِ الناس كقوله تعالى{ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ }[النور : 45] الآيةُ. وَقِيْلَ : المعنى : وجعَلنا لكم مَن لستُم له برَازِقين ، كأنه قال : جعلنا لكم فيها معايشَ ، وجعلنا لكُم العبيدَ والدوابَّ ، وكفيناكُم مُؤْنَةَ أرزَاقِها.
(0/0)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } ؛ أي ما مِن شيءٍ تحتاجون إليه من النَّباتِ والثمار والأمطار ، إلاّ ومفاتيحَهُ إلَينا وهو في مَقدُورِنا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ؛ أي ما نُنَزِّلُ الرزقَ والمطرَ إلا بمقدارٍ معلوم تقتضِي الحكمةُ إنزالَهُ ، ويعلمُ الْخُزَّانُ مقاديرَهُ ، كما رُوي في الخبرِ : " مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكٌ يَضَعُهَا فِي مَوْضِعِهَا ، إلاَّ يَوْمَ الطُّوفَانِ فَإنَّهُ طَغَى الْمَاءُ يَوْمَئِذٍ عَلَى خُزَّانِهِ ، فَلَمْ يَحْفَظُواْ مَا خَرَجَ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ".
(0/0)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ } ؛ أي ذاتَ لُقَاحٍ تأتِي بالسَّحاب وتَلْقَحُ الشَّجرَ ، فالريحُ هي الْمُلَقَّحَةُ للسَّحاب ؛ أي الْمُحَمِّلَةُ للسحاب المطرَ ، قال ابنُ مسعود : (يَبْعَثُ اللهُ الرِّيحَ فَتَلْقَحُ السَّحَابَ ، ثُمَّ تَمُرُّ بهِ فَيُدِرُّ كَمَا تُدِرُّ النَّعْجَةُ ، ثُمَّ يُمْطِرُ) ، وعنهُ أيضاً قال : (خَلَقَ اللهُ الْمَاءَ فِي الرِّيحِ فَتُفْرِغُهُ الرِّيحُ فِي السَّحَاب ثُمَّ تَمُرُّ بهِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } ؛ يعني المطرَ ، { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } ؛ أي لستُم لذلك الماءِ بخَازنِينَ ولا مفاتيحهُ بأيدِيكم.
(0/0)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ } ؛ أي نُحيي بالبعثِ في الآخرة ، ونُميتُ في الدنيا ونحن الوارثونَ لِمَا في السَّموات والأرضِ بعدَ موتِ أهلها ، ومعنى الإرْثِ : الخلائقُ كلُّهم يَموتُونَ ولا يبقَى إلا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وما يبقَى للحيِّ بعد الميْت يُسمَّى مِيرَاثاً.
(0/0)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ } ؛ أي عِلمْنَا الأوَّلين منكم وعلِمْنا الآخِرين ، وَقِيْلَ : ولقد علِمْنا السَّابقين منك إلى الطاعةِ ، ولقد علمنا المتأخِّرين عن الطاعةِ.
وعن ابنِ عبَّاس قال : (كَانْتِ امْرَأةٌ حَسْنَاءُ تُصَلِّي خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ النِّسَاءِ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَقَدَّمُ فِي الصَّفِّ الأَوَّلِ لِئَلاَّ يَرَاهَا ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ فِي آخِرِ الصَّفِّ ، فَإذا رَكَعَ تَقُولُ هَكَذا ، وَنَظَرَ إلَيْهَا مِنْ تَحْتِ إبْطِهِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
(0/0)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } ؛ أي يجمَعُهم للجزاءِ والحساب ، { إِنَّهُ حَكِيمٌ } ؛ في أفعالهِ ، { عَلِيمٌ } ؛ بما يستحقُّه كلُّ واحدٍ منهم.
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ؛ يعني آدمَ ، والصَّلْصَالُ : هو الطِّينُ اليابسُ الذي لَم تُصِبْهُ نارٌ ، فإذا ضَربَتْهُ صَلَّ ؛ أيْ صَوَّتَ ، وإذا مَسَّهُ النارُ فهو فَخَّارٌ. والْحَمَأُ : جَمْعُ الْحَمَأَةِ ، وَهُوَ الطِّينُ الْمُتَغَيِّرُ إلَى السَّوَادِ. والْمَسْنُونُ : مُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ إلَى النَّتَنِ من قوله{ لَمْ يَتَسَنَّهْ }[البقرة : 259]. وهو الذي أتت عليه السُّنون.
وذلك أن أدمَ كان في الأصلِ تُراباً ثم عُجِنَ ذلك الترابُ بالماءِ فصارَ طِيناً ، ثم صارَ حَمَأً مَسْنُوناً ثم صُوِّرَ ، وتُرِكَ مصَوَّراً حتى يَبسَ فصارَ صَلْصَالاً ، فمكثَ أربعين سنةً ثم صارَ بَشَراً ، لَحماً ودماً وعظماً ، ثم نُفِخَ فيه الروحُ.
(0/0)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ } ؛ قِيْلَ : إن الْجَانَّ أبو الجنِّ وهو إبليسُ ، فمَن أسلَمَ من ولدهِ فهو جِنِّيٌّ ، ومَن كفرَ فهو شيطانٌ ، وقوله تعالى : { مِن قَبْلُ } أي من قبل آدمَ ، وقال الكلبيُّ : (الْجِنُّ وَلَدُ الْجِنِّ وَلَيْسَ هُوَ بإبْلِيسَ ، إنَّمَا إبْلِيسُ أبُو الشَّيَاطِينِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن نَّارِ السَّمُومِ } أي مِن نارٍ حارَّة ، قال ابنُ مسعود : (سَمُومُكُمْ هَذِهِ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءاً مِنَ السَّمُومِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ الْجَانُّ) ، ويقالُ : السُّمُومُ نارٌ صافية لا دخانَ لها ، ومِن هذا سُمِّيت الريحُ المحرقة الحارَّة سَموماً. وأما الْمَارجُ الذي ذكرَهُ الله تعالى في قولهِ{ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ }[الرحمن : 15] فمعنى الْمَارجِ ما اختلطَ من لَهَب النار.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ } ؛ أي جمعتُ خَلقَهُ باليدَين والرجلين والعينَين وسائرِ الأعضاء ، { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } ؛ وأدخلتُ فيه روحاً فصارَ بشراً بعدَ ما كان طِيناً يابساً ، { فَقَعُواْ لَهُ } ؛ على وجُوهِكم ، { سَاجِدِينَ } ؛ أي خاضعين له بالتحيَّة ، { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } ؛ لآدمَ سجودَ تحيَّة له ، وعبادةً للهِ ، وقولهُ تعالى : { أَجْمَعُونَ } يدلُّ على اجتماعِهم في السُّجود في حالةٍ واحدة.
(0/0)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ } ؛ أي امتنعَ من السُّجود لآدمَ ، { قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ * قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ } ؛ أي كيفَ ينبغي أن أسجُدَ له ، وأنا أشرفُ منه أصلاً وهو ، { خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، من طينٍ يتصَلصَلُ مجوَّف محتاجٌ إلى الطعامِ والشراب ، وهو من حَمَأ ، والْحَمَأُ ظلمةٌ وسواد ، والْمَسْنُونُ من الحمأ مُنْتِنٌ ، { قَالَ } ؛ اللهُ تعالى : { فَاخْرُجْ مِنْهَا } ؛ أي من الجنَّة ، وَقِيْلَ : من الأرضِ ، فأَلْحَقَهُ بجُزر البحارِ ، { فَإِنَّكَ رَجِيمٌ } ؛ أي من مطرودٌ من الرحمةِ ، مُبْعَدٌ من الخير ، { وَإِنَّ عَلَيْكَ } ؛ مع هذا ، { اللَّعْنَةَ } ؛ لَعْنَةَ اللهِ ولعنةَ الخلائقِ ، { إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } يومِ الجزاء وهو يومُ القيامةِ ، وهو أوَّلُ من عصَى اللهَ من أهل السَّموات والأرضِ.
(0/0)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ؛ أي أجِّلنِي إلى يوم يبعَثُ الخلائقُ ، أرادَ الخبيثُ أن لا يذوقَ الموتَ ، { قَالَ } ؛ الله تعالى : { فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ } أي وقتِ النَّفخَةِ الأُولى حين يُصعَقُ مَن في السمواتِ ومن في الأرض ، وبين النفخة الأُولى والثانية أربعون سنةً.
وهذا لم يكن إجابةً من اللهِ لإبليس إلى ما سألَ ، لأنه لم يكن أجلهُ ما دون آخرِ التكليف ثم أجَّله إليه ، ولكن كان في علمِ الله أنه لم يسأَلْ لكان أجلهُ يمتَدُّ إلى آخرِ التكليف ، فيكون هذا جوابَ إهانةٍ لا جواب له.
فلما لم يعطَ الخبيثُ ما سألَ من النَّظْرَةِ { قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ؛ أي خَيَّبْتَنِي من جنَّتك ورحمتك ، { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } ؛ لبَنِي آدمَ ، { فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ من الشهوات واللذاتِ حتى يختارُوها على ما عندَكَ.
(0/0)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } ؛ من قرأ بكسرِ اللام فمعناه : الذين أخلَصُوا الطاعةَ لكَ ، ومَن نصبَها فمعناهُ : الذين أخلَصتَهم لنفسِكَ.
(0/0)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } ؛ أي افعَلْ ما شِئْتَ ، فإن طريقكَ عليَّ لا تَفوتُني ، وهذا تَهديدٌ لإبليسَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : علَيَّ مَمَرُّ مَنْ أطاعكَ وعلَيَّ مَمَرُّ من عصَاكَ ، كما قال : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }[الفجر : 14] ، وَقِيْلَ : معناهُ : إن هذا دينٌ مستقيم عليَّ بيانهُ والهداية إليه.
(0/0)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ؛ أي لا تقدرُ أن تحمِلَهم على المعصيةِ وتُكرِهَهم عليها ، { إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } ، ولكن مَن يتَّبعُكَ فإنما يتَّبعُكَ باختيارهِ.
(0/0)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ أي لموعِدُ إبليس ومَن تَبعَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } ؛ بعضُها أسفلَ من بعضٍ ، وكلُّ طَبَقٍ منها أشدُّ حرّاً مِن الذي فوقَهُ سبعين ضِعْفاً ، والبابُ الأوَّلُ أهونُ حرّاً ، ولو أن رجُلاً بالمشرقِ فكُشِفَ عنها بالمغرب لخرجَ دماغهُ من مِنْخَرَيهِ من شدَّة حرِّها.
والطبقُ الأول : جهنَّم ، فيه أهلُ القِبلَةِ مِن أهلِ الكبائر إذا ماتوا غيرَ تائبين. الثانِي : لَظَّى ، وفيه النَّصارَى. والثالثُ : الْحُطَمَةُ ، وفيه اليهودُ. الرابعُ : السَّعِيرُ ، وفيه الْمَجُوسُ. الخامسُ : سَقَرُ ؛ وفيه المشركين وأهلِ الأهواء المختلفة ، السادسُ : الْجَحِيمُ ، وفيه الصَّابئُونَ والزنادقةُ ، السابعُ : الْهَاويَةُ ، وفيه المنافقونَ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ }.
(0/0)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } ؛ أي المتَّقين للمعاصي بالإيمان والطَّاعة في بساتينَ وأنْهارٍ ظاهرةٍ تنبعُ مثلَ الفَوَّارَاتِ ، وتجرِي بلا أُخدودٍ ، يقالُ لهم يومَ القيامة : { ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ } ؛ ادخلُوا الجنةَ بسلامٍ ؛ أي سلامٍ من الآفَاتِ ، وَقْيْلَ : بتحيَّة من اللهِ ، { آمِنِينَ } ، من كلِّ ما تكرَهُون.
(0/0)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } ؛ أي نزَعنا ما في صدور أهل الجنَّة من أسباب العداوةِ من الحقد والحسَدِ والتباغُض ، { إِخْوَاناً } ؛ أي حتى يصِيروا بمنْزِلة الإخوان ، { عَلَى سُرُرٍ } ؛ من ذهبٍ ، { مُّتَقَـابِلِينَ } ؛ في الزيادةِ تسيرُ بهم سُرُوُهم في الجِنَانِ ، بعضُها إلى بعضٍ ، والسُّرُرُ جمع سَرِيرٍ. وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قالَ : (إنِّي لأَرْجُو أنْ أكُونَ أنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذينَ قَالَ اللهُ { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَـابِلِينَ } ).
(0/0)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } ؛ أي لا يُتعِبُون أنفُسَهم في طلب العيش ، { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } ؛ ولا يخافون الإخراجَ منها أبداً ، شبابٌ لا يَهرَمُون ؛ أصحاءٌ لا يَسقَمُونَ ؛ أحياءٌ لا يَموتون.
(0/0)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ؛ أي أخْبرْ عِبادي أنِّي أنا الغفورُ لذنوب مَن تابَ ، الرحيمُ لِمَن ماتَ على التوبةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ } ؛ لِمَن استحقَّهُ.
(0/0)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } ؛ أي أخبرهُم عن أضيافِ إبراهيمَ وهم الملائكةُ ، إلاّ أنه قالَ (عن ضَيْفِ) لأن الضيفَ مصدرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ.
(0/0)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } ؛ أي قالَ لهم إبراهيم حين لم يَطعَمُوا من طَعَامِهِ : إنَّا منكم فَزِعُونَ ، والوَجَلُ : هو الفزعُ ، { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } ؛ أي لا تَخَفْ ، { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } ؛ بمولودٍ إذا وُلد كان غُلاماً ، وإذا بَلَغَ كان عَليماً ، { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي } ؛ بالولدِ ، { عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ } ؛ بالشَّيب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } ؛ قالَ هذا على جهة التعجُّب. وَقِيْلَ : أراد فتُبشِّرون بهذا من عندِ الله ، أو من تلقاءِ أنفُسِكم. { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ } ؛ أي بأمرِ الله ، فإنَّ أمرَ اللهِ لا يكون إلا حقّاً ، { فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ } ؛ من رحمةِ الله ، ثم { قَالَ } ؛ لَهم : كيف أقنطُ من رحمةِ الله ، { وَمَن يَقْنَطُ } ؛ منها ، { مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ }.
(0/0)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ } ؛ أي ما شأْنُكم أيُّها المرسَلون ؛ لأنَّهم رسُل اللهِ ، { قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى } ؛ أي لهلاكِ ، { قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } ؛ وهم قومُ لوطٍ.
(0/0)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } ؛ أي إلاّ خاصَّةَ الذين آمَنوا به ، { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ من الهلاكِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } ؛ استثناءٌ من الهاءِ والميمِ ، وكانت امرأتهُ منافقةً واسمها وَاعَلَة ، فقُدِّرَ عليها الهلاكُ ، والغابرُون هم الباقون في موضعِ العذاب.
(0/0)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ } ؛ أي لما جاءَ الملائكةُ آلَ لوطٍ ، { قَالَ } ؛ لهم لوطُ : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } ؛ وإنما قالَ لهم ذلك ؛ لأنَّهم جاؤهُ على هيئةٍ وجَمال لم يكن قد شاهدَ مِثلَهم في الجمالِ ، وكان يعلمُ طلبَ قومه لأمثالهم ، فخافَ عليهم منهُم فقالَ : إنَّكم قومٌ أُنْكِرُ مجيئَكم إلَيَّ في هذه الديار ، { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } ؛ أي بالعذاب الذي يكونُ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ } ؛ بأمرٍ من اللهِ ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } ؛ في ذلكَ.
(0/0)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيلِ } ؛ أي ببَعضِ من اللَّيلِ عند السَّحَر ، { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } ؛ أي كُن فيمَن يسيرُ خلفَهم ؛ كي لا ينالَهم العذابُ ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي لا يتخلِفْ في موضعِ الهلاك ، وَقِيْلَ : لا يلتفِتْ إلى شيءٍ يخلِّفهُ ؛ أي لا يعرِجْ على شيءٍ ، { وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } بالمضيِّ إليه وهو صفد.
(0/0)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ } ؛ أي وأوحَينا إليه ذلك الأمرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } ؛ في موضعِ نصبٍ بدل مِن قوله (ذلِكَ الأَمْرَ) ، وَقِيْلَ : في موضع خفضٍ ؛ لأن المعنى بأنَّ دابرَ هؤلاءِ مقطوعٌ ، وقَطْعُ الدَّابرِ هو الإتيان على آخرِهم بالهلاكِ حتى لا يبقَى منهم أحدٌ. وقولهُ تعالى : { مُّصْبِحِينَ } ؛ أي مُستَأصَلون عندَ الصَّباح ، ولا يبقَى لهم نسلٌ ولا عَقِبٌ.
(0/0)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ } ؛ أي أهلُ مدينة قومِ لوط وهي سَدُوم ، يبَشِّرُ بعضُهم بعضاً بأضيافِ لوط لعمَلِهم الخبيثِ ، فإنَّهم كانوا يُجَاهِرُونَ بهذه الفاحشةِ ، وقال لَهم لوطُ : { قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ في الحرامِ ، { وَلاَ تُخْزُونِ } ؛ ولا تُذِلُّون في أمرِي ، { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } ؛ أي عن ضيافةِ الغُرباء.
(0/0)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي } ؛ أُزَوِّجُكُموهُنَّ ، { إِن كُنْتُمْ } ؛ لا بدَّ ، { فَاعِلِينَ } ؛ مثلَ هذا الفعلِ ، وذلك أنه لم يَجِدْ ما يتَّقِي به أضيافَهُ أبلغَ من عَرضِ بناته عليهم للتزويجِ ، وافتداءِ ضَيفهِ ببناتهِ في الشَّفاعة ، وقد كان عَلِمَ أنَّهم لا يرغبون في التزويجِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ (بَنَاتِي) بناتِ قَومِي ؛ لأن نساءَ أُمَّة كلِّ نبيٍّ بمنْزِلةِ بناتهِ في نفقته عليهنَّ.
(0/0)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } ؛ هذا قسَمٌ بحياةِ نبيِّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ، ولم يُقسِمْ بحياة أحَدٍ غيرهِ ، تقديرهُ : لعَمرُكَ قَسَمِي ، إلاَّ أنه حُذفَ الخبرَ ، وجوابهُ : إنَّهم لَفِي غَفَلَتِهم يتحيَّرون.
(0/0)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } ؛ أي وقتَ الإشراقِ ، وذلك أنَّ الملائكةَ قلَعُوا مَدائِنَهم وقتَ الصُّبح ، فرفَعُوها إلى قريبٍ من السَّماء ، ثم قلَبُوها عند طلوعِ الشمس ، وصاحَ بهم جبريلُ حينئذٍ ، { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } ، وقد تقدَّم تفسيرُ باقي الآيةِ في سورة هودٍ.
(0/0)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } ؛ أي في إهلاكِ قومِ لوط لآياتٍ للمتفرِّسِين ، والمتوسِّمُون هم النُّظَّارُ المثبتون في نَظَرِهم حتى يعرفوا حقيقيةَ السِّمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } ؛ أي إنَّ قَريَاتِ قومِ لوط لبطَريقٍ واضحٍ ولا يندرسُ ولا يخفَى على طريقِ قُومِكَ إلى الشَّام ، والمعنى أن الاعتبارَ بها ممكنٌ. وقولهُ تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي لدلالةً للمؤمنين الذين يصدِّقون بذلك.
(0/0)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ } ؛ أي وقد كان أصحابُ الأيْكَةِ وهو قومُ شُعَيبٍ لَظَالمين بكُفرِهم ، والأيْكَةُ : الشَّجرُ الملتف الكبيرُ ، وكان شُعيب بُعِثَ إلى قَومَين ، إلى أهلِ مدينَ كانوا يطفِّفون الكيلَ والوزنَ فأُهلِكوا بالصَّيحة ، وبُعث إلى أصحاب الأيكةِ فأُهلِكُوا بالظُّلَّّةِ.
ويقالُ : إن مَديَنَ والأيكة واحدٌ ، كانت الأيكةُ عند مِديَن ، فخرَجُوا من مديَن إليها يطلبون الرُّوح عندَها ، فأخذهم عذابُ يوم الظُّلةِ ، واضطرمَ المكانُ عليهم نَاراً فهَلَكوا عن آخرِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ } ؛ أي بالعذاب ، { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } ؛ أي إن قريَات لوطٍ ومواضعِ شُعيب لعلَى طريقٍ مُبين.
(0/0)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } ؛ أي ولقد كذبَ قومُ صالحٍ ومَن تقدَّم من المرسَلين ، والْحِجْرُ ديارُ ثَمُودٍ ، وإنما سُمُّوا أصحابَ الحجرِ ؛ لأن الحجرَ اسمٌ لوادٍ كانوا يسكُنون عندَهُ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا } ؛ يريدُ الناقةَ ، { فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ }.
(0/0)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } ؛ أي يَنقُبُونَ بيوتَهم في الجبالِ آمِنِينَ من الموتِ لطُولِ أعمارِهم ، وَقِيْلَ : من الحرِّ وسقُوطِ السَّقفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } ؛ أي وقتَ الصُّبح صاحَ بهم جبريلُ فهلَكوا ، { فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ } ؛ من عذاب الله ، { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ من الأموالِ.
(0/0)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ } ؛ أي للحقِّ وإظهارِ الحق لم نخلُقْهما عَبَثاً ، { وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } ؛ يعني القيامةَ لِمُجازَاةِ الناسِ كلِّهم ، { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } ؛ أي أعرِضْ عن مُجازَاةِ المشركين وعن مجاوبَتِهم ، فإنَّ مجاوبةَ السَّفيه سَفَهٌ ، قال مجاهدُ : (هَذا مَنْسُوخٌ بآيَةِ الْقِتَالِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ } ؛ أي الخالقُ للإنسان ، العالِمُ بتدبيرِ خَلقِهِ.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } ؛ أي أكرَمناكَ يا مُحَمَّدُ بسبعٍ من الْمَثَانِي ، قِيْلَ : هي السبعُ الطِّوالُ ، وهي السورُ السبع من أوَّلِ البقرةِ إلى الأنفالِ والتوبةِ ، وهما جميعاً سورةٌ واحدة ، وسُميت هذه السورةُ مَثَانِيَ ؛ لأنَّهُ ثَنَّى فيها الأقاصيصَ ، والأمر والنهيَ ، والوعيد ، والْمُحكَمَ ، والمتشابهَ.
وقال ابنُ عبَّاس : (السَّبْعُ الْمَثَانِي فَاتِحَةُ الْكِتَاب) هكذا رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : " مَا أنْزَلَ اللهُ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالزَّبُورِ مِثْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَاب ، وَإنَّهَا السَّبْعُ الْمَثَانِي ".
وإنما سُمِّيت هذه السورةُ مَثَانِيَ ؛ لأنَّها تُثْنَى في كلِّ صلاةٍ. وإنما خَصَّ هذه السورةَ من جُملةِ القرآن تَعظيماً لها ؛ لأن كمالَ الصلاةِ متعلَّقٌ بها ، كما خصَّ جبريلَ وميكائيل من جُملة الملائكةِ تَعظيماً لهما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } ؛ أي وآتَيناكَ القرآن العظيمَ.
(0/0)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } ؛ أي لا تَنْظُرَنَّ بعَينِ الرَّغبةِ إلى ما أعطَينا من الأموالِ رجَالاً من بني قُريظة والنَّضير وغيرِهم من قُريش ، فإنَّ ما نُعطيكَ من النبوَّةِ والقرآن أعظمُ مما أعطَيناهم من الأموالِ ، { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ بما أنعَمْنا عليهم من ما لَم نُنعِمُ به عليكَ.
ويقالُ : لا تحزَنْ على هلاكِهم إن لَم يُؤمِنوا ، وهذا القولُ أقربُ ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان لا يجوزُ أن يَحْسِدَ أحداً بما أنعمَ اللهُ به عليهِ من نَعيمِ الدُّنيا ، وإنما كان يحزنُ على إصرارِهم على الكُفرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي تواضَعْ ، وألِنْ جناحَكَ للمؤمِنين ؛ لكي يتَّبعْكَ الناسُ على دِينِكَ ، ولا ينفِرُوا من عندِكَ.
(0/0)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ } ؛ أي الْمُعَلْمُ بموضعِ المخافة ، الْمُبينُ لكم بلُغةٍ تصدِّقونَها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ } ؛ قال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : وَأنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ كَمَا أنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى). سَمَّاهم مُقتَسِمينَ ؛ لأنَّهم اقتَسَموا كُتُبَ اللهِ تعالى ، فآمَنُوا ببعضِها وكَفَرُوا ببعضِها ، وهمُ ، { الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ } ؛ أي فرَّقوهُ فآمَنُوا ببعضهِ وهو ما وافقَ دينَهم ، وكفَرُوا ببعضهِ وهو ما خالفَ دينهم ،
وقال بعضُهم : رهطٌ من أهلِ مكَّة ، قال مقاتلُ : (سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلاً بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ ابْنُ الْمُغِيرَةِ أيَّامَ الْمَوْسِمِ ، فَاقْتَسَمُواْ الأعْقَابَ ، وَقَعَدُواْ عَلَى طَرِيقِهَا ، فَإذا جَاءَ الْحُجَّاجُ قَالَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ : لاَ تَغْتَرُّوا بهَذا الْخَارجِ مِنَّا الْمُدَّعِي النُّبُوَّةَ فَإنَّهُ مَجْنُونٌ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى عَلَى طَرِيقٍ أُخْرَى : إنَّهُ كاَهِنٌ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : شَاعِرٌ ، وَالْوَلِيدُ قَاعِدٌ عَلَى بَاب الْمَسْجِدِ نَصَّبُوهُ حَكَماً ، فَإذا سُئِلَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : صَدَقَ أُوْلَئِكَ يَعْنِي الْمُقْتَسِمِينَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ } هم هؤلاءِ المقتَسِمين جَزَّءُوا القرآن ، فقالَ بعضُهم : سحرٌ ، وقال بعضهم : كَذِبٌ ، وقال بعضُهم : شِعرٌ ، وقال بعضُهم : أساطيرُ الأوَّلين ، وقال بعضُهم : مُفترَى. ومعنى التَّعْضِيَة : التفريقُ ، يقالُ : عَضَيْتُ الشيءَ إذا فرَّقتَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ أي في الآخرةِ ، { عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ مِن تفريقِ القرآن ، وصَرفِهم الناسَ عن دينِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
وعن أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وفي هذهِ الآية قالَ : " فَوَرَبكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ قَوْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " وَقَالَ عبدُالله : (وَالَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ مَا مِنْكُمْ أحَدٌ إلاَّ وَيَسْأَلُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا عَمِلْتَ ؟ يَا ابْنَ آدَمَ مَاذا أجَبْتَ الْمُرْسَلِينَ).
واعترضت الْمُلْحِدَةُ على هذه الآيةِ ، وعلى قولهِ تعالى{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن : 39] وحكَمُوا عليهم بالتناقُضِ!
والجوابُ : إنه لا يقالُ لهم هل عملتم كذا ؛ لأنه أعلَمُ بذلكَ منهم ، ولكن نقولُ لَهم : لِمَ عملتم كذا ، وقال قطربُ : (السُّؤَالُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : سُؤَالُ اسْتِعْلاَمٍ وَاسْتِخْبَارٍ ، وَسُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَوْبيخٍ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن : 39] يَعْنِي لاَ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ اسْتِخْبَارٍ ؛ لأنَّهُ عَالِمٌ قَبْلَ أنْ يَخْلِقَهُمْ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَتَقْرِيعٍ).
(0/0)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ؛ أي أظهِرْ أمرَكَ بمكَّة واترُكهم حتى يجيءَ أمرُ الله بقتالهم ، وكان صلى الله عليه وسلم مُستَخفياً بمكَّة قبلَ نزولِ هذه الآيةِ ، لا يظهرُ شيئاً مما أنزلَ الله عليه ، فلما نزلت هذه الآيةُ أظهرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمرَهُ وأعلنه بمكَّة.
(0/0)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } ؛ بكَ ، { الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلـاهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } ؛ وهم خمسةُ نَفَرٍ أهلكَهم اللهُ في يومٍ واحد ، منهم العاصُ بن وائلٍ ، نزلَ شِعباً من ذلكَ الشِّعاب ، فلمَّا وضعَ قدمَهُ على الأرضِ قال : لُدِغْتُ ، فطلَبُوا فلم يجدوا شيئاً ، فانتفَخَت رجلهُ حتى صارَت مثل عنُقِ البعيرِ فماتَ مكانَهُ.
ومنهم الحارثُ بن قيسٍ أكلَ حُوتاً مالحاً فأصابَهُ عطشٌ شديد فلم يزل يشربُ حتى انقدَّ مكانه فماتَ.
ومنهم الأسودُ بن عبدِالمطلب بن الحارث ، قعدَ إلى أصل شجرةٍ ، فجعلَ جبريل يضربُ رأسَهُ على الشَّجرة حتى ماتَ ، وكان يستغيثُ بغُلامهِ ، فقال غلامهُ : لا أرَى أحداً صنعَ بكَ شيئاً غيرَ نفسِكَ.
ومنهم الأسودُ بن عبدِ يَغوث خرجَ من أهلهِ فأصابه السَّمُومُ فاسودَّ حتى صارَ حَبَناً ، واتَى أهلَهُ فلم يعرفوهُ فأغلقوا دونه البابَ حتى ماتَ.
ومنهم الوليدُ بن المغيرةِ خرجَ يتبَختَرُ في مِشْيَتِهِ حتى وقفَ على رجُلٍ يعملُ السِّهامَ ، فتعلَّقَ سهمٌ بثوبهِ فجعل رداءَهُ على كَتِفِهِ فأصابَ السهمُ أكحلَهُ فقطعه ، ثم لَم ينقطعْ عنه الدمُ حتى ماتَ ، فذلك قوله { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } أي بكَ وبالقرآنِ.
(0/0)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } ؛ أي ولقَدْ نعلمُ يا مُحَمَّد أنَّكَ يضيقُ صدرُك بما يقولون من التكذيب بأنَّكَ شاعرٌ وساحر وكاهن ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } ؛ أي فَصَلْ بأمرِ ربكَ ، واحمدْهُ بالثَّناءِ عليه ، { وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ } ؛ أي مِنَ العابدين لله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } ؛ أي استقِمْ على عبادةِ ربكَ وطاعتهِ حتى يأتيكَ الموتُ ، سَمَّاهُ يَقيناً ؛ لأنه مُوقِنٌ به.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " مَا أوْحِيَ إلَيَّ أنْ أجْمَعَ الْمَالَ وَأكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ ، وَلَكِنْ أُوْحِيَ إلَيَّ أنْ أُسَبحَ بحَمْدِ رَبي وَأكُونَ مِنَ السَّاجِدِين " ، وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أيْ قُلْ سُبْحَانَ اللهِ وَبحَمْدِهِ ، { وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ } أيِ الْمُصَلِّينَ ، فَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذا حَزَّ بهِ أمْرٌ فَزِعَ إلَى الصَّلاَةِ(.
وعن أُبَي بن كعبٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْحِجْرِ كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بعَدَدِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ، وَبعَدَدِ الْمُسْتَهْزِئِينَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ".
(0/0)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
{ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ } [القمر : 1] قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إنْ يَزْعُمْ أنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ ، فَأَمْسِكُواْ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَمَّا رَأواْ أنَّهُ لاَ يُنْزِلُ شَيْئاً قَالُواْ : مَا نَرَى شَيْئاً ، فَأَنْزَلَ اللهُ{ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }[الأنبياء : 1] ، فَانْتَظَرُواْ قُرْبَ السَّاعَةِ ، فَلَمَّا امْتَدَّتِ الأَيَّامُ قَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئاَ تُخَوِّفُنَا بهِ ، فَأنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } فَوَثَبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَشُكُّ أنَّ الْعَذابَ قَدْ أتَى ، فَقَالَ اللهُ { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } يَعْنِي الْعَذابَ ، فَجَلَسَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم).
وأما ذِكرُ لفظِ الإتيان في هذا ؛ فلأنَّ أمرَ اللهِ في القُرب بِمنْزِلَةِ ما قد أتَى ، كما قالَ تعالى : { وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ }[النحل : 77]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ أي تنزيهاً له تعالى بصفات المدحِ عمَّا يشركون بهِ من الأصنَامِ.
(0/0)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ } ؛ أي ينَزَّلُ الملائكةَ بالوحيِ ، { عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ؛ قرأ الأعمشُ (يَنْزِلُ) بفتح الياء وجزم النون وكسرِ الزَّاي ، قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي بالْمَلاَئِكَةِ جِبْرِيلَ وَحْدَهُ) ، ويسمَّى الوحيُ رُوحاً ؛ لأنَّهُ تَحْيَا به القلوبُ والحقُّ ، ويموتُ الكفرُ والباطلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ } ؛ أي أنْ أعلِمُوا بالتَّخويفِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ ، { فَاتَّقُونِ } ؛ أي فاتَّقوا المعاصيَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنْ أَنْذِرُواْ } في موضعِ النصب بنَزعِ الخافضِ ؛ أي بأنْ أنذِرُوا.
(0/0)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ، أي ليُستَدَلَّ بهما على توحيدِ الله ، وليُعمَلَ بالحقِّ ، { تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ مِن أن يكون له شريكٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفِ الْجَمْحِيِّ حِينَ قَالَ{ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ }[يس : 78]. والمعنى : خلَقَ الإنسانَ من نُطفَةٍ مُنْتِنَةٍ وأنعمَ عليه حَالاً بعد حالٍ إلى أن أبلغَهُ الحالةَ التي تخاصِمُ عن نفسهِ ، فيُنكِرُ إعادتَهُ بعد موتهِ.
(0/0)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا } ؛ أي وخلَقَ لكم الأنعامَ ، وهي ذواتُ الْحِقَافِ والأظْلاَفِ دون الحوَافِرِ. وقولهُ تعالى : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ } ؛ أي مل يُدَفِّيكُمْ من أصوافِها وأوبَارِها من الأكْسِيَةِ ونحوها ، ومِن القَلاَنِسِ واللِّحَافِ ، ومنافعُ أُخَرَ من ألبانِها ونَسْلِها ، والرُّكوب والحمل عليها ، والفُرُشِ والبيوت من أصوافِها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } ؛ يعني لُحومَها.
(0/0)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } ؛ أي ولكم فيها منظرٌ حَسَنٌ ، يقالُ : هذه مَوَاشِي فلان ، فيكون له في ذلك جمالٌ ، قال قتادة : (وَذلِكَ أعْجَبُ مَا يَكُونُ إذا رَاحَتْ عِظَاماً ضُرُوعُهَا طِوَالاً أسْنِمَتُهَا) ، وقولهُ تعالى : { حِينَ تُرِيحُونَ } أي حين تُرِيحونَها في العَشِيِّ مِن مراعيها إلى مَبَارِكِهَا التي تَأْوي إليها ، { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي تَخرُجون بها بالغَدَاةِ من مَرَاحِهَا إلى مَسَارِحِهَا.
(0/0)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ } ؛ أرادَ به الإبلَ تحملُ أمتِعتَكم وزادَكم ، وما يَثْقُلُ عليكم إلى بلدِ قصدتُموه للحجِّ إلى مكَّة ، أو تجارةٍ إلى سائرِ البُلدان ، لولاَ الإبلُ لكان لا يمكِنُكم بلوغُ تلكَ البلدِ إلا بجَهْدٍ ومشَقَّة. وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي مُتَفَضِّلٌ مُنْعِمٌ عليكم.
(0/0)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } ؛ أي وخلَقَ لكم الخيلَ والبغال والحميرَ ؛ لتَركَبوها وتتزَيَّنوا بها زينةٌ ، فيحصلُ لكم منافعُها ، وحُسْنُ منظَرِها للناسِ ، كما قال تعالى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[الكهف : 46]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي يخلقُ أشياءَ لا تَعرِفُونَها لم يُسَمِّها لكم.
رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " " إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ أرْضاً بَيْضَاءَ مِثْلَ الدُّنْيَا ثَلاَثِينَ مَرَّةً مَحْشُوَّةً خَلْقاً مِنْ خَلْقِ اللهِ ، لاَ يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ أمِنْ وَلَدِ آدَمَ هُمْ ؟ قَالَ : " ما يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ ؟ " قَالُواْ : فَأَيْنَ إبْلِيسُ عَنْهُمْ ؟ قَالَ : مَا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ خَلَقَ إبْلِيسَ " ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } "
وهذه الآيةُ مما يُستَدلُّ بها على كراهيةِ لحم الخيلِ على مَذهب أبي حنيفةَ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قال في الأنعامِ{ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }[النحل : 5] ولم يذكُرْ في آيةِ الخيل والبغال إلا الركوبَ والزينةَ.
(0/0)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ } ؛ أي وعلَى اللهِ بينُ الهدى والضَّلالة ليُتَّبَعَ الهدى وتُجْتَنَبَ الضَّلالةُ ، كما قالَ تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً }[الانسان : 3] ، وقال تعالى : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا }[الشمس : 8]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } أي مِن الطُّرُقِ ما هو عادلٌ عنِ الحقِّ ، قال : يعني اليهوديَّةَ والنصرانية والمجوسية ، وقال ابنُ المبارك : (يَعْنِي الأَهْوَاءَ وَالْبدَعَ). قولهُ : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ إلى جنَّتهِ وثوابهِ ، ولأرشدَكم كلَّكم.
(0/0)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } ؛ مثل البرَكِ والغُدْرَان ، ِ ولكم ، { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } ؛ تَرْعَونَ أنعامَكم ، يعني الكَلأَ والأشجارَ التي ترعاهُ الإبلُ.
(0/0)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ تسخيرَ الليل والنَّهار ، مَجيءَ كلِّ واحدٍ منهما عَقِبَ الآخرِ بتقديرِ اللهِ ؛ لينصرفَ الناسُ في معايشِهم بالنَّهار ، ويَسكنُوا بالليلِ ، وتسخيرَ الشمسِ والقمر والنُّجوم مجيئهُ بها في أوقاتٍ معلومة.
(0/0)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي وسخَّرَ لكم ما خَلَقَ في الأرضِ من الدواب والأشجار وغيرها ، { مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } ، ومناظِرهُ وصُوَرُهُ ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ؛ دلائلَ اللهِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً } ؛ يعني السَّمَكَ ، { وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ؛ وهو العرضُ لاستخراجِ اللُّؤلؤ والْمَرْجَانِ لتلبسَهُ نساؤُكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ } ؛ أي وترَى السُّفن في البحرِ مقبلةً ومُدبرةً تشقُّ الماءَ يَميناً وشِمالاً ، يقالُ : مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ ، إذا جَرَتْ جَرْياً شقَّت الماءَ شَقّاً ، والْمَخْرُ صوتُ هُبُوب الرِّيح ، والسفينةُ تجري بالرِّيح ، فسُمِّيت السفينةُ مَوَاخِرَ ، والواحدة مَاخِرَةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ يعني لتَركَبوهُ للتِّجارةِ ، فتطلبوا الربحَ من فضلِ الله لكي تشكُروا نِعَمَهُ.
(0/0)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } ؛ أي وجعلَ فيها جِبَالاً عاليةً يابسةً لئَلاَّ تحركَ بكم الأرضُ وَ ؛ أجرَى فيها ، { وَأَنْهَاراً } ، مثلَ النِّيل والفُرات ودِجلَةَ وسِيحُونَ وجِيحُون ، وَجعلَ فيها ، { وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ، طُرُقَ منافعكم ؛ لكي تَهتَدُوا إلى الموضعِ الذي تقصدونَهُ.
(0/0)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } ؛ أي جعلَ في الأرضِ أعْلاَماً للمسافرين من الجبالِ وغيرِ ذلك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } معناهُ : إنَّ مَن يسيرُ بالليلِ فإنَّما يهتدِي إلى الطُّرُقِ في البرِّ والبحرِ بالنُّجوم مثل الثُّريا وبنات نَعْشٍ والفرقَدين ، يهتدي بها إلى القِبلة والطُّرق.
(0/0)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ؛ أي أفَمَن يخلقُ هذه الأشياءَ وهو اللهُ تعالى كمَن لا يقدرُ أن يخلقَ شيئاً وهي الأصنامُ ، { أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أنَّهما لا يَستويان في استحقاقِ العبادة.
(0/0)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ } ؛ يعني إذا أردتُّم أن تُعَرِّفوا بفاضلِ نِعَمِ الله عليكم في الخلقِ والرِّزق والتمكُّن من الأمور في الدُّنيا لم تقدرُوا على إحصاءِ هذه النِّعم ، { إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ } ؛ لذُنوب عباده إذا تابُوا ، { رَّحِيمٌ } ؛ بهم بالإمهالِ إلى وقت التَّوبة.
(0/0)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ يعني الأصنامَ ، { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ؛ واللهُ تعالى هو الخالقُ لَها. قولهُ : { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } ؛ يعني الأصنامَ ، والمعنى : كيفَ تخلقُ شيئاً ، وهي أمواتٌ لا روحَ لها.
وإنما جَمَعَ بين قولهِ { أَمْواتٌ } وبينَ قولهِ { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } لأنه يقالُ : فلانٌ ميِّتٌ وإنْ كان حيّاً ، إذا كان لا يُنتَفَعُ بهِ ، فكأنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنه لَم يُسَمِّ الأصنامَ أمواتاً من حيث أنه لا ينتفعُ بها ، ولكن لأنه لا حياةَ فيها ، فكيف يعبُدون ما لا يخلقُ وما لا يرزقُ ولا ينفع ، وهو مع ذلك مِن الأمواتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ؛ أي وما تشعرُ الأصنامُ متى يُبْعَثُ الناسُ من القبور فيُحاسَبون ، فكيف يرجُو الكفارُ الجزاءَ من قِبَلِ الأصنامِ ، و(أيَّانَ) كلمةُ اختصارٍِ أصلُها (أيَّ) و (أنَّ).
(0/0)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ } ؛ وهو عَزَّ وَجَلَّ ، { فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } ؛ للحقِّ ، { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } ؛ وهم مُتَعَظِّمُونَ عن قَبولِ الحقِّ أنَفةً مِن اتِّباعهِ واتِّباعِكَ.
(0/0)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ؛ أي حقّاً إنَّ اللهَ يعلمُ سِرَّهم وعلانِيَتَهم ، { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ }.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } ؛ أي إذا قِيْلَ لهؤلاءِ الكفار : ما الذي يدَّعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أنه يَنْزِلُ عليهِ مِن اللهِ ، { قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } أي الذي تذكُرون أنه مُنْزِلُ كلامِ الأولين ، وما يسطِّرون في كتُبهِم من الأخبار والأقاصيصِ.
(0/0)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } ؛ أي آثامَهم ، { كَامِلَةً } ، أي وافرةً ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ ليَحمِلُوا ، { وَمِنْ أَوْزَارِ } ؛ أي آثامِ ، { الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ } ، يصرِفونَهم عن مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، بلا عِلْمٍ ولا حجَّة ، يعني يكونُ عليهم إثْمُ إضلالِهم غيرَهم لا أن يحملون ذنوبَ غيرِهم ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }[الأنعام : 164]. وقوله تعالى : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } ؛ ظاهر المعنى.
(0/0)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ } ؛ أي قد مَكَرَ الذين من قَبْلِ هؤلاءِ بأنبيائهم ، كما مَكَرَ هؤلاء المقتَسِمون الذين اقتَسَمُوا أعقابَ مكَّة ؛ ليصُدُّوا الناسَ عن دينِ الله ، فأتَى اللهُ بُنيَانَ أولئكَ مِن القواعدِ بالعذاب ، { فَخَرَّ } ، فوقعَ ، { عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ } ؛ الهدمُ والاستئصالُ ، { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ؛ بإتيانِ العذاب منهُ.
وقد اختَلفُوا في هؤلاءِ الذي خَرَّ عليهم السقفُ ، قال بعضُهم : هو نَمرُودُ بن كَنعان الذي بَنَى صَرْحاً طولهُ خمسُ آلافٍ وخمسون ذِرَاعاً ، وعرضهُ عرضُ ثلاثةِ آلاف وخمسون ذِرَاعاً ؛ ليصعدَ إلى السَّماءِ ، فوقعَ الصرحُ على الذي كانوا فيه ، وأهلَكَ اللهُ نمرودَ بالبَعُوضِ. وقال بعضُهم : هذا على وجهِ الْمَثَلِ ، فكأنه جعلَ أعمالَهم بمنْزِل البَانِي بناءً سَقَطَ عليهِ.
(0/0)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } ؛ تُشرِكُونَهم معي في العبادةِ ، وقولهُ تعالى : { قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ } ؛ أي قالَ المؤمنون : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } إنَّ الذُّلَّ اليومَ والهوانَ على الكافرين ، { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } تقبضُ أرواحَهم في حالِ ظُلمِهم لأنفُسِهم بالكفر ، { فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ } ، واستَسلَمُوا وانقادوا للمذلَّةِ والهوانِ ، يقولون : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ } ؛ أي مِن معصيةٍ في الدُّنيا ، فيقول المؤمنون : { بَلَى } ؛ قد فَعَلتُمْ ذلكَ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ وتقولُ لهم خَزَنَةُ جهنَّمَ ، { فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } ؛ عن توحيدِ الله وعبادته.
(0/0)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا بَعَثُواْ إلَى أعْقَاب مَكَّةَ رجَالاً ؛ لِيَصُدُّوا النَّاسَ عَنْ دِينِ اللهِ ، بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجَالاً مِنْ أصْحَابهِ : عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ ، فَكَانَ وَافِدُ النَّاسِ إذا قَدِمَ فَرَدَّهُ الْكُفَّارُ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وعَنِ الإيْمَانِ ، سَأَلَ أصْحَابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (مَاذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ؟ قَالُواْ : خَيْراً أيْ أنْزَلَ حَقّاً وَصَوَاباً).
وعلى هذا انتصبَ قولهُ (خَيْراً) ، وإنما ارتفعَ قولهُ في جواب المقتسِمين من كفَّار مكَّة (أسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) لأنَّهم كانوا لا يُقِرُّونَ بإنزالهِ ، بل كانوا يقولُون على جهةِ التكذيب هو أساطيرُ الأولين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ } ؛ أراد بالحسَنَةِ الثناءَ والمدحَ على ألْسِنَةِ المؤمنين ، وَقِيْلَ : للَّذين قالوا لا إلهَ إلا اللهُ يُضَعَّفُ لَهُ بعَشْرٍ ، { وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ } ؛ يعني الجنَّةَ خيرٌ مما يصِلُ إليهم في الدُّنيا ، { وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ }.
ثُم فسَّرَ دارَ المتَّقين فقال : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } ؛ أي بساتِينُ إقامةٍ ، { يَدْخُلُونَهَا } ، يومَ القيامة ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا } ؛ أي من تحت أشجَارِها ، { الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ } ؛ كذلك تكون مجازاةُ الله ، { الْمُتَّقِينَ } ؛ للشِّرك والمعاصِي.
(0/0)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } ؛ عند قبضِ أروَاحِهم ، { طَيِّبِينَ } ؛ أي زَاكِيَةٌ أعمالُهم متمسِّكِين بما أُمِرُوا به مجتَبِينَ لِمَا نُهُوا عنه ، طِّيبَةٌ أرواحُهم بما يُبَشَّرُونَ به من الجنَّة ، { يَقُولُونَ } ؛ أي يقولُ لهم الملائكة : { سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ } ؛ أي ما ينظرُ أهلُ مكَّة في تكذيبهم للرَّسولِ واستبطائهم العذابَ ، إلاّ أن تأتيَهم الملائكةُ لقبضِ أرواحهم ، { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } ؛ بعذاب الاستئصال ، { كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ هؤلاءِ الكفار من تكذيب الرُّسل مثلَ ما فَعَلَ هؤلاءِ فعذبَهم اللهُ { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ } ؛ بذلكَ ، { وَلـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ ظلَمُوا أنفُسَهم حيث فعَلُوا ما استوجَبُوا به العذابَ.
(0/0)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } ؛ أي عقابُ ما عَمِلوا ، أرادَ بالسَّيئات العقابَ كما قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }[الشورى : 40] { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ؛ أي وحلَّ بهم ما كانوا يستَهزِئُون به من العذاب.
(0/0)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } ؛ هذا نظيرُ الآيةِ التي في الأنعامِ{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا }[النحل : 148] قد تقدَّمَ تفسيرهُ ، يعني كفارَ أهلِ مكَّة.
وقولهُ تعالى : { كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ مِنَ الأُمَم الماضيةِ من تكذيب الأنبياء مثلَ ما فعلَ هؤلاءِ ، فلم يكن ذلك حجَّةً لَهم ، { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } ؛ عنِ الله بلُغَةٍ يَعرِفونَها. وقال بعضُهم : إنما قالوا هذا القولَ استهزاءً وسخرية كما قال قومُ شعيب : أتَنهَانَا عمَّا كان يعبدُ آباؤنا.
(0/0)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً } ؛ كما بعثنَاكَ رسُولاً في هؤلاءِ ، { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } ؛ أي اجتَنِبوا الشيطانَ وعبادةَ كلِّ ما تعبدون مِن دون الله ، { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } أي الكفرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي في أرضِ الذين عاقَبَهم اللهُ ، { فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ؛ أي كيف صارَ عاقبةُ مَكرِهم.
(0/0)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ } ؛ أي إنْ تطلُبْ يا مُحَمَّد من جهتك هُداهم ، { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } ؛ أي يحكمُ عليه بالضَّلالة ، ومَن يُضْلِلْهُ اللهُ فلا يهدِي ولا يهتدي ، { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ؛ أي مَن يدفعُ عنهم العذابَ.
(0/0)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ } ؛ أي حلفَ الكفارُ بالله مجتهدين في اليمينِ : أنه لا يبعثُ الله مَن يموتُ ، وقوله تعالى : { بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } ؛ أي قُلْ : بلَى ، وَقِيْلَ : إنَّ اللهَ تولَّى الجوابَ بنفسهِ ، كأنه قال : لِيَبْعَثَهُمْ بعدَ الموتِ وَعْداً عليهِ.
انتصبَ قوله (حَقّاً) على المصدرِ ؛ أي وَعَدَ وَعْداً حَقّاً كأنَّما أوجبَهُ على نفسهِ ، { وَلـاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أنه حقٌّ.
(0/0)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } ؛ معناهُ : يبعَثُهم لكي يُبَيِّنَ لهم ما يختلِفون فيه من الدِّين { وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } في الدُّنيا بأنْ لا جنةَ ولا نارَ.
(0/0)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي إنَّما أمْرُنا في البعثِ وغيرهِ إذا أرَدْنا أن نقولَ له : كُنْ ؛ فيكونُ. مَن رفعَ (فَيَكُونَ) معناهُ : فهو يكونُ ، ومَن نصبَ فعلى جواب كُنْ ، وَقِيْلَ : عَطفاً على (أنْ يَقُولَ).
(0/0)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَصُهَيْبٍ وَبلاَلٍ وَأصْحَابهِ الَّذِينَ هَاجَرُواْ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ بَعْدِ مَا عَذبَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ).
والمعنَى : والذين هَجَروا أوطانَهم في طاعةِ الله ، وسَارُوا إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم من بعدِ ما ظلَمَهم الكفارُ ، { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } ، أرضاً كَرِيمَةً وهي المدينةُ بدلَ أوطانِهم ، { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ } ؛ لَهم مما أعطينَاهم في الدُّنيا ، { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعلمُ الكفَّار.
ثُم وَصَفَهم فقال : { الَّذِينَ صَبَرُواْ } ؛ يعني على الشَدائِد والعبادات ، وصَبَروا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ ، { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } في طلب الدِّين والدُّنيا.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ } ؛ نزلت جَواباً لأهلِ مكَّة حين قالوا : لو أرادَ اللهُ أن يبعثَ إلينا رسُولاً لبعَثَ رسولاً من الملائكةِ لا رجُلاً منَّا. ومعنى الآيةِ { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } يا مُحَمَّدُ إلى الأُمَم الماضيةِ إلا رجَالاً أوحَينا إليهم كما أوحَينا إليكَ ، { فَاسْأَلُواْ } ؛ يا أهلَ مكَّة ، { أَهْلَ الذِّكْرِ } ؛ أي الكتاب ، { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ؛ أنَّ الرسُلَ كانت من البشَرِ.
(0/0)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } ؛ راجعٌ إلى قولهِ تعالى{ نُّوحِي إِلَيْهِمْ }[النحل : 43]. وَقِيْلَ : في هذا إضمارٌ كأنه قالَ : وأرسلنَاهم بالبيِّناتِ والزُّبُرِ. والبيناتُ : هي الدلالاتُ الواضِحَاتُ ، والزُّبُرُ : جمعُ الزَّبُور وهو الكتابُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ } ؛ أي القرآنَ ، { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ؛ الحلالَ والحرامَ والحقَّ والباطل ، { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ فيهِ فيُؤمِنُوا بهِ.
(0/0)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ؛ يَعْنِي الشِّرْكَ) ؛ وَقِيْلَ : معناهُ : أفأَمِنَ الذين مَكَروا في تكذيب الرُّسل وأذى المسلمين أنْ يخسفَ اللهُ بهم كما خَسَفَ بقارون ، { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ } ؛ موضعُ ، { لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يعلمونَ ، { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } ؛ أي في أسفَارِهم وتجارتِهم وتصرُّفِهم ، { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } ؛ اللهَ على ما يريدُ إحلالَهُ بهم.
(0/0)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ } ؛ أي على تَنَقُّصٍ إما بقَتلٍ أو بمَوتٍ ؛ الأوَّلُ فالأولُ حتى يهلَكُوا عن آخرِهم ، رُوي عن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ : (مَا كُنْتُ أدْرِي مَا مَعْنَى (عَلَى تَخَوُّفٍ) حَتَّى سَمِعْتُ قَوْلَ الشَّاعِرِ : تَخَوَّفَ السَّيْرُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِدَا كَمَا تَخَوَّفَ عُودُ النَّبْعَةِ السَّفَنُوقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : أنْ يُخَوِّفَهُمْ بأَنْ يُهْلِكَ قَرْيَةً لِتَنْزَجِرَ قَرْيَةٌ أُخْرَى). وقولهُ تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي شديدُ الرَّحمة بتأخيرِ العذاب عن الكفَّار ، أو شديدُ الرحمةِ على مَن تابَ منهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } ؛ أي من شَخْصٍ قائمٍ من شَجر أو إنسان أو نحوِ ذلك ، { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ } ؛ أي يتَمَيَّلُ ظِلالهُ عن اليمينِ والشَّمائلِ ، إذا طلعَتِ الشمسُ وإذا غرَبت ، { سُجَّداً لِلَّهِ } ؛ أي مَيَلانُهَا أو دوَرَانُها من موضعٍ إلى موضعٍ سجودُها ، فيسجدُ الظلُّ غدوةً إلى أن يفيءَ الظلُّ ، ثم يسجدُ أيضاً إلى الليلِ. وفي هذا دليلُ توحيدِ الله تعالى ، قال الحسنُ : (أمَّا ظِلُّكَ فَيَسْجُدُ للهِ ، وَأمَّا أنْتَ فَلاَ تَسْجُدُ). قولهُ : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي صَاغِرُون ذليلُونَ.
(0/0)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ } ؛ أي ما دبَّ على الأرضِ ، { وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ؛ أي ويخضع الملائكة وهم لا يتعظَّمون الخضوعِ له ، { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } ؛ أي يخافونَ عقابَ ربهم من فوقِهم. وَقِيْلَ : يخافون ربَّهم خوفَ المقهورِ من القاهر ، فذكَرَ لفظَ فَوْقِ على هذا المعنى.
وقولهُ تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ؛ يعني الملائكةَ لا يعصُونَ اللهَ ما أمَرَهم. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ للهِ مَلائِكَةً فِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ سُجُوداً مُنْذُ خَلَقَهُمُ اللهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، تَرْعَدُ فَرَائِصُهُمْ مِنْ مَخَافَةِ اللهِ ، وَتَجْرِي دُمُوعُهُمْ وَتَضْطَرِبُ أجْنِحَتُهُمْ ، لاَ تَقَطُرُ مِنْ دُمُوعِهِمْ قَطْرَةٌ إلاَّ صَارَتْ مَلَكاً قَائِماً ، فإذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ وَقَالُواْ : سُبْحَانَكَ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ ".
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ : (مَنْ سَجَدَ هَذِهِ السَّجْدَةَ إيْمَاناً وَتَصْدِيقاً ، أعْطَاهُ اللهُ بعَدَدِ الْمَلاَئِكَةِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ ، وَقَطْرِ الْمَطَرِ وَنَبَاتِ الأَرْضِ وَتُرَابهَا وَرَمْلِهَا وَمَدَرِهَا ، وَبَعَدَدِ مَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الأرْضِ حَسَنَةً حَسَنَةً).
(0/0)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلـاهٌ وَاحِدٌ } ؛ يجوزُ أن يكون قولهُ (اثْنَيْنِ) تأكيداً لما سَبَقَ ، ويجوزُ أن يكون المعنى : لا تتَّخذوا اثنين إلَهين إنما اللهُ إلهٌ واحد ، { فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ } ؛ أي فَاخْشَوْنِ ولا تَخْشَوا أحَداً غيري ، { وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً } ؛ أي دَائِماً ، وقوله تعالى (وَاصِباً) انتصبَ على القطعِ وإنْ كان فيه الوصفُ ، والوَصَبُ : شدَّةُ التَّعَب ؛ لأن اللهَ هو المستحقُّ أن يُعبَدَ في جميعِ الأوقات. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ } ؛ إنكارٌ عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } ؛ ظاهرُ المعنى.
وقولهُ تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } ؛ أي فإليه تتضرَّعون في كشفهِ ، والْجُؤَارُ في اللغة : رفعُ الصَّوتِ ، فكأنَّهُ قالَ : فإليه تَضُجُّونَ وَتَصِيحُونَ ، { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } ؛ عادَ فريقٌ منكم إلى الشِّرك ، { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } ؛ أي ليجْحَدوا نعمةَ اللهِ في كشف الضرِّ عنهم. ثم أوْعَدَهُمْ فقالَ : { فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؛ أي فتمتَّعوا في الدُّنيا ، فسوف تعلمونَ ما يحلُّ بكم من العقاب.
(0/0)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
قوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } ؛ أي ويجعلون للأصنامِ التي لا تعلمُ نَصيباً مما رزقناهم ، وهو ما كانوا يجعلونَ لها من السَّائبة والبَحِيرَةِ والْحَامِ وبعضِ الحرث. ويجوز أن يكون : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } راجعاً إلى الكفارِ على معنى أنَّهم لا يعلَمون أنَّها تنفعُهم ولا تضرُّهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } ؛ قَسَمٌ بأن اللهَ يسألُهم في الآخرةِ عن افترائهم فيما جعلوهُ للاصنامِ.
(0/0)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ } ؛ معناه : إنَّهم يقولون : إن الملائكةَ بناتُ الله ، وقوله تعالى { سُبْحَانَهُ } تَنْزِيهاً للهِ تعالى عما لا يليقُ به. وقولهُ تعالى : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } ؛ أي ما يختارُون لأنفسِهم من البنين دونَ البناتِ.
(0/0)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } ؛ أي ظهرَ أثرُ كراهةِ الحزن على وجههِ من ذلك ، يقال لِمَن لَقِيَ مكروهاً : قَدِ اسْوَدَّ وجههُ غَمّاً وحُزناً وخَجلاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ كَظِيمٌ } ؛ أي ممتلئ غَيظاً وغَمّاً يتردَّدُ حزنهُ في جوفهِ.
(0/0)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ } ؛ أي يختفِي من المبشِّرين له بذلكَ ومن جُلسائهِ من كراهةِ ما بُشِّرَ به من الأُنثى ، { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ } ؛ أي أيحفظُ المبشَّرَ به على هَوْنٍ ومشقَّة ، والْهَوْنُ : الْهَوَانُ ، { أَمْ يَدُسُّهُ } ؛ أي يدفنهُ ، { فِي التُّرَابِ } ؛ حَيّاً كما كان في عادةِ العرب كان إذا وُلد لأحدهم أُنثى حفرَ لها حفرةً وألقاهَا فيها ودفَنَها حتى تَموتَ ، وهي الْمَوْءُدَةُ.
وأما لفظُ التذكيرِ في قوله { أَيُمْسِكُهُ عَلَى } فإنه راجعٌ إلى المبشَّر بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ أي ألاَ ساءَ ما يقضُونَ من اختيار البنين لأنفُسِهم ، وإضافةِ البنات إلى اللهِ وقَتلِ الْمَوْءُودةِ.
(0/0)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } ؛ أي لَهم صفةُ السُّوء من احتياجِهم إلى الولدِ ، وكراهيتهم الإناثَ خوف العار ، { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى } ؛ أي الصفةُ العليا وهي الأُلوهية والربُوبيَّة لم يلد ولم يولَدْ ولم يكن له كُفُواً أحدٌ ، وقولهُ تعالى : { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ أي الغالبُ الذي لا يقدرُ أحدٌ أن يغلبَهُ ، الحكيمُ في أمرهِ وتدبيره.
(0/0)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ } ؛ أي بعقاب معاصيهم عاجلاً ، { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } ؛ أي على الأرضِ ، { مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ } ؛ أي يُمهِلُهِم ، { إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ؛ أي إلى وقتٍ ضَرَبَهُ لامهالهم ، { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } ذلكَ الوقتُ ، { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ؛ لا يتقدَّمون ساعةً ولا يتأخَّرون.
فإن قِيْلَ : كيف قال { مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ } مع عِلمنا أن في الناسِ من هو غيرُ ظالِمٍ ، قيل : معناه : (ما تركَ عليها من دابَّة ظالمةٍ). وَقِيْلَ : معناهُ : ولو يؤاخِذُ الله الناسَ بظُلمِهم عَاجلاً لانقطعَ النسلُ ؛ لا أحدَ إلا وقد كان في آبائهِ وأجداده من هو ظالِمٌ.
فإن قِيْلَ : في الآية تعميمُ الناسِوالدواب في الهلاكِ ؛ فأيُّ شيء يوجبُ هلاكَ الدواب ؟ قِيْلَ : إن الدوابَّ إنما خلقَها اللهُ لمنافعِ الناس ، فإذا هلكت الناس بمنع المطرِ عنهم ، لم يبقَ في الأرضِ دابَّة إلا وهلَكَت ، وإذا هلكَ الناسُ بوجهٍ من الوجوه لم تبقَ الدوابُّ.
(0/0)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } ؛ لأنفُسِهم. في الآيةِ إعادةُ ذكر جَهلِ الكفَّار أنَّهم يجعلون للهِ ما يكرَهون لأنفُسِهم وهو البناتُ ، { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ } ؛ مع ذلكَ ، { الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى } ؛ أي أن لهم الجنَّة في الآخرةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ } ؛ أي حَقّاً ، وَقِيْلَ : لا بدَّ ولا محالةَ أن لهم النارَ ، { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } ؛ أي مقدَّمون إلى النارِ ، والفَارطُ في اللغة : هو القادمُ إلى الماءِ ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم : " وَأنَا فَرْطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ " أي سَابقُكم.
ومَن قرأ (مُفْرِطُونَ) بكسرِ الراء ، فهُم الذين أفرَطُوا في الذنوب والمعاصي ، ومَن قرأ (مُفَرّطُونَ) بالتشديدِ فهو من التَّفريطِ وهو التقصيرُ.
(0/0)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } ؛ تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أي كما أرسلناكَ إلى هؤلاءِ أرسلنا إلى أُمَم من قبلِكَ ، فزَيَّن لهم الشيطانُ أعمالَهم في الكفرِ والتكذيب ، { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ } ؛ في الدُّنيا يتبَعون إغواءَهُ ، ويقال : (هُوَ وَلِيُّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي يقالُ لهم يومئذٍ : هذا وليُّكم ، فيَكِلُكُم الله يومئذ إلى مَن لا يملكُ دفعَ العذاب عن نفسهِ ، فكيف يدفعُ عنهم العذابَ ، ومَن كان الشيطانُ ولِيُّه دخلَ النارَ ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(0/0)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ } ؛ أي لتُبيِّن لهم الحقَّ من الباطلِ ، وَأنزلناهُ ، { وَهُدًى } ، دلالةً ، { وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي للمؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً } ؛ يعني المطرَ ، { فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ } ؛ أي يُبسِها ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } ؛ أدِلَّةَ اللهِ ، ويتفكَّرون فيها.
(0/0)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً } ؛ مِن دون أن يظهرَ فيه لونُ الدمِ ولا رائحة الفَرَثِ ، { سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } ؛ أي مُتَيسِّرَ الجري في الحلقِ ، لا يغُصُّ به شاربهُ. وإنما لم يقل في بطونِها ؛ لأن الأنعامَ والنَّعيمَ واحدٌ ، فكأنه ردَّ الكنايةَ إلى النَّعيمِ. وفي قوله تعالى { نُّسْقِيكُمْ } قرآءَتان : فتحُ النون وضمُّها ، يقال سَقَى وأسْقَى بمعنى واحدٍ.
(0/0)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } ؛ أراد بالسَّكَرِ الْمُسْكَرَ ؛ وهو من العِنَب الخمرُ ، ومن النَّخيلِ نقيعُ التَّمر إذا غلَى واشتدَّ ، نزلَتْ هذه الآيةُ وهُمَا لهم حلالٌ يومئذٍ ، هكذا قال ابنُ عبَّاس ، والرِّزقُ الحسَنُ : ما أُحِلَّ منها مثل الْخَلِّ والزبيب والتَّمر.
وسُئل بعضهم عن هذهِ الآية فقال : (السَّكَرُ مَا حُرِّمَ مِنْ ثَمَرهَا ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ مَا حَلَّ مِن ثَمَرِهَا). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ؛ دلائلَ اللهِ.
(0/0)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } ؛ أي وألْهَمَ ربُّكَ النحلَ وعرَّفَها ووَفَّرَ عليها ودعَاها إلى ما هو مذكورٌ في هذه الآيةِ ، وسَمَّى الإلهامَ وَحياً ؛ لأن الوحيَ هو ظهورُ المعنى للنَّفسِ على وجهٍ خَفِيٍّ ، وقد ألْهَمَ اللهُ كلَّ دابة التماسَ منافعها واجتنابَ مضارِّها ، إلاّ أنَّ أمَر النحلِ أعجبُ ؛ لأن فيها مِن لطيفِ الصَّنعة ما فيه أعظمُ مُعتَبَرٍ ، فإنَّ اللهَ ألهمَها اتخاذ المنازل والمساكنَ ، وأنْ تأكُلَ من كلِّ الثمرات لمنافعِ بني آدم ، وأنْ لا تقذفَ ما أكلتْهُ بعد ما صارَ عَسَلاً إلا على حَجَرٍ صافٍ أو مكان نَظِيفٍ لا يخالطهُ طين ولا ترابٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ } ؛ فهي تتخذُ من الجبالِ بُيوتاً إذا لم تكن لأحدٍ ، وقولهُ تعالى : { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ؛ يعني مما يَبنِي الناسُ لها من خلاَياها ومساكنِها ، ولولا التسخيرُ وإلهام الله ما كانت تأْوِي إلى ما يُبنى لها.
(0/0)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ؛ أي من ألوان الثمرِ كُلِّه ، { فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } ؛ أي طُرُقَ ربكِ لطلب الرَّعي ، وقوله تعالى { ذُلُلاً } يجوز أن يكون من نَعْتِ السُّبُلِ ؛ أي لا يتوعَّرُ عليها مكان سلكَتْهُ ، وهي ترعَى الأماكنَ البعيدة ذات العاصِ ، قد ذلَّلَ اللهُ لها مسالِكَها أي سهَّلها. وقال ابنُ عباس : (ذُلُلاً نَعْتُ النَّحْلِ ؛ أيْ مُطِيعَةً بالتَّسْخِيرِ وَإخْرَاجِ الْعَسَلِ مِنْ بُطُونِهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ؛ يعني العسَلَ يلقيهِ النحلُ أبيضَ وأصفرَ وأحمر ، يقالُ : إنه يَخرجُ من شبابها الأبيضُ ، ومِن كهولِها الأصفرُ ، ومن شُيوخها الأحمرُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ؛ أي في ذلكَ الشراب شفاءٌ للأوجاعِ التي شفاؤُها فيه ، كذا قال السديُّ.
وليس إذا كان في الناسِ من يضرهُ العسل لمعنى في نفسهِ ما يوجبُ أن يخرجَ العسلُ من كونهِ شفاءٌ للناس ، فإنَّ اللهَ جعلَ الماءَ حياةً لكلِّ شيء ، وربَّما يكون الماءُ سَبباً للهلاكِ ، لكن الاعتبارَ للأعمِّ ، وقال قتادةُ : (فِيْهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ مِنَ الأَدْوَاءِ) ، وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قالت : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ " ، { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }.
(0/0)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ } ؛ أي خلَقَكم في بُطونِ أمَّهاتكم طوراً بعد طورٍ حتى أخرجَكم وربَّاكم إلى أن يقبضَ أرواحكم عندَ آجالِكم ، { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } ؛ حتى يعودَ في كِبَرهِ وهرمهِ في نُقصان قوَّته ونقصان عقلهِ إلى مثل حالِ الطُّفولة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } ؛ أي لكي يصيرَ كالصبيِّ الذي لا عقلَ له ، وقال السديُّ : (أرْذلُ الْعُمُرِ الْخَرَفُ) ، وقال قتادةُ : (تِسْعُونَ سَنَةً) وعن عليٍّ رضي الله عنه : (أنَّ أرْذلَ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } ؛ أي عليمٌ بكلِّ شيء ، قادرٌ على تحويلِ الأحوال.
(0/0)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ } ؛ أي في المالِ والْخَدَمِ والنِّعَمِ ، وجعل بعضَكم سادةً وبعضكم مَماليكَ ، { فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ } ؛ أي فمَا أربابُ الأخدامِ وفُضِّلوا ، { بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؛ أي المماليكِ ، { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } ؛ فيُسَوُّونَهُمْ معَ أنفُسِهم في الملكِ.
فإذا لم تَرْضَوا في الحكمةِ أن يشرككم مماليككم أيبطلوا فضلكم ؟ فكيف يرضَى اللهُ مِنْ خلقهِ أن يجعلوا له شَريكاً في الملكِ من خَلقِهِ ، وهذا مثلٌ ضربه الله للمُشرِكين فقال : إذا لَم يكن عبيدُكم معكم سواءٌ في المِلك فكيف يجعلون عبادِي معي سواء؟
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ؛ أي أتَصِفُونَ نعمةَ الله إلى غيرهِ وتشكرونَهُ عليها فتَجْحَدون نعمةَ الله ، فإنَّ مَن أضافَ النعمةَ إلى غير الْمُنْعِمِ وشكرَ عليها فقد جحدَ النِّعمةَ.
(0/0)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } ؛ أي جعلَ لكم من جِنسِكم نساءً ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم } ؛ أي من نسائِكم ؛ { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، قِيْلَ : إن الحفدةَ الأختان ، وَقِيْلَ : ولَدُ الولدِ ، وَقِيْلَ : الخدَمُ ، وحقيقيةُ الحفَدة مَن يعاون على ما يحتاجُ ، سرعة من الْحَفْدِ والإسراعِ ، ويقال لكلِّ من أسرعَ في الخدمةِ والعملِ : حَفَدَةٌ ، ومنه قولهم في دُعاء الوتر (نَسْعَى وَنَحْفِدُ) أي نُسرِعُ في طاعتكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } ؛ أي من الملاذِّ والحلالِ ، وقولهُ تعالى : { أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي أفَبالأَصنَامِ يؤمنون ، { وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ } ؛ أي يجحَدون بإضافَتها إلى غيرِ الله.
(0/0)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً } ؛ أي ويعبدون الأصنامَ التي لا تملكُ لهم رزْقاً من السَّموات بإنزال الغَيْثِ ، ولا مِن الأرض بإنباتِ النبات شيئاً قليلاً ولا كثيراً ، { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } ؛ أي لا يَملِكون ، وليست لهم استطاعةٌ.
(0/0)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأَمْثَالَ } ؛ أي لا تجعَلُوا للهِ الأشباهَ ؛ لأنه لا يشبهُ شيئاً ولا يشبههُ شيءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي إن اللهَ يعلمُ ما يكون قبلَ أن يكون ، وأنتمْ لا تعلمون قَدْرَ عظَمَتي حيث أشرَكتمُونِي وعجَّزتُمونِي أن أبعثَ خَلقِي.
(0/0)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ؛ أي ضربَ اللهُ المثلَ بعبدٍ مَملوكٍ لا يقدرُ على شيءٍ ، { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً } ؛ وهو الحرُّ ، فهو ينفق منه خِفيةً وعلانية ؛ { هَلْ يَسْتَوُونَ } ؛ في المثلِ ، كما أن الحرَّ الذي يملكُ وينفقُ سِراً وعلانيةً ، والذي لا يملكُ شيئاً ينفقهُ ، لا يستويان في المثَلِ ، كما لا يستوِي المنعِمُ الذي جاءَت من قِبَلِهِ النعمةُ ، والأصنام المواتُ التي لا تقدر على النعمةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ } ؛ أي قُلِ الحمدُ للهِ الذي أوضحَ لنا السبيل والطريقَ ، { بَلْ أَكْثَرُهُمْ } ؛ الكفارُ ، { لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ ذلكَ.
(0/0)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ؛ أي ضربَ اللهُ المثلَ برَجُلين ؛ أحدُهما أخرَسُ لا يقدرُ على شيءٍ كم الكلام ، ويقال الأبْكَمُ هو الذي وُلد أصمّ لا يسمعُ ولا يفهمُ ولا يمكنه أن يفهمَ غيره ، { وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ } ؛ اي ثقِيلٌ على ولِيِّهِ وصاحبهِ ، { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ؛ لا يهتدِي إلى منفعةٍ ولا إلى خيرٍ ، { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } ؛ ناطقٌ متكلم آمِرٌ بالعدلِ ، تامُّ التمييزِ ، { وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي دِين مستقيمٍ ، وهذا مَثَلٌ للمؤمنِ والكافر.
(0/0)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ قِيْلَ : هذه الآيةُ نزلت جَواباً عن سؤالِ قُريش : متى الساعةُ ؟ وهي ظاهرةُ المعنى.
(0/0)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } ؛ أي أخرَجَكم جَاهِلين ، { وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } ؛ أي خلقَ لكم الحواسَّ التي بها تعلَمون نعمَتهُ وقدرتهُ ، { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
(0/0)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ } ؛ أي ألَمْ يرَوا إلى الطيرِ مذلَّلات في الهواءِ ما يُمسِكُهنَّ حتى يسقُطنَ على الأرضِ إلا اللهُ { إِنَّ فِي ذلِكَ لأََياتٍ } ؛ أي دلالاتٍ على وحدانيَّة الله ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } ؛ أي بيوتِ الْمَدَرِ والحجَرِ مواضعَ تسكُنون فيها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً } ؛ وهي الخيَامُ ، { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } ، تَخُفُّ عليكم نقلُها وحملها من مكانِ إلى مكان ، يومَ سفَرِكم ويومَ إقامتكم ، { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } ؛ وجعلَ لكم من أصوافِ الضَّأْنِ ، وأوبَار الإبلِ ، وأشعَار الماعزِ ، { أَثَاثاً } ؛ أي مَتَاعاً للبيتِ من الفُرُشِ والأكْسِيَةِ والبُسُطِ ، { وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ } ؛ أي منفعةً تنتفعون بها إلى حينِ آجالِكم.
(0/0)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } ؛ أي أشياءَ تستظِلُّون بها مثلَ الأشجارِ ونحوها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً } ؛ وهي الكهوفُ والغِيرَانُ يدخلُها الناس ليسكنوا فيها من الحرِّ والبرد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } ؛ أي جعلَ لكم سَرابيلَ يعني القَمِيصَ من القُطنِ والكتَّان والصوف يدفعُ عنكم الحرَّ في الصيفِ والبردَ في الشتاء. ولم يذكرِ البردَ في الآية ؛ لأنه لَمَّا ذكرَ الحرَّ فقد دلَّ به على ما في مقابلتهِ من البرد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ؛ أرادَ به الدُّورعَ من الحديدِ يتَّقون بها في الحرب سلاحَ العدوِّ ، يعني الطعنَ والضرب والرميَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } ؛ في سائرِ الأشياء ، كما أتَمَّها عليكم في هذه الأشياءِ ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } ؛ لكي تُسلِمُوا ، قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أيْ لَعَلَّكُمْ يَا أهْلَ مَكَّةَ تَعْلَمُونَ أنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى هَذا غَيْرُ اللهِ فَتُؤْمِنُوا بهِ وَتُصَدِّقُواْ رَسُولَهُ). وفي قراءةِ ابن عبَّاس (لَعَلَّكُمْ تَسْلَمُونَ) بنصب التاء من الجراحاتِ إذا لبستُم الدروعَ من الحديدِ ، ومن الحرِّ والبرد إذا لبستُم القميصَ.
(0/0)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } أي إنْ أعرَضُوا عن الإيمانِ ، فإنما عليكَ يا مُحْمَّدُ البلاغُ الظاهر ، وهو أن تُبَلِّغَ الرسالةَ ، وتُبَيِّنَ الدلالَة ، فلما ذكَرَ لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه النِّعَمَ ، قالوا : أنْعِمْ يَا مُحَمَّدُ هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللهِ؟
ثُمَّ قَالُواْ : شَفَاعَةُ آلِهَتَنَا ، فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ } ؛ أي يعرفون أنَّ هذه النعمَ كلَّها من اللهِ ، { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } ، بإضافتها إلى الأوثانِ ، ويشكرونَ الأوثانَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ } ؛ أي كلُّهم يكفرون باللهِ وبنعمته ، فذكر الأكثرَ والمراد به الجميعَ.
(0/0)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } ؛ يعني يومَ القيامةِ تشهدُ الأنبياء على أُمَمِهم بما فعلوا من التصديقِ والتكذيب ، وتشهد العدولُ مِن كلِّ عصرٍ على أهلِ عصرهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي لا يُؤذنُ لهم بعدَ شهادةِ الرُّسل في الاعتذار ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ؛ ولا ينفعُهم الاعتذارُ يومئذٍ ولا يُجابُونَ إلى الردِّ إلى الدُّنيا.
(0/0)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } ؛ أي إذا رأوْهُ بالدخول فيه ، فلا نرفعهُ عنهم في وقتٍ ونشدِّدُ في وقتٍ ، { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ؛ ولا يؤجَّلون بتأخيرِ العذاب إلى وقتٍ آخرَ.
(0/0)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ؛ أي إذا رأى الذين أشرَكوا الأصنامَ مع اللهِ في العبادةِ ، { شُرَكَآءَهُمْ } ، يعني الأصنامَ ، { قَالُواْ رَبَّنَا هَـاؤُلآءِ } ؛ الأصنام ، { شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ } ؛ التي أشرَكناها معكَ في العبادةِ ، فألقَى الأصنامَ { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } في أنَّا آلهةً وفي أنَّا أمَرنَاكم بالعبادةِ ، { وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ } ، واستَسلَمُوا كلُّهم لأمرِ الله يومئذ ، { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }. والفائدةُ في إعادةِ الأصنام يومئذ : أنْ يُعَيِّرَهم اللهُ بها ، وأن يُعذِّبَهم بها في الدُّنيا.
(0/0)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } ؛ الذين كَفَروا باللهِ ورسُله ، وصَدُّوا عن سبيلِ الله بامتناعهم عنهُ ومنعِ الناس عنه ، زِدنَاهُمْ عذاباً فوقَ العذاب ، قال ابنُ مسعود : (زيدُواْ عَقَارِبَ لَهَا أنْيَابٌ كَالنَّخْلِ الطِّوَالِ) ، وَقِيْلَ : زيدُوا حَيَّاتٍ كأمثالِ الفِيَلَةِ. وَقِيْلَ : تجرِي فوق رؤُوسِهم أنْهَارٌ من نُحاسٍ ذائبٍ إذا وقعَ على كفِّ الرجل اشتعلَ الجسدُ منه ناراً ، فليس فيها عذابٌ أشدَّ منه.
(0/0)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ؛ فيه بيانٌ أنَّ كلَّ عصرٍ لا يخلو من شهيدٍ على الناس ، { وَجِئْنَا بِكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { شَهِيداً عَلَى هَـاؤُلآءِ } ؛ يعني قومَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ } ؛ أي القرآنَ ، { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ؛ من أمورِ الدِّين ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى } وبشارةً ، { لِلْمُسْلِمِينَ }.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } ؛ يعني بالعدلِ في الأفعالِ ، والإحسانِ في الأقوالِ ، ولا يفعلُ إلا ما هو عدلٌ ، ولا يقولُ إلا ما هو حسَنٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (الْعَدْلُ شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَالإحْسَانُ أدَاءُ الْفَرَائِضِ).
وَقِيْلَ : العدلُ هو الإنصافُ ، ويدخل فيه إنصافُ المرءِ من نفسه لغيرهِ في الحقوق والأمانَاتِ ، ومن نفسهِ لنفسه فيما يكون حَقّاً عليه من شُكر نِعَمِ اللهِ ، وأن لا يَعبدَ غيره ، وأن لا يصفَ اللهَ بما لا يليقُ به من الصفاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالإحْسَانِ } يدخلُ في ذلك المتفضِّلُ على الغيرِ ، إما بالمال ، وإما بالمعاشرة الجميلة من قولٍ أو فعل ، أو إكرام أو بحسَبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى } ؛ أي صلةِ الأرحام.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ } ؛ فالفحشاءُ : الزِّنَى ، والمنكرُ : الشِّركُ ، والبَغْيُ : الظُّلمُ والكِبْرُ. وَقْيْلَ : الفحشاءُ : ما عَظُمَ قبحهُ من قولٍ أو فعل ، سرّاً كان أو علانيةً ، والْمُنْكَرُ : ما يظهرُ للناسِ ، فيجبُ إنكارهُ ، والبغيُ : الاستطالَةُ والظلمُ.
وقيل في معنى الآيةِ : إنَّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ : بالتوحيدِ ، والإحسان : الإخلاصُ ، وَقْيْلَ : الإحْسَانُ أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ. وَقِيْلَ : الإحسان العفوُ عن الناسِ ، وَقِيْلَ : العدلُ : استواءُ السرِّ والعلانيَةِ ، والإحسان : أن تكون سَريرتهُ أحسنَ من علانيتهِ ، والفحشاء والمنكر : تكون علانيتهُ أحسنَ من سَريرتهِ.
رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على الوليدِ : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } فقالَ : يَا ابْنَ أخِي أعِدْ عَلَيَّ ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : إنَّ لَهُ لَحَلاَوَةً وَإنَّ عَلَيْهِ لَطَلاَوَةً ، وَإنَّ أعْلاَهُ لَمُورِفٌ وَأنَّ أسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ ، وَمَا هُوَ بقَوْلِ الْبَشَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ؛ معناهُ يأمرُكم بثلاثٍ أن تفعَلوهُنَّ ، وينهاكم عن ثلاثٍ ؛ لتَنتَهُوا عنهنَّ لعلكم تتَّعظون بما تُؤمَرون ، وتَحْتَرِزُونَ عن التقصيرِ.
(0/0)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ } ؛ أي أتِمُّوا العهودَ التي بينكم وبين الناسِ إذا حلَفتُم باللهِ تعالى ، { وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ } ؛ العهودَ ، { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ؛ توثِيقها باسمٍ ، { وَقَدْ جَعَلْتُمُ } ؛ قُلتم : { اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } ؛ شهيداً عَليكم بالوفاءِ ، { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } ؛ من النَّقضِ والوفاءِ فيَجزِيَكم عليه. وفي الآيةِ دلالةٌ على أنَّ الرجلَ إذا قال : عليَّ عهدُ اللهِ إنْ فعلتُ كذا كان يَميناً ؛ لأنه تعالى ذكرَ العهدَ في أوَّل الآيةِ ، ثم عَقَّبَهُ بقوله : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا }.
(0/0)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } ؛ أي لا تكُونوا في نقضِ العهود كالتي نَقَضَتْ غزْلَها من بعدِ إبرامٍ وإحكامٍ ، وهي امرأةٌ من قُريش أُمُّ أخنسَ بنِ شُريق تُعرَفُ بـ (رَيْطَةِ الْحَمْقَاء) ، كانت تغزلُ من الصُّوف والشعر والوبَرِ بمغزَلٍ عظيمٍ مثلَ طُولِ الذِّراع وصنَّارَة في رأسِ المغزلِ مثل طُولِ الإصبَعِ وفُلكَةٌ عظيمةٍ ، فإذا غَزَلَتْهُ وأبرمتْهُ أمَرَت جاريَتها فنقَضتْهُ. والأنْكَاثُ : جمعُ نَكْثٍ ، وهو ما تَنَقَّضَ من غزلِ الشَّعر والقُطْنِ ونحوهما ، والمعنى : لا تكونوا في نقضِ الإيمان كهذه المرأةِ ، غَزَلَتْ غَزْلاً ، وأحكمَتْهُ ثم نقضتهُ فجعلته أنْكَاثاً ، والأنكاثُ : ما يُقطع من الخيوطِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } ؛ أي تتَّخذون عهُودَكم دَخَلاً وخديعةً وغِشًا وخيانةً بينكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } ؛ أي لأنْ تكون جماعةٌ هي أعزَّ وأكثرَ من جماعة ، قال مجاهدُ : (إنَّهُمْ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَيَجِدُونَ أكْثَرَ مِنْهُمْ وَأعَزَّ ، فَيَنْقُضُونَ حِلْفَ هَؤُلاَءِ ، وَيُحَالِفُونَ الأَكْثَرَ ، فَنَهَاهُمُ اللهُ عَنْ ذلِكَ).
وحاصلُ التأويلِ النهيُ عن أن تَحْلِفَ على شيءٍ وهو مُنْطَوٍ على خلافهِ ، وأن يَغُرَّ غَيْرَهُ يَمِينُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ } ؛ أي إنما يُخبرُكم بأَمْرهِ إياكم بالوفاءِ بالعهد ، { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ؛ في الدُّنيا من الحقِّ والباطلِ.
(0/0)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي أهلَ مِلَّةٍ واحدة ودِينٍ واحد ، { وَلـاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ؛ بتوفيقهِ فَضلاً منه ، { وَلَتُسْأَلُنَّ } ، يوم القيامة ، { عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ.
(0/0)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } ؛ أي مَكْراً وخديعةً ، { فَتَزِلَّ قَدَمٌ } ؛ فتَزِلُّوا عن طاعةِ الله كما تَزِلُّ قدمُ الرجلِ ، { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } جعلَ اللهُ زلَّةَ القدَمِ عبارةً عن سُخطِ الله ، وثَبَاتَ القَدَمِ عبارةٌ عن رِضَى اللهِ.
وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى : { فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } أي فتهلَكُوا بعد أنْ كنتم آمنين ، وقال ابنُ عبَّاس : (فَتَزِلَّ عَنِ الإيْمَانِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ } ؛ يعني العذابَ ، { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي بما منَعتُم الناسَ عن دينِ الله ، { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ في الآخرةِ.
(0/0)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً } ؛ أي لا تختَارُوا الحِلْفَ باللهِ كَذِباً عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا ، ولكن أوْفُوا بها ، { إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي فإنَّ ما عندَ اللهِ من الثواب في الآخرة على الوفَاءِ هو خير لكم مما عِندَكم ، { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ ثوابَ اللهِ
(0/0)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } ؛ أي يَفْنَى ولا يبقَى ، { وَمَا عِندَ اللَّهِ } ؛ من الثواب في الآخرةِ على الوفاء ، { بَاقٍ } ، هو خيرٌ لكم مما عندَكم يدومُ ويبقى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ } ؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وعاصم بالنُّون ، وقرأ الباقون بالياءِ ، ومعناهُ : الذين صَبَروا على الوفاءِ وعلى الطاعةِ ، { أَجْرَهُمْ } ؛ بالطاعاتِ ، { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ دون إسرَارِها ، ويعفُو عن سيِّئاتِها.
قال ابنُ عبَّاس : " (وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ عِيدَانُ بْنُ الأَشْوَعِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ جَاوَرَنِي فِي أرْضِي فَاقْتَطَعَهَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لِيَشْهَدْ لَكَ أحْدٌ " قَالَ : إنَّ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنِّي صَادِقٌ ، وَلَكِنَّهُ أكْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنِّي ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَشْعَثِ : " مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ ؟ " قَالَ : الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " أتَحْلِفُ ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، فَهَمَّ بالْحَلْفِ.
فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً... } [النحل : 95] إلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ. فَقَرَأهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَشْعَثِ فَقَالَ : أمَّا مَا عِنْدِي فَيَنْفَذُ ، وَأمَّا مَا بصَاحِبي فَيُجْزَى بأَحْسَنَ مَا كَانَ يَعْمَلُ ، اللَّهُمَّ إنَّهُ صَادِقٌ فِي مَا قَالَ ، لَقَدِ اقْتَطَعْتُ أرْضَهُ ، وَاللهِ مَا أدْري كَمْ هِيَ ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ أرْضِي وَمِثْلَهَا مَعَهَا بمَا أكَلْتُ مِنْ ثَمَرِهَا ". فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَشْعَثِ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ؛ أي مَن عَمِلَ صَالحاً فيما بينه وبين ربهِ وأقرَّ بالحقِّ وهو مع ذلك مؤمنٌ { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، قِيْلَ : المرادُ بها القَنَاعَةُ بما يُؤتَى من الرِّزق الحلالِ ، كما رُوي عن وهب بن مُنبه أنه قالَ : (الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقَنَاعَةُ بمَا رُزقَ).
وَقِيْلَ : هي أنْ يكون صدرهُ مُنفَرِجاً بما يعتقدهُ من دلائلِ الله تعالى ، وبما يعرفهُ من وجوب مفارقةِ المعاصي ، فيصيرُ قليلَ الْهَمِّ في أمورِ دنياهُ. وَقِيْلَ : الحياة الطيِّبة الجنةُ ؛ لأنه لم يَطِبْ لأحدٍ حياةً إلاّ فيها.
(0/0)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي إذا أردتَ قراءةَ القرآن ، ونظيرهُ{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ }[المائدة : 6] ، وقولهُ تعالى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ }[الأنعام : 152].
وفائدة الأمرِ بالاستعاذةِ قبلَ القراءةِ نَفْيُ وَسْوَاسِ الشَّيطانِ عند القراءة ، وقد أجمعتِ الفقهاءُ على أنَّ الاستعاذةَ قبلَ القراءة إلاَّ ما رُوي عن أبي داود بن عليّ ومالك أنّهم قالوا : (الاسْتِعَاذةُ بَعْدَ الْقِراءَةِ) أخذُوا بظاهرِ الآية.
(0/0)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ؛ أي إنَّ الشيطانَ ليس له سَلْطَنَةٌ على المؤمنِ إلا في الوسوسةِ ، { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } ؛ على الذين يقبَلون دُعاءَهُ ، { وَالَّذِينَ هُم بِهِ } ؛ باللهِ ، { مُشْرِكُونَ } ؛ فإنَّهم جعَلُوا له سُلطاناً على أنفسِهم.
(0/0)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(0/0)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ } ؛ أي قل نَزَّلَ القرآنَ جبريلُ من ربكَ ، { بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ ويُقَوِّيَهم لإيمانِهم ؛ ليزدَادُوا تَصديقاً ويقيناً ، { وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }.
(0/0)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانُواْ يَقُولُونَ : إنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وإنَّمَا يُعَلِّمُ النَّبيَّ بَشَرٌ ، أرَادُوا بذلِكَ جَبْراً وَيَسَاراً كَانَا عَالِمَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُحَدِّثُهُمَا وَيُعَلِّمُهُمَا ، وَكَانَا يَقْرَءآنِ كِتَابَهُمَا بالْعَرَبيَّةِ ، وَكَانَا قَدْ أسْلَمَا). وَقِيْلَ : كانوا يَعْنُونَ بقولِهم (بَشَرٌ) : سلمانَ الفارسيَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } ؛ أي لسانُ الذي يَمِيلُونَ إليه ويزعُمون أنَّهُ يُعلِّمُكَ أعْجَمِيٌّ ، { وَهَـاذَا } ؛ القرآنُ الذي يقرَءُونَه ، { لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } ؛ فكيف يقدرُ الأعجميُّ على تعليمِ مثلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ } ؛ إلى ثوابهِ ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وجيعٌ في الآخرةِ.
(0/0)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلـائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } ؛ معناهُ : إنما يكذبُ على اللهِ مَن لا يؤمنُ بدلائلهِ ، بَيَّنَ اللهُ أن الذين نَسبوهُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من الافتراءِ هم أحقُّ به.
(0/0)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ } ؛ يجوزُ أن يكون مَن كَفَرَ رفعا على البدلِ من (الْكَاذِبينَ) ، ويجوز أن يكون كَلاماً مبتدأ ، وقولهُ تعالى { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ } خبرٌ له أو خبرٌ لقولهِ { وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً }. والمرادُ بقولهِ { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } : عَمَّارُ بنُ يَاسِرٍ.
رُوي : " أنَّ الْمُشْرِكِينَ أخَذُوهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ ، فَعَذبُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَذكَرَ آلِهَتَهُمْ بخَيْرٍ ، فَلَمَّا فَعَلَ ذلِكَ تَرَكُوهُ ، فَأَتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَمْسَحُ الدُّمُوعَ مِنْ عَيْنَيْهِ ، فَأَخْبَرَهُ الْقِصَّةَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ ؟ " قَالَ : مُطْمَئِناً بالإيْمَانِ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنْ عَادُوا فَعُدْ " ".
وقوله عليه السلام : " إنْ عَادُوا فَعُدْ " على جهةِ الإباحة والرُّخصة دون الإيجاب ، فإنَّ الْمُكْرَهَ على الكفرِ إذا صبرَ حتى قُتِلَ كان أعظمَ لأجرهِ ، والإكراهُ السماح لإجراءِ كلمة الكُفرِ على اللِّسان ، وهو أن يخافَ التلفَ على نفسهِ ، أو على عُضو من أعضائهِ إن لم يفعل ما أُمِرَ بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } ، أي فَسَحَ صدرَهُ للكفرِ بالقَبُولِ وأتَى به على الاختيارِ ، { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } قِيْلَ : إنَّها نزلت في أبي سَرْحٍ القرشي رجعَ إلى الشركِ ، وباحَ بالكفرِ ولَحِقَ بمكَّة.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ } ؛ أي ذلك العذابُ بأنَّهم اختَارُوا الحياةَ الدُّنيا على ثواب الآخرة ، { وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ؛ إلى جنَّتهِ وثوابهِ.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُولَـائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ } ؛ أي حَقّاً { فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ } ؛ أي خَسِروا أنفُسَهم.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } ؛ نزلت في قومٍ بمكَّة بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى المدينةَ ، ثم إنَّهم هاجَروا إلى المدينةِ من بعدِ ما عذبَهم أهلُ مكة ، { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } ؛ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَصَبَروا على الجهادِ ، فوعَدَهم اللهُ المغفرةَ لِمَا كان فيهم من التخلُّفِ عن الهجرةِ.
وذلك أنَّهم كانوا مُستضعَفين بمكَّة وكانوا مؤمنين ، فعذبَهم أهلُ مكة حتى ارتَدُّوا عن الإسلام ليَسْلَمُوا من شرِّهم ، ثم هاجَرُوا مِن بعدِ ما فُتنوا ؛ أي من بعدِ ما عُذِّبوا ، ثم جاهَدُوا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصَبَروا على الجهادِ ، { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } ؛ تلك الفتنةِ وتلك الفِعْلَةِ التي فعَلُوها من التلفُّظِ بكلمة الكفرِ ، { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ وقرأ ابنُ عامرٍ (فَتَنُوا) بفتحِ الفاء ؛ أي فَتَنُوا أنفُسَهم بإظهارِ ما أظهَرُوا للفتنةِ.
(0/0)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } ؛ يجوزُ أن يكون (يَوْمَ) منصوباً بنَزعِ الخافض أي في يومِ تأتِي كلُّ نفسٍ ، ويجوزُ أن يكون المعنى : واذْكُرْ يومَ تأتِي كلُّ نفسٍ ، وهو يومُ القيامةِ ، يجادلُ فيه كلُّ إنسانٍ عن نفسهِ ، { وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ } ؛ بَرَّةٍ أو فاجرةٍ ، { مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، جزاءَ ما عمِلَتْ من خيرٍ أو شرٍّ ، لا ينقصُ من ثواب محسنٍ ، ولا يزادُ على عقاب مُسِيء.
واختلَفُوا في الْمُجَادَلَةِ المذكورةِ في الآية ، قال بعضُهم : هو قولُ الكفَّار : مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ، وقولُهم : رَبَّنَا هَؤُلاَءِ أضَلُّونَا. ومعنى الآية : إنَّ كلَّ أحدٍ لا تَهُمُّهُ إلا نفسهُ ، فهو يخاصِمُ ويحتجُّ عن نفسهِ ، لا يتفرَّغُ إلى غيرهِ.
(0/0)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } ؛ يعني مكَّةَ كان أهلُها آمِنِينَ لا يُهَاجُ أهلُها ولا يُغَارُ عليها ، بخلافِ قُرَى سائرِ العرب ، لأن العربَ كانت لا تقصدُ مكَّة احتراماً لِحَرَمِ اللهِ ، وقولهُ تعالى : { مُّطْمَئِنَّةً } أي قارَّةً بأهلِها لا يحتاجون إلى الانتجاعِ ولا الانتقال ، كما يحتاجُ إليه سائرُ العرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } ؛ أي كان الرزقُ وَاسِعاً على أهلِ مكَّة يُحمَلُ إليهم من البَرِّ والبحرِ ، كما قالَ تعالى{ يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ }[القصص : 57] ، { فَكَفَرَتْ } ؛ فكَفَرَ أهلُ مكَّة ، { بِأَنْعُمِ اللَّهِ } ، حين كذبُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وخالفوهُ ، وكذبُوا بالقرآنِ بعدَ قيام الحجَّة عليهم ، { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ } ، فعاقَبَهم اللهُ سبعَ سنين بالقَحْطِ ، وخوَّفَهم من النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومن عساكرهِ وسراياهُ ، { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، من تكذيبهِ.
رُوي أنه بَلَغَ بهم من الجوعِ ما لا غايةَ بعدَهُ حتى أكلُوا العظامَ الْمُحْرَقَة والْجِيَفَ والكلابَ ، وكان ذلك بدعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ ، اللَّهُمَّ سِنِينَ كَسِنِيِّ يُوسُفَ " فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ حتى صارَ أمرُهم إلى هذه الحالةِ.
(0/0)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } ؛ أرادَ به مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ } ؛ الذي تقدَّم ذِكرهُ من الجوعِ والخوف ، { وَهُمْ ظَالِمُونَ } ؛ وكانوا ظَالِمين لأنفسهم.
(0/0)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي كُلُو يا معشرَ المؤمنين مما رزَقَكم اللهُ حَلالاً طيِّباً إلى آخرِ الآيتين ، قد تقدَّمَ تفسيرهُما في سورة البقرةِ.
(0/0)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـاذَا حَلاَلٌ وَهَـاذَا حَرَامٌ } ؛ أي ولا تقولُوا الكذبَ لِمَا تصفهُ ألسِنتُكم بالحلِّ والحرمةِ ، فتُحِلُّوا الميتةَ ، وتُحَرِّمُوا بعضَ الزَّرعِ والأنعامِ ، كما تقدَّم ذِكرهُ في سورةِ الأنعام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ؛ أي لتَكْذِبُوا على اللهِ بقولِكم أنَّ هذا من عندِ الله.
وقولهُ تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } ؛ أي لا يَظْفَرونَ بالْمُرادِ ، ولا يَنْجُونَ يومَ القيامةِ ، إنما لهم في الدُّنيا { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } ؛ ثم يتعقَّبُهم ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
(0/0)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } ؛ أرادَ به ما بَيَّنَهُ اللهُ في سورةِ الأنعامِ ، وقد تقدَّمَ هناك ، وفيه بيانُ أن التحريمَ الذي كان في اليهودِ كان من قِبَلَ اللهِ ، وأنه مخالفٌ للتحريمِ الذي كان في كفَّار مكة. وقولهُ تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } ؛ أي وما ظلَمنَاهم بتحريم ذلك ، فإنَّ تحريْمَها كان عقوبةً لهم ، ولا تكون العقوبةُ ظُلماً ، { وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ بمخالفَتِهم أمرَ اللهِ تعالى.
(0/0)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ فيه بيانٌ أنَّ مَنِ ارتكبَ المعاصي ، وخالفَ أمرَ اللهِ ، واستعملَ الجهالةَ في ارتكابهِ ، لَمْ يَمْنَعْهُ ذلك من التوبةِ ، فإنه إذا تابَ وأصلحَ في المستقبلِ ، مَحَا اللهُ عنه كلَّ السيئاتِ ، قال ابنُ عبَّاس : (كُلُّ سُوءٍ يَعْمَلُهُ ابْنُ آدَمَ فَهُوَ جَاهِلٌ فِيْهِ ، وَإنْ كَانَ يَعْلَمُ أنَّ ارْتِكَابَهُ رُكُوبَ سَيِّئَةٍ).
(0/0)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } ؛ فيه بيانُ أنَّ إبراهيمَ كان هو القُدْوَةَ للناسِ بالخيرِ ، وسُمِّيَ الإمامُ (أُمَّةً) ؛ لأنه يجمعُ خِصَالَ الخيرِ ، ويقالُ للرجلِ الْمُنْفَرِدِ بدِينٍ لا يشركهُ فيه غيره : أُمَّةٌ ، ويقالُ للعالِمِ : أُمَّةُ ، والأُمَّةُ : الرجلُ الجامعُ للخيرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } القَانِتُ : هو الدائمُ على الطاعةِ ، والقُنُوتُ : هو الدوامُ على الطاعةِ ، والقَانِتُ : هو المطيعُ ، والحنيفُ قد تقدَم تفسيرهُ ، { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ؛ كما ادَّعاهُ كفارُ قريش ، فإنَّهم يدَّعون أنَّهم يتبعون دينِ إبراهيم.
(0/0)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } ؛ أي كان إبراهيمُ شَاكرًا لنِعَمِ اللهِ عليه ، وانتصبَ قولهُ { شَاكِراً } على البَدلِ من قولهِ{ أُمَّةً قَانِتاً }[النحل : 120]. وقوله : { اجْتَبَاهُ } ؛ أي اصْطَفَاهُ بالنبوَّةِ واختارَهُ ، { وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي إلى دينِ الإسلام.
(0/0)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي الذِّكْرَ الْحَسَنَ) ، وقال الحسنُ : (هِيَ النُّبُوَّةُ) ، وقال مجاهدُ : (لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ) وقال مقاتلُ : (يَعْنِي الصَّلاَةَ عَلَيْهِ مَقْرُونَةً بالصَّلاَةِ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } ؛ أي معَ الْمُرْسَلِينَ في الجنَّة.
(0/0)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ؛ أي أمَرنَاكَ يا مُحَمَّدُ باتِّباعِ مِلَّةِ إبراهيمَ في مُجانَبةِ الكفَّار ، كما كان إبراهيمُ يَتَجَنَّبُهم.
فإنْ قِيْلَ : كيف يجوزُ أن يُوصِي الفاضلَ بمتابعةِ المفضُولِ ، ونبيُّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كان أفضلَ الأنبياءِ ؟ فكيفَ أمرَهُ الله بمتابعةِ إبراهيمَ عليه السلام ؟ قِيْلَ : إنَّ إبراهيمَ عليه السلام كان قد سَبَقَ إلى اتَّباعِ الحقِّ ، ولا يكون في سَبْقٍ المفضولِ إلى اتِّباعِ الحقِّ عيبٌ على الفاضلِ في اتِّباعهِ.
(0/0)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } ؛ وهم اليهودُ ، وذلك أنَّ موسى قال لبَني إسرائيلَ : تفرَّغُوا إلى اللهِ في كلِّ سبعةِ أيَّام يوماً واحداً ، فاعبدوهُ في يومِ الجمعةِ ، ولا تعمَلُوا فيه شيئاً من أمُورِ الدُّنيا ، وستَّة أيامٍ لمعايشِكم وصنائعِكم ، فأَبَوا أن يقبَلُوا ذلكَ منهُ ، وقالوا : لاَ نبتَغِي إلاَّ اليومَ الذي فرَغَ فيه مِن الخلقِ ، يعنون السَّبت ، فجعلَ ذلك عليهم فيهِ ، وقالت جماعةٌ منهم : بل أعظمُ الأيَّامِ يومُ الأحَدِ ؛ لأنه اليومُ الذي بدأ اللهُ فيه بخلقُ الأشياءَ ، فاختارُوا تعظيمَ غيرِ ما فَرَضَ اللهُ عليهم ، أي تركُوا تعظيمَ يومِ الجمعة.
(0/0)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ؛ أي أدعُ إلى سبيلِ دين الله { بِالْحِكْمَةِ } يعني بالنبوَّةِ ، { وَالْمَوْعِظَةِ } يعني القرآنَ ، وَقِيْلَ : التخويفُ بالعذاب على جهةِ إظهار الشَّفقة عليهم ليكون ذلك أقربَ إلى إجابتهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ؛ أي بالرِّفقِ واللُّطفِ ، وذِكرِ أحسنِ ما عنده من الحجَجِ ، وأعرضْ عن أذاهُم ، ولا تقصِّر في أداءِ الرسال والدُّعاء إلى الحقِّ ، قِيْلَ : إن هذه الآيةَ نسَجَتها آيةُ السَّيف. وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ؛ أي هو أعلمُ بمَن يقبلُ الهدى ومَن لا يقبلهُ ، فيجزِي كُلاًّ على ما عَمِلَ.
(0/0)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ؛ وذلك " أنَّ حمزةَ ابنَ عبدِالمطَّلب وأصحابه الذين قُتلوا يومَ أُحُد مَثَّلَ بهم المشرِكون ، عَمَدُوا إلى حمزة فشَقُّوا بطنَهُ ، وأخذت منه هندُ بنت عتبة كَبدَهُ ، فجعلت تلوكُها ثم تطرَحُها ، وقطَعُوا مذاكيرَهُ وجدَعُوا أنفه وأذُنيه ، ومثَّلوا به أشدَّ الْمُثْلَةِ ، وكذلك سائرُ شهداء أحُد مَثَّلَ بهم المشركون ، بقَرُوا بطونَهم ، وقطعُوا مذاكيرَهم.
فلما نَظَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمِّه حمزةَّ لم ينظُرْ إلى شيءٍ قَطُّ أوجعَ إلى قلبهِ منه ، فقال : " رَحْمَةُ اللهِ علَيْكَ ، فَإنَّكَ كُنْتَ فَعَّالاً لِلخَيْرِ ، وَصَّلاً لِلرَّحِمِ ، وَاللهِ لَئِنْ أظْفَرَنِي اللهُ بهِمْ لأَقْتُلَنَّ بكَ سَبْعِينَ مِنْهُمْ ، وَلأُمَثِلَنَّ سَبْعِينَ مِنْهُمْ " وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : وَاللهِ لَئِنْ أمْكَنَنَا اللهُ مِنْهُمْ ، لَنُمَثِّلَنَّ بالأَحْيَاءِ فَضْلاً عَنِ الأَمْوَاتِ. فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ؛ فقالَ صلى الله عليه وسلم : " أصْبرُ وَلاَ أُمَثِّلُ " وكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ " ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ } ؛ أي ما صبرُكَ إلاّ بمعونةِ الله وتوفيقه ، ولا تقدرُ على الصَّبرِ في الحزن الذي لَحِقَكَ بسبب الشُّهداء ، إلا أنْ يُسَهِّلَ اللهُ عليكَ.
(0/0)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ؛ أي لا تحزَنْ على الكفَّار إذا امتنَعُوا من الاستجابةِ لكَ. وَقْيَلَ : لا تحزَنْ على الشُّهداء ، فإن اللهَ أنزَلَهم منَازِلَهم في الجنَّة ، لو رأيتَهم في الكرامةِ التي أكرمَهَم اللهُ بها لَغَبطْتَهُمُ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } ؛ أي لا يَضِيقُ صَدرُكَ من مَكرِهم ، فيكون ذلك شاغلاً عن ما كُلِّفْتَهُ من الدُّعاء إلى سَبيل ربكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } ؛ أي مع المتَّقِينَ الْمُحسِنِينَ ، وهم المسلمون يَنصرُهم ويُظهِرُهم على الكفار ويُعِينُهم عليه.
(0/0)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } ؛ أي سُبحان الذي أسْرَى بعبدهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ واحدة من مَسجِدِ مكَّة إلى مسجدِ بيتِ المقدس.
وسُمِّي مسجدُ بيتِ المقدس المسجدَ الأقصى ؛ لأنه لم يكن وراءَهُ مسجدٌ يُعْبَدُ اللهُ فيه. وقيل : لأنه أبعدُ المساجدِ التي تُزار ، قالَ صلى الله عليه وسلم : " أنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، إذْ أتَانِي جِبْرِيلُ بالْبُرَاقِ... " وذكرَ حديث المعراجِ ".
وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (أُسْرِيَ بهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بنْتِ أبي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ). وعن الكلبي عن أبي صالحٍ عن أُمِّ هانئ أنَّها كانت تقولُ : (مَا أُسْرِيَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ وَهُوَ فِي بَيْتٍ) ، قال مقاتلُ : (كَانَ الإسْرَاءُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بسَنَةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفةُ بيتِ المقدسِ ، بارَكَ الله فيما حولَهُ بالأشجار والأثمار والأنهار حتى لا يحتَاجُون إلى أنْ يُجلَبَ إليهم من موضعٍ آخر : وَقِيْلَ : يَعْنِي { بَارَكْنَا حَوْلَهُ } : جعلنَاهُ مَوضعاً للأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ، وفيه مَهبطُ الملائكةِ ، وفيه الوحيُ ، وفيه الصَّخرةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } ؛ أي من عَجائب قُدرَتِنا ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لمقالةِ قُريشٍ وإنكارِهم { البَصِيرُ } ؛ بهم وبأعمالهم.
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي وَأنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ ، جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام وَقَالَ لِي : يَا مُحَمَّدُ قُمْ ، فَقُمْتُ فَإذا جِبْرِيلُ مَعَهُ مِيكَائِيلُ ، فَقَالَ لِي : تَوَضَّأْ ، فَتَوَضَّأْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِي : انْطَلِقْ يَا مُحَمَّدُ ، فَقُلْتُ : إلَى أيْنَ ؟ فَقَالَ : إلَى رَبكَ. فَأَخَذ بيَدِي وَأخْرَجَنِي مِنَ الْمَسْجِدِ ، فَإذا بالْبُرَاقِ دَابَّةٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ ، خَدُّهُ كَخَدِّ الإنْسَانِ ، وَذنَبُهُ كَذنَبِ الْبَعِيرِ ، وَأظْلاَفُهُ كَأَظْلاَفِ الْبَقَرِ ، وَصَدْرُهُ كَأَنَّهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ ، وَظَهْرُهُ كَأَنَّهُ دُرَّةٌ بَيْضَاءُ ، عَلَيْهِ رَحْلٌ مِنْ رحَالِ الْجَنَّةِ ، خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ. فَقَالَ لِي : ارْكَبْ ، فَلَمَّا وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ شَمَسَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : مَهْلاً يَا بُرَاقُ ؛ أمَا تَسْتَحِي! فَوَاللهِ مَا رَكِبَكَ نَبيٌّ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذا ، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَارْتَعَشَ الْبُرَاقُ ، وَتَصَبَّبَ عَرَقاً حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ خَفَضَ حَتَّى لَزَقَ بالأَرْضِ ، فَرَكِبْتُهُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِهِ.
قَامَ جِبْرِيلُ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى يَخْطُو مَدَّ الْبَصَرِ ، وَالْبُرَاقُ يَتْبَعُهُ لاَ يَفُوتُ أحَدُهُمَا الآخَرَ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، فَإذا بالْمَلاَئِكَةِ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يَتَلَقَّوْنِي بالْبشَارَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، فَلَمَّا وَصَلْتُ بَابَ الْمَسْجِدِ أنْزَلَنِي جِبْرِيلُ ، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبطُ بهَا الأَنْبيَاءُ ، وَكَانَ لِلبُراقِ خِطَامٌ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ ، فَصَلَّيْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ ، وَالْمَلاَئِكَةُ خَلْفِي صُفُوفاً يُصَلُّونَ مَعِي.
ثُمَّ أخَذ جِبْرِيلُ بيَدِي ، وَانْطَلَقَ بي إلَى الصَّخْرَةِ فَصَعَدَ بي عَلَيْهَا. وَإذا مِعْرَاجٌ أصُلُهُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَأسُهُ مُلْتَصِقٌ بالسَّمَاءِ ، إحْدَى عَارِضَيْهِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء وَالأُخْرَى زُبُرْجُدَةٌ خَضْرَاءُ ، وَدَرْجُهُ زُمُرُّدٌ مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ ، فَاحْتَمَلَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى جَنَاحَيْهِ ، ثُمَّ صَعَدَ بي ذلِكَ الْمِعْرَاجَ حَتَّى وَصَلَ بي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا.
فَقَرَعَ الْبَابَ فَقِيلَ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ ، قَالُوْا : مَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ : مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَفَتَحُواْ الْبَابَ فَدَخَلْنَا ، فَقَالُواْ : مَرْحَباً وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا ؟ قَالَ : أبُوكَ آدَمُ ، فَسَلَّمْتُ عَلِيْهِ فَقَالَ : مَرْحَباً بكَ ، بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَفَتَحُواْ لَنَا وَقَالُواْ : مَرْحَباً برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقُلْتُ : يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذانِ ؟ قَالَ : عِيسَى وَيَحْيَى ابْنَا الْخَالَةِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا ، فَقَالاَ : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ انْطَلَقْنَا إلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ ، فَقَالُواْ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، فَفَتَحُواْ وَقَالُواْ : مَرْحَباً بهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ ، قَالَ : جَاءَ ، قَالَ : فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام فَقَالَ : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ.
ثُمَّ أتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابعَةَ فَكَانَ مِنَ الاسْتِفْتَاحِ وَالْجَوَاب مِثْلَ مَا تَقَدَّمْ ، فَوَجَدْتُ إدْريسَ فَقَالَ لِي : مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. وَفِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ وَجَدْتُ هَارُونَ فَقَالَ لِي كَذلِكَ ، وَفِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَجَدْتُ مُوسَى فَقَالَ لِي كَذلِكَ ، وَفِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ وَجَدْتُ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِي : مَرْحَباً بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ رُفِعْتُ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ، وَإنَّ نَبقَهَا مِثْلَ قِلاَلِ هَجَرٍ ، وَوَرَقُهَا كَأَذانِ الْفِيَلَةِ ، وَرَأيِْتُ أرْبَعَةَ أنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ أصْلِهَا ، فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الأَنْهَارِ ؟ فَقَالَ : النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فِي الْجَنَّةِ ، وأمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ ، وَفِيهَا مَلاَئِكَةٌ لاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلاَّ اللهُ ، وَمَقَامُ جِبْرِيلَ فِي وَسَطِهَا ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَيْهَا فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ : تَقَدَّمْ ، فَقُلْتُ : تَقَدَّمْ أنْتَ يَا جِبْرِيلُ! فَقَالَ : بَلْ تَقَدَّمْ أنْتَ يَا مُحَمَّدُ ؛ فَأَنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنِّي.
قَالَ : فَتَقَدَّمْتُ وَجِبْرِيلُ عَلَى إثْرِي حَتَّى انْتِهَائِي إلَى حِجَابٍ مِنْ ذهَبٍ ، فَحَرَّكَهُ ، فَقِيلَ : مَنْ هَذا ؟ قَالَ : جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ ، فَأَخْرَجَ الْمَلَكُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْحِجَاب ، فَاحْتَمَلَنِي وَتَخَلَّفَ جِبْرِيلُ ، فَقُلْتُ : إلَى أيْنَ ؟ فَقَالَ : وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ ، وَإنَّمَا أُذِنَ لِي فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْحِجَاب لإكْرَامِكَ وَإجْلاَلِكَ. فَانْطَلَقَ بي الْمَلَكُ فِي أسْرَعِ مِنْ طُرْفَةِ عَيْنٍ إلَى حِجَابٍ آخَرَ ، فَحَرَّكَهُ فَقَالَ الْمَلَكُ : مَنْ هَذا ؟ فَقَالَ : هَذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي ، فَأخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْحِجَاب ، فَاحْتَمَلَنِي حَتَّى وَسِعَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ.
فَلَمْ أزَلْ كَذلِكَ مِنْ حِجَابٍ إلَى حِجَابٍ حَتَّى سَبْعِينَ حِجَاباً ، غِلْظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَمَا بَيْنَ الْحِجَاب إلَى الْحِجَاب خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ ، ثُمَّ احْتُمْلِتُ إلَى الْعَرْشِ "
(0/0)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي أعطَينا موسَى التوراة وجعلناهُ دلالةً لبني إسرائيل ، { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } ؛ رَبّاً ، ولا تتوكَّلوا على غَيري ، ومَن قرأ { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } بالتاءِ ، فهو على الخطاب بعد الغَيبَةِ مثلُ{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة : 2] ثُم قالَ : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة : 5].
(0/0)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } ؛ أي يا ذرِّيةَ مَن حَمَلنا مع نُوحٍ ، والناسُ كلُّهم ذريةُ نوحٍ ، ثم اثنَى على نوحٍ فقال : { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } لنِعَمِ اللهِ ، كان إذا أكلَ أو شَرِبَ أو اكتسَى أو احتذى قال : الْحَمْدُ للهِ.
(0/0)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ } ؛ أي أخبَرنَاهُم في التوراةِ ، { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ } ؛ أي لتَعْصُنَّ كرَّتَين بقتلِ النُّفوس ، وتخريب الديارِ ، وأخذِ الأموال ، { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } ؛ ولتظلمُنَّ ظُلماً عظيماً.
(0/0)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } ؛ أي سلَّطنا عليكم عِبَاداً لنا ذوي عُدَّة في القتالِ ، { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ } ؛ قال ابنُ عباس : (وَهُمْ بَخِتْنَصَّرَ وَأصْحَابُهُ الْمَجُوس ، سَلَّطَهُمْ اللهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ عَصَتْ فِي أوَّلِ الْفَسَادَيْنِ ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ بَخِتْنَصَّرَ أرْبَعِينَ ألْفاً مِمَّنْ كَانَ يَقْرَأْ التَّوْرَاةَ ، وَدَخَلَ ديَارَهُمْ وَطَلَبَهُمْ طَلَباً شَدِيداً حَتَّى كَانُوا يَنْظُرُونَ فِي الأَزِقَّةِ وَالْبُيُوتِ ، هَلْ بَقِيَ أحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ ، وَاسْتَأْسَرُواْ مِنْ بَقِيَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ ألْفاً ، وَمَضَواْ بهِمْ إلَى بلاَدِهِمْ ، فَمَكَثَ الأُسَرَاءُ فِي أيْدِيهِمْ تِسْعِينَ سَنَةً حَتَّى مَاتَ بَخِتْنَصَّرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } ؛ أي وَعداً كَائناً لا محالةَ.
(0/0)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ } ؛ أي جعَلنا لكم الدولةَ والرجعةَ عليهم ، { وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } ؛ أي وأعطيناكم أمْوَالاً وبنينَ ، { وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } ؛ أي أكثرَ عَدَداً ينفِرُون إليهم.
وذلك أنَّ رجُلاً من أهلِ الكتاب يقالُ له : كُورشُ غزَا أرضَ بابل ، وهي بلادُ بَخِتْنَصَّر ، فظهرَ عليهم فقتلَهم وسكنَ ديارَهم ، وتزوَّجَ امرأةً مِن بني إسرائيلَ أُخْتُ مَلكِ بني إسرائيلَ ، فطلَبت من زوجِها أن يَرُدَّ قومَها إلى أرضِهم ففعلَ ، فمكثَ في بيتِ المقدس مِائتين وعشرين سنةً ، وقامت بينهم الأنبياءُ ، ورجَعُوا الى أحسنَ ما كانوا عليهِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ }.
وعن حذيفةَ بن اليمانِ قالَ : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذهِ الآية : " إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَواْ وَقَتَلُواْ الأَنْبيَاءَ ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ الرُّومِ بَخِتْنَصَّرَ ، فَسَارَ إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهُمْ وَفَتَحَهَا ، فَقَتلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أرْبَعِينَ ألْفاً - وَقِيْلَ : سَبْعِينَ ألْفاً - وَسَبَى أهْلَهَا ، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ قَدْ بَنَاهُ مِنْ ذهَبٍ وَيَقُوتٍ وَزُبُرْجُدٍ ، وَعَمُودُهُ ذهَبٌ ، أعْطَاهُ اللهُ ذلِكَ وَسَخَّرَ الشَّيَاطِينَ لَهُ يَأْتُونَهُ بهَذِهِ الأَشْيَاءِ.
ثُمَّ سَارَ بَخِتْنَصَّرَ بالأُسَارَى حَتَّى نَزَلَ بَابلَ فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي مُدَّتِهِ سَنَةً تَتَعَبَّدُ الْمَجُوسَ وَأبْنَاءَ الْمَجُوسِ ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى رَحِمَهُمْ فَسَلَطَ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ فَارسَ يُقَالُ لَهُ كُورشُ وَكَانَ مُؤْمِناً ، فَسَارَ إلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَذ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْهُمْ ، وَاسْتَنْقَذ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ ، فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ اللهَ زَمَاناً ، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمَعَاصِي ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكاً آخَرَ وَحَرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَسَبَاهُمْ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا }[الإسراء : 5] يعني أُولى الْمَرَّتَين ، واختلَفُوا فيها ، فعلى قولِ قتادة : (إفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الأُوْلَى مَا تَرَكُواْ مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ ، وَعَصَوا رَبَّهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا أمْرَ نَبيِّهِمْ مُوسَى ، وَرَكِبُواْ الْمَحَارمَ).
وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه (أنَّ الْفَسَادَ الأَوَّلَ قَتْلُ زَكَرِيَّا) ، وَقِيْلَ : قَتْلُهُمْ شَعْيَا نَبيُّ اللهِ فِي الشَّجَرَةِ ، قال ابنُ اسحق : (إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أخْبَرَهُ أنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتاً وَلَمْ يُقْتَلْ ، وَإنَّمَا الْمَقْتُولُ شَعْيَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ }[الإسراء : 5] يعني جَالُوتَ وجنودَهُ ، وقال ابنُ اسحق : (بَخِتْنَصَّرَ الْبَابليُّ وَأصْحَابُهُ ، أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ؛ أيْ ذوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الْحَرْب ، فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَار ؛ أيْ طَافُوا وَدَارُواْ). وقال الفرَّاء : قتلوكم بين بيوتكم ، قال حَسَّنُ : وَمِنَّا الَّذِي لاَقَى بسَيْفٍ مُحَمَّدٍ فَجَاسَ بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِوَقِيْلَ : (فَجَاسُواْ) أي طلَبُوا مَن فيها كما تُجَاسُ الأخبارُ.
وقولهُ تعالى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ }[الإسراء : 7] أي المرَّة الآخرة ، وهو قصدُهم قتلَ عيسى حين رُفِعَ ، وقتلُهم يحيى بن زكريَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، فسلَّطَ الله عليهم طَطُوسُ بن استِيباتيُوس فَارسَ وَالروُّمَ حِينَ قَتَلُوهُمْ وسَبَوهم ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ }[الإسراء : 7].
(0/0)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } ؛ أي منفعةُ إحسَانِكم راجعةً إليكم ، { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } ؛ أي فإلى أنفُسِكم ، ولم يقل فإليها على جهةِ المقابلة للكلامِ الأول ، ومثلُ هذه الحروفِ قد تُقام بعضُها مقامَ بعضٍ ، كما في قولهِ تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا }[الزلزلة : 5] أي إليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ } ؛ أي وعدَ المرَّة الآخرة في الفسادِ ، { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } ؛ بالقتلِ والسَّبي ، { وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ } ؛ أي مسجدَ بيتِ المقدس ، { كَمَا دَخَلُوهُ } ؛ دخلَهُ بَخِتْنَصِّر وأصحابهُ ، { أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } ؛ أي وليُخَرِّبوا ما عَلَوا عليه تخريباً ، والتَّبَارُ والرَّماد والهلاكُ بمعنى واحدٍ.
ذلك أن اللهَ سلَّط عليهم بعدَ مائتين وعشرين سنةً ططوس بن استيباتوس الرومي ، فحاصَرَهم وقَتَلَ منهم مائةَ ألفٍ وثمانين ، وخرَّبَ بيتَ المقدس ، وذلك بعدَ قَتلِهم يحيى عليه السلام ، فلم يزَلْ كذلك خَراباً إلى أن بناهُ المسلمون ، فلم يدخلْهُ رُومِيٌّ بعد ذلكَ إلا خائفاً ، كما قالَ تعالى : { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ }[البقرة : 114].
وذهبَ بعضُهم إلى أن بَخِتْنَصَّرَ غَزَا بني إسرائيلَ مرَّتين ، ففتحَ مدينَتهم في المرَّة الأولى ، وجَاسُوا خلالَها يَقتُلون فيهم ، فتابَتْ بنو إسرائيلَ إلى اللهِ تعالى فأظهرَهم اللهُ تعالى على بختنصِّر فرَدَّ عنهم ، ثم بعثَ الله إلى بني اسرائيلَ (أرْضِيَّا) النبيَّ عليه السلام ، فقامَ فيه بوحيِِ الله تعالى ، فضربوهُ وقيَّدوه وحبسوهُ ، فسلَّطَ الله عليهم بختنَصِّر مرَّةً أُخرى ففعلَ ما فعلَ.
(0/0)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } ؛ أي بعدَ استقامةِ منكم ، { وَإِنْ عُدتُّمْ } ؛ لمعصيةٍ ، { عُدْنَا } ؛ إلى العقوبةٍ ، قال قتادةُ : (فَعَادُواْ فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، فَعَادَ اللهُ عَلَيْهِمْ بالْعُقُوبَةِ بإذْلاَلِهِمْ بأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } ؛ أي مُحْتَبَساً من قولِكَ : حصَرتهُ فهو محصورٌ إذا حبستَهُ ، وَقِيْلَ : فِرَاشاً ومِهَاداً تَشْبيهاً بالحصيرِ الذي يُبسَطُ ويُفرَشُ.
(0/0)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ؛ أي يَهدي للحالةِ التي هي أقوَمُ الحالاتِ ، والطريقةِ التي هي أصوبُ ، وَقِيْلَ : يُرشِدُ إلى الكلمةِ التي هي أعدلُ الكلماتِ ، وهي كلمةُ التوحيد والطاعةِ لله تعالى والإيمان به وبرُسلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } ؛ ثواباً عظيماً وهو الجنَّةُ ، { وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ أي إنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرةِ يُبشِّرُهم بعذابٍ أليم وهو النارُ.
(0/0)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ } ؛ أي يدعُو على نفسهِ وعلى ولَدهِ بالسُّوء عندَ الضَّجَرِ والغضب ، فيقولُ : اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللهم أهلِكْهُ ونحوُ ذلك ، كدُعائِه ربَّهُ بأن يهَبَ له العافِيةَ والنِّعمةَ ، ويرزقه السلامةَ في نفسهِ وماله وولدهِ ، فلو استجابَ اللهُ له إذا دعاهُ باللعنِ والهلاك ، كما يستجابُ له إذا دعاهُ بالخيرِ لَهَلَكَ ، ولكنَّ اللهَ تعالى بفضلهِ لا يستجيبُ له ، ونظيرُ هذا{ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ }[يونس : 11].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً } ؛ أي عَجُولاً في الدُّعاء بما يكرَهُ أن يستجابَ لهُ ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ ضَجُوراً لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ). وَقِيْلَ : أرادَ به آدمَ عليه السلام لَمَّا نُفِخَ في الروحُ فبلغَ إلى رجليه ، قصدَ القيامَ قبلَ أن يجرِيَ فيه الروحُ فسقَطَ ، فقيل له : لاَ تَعْجَلْ).
(0/0)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا الَّيلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ } ؛ أي عَلامَتَين تدُلاَّن على قُدرةِ خالِقِهما ، { فَمَحَوْنَآ آيَةَ الَّيلِ } ؛ أي ضوءَ القمَرِ ، قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بهِ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ ، وَذلِكَ أنَّ اللهَ خَلَقَ الْقَمَرَ أوَّلَ مَا خَلَقَهُ عَلَى صُورَةِ الشَّمْسِ ، وَكَانَتِ شَمْسٌ باللَّيْلِ وَشَمَسٌ بالنَّهَارِ ، وَكَانَ لاَ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَار ، فَأَمَرَ اللهُ جِبْرِيلَ فَمَسَحَ بجَنَاحَيْهِ شَمْسَ اللَّيْلَ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا ، وَبَقِيَ عَلاَمَةُ جَنَاحِهِ وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي جَوْفِ الْقَمَرِ).
وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أيضاً : (جَعَلَ اللهُ نُورَ الشَّمْسَ سَبْعِينَ جُزْءاً ، وَنُورَ الْقَمَرِ سَبْعِينَ جُزْءاً ، فَأُمْحِيَ مِنْ نُور الْقَمَرِ تَسْعَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءاً فَجَعَلَهَا مِنْ نُور الشَّمْسِ ، فَصَارَ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِائَةً وَثَلاَثِينَ جُزْءاً ، وَالْقَمَرُ جُزْءاً واحداً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } ؛ وهي الشَّمسُ مُبْصِرَةً مُضِيئةً مُنِيرةً ، { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي لتَسكنُوا بالليلِ ، وتطلبُوا معايشَكم بالنهار ، إلاَّ أنه حذفَ لتَسكنُوا بالليلِ ؛ لأنه ذكرَهُ في موضعٍ آخر ، { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ } ؛ أي جعَلنا ذلك لتَعلَمُوا حسابَ الشُّهور والأيَّامِ ومواقيتَ الصلاةِ والصيام والحجِّ ، يعني بمَحْوِ آيةِ الليل ، { وَكُلَّ شَيْءٍ } ؛ من الأمرِ والنهي والحلال والحرامِ ، { فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } ؛ أي بَيَّنَّاه في القرآنِ ؛ ليكونَ أقربَ إلى معرِفَتكم ، وبَيَّنَّاهُ تبييناً ؛ لئلا يلتبسَ بغِيرِهِ.
(0/0)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } ؛ أي ألزمناهُ عمَلهُ من خيرٍ أو شرٍّ في عنُقهِ ، فجعلنا جزاءَ عملهِ لازماً له ، كما يقالُ : هذا الحقُّ في عُنقِ فلان وفي ذمَّتهِ ، قال مجاهدُ : (مَكْتُوبٌ فِي وَرَقَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي عُنُقِهِ شَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ) روىَ الحكمُ عن مجاهدٍ : (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ وَفِي عُنُقِهِ مَكْتُوبٌ شَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ).
وفي الآية تشبيهُ العملِ بالطائرِ الذي يجيءُ من ناحية اليمينِ فيُتبَرَّك بهِ ، والذي يجيءُ من ذاتِ الشِّمال فيُتشاءَمُ به ، وأما الإضافةُ إلى العُنقِ دون سائرِ الأعضاء ؛ فلأنَّ ما يتزيَّن به من طَوقٍ أو ما يشين من غِلٍّ فإنما يضافُ إلى الأعناقِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } ؛ أي يرفعُ الله يوم القيامةِ كتابَهُ يرَى فيه جزاءَ أعمالهِ ، قرأ الحسنُ ومجاهد : (وَنُخْرَجُ) على ما لَم يسَمَّ فاعلهُ ، على معنى : ونخرجُ له الطائرَ كتاباً. وانتصبَ قولهُ (كِتَاباً) على الحالِ.
وقرأ أبو جعفرٍ : (وَيُخْرِجُ) بالياء مسمَّى الفاعل ؛ أي ويَخرُجُ له الطائرُ يومَ القيامةِ. وقرأ يحيى بن وثَّاب (وَيُخْرِجُ) بضمِّ الياء وكسر الراء ، المعنى : ويخرِجُ اللهُ له كتاباً ، وقرأ الحسنُ ومجاهد : (ألْزَمْنَاهُ طَيْرَهُ) بغيرِ ألف ، وقال أهلُ المعاني : أرادَ بالطائرِ ما قضَى عليهِ أنه فاعلهُ ، وما هو صائرٌ إليه من شقاوةٍ أو سعادة. قَوْلُهُ تَعَالَى : (يُلَقَّاهُ مَنشُوراً) قرأ أبو جعفر بضمِّ الياء وفتحِ اللام وتشديدِ القاف ، يعني يَلقى الإنسانُ ذلك الكتابَ الذي يؤتى ، وقرأ الباقون بالتخفيفِ ؛ أي يراهُ مَنشورةً فيه حسناتهُ وسيئاته.
قال ابنُ عباس (يُعْطَى الْمُؤْمِنُ كِتَاباً بيَمِينِهِ وَهِيَ صَحِيفَتُهُ ، يَقْرَأ فِيْهَا حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فِي بَطْنِهَا : عَمِلْتَ كَذا ، وَقُلْتَ كَذا فِي سَنَةِ كَذا ، فِي شَهْرِ كَذا ، فِي يَوْمِ كَذا ، فِي سَاعَةِ كَذا ، فِي مَكَانِ كَذا. فَإذا انْتَهَىَ إلَى أسْفَلِهَا قِيْلَ لَهُ : قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ ، إقْرَأ مَا فِي ظَاهِرِهَا ، فَيْقْرَأ حَسَنَاتِهِ فَيَسُرُّهُ مَا يَرَى فِيْهَا ، وَيُشْرِقُ لَوْنُهُ عِنْدَ ذلِكَ{ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُواْ كِتَـابيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ }[الحاقة : 19 و20]).
قال : (وَيُعْطَى الْكَافِرُ كِتَابَهُ بشِمَالِهِ ، فَيَقْرَأُ حَسَنَاتِهِ فِي بَاطِنِهَا ، فَيَجِدُ عَمِلْتْ كَذا فِي سَنَةِ كَذا فِي شَهْرِ كَذا ، فِي يَوْمِ كَذا ، فِي سَاعَةِ كَذا. فَإذا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا قِيلَ لَهُ : هَذِهِ حَسَنَاتُكَ قَدْ رُدَّتْ عَلَيْكَ ، إقْرَأْ مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابكَ ، فَيَرَى مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابِهِ كُلَّ سَيِّئَاتِهِ ، كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبيرَةٍ ، فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَتَزْرَقُ عَيْنَاهُ ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذلِكَ{ يالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ }[الحاقة : 25 و26]).
(0/0)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ } ؛ أي يقالُ له اقْرَأ كِتَابَكَ ، قال الحسنُ : (يَقْرَؤُهُ أُمِّيّاً كَانَ أوْ غَيْرَ أُمِّيٍّ) ، وقال قتادةُ : (يَقْرَؤُهُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئاً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } ؛ أي مُحَاسِباً ، وإنما جُعل محاسباً لنفسهِ ؛ لأنه إذا رأى أعمالَهُ كلَّها مكتوبةً ، ورأى خيرَ أعمالهِ مكتوباً لم ينقُصْ من ثوابهِ شيءٌ ، ولم يُزَدْ على عقابهِ شيءٌ كفاهُ ذلك في الحساب ، وكان الحسنُ يقول : (يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ عَدَلَ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ لِنَفْسِكَ حَسِيباً).
(0/0)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } ؛ أي منفعةُ هدايتهِ راجعةٌ إليه ، { وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } ؛ أي ومَن ضلَّ في الدُّنيا ، فإنَّ وَبَالَ ضلالهِ راجعٌ إليهِ ، { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؛ أي لا يَحْمِلُ أحدٌ حِمْلَ غيرهِ ، فلا يؤخَذُ بذنب غيره ، { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } ؛ إقامةً للحجَّة ، وقطعاً للعُذرِ.
(0/0)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } ؛ أي إذا أرَدنا الحكمَ بهَلاكِ قريةٍ ، (أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) جَبَابرَتَهَا ورُؤساءَها بالطاعةِ فعَمِلُوا بالمعاصي ، وهذا كما يقالُ للرجُلِ : أمَرتُكَ فَعَصَيتَنِي ، يعني أمرتُكَ لتُطيعَنِي فخالَفتَني.
وإنما ذكرَ الرؤساءَ دون المتبوعين ؛ لأن غيرَهم تَبَعٌ لَهم ، فيكون الأمرُ لهم بالطاعةِ أمرٌ للأَتباع. وقرأ مجاهدُ وأبو رجاء (أمَّرْنَا) بالتشديدِ ؛ أي جعَلنا لهم إمْرَةً وسُلطاناً. وقولهُ تعالى : { فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ } ؛ أي وجبَ عليها القولُ بالعذاب ، { فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } ؛ أي أهلَكناها هَلاكاً.
(0/0)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ } ؛ أي أهلكنا قروناً كثيرة بعد نوح ، قال ابنُ عباس : (الْقَرْنُ مشائَةٌ وَعُشْرُونَ سَنَةً) ، وقال المازنِيُّ : (مِائةُ سَنَةٍ) ، وقولهُ تعالى : { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } ؛ أي مَن كان هَمُّهُ مَقصوراً على طلب الدُّنيا دونَ الآخرةِ ، نحوُ أن يكون يريدُ بالجهادِ الغنيمةَ وبعمَلهِ الذي فرضَهُ اللهُ عليه في الدُّنيا ويَغنَمُهَا خاصَّةً ، عجَّلنا له في الدُّنيا ما نشاءُ مِن عَرَضِ الدُّنيا لا ما يشاءُ العبد ، ولِمَن يريدُ أن يُعطِيَهُ لا لكلِّ مَن يطلبُ ، فأدخلَ اللهُ تعالى في إعطاءِ المراد من العاجِلَة استثناءً من استثناءٍ في العطيَّة ، واستثناءً في المعطِين ؛ لئلاَّ يَثِقُ الطالِبون للدُّنيا بأنَّهم لا محالةَ سينَالون بسَعيهم ما يريدون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } ؛ أي بهذا الذي لم يُرِدِ اللهَ بعمَلهِ ، { يَصْلاهَا } ؛ أي يدخُلها ، { مَذْمُوماً } ؛ بذمِّ نفسهِ ويَذُمُّهُ الناسُ ، { مَّدْحُوراً } ؛ أي مَطرُوداً مُبعَداً من كلِّ خيرٍ.
(0/0)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ؛ شَرَطَ اللهُ تعالى في ذلك ثلاثةَ شرائطَ : أحدُها : أنْ يريدَ بعملهِ ثوابَ الآخرةِ بالإخلاصِ في النيَّة.
والثانِي : أن يسعَى في العملِ الذي يستحقُّ به ثوابَ الآخرةِ. والثالثُ أن يكون مُؤمناً ؛ لأنه إذا كان كَافراً لا ينتفعُ بشيءٍ من عملهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } ؛ أي تُضَعَّفُ لهم الحسناتُ ، وتُمْحَى عنهم السَّيئاتُ ، وتُرفَعُ لهم الدرجاتُ ، وقال مجاهدُ : (شُكْرُهُ أنْ يُثِبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ لَهُ ، وَيَعْفُوَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
(0/0)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـاؤُلاءِ وَهَـاؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } ؛ أي كلُّ واحدٍ من الفريقَين ممن يريدُ الدنيا ، وممن يريدُ الآخرةَ نُمِدُّهُ من رزقِ ربكَ ، { وَمَا كَانَ عَطَآءُ } ؛ رزقُ ، { رَبِّكَ مَحْظُوراً } ؛ أي مَحْبُوساً من البرِّ والفاجرِ. وفي هذا بيانُ أنَّ نِعَمَ الدنيا مشتركةٌ بينهم ، بخلافِ نِعَمِ الآخرةِ التي هي خاصَّةٌ للمتَّقين ، ألاَ ترَى أن سائرَ نِعَمِ اللهِ من الشَّمسِ والقمر ؛ والهواءِ والماء ؛ والنباتِ والحيوانات ؛ والأغذيَةِ والأدويةِ ؛ وصحَّة الجسمِ والعافيةِ ؛ وغيرِ ذلك شاملةٌ للمؤمنِ والكافر.
(0/0)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف فضَّلنا بعضَهم على بعضٍ في الرِّزق في الدُّنيا بالمال والخَدَمِ ، منهم الْمُقِلُّ ومنهم الْمُكْثِرُ ، هذا في الدُّنيا ، { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } ؛ أي ولدرجاتُ الآخرةِ أكبرُ من درجاتِ الدُّنيا ، وفضائلُ الآخرة وثوابُها أرفَعُ مما فُضِّلوا في الدنيا ، فينبغي أنْ يكون سَعيُهم للآخرةِ أكثرَ.
(0/0)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ قِيْلَ : أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ به كافَّةُ المكلَّفين كما في قولهِ تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ }[الزمر : 65]. وَقِيْلَ : هو خطابٌ للإنسانِ ، كأنَّهُ قالَ : لا تجعَلْ أيُّها الإنسانُ مع مَن له العَطَايا عَاجِلاً وآجلاً إلَهاً آخر ، { فَتَقْعُدَ } ؛ فتبقَى في جهنم ، { مَذْمُوماً مَّخْذُولاً } ؛ لا نَاصِرَ لكَ.
(0/0)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ؛ برّاً بهما وعَطْفاً عليهما ، وقولهُ تعالى : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } ؛ أي إنْ عاشَا عندَكَ أيُّها الإنسانُ حتى يَكبُرَا ، وقرأ حمزة والكسائي (يَبْلُغَانِ) ؛ لأن الوالدينِ قد ذُكر قبلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } ؛ تقذُّراً حين ترَى منهما شيئاً من الأذى ، بل أمِطْ عنهما كما كانا يُمِيطَانِ عنكَ في حالةِ الصِّغَرِ ، والأُفُّ هو وسَخُ الأظفارِ ، والتُّفُّ وسخُ الأُذن ، والمعنى : لا تتأَذى بهما ، كما لم يكُونَا يتأذيان بكَ ، قال صلى الله عليه وسلم " لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئاً مِنَ الْعُقُوقِ أدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ ، فَلْيَعْمَلِ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ ، فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَلْيَعْمَلِ الْبَارُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ ، فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ؛ أي لا تَزجُرهما بإغْلاَظٍ وصِيَاحٍ في وجُوهِهِما ، ولا تُكلِّمْهُما ضَجِراَ ، { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } ؛ أي يكون فيه كرامةٌ لهما كقولِ العبدِ الْمُذْنِب للسيِّد الغليظِ ، كذا قال ابنُ المسيَّب ، وقال عطاءُ : (لاَ تَشْتُمْهُمَا وَلاَ تُبْكِيهِمَا ، وقُلْ لَهُمَا : يَا أبَتَاهُ ، يَا أُمَّاهُ).
(0/0)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } ؛ أي وكُن لهما مُتضرِّعاً مُتَذلِّلاً ، فإنَّ خَفْضَ الْجَنَاحِ عبارةٌ عن الخضُوعِ ، والمبالغةِ في التذلُّل والتواضعِ ، وعن عطاء أنه قالَ : (جَنَاحُكَ يَدُكَ ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ عِنْدَ أبَوَيْكَ ، وَلاَ أنْ تُحِدَّ بَصَرَكَ عَلَيْهِمَا تَعْظِيماً لَهُمَا).
وعن عُروة بنِ الزُّبير قال : (مَا أبَرَّ وَالِدَهُ مَنْ أحَدَّ النَّظَرَ إلَيْهِ). وَقِيْلَ : خفضُ الجناحِ عبارةٌ عن السُّكون ، قرأ الحسنُ وسعيد بن جبير وعاصم : (جَنَاحَ الذِّلِّ) بكسرِ الذال ؛ أي لا تَسْتَصْعِبْ معَهُما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } ؛ وهذا أمرٌ بالدُّعاء لهما بالرحمةِ والمغفرةِ إذا كانا مُسلِمين ، والمعنى : رب ارحَمهُما مثلَ رَحمتِهما أيَّايَ في صِغَري حتى ربَّيانِي ، وقال قتادةُ : (هَكَذا عُلِّمْتُمْ ، بهَذا أُمِرْتُمْ).
قال صلى الله عليه وسلم : " رضَا اللهِ مَعَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ ، وَسَخَطُ اللهِ مَعَ سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " " مَنْ أمْسَى مَرْضِيّاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى الْجَنَّةِ ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدٌ. وَمَنْ أمْسَى مُسْخِطاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى النَّارِ ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدُ " فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ فَإْنْ ظَلَمَاهُ ؟ قَالَ : [وَإنْ ظَلَمَاهُ ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ] " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ.
(0/0)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } ؛ أي هو أعلَمُ بما في قُلوبكم من الرَّحمة عليهما ، والمعنى : ربُّكم أعلمُ بما تُضمِرون من البرِّ والعُقوقِ ، فمَن ندرَتْ منه نادرةٌ وهو لا يُضمِرُ عُقوقاً غَفَرَ اللهُ له ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } ؛ أي إن تَكونُوا مُطِيعِينَ للهِ تعالى ، { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } ؛ أي للرَّاجِعين من الذُّنوب إلى طاعةِ الله ، النادمِين على المعاصي والزَّلاَّتِ. والأوَّابُ : هو الذي يتوبُ مرَّةً بعدَ مرةٍ ، كلَّما أذنبَ بادرَ إلى التوبةِ. وعن مجاهدٍ : (أن الأَوَّابَ : هُوَ الَّذي يَذْكُرُ ذنْبَهُ فِي الْخَلاَءِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ).
(0/0)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بذِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الأنْسَانِ ، وَحَقُهُ مَا يَصِلُ بهِ رَحِمَهُ). وقال بعضُهم : أرادَ به قرابةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وحقُّهم هو الحقُّ الذي يجب لهم من الْخُمَسِ. والتأويلُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية ؛ لأن ذكرَ القرابةِ معطوفٌ على ذكرِ الوالدَين ، وذلك عامٌّ في جميعِ الناس. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ } ؛ أي وآتِ المسكين وابنَ السَّبيل حقَّهم الذي وجبَ لهم من الزَّكاة والعُشرِ وغيرِهما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } ؛ التبذيرُ : تفريقُ المالِ في المعصية ، قال مجاهدُ : (لَوْ أنْفَقَ دِرْهَماً أوْ مُدّاً فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى كَانَ مُبَذِّراً ، وَلَوْ أنْفَقَ فِي مِثْلِ أبي قُبَيْسٍ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُبَذِّراً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } ؛ أي أتباعَ الشَّياطين ، يَتبعونَهم ويَجْرُونَ على سُنَنِهم ، وَقِيْلَ : يُقْرَنُونَ بالشَّياطينِ في النارِ ، { وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً }.
(0/0)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } ؛ معناه : إنْ أعرضتَ عن هؤلاءِ الذين أوصَيناكَ بهم من ذوي القُربَى والمساكينِ انتظارَ رزقٍ يأتيكَ من اللهِ تعالى ؛ لأنَّكَ لا تجدُ ما تصِلُهم ، وكنتَ مُنتظراً لرزقِ ربكَ ترجوهُ من اللهِ لتُعطِيهم منهُ ، { فَقُل لَّهُمْ } ؛ عندَ ذلك ، { قَوْلاً مَّيْسُوراً } ؛ سَهلاً لَيِّناً ، نحوَ أن تَعِدَهم عدةً حسنةً وبقَولِ : افْعَلُ ؛ وكرامةً ليس عندي اليومَ شيءٌ ، وسوف أُعطِيكُم ؛ وأقضِي حقَّكُم إذا ادركتُ الغُلَّةَ ، ووصَلَ إلَيَّ مالِي الذي في موضعِ كذا. أو تقولَ : يرزُقنا الله وإيَّاكم من فضلهِ.
(0/0)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } ؛ أي تَبْخَلُ بالمنعِ من حقُوقِهم الواجبة لهم ، ومرادهُ : الذي يتركُ الإنفاقَ يكون بمنْزِلة مَن غُلَّتْ يداهُ إلى عُنقهِ ، فلا يعطِي من مالهِ شَيئاً في الخير ، وسُمِّي البخلُ بمثل هذه الصِّفات ، يقولون : فلانٌ قصيرُ البَاعِ ، وإذا كان كَريماً قالوا : طويلَ الباعِ ، وقال صلى الله عليه وسلم لنسائهِ : " أسْرَعُكُنَّ لَحَاقاً أطْوَلُكُنَّ يَداً " فَكَانَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ ؛ لأنَّهَا كَانَتْ أكْثَرَهُنَّ صَدَقَة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } ؛ أي لا تُخرِجْ جميعَ ما في يدِكَ مع حاجتِكَ وحاجة عيالك إليه ، { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } ؛ ذا حَسرَةٍ تلومُ نفسَكَ وتُلاَمُ ، وتبقَى الحسرَةُ على ما تُخرِجهُ من يدِكَ ، والحسرةُ : الغَمُّ لانْحِسَارِ مَا فَاتَ ، وحَسَرَ عن ذراعهِ يَحْسُرُ حَسْراً إذا كَشَفَ عنه.
وقد قِيْلَ : إنَّ المرادَ بالخطاب في هذه الآية غيرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ ، وكان يجوعُ حتى يشُدَّ الحجرَ على بطنهِ ، وقد كان كثيرٌ من فُضَلاءِ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمُ يُنفقون جميعَ أمْلاكِهم في سبيلِ الله تعالى ، مِثْلَ ما فعلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه حتى يبقَى في عباءة ، فلم يُعنِّفْهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يُنكِرْ عليهم لصحَّةِ يقينهم وشدَّةِ بصائرهم.
وإنما نَهَى اللهُ تعالى عن الإفراطِ في الإنفاقِ مَن خِيفَ عليه الحسرةَ على ما يخرجهُ من يدهِ ، كما رُوي : " أنَّ رَجُلاً أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذهَبٍ ، فَقَالَ : وَجَدْتُهَا فِي مَعْدِنِ كَذا وَلاَ أمْلِكُ غَيْرَهَا ، فَتَصَدَّقَ بهَا ، فَأَخَذهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَاهُ بهَا حَتَّى لَوْ أصَابَهُ بهَا لَشَجَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : " إنَّ أحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بجَمِيعِ مَالِهِ ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ ". " ومن الدليلِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم يكن دَاخِلاً في هذا الخطاب : أن اللهَ تعالى قال { مَلُوماً مَّحْسُوراً } ومعلومٌ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحسَّرُ على ما كان يملِكهُ.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأن سببَ نُزولِ هذه الآية ما رُوي : " أنَّ امْرَأةً بَعَثَتِ ابْنَهَا إلَى النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ : قُلْ : إنَّ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعاً ، فَإنْ قَالَ لَكَ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ ، فَقُلْ لَهُ : فَإنَّهَا تَسْتَكْسِيكَ قَمِيصَكَ ، فَفَعَلَ الابْنُ كَمَا قَالَتْ أُمُّهُ ، فَنَزَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَمِيصٌ يَخْرُجُ فِيْهِ إلَى الصَّلاَةِ " ، فنَزلت هذه الآيةُ بما فيها من الدلالةِ بالنَّهي عن الإمساكِ ، فيكون التحسُّرُ على هذا القولِ لتأخُّرِ خروجهِ إلى الصلاةِ بسبب القَميصِ.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ أي يوسِّعُ الرزقَ لمن يشاءُ ، ويُضيِّقُ على من يشاءُ ، على ما يرَى فيه المصلحةَ ، { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } ؛ وهذا كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأَرْضِ وَلَـاكِن }[الشورى : 27].
(0/0)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } ؛ أي خَشيَةَ الفقرِ والإقْتَارِ ، { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } ؛ نزلَ في جماعةٍ كانوا يدفِنون بنَاتِهم خشيةَ الفَاقَةِ ، ولئَلاَّ يحتاجُوا إلى النفقةِ عليهم ، وكان ذلك مُستفيضاً شَائعاً بينهم وهي الْمَوْءُودَةُ التي ذكرَها اللهُ تعالى في قوله{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ }[التكوير : 8].
وقوله تعالى : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } أي إنَّ رِزقَكم ورزقَ بناتِكم على اللهِ ، وإنْ كان لسببٍ يجري على أيدِيكم ، فإنَّ اللهَ تعالى لو لَم يُقوِّكُم على الاكتساب ولَم يُمكِّنكُم من تحصيلِ النفقة لم تتمَكَّنوا من تحصيلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } ؛ أي إنَّ دَفنَهم أحياءً كان ذنباً عظيماً في العقوبةِ ، يقال : خَطِأَ الرجُل يَخْطَأُ خطأً مثل أثِمَ يأثَمُ إثماً ، وقرأ ابنُ عامر (خَطَأً) بفتحِ الخاء على أنه مصدرُ أخْطَأَ ، فيكون المعنى على هذا أنَّ قَتلَهم كان غيرَ صوابٍ.
(0/0)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } ؛ الفَاحِشَةُ ما تفاحَشَ قُبحهُ وتعظَّمَ ، فكان الزنَى قبيحاً في الفعلِ قبل ورُودِ السمعِ ؛ لأن فيه قطعَ الأنساب وما يتعلَّقُ به من الْمُحَرَّمَاتِ ، وإبطالِ حقِّ الولد على الوالدِ.
قال صلى الله عليه وسلم : " وَفِي الزِّنَى سِتُّ خِصَالٍ : ثَلاَثٌ فِي الدُّنْيَا ، وَثَلاَثٌ فِي الآخِرَةِ. فَأمَّا اللَّوَاتِي فِي الدُّنْيَا : فَيُذْهِبُ نُورَ الْوَجْهِ وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ وَيُسْرِعُ الْفَنَاءَ. وأمَّا اللَّوَاتِي فِي الآخِرَةِ : فَغَضَبُ الرَّب وَسُوءُ الْحِسَاب وَالدُّخُولُ فِي النَّارِ " ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَآءَ سَبِيلاً } ؛ أي بئْسَ الزِّنَى طَريقاً لمن يسلكهُ.
(0/0)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } ؛ أي لا تقتُلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ قتلَها إلا بحقٍّ تستحقُّ بهِ ، وهو أن يَقتُلَ نَفساً بغيرِ حقٍّ ، أو يَزنِيَ وهو مُحصَنٌ ، أو يرتدَّ عن الإسلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } ؛ أي مَن قُتل بغيرِ حقٍّ ، فقد جَعلنا لوارثهِ حجَّةًُ في كتاب الله تعالى في إيجاب القَوَدِ على القاتلِ ، وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ : (الْمُرَادُ بهَذا السُّلْطَانِ : أنَّ لِلْوَلِيِّ أنْ يَقْتُلَ إنْ شَاءَ ، أوْ أخَذ الدِّيَةَ ، أوْ عَفَى). ويجوزُ أن يكون المرادُ بالسُّلطان السلطانَ الذي يلِي الأمرَ والنهيَ يجب عليه أن يُعِينَ ولِيَّ القتيلِ حتى يطلبَ قاتلَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ } ؛ السَّرَفُ : أن يقتُلَ غيرَ القاتلِ كما يفعلهُ العربُ. وَقِيْلَ : معناهُ : ولا تُمَثِّلُوا بالقاتلِ في القتل. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } ؛ يعنِي ولِيَّ المقتولِ ، حكمَ اللهُ له بذلك ، وأمرَ المؤمنين أن يُعينوهُ ، ويجبُ أيضاً على الإمامِ أن يُدفَعَ إليه القاتلُ. ويقالُ : معناه : إن المقتولَ كان منصُوراً بالثَّوابِ وبإيجاب القَصَاصِ لِوَلِيِّهِ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلاَثةٌ : رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللهِ ".
(0/0)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ؛ أي إلا بما يؤدِّي إلى حفظهِ وصيانته وتَمييزهِ ، وإنما خَصَّ اليتيمَ بذلك ؛ لأن الطمعَ في مالهِ أكثرُ ، وهو إلى الحفظِ أحوَجُ لِعَجْزِهِ عن حفظهِ بنفسه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ؛ أي حتى يُكمِلَ ثَماني عشرةَ سَنة. وَقِيْلَ : معناهُ : حتى يبلُغَ وقتَ الْحَلُمِ ويكمل عقله.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } ؛ أي وأوْفُوا بعهدِ الله إليكم في أموالِ اليتَامى ، وكلُّ ما أمرَ اللهُ به ونَهى عنهُ فهو من العهدِ ، { إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } عنه للجزاءِ ، فحُذِفَ استكفاءً بدلالةِ الحال.
(0/0)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ } ؛ أي أتِمُّوهُ ولا تَبْخَسُوهُ ، { وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } ؛ أي بميزان العدل ، قرأ أهلُ الكوفة (بالْقِسْطَاسِ) بكسر القافِ وهما لُغتان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ؛ أي ذلكَ الذي أمَرتُكم به خيرٌ لكم وأحسنُ عاقبةً ، والتَّأْويلُ : هو الذي إليه مرجعُ الشيءِ من قولِهم آلَيَؤُولُ.
(0/0)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } ؛ أي لا تَقُلْ ما ليسَ لك به علمٌ ، وقال قتادة : (لاَ تَقُلْ : سَمِعْتُ وَرَأيْتُ ، وَلَمْ تَرَ وَلَمْ تَسْمَعْ ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمُ).
والقَفْوُ في اللغة : اتِّباعُ الأمرِ كأنه يتبَعُ الأثرَ ، ومنه القِيَافَةُ ، كانت العربُ يتَّبعون فيها أثرَ الآباءِ ، ويقولُ : قفوتُ الشيءَ أقْفُوهُ ؛ إذا اتَّبَعْتَ أثَرَهُ ، والمعنى على هذا : لا تُتْبعَنَّ لسَانَكَ مِن القول ما ليس لكَ به علمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ } ؛ يعني إنَّ المرءَ مسؤُولٌ يومَ القيامةِ عمَّا يفعلهُ بهذه الجوارحِ مِن الاستماعِ لِمَا لا يحلُّ ، والنظر الى ما لا يجوزُ ، والارادةِ لِمَا يَقْبُحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ أُولـائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } ؛ أي كلُّ هذه الجوارجِ والأعضاء ، ولَم يقُل تلكَ ، قال الشاعرُ : ذّمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوْلَئِكَ الأَيَّامِويجوزُ أن يكون راجعاً إلى أصحَابها وأربَابها.
(0/0)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً } ؛ أي بَطَراً وكِبْراً وخُيَلاَءً ، والْمَرَحُ : شدَّةُ الفَرَحِ ، { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ } ؛ بقَدَمَيكَ وكِبْرِكَ ، { وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ } ؛ بعَظَمَتِكَ ، { طُولاً } ؛ أي لا تُطاولُ الجبالَ فاستقصِرْ نفسَكَ عندما ترَى من سَعَةِ الأرضِ وبسطِها وعِظَمِ الجبال وطُولِها. من قرأ (مَرَحاً) بنصب الراء فهو المصدرُ ، ومَن قرأ بكسرِ الراء فهو اسمُ الفاعلِ.
(0/0)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } ؛ أي كُلُّ ما تقدَّمَ مِن قولهِ تعالى{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ }[الإسراء : 30] إلى هذا الموضعِ كان سَيِّئَةً لا حسنةَ فيه ، وهذا على قراءةِ مَن قرأ (سَيِّئَةً) بالنصب ، وقرأ ابنُ عامر والكوفيُّون (سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبكَ) على الإضافةِ بمعنى : هذا الذي ذكرتهُ مِن قوله تعالى{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ }[الإسراء : 23] إلى هذه الآيةِ ذكرُ الحسَنِ ، والسَّيِّءُ وقولهُ تعالى { مَكْرُوهاً } على قراءة من قرأ سَيِّئَةً بالنصب بدل من سَيِّئُهُ.
(0/0)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ } ؛ أي ذلك الذي سبقَ ذِكرهُ من هذه الأشياءِ مما أوحَى إليكَ ربُّكَ من صواب القول والعملِ ، { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ } ؛ هذا خطابٌ لكلِّ مؤمنٍ ، كأنَّهُ قال : ولا تجعَلْ أيُّها الإنسانُ ، { فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً } ؛ تَلُومُ نفسَكَ ، { مَّدْحُوراً } ؛ أي مَطرُوداً من رحمةِ الله تعالى.
قال الكلبيُّ وابنُ عبَّاس : (هَذِهِ الثَّمَانِي عَشْرَةَ آيَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ... } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { كُلُّ ذلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً }[الإسراء : 38] كَانَتْ فِي ألْوَاحِ مُوسَى عليه السلام حِينَ كَتَبَهَا اللهُ لَهُ ، وَقَدْ أنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي الْكُتُب كُلِّهَا مَوْجُودَةٌ لَمْ تُنْسَخْ قَطُّ).
(0/0)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً } ؛ خطابٌ للمشرِكين الذين زعَموا أن الملائكةَ بناتُ اللهِ مُنكِراً عليهم ، تعالى اللهُ عن ذلكَ عُلُوّاً كَبيراً ، والمعنى : أفحَكَم لكم ربكم بالبنين ، فأخلصَ لكم البنينَ دونَهُ وجعل البناتِ مشتركةً بينَكم وبينَهُ ، فأخلَصَكم بالأجَلِّ وجعلَ لنفسه الأَدْوَنَ ، ولا يكون هذا من الحكمةِ أن يَخُصَّ الحكيمُ عَدُوَّهُ بالأشرفِ ويختارُ لنفسه الأَدْوَنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } ؛ في الكُفرِ والفِرْيَةِ على اللهِ تعالى.
(0/0)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ } ؛ أي بَيَّنَّا في هذا القرآنِ من الأمثال والعِبَرِ لِتَّعِظُوا بها ، { وَمَا يَزِيدُهُمْ } ؛ تصريفُ الأمثالِ ، { إِلاَّ نُفُوراً } ؛ أي تَبَاعُداً عن الإيمانِ. قرأ الأعمشُ وحمزة (لِيَذْكُرُوا) مخفَّفاً.
(0/0)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لو كانَ مع اللهِ آلِهَةٌ كما تقولُون أنتُم إذاً لطَلَبُوا ما يُفرِّقُهم إلى مالكِ العرشِ لعُلُوِّهِ عليهم وكونهِ أفضلَ منهم ، وهذا قولُ مجاهدٍ. وذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنَّ المعنى : لطَلَبُوا مُغَالَبَتَهُ ، وَابْتَغَوا طَرِيقاً لِيَقْهَرُوهُ ، كَفِعْلِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مُغَالَبَةَ صَاحِبهِ لِيَصْفُو لَهُ الْمُلْكُ. وقرأ ابنُ كثير (كَمَا يَقُولُونَ) بالياءِ على معنى : كما يقولُ المشركون.
(0/0)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } ؛ قرأ الأعمشُ وحمزةُ والكسائي (عَمَّا تَقُولُونَ) بالتاء ، وقرأ الباقون بالياءِ. ومعنى الآيةِ : تَنْزِيهَاً للهِ عن كلِّ ما لاَ يليقُ بهِ من الولدِ والشَّريكِ ؛ أي يُرَفَّعُ عما يقولون من إضافةِ البناتِ إلى اللهِ تعالى. وقولهُ تعالى { عُلُوّاً كَبِيراً } أي تَعظِيماً كَبيراً ، ولم يقل تَعَالِياً ؛ لأن المصدرَ قد يُذكَرُ لا على لفظِ الأوَّل كما في قولهِ تعالى : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً }[المزمل : 8].
(0/0)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } ؛ قرأ أبو عمرٍو وحمزةُ والكسائي بالتاء ، وقرأ غيرُهم بالياءِ. قال إبراهيمُ النخعيُّ وجماعةٌ من المفسِّرين : (إنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَبَّحَ للهِ حَتَّى صَرِيرُ الْبَاب) ، ولِهذا قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } ؛ أي لا تَعلَمُونَ ، قال الحسنُ والضحَّاك : (يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ فِيْهِ الرُّوحُ) ، وقال قتادةُ : (يَعْنِي الْحَيْوَانَاتِ) ، وقال عكرمةُ : (وَالشَّجَرُ يُسَبحُ وَالاسْطِوَانَةُ تُسَبحُ).
وَقِيْلَ : إن الترابَ يسبحُ ما دام يَابساً ، فإذا ابْتَلَّ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الماءَ يُسَبحُ ما دامَ جَارياً ، فإذا ركَدَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الورقَ ما دامَ على الشَّجرِ يسبحُ ، فإذا سقطَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الثوبَ يسبحُ ما دامَ جَديداً ، فإذا توَسَّخَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الوحشَ إذا صاحتَ سبَّحَتْ ، فإذا سكَتَتْ تَرَكَتِ التسبيحَ.
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : " كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَأَخَذ كَفّاً مِنْ حَصَى فَسَبَّحَ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمْعْنَا التَّسْبيحَ ، فَصَبَّهُنَّ فِي أيْدِينَا فَمَا سَبَّحْنَ فِي أيْدِينَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ؛ أي حَليماً لا يَعْجَلُ بعقاب الكفَّار ، غَفُوراً يَسْتُرُ الذنوبَ على عبادهِ.
(0/0)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً } ؛ نزلَ في قومٍ من المشركين كادوا يُؤذُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآنَ ، قال الكلبيُّ : (هُمْ أبُو سُفْيَانَ وَالنَّضْرُ بنُ الْحَرِثِ وَأبُو جَهْلٍ وَأُمُّ جَمِيلٍ امْرَأةُ أبي لَهَبٍ ، حَجَبَ اللهُ رَسُولَهُ عَنْ أبْصَارِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَكَانُواْ يَأْتُونَهُ وَيَمُرُّونَ بهِ وَلاَ يَرَوْنَهُ)
وعن سعيدِ بن جُبير قال : " (لَمَّا نَزَلَتْ { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد : 1] جَاءَتِ امْرَأةُ أبي لَهَبٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ تَجَنَّبْتَ عَنِ امْرَأةِ أبي لَهَبٍ لِئَلاَّ تُسْمِعَكَ ، فَإنَّهَا امْرَأةٌ نَدِيَّةٌ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا " فَجَاءَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ ، وَهِيَ تَقُولُ : هَذا مِمَّا أبَيْنَا وَدِينِهِ قَلَيْنَا وَأمْرِهِ عَصَيْنَا.
وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَأبُو بَكْرٍ إلَى جَنْبهِ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : لَقَدْ أقْبَلَتْ هَذِهِ وَأنَا أخَافُ أنْ تَرَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : إنَّهَا لَنْ تَرَانِي ، وَقَرَأ { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً }. قَالَ : فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ أبي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ : يَا أبَا بَكْرٍ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي ، فَقَالَ : لاَ وَرَب الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ ، فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَةً ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللهِ أمَا رَأتْكَ ؟ قَالَ : " لا ". قال : لِمَ ؟ قَالَ : " نَزَلَ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي حَتَّى ذهَبْتُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } أي سَاتِراً لَهم عن إدراكهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } ؛ أي منعناهم عن تدبُّرِ كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وقتٍ مخصوصٍ ، وهو الوقتُ الذي أرادوا إيذاءَهُ فيهِ ، { وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } ؛ ففِي ذلك الوقتِ صرَفنا آذانَهم عن الاستماعِ إليه ، والمعنى : طبَعنا على قُلوبهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ } ؛ يعني إذا قُلتَ : لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ ، وأنتَ تَتلُو القرآنَ ، { وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } ، قال ابنُ عبَّاس : (كَارهِينَ أنْ يُوَحِّدُواْ اللهَ) ، وقال قتادةُ : " إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، أنْكَرَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ ". والمعنى : انصَرَفُوا عنكَ هاربين ؛ كراهةً لما يسمعونَهُ من توحيدِ الله.
(0/0)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } ؛ أي نحنُ أعلمُ بما يستَمعون إليه من قراءةِ القرآن ، أنَّهم لماذا يستَمِعون وأنَّ قَصدَهم به الأذى دون طلب الحقِّ ، فيسمعون إلى قِرَاءَتِكَ ، { وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } ؛ في أمرِكَ يتَناجَوْنَ ، فيقولُ بعضهم : هذا كاهنٌ ، ويقول بعضُهم : هذا ساحرٌ ، ويقول بعضهم : هذا مجنونٌ ، ويقول بعضُهم : هذا شاعرٌ.
وَقِيْلَ : إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عَلِيّاً رضي الله عنه أنْ يتَّخِذ طَعاماً ، فيدعُو إليه أشرافَ قُريش من المشركين ، ففعلَ ذلكَ ، ودخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآنَ ، ودعاهُم إلى التوحيدِ ، فكانوا يستَمِعون ويقولون فيما بينهم مُتَنَاجِينَ : هو ساحرٌ ، وهو مجنون مسحورٌ.
فأخبرَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ بذلكَ ، وأنزلَ عليه { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى } أي يتناجَون بينهم بالتكذيب والاستهزاءِ ، { إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي أُولئك المشرِكون : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } أي مغلوبَ العقلِ قد سُحِرَ ، وأُزيلَ عن حدِّ الاستواءِ.
(0/0)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ } ؛ أي كيف وصَفُوا لكَ الأشباهَ ، فشَّبهوكَ بالمجنون والكاهنِ والساحر ، { فَضَلُّواْ } ؛ عن الحقِّ ، { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } ؛ مَخرَجاً عن الضَّلالِ إلى الهدَى.
(0/0)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } ؛ أي إذا صِرْنَا عِظَاماً بَالِيَةً وصِرنَا تُراباً ، { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } ؛ لنُبعَثُ بعدَ ذلكَ ؛ { خَلْقاً جَدِيداً } ؛ أيْ أنْبْعَثُ بعدَ ذلكَ ؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ منهم. والرُّفَاتُ في اللغة : كلُّ شيء يُحَطِّمُ ويُكَسَّرُ ، قال ابنُ عبَّاس : (يَقُولُونَ : إذا ذهَبَ اللَّحْمُ وَالْعُرُوقُ وَتَفَتَّتَ عِظَامٌ قَدْ بَلَتْ ، فَإذا مَسَّيْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ انْسَحَقَ ، أنُبْعَثُ بَعْدَ ذلِكَ).
(0/0)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : كونُوا حجارةً إنْ قَدرتُم عليها ، أو أشدَّ منها بأن تكُونوا حَديداً ، أو أقوَى من الحديدِ ؛ { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } ؛ أو أيَّ شيءٍ من الخلقِ نحوَ السَّموات والأرضِ والجبالِ ، فإنِّي أُعيدكم لا محالةَ إلى ما كُنتم عليهِ من قَبْل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } أي إذا قُلْتَ لهم ذلكَ فسيقولون لكَ : مَن يُعِيدُنا ؟ { قُلِ } ؛ لَهم : يُعِيدُكم ، { الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ لأنَّ مَن قَدَرَ على البناءِ كان على الهدمِ أقدرَ ، ومَن قدر على ابتداءِ الشيء كان على إعادتهِ أقدرَ.
قولهُ : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } ؛ أي فسيُحرِّكون إليكَ رُؤوسَهم تعجُّباً لقولِكَ ، والإنْغَاضُ : تحرُّكُ الرأس بالارتفاع والانخفاضِ على جهة الاستهزاءِ والاستبطاء ، { وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ } ؛ أي متى تكون الإعادةُ ، { قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً } ؛ أي قل عسى أن تكون الإعادةُ قريبةً ، و(عَسَى) مِن الله واجبةٌ ، { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } ؛ في النَّفخةِ الثانية ، فتجيبون دَاعِيَ اللهِ حامِدين لله ، قال سعيدُ بن جبير : (يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ يَقُولُونَ : سُبْحَانَكَ وَبحَمْدِكَ ، وَلاَ يَنْفَعُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ ؛ لأَنَّهُمْ حَمَدُوا حِينَ لاَ يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ).
قولهُ : { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي تظُنون أنَّكم لم تلبَثُوا في الدُّنيا إلا قَليلاً لسُرعةِ انقلاب الدُّنيا إلى الآخرةِ ، كما قال الحسنُ : (كَأَنَّكَ بالدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ وَبالآخِرَةِ وَلَمْ تَزَلْ).
ومِن المفسِّرين مَن قالَ : هذه الآية خطابٌ للمؤمنِين ؛ لأنَّهم يستَجيبون للهِ بحمده على إحسانهِ إليهم ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم : " كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَهُمْ يَنْفِضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقُولُونَ : الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
(0/0)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ؛ وذلك " أنَّ المشركين كانوا يُؤذُونَ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بالقولِ والفعلِ بمكَّة ، فشَكَوا ذلكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ائْذنْ لَنَا فِي قِتَالِهِمْ ، فَقَالَ : " إنِّي لَمْ أُؤْمَرْ فِيْهِمْ بشَيْءٍ " وكان ذلك قبلَ أن يُؤمَرَ بالجهادِ.
والمعنى : قُل للمؤمنين يقولون للكفَّار ، والمقالَةُ التي هي أحسَنُ من الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الرِّفقِ ، ويقولون لَهم : يَهدِيكُمُ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } ؛ أي يُغْرِي المشركين على المسلمين ، فيوقعُ العداوةَ بينهم ويفسِدُ نيَّتَهم ، { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً } ؛ مُظْهِراً للعداوةِ.
(0/0)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } ؛ أي بأحوالِكم ، { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } ؛ بأن يُنَجِّيكُمْ من كفَّار مكَّة وينصُرَكم عليهم ، { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } ؛ أي يُسلِّطْهم عليكم ، { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } ؛ أي حَفيظاً وكفيلاً ؛ أي ما وُكِّلَ إليكَ إيمانُهم ، إنْ شاءَ اللهُ تعالى هدَاهُم ، وإنْ شاءَ خذلَهم.
(0/0)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ لأنه خلَقَهم فهدَى بعضَهم وأضلَّ بعضهم على علمٍ منه بهم ، لم يَخْتَرْ بعضَ الملائكةِ والأنبياء لِمَيْلِهِ إليهم ، وإنما أختَارَهم لعِلمهِ بباطنهم ، وقولهُ تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ }.
قال قتادةُ : (اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً ، وَجَعَلَ عِيسَى كَلْمَتَهُ وَرُوحَهُ ، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ ، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } ؛ يعني كِتَابَهُ الذي أعطاهُ إياه ، وهو مِائَةٌ وخمسون سورةً ، ليس فيها حُكمٌ ولا فريضة ، وإنما هو ثناءٌ على اللهِ تعالى.
(0/0)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ } ؛ أي قالَ المفسِّرون : ابتلَى اللهُ كفارَ مكَّة بالقحطِ سنينَ ، فشَكَوا ذلك إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ ؛ أي قُل للمشركين : ادْعُوا الذين زعَمتُم أنَّهم آلهةٌ ، { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ } ؛ أي البُؤْسِ والشدَّةِ ، { عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } التحويلُ : النَّقْلُ من حالٍ الى حال.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ؛ معناهُ : أولئكَ الذين يْدعون إلى اللهِ في طلب الجنَّة ، ويطلُبون التقرُّبَ إليه ، فكيف تَعبُدونَهم أنتم. والوسيلةُ : القربَةُ إلى اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } أي أقرَبُ إلى اللهِ بالوسيلة ، يعني يتقرَّبون إليه بالعملِ الصالح ، وعن ابنِ مسعودٍ في تفسيرِ هذه الآية : (أنَّ قَوْماً مِنَ الإنْسِ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَوْماً مِنَ الْجِنِّ ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَبَقِيَ الإنْسُ عَلَى كُفْرِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وقولهُ تعالى : { يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } أي يطلبُون أن يعلَمُوا أيُّهم أقربُ إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ } ؛ أي يريدون جَنَّتَهُ ، { وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } ؛ أي مما يجبُ أن يُحذرَ عنهُ.
(0/0)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } ؛ يعني بالموتِ أو معذِّبوها بعذاب الاستئصال ، ومعنى { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } : وما مِنْ قريةٍ قال ابنُ مسعودٍ : (إذا ظَهَرَ الزِّنَى وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أذِنَ اللهُ فِي هَلاَكِهَا) ، وقال مقاتلُ : (أمَّا الصَّالِحَةُ فَبالْمَوْتِ ، وَأمَّا الطَّالِحَةُ فَبالْعَذاب).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَ ذالِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } ؛ أي قضاءً من اللهِ ، كما يسمَعون ليس منه بدٌّ ، وَقِيْلَ : كان ذلك في اللَّوحِ المحفوظِ مَكتوباً ، فإنه مكتوبٌ فيه كيفَ يُهلِكهم اللهُ ، ومتى يُهِلِكهم ، وبأَيِّ عذابٍ يُهلكهم.
(0/0)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ } ؛ وذلكَ أنَّ قُريشاً قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : حوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذهَباً ، وَنَحِّ الْجِبَالَ عَنَّا لنَنْفَسِحَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ؛ أي أنْ حوَّلتهُ فلم يؤمنوا لَمْ أُمهِلْهُمْ لسُنَّتي في مَن قبلَهم.
وموضع (أنْ) الأُولى نُصِبَ بتكذيب الأوَّلين برفعِ المنع عليه ، وموضعُ (أنْ) الثانية رَفعٌ تقديره : وما مَنَعَنَا الإرسالَ بالآياتِ إلا تكذيب الأوَّلين بها ، وهذا اللفظُ أغنَى عن لفظ المنعِ على طريق المجازِ ؛ لأن المنعَ لا يجوزُ على اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً } ؛ أي أخرَجنا لثمودَ الناقةَ ليُبصِرُوا بها الْهُدَى من الضَّلالة ، والسعادةَ من الشقاوةِ ، { فَظَلَمُواْ بِهَا } ؛ أي جَحَدوا بها وعَقَرُوها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } ؛ أي العِبَرَ والدلالاتِ إلا تَخْوِيفاً للعبادِ ليُؤمِنُوا ، فإذا لم يفعَلُوا عُذِّبُوا.
قال قتادةُ : (يُخَوِّفُ اللهُ الْخَلْقَ بمَا شَاءَ مِنْ آيَةٍ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبرُونَ أوْ يَرْجِعُونَ ، ذُكِرَ لَنَا أنَّ الْكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللهَ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَاعْتِبُوهُ). وعن الحسنِ في قوله : { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً } قال : (الْمَوْتُ الذريعُ).
(0/0)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } ؛ عِلْماً وقدرةً فَهُمْ في قبضتهِ لا يقدرون على الخروجِ عن مَشِيئته ، وهو مانعُكَ منهم وحافظُكَ ، فلا تتَهيَّب وتخافُ منهم ، وامْضِ بما أُمِرْتَ به من تبليغِ الرِّسالةِ ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : أحَاطَ بالنَّاسِ ؛ أيْ أهْلَ مَكَّةَ أَنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } ؛ قال أكثرُ المفسِّرين : يعني ما ذُكِرَ في أوَّلِ هذه السُّورة من الإسراءِ في ليلةٍ واحدة من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصَى على معنى أنَّها شدَّةٌ من التكليفِ ، كما رُوي أنَّ المشركين استعظَمُوا ذلك وكذبوهُ ، فيكون معنى الرُّؤيا رؤيةَ العينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ } ؛ أي وما جعَلنا الشجرةَ الملعونةَ إلاَّ فتنةً للناس ، والشجرةُ الْمَلْعُونَةُ : شجرةُ الزَّقُّومِ ، يقولُ العرب : لكُلِّ طعامٍ منارٌ معلوم ، وسَمَّوها فتنةً ؛ لأنَّهم قالوا : إنَّ النارَ تأكلُ الشجرةَ ، فكيف تنبتُ الشجرة في النارِ؟!
وقال ابن الزُّبْعَرَى : (مَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إلاَّ التَّمْرَ وَالزَّبَدَ) فَهَذا الْكَلاَمُ مِنْهُمْ هُوَ فِتْنَتُهُمْ ؛ أيْ فُتِنُواْ بذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } ؛ أي نُخوِّفُهم بما نُرسِلُ الآياتِ ، فما يزدادون إلا تَجاوُزاً عن الحدِّ.
(0/0)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ } ؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك. وقولهُ تعالى : { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } ؛ أي قالَ إبليسُ : أأسجدُ لآدم وهو مخلوقٌ من طينٍ ؟ وهذا استفهامٌ بمعنى الإنكار ، ونُصِبَ (طِيناً) على الحالِ.
قال اللهُ تعالى حَاكياً عن إبليس : { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـاذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } أي قالَ إبليس : أخبرنِي عن هذا الذي كرَّمتهُ عليَّ ، لِمَ كرَّمتَهُ علَيَّ ، وقد خلَقتَني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ؟! اعتقدَ إبليس أنَّ النارَ أكرَمُ أصلاً من الطينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي لأَستَأْصِلَنَّ ذُرِّيتَهُ بإغوائِهم ، إلاَّ قليلاً منهم وهمُ الذين عصَمتَهم مني ، تقولُ العربُ : احْتَنَكَتِ السَّنَةُ أمْوالَنَا ؛ أي استأْصَلَتْهَا ، قال الشاعرُ : أشْكُو إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ وَاحْتَنَكَتْ أمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْوَاحْتَنَكَتْ حَلَقَتْ ، وَاحْتَنَكَتِ الْجَرَادُ مَا عَلَى الأَرْضِ. وَقِيْلَ : معنى { لأَحْتَنِكَنَّ } أي لأقتَطِعَنَّ ذُرِّيتَهُ إلى المعاصي ، يقالُ : احْتَنَكَ فلانٌ ما عندَ فلانٍ من مالٍ ، إذا اقتطعَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لأَقُودَنَّ ذُريَّتَهُ إلى المعاصِي وإلى النار ، مِن قولهم : حَنَكَ دَابَّتَهُ يَحْنِكُهَا من الأَسْفَلِ بحَبْلٍ يَقُودُهَا بهِ.
(0/0)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } ؛ أي فمَن تَبعَكَ من ذُرية آدمَ فإنَّ جهنمَ جزاؤُكم جزاء وافراً مُكَمَّلاً. قولهُ : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ؛ أي اسْتَنْزِلْ واستَخِفَّ واستَجْهِلْ مَن استطعتَ منهم بدُعائِكَ في المعصيةِ ، مِن قولهم : صَوَّتَ فلانٌ ، إذا دعاهُ ، ويقال : أراد بالصوتِ صوتَ الغناءِ والمزامير ، وهذا لعَلَى وجهِ التهديدِ وإنْ كان في صورَةِ الأمرِ كقوله تعالى : { اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ }[فصلت : 40] وكقولهم : أجْهِدْ جُهْدَكَ.
(0/0)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } ؛ أي صِحْ بخَيْلِكَ ورَجْلِكَ احْثُثْهُمْ على الإغواءِ ، يقالُ : أجْلَبَ على العدوِّ ، إذا جمعَ عليهم الخيولَ ، والمعنى على هذا : إجمعْ عليهم كلَّ ما تقدرُ من مكائدٍ ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ برِكَاب جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ). والْجَلْبُ هو قَوْدُ الشيءِ وسَوقُهُ بالصوتِ ، يقالُ للغنَمِ : جَلَبٌ وجَلُوبَةٌ ؛ أي جلبت من موضعٍ إلى آخر ، قال الحسنُ : (كُلُّ رَاكِبٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ فَهْوَ مِنْ خَيْلِ إبْلِيسَ ، وَكُلُّ مَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ فَهْوَ مِنْ رَجْلِ الشَّيْطَانِ) ، وقرأ حفصٌ (وَرَجِلِكَ) بنصب الراء وكسرِ الجيم وهما لُغتان ، أتبَعَ كسرةَ الجيمِ كسرةَ اللام ، وهذا على طريقِ الإهانَةِ لإبليسَ ، لاَ أنَّ له خَيْلاً ورَجِلاً ، كما يقولُ الرجل لغيرهِ : أجْمِعْ خَيْلَكَ وَرَجِلَكَ وَمَا أمْكَنَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ } ؛ شِركَتهُ في الأموالِ أن يجعَلُوا شيئاً من أموالهم لغيرِ الله ، كما جعَلُوا من الحرثِ والأنعامِ ، وشِركَتهُ في الأولادِ أن سَمَّوا أولادَهم : عبدَ يَغُوث ، وعبدَ شمسٍ ، وعبدَ الحرب. وقال بعضُهم : شِركتهُ في أولادِهم أولاد الزِّنَى ، كذا قال مجاهدُ والضحَّاك. ويقالُ شركتهُ في الأموالِ كلَّ ما أُخذ من حرامٍ وأُنفِقَ في حرامٍ ، وشركتهُ في الأولادِ الذي يُهَوِّدَاهُ أبَوَاهُ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } ؛ أي مَنِّيهِمْ بما شِئتَ من الغُرور : من طولِ الحياةِ ، والتَّشكيكِ في البعثِ ، وما تكون مواعيدُ الشَّيطان إلا غُروراً ؛ أي تَزييناً بَاطِلاً.
(0/0)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ؛ أي " إلاَّ " في الوسوَسة ، فإما أن يَمنعَهم عن الطاعةِ ، أو يحملَهم على المعصيةِ فلا ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ أولِيائي ليس لك عليهم حجَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } ؛ أي حَافِظاً لأوليائهِ يعصِمُهم عن القبولِ من إبليس ؛ لأن الوكيلَ بالشيءِ يكون حَافظاً له.
ثُم ذكَرَ سبحانَهُ نِعَمَهُ على عبادهِ فقال :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ } ؛ أي ربُّكم الذي يسوقُ لكم ، ويُجرِي لكم السُّفنَ في البحرِ ، { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } ؛ أي لتطلبُوا ما كان مصلحةً لكم في دُنياكم وآخِرَتِكم من التِّجارة وغيرِها ، { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } ؛ حين أنعمَ عليكم بهذه النِّعم.
(0/0)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } ؛ أي يُخَلِّصُكم من الشدَّة في البحرِ عند عَصْفِ الرياحِ وترادُفِ الأمواجِ ، وخِفتُم الغرقَ ، ضلَّ مَن تدعون من الأصنامِ عن تخليصِكم ؛ أي بَطَلَ وزَالَ ، ولا يرجُون النجاةَ إلا من اللهِ.
قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ نَسِيتُمُ الأَنْدَادَ وَالشُّرَكَاءَ ، وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَأخْلَصْتُمْ للهِ) ، { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ } ، فَلَمَّا أجَابَ دُعَاءَكُمْ وَنَجَّاكُمْ مِنَ الْبَحْرِ ، وَأخْرَجَكُمْ إلى البَرِّ ونجاكم ، { أَعْرَضْتُمْ } ؛ عن الإيمانِ والطاعة ، ورجعتُم إلى ما كنتم عليهِ ، { وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً } ؛ لنِعَمِ اللهِ تعالى ، وأرادَ بالإنسانِ الكافرَ.
(0/0)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ } ؛ معناهُ : أفأَمِنتُمْ بعدَ ذلك أن نَخسِفَ بكمُ الأرضَ كما فُعِلَ بقارونَ ، { أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } ؛ أي حجارةً تُمطِرُ من السَّماءِ عليكم ، كما أمطَرتْ على قومِ لوط ، قال القُتَيْبيُّ : (الْحَاصِبُ : الرِّيحُ الَّتِي تَرْمِي بالْحَصْبَاءِ) وهي الحصَى الصِّغار ، يقال : حَصَبَهُ بالحجارةِ ، إذا رمَاهُ بها مُتَتابعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } ؛ أي حَافِظاً يحفَظُكم من عذاب الله.
(0/0)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى } ؛ أي أمْ أمِنتُم أن يُعيدَكم اللهُ في البحرِ مرَّةً أُخرى ، { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الرِّيحِ } ؛ أي ريحاً شديدةً تَقْصِفُ الفُلْكَ ، قال أبو عُبيدة : (الْقَاصِفُ هِيَ الرِّيحُ الَّتِي تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ ؛ أيْ تَدُقُّهُ وَتُحَطِّمُهُ). وقال القتيبيُّ : (هِيَ الَّتِي تَقْصِفُ الشَّجَرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } ؛ أي بكُفرِكم ، { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } ؛ أي لا تجدُوا لكم من يَتْبَعُنَا فيطالِبُنا بدمائِكم ، والتَّبيعُ : مَنْ يَتْبَعُ غَيْرَهُ لأمرٍ.
(0/0)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } ؛ أي فضَّلناهم بالعقلِ والنُّطقِ والتمييزِ ، وعامَلناهم معاملةَ الإكرامِ بالنعمة ، وجعلناهم يهتَدُون إلى مَعايشهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي في البَرِّ على الدواب ، وفي البحرِ على السُّفن. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } ؛ أي لَذِيذِ المطاعمِ والمشارب ، قال مقاتلُ : (السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالتَّمْرُ وَالْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } ؛ أي فضَّلنَاهم على كثيرٍ من حيواناتِ البرِّ والبحرِ ، ومِن تفضيلهم أنَّهم يأكُلون بالأيدِي ، وغيرُهم من الحيواناتِ يأكلون بالأفواهِ. ويقالُ : إنَّ ابنَ آدم يَمشِي مُنتَصِباً قائماً وسائرُ الحيواناتِ تَمشِي مُنْكَبَّةً.
ولم يقُل في الآية : عَلَى كلِّ مَنْ خلَقْنَا ؛ لأن اللهَ فضَّلَ الملائكةَ كما قالَ تعالى : { وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ }[النساء : 172] ولكنَّ ابنَ آدمَ مُفَضَّلٌ على سائرِ الحيوانات ، وقال عطاءُ في هذه الآيةِ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا) ، وقال محمَّدُ بن كعبٍ : (بأَنْ جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ). وَقِيْلَ : بحُسنِ الصُّورة ، وَقِيْلَ : الرِّجالُ باللِّحَا والنِّساءُ بالذوائب.
وَقِيْلَ : بتسلِيطهم على غيرِهم من الخلائقِ ، وبتسخيرِ الخلائق لَهم. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تفسيرِ الآية قال : " الْكَرَامَةُ الأَكْلُ بالأصَابعِ " وقولهُ : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني الثِّمارَ والحبوبَ ، وكلَّ طعامٍ لَيِّنٍ ، ورَزَقَ الدوابَ التِّبنَ والحشيشَ والشَّوكَ.
(0/0)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } ؛ يعني يومَ القيامةِ وهو منصوبٌ على معنى : واذْكُرْ يومَ ندعُو كلَّ أناسٍ بإمامِهم ؛ أي نَبيِّهِمْ ، فيقالُ : هاتُوا متَّبعِي إبراهيمَ ، هاتوا مُتَّبعي موسَى ، هاتوا متَّبعي عيسَى ، هاتوا متَّبعي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فيقومُونَ يأْخذُونَ كُتبَهم بأَيمانِهم.
ثم يقالُ : هاتُوا متَّبعي الشيطانِ رؤساءَ الضَّلالةِ ، هاتوا مُتَّبعي الطاغوتِ ، فيقُومون ويُعطَونَ كُتبَهم بشمائلِهم. ويقالُ : يُدعَى كلُّ أُناسٍ بعَملهِ ، فيقالُ : أين صاحبُ هذا الكتاب ؟ أين فلانُ بن فلان الْمُصَلِّي ؟ وأين فلانُ بن فلان الصَّوَّام ؟ إلى أن يُنادِي بالعازفِ والدفَّافِ والرَّقاصِ ، فيُدعَى كلُّ أُناسٍ بعملهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } ؛ أي مَن أُعطِيَ كتابَهُ الذي فيه ثوابُ عملهِ بيمينه ، { فَأُوْلَـائِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } ؛ يفرَحُون ويُسَرُّونَ بما يقرَأُون ، وقولهُ تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ ولا يُنقَصُونَ من ثواب أعمالهم مقدارَ الفَتِيلِ ، وهو القِشْرُ الذي في شِقِّ النَّواةِ ، ويقالُ : هو الوَسَخُ الذي تَفْتِلُهُ بين إصبعَيكَ.
(0/0)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن كَانَ فِي هَـاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ؛ أي مَن كان في هذه الدُّنيا التي هو مُشَاهِدٌ لها أعمَى عن الحجَّة ، لا يتفكَّرُ بقلبهِ في ملَكوتِ السَّموات والأرضِ ، فهو في الآخرةِ التي هي غائبةٌ عن عَينَيهِ أشدُّ عمًى ، وأخطأُ طَريقاً. ويقالُ : معناهُ : مَن كان في هذه الدُّنيا ضَالاً عن الحقِّ فهو في الآخرةِ أشدُّ تَحَيُّراً وذهَاباً عن طريقِ الحقِّ.
(0/0)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } ؛ وذلك " أنَّ ثَقيفاً أرسَلُوا وَفدَهُم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينةِ ، فقالُوا : يَا مُحَمَّدُ نَحْنُ أخْوَالُكَ وَأصْهَارُكَ وَجِيرَانُكَ ، وَجِيرَانُ أهْلِ نَجْدٍ لَكَ سِلْماً وَصِرْهُمْ عَلَيْكَ حَزَناً ، إنْ سَالَمْنَا سَالَمَ مَنْ بَعْدَنَا ، وَإنْ حَارَبْنَا حَارَبَ مَنْ بَعْدَنَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَاذا تُرِيدُونَ ؟ " قَالُواْ : نُبَايعُكَ عَلَى أنْ تُعْطِيَنَا ثَلاَثَ خِصَالٍ : أنْ لاَ نَنْحَنِي - يَعْنُونَ فِي الصَّلَوَاتِ - وَأنْ لاَ تُكْسَرَ أصْنَامُنَا بأَيْدِينَا ، تُمَتِّعُنَا بالأَصْنَامِ سَنَةً.
فَقَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ خَيْرَ فِي دِينٍ لاَ صَلاَةَ فِيْهِ وَلاَ رُكُوعَ وَلاَ سُجُودَ ، وَأمَّا قَوْلُكُمْ عَلَى أنْ لاَ تَكْسِرُواْ أصْنَامَكُمْ بأَيْدِيكُمْ فَذلِكَ لَكُمْ ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ لَهَا مَنْ يَكْسِرُهَا ، وأمَّا الأَصْنَامُ فَأَنَا غَيْرُ مُمَتِّعُكُمْ بهَا " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ فَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أنَّكَ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرَنَا ، فَإنْ خِفْتَ أنْ تَقُولَ الْعَرَبُ أعْطَيْتَهُمْ مَا لَمْ تُعْطِنَا ، فَقُلِ اللهُ أمَرَنِي بذلِكَ! فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ لاَ : رَجَاءَ أنْ يُسْلِمُواْ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } أي يَصرِفُونَكَ عن الذي أمَرنَاكَ من كَسْرِ آلِهتِهم وعَيب دِينِهم ؛ لتَفتَرِيَ علينا غيرَ الذي أمرنَاكَ به ، فلو فعلتَ ما أرادوهُ ، { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } ؛ أي صَفِيّاً لمبايَعتِكَ إيَّاهم.
(0/0)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } ؛ أي لقد كِدْتَ تَميلُ إليهم ، قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي حِينَ سَكَتَّ عَنْ جَوَابهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } ؛ أي إنَّكَ لو مِلْتَ إليهم لأذقناكَ ضِعْفَ عذاب الدُّنيا ، وضعفَ عذاب الآخرة ، يريدُ عذابَ الآخرةِ ضِعْفَ ما يُعذبُ به غيرهُ ، { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } ؛ أي مَانِعاً يَمنعُنَا من تعذيبكَ ، قال ابنُ عبَّاس : (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ ، وَلَكِنْ هَذا تَخْوِيفاً لأُمَّتِهِ ؛ لِئَلاَّ يَرْكَنَ أحَدٌ منَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أحْكَامِ اللهِ تَعاَلَى وَشَرَائِعِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " اللَّهُمَّ لاَ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلاَ أدْنَى مِنْ ذلِكَ ".
وذهبَ السديُّ في هذه الآياتِ : (إلَى أنَّ قُرَيْشاً قَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : إنَّكَ تَرْفُضُ آلِهَتَنَا كُلَّ الرَّفْضِ ، فَلَوْ أنَّكَ تأْتِيهَا وَتَلْمِسُهَا وَتَبْعَثُ بَعْضَ وَلَدِكَ فَيَمْسَحُهَا ، كَانَ أرَقَّ لِقُلُوبنَا وَأحْرَى أنْ نَتَّبعَكَ! فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَبْعَثَ بَعْضَ وَلَدِهِ فَيَمْسَحَهَا ، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذلِكَ). ويقال : إنَّهم قالوا : أُطْرُدْ سِقَاطَ الناسِ وموالِيهم ، هؤلاءِ الذين رائحتُهم كرائحةِ الضَّأنِ حتى نتَّبعَكَ ، فَهَمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعلَ رجاءَ أن يُسلِمُوا ، فأنزلَ اللهُ هذه الآياتِ.
وقولهُ تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَّا قَدِمَ المدينةَ ، حسَدَتْهُ اليهودُ قالوا له : يَا مُحَمَّدُ أنَبيٌّ أنْتَ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ " قَالُواْ لَهُ : وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَذِهِ بأرْضِ الأَنْبيَاءِ ، وَإنَّ أرْضَ الأَنْبيَاءِ الشَّامُ ، كَانَ بهَا إبْرَاهِيمُ وَعِيسَى ، فَإنْ كُنْتَ نَبيّاً فَأْتِ الشَّامَ ، فَإنَّ اللهَ سَيَمْنَعُكَ بهَا مِنَ الرُّومِ إنْ كُنْتَ رَسُولَهُ ، وَهِيَ الأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَأرْضُ الْمَحْشَرِ. فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّامِ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بهَذِهِ الآيَةِ. ومعناها : وقد كَادُوا ليَستَفِزُّونَكَ من أرضِ المدينة ليُخرِجُوكَ منها إلى الشَّامِ ، { وَإِذاً } ؛ لو أخرَجُوكَ ، { لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي الاَّ مدَّةً يسيرةً حتى يُهلِكَهم اللهُ. ومن قرأ (خِلاَفَكَ) فمعناهُ : مُخالَفَتِكَ.
(0/0)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } ؛ نَصْبٌ على المصدرِ ؛ أي سَنَّ لَهم سُنَّةَ مَن قد أرسَلنا ، فإن سُنَّةَ اللهِ قد جرت في مَن قبلِكَ من الرُّسل بأنَّ أُمَمَهم إذا أخرجُوهم من مواضِعهم لم يلبَثُوا إلا قليلاً ، والسُّنَّةُ : هي العادةُ الجارية. وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ على تحويلِ السُّنة التي أجرَاها اللهُ.
وقال مجاهدُ وقتادة : (هَمَّ أهْلُ مَكَّةَ بإخْرَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ حِينَ شَاوَرُواْ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ فَعَلُواْ مَا أُمْهِلُواْ ، وَلَكِنَّ اللهَ كَفَّهُمْ عَنْ إخْرَاجِهِ حَتَّى أمَرَهُ بالْخُرُوجِ). والقَلِيلُ : مَا لَبثُوا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أهْلَكَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، غيرَ أن التأويلَ الأول أصحُّ.
(0/0)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيلِ } ؛ قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه : (مَعْنَاهُ : أقِمِ الصَّلاَةَ لِغُرُوب الشَّمْسِ) والصلاةُ المأمور بها على هذا هي المغربُ ، والغَسَقُ بُدُوُّ الليلِ ، وعن ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في إحدى الرِّوايَتين عنه مثلُ قول ابنِ مسعود ، وفي الروايةِ الثانية وهو قولُ الحسنِ ومجاهد وقتادةُ : (إنَّ دُلُوكَهَا زَوَالُهَا) وَالصَّلاَةُ المأمور بها على هذا الظهرُ والعصر والمغربُ والعشاءُ. فالغَسَقُ على هذا القولِ هو اجتماعُ ظُلمَةِ الليلِ.
قوله تعالى : { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } ؛ صلاةَ الفجرِ تشهدُها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ يُصلُّونَها مع المسلمين. وإنما سُميت صلاةُ الفجرِ قُرْآناً ؛ لأن القراءةَ فيها طولٌ ، ولأن القراءةَ فريضةٌ من الرَّكعتين ، وفي هذا بيانُ أن الصلاةَ لا تكون إلا بقراءةٍ.
(0/0)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (فَصَلِّ بالْقُرْآنِ). والتَّهَجُّدُ هو التَّيَقُّظُ بَعْدَ النَّومِ ، ويقالُ : تَهَجَّدَ إذا نامَ ، وتَهَجَّدَ إذا استيقظَ ، والمعنى : أقِمِ الصلاةَ بالليلِ بعد التيقُّظِ من النومِ ، ويقال : الْمُتَهَجِّدُ القائمُ إلى الصلاةِ من النوم ، وقيل له : مُتَهَجِّدٌ لانتفاءِ التجدُّدِ عن نفسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَافِلَةً لَّكَ } أي تطَوُّعاً ، وَقِيْلَ : فضيلةً لكَ لرفعِ الدرجات لا للكفَّارات ، فإنه عليه السلام قد غُفِرَ له من ذنبهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ ، وليست لنا بنافلةٍ ، لكَثرَةِ ذُنوبنا وإنما هي كفارةٌ لغيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، هكذا قال مجاهدُ. وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّها نافلةٌ لغيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ما روَى أبو أُمامة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ ، وَتَصِيرُ الصَّلاَةُ نَافِلَةً " قِيلَ لَهُ : أنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ : نَعَمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ ثَلاَثٍ وَأرْبَعٍ وَلاَ خَمْسٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } ؛ أي المقامَ الذي تُحْمَدُ عاقبتهُ ، وهو المقامُ الذي يُعطيهِ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيه لواءُ الْحَمْدِ تجتمعُ تحته الملائكةُ والأنبياء ، فيكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ شافعٍ وأوَّلَ مُشفَّعٍ ، قال ابنُ عبَّاس : (وَعَسَى مِنَ اللهِ وَاجِبَةٌ). ويعني بقولهِ { مَقَاماً مَّحْمُوداً } أي يُعطِيكَ اللهُ يومَ القيامة مقاماً يحمدُكَ فيه الأوَّلون والآخِرون شرفٌ به على جميعِ الخلائق ، والمقامُ المحمود مقامُ الشَّفاعَةُ ، ومعنى { يَبْعَثَكَ } يُقِيمُكَ.
(0/0)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } ؛ أي أدخِلني المدينةَ وأخرِجني من مكَّة. وَقِيْلَ : أدخِلني في ما أمَرتَّني به ، وأخرِجني من ما نَهيتني عنهُ. وَقِيْلَ : أدخِلني مُدخَلَ صدقِ في جميع الأمور ، وأخرجني مُخرَجَ صدقٍ من جميعِ الأمور.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } ؛ أي واجعَلْ لي من عندَكَ قوَّةً أمتنِعُ بها عن مَن عادَانِي. وقِيْلَ : حجَّةً أتقَوَّى بها على إبطالِ سائرِ الأديان الباطلة.
وعن محمَّد بن المنكدر قال : " قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلَ الْغَارَ : أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ " وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ أخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مِنْ مَكَّةَ آمِناً مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَأدْخِلْنِي مَكَّةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ ظَاهِراً عَلَيْهَا بالْفَتْحِ) ، وقال عطيةُ عن ابنِ عبَّاس : (أدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَأخْرِجْنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ عِنْدَ الْبَعْثِ). وَقِيْلَ : المعنى : أدخلني حيث ما أدخلتَني بالصِّدقِ ، وأخرجني منه بالصِّدقِ ، أي لا تجعلني مِمَّن يدخلُ بوجهٍ ويخرجُ بوجهٍ آخرَ ، فإنَّ ذا الوجهَين لا يكون أمِيناً عند الله.
(0/0)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } ؛ معنى : الحقُّ هو ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الشَّرائعِ والإسلامِ ، وما جاءَ به من القُرآنِ ، وقال السديُّ : (الْحَقُّ الإسْلاَمُ ، وَالْبَاطِلُ الشِّرْكُ). ومعنى (زَهَقَ) : بَطَلَ واضْمَحَلَّ.
قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس : [ " لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ ، وَجَدَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَماً ، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بمخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ : جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ، إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً " فَكَانَ الصَّنَمُ يَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ ، وَكَانَ أهْلُ مَكَّةَ يَتْبَعُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ : مَا رَأيْنَا رَجُلاً أسْحَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ "
(0/0)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي شفاءٌ للمسلمين في الدُّنيا والآخرةِ ، يتبَرَّكون بقراءَتهِ على أنفُسِهم ، ويستَعينون به على دفعِ الأسقام والبلاَيا. وَقَيْلَ : شفاءٌ للقلوب يزولُ به الجهلُ منها كما يشفَى المريض.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي نعمةٌ مِن الله تعالى عليهم ، وكونُ القرآن شفاءٌ ؛ أي يُزِيلُ عمَى الجهلِ وحيرةَ الشكِّ ، فهو شفاءٌ من داءِ الجهلِ. وقال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ) ، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالْقُرْآنِ فَلاَ شَفَاهُ اللهُ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } ؛ أي لا يُزَادُ الكفارُ عند نزولِ القرآن إلا خَسَاراً لأنه لا ينتفِعُ به.
(0/0)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ } ؛ أي أنعَمنا عليه بكشفِ الضُّرِّ وتبديلِ البُؤسِ بالنعمةِ ، { أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } ؛ أي أعرضَ عن شُكرِه وتباعَدَ عن ذلك بنفسهِ ، وقولهُ تعالى : { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي تعَظَّمَ وتكَبَّر وبعَّدَ نفسَهُ عن القيامِ بحقوق النِّعَمِ. يريدُ بالإنسانِ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيدُ بالإنْسَانِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً } ؛ أي إذا أصابتْهُ شدَّةٌ كان قَنُوطاً من رجاءِ الفَرَجِ من اللهِ ، لا يَثِقُ بفضلِ الله تعالى على عبادهِ فيطمعُ في كشفِ تلك البليَّةِ من جهتهِ ، وهذه صفةُ الكافرِ.
(0/0)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } ؛ أي على طَبْعِهِ الذي جُبلَ عليه ، وَقِيْلَ : على عادتهِ التي ألِفَها ، وفي هذا تحذيرٌ من الفسادِ المسكون إليهِ ، وَقِيْلَ على فِئَتِهِ ، وَقِيْلَ : على طريقتهِ التي تشابهُ كلَّ أخلاقهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } ؛ أي إنَّ اللهَ يعلمُ أيَّ الفريقَين على الهدى وأيُّهما على الضلالةِ من المؤمنين والكفَّارِ.
(0/0)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } ؛ اختلَفُوا في الذي سأَلُوا عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قال بعضُهم : سأَلوهُ عن جبريلَ قد سَمَّاهُ اللهُ روحاً في قولهِ تعالى{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }[الشورى : 52] ، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ : (إنَّ الرُّوحَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وَجْهٍ ، فِي كُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ لِسَانٍ يُسَبحُ اللهَ تَعَالَى بكُلِّ لِسَانٍ مِنْ هَذِهِ الأَلْسِنَةِ ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ الْمَلَكِ).
وعن عبدِالله بن مسعود قال : (كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَمَرَّ بقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لاَ تَسْأَلُوهُ ، ثُمَّ أتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُواْ لَهُ : يَا أبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ ؟ فَسَكَتَ ، ثُمَّ قَامَ فَاشْتَدَّ بيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيٌ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... } الآية).
وعن ابن عبَّاس : (أنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُواْ فَقَالُواْ لِقُرَيْشٍ : سَلُوا مُحَمَّداً فِي ثَلاَثٍ ، فَإنْ أخْبَرَكُمْ باثْنَيْنِ وَأمْسَكَ عَنِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ نبيٌّ ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوا فِي الزَّمَانِ ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، وَاسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْفِتْيَةِ{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ }[الكهف : 9]... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ، وَأنْزَلَ اللهُ{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ }[الكهف : 83]... إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ، وَأنْزَلَ اللهُ فِي الرُّوحِ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... } الآيَةُ ، وإنَّمَا سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ قِصَّتُهُ وَلاَ تَفْسِيرُهُ ، وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اسْمِهِ الرُّوحُ).
وقال سعيدُ بن جبير : (لَمْ يَخْلُقِ اللهُ خَلْقاً أعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ ، لَوْ شَاءَ أنْ يَبْلَعَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيْهِمَا بلُقْمَةٍ فَعَلَ ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلضى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ ، وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ الآدَمِيِّينَ ، وَلَوْلاَ أنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ سِتْراً مِنْ نُورٍ لاحْتَرَقَتِ السَّمَوَاتُ مِنْ نُوره).
ويقالُ : أرادَ بالرُّوحِ روحَ الحيوانِ وهو ظاهرُ الكلامِ ، وفي روحِ الحيوان خِلافٌ بين العلماءِ ، وكلُّ حيوانٍ فهو روحٌ وبَدَنٌ ، وروحُ الحيوان جسمٌ رقيق على بُنيَةٍ حيوانيَّة ، في كلِّ جُزءٍ منها حياةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي من الأمرِ الذي لا يعلمهُ إلا ربي ، وإنما لم يُجِبْهُمْ عن ذلك ؛ لأن اليهودَ هم الذين سألوهُ عن الروحِ ، وكان في كتابهم أنه إنْ أجابَهم عن الروحِ فليس بنبيٍّ! فلم يُجِبهُم تصديقاً لِمَا في كتابهم ، وكانت المصلحةُ في هذا أن لا يُعرِّفَهم الروحَ من جهة النصِّ ، بل يكلِّمُهم في تعريفهِ إلى ما في عقولهم ، لِمَا في ذلك من الرياضةِ باستخراج الفائدة.
وقال بعضُهم : هو الدمُ! ألا ترَى أنه مَن نَزَفَ دمهُ ماتَ ، والْمَيْتُ لا يَفْقُدُ من جسمهِ إلا الدمَ.
(0/0)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ؛ أي لو شِئْنا لَمَحَونَا القرآنَ من القلوب والكتُب ، وأنسَيْنَا ذكرَهُ كَيلاَ يوجدَ له أثرٌ ، { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً } ؛ تتوكَّلُ عليه في ردِّ شيءٍ منهُ ، وقولهُ تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } ؛ أي لكِنْ لا نشاءُ ذلك إلا رحمةً من ربك ، فأثبتَ ذلك في قلبكَ وقلوب المؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً } ؛ أي حيث اختارَكَ للنبوَّةِ ، واصطفاكَ للرسالةِ ، وخصَّكَ بالوحيِ والقرآن ، وجعلَكَ سيِّدَ ولدِ آدمَ ، وختمَ بك الأنبياءَ ، وأعطاكَ المقامَ المحمودَ.
وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ خَرَجَ وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأسِ مِنْ وَجَعٍ ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ ، فَحَمَدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " يَا أيُّهَا النَّاسُ ، مَا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي تَكْتُبُونَ ؟ أكِتَابٌ غَيْرُ كِتَاب اللهِ ، كُلُّ مَنْ كَتَبَ كِتَاباً غَيْرَ كِتَاب اللهِ يُوشِكُ أنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهِ لِكِتَابهِ ، وَلاَ يَدَعُ وَرَقاً وَلاَ قَلْباً إلاَّ أُخِذ مِنْهُ " قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : " مَنْ أرَادَ اللهُ بهِ خَيْراً بَقِيَ فِي قَلْبهِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ".
وعن عبدِالله بن مسعودٍ : (إنَّ أوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلاَةَ ، وَلَيُصَلِّيَنَّ أَقْوَامٌ ولاَ دِينَ لَهُمْ ، وَإنَّ هَذا الْقُرْآنَ لَيُصْبحَنَّ وَمَا فِيكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ) فَقَالَ رَجُلٌ : كَيْفَ يَكُونُ ذلِكَ يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ وَقَدْ أتْقَنَّاهُ فِي قُلُوبنَا ، وَأثْبَتْنَاهُ فِي مَضَاجِعِنَا ، نُعَلِّمُهُ أبَاءَنَا وَأبْنَاءَنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : (يَسْرِي بهِ فِي لَيْلَةٍ فَيَذْهَبُ مَا فِي الْمَصَاحِفِ وَمَا فِي الْقُلُوب. وقرأ عبدُالله : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ).
وعن عبدِالله قالَ : (أكْثِرُواْ الطَّوَافَ بالْبَيْتِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ وَتَبْنِي النَّاسُ مَكَانَهُ ، وَأكْثِرُواْ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ) فَقِيلَ : هَذِهِ الْمَصَاحِفُ تُرْفَعُ ، فَكَيْفَ بمَا فِي صُدُور الرِّجَالِ ؟ قَالَ : (يَسْرِي عَلَيْهِ لَيْلاً فَتُصْبحُواَ مِنْهُ فُقَرَاءَ ، وَتَنْسَوْنَ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ، وَتَقَعُونَ فِي قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأشْعَارهِمْ).
وعن عبدِالله بن عَمروٍ قال : (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ بهِ ، لَهُ دَويٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : مَا بَالُكَ ؟ فَيَقُولُ : يَا رَب مِنْكَ خَرَجْتُ وَإلَيْكَ أعُودُ ، أُتْلَى وَلاَ يُعْمَلُ بي).
(0/0)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـاذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } ؛ هذا تكذيبٌ للنَّضرِ بن الحارثِ حين قالَ : لو نشاءُ لقُلنَا مثلَ هذا ، والمعنى : قُل لو اجتَمَعوا على أن يأتُوا بمثلهِ في حُسنِ النَّظْمِ ، وجودَةِ اللفظِ ، وجمعِ المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرةِ لا يأتُونَ بمثلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } ؛ أي أعْوَاناً ، وأما رَفْعُ { لاَ يَأْتُونَ } ، فلأنَّ جوابَ القسَمِ غالبٌ على جواب (أنْ) لوقوعه في صدر الكلام.
(0/0)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ؛ أي من التخويفِ والتَّرغيب ، { فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً } وامتنعَ أكثرُهم ؛ أي أكثرُ أهلِ مكَّة إلا جُحوداً وإنكاراً للحقِّ.
(0/0)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً } رَوى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس : " [أنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَا رَبيعَةَ ، وَأبَا سُفْيَانَ ، وَالنَّضرَ بْنَ الْحَارِثِ ، وأبَا جَهْلٍ بْنَ هِشَام ، وَالأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِب ، وَرَبيعَةَ بْنَ الأَسْوَدِ ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، وَأبَا جَهْلٍ ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ ، وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَغَيْرَهُمُ ، اجْتَمَعُوْا بَعْدَ غُرُوب الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : إبْعَثُواْ إلَى مُحَمَّدٍ ، وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ. فَبَعَثُوا إلَيْهِ أنَّ أشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُواْ لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ.
فَجَاءَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيعاً يَظُنُّ أنَّهُ بَدَا لَهُمْ فِي أمْرِهِ شَيْءٌ ، فَجَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلاً مِنَ الْعَرَب أدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ ، لَقَدَ شَتَمْتَ الآبَاءَ ، وَعِبْتَ الدِّينَ ، وَسَفَّهْتَ الأَحْلاَمَ ، وَشَتَمْتَ الآلِهَةُ ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ. فَمَا أمْرٌ قَبيحٌ إلاَّ وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ، فَإنْ كُنْتَ إنَّمَا جِئْتَ بهَذا الْحَدِيثَ تَطْلُبُ مَالاً ، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أكْثَرَنَا مَالاً ، وَإنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بهِ الشَّرَفَ فِيْنَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا ، وَإنْ كَانَ هَذا الَّذِي بكَ تَابعٌ مِنَ الْجِنِّ ، بَدْلْنَا أمْوَالَنَا فِي طَلَب الطِّب لَكَ حَتَّى نُبْرِيَكَ مِنْهُ!
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا بي مَا تَقُولُونَ ، مَا جِئْتُكُمْ بهِ لِطَلَب أمْوَالِكُمْ وَلاَ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَسُولاً وَأنْزَلَ عَلَيَّ كِتَاباً ، وَأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكُمْ بَشِيراً وَنَذِيراً ، فَبَلَّغْتُكُمْ رسَالَةَ رَبي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ، فَإنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، وَإنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصْبرُ عَلَى مَا أمَرَ اللهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمِ ".
فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ فَإنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ ، فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أضْيَقَ بلاَداً وَلاَ أقَلَ مِنَّا ، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ إلَيْنَا أنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا ، وَيَبْسُطَ لَنَا بلاَدَنَا وَيُجْرِيَ لَنَا فِيهَا أنْهَاراً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ أبَائِنَا ، وَلْيَكُنْ مِمَّنْ يَبْعَثُ لَنَا قُصَيَّ بْنَ كِلاَبٍ فَإنَّهُ كَانَ شَيْخاً صَدُوقاً ، فَنَسْأَلُهُمْ عَنْ مَا تَقُولُ : أحَقٌّ هُوَ أمْ بَاطِلٌ ؟ فَإنْ صَنَعْتَ لَنَا مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ ، وَعَرَفْنَا بذلِكَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللهِ بأَنَّهَ بَعَثَكَ رَسُولاً كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا بهَذا بُعِثْتُ ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بمَا بَعَثَنِي ".
قَالُواْ : وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذاَ فَاسْأَلْ رَبَّكَ يَبْعَثْ مَلَكاً يُصَدِّقُكَ ، وَيُعِينُكَ عَمَّا نَرَى بكَ ، فَإنَّكَ تَقُومُ فِي الأَسْوَاقِ تَتَلَمَّسُ الْمَعَاشَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أنَا بالَّذِي يَسْأَلُ اللهَ هَذا ، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بَشِيراً ونَذِيراً ".
قَالُواْ : فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً ، كَمَا زَعَمْتَ أنَّ اللهَ مَا شَاءَ فَعَلَ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " ذلِكَ إلَى اللهِ ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ بكُمْ " فَقَالُواْ : قَدْ أُعْذِرْنَا إلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ، أمَا وَاللهِ مَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ : لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تَأْتِيَ باللهِ وَالْمِلاَئِكَةِ قَبيلاً.
فَلَمَّا قَالُواْ ذلِكَ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَامَ مَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةُ بنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِب ، فَقَالَ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُواْ فَلَمْ تَقْبَلْ مِنْهُمْ ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أُمُوراً لأَنْفُسِهِمْ ؛ لِيَعْرِفُواْ بهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللهِ فَلَمْ تَفْعَلْ ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا خَوَّفْتَهُمْ بهِ مِنَ الْعَذاب فَلَمْ تَفْعَلْ ، فَوَاللهِ لاَ أُؤْمِنُ بكَ أبَداً حَتَّى تَتَّخِذ سُلَّّماً إلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ تَرْقَى فِيْهِ وَأنَا أنْظَرُ حَتَّى تَلِجَ بَابَهَا ، أوْ تَأْتِيَ مَعَكَ بنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ ، وَنَفَرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أنَّكَ نِبيٌّ كَمَا تَقُولُ ، وَأيْمِ اللهِ لَمْ فَعَلْتَ ذلِكَ لَظَنَنْتُ أنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ.
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَنْزِلهِ حَزِيناً لِمَا نَالَهُ مِنْ سَفَاهَةِ قَوْمِهِ وَتَبَاعُدِهِمْ مِنَ اللهِ ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ حِينَ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ أتَى إلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْب دِينِنَا وَشَتْمِ آبَائِنَا وَتَسْفِيهِ أحْلاَمِنَا وَتَتْبيب آلِهَتِنَا ، إنِّي أُعَاهِدُ اللهَ لأَجْلِسُ لَهُ بحَجَرٍ غَداً قَدْرَ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ ، فَإذا سَجَدَ فِي صَلاَتِهِ رَضَخْتُ بهِ رَأسَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً } "
(0/0)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ } ؛ فَتُشَقِّقَ ، { الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً } ؛ في وسطِ ذلك البُستَان تَشْقِيقاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } ؛ مَن قرأ بسُكون السِّين ؛ أي قِطَعاً ، فجَمعُ الكثيرِ كسِدرَةٍ وسُدْرٍ ، وَقِيْلَ : أراد جَانِباً. ومن قرأ (كِسَفاً) بفتح السين فهو جمعُ القليلِ ؛ أي جمعُ كُسْفَةٍ ، يقالُ : أعْطِني كُسْفَةً من هذا الثوب ؛ أي قطعةً منه ، والكُسُوفُ هو انقطاعُ النُّورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً } ؛ قال قتادةُ والضحَّاك : (عَيَاناً) ، والمعنى : تأتِي بهم حتى نرَاهُم مقابلةً ونُشاهِدُهم ، ويشهَدُون على صدقِ دعوَاكَ.
(0/0)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } ؛ أي من ذهَبٍ ، والزُّخْرُفُ في الأصلِ هو الزِّينَةُ كما في قولهِ تعالى{ حَتَّى إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ }[يونس : 24] أي بزينَتِها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَآءِ } ؛ معناهُ : أو تصعدُ ، { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ } ؛ أي لن نصدِّقَك مع ذلك ، { حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً } ؛ تأتِينا بكتابٍ من الله ، { نَّقْرَؤُهُ } ؛ أنَّك رسولُ من اللهِ إلينا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد : تَنْزِيهاً لرَبي عن المقابَلةِ التي وصَفتُمْ ، فإنَّ العارفَ باللهِ يعلمُ أنه لا يجوزُ المقابَلةُ على اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } ؛ أي ما كنتُ إلا بَشراً رَسُولاً كسائرِ الرُّسل ، فلا أقدرُ على الإتيانِ بالآيات المقترَحة ، كما لم يقدِرْ عليها مَن قبلِي من الأنبياءِ.
قرأ ابنُ مسعودٍ (أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذهَبٍ) قال مجاهدُ : (كُنْتُ مَا أدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأْيْتُهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } ، قرأ أهلُ مكَّة والشام : (قَالَ سُبْحَانَ رَبي) يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } ؛ أي ما صَرَفَ الناسَ إذ جاءَهم الْهُدَى إلاّ شبهةً أدخَلُوها على أنفُسِهم ، يعني قولَهم { أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً } وهذه شبهةٌ ضعيفة ، ويعجَبُ منهم في غير التعجُّب ، ومرادُهم هَلاَّ بعثَ اللهُ بشَراً رسولاً ؟ فأجابَهم اللهُ بقولهِ تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } ؛ أي لو كان في الأرض ملائكةٌ يَمشُونَ على أقدامِهم مُقِيمين في الأرض كما أنتم مُقيمون فيها ، { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً } ؛ مِن جِنسِهم ، { رَّسُولاً } ؛ كما أرسَلنا إليكم بشَراً من جِنْسِكم رسُولاً ، لأن الملَك إنما يُبعَثُ إلى الملائكةِ.
(0/0)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ؛ فإن اللهَ يشهدُ لِي بالنبوَّة في القرآنِ ، وأنتم تُنكِرُونَ نُبُوَّتِي ، { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } ؛ بأحوالِهم.
(0/0)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ } ؛ أي من يُوَفِّقْهُ اللهُ لدينهِ بالطاعة فهو المهتدي ، { وَمَن يُضْلِلْ } ؛ أي مَن يخذُلْهم عن دينهِ ، { فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ } ؛ يَهدُونَهم من دون الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً } ؛ عما يسُرُّهم ، { وَبُكْماً } ؛ عما ينفعُهم ، { وَصُمّاً } ؛ عما يَمنَعُهم.
وَقِيْلَ : يُحشَرون في أول الحشرِ عُمياً وبُكماً وصُمّاً على هذه الصفةِ ، ثم تزولُ هذه الصفات عنهم فيَرَونَ ويتكلَّمون ويسمعون كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ }[الكهف : 53] وقال{ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً }[الفرقان : 12] وقال{ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً }[الفرقان : 13]. ويقالُ : إنه لَمْ يُرِدْ بالحشرِ في هذه الآية الحشرَ عن القبرِ ، وإنما أرادَ به الحشرَ عن موضعِ الْمُحاسَبَة ، فإنَّهم يُسحَبُونَ عن ذلك الموضعِ على وجُوهِهم على هذه الصِّفاتِ. وعن أنسٍ : " أنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافُِ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ : " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيهِ عَلَى وَجْهِهِ ".
وعن أبي هريرةَ قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أصْنَافٍ : صِنْفٌ مُشَاةٌ ، وَصِنْفٌ رُكْبَانٌ ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ ؟ قَالَ : " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ ، يَتَّقُونَ بوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ أي مَصيرُهم إليها. وقولهُ تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } ؛ أي كلَّما سَكَنَ لَهبُها من جانبٍ زدنَاها اشْتِعَالاً من جانبٍ آخر ، يقالُ للنار اذا سَكَنَ لَهبُها : خَمَدَتْ ، فَإذا أُطْفِئَتْ ولَمْ يبقَ فيها شيءٌ من النارِ قِيْلَ : هَمَدَتْ ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى { خَبَتْ } أيْ سَكَنَتْ) ، وقال مجاهدُ : (طُفِئَتْ) ، وقال قتادةُ : (لاَنَتْ وَضَعُفَتْ) ، وقولهُ تعالى : { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي وَقُوداً.
ثم بَيَّنَ اللهُ تعالى لماذا يزدَادُون سَعيراً ، فقال تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي ذلك العذابُ جزاءُ كُفرِهم بدلاَئِلنا ، وإنكارِهم للبعثِ ، وهو قولُهم : { وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }.
(0/0)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } ؛ في صِغَرِهم وضَعْفِهم ، ونظيرُ هذا قوله{ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ }[النازعات : 27] وقولهِ تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ }[غافر : 57] ولأنَّ مَن قَدَرَ على خلقِ الأكبر عُلِمَ أنه قادرٌ على خلقِ الأصغرِ ، فإذا قدرَ على خلقِ أمثالهم قدرَ على إعادَتِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } ؛ أي جعلَ لإعادَتِهم وقتاً لا شكَّ فيه أنه كائنٌ ، { فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً } ؛ جُحوداً مع وضُوحِ الدلالة والحجَجِ.
(0/0)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً } ؛ جوابٌ لقولِهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً }[الإسراء : 90] المعنى : لو أنتم تَملِكون مقدورات رحمةِ ربي إذاً لأَمسَكْتُم لأنفُسِكم مخافةَ أن يَفْنَى بالإنفاقِ ولا يبقَى لكم ، وقوله تعالى : { خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ } ، أي خشيةَ الفقرِ والحاجة ، وَقِيْلَ : خشيةَ أن يُنفِقُوا فيَفتَقِروا.
(0/0)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } ؛ أي تِسْعَ دلالاتٍ واضحات ، قال ابنُ عبَّاس : (هِيَ الْعَصَا وَاللِّسَانِ ، فَإنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةً فَرَفَعَهَا اللهُ ، كَمَا قَالَ : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي }[طه : 27-28] والْبَحْرُ وَالْيَدُ ، وَالآيَاتُ الْخَمْسُ : وَهِيَ الطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ). وقال محمَّد بنُ كعبٍ : (هَذِهِ الْخَمْسُ وَالْعَصَا وَاللِّسَانِ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ ، وَالطَّمْسِ كَمَا قَالَ{ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ }[يونس : 88]. وَقِيْلَ : هي الخمسُ والعصى ويدهُ والسُّنون ونقصٌ من الثمراتِ.
قال محمَّد بن كعبٍ في الطَّمسِ : (كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مَعَ أهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ ، وَإذا قَدْ صَارَا حَجَرَيْنَ ، وَأنَّ الْمَرْأةَ الْقَائِمَةَ تَخْبزُ وَقَدْ صَارَتْ حَجَراً ، وَأنَّ الْمَرْأةَ فِي الْحَمَّامِ وَأنَّهَا لَحَجَرٌ ، وَكَانَتْ تَنْقَلِبُ الْفَوَاكِهُ وَالْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أحْجَاراً).
ورُوي : " أنَّ يَهُودِيّاً قَالَ لِصَاحِبهِ : تَعَالَ حَتَّى نسْأَلَ هَذا النَّبيَّ ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلاَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } قَالَ : " لاَ تُشْرِكُواْ باللهِ شَيْئاً ، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ، وَلاَ تَزْنُوا ، وَلاَ تَسْرِقُواْ ، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا ، وَلاَ تَسْحَرُواْ ، وَلاَ تَمْشُواْ ببَرِيءٍ إلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ ، وَلاَ تَقْذِفُواْ الْمُحْصَنَةَ ، وَلاَ تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَا يَهُودُ أنْ لاَ تَعْدَواْ فِي السَّبْتِ " فَقَبَّلُواْ يَدَهُ وَقَالُواْ : نَشْهَدُ أنَّكَ نَبيٌّ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقعُ له العِلمُ من عندِ الله ، فكان لا يحتاجُ في معرفةِ ذلك إلى الرُّجوعِ إلى أهلِ الكتاب ، فكأنَّهُ تعالى قال : فاسأل أيها السامعُ وأيها الشَّاكُّ بنَي إسرائيلَ إذ جاءَهم موسى بالبيِّنات ، قال ابنُ عباس : (فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، يَعْنِي الْمُؤمِنِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّظِيرِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُوراً } ؛ أي إنِّي لأَظُنُّكَ يا موسى قد سُحِرتَ فلذلك تدَّعي النبوةَ ، وَقِيْلَ : هذا مفعولٌ بمعنى فاعلٍ كأنه قالَ : إنِّي لأَظُنكَ ساحراً ، وَقِيْلَ : المسحورُ المخدوع.
(0/0)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـاؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي قالَ موسى لفرعونَ : لقد عَلِمتَ يا فرعون أنَّ هذه الآيات لا تدخلُ في مقدور العبادِ ، فلَمْ يُنْزِلها إلا ربُّ السموات والأرضِ ، { بَصَآئِرَ } ؛ أي حُجَجاً للناسِ يُبصَرُونَ بها في أمرِ دينهم ، { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُوراً } ؛ وإني لأعلَمُ يا فرعون إنَّكَ هالكٌ ، يقال : ثَبَرَ الرجلُ فهو مَثْبُورٌ ؛ أي هالكٌ ، والظنَّ قد يُذكَرُ بمعنى اليقينِ على ما تقدَّمَ.
وقرأ الكسائيُّ (لَقَدْ عَلِمْتُ) بضمِّ التاء ، وهي قراءةُ عليٍّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ) وقالَ : (وَاللهَ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ ، وِلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ) فبلغَ ذلك ابنَ عبَّاس فقالَ : ( { لَقَدْ عَلِمْتَ } تَصْدِيقاً لِقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً }[النمل : 14]). وقراءةُ النصب أصحُّ وأشهر ، وليست قراءةُ الضمِّ مشهورةً عن عليٍّ رضي الله عنه ولا ثابتة ، وإنما روَاها عنه رجلٌ مجهول لا يُعْرَفُ ، ولا تَمسَّكَ بها أحدٌ من القرَّاء غيرَ الكسائيِّ.
وقولهُ تعالى : { مَثْبُوراً } قال ابنُ عبَّاس : (مَغْلُوباً) ، وقال مجاهدُ : (هَالِكاً) ، وَقِيْلَ : مُخَبَّلاً لا عقلَ لكَ ، وَقِيْلَ : بَعِيداً من الخيراتِ ، وَقِيْلَ : سِلاَخاً في القطيفةِ ، قال مجاهدُ : (دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَرَأى فِرْعَوْنَ ثُعْبَاناً فَفَزِعَ وَأحْدَثَ فِي الْقَطِيفَةِ).
وروَى أبو سعيدٍ الجوهريُّ قال : (كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ يُنَاظِرُ رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ : يَا مَثْبُورُ ، ثُمَّ أقْبَلَ إلَيَّ فَقَالَ : مَا مَعْنَى (مَثْبُوراً) ؟ قُلْتُ : لاَ أدْرِي ، فَقَالَ : حَدَّثَنِي الرَّشِيدُ قَالَ : حَدَّثَنِي الْمَهْدِي قَالَ : كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُور ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ : يَا مَثْبُورُ ، فَقُلْتُ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا مَعْنَى يَا مَثْبُورُ ؟ قَالَ مَيْمُونُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُوراً) مَا مَثْبُوراً ؟ قَالَ : نَاقِصُ الْعَقْلِ).
(0/0)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ } ؛ أي فأرادَ فرعونُ أن يُزعِجَ بني إسرائيلَ ، ويُخرِجَهم من أرضِ مصرَ قَهْراً. والاسْتِفْزَازُ : هو الخوفُ بالشدِّة ، ويجوز أن يكون المرادُ به أنه قصَدَ قَتلَهم ، { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً } ؛ أي أمَرْنا موسى وقومَهُ بالخروجِ من مصرَ ، فتَبعَهُ فرعونُ وقومهُ ، فجعلنَا في الماءِ طريقاً يَابساً ، فجاوزَ موسى وقومهُ البحرَ ، فَتَبعَهُمْ فرعونُ وقومهُ ، فأطبَقنا الماءَ عليهم حتى غَرِقوا كلُّهم.
(0/0)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ } ؛ من بعدِ هلاك فرعون ، { لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ } ؛ الشَّامَ وأرضَ مصرَ ، وأورثَ بني إسرائيلَ مساكِنَهم وديارَهم ، وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه يفعلُ به وبالمشركين ما فعلَ بموسَى وعدُوِّهِ ، فأظهرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على المشركين ، ورَدَّهُ إلى مكَّةَ ظَافراً عليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } ؛ يعني يومَ القيامةِ جِئنَا بكم جَميعاً ؛ أي أتَينا بكم مِن كلِّ قبيلةٍ ، واللَّفِيفُ : الجماعاتُ من قبائلَ شتَّى ، وَقِيْلَ : جئنا بكم مُختَلِطِينَ لا تتعارَفُون ، والمعنى : جِئنا بكم من قُبورِكم إلى الْمَحْشَرِ أخلاطاً ، يعني جميعَ الخلقِ ، المسلمَ والكافرَ والبَرَّ والفاجرَ.
(0/0)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ } ؛ يعني القرآنَ ، ويجوز أن تكون الهاءُ كنايةً عن جبريلَ ، فإن اللهَ أنزلَهُ بالقرآنِ ، ونزَلَ هو به. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } ؛ أي بَشيراً لِمَن أطاعَ بالجنَّة ، ومخوِّفاً بالنُّذُر للكفارِ.
(0/0)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } ؛ معناه : وأنزَلنا قُرآناً فرَّقناهُ شيئاً بعد شيءٍ ، فإنه كان ينْزِلُ منه شيءٌ ، ثم يَمكثُون ما شاءَ اللهُ ، ثم ينْزِلُ منه شيءٌ آخر ، وكان بين أوَّهِ وآخرهِ عشرون سَنة. وقولهُ تعالى : { لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } ؛ أي على تَثَبُّتٍ وتوقُّفٍ ليَفهموهُ بالتأمُّلِ ، ويعمَلُوا ما فيه بالتفكُّرِ ، وهو معنى قولهِ تعالى{ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً }[المزمل : 4]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } ؛ تَأكيداً لأَنزلنَاهُ مرَّةً بعدَ مرةٍ لعِظَمِ شأنهِ.
(0/0)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة : آمِنوا بالقرآنِ أو لا تُؤمِنُوا ، وهذا وعيدٌ لَهم ؛ أي إنْ آمَنتُم وإنْ لَم تُؤمِنُوا ، فاللهُ غنِيٌّ عنكم وعن إيمانِكم ، وإيمانُكم لا ينفعُ غيرَكم ، وكفرُكم لا يضرُّ سِوَاكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ } ؛ أي مِن قبلِ نُزولِ القرآن ، والمرادُ بهم مُؤمِنوا أهلِ الكتاب ، { إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ } ؛ القرآنُ ، { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } ؛ أي يقَعُون على وجُوهِهم { سُجَّداً } ؛ لله ، والمرادُ بالأذقانِ الوجوهَ ، كذا قال ابنُ عبّاس.
(0/0)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } ؛ أي يقولُون في سُجودِهم : تَنْزيهاً للهِ عما لا يليقُ به ، وقد كان وعدُ ربنا كَائناً لا محالةَ. وهؤلاءِ الذين سجدوا كانوا يسمَعون أنَّ اللهَ يبعثُ نَبيّاً من العرب وينَزِّلُ عليه كِتَاباً ، فلما سَمعوا القرآنَ سَجَدوا للهِ وحمدوه على إنجازِ الوعدِ ببعثِ الرسولِ والكتاب ، وقالوا : قد كان وعدُ ربنا مَفعُولاً.
(0/0)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } ؛ أي يسقُطون على الوجوهِ يَبْكُونَ في السُّجودِ ، { وَيَزِيدُهُمْ } ؛ البكاءُ في السُّجودِ ، { خُشُوعاً } ؛ إلى خُشوعِهم ؛ لأن مخافَتهم الله داعيةً إلى طاعتهِ ، والإخلاصِ في عبادتهِ.
وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ البكاءَ في الصَّلاةِ من خوفِ الله لا يقطعُ الصلاةَ ؛ لأن اللهَ مدَحَهم عليه. " وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي ، فَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أزيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ ". وعن عبدِالله بن شدَّاد قالَ : (كُنْتُ أُصَلّي خَلْفَ عُمَرَ رضي الله عنه صَلاَةَ الصُّبْحِ ، وَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ حَتَّى إذا بَلَغَ{ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ }[يوسف : 86] سَمِعْتُ نَشِيجَهُ ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ).
(0/0)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـ¤نَ } ؛ فقالَ ابنُ عبَّاس : (تَهَجَّدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلَةٍ بمَكَّةَ ، فَجَعَلَ يَقُولُ في سجودهِ : " يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ ". فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : إنَّ مُحَمَّداً يَنْهَانَا أنْ نَعْبُدَ الَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو إلَهاً آخَرَ مَعَ اللهِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ! وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : قل يا مُحَمَّدُ : أُدعوا اللهَ يا معشرَ المؤمنين ، أو ادعُو الرَّحْمَنَ ، إنْ شِئتُم فقُولُوا : يا رَحْمَنُ ، وإنْ شِئتُم فقولوا : يَا اللهُ يا رَحْمَنُ ؛ { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } ؛ أيُّ أسماءِ الله تدعوهُ بها ، { فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى } ؛ فأسْماؤهُ كلُّها حَسنةٌ فادعوهُ بصفاتهِ. وقوله تعالى : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } قال بعضُهم : (مَا) في هذا صِلَةٌ ، ومعناها التأكيدُ ، تقديرهُ : أيّاً تدعون ، ومِثلهُ : عمَّا قليلٍ ، وخُذ مَا هُنالِكَ ، و{ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ }[أل عمران : 159].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ بمَكَّةَ ، كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّى بأَصْحَابهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْقُرْآنِ ، فَإذا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بهِ ، وَلَعِبُوا وَصَفَّقُوا وَصَفَّرُواْ وَلَغَطُوْا ، كُلُّ ذلِكَ لِيُغْلِطُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانُوا بهِ يُؤْذُونَهُ ، وَإذا خَافَتَ بالْقِرَاءَةِ لَمْ يَسْمَعْهُ أصْحَابُهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). أي لا تجهَرْ بقِراءَتِكَ في الصَّلاةِ فيسمَعُها المشركون فيُؤذونَكَ ، فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا وَلاَ تُخَافِتْ بهَا فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا ، وَلَكِنِ اجْهَرْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ ، وَخَافِتْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ).
" وَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بَكْرٍ عَنْ قِراءَتِهِ باللَّيْلِ ، فَقَالَ : (أُخَافِتُ بهَا كَيْ لاَ أُؤْذِي جَاري ، أُنَاجِي رَبي وَقَدْ عَلِمَ بحَاجَتِي ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " أحْسَنْتَ " وَسَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ قِرَاءَتِهِ باللَّيْلِ فَقَالَ : أرْفَعُ صَوْتِي أُوْقِظُ الْوَسْنَانَ وَأطْرُدُ الشَّيْطَانَ ، فَقَالَ : " أحْسَنْتَ " فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لأبي بكر : " زدْ فِي صَوْتِكَ " وقال لعُمر : " انْقُصْ مِنْ صَوْتِكَ " { وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً }. وعن ابن عباس أن معنى الآية : (لاَ تُصَلِّ مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ وَلاَ تَدَعَهَا مَخَافَةً لِلنَّاسِ). " وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحسنِ الناس قراءةً ؟ فقال : " الَّذِي إذا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأيْتَ أنَّهُ يَخْشَى اللهَ تَعَالَى ".
(0/0)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } ؛ فيرثه ؛ { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } ؛ يعاونه عليه ، { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ } ؛ أي من أهل الذل وهم اليهود والنصارى ، يودون إخراج رؤوسهم ويقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال مجاهد : (مَعْنَاهُ : لَمْ يُحَالِفْ ، وَلَمْ يَبْتَغِ نَصْرَ أحَدٍ) والمعنى أنه عَزَّ وَجَلَّ لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير,
وقوله تعالى : { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } ؛ أي عظِّمهُ عظمّةً تامة عن أن يكون له شريك أو ولي وصِفْهُ بأنه أكبر من كل شيء ، وأنه القادر الذي لا يُعجِزهُ شيءٌ ، العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء ، الغنيُّ عن كل شيء. معتقداً لذلك بقلبك ، عاملاً على أمره فيما أمركَ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أَنَّهُ كَانَ إذا أفْصَحَ الْوَلَدُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الآيَةَ { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... } الآية ".
وروي أنَّ " رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي كَثِيرُ الدَّينِ كَثِيرُ الْهَمِّ ، فَقَالَ : " إقْرَأ آخِرَ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ { قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـانَ... } [الإسراء : 110] إلَى آخِرِ السُّورَةِ ، ثُمَّ قُلْ : تَوَكَّلْتُ عَلَى الَّذِي لاَ يَمُوتُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".
وعن ابن عباس أنه قال : ((مَنْ قَرَأ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي سَفَرٍ أوْ حَضَرٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً ضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِ سُوراً مِنْ حَدِيدٍ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالْبَرْقِ)). وعن عبدِالحميد أنه قال : ((مَنْ قَرَأ آخِرِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِينَ السَّبْعِ ، وَالْبحَارِ وَالْجِبَالِ)).
(0/0)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } ؛ أي الذي أنزلَ على عبدهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ ؛ { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } ؛ أي لَم يجعلْهُ مُلْتَبساً لا يُفْهَمُ ، ومِعْوَجَاً لا يَسْتَقِيْمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَيِّماً } ؛ أي مُستقيماً عَدْلاً ؛ أي مُستوياً قيما على الكُتُب كلِّها ناسخاً لشرائعِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ } ؛ أي لِيُنْذِرَ العبدُ الذي أَنزل عليه الكتابُ بَأْساَ شَدِيداً ؛ أي لينذرَ الكفَّارَ عذاباً شديداً من عندِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } أي ثَواباً حَسَناً في الجنة ؛ { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } ؛ أي مُقيمين في ذلك الأجْرِ خالدين فيه.
(0/0)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً } ؛ وهم قريشٌ واليهودُ والنصارى ، فإنَّ قُريشاً قالوا : الملائكةُ بناتُ اللهِ ، واليهودُ قالوا : عُزَيْرٌ ابنُ الله ، والنصارى قالوا : المسيحُ ابن الله.
(0/0)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ } ؛ أي هم وآباؤهم كلُّهم مقلِّدين ليس لَهم على ذلك بيانٌ ولا حُجَّةٌ ، بل قالوا جَهْلاً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ؛ أي كَبُرَتْ مقالتُهم تلكَ كلمةً تخرجُ من أفواهِهم ما ؛ { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } ؛ و(كلمةً) نَصْبٌ على التمييزِ ، وإنَّما كَبُرَتْ هذه الكلمةُ ؛ لأن صاحبَها يستحقُّ بها العذابَ ، ومِن ذلك سُميت الكبيرةُ كبيرةً ؛ لأن عقابَها يزيدُ على استطاعة صاحبها.
(0/0)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } ؛ فيه نَهْيٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم من إهلاكِ نفسه حُزناً عليهم بسبب إعراضِهم عن الإيْمان لشدَّة شفقتهِ عليهم ، وحقيقةُ الأسفِ الحزنُ على من فاتَ.
ومعنى الآية : فَلعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ ، يقال بَخَعَ الرجلُ نفسَهُ إذا قتلَها غيظاً من شدَّةِ حُزنه على الشيءِ أو وَجْدِهِ بالشيءِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى آثَارِهِمْ } أي مِن بعدهم ، يعني مِن بعدِ تولِّهم وإعراضهم عنكَ إن لَم يؤمنوا ، { بِهَـاذَا الْحَدِيثِ } ؛ يعني القُرْآنَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَسَفاً } ؛ أي حُزناً.
(0/0)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } ؛ أي جعلنا جميعَ ما على الأرضِ مِن الأشجارِ والثِّمار والنباتِ والمياه والذهب والفضةِ والحيوان لهم منها زينةً للأرض ، وجعلناها محفوفةً بالشَّهواتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ؛ أي لنأمرَهم فننظُرَ أيُّهُم أعملُ بطاعةِ الله هذا أم هذا. فال الحسنُ : (أيُّهُمْ أزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأتْرَكُ لَهَا). وقال مقاتلُ : (أيُّهُمْ أصْلَحُ فِيْمَا أُوْتِيَ مِنَ الْمَالِ ، وَيُحْسِنُ الْعَمَلَ ، وَيَزْهَدُ فِي مَا زُيِّنَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا).
ثُم بيَّن اللهُ تعالى أنه يعني ذلكَ كلَّه ؛ فَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } ؛ أي يجعلُ ما عليها من الحيوانِ والنَّبات تُراباً يابساً مستوياً على الأرضِ ، والْجُزُرُ الأرضُ التي لا ماءَ فيها ولا نباتَ ، ويقالُ : سَنَةٌ جُزُراً إذا كانت حرَّة. قال عطاءُ : (يُرِيْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُ اللهُ الأَرْضَ جُزُراً لاَ مَاءَ فِيْهَا وَلاَ نَبَاتَ).
(0/0)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } ؛ أي لَم يكونوا بأعجبَ ، فقد كان مِن آياتنا ما هو أعجبُ من ذلك. قال الزجَّاجُ : (أعْلَمَ اللهُ أنَّ قِصَّةَ أهْلَ الْكَهْفِ لَيْسَتْ بعَجِيْبَةٍ ؛ لأَنَّ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا أعْجَبُ مِنْ قِصَّةِ أصْحَاب الْكَهْفِ).
والكهفُ : الغَارُ فِي الْجَبَلِ ، والرَّقِيْمُ : قِيْلَ : هو وادٍ دونَ فلسطين ، وهو الوادي الذي فيه أصحابُ الكهفِ ، وَقِيْلَ : الرقيمُ لوحٌ من حجارةٍ ، وَقِيْلَ : من رصاصٍ كتبوا فيه أسماءَ أهلِ الكهف وقصَّتَهم ثُم وضعوهُ على باب الكهفِ وهو على هذا التأويل بمعنى الْمَرْقُومِ ؛ أي المكتوب ، والرقيمُ : الْخَطُّ والعلامةُ ، والرقيمُ : الكتابةُ.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ قُرَيْشاً بَعَثُوا خَمْسَةَ رَهْطٍ إلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لَهُمْ : إنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَاسْمُهُ مَحَمَّدٌ ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَتِيمٌ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ ، وَإنَّا نَزْعُمُ أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْ مُسَيْلَمَةَ ، فَإنَّهُ يَقُولُ : أنَا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ ، وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلاَّ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ -.
فَلَمَّا أتَى هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ الْمَدِيْنَةَ ، أتَوا أحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَائَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ وَوَصَفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَخَاتَمَهُ ، قَالُوا : نَحْنُ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ ، وَلَكِنْ سَلُوهُ عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ ، فَإنْ كَانَ نَبيّاً أخْبَرَكُمْ بِخصْلَتَيْنِ ، وَلَمْ يُخْبرْكُمْ بالثَّالِثَةِ ؟ فَإنَّا سَأَلْنَا مُسَيْلَمَةَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَمْ يَدْرِ مَا هِيَ ، وَأنْتُمُ سَلُوهُ عَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ ، وَعَنِ الرُّوحِ ، وَعَنْ أصْحَاب الْكَهْفِ.
فَرَجَعُوا وَأخْبَرُوا قُرَيْشاً بذلِكَ ، فَسَأَلُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : سَأُخْبرُكُمْ غَداً ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ. فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، وَشُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ }[الكهف : 23-24].
ثُم أخبرَهُ عن أصحاب الكهف وحديثِ ذي القرنين وخبرِ أمر الرُّوح ، وحدَّثهُ أن مدينةً بالروم كان فيها ملكٌ كافر يدعو إلى عبادةِ الأوثان والنِّيران ، ويقتلُ مَن خَالَفَهُ ، وفي المدينةِ شابٌّ يدعو إلى الإسلامِ سرّاً ، فتابعهُ فتيةٌ من أهلِ المدينة ، فَفَطِنَ بهم الملكُ فأخذهم ، ودفعَهم الى آبائهم يحفظونَهم ، فمرُّوا بغلامٍ راع ، فبايَعَهم ومعهُ كلبُهم حتى إذا أتَوا غاراً فدخلوهُ ، وألقَى اللهُ عليهم النَّومَ سنين عدداً ، والملكُ طالبٌ لَهم لَم يقِفْ على أمرِهم ، وَعمِيَ عليه خبرُهم ، فسدُّوا بابَ الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالكَ.
ثُم عَمَدَ رجلٌ إلى لوحِ رصاص ، فكتبَ فيه أسماءَهم وأسماءَ آبائهم ومدينتَهم ، وأنَّهم خرجُوا فراراً من دِين ملكِهم في شهرِ كذا في سنة كذا وألزقَهُ بالسدِّ ، وكان السدُّ في داخل الكهفِ ، وذكر الفصةَ إلى آخرِها ، فهذا اللوحُ الرصاص هو الرَّقِيْمُ. فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قُريشاً بذلك ، فلما أتَوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قولَ اليهودِ أخبرَهم بخصلَتين ولَم يخبرهم بالثالثةِ ، قال كفارُ قريشٍ :
(0/0)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ } ؛ أي اذْكُرْ لقومِكَ إذْ أوَى الْفِتْيَةُ يعني الشبابُ ؛ { فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } ؛ نَنْجُوا بها مِن قومنا ، { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } ، أي اجْعَلْ لنا طريقاً ومَخرجاً يوفِّقُنا إليكَ ، وارشِدْنا إلى ما يقرِّبنا إليكَ.
(0/0)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً } ؛ أي أنَمنَاهُم في الكهفِ سنين معدودةً وهم أحياء يتعشَّون ، { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } ؛ أي أيقظناهم من نومهم ؛ { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } ؛ أي ليعرف غيرُهم أنه ليس فيهم من يعرفُ مقدارَ السِّنين التي نَامُوا فيها ؛ والمرادُ بأحدِ الحِزْبَين : الفتيةُ ، والآخرُ ناسُ ذلك الزمانِ ، وقيلَ : أراد بأحدِ الحزبين : المؤمنينَ ، والحزبُ الآخر : الكافرين.
(0/0)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ } ؛ أي نُبَيِّنُ لكَ خبرَهم بالصِّدق ؛ { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ } ؛ أي شبابٌ ؛ { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ؛ أي ثَبَّتْنَاهُمْ على الإيْمانِ.
(0/0)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ } ؛ أي ألْهَمْنَا قلوبَهم الصبرَ ، وشجَّعناها حين قاموا بحضرة الكفَّار ؛ يعني بين يَدَي دقيانوس الذي كان يَفْتِنُ أهلَ الإيْمان حتى قالوا بين يديه ؛ { فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلـاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } ؛ أي كَذِباً وجُوراً ، والمعنى إنْ عَبَدْنَا غيرَ الله ودَعَوْنَا معهُ إلَهاً آخر ، قُلْنا قَوْلاً ذا شَطَطٍ ؛ أي مُتَجَاوِزاً للحقِّ في غايةِ البُطلان.
(0/0)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ } ؛ أي قالُوا : هؤلاء قومُنا عَبَدُوا مِن دونِ الله ؛ { آلِهَةً } ؛ أي عبدُوا الأصنامَ ؛ يَعْنُونَ الذين كانوا في زَمَنِ دقيانوس ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } ؛ أي هَلاَّ يأتون على عبادتِهم لَها ببُرْهَانٍ واضحٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } ؛ أي فمَنْ أظلمُ لنفسهِ ممن اختلقَ على اللهِ كَذِباَ بأن جعلَ معه شريكاً في العبادةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ } ؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ ، قيلَ : إن القائلَ بهذا يَمليخا وهو رئيسُ أصحاب الكهف ؛ قال لأصحابهِ : إذ فارقْتُموهم وتَنَحَّيْتُمْ عنهُم جانباً ؛ أي عن عبادةِ الأصنام { وَمَا يَعْبُدُونَ } ؛ وهذا آخرُ الكلام ثُم قال : { إِلاَّ اللَّهَ } ؛ يعنِي إلاَّ الله فلا تعتزلوهُ أي فلا تعتزلوا عبادتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ } ؛ أي فصيرُوا إلى الكهفِ ، واجعلوهُ مأواكم ؛ { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم } ؛ أي يبسِطْ لكم ؛ { مِّن رَّحْمَتِهِ } ؛ نعمتهِ ؛ { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } ؛ ما تَرْفِقُونَ به هناك في معايشِكم يكون مخلِّصاً لكم مِن ظُلم هؤلاء الكفَّار. قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : وَيُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ). يقال : فيه (مَرْفَقاً) بكسر الميم وفتح القاف ، وفتحِ الميم وكسرِ الفاء ، وكذلكَ في مِرفق اليدِ.
(0/0)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } ؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قرأ أهلُ الكوفة (تَزَاوَرُ) بالتخفيف على حذفِ إحدَى التَّائين ، وقرأ أهلُ الشام ويعقوبُ (تَزْوَرُّ) بوزن تَحْمَرُّ ، وكلُّها بمعنى واحد أي تَمِيْلُ ، وفيه بيانُ أن الكهفَ الذي أوَوا إليه كان بابهُ نحوَ القُطْب الذي يقربُ بباب نعشٍ ، وكانت الشمسُ تَطْلُعُ مزوارةً على باب الكهف عند الطلوعِ وعند الغروب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَاتَ الْيَمِينِ } ؛ أي ناحيةَ اليمين ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } ؛ أي تَعْدِلُ عنهم. قال الكلبيُّ : (إذا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهْمْ ذاتَ يَمِيْنِ الْكَهْفِ ، وَإذا غَرَبَتْ تَمُرُّ بهِمْ ذاتَ الشِّمَالِ يَعْنِي شِمَالَ الْكَهْفِ لاَ تُصِيْبُهُ ، وكَانَ كَهْفُهُمْ فِي أرْضِ الرُّومِ ، أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ يُمِيْلُ عَنْهُمْ الشَّمْسَ طَالِعَةً وَغَاربَةً ، لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فَتُؤْذِيَهُمْ بحَرِّهَا وَتُغَيِّرَ ألْوَانَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } ؛ أي في مُتَّسَعٍ من الكهفِ ، هَيَّأَ اللهُ لَهم مكاناً واسعاً لا يصيبُهم فيه حَرٌّ ولا سَمومٌ ، ولا يتغيرُ لَهم ثوبٌ ولا لون ولا رائحةٌ ، ولكن كان ينالُهم فيه نسيمُ الرِّيح وبردُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ } القَرْضُ من قولِهم : قَرَضْتُهُ بالْمِقْرَاضِ ؛ إذا قَطَعْتُهُ ، كأنهُ قال : تقطعُهم ذاتَ الشمالِ. وَقِيْلَ : تعطيهم اليسيرَ مِن شُعاعها عند الغروب ، كأنه شبَّهَهُ بقرضِ الدراهم التي تُعطى ثُم تستردُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ } ؛ أي إبقاؤُهم طولَ السنين التي ذكرَها اللهُ نياماً لا يستطيعون يستيقظون من دون طعامٍ ولا شَراب ، { مِنْ آيَاتِ اللَّهِ }. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } ظاهر المعنى.
(0/0)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قولهِ تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } ؛ تظنُّهم يا مُحَمَّدُ منتَبهين وهو نائمونَ ، وإنَّما كان يحسَبُهم الرَّائي منتبهينَ ؛ لأنَّّهم كانوا نياماً وهم مفتوحُو الأعيُنِ ، وكانوا يتنفَّسُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } ؛ قرا الحسنُ (وَنُقْلِبُهُمْ) بالنخفيفِ ، والمعنى نقلبُهم تارةً عن اليمين إلى الشمال ؛ وتارةً عن الشمالِ إلى اليمين ، كما نقلبُ النائمُ ؛ لئَلاَّ تأكُلَ الأرضُ أجسامَهم. ذكرَ قتادةُ : (أنَّ لَهُمْ فِي عَامٍ تَقْلِيْبَيْنِ) ، وعن ابنِ عبَّاس : (فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ } ؛ أي على باب الفجوة أنامَهُ الله كذلكَ ، والوَصِيْدُ مِن قولِهم : أوْصَدْتُ البَابَ ، وَأصَدْتُهُ إذا أغلقتهُ ، وقد يقالُ لذلكَ الأصِيْدُ أيضاً ، وَقِيْلَ : الوَصِيْدُ فناءُ الكهفِ. وقال سعيدُ بن جُبير : (الْوَصِيْدُ : التُّرَابُ). وقال السديُّ : (الْوَصِيْدُ : الْبَابُ). وقال عطاءُ : (عَتَبَةُ الْبَاب).
وكان لونُ الكلب أحمرَ ، كذا قال ابنُ عبَّاس ، وقال مقاتلُ : (كَانَ أصْفَرَ يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ) وَقِيْلَ : كان كلونِ الحجَرِ ، وَقِيْلَ : كلونِ السَّماء. قال عليٌّ رضي الله عنه : (كَانَ اسْمُهُ رَيَّان). وقال ابنُ عبَّاس : (قِطَمِيْرُ). وقال سفيانُ : (اسْمُهُ حِمْرَانُ). وقال عبدُالله بن سلام : (لسْمُهُ نَشِيْطٌ). روي عن بعضِهم أنه مما أخذ على الكلب أن لا يضرَّ بأحدٍ يقرأُ : وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالْوَصِيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً } ؛ أي لو اطَّلَعْتَ عليهم يا مُحَمَّدُ لَوَلَّيْتَ منهم فِراراً لِما ألبَسَهم اللهُ تعالى من الْهَيْبَةِ حتى لا يصلَ إليهم أحدٌ حتى يبلغَ الكتابُ أجَلَهُ فيهم وينتبهوا من رقدتِهم. وَقِيْلَ : لأنَّهم كانوا في مكانِ مُوحِشٍ من الكهفِ ، وَقِيْلَ : لأن أعيُنَهم مفتحةً كالمستيقظ الذي يريدُ أن يتكلَّمَ وهم نيامٌ.
وعن ابنِ عبَّاس قال : (غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ نَحْوَ الرُّومِ فَمَرَرْنَا بالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أصْحَابُ الْكَهْفِ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَوْ كَشَفَ لَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَكَ ؛ قَدْ مَنَعَ اللهُ ذلِكَ عَنْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ، فَقَالَ : لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ؛ { وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } ؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لاَ أنْتَهِي حَتَّى أعْلَمَ عِلْمَهُمْ ، فَبَعَثَ أُنَاساً فَقَالَ : اذْهَبُوا وَانْظُرُواْ ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دَخَلُواْ الْكَهْفَ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ ريْحاً فَأَخْرَجَتْهُمُ مِنَ الْكَهْفِ).
(0/0)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } ؛ أي وكذلكَ أيقظناهُم ، كما أنَمناهُم ليتحدَّثوا ويسألوا بعضَهم بعضاً ، { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ } ؛ وهو رئيسُهم وسُمِّي مكسلميا : { كَم لَبِثْتُمْ } ؛ في نومِكم في الكهفِ ؛ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً } ؛ فلما نظَرُوا إلى الشَّمسِ ، وقد بَقِيَ منها شيءٌ ؛ قالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ؛ تَوَقِّياً من الكذب ، فلما نظَرُوا إلى أظفارِهم وأشعارِهم علموا أنَّهم لبثُوا أكثرَ من يومٍ ؛ فـ ؛ { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ } ؛ أي فابعثوا يَمليخا ، والوَرقُ الفِضَّةُ مضروبةً كانت أو غيرَ مضروبةٍ ، وأما المدينةُ فهي أفسوس ، وَقِيْلَ : طرسوسُ ، كان اسْمُها في الجاهلية : أقسوس ، فلما جاءَ الإسلامُ سَمَّوها طرسوسُ. ومعنى الآيةِ : فابعثُوا أحدُكم بدراهمكم هذه إلى السُّوق ؛ { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً } ؛ أي أحَلَّ ذِبْحَةً ؛ لأن عامَّتَهم كانوا مَجُوساً ، وفيهم مؤمنون يُخفون إيْمانَهم ، وَقِيْلَ : أطيبَ خُبزاً وأبعدَ عن الشُّبهة ، لأن مَلِكَهم كان يظلمُ الناسَ في طعامهم ، وكانوا يحسبون أن ملكَهم دقيانوس الكافرُ. وقال عكرمةُ معناه : (أكْثَرَ وَأفْضَلَ) في معنى أنَّ الزكاةَ هو الزيادةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } ؛ أي بقُوتٍ وطعام. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلْيَتَلَطَّفْ } ؛ أي يتوقَّف في الذهاب والْمَجيءِ ، وفي دخولِه المدينة حتى لا تعرفَهُ الكفارُ ؛ { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } ؛ أي لا يخبرنَ أحدٌ من أهلِ المدينة بمكانكم.
(0/0)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } ؛ أي إنهم إنْ علِمُوا مكانَكم رجموكُم بالحجارةِ حتى يقتلوكم ، وَقِيْلَ : يشتموكُم ويؤذوكم ، وكان من عادتِهم القتلُ بالرَّجمِ وهو أخبثُ القتل. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } ؛ أي إلى دِينهم وهو الكفرُ ؛ { وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً } ؛ إن عُدْتُمْ إلى دِينهم ، وَلم تظفَرُوا الخيرَ في الدُّنيا والآخرة.
فإن قيلَ : أليسَ لو أكرهوهم ، وأظهَرُوا الكفرَ لَم يكن في ذلك مَضَرَّةً عليهم ؟ قِيْلَ : يجوزُ أنه لَم يكن في شريعةِ الإسلام جوازُ إظهار كلمة الكفر على وجه التُّقيةِ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } ؛ أي أطْلَعْنَا عليهم ، وذلك أنَّهم لَمَّا بَعَثُوا بورقِهم على يدِ يَمليخا ومضَى إلى السُّوق ، فإذا ملكُهم مسلمٌ قد أظهرَ علامات الإسلامِ فتعجَّبَ من تغيُّرِ الأمرِ ، وقال لخبَّازٍ : يعني من طعامِكَ بهذا الوَرِقِ ، فلما رأى الخبازُ دراهمَه أنكرَها وقال : مِن أينَ لك هذه وقد ضُربت منذ ثلاثِمائة سنةٍ ؟ فإما أن تعطيَني من هذا الكَنْزِ ، أو أرفعُكَ إلى الْمَلِكِ ؟ فأنتَ وجدْتَ كَنْزاً.
فحملَهُ إلى الملكِ فلم يجِدْ بُداً من أن يذكرَ للملكِ قصَّتَهم ، فجاءَ الناسُ معهُ إلى باب الكهف ، فدخل هُوَ قَبْلَهم ، وأخبَرَ أصحابَهُ بأنَّ الملِكَ أتاهُم إذ ظهرَ القومُ عليهم فسألوهُ عن أمرِهم ، فقَصُّوا عليهم قصَّتَهم ، فَنَظَرُوا فإذا اللوحُ الرَّصاصُ وفيه أسماؤُهم وفرارُهم من دقيانوسِ.
فقالَ الملكُ : هؤلاء قومٌ هلَكُوا في زمانِ الكافرِ ، فأحياهُم اللهُ في زمانِي ، وحَسَبُوا المدَّةَ ، فوجدُوها ثلاثَمائة سنةٍ وتسعَ سنين ، فبينا هم كذلكَ يحدِّثونَهم إذ دخلُوا المكانَ ، وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم بالنَّومِ ، هكذا رويَ عنِ ابن عبَّاس.
وذهبَ عكرمةُ إلى أنَّ القومَ دخلُوا المكانَ وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم ، فهذا معنى قولهِ { وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } وقولهِ تعالَى : { لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي ليعلَمَ الملكُ وقومه وغيرُهم أن البعثَ بعد الموتِ كائنٌ ، { وَأَنَّ السَّاعَةَ } ؛ القيامة ، { لاَ رَيْبَ فِيهَا } ؛ لا شك فيها.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } ؛ قِيْلَ : كان التنازعُ في أنْ قالَ بعضُهم لبعضٍ إنَّهم قد ماتوا في الكهفِ ، وقال بعضُهم : بل ناموا كما نامُوا مِن قبلُ ، وسيوقظُهم اللهُ من بعد.
وَقِيْلَ : كانوا يتنازعون في البنَاءِ كما قالَ تعالَى : { فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً } ؛ أي قال بعضُهم : نَبْنِي عليهم بُنياناً كما تُبْنَى المقابرُ ؛ كي يستُرُوهم عن الناسِ ، وقال بعضُهم : بل نَبْنِي في هذا الموضعِ مَسْجِداً يُعْبَدُ اللهُ فيه ، وهو قولُ الذين غَلَبُوا على أمرِهم وهم رؤساؤُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } ؛ أي أعْلَمُ بلَبْثِهِمْ ورُقادِهم وأحوالِهم ؛ لأنَّ قومَ الملكِ تنازَعُوا في قدر مَكْثِهم في الكهفِ ، وفي عددهم وفي ما يفعلونَ بعدَ ذلك.
(0/0)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } ؛ أي وذلكَ أنَّ أهل الكتاب الذين سأَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أهلِ هذه الصفةِ يختلفون في عدَدِهم. رويَ أنَّ السيدَ والعاقبَ وأصحابَهما من النَّصَارَى وأهلِ نجرانَ كانوا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وذكروا أصحابَ الكهفِ ، فقال السيدُ : كانوا ثلاثةً رابعُهم كلبُهم ، وقال العاقبُ : كانوا خمسةً سادسُهم كلبهم ، { وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ } ؛ أي ظَنّاً من غيرِ يقينٍ كأنَّهم يرجُمون بالغيب بالقول فَهُمْ بالغيبةِ عنهم ، وقال المسلمونَ : كانوا سبعةً وثامِنُهم كلبُهم. { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ }
وقال بعضُهم : هذه الواوُ واو الثَّمانية ، وذلك أن العربَ تقولُ : واحدٌ اثنانِ ثلاثةً أربعة ستَّة سبعة وثَمانية ؛ لأن العددَ عندهم سبعةٌ ، كما هو اليومُ عندنا عشرة ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ }[التوبة : 112] إلى قولهِ{ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ }[التوبة : 112] وقولهُ في صفةِ أهلِ الجنَّة{ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }[الزمر : 73] وقولهُ في أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم{ وَأَبْكَاراً }[التحريم : 5].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } ؛ أي قُل ربي أعلمُ كَمْ كان عددهُم ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } ؛ عَنَى به رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالَى أخبرَهُ بعدَّتِهم ، وأمرَهُ أن لا يُمَارِ في معرفةِ مَن أدَّعى عددَهم إلاّ بأن بيَّن لهُ أنه يقولهُ بغيرِ حُجَّةٍ ، ولا خبرَ عنده من اللهِ ، فإنَّ هذا العلمَ ليس عند أهلِ الكتاب ، وهذا هو المرادُ الظاهر.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } ؛ أي لا تَسْتَفْتِ في أصحاب الكهف من اليهود وأهل الكتاب أحداً ، فالخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ به أُمَّتُهُ ، فإنهُ مستغنياً بإخبارِ الله إياه عن أن يستَفْتِيهم. وعن ابنِ عبَّاس أنهُ قال : (أنَا مِنَ الْقَلِيْلِ الَّذِي يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وَإْنَّمَا عَرَفَهُ سَمَاعاً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } ؛ أي لا تَقُلْ إنَّي فاعلٌ شيئاً حتى تَقْرُنَ به قولَكَ به قولَكَ إنْ شاءَ اللهُ ، فلعلَّكَ لا تبقَى إلى الغدِ ، ولا تقدرُ عليه من الغدِ.
قال المفسِّرون : لَمَّا سألَ اليهودُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن خبرِ الفِتْيَةِ وَعَدِهُمْ أن يُخبرَهُمْ غداً ، ولَم يقُلْ إن شاءَ اللهُ ، فحُبسَ عنه الوحيُ حتى شُقَّ عليه ، وأنزل هذه الآية يأمرهُ بالاستثناءِ بمشيئة اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ : (مَعْنَاهُ إذا نَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذكَرْتَهُ فَاسْتَثْنِ) ، وقال سعيدُ بن جبير : (إذا قُلْتَ لِشَيْءٍ : إنِّي فَاعِلُهُ غَداً ؛ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ بمَشِيْئَةِ اللهِ ، ثُمَّ تَذكَّرْتَ ، فَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ ، وَإنْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ أوْ بَعْدَ شَهْرٍ أوْ سَنَةٍ).
وعن ابنِ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : إذا حَلَفْتَ عَلَى شَيْءٍ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ ، ثُمَّ ذكَرْتَ فَاسْتَثْنِ مَكَانَكَ وَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ وَلَوْ كَانَ إلَى سَنَةٍ مَا لَمْ تَحْنَثْ). وقال الحسنُ : (لَهُ أنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْيَمِيْنَ مَا لَمْ يَقُمْ مِنَ الْمَجْلِسِ).
وقال إبراهيمُ وعطاء والشعبيُّ : (لاَ يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ إلاَّ مَوْصُولاً بالْكَلاَمِ ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذا الْقَوْلِ : وَإذا ذكَرْتَ إذا نَسِيْتَ شَيْئاً فَادْعُ اللهَ حَتَّى يُذكِّرُكَ). وقال عكرمةُ : (مَعْنَاهُ : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذا غَضِبْتَ).
قال وهبُ : (مكتوبٌ في الإنجيلِ : يا ابنَ آدمَ اذكرونِي حين تغضبُ أذكُركَ حين أغضبُ). وقال الضحَّاك والسُّدي : (هَذا فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أوْ نَامَ عَنْهَا ؛ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكَرَهَا " ).
قَوْلُهُ : { وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَداً } ؛ أي قُلْ عسى أن يعطيَنِي ربي مِن الآيات والدلالاتِ على النبوَّة ما يكونُ أقربَ في الرَّشد ، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف.
(0/0)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً } يعني مِن يوم دخلُوا الكهفَ إلى أنْ بعثَهم اللهُ وأطَلَعَ عليهم الخلقَ. قال الفرَّاء والزجَّاج والكسائيُّ : (التَّقْدِيْرُ : سِنِيْنَ ثَلاَثَمِائَةٍ ؛ لأنَّ التَّفْسِيْرَ لاَ يَكُونُ بلَفْظِ الْجَمَعِ). وقال أبو عليِّ الفارسي : (سِنِيْنَ بَدَلٌ مِنْ ثَلاَثَمِائَةٍ). وقرأ حمزةُ : (ثَلاَثَمِائَةِ سِنِيْنَ) مُضَافَةً غير مُنَوَّنَةٍ. وقال الضحَّاكُ : (نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَبثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَمِائَةٍ ، فَقَالُوا : أيَّاماً أوْ شُهُوراً أوْ سِنِيْنَ ؟ فَقِيْلَ : سِنِيْنَ) ولذلكَ لَم يقُلْ سنةً.
(0/0)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } ؛ أي لقَدْرِ ما لبثوا ؛ { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي لهُ العلمُ بكلِّ مستورٍ عن الخلق في السَّمواتِ والأرضِ وفي قعرِ البحار. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } ؛ أي أذْكُرْ بذلكَ الناسَ فهو مِن خَفِيِّ صفاتهِ : وَقِيْلَ : معناهُ : ما أبصرَ اللهُ بكلِّ موجودٍ! وما أبصرَهُ بكلِّ مسموعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ } ؛ أي ما لأهلِ السَّموات والأرضِ مِن دون اللهِ مِن ولِيٍّ ولا ناصرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } ؛ أي لا يشركُ في حُكمهِ أحداً غيرَهُ. وقرأ ابنُ عامرٍ : (وَلاَ تُشْرَكُ) على المخاطبةِ : أي لا تُشْرِكْ أيُّها الإنسانُ على النَّهي.
(0/0)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ } ؛ أي اقْرَأ عليهم القُرْآنَ وعرِّفْهم أنهُ الحقُّ ؛ { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } ؛ ولا خَلَفَ لخبرهِ ولا مغيِّرَ لهُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ؛ أي مَلْجَأً أو مَعْدَلاً تَهربُ إليه ، مِن قولِهم : لَحَدْثُ إلَى كَذا ؛ إذا مِلْتِ إليه ، ومنهُ اللَّحْدُ ؛ لأنهُ يُمال به إلى ناحيةِ القبرِ ، ومنه الإلحادُ في الدِّين الْمَيَلاَنُ عليهِ.
(0/0)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ؛ نزلَتْ هذه الآيةُ في سَلمان الفارسيِّ وصهيب بن سِنان وعمَّار بن ياسر وخبَّاب وعامرِ بن فُهيرة وغيرِهم من الفقراءِ ، كانوا عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وكان مع سَلمان شَمْلَةٌ قد عَرِقَ فيها إذ دخلَ عُيينة بن حصنٍ الفزَاريِّ ، فقال : يا مُحَمَّدُ إنْ رؤوسَ مُضَرَ وأشرافَها ، وإنهُ والله ما يَمنعُنا من الدُّخول عليكَ إلاّ هذا - يعني سلمانَ وأصحابهُ - ولو أنَّا إذا دخلنا عليكَ أخرَجْتَهم عنا لاتَّبعناكَ ، إنه ليؤذِينا ريحهُ أما يؤذيكَ ريحهُ ؟ فأنزلَ اللهُ في سلمان وأصحابهِ هذه الآية. ومعناها : واحبسْ نفسكَ أيُّها النبيُّ مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وتعظيمَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } ؛ أي لا تَصْرِفْ بصرَكَ عنهم لفقرهِم إلى غيرِهم من ذوي الهيئاتِ والزِّينة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي مجالسةِ أهل الشَّرف والغِنَى (تريدُ) ههنا في موضعِ الحال أي مُريداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } ؛ يريدُ عُيَيْنةَ وأبناءَهُ ، أي لا تطِعْهم في تنحيةِ الفُقراءِ عنكَ ليجلسوا إليك ، ومعنى : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } أي جعلنَاهُ غافلاً عن القُرْآنِ والإسلام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } أي ضَيَاعاً ونَدَماً ، وَقِيْلَ : هلاكاً ، وَقِيْلَ : مُخالفاً للحق ، وَقِيْلَ : بَاطلاً ، وَقِيْلَ : معناه : ضَيَّعَ أمرَهُ وبطلَ أيامه.
(0/0)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } ؛ أي قُلِ القُرْآنُ والدلالاتُ على وحدانيَّة الله ونبوَّة رسولهِ هو الحقُّ من ربكم ، و(الحقُّ) مرفوعٌ على الحكاية ، وَقِيْلَ : خبرُ مبتدأ مُضْمَرٍ ؛ أي هو الحقُّ ؛ والمعنى : وقُلْ يا مُحَمَّدُ لِهؤلاء الذي أغفَلْنا قلوبَهم عن ذِكرنا : أيُّها الناس الذي أُنذركم به (الْحَقُّ مِنْ رَبكُمْ) ، لَم أتكلَّمْ به مِن قِبَلِ نفسِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ؛ تَهديدٌ بلفظِ الخبر ، والمعنى : فمَن شاءَ فيؤمن ، ومن شاء فيكفرُ ، { إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } ؛ فقد أعدَّ لكم ناراً على كُفركم أحاطَ بكم سرادقها ؛ قال ابنُ عبَّاس : (السُّرَادِقُ : حَائِطٌ مِنَ النَّار يُحِيْطُ بهِمْ).
وَقِيْلَ : دخانٌ يحيطُ بهِمْ قَبْلَ أن يَصِلْوا إلى النار. وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال : (سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ ، غِلَظُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيْرَةُ أرْبَعِيْنَ سَنَةَ ، فَهَذِهِ الْجُدُرُ مُحِيْطَةٌ بهِمْ). وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى الآيَةِ : فَمَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الإيْمَانَ آمَنَ ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ } ؛ معناهُ : وإنْ يستَغيثُوا من شدَّة الحرارةِ يُغاثوا بماءٍ كَعَكَرِ الزَّيت أسودَ غليظ ، وَقِيْلَ : إن الْمُهْلَ هو الصُّفُرُ المذابُ ، ويقالُ : هو القيحُ والدم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَشْوِي الْوجُوهَ } ؛ أي إذا قَرُبَ البشر منه أنضجَ الوجهَ بحرارتهِ ، وأسقطَ فَرْوَةَ وجههِ ولحمَهُ فيه ، { بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ } ؛ النارُ ؛ { مُرْتَفَقاً } ؛ أي ساءَتْ مُتَّكَأً لَهم ، مأخوذٌ من المرْفَقِ ؛ لأنَّهم يتَّكِؤنَ على مرافِقِهم ، وَقِيْلَ : معناهُ : وساءَتْ مَنْزلاً ومَقَرّاً ، وَقِيْلَ : مُجتمعاً مأخوذٌ من المرافقةِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } ؛ أي لا يبطلُ ثوابُ من أخلصَ للهِ ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : إنا لا نضيعُ أجرَ مَن أحسنَ منهم ، بل يجازيهم.
ثُم ذكرَ جَزَاءَهُمُ فقالَ : { أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ } ؛ أي بساتينُ إقامةٍ ، وقد ذكرَنا صفات جنَّات عَدْنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } ؛ أي يُلْبَسُونَ في الجِنَانِ ذلك.
قال الزجَّاج : (أسَاوِرُ : جَمْعُ أسْوِرَةٍ ، وَأسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ) ؛ وَهُوَ زيْنَةٌ يُلْبَسُ فِي الزَّنْدِ مِنَ الْيَدِ ، مِنْ زيْنَةَ الْمُلُوكِ يُسَوُّرُ فِي الْيَدِ وَيُتَوَّجُ عَلَى الرَّأسِ. قال ابنُ جبير : (عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مِنَ الأَسَاوِر ، وَاحِدٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَاحِدٌ مِنْ ذهَبٍ وَوَاحِدٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَاقُوتٍ).
وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " لَوْ أنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ حِلْيَةً عُدِلَتْ حِلْيَتُهُ بحِلْيَةِ أهْلِ الدُّنْيَا جَمِيْعِهَا لَكَانَ مَا يُحَلِّيهْ اللهُ بهِ فِي الآخِرَةِ أفْضَلَ مِنْ حِلْيَةً أهْلِ الدُّنْياَ جَمِيْعِهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } ؛ الْخُضَرُ : جمعُ أخضرَ ، وهو أحسنُ ما يكون من الثِّياب ، والسُّنْدُسُ : الدِّيْبَاجُ الرقيقُ الفاخر ، وَقِيْلَ : هو الحريرُ ؛ وواحدُ السُّندس سُنْدُسَةٌ ، والاسْتَبْرَقُ الدِّيباجُ الغليظُ الذي له بريقٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا } ؛ أي في الجِنَانِ ؛ { عَلَى الأَرَآئِكِ } ؛ أي على السُّرُرِ في الْحِجَالِ وهي من ذهَبٍ مكَلَّلٍ بالدُّرِّ والياقوتِ ؛ { نِعْمَ الثَّوَابُ } ؛ جزاءُ أعمالِهم ؛ { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } ؛ أي مُتَّكَأً.
(0/0)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } ؛ الآيةُ ، هذا مثلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لعبادهِ ؛ ليستدعيَهم إلى طاعتهِ ، ويزجرَهم عن كُفران نعمتهِ ، والمعنى : واضرِبْ لَهم مثلاً رَجُلين.
قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا أخَوَيْنِ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ ؛ تُوُفِّيَ أبُوهُمَا وَتَرَكَ ثَمَانِيَةَ آلافِ دِيْنَارٍ ، وَكَانَ أحَدُهُمَا مُسْلِماً وَالآخَرُ كَافِراً ، وَأصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أرْبَعَةَ آلاَفِ دِينَارٍ ، فاَلْمُسْلِمُ أنْفَقَهَا فِي سَبيْلٍ حَتَّى أنْفَدَهَا فَأَوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ ، وَالْكَافِرُ اشْتَرَى بهَا بَسَاتِيْنَ ، فَاحْتَاجَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ فَأَتَاهُ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ : أيْنَ مَالُكَ ؟ فَقَالَ لَهُ : أنْفَقْتُهُ فِي سَبيْلِ اللهِ ، فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ : لاَ أُعْطِيْكَ حَتَّى تَتَّبعَ دِيْنِي ، ثُمَّ أخَذ بيَدِ أخِيْهِ فَأَدْخَلَهُ بَسَاتِيْنَهُ ، وَجَعَلَ يَطُوفُ بهِ فِيْهَا وَيَقُولُ لَهُ : مَا أظُنُّ أنْ تَبيدَ هَذِهِ أبَداً ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ } أي جعلَ للكافرِ منهُما بساتينَ من كُرُومٍ ، وجعلَ حَوْلَ البساتينِ نَخيلاً وجعلنا بينَ البساتينِ زَرْعاً ؛ أي يزرعهُ.
(0/0)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } ؛ أي كِلاَ البساتين أخرجَتْ ثَمرها ولَم تنقُصْ منه شيئاً كأنْ ما أن يذهبُ صنفٌ من الثمار إلاّ أثْمرَ صنفٌ آخر ، وإنَّما قال : آتَتْ ؛ ولَم يقل آتَتَا ؛ لأن المعنى أعطَتْ كلُّ واحدةٍ من الجنَّتين ، ولفظُ كِلْتَا واحدةٌ ؛ لأن الألِفَ في كلتا ليسَتْ ألِفَ تثنيةٍ ، كأنه قالَ : كلُّ واحدةٍ منهُما آتَتْ أكُلها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } ؛ أي فجَّرنا وسطَ البساتين نَهراً نَسقيها ، { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } ؛ أي كان لِهذا الكافرِ ذهبٌ وفضة ومن كل المال ، وقيل : من قرأ : (ثُمُرٌ) بضم الثاء ، فمعناه صنوف من الأموال : الذهب والفضة وغيرهما ، يقالُ : أثْمَرَ الرجلُ إذا كَثُرَ مالهُ. ومن قرأ بنصب الثَّاء كان معناهُ ثَمرة البساتينِ ، والأولُ هو الأقربُ لأن قولَهُ { كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا } يدلُّ على الثِّمار ، فاقتضَى أن يكون الثمرُ غير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَالَ لِصَاحِبِهِ } ؛ أي لأخيهِ المسلم ؛ { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } ؛ أي يراجعهُ بالكلامِ ويفاخرهُ : { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } ؛ يعني خَدَماً وحَشَماً وولداً ، يتطاولُ بذلك على أخيهِ ، ورأى تلك النعمةَ مِن قِبَلِ نفسهِ لا من قِبَلِ اللهِ.
(0/0)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } ؛ أي دخلَ الكافرُ بستانَهُ وهو ظالِم لنفسهِ بالكفر وتركِ الشُّكرِ ؛ { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـاذِهِ أَبَداً } ؛ أي ما أظنُّ أن تَفْنَى هذه أبداً. قال المفسِّرون : أخذ بيد أخيهِ المسلم فأدخلَهُ جنَّته ، وطافَ به فيها ، وأراهُ إياها وجعلَ يعجبه منها ، ويقولُ ما أظنُّ أنْ تَفْنَى هذه أبداً ، { وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } ؛ أنكرَ البعثَ والثواب والعقابَ ، وأخبرَ أخاهُ بكفرهِ وإنكاره للقيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } ؛ يعني لَئِنْ كان البعثُ حقّاً ، ورُدِدْتُ إلَى ربي على زعمِكَ لأجدنَّ في الآخرةِ خيراً منها مرجِعاً ومنْزِلاً ، ولَم يعني اللهُ هذه في الدُّنيا إلاّ ولي عنده أفضلُ منها لكرامتِي عليه ، فمعناه الجنَّتين التي تقدَّم ذِكرُهما ، وفي هذا بيانُ أن هذا الكافرَ لَم يكن قاطعاً لنْفِي الْمَعَادِ ولكن كان شَاكّاً فيه ، والشاكُّ في الْمَعَادِ كافرٌ.
(0/0)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } ؛ أي أجابَهُ صاحبه المسلمُ مُنكراً بما قالَ وهو يخاطبهُ : { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } ؛ أي بالذي خلقَ أصْلَكَ من ترابٍ ؛ { ثُمَّ } ؛ خَلَقَكَ ؛ { مِن نُّطْفَةٍ } ؛ أبيْكَ ؛ { ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً } ؛ أي أكْمَلكَ وجعلَكَ معتدلَ الخلقِ والقامَة ، وجعلكَ بشراً سويّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي } ؛ معناهُ : أمَّا أنا فلا أكفرُ بربي ، لكن هو اللهُ ربي ؛ تقديرهُ : لَكِنْ أنَا هو اللهُ ربي ، وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخير تقديرهُ : لكنَّ اللهَ هو ربي ؛ أعلَمَ بذلك أخاهُ الكافر بأنه مُوَحِّدٌ مسلمٌ.
ومن قرأ : (لَّكِنَّا) فالمعنى لكِنْ أنا ؛ إلاَّ أنهُ حُذفت الهمزةُ ، وأُبقيت حركتها على السَّاكن الذي قبلَها ، فالتقى نُونانِ فأُدغمت إحداهُما في الأُخرى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } ؛ ظاهرُ المرادِ.
(0/0)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ } ؛ معناه : أنَّ المسلمَ قال للكافرِ : هَلاَّ قُلْتَ حين دخلتَ ما شاءَ اللهُ! أي الأمرُ بمشيئة اللهِ ، وما شاءَ اللهُ كانَ يعني إنَّ شاءَ اللهُ خرابَ هذه الجنَّة وإهلاكَها كان ذلك بمشيئة الله ، { لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ } ؛ أي لا يَقْوَى أحدٌ على ما في يدهِ من مُلْكٍ ونعمة إلاّ باللهِ ، ولا يكون له ما شاءَ الله ، ولا قوةَ في بدنهِ ومُلْكِهِ إلاّ باللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } ؛ معناهُ : أن المسلمَ قال للكافرِ : إن كنتُ أنا أقلَّ منك مالاً وعشيرةً فأنا راضٍ بما قُسِمَ لِي ، قَوْلُهُ تَعَالَى : (أقَلَّ) منصوبٌ ؛ لأنه مفعولُ (تَرَنِي). وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (أنَا) عمادٌ ، ومَن قرأ (أقَلُّ) بالرفع فعلَى معنى (أنَا) مبتدأ و(أقَلُّ) خبرٌ في موضعِ المفعول.
(0/0)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } ؛ أي لعلَّ الله يؤتيَنِي في دار البقاء بُستاناً خيراً من بستانِكَ في الدُّنيا ، { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } ؛ على بستانِكَ ؛ { حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي ناراً مِن السَّماء فتُحرِقها ، وسُمِّي العذابُ حُسْبَاناً على معنى أنه يرسل عليها بحساب ما كسبت يدك.
وقال النضرُ بن شميل : (الْحُسْبَانُ الْمَرَامِي) أي يرسلُ عليها مَرَامِي عذابهِ إما بردٌ ، وإما حجارةٌ وغيرهما بما شاء مِن أنواعِ العذاب ، { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } ؛ أي أرْضاً ملساءَ لا نباتَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } ؛ أي غَائِراً في الأرضِ يعني النهرَ الذي في خلالِها ، { فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } ؛ أي لا يَبْقَى لهُ أثرٌ يطلبهُ بوجهٍ من الوجوه ، لا تنالهُ الأيدي ولا الأرشيةَ.
(0/0)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } ؛ أي هَلَكَ مالهُ وبستانه ، يقالُ : أُحِيْطَ القومُ إذا هَلَكْوا ، { فَأَصْبَحَ } ؛ الكافرُ ، { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } ؛ أي يضربُ بإحْدَى يديهِ على الأخرى ، وتقليبُ الكفَّين يفعلهُ النادمُ كثيراً ، وصارَ عبارةً عن النَّدَمِ ، { عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } ؛ أي في جنَّته ، { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } ؛ أي ساقطةٌ على سقوفِها ؛ { وَيَقُولُ يالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً } ؛ فَنَدِمَ حيث لا ينفعهُ الندم ، ولَم يكن تندُّمه على إشراكهِ إيْماناً منهُ ؛ لأنه لَم يَقُلْهُ تحقيقاً للتَّوبة ، ولكن كان يتأسفُ على هلاكِ مالهِ.
(0/0)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي لَم تَنْصُرْهُ الفئةُ الذين افتخرَ بهم في قولهِ{ وَأَعَزُّ نَفَراً }[الكهف : 34] { وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً } ؛ بأن استَرَدَّ بدلَ ما ذهبَ منه.
(0/0)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ } ؛ في ذلك الموطنِ عَلِمَ الكافرُ أن الوَلاَيَةَ بالنصرِ لله الحقِّ ، فهو الذي يَملكُ النصرَ ، هذا معنى قراءةِ (الوِلاَيَةُ) بخفضِ الواو ، وأما (الْوَلاَيَةُ) بفتحِ الواو فهو نقيضُ العداوةِ ، وَقِيْلَ : إن معنى قراءةِ (الْوِلاَيَةُ) بالكسرِ : الإمارةُ والسُّلطانُ ، يعني في يومِ القيامة الولايةُ لله. ومن قرأ بفتحِها فهو مِن الْمُوَالاَةِ كقولهِ تعالى{ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة : 257] يعني : إنَّهم يؤمنونَ بالله يومئذٍ ، ويتبرَّءُون مما كانوا يعبدونَ من دونِ الله. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : (الْحَقِّ) مَن قرأ بالكسرِ فهو نعتٌ لله ، وَمن رفعَهُ فهو نعتٌ للولايةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً } ؛ أي خيرُ مَن أثابَ وجازى على العملِ ؛ { وَخَيْرٌ عُقْباً } ؛ أي خيرُ مَن أعقبَ عاقبةً ، وَقِيْلَ : عاقبةُ طاعتهِ خيرٌ من عاقبةِ غيره. قال ابنُ عبَّاس : (هَذانِ الرَّجُلاَنِ ذكَرَهُمَا اللهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إن{ لِي قَرِينٌ }[الصافات : 51] إلَى قولهِ تعالَى{ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ }[الصافات : 55].
(0/0)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ } ؛ أي اضرِبْ يا مُحَمَّدُ لِهؤلاء المتكبرين المترَفين مِن قومِكَ الذين سألوكَ طردَ فقراءِ المؤمنين صفةَ الحياة الدُّنيا في بقائها وفنائِها ؛ كَمَاءٍ أنزَلْنَاهُ { مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ } ؛ فَنَجَعَ في النَّباتِ حتى خالَطَهُ ، وأخذ النباتُ زُخْرُفَهُ فصار أجناساً مختلفةً بعضُها مخلَّطٌ ببعضٍ ؛ { فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ } ؛ متفتِّتاً ، والهشيمُ ما تَكَسَّرَ وَانْحَطَمَ ، ثم فرَّقتْهُ الرياحُ ، وطارت به كما يطيرُ بأشياءٍ خفيفة فلا يبقَى له أثرٌ ، كذلك الدُّنيا يفنى منها كلُّ شيء كما لا يبقَى من الهشيمِ شيءٌ ؛ { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } ؛ أي لَم يزل قادراً على خَلْقِ الأشياء. قالتِ الحكماءُ : شبَّهَ اللهُ الدنيا بالماءِ ؛ لأن الماءَ لا يستقرُّ في موضعٍ ، كذلك الدُّنيا لا تُبقِي على أحدٍ.
(0/0)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي مما ينتفعُ به في الدُّنيا لا في الآخرةِ ؛ { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } قِيْلَ : إنَّها الصلواتُ الخمسُ ، وَقِيْلَ : جميعُ الطاعاتِ. وسُمِّيت الباقياتُ لبقاء ثوابها للإنسانِ ، بخلاف الأموالِ والأولاد التي لا تبقَى.
وقال ابنُ عبَّاس وعكرمةُ ومجاهد : (هِيَ قَوْلُ الْعَبْدِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ). يدلُ عليه ما رُويَ عن أبي الدَّرداءِ : " أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخَذ غُصْناً فحرَّكَهُ حتى سقطَ ورَقهُ ، فقالَ : " إنَّ الْمُسْلِمَ إذا قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ هَذا ، خُذْهُنَّ إلَيْكَ يَا أبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ ، فإنَّهنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ".
وعن أنسٍ رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " خُذُوا حَسْبَكُمْ مِنَ النَّارِ ، قُولُوا : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ ، فَإنَّهُنَّ الْمُقَدِّمَاتُ ؛ وَهُنْ الْمُنْجِيَاتُ ؛ وَهُنَّ الْمُعَقِّبَاتُ ؛ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ". وقال عثمانُ بن عفَّان وابنُ عمرَ وسعيدُ بن المسيَّب : (هُنَّ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ).
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " " اسْتَكْثِرُواْ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ " قِيْلَ : مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " التَّكْبيْرُ ؛ وَالتَّهْلِيْلُ ؛ وَالتَّسْبيْحُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنْ عَجْزْتُمْ عَنِ اللَّيْلِ أنْ تُكَابدُوهُ ، وَعَنِ الْعَدُوِّ أنْ تُجَاهِدُوهُ ، فَلاَ تَعْجَزُواْ عَنْ قَوْلِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ. فإنَّهَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ".
وَقِيْلَ : هِيَ كلُّ عملٍ صالح يُثاب عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } أي أفضلُ ثواباً ، وأفضلُ أملاً من المالِ والبنين.
(0/0)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } ؛ أي واذكر يومَ نُسَيِّرُ الجبالَ ، ويجوزُ أن يكونَ المعنى وخيرٌ أمَلاً يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ، وتَسَيُّرُ الجبالِ وتسييرُها : قلعُها ، فإنَّ الله تعالى يقلعها عن وجهِ الأرضِ يومئذٍ ، فيسيِّرُها في الهوَاء ، كما يسيِّرُ السحابَ في الدُّنيا ، ثم يَجْعلُها هباءً منثوراً فتهودُ في الأرضِ حتى لا يبقَى شيءٌ ، ولذلك قالَ تعالَى { وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً } أي ظاهرةً مستويةً لا يسترُ شيءٌ شيئاً ، ولو كان يبقَى شيءٌ من الجبالِ والأشجار والنبات لَم تكن الأرضُ بارزةً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَشَرْنَاهُمْ } ؛ يعني المؤمنينَ والكافرين ، أي بعثناهُم من قبورِهم ، { فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } ؛ أي لَم نترُكْ منهم أحداً في قبرهِ نسياناً ولا غفلةً.
(0/0)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً } ؛ أي معناهُ : ان الناسَ كلَّهم يعرضون على اللهِ تعالى مصفُوفِين ، كلُّ زُمرةٍ وأمَّة صَفٌّ ، فيكونون صَفّاً بعد صفٍّ كصفوفِ الصلاة إلاَ أنَّهم صفٌّ واحد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ أي أعدنَاكم كما خلقنَاكم أوَّلَ مرة. وقال ابنُ عبَّاس : معناه (حُفَاةٌ عُرَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِمَّ اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي أوَّلِ الْخَلْقِ).
قال صلى الله عليه وسلم : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قٌُبُورِهِمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ غُرْلاً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاسَوْأتَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ! أمَا يَسْتَحْيي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيْهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } ؛ أي بل زعمتُم في الدُّنيا أن لن نجعلَ لكُم أجَلاً للبعثِ ، وهذا خطابٌ لِمنكري البعثِ خاصَّة.
(0/0)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوُضِعَ الْكِتَابُ } ؛ أي كتابُ كلِّ إنسانٍ في يده ، بعضُهم في اليمينِ وبعضُهم الشِّمالِ ، { فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي المذنبينَ وهم المشركونَ ؛ { مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } ؛ أي خائفينَ مما في الكتاب ، يَدْعُونَ على أنفسِهم بالويلِ والثُّبور ؛ { وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَالِ هَـاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (الصَّغِيْرَةُ التَّبَسُّمُ ، وَالْكَبيْرَةُ الضَّحِكُ). وقال ابنُ جُبيرٍ : (الصَّغِيْرَةُ الْمَسِيْسُ وَالتَّقْبيْلُ ، وَالْكَبيْرَةُ الزِّنَا). والمعنى لا يتركُ صغيرةً ولا كبيرة من أعمالِنا إلاَّ أثبتَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } ؛ أي وجدُوا جُزْءَ ما عملُوا مكتوباً مثبَّتاً في الكتاب ، { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } ؛ أي لا ينقصُ من حسناتِ أحدٍ ، ولا يزيدُ في سيِّئات أحدٍ ، ولا يعاقبُ بغير جُرْمٍ. وروي أنَّ الفضيلَ بن عيَاضٍ كان إذا قرأ هذه الآيةَ قال : (صَحَوا واللهِ مِنَ الصِّغَارِ قَبْلَ الْكِبَارِ).
(0/0)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } ؛ قد تقدَّم تفسيرهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَ مِنَ الْجِنِّ } ؛ تقدَّم أيضاً ، الخلافُ في أنه من الملائكةِ أم من الجنِّ ، بَنِي الجانِ ، والصحيحُ أنهُ من بَنِي الجانِّ جنسٌ غير جنسِ الملائكة ؛ لأنَّ الملائكةَ رُسُلُ اللهِ ، ولا يجوزُ على رسولِ مِن رُسُلِ اللهِ أن يكفرَ ، { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } ؛ أي خرجَ عن طاعةِ ربهِ ، وَقِيْلَ : ردَّ أمرَ ربهِ ، { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } ؛ هذا استفهامٌ بمعنى الإنكارِ ، يقولُ : كيفَ تطيعونَهُ وقد فَسَقَ ، { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } ؛ وهو اليومُ عدوٌّ لكم ، { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } ؛ ما استبدلَ الظَّالِمون عن رب العزَّة إبليسَ لَعَنَهُ اللهُ حيث تركوا طاعةَ مَن خَلَقَهم ، وأنعمَ عليهم ، ويجازيهم جنةَ الْخُلْدِ ، وأطاعوا مَن يؤدِّيهم إلى العقاب الدائم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذُرِّيَّتَهُ }. قال قتادةُ والحسن : (يَعْنِي أوْلاَدَ إبْلِيْسَ ؛ وَهُمْ يَتَوَالَدُونَ ، كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ) ، قال مجاهدُ : (فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْلِيْسَ وَلْهَانُ ؛ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ ، وَزَلْيَِنُورُ صَاحِبُ رَايَةِ إبْليْسَ لِكُلِّ سُوقٍ ، وَدِثِّيْرُ صَاحِبُ الْمَصَائِب يَأْمُرُ بضَرْب الْوَجْهِ وَالدُّعَاءِ بالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَغَيْرِ ذلِكَ ، وَالأَعْوَرُ وَهُوَ صَاحِبُ أبْوَاب الزِّيَادَةِ ، وَمَنْيُوطُ وَهُوَ صَاحِبُ الأَخْبَارِ يَأْتِي بهَا فَيُلْقِيَهَا فِي أفْوَاهِ النَّاسِ فَلاَ يُوجَدُ لَهَا أصْلٌ ، وَدَاسِمُ هُوَ الَّذِي إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ ضَرَّهُ فِي الْمَتَاعِ مَا لَمْ يُرْفَعُ وَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعِهِ ، وَإذا أكَلَ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ أكَلَ مَعَهُ. وَمِنْ أوْلاَدِ إبْلِيْسَ الْهَفَّافُ وَمُرَّةُ ، وَبهِ كَانَ يُكْنَى أبَا مُرَّةَ). وقال ابنُ زيدٍ : (إنَّ إبْلِيْسَ أبُو الْْجِنِّ ، كَمَا أنَّ آدَمَ أبُو الإنْسِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لإبْلِيْسَ : إنِّي لاَ أخْلُقُ لآدَمَ ذُرِّيَّةً إلاَّ جَعَلْتُ لَكَ مِثْلَهَا ، فَلَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أحَدٌ إلاَّ بشَيْطَانٍ قُرِنَ بهِ).
(0/0)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } ؛ يعني إبليسَ وذريَّته ، والمعنى : ما اطْلَعْتُهُمْ على خلقِ السَّموات والأرضِ ، ولا أحضرتُهم ، ولَم يكونوا موجودينَ يوم خَلَقْتُ السَّمواتِ والأرض ، ولا أشهدتُ بعضَهم خلقَ بعضٍ ، ولا أعطيتُهم العلمَ وكيفيَّة خلقِ الأشياء ، ولو كنتُ مِمن يستعينُ بأحدٍ لما أستعنتُ بالمضِلِّين ، فكيفَ والاستعانةُ عليَّ مستحيلةٌ إذا أردتُ خلقَ شيء كانَ. والمعنى أنَّكم اتبعتُم الشيطانَ ، كاتِّباع مَن يكونُ عنده عِلمُ باطن الأشياءِ ، وأنا ما أشهدتُهم خلقَ السَّموات والأرضِ ولا خلقَ أنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً } ؛ أي ما كنتُ مُتَّخِذ الشياطينِ الذين يُضِلُونَ الناسَ أعواناً يعضِدُونني. ومَن قرأ (وَمَا كُنْتَ) بالفتحِ ، فالمعنى : وما كنتَ يا مُحَمَّدُ لِتَتَّخِذ المضلِّين أنصاراً.
(0/0)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ } ؛ معناهُ : يومَ القيامةِ يقولُ الله للمشركين : نَادُوا شُرَكَائِي الَذِينَ زَعَمْتُمْ أنَّهم شُركاؤهم للأصنامِ والشياطين وذريَّته ؛ ليدفعُوا عنكم العذابَ ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } ؛ أي جعلنا بينَ العابدِ والمعبود من العذاب ما يُوبقُهُمْ ؛ أي ما يُهِلِكُهم ، وَقِيْلَ : معناهُ : وجعلنا بينَهم وبين المؤمنين ؛ أي بين أهلِ الْهُوى وأهلِ الضَّلالة مَوْبقاً.
قال عبدُالله بنُ عمرَ : (هُوَ وَادٍ فِي جَنَهَّمَ مِنَ الصَّدِيْدِ وَالْقَيْحِ وَالدَّمِ ، يُفَرِّقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهِ وَمَنْ سِوَاهُمْ). وقال عكرمةُ : (هُوَ نَهْرٌ مِنَ النَّارِ يَسِيْلُ نَاراً ، عَلَى حَافَّتَيْهِ حَيَّاتٌ مِثْلَ الْبغَالِ). وقال الضحَّاكُ : (مَعْنَاهُ : وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَهْلِكاً) ، وقال الحسنُ : (عَدَاوَةً) ، ويقالُ : أوْبَقَهُ اللهُ ؛ أي أهْلَكَهُ ، وَوَبقَ أي هَلَكَ. قرأ حمزةُ (وَيَوْمَ نَقُولُ) بالنُّونِ.
(0/0)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } ؛ أي ورأى المشركونَ النارَ مسيرةَ أربعين سنةٍ ، وايقنُوا أنَّهم داخلُوها ، { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } ؛ مَعْدِلاً يعدلون إليه ، لأنَّها أحاطَتْ بهم من كلِّ جانب ، والمواقعةُ مُلاَمَسَةُ الشَّيءِ بشدَّةٍ ، ومنه وقائعُ الحروب.
(0/0)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ؛ أي بَيَّنَّا لَهم من كلِّ مثَلٍ يحتاجون إليه في أمرِ دينهم ، { وَكَانَ الإِنْسَانُ } ؛ أي الكافرُ ، { أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } ؛ في تكذيب الرُّسل ، وما جاءُوا به من الآياتِ. قِيْل : َ أرادَ بالإنسانِ النضرِ بنِ الحارثِ وجدالَهُ في القُرْآنِ. وقال الكلِبيُّ : (يَعْنِي أُبَي بْنَ خَلَفٍ) ويقالُ : معناه : ما ليسَ بشيءٍ مِن الملائكة والجنِّ والشياطينِ ، وسائرِ الأصناف أجدَلُ من الإنسانِ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ : " مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدىً كاَنُواْ عَلَيْهِ إلاَّ أُعْطُواْ الْجَدَلَ ".
(0/0)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } ؛ أي ما منعَ أهلُ مكة أن يُمِنوا { إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى } يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم جاءَهم مِن اللهِ بالرَّشَادِ ، { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ } أي يتوبُوا من الكفرِ ، ما منعَهم من ذلك إلاّ طلبُ أن يأتيَهم سُنَّةُ الأَوَّلِيْنَ ؛ وهو أنَّهم إذا لَم يؤمنوا جاءَهم العذابُ مِن حيث لا يشعرونَ ، أو مقابلةً من حيث يَرَوْنَ. وهذه الآيةُ فِيمَنْ قُتِلَ من المشركين ببَدْرٍ وأُحُدٍ ؛ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً } أي عَيَاناً مقابلةً. وقرأ أهلُ الكوفة (قُبُلاً) بضمِّ القافِ والباء ، جمعُ قَبيْلٍ ؛ أي صنوفٍ من العذاب ، وضُروبٍ منه مختلفةٍ.
(0/0)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ؛ ظاهرُ المعنى ، { وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ } ؛ أي يخاصِمُ الذين كفرُوا بالكتاب والرُّسل بالحجَّة الباطلةِ ، { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ } ؛ أي ليُبْطِلُوا بها الإسلامَ القُرْآنَ. قال ابنُ عبَّاس : (يَعْنِي الْمُسْتَهْزِئِيْنَ وَالْمُقْتَسِمِيْنَ وَأتْبَاعَهُمْ) ، يقالُ : دُحِضَتْ حُجَّتُهُ إذا بَطَلَتْ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذُواْ ءَايَاتِي وَمَآ أُنْذِرُواْ هُزُواً } ؛ أي اتَّخذُوا القُرْآنَ وما خوِّفوا به مِن النار يومَ القيامة هُزُواً.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ } ؛ أي ليسَ أحدٌ أظلمَ ممن وَعِظَ بالقُرْآنِ ، وما فيه مِن الوعيدِ ، { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } ؛ أي تَهاون بها ولَم يتفكَّرْ فيها. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } ؛ أي ونَسِيَ ذِكْرَ ما عملت يداهُ وتغافلَ عن ذكرهِ ، { إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } ؛ أي أغْطِيَةً ؛ لئلاَّ يفَقَهُوا الْهُدَى ، وَجعلنا { وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } ؛ لئَلاَّ يستَمِعوا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً } ؛ أي إن تَدْعُهُمْ إلى الْقُرْآنِ وإلى الرحمةِ وإلى الإيْمَانِ فلن يهتدُوا ، أخبرَ اللهُ أن هؤلاءِ طَبَعَ اللهُ على قلوبهم.
(0/0)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } ؛ أي الغافرُ السَّاتِرُ على عبادهِ ، والرحمةُ حين لا يُعَجِّلُهُمْ بالعقوبةِ ، { لَوْ يُؤَاخِذُهُم } بعقاب ، { بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } ؛ في الحالِ ؛ { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } ؛ أي لعذابهم أجْلٌ ضَرَبَهُ اللهُ ، { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } ؛ أي مَلْجَأْ وَمَنْجاً.
(0/0)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } ؛ أي القُرَى الماضية ، قُرى عَادٍ وثَمود لَمَّا أشركوا ، والمرادُ أهلُ القرى ، { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } ؛ أي لوقتِ إهلاكهم أجَلاً.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } ؛ أي وَاذْكُرْ إذ قالَ موسى لفتاهُ يوشعَ بنَ نونِ ، قال ابنُ عبَّاس : (وقصَّةُ ذلكَ : أن موسى عليه السلام قامَ خطيباً في بنِي إسرائيلَ ، فسُئِلَ أيُّ الناسِ أعلمُ ؟ فقال : أنَا فبعثَ اللهُ عليه فقالَ : إن لِي عبداً بمجمع البحرينِ هو أعلمُ منكَ ، قال موسى : يا رب كيفَ لِي بهِ ، يا رب دُلَّنِي عليه.
فقال : تأخذُ معكَ حُوتاً وتَمضي إلى شَاطِئ البحرِ ، فحيث ما فقدتَ الحوتَ فهو ثَمَّ ، فأخذ حوتاً من السَّمكِ ، وجعلهُ في مكتلٍ وانطلقَ معه بفتاهُ يوشعَ بن نون إلى شاطئ البحرِ ، فأَوَيَا إلى صخرةٍ عندَها ماءً يسمى ماءُ عينِ الحياة ، فجلسَ يوشعُ يتوضَّأُ من تلكَ العينِ ، فانتضحَ من ذلك الماءِ على الحوتِ فحَييَ ، فوثبَ في الماءِ ، وَاتَّخَذ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ؛ أي اتخذ الحوتُ طريقاً في البحرِ مسْلَكاً يَابساً).
وَقِيْلَ : معنى قولهِ (سَرَباً) أي ذاهِباً ، فقامَ يوشعُ حين رأى ذلك مِن الحوت ، وذهبَ إلى موسى ليخبرَهُ بذلكَ ، وذهبَا يومَهُما ذلكَ حتى صلَّيا الظهرَ مِن الغدِ ، فتَعِبَ موسى ، فقَالَ لِفَتَاهُ : آتِنَا غَدَاءَنَا لَقْدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذا نَصَباً ؛ أي تَعَباً.
ومعنى الآية : وإذ قالَ موسى لفتاهُ لا أزالُ أمضِي حتى أبلُغَ مجمع البحرين الموضعَ الذي يلتقِي فيه بحرُ فارسَ والرومِ أو أمضِيَ سنينَ كثيرة ، والْحُقَبُ جمعُ أحْقَابٍ ، والأحقابُ جمع الحِقْبِ ، والْحِقْبُ ثَمَانُونَ سنةً ، وَقِيْلَ : سبعونَ سنةً بلُغة قريشٍ ، وسُمي يوشعُ فَتَاهُ ؛ لأنه كان يخدمهُ ويلازمهُ في الْحَضَرِ والسَّفرِ للتعلُّم منه.
(0/0)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } أي الموضعَ الذي يجتمعُ فيه ماء البحرينِ نَسِيَ صاحبُ موسى أن يخبرَهُ بخبرِ الحوت. قال المفسِّرون : وكان حُوتاً في زَنْبيْلٍ ، وكانا يأكُلانِ منه عندَ الغدَاءِ والعشاءِ ، فلما أتَيَا إلى الصخرةِ على ساحلِ البحر وضعَ فتاهُ الزنبيلَ فأصابَ الحوتَ من الماءِ الذي ذكرناهُ شيءٌ فتحرَّكَ في الزنبيلِ فانسربَ في البحرِ ، قد قيلَ لِموسى : تزوَّدْ معكَ حُوتاً مالِحاً فحيثُ تفقدُ الحوتَ فهناك تجدُ الرجلَ العالِمَ.
فلما انتهيَا إلى الصخرةِ ، قال موسَى لفتاهُ : امْكُثْ هنا ، وانطلقَ لحاجتهِ فحرى الحوتُ في البحرِ ، فقال فتاهُ : إذا جاء نبيُّ اللهِ أخبرتهُ بذلكَ ، فأنساهُ الشيطان ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } ؛ وإنَّما نَسِيَ يوشعُ أن يذكرَ قصَّتَهُ لِموسى ، وأضافَ النسيانَ إليهما توسُّعاً لأنَّهما تزوَّدا ، فصارَ كما يقالُ : نسيَ القومُ زادَهم ، وإنَّما نسيَهُ أحدُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً } ؛ أي جعلَ الحوتُ يضرِبُ بذنبهِ في البحرِ فلا يضربُ شيئاً وهو ذاهبٌ إلاّ يَبسَ موضعهُ كهيأة السَّرَب. قال قتادةُ : (جَعَلَ لاَ يَسْلِكَ فِيهِ طَرِيْقاً إلاَّ صَارَ الْمَاءُ جَامِداً) ، وقال الربيعُ : (انْجَابَ الْمَاءُ عَلَى مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ).
والسَّرْبُ في اللُّغة : الْمَحْفُورُ في الأرضِ ، وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ قالَ : قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " انْجَابَ الْمَاءُ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ ، فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ ، فَدَخَلَ مُوسَى الْكُوَّةَ عَلَى إثرِ الْحُوتِ ، فَإذا بالْخَضِرِ ". وَقَالَ ابنُ عبَّاس : (جَعَلَ الْحُوتُ لاَ يَمَسُّ شَيْئاً مِنَ الْمَاءِ إلاَّ يَبسَ حَتَّى صَارَ صَخْرَةً).
(0/0)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا } ؛ أي لَمَّا جاوزَ بين البحرينِ ، قال موسَى ليوشع : آتِنَا بما نتغدَّى بهِ ، { لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَـاذَا نَصَباً } ؛ أي تَعَباً ومَشَقَّةً ، فلما قال لهُ موسى ذلكَ ؛ تَذكَّرَ قصَّة الحوتِ ؛ فـ { قَالَ } ؛ له : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ } ؛ عند رأسِ البحر ؛ { فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ } ؛ ما رأيتُ هناكَ من أمرِ الحوت أنْ أذكرَهُ لك يا نبيَّ اللهِ { وَمَآ أَنْسَانِيهُ } ؛ أي وما شَغَلَنِي عن ذكرهِ لكَ ، { إِلاَّ } ، وَسْوَسَةُ ، { الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } ، الحوتُ ، { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } ؛ أي شيئاً عَجَباً وهو أن الماءَ إنْجَابَ عنهُ ، وبقيَ كالكوَّةِ لَم يَلْتَمَّ.
(0/0)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } ؛ أي قال موسَى : ذلكَ الذي كُنَّا نطلبُ دلالةً لنا مِن اللهِ تعالى على موضعِ الْخَضِرِ ومرتدَّة من العلامةِ ، { فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً } ؛ أي رَجَعَا وعادَا في الطريقِ الذي جاءَ منه يقُصَّانِ آثارَهما قَصَصاً ، والقَصُّ اتِّباعُ الأثرِ ، ومنهُ قوله{ قُصِّيهِ }[القصص : 11].
(0/0)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } ؛ وهو الْخَضِرُ. قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّهُمَا لَمَّا انْتَهَيَا إلَى الصَّخْرَةِ جَعَلَ يُوشُعُ يُرِي مُوسَى مَكَانَ الْحُوتِ وَأثَرَهُ فِي الْمَاءِ ، وَكَانَ مُوسَى يَتَعَجَّبُ مِنْ ذلِكَ إذ وَقَعَ مُوسَى عَلَى رَجُلٍ قَائِمٍ يُصَلِّي ، فَانْتَظَرَ حَتَّى فَرَغَ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ).
وإنَّما سُمي الْخَضِرُ ؛ لأنَّهُ إذا صلَّى في مكانٍ أخْضَرَّ ما حولهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } ؛ أي أكرَمْناه بالنبوَّةِ ، { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } ببواطنِ الأمُور. قال ابنُ عبَّاس : (أعْطَاهُ عِلْماً مِنْ عِلْمِ الْغَيْب).
(0/0)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } ؛ أي مِمَّا يهديني إلى الصواب ، ويجوزُ أن يكونَ معنى رشداً يُرْشِدُنِي به ، والرُّشْدُ والرَّشَدُ لُغتان. قال قتادةُ : (لَوْ كَانَ أحَدٌ مُكْتَفِياً عَنِ الْعِلْمِ لاكْتَفَى نَبيُّ اللهِ مُوسَى عليه السلام ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : هَلْ أتَّبعُكَ عَلَى أنْ تُعَلِّمَنِي). قال الزجَّاجُ : (فِي فِعْلِ مُوسَى عليه السلام - وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الأَنْبيَاءِ - مِنْ طَلَب الْعِلْمِ وَالرِّحْلَةِ دَلِيْلٌ عَلَى أنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أنْ يَتْرُكَ طَلَبَ الْعِلْمِ ، وَإنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ نِهَايَتَهُ ، وَأنْ يَتَوَاضَعَ لِمَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ).
(0/0)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ؛ أي قال الْخَضِرُ لِموسى : إنَّكَ ترى منِّي شيئاً لا تصبرُ عليه ، { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } ؛ ظاهرهُ مُنْكَراً ، والأنبياءُ والصالحون لا يصبرونَ على ما يرونَهُ منكراً ، { قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً } ؛ على ما أراهُ منكَ ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } ؛ تأمُرنِي بهِ.
(0/0)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } ؛ أي قال الخضرُ لِموسى فإنْ اتَّبعتَنِي فلا تسألنَّ عن شيءٍ أنكرتَ فعلَهُ ، ولا تعجَلْ في المسألةِ عنهُ حتى أُبَيِّنَ لك الوجهَ فيه وأفسرَهُ لك ، لأنه قد غابَ علمهُ عنكَ.
(0/0)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا } ؛ أي فمَضَيا حتى إذا رَكِبَا في السفينةِ خَرَقَهَا الخضرُ ، وذلك أنَّهما لَمَّا مشَيَا على الساحلِ مرَّت بهما سفينةٌ ، فكلَّمُوهم أن يحملوهما بغيرِ أُجرة. قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِيْنَةِ أخَذ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأْساً ، أوْ مِنْقَاراً وَأكَبَّ عَلَى السَّفِيْنَةِ يَخْرِقُهَا ، فَقَالَ لَهُ أهْلُ السَّفِيْنَةِ : نَنْشُدُكَ اللهَ أنْ لاَ تَخْرِقَهَا ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَبْداللهِ لاَ يَحِلُّ لَكَ هَذا ، فَإنَّكَ تُغْرِقُهُمْ ، فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْخَضِرُ حَتَّى خَرَقَ السَّفِيْنَةَ).
قِيْلَ : إنهُ قَلَعَ لوحين مما يلِي الماءَ ، فحشَاهما موسى بثوبهِ و { قَالَ } ؛ منكراً عليهِ : { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } ؛ أي مُنْكَراً ، ثم تَنَحَّى موسى فجلسَ ، وقالَ : ما أصنعُ في اتِّباع هذا الرجلِ الذي يظلمُ الناسَ؟! كنتُ في بني اسرائيلَ أقرأُ عليهم التوراةَ بُكْرَةً وعشيَّة ويقبَلُون منِّي ، فتركتُ ذلكَ وصَحِبْتُ هذا الظالِمَ...
فقال له الخضرُ بعد ما أخرجَ أهلُ السفينةِ متاعهم إلى الساحل : أتدري ما تحدث به نفسك ؟ قال : ما هو ؟ فأخبره بما حدَّث به نفسه ، ثُم { قَالَ } ؛ له الخضرُ : { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } ؛ أي لِمَا تركتُ من عهدِك ووصيَّتِك ، وَقِيْلَ : أرادَ به النسيانَ الذي هو ضدُّ الذِّكر.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أي لا تُكلِّفْني مشقَّةً ، وعامِلني باليُسْرِ لا بالعسرِ ، ولا تضيِّقْ عليَّ في صُحبتِي إياكَ. وأصلُ الرَّهَقِ : الْغَشَيَانُ ، يقالُ : رَهَقَ الفارسُ فلاناً إذا غَشِيَهُ فأدركَهُ.
(0/0)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } ؛ قال سعيدُ بن جبير : (وَجَدَ الْخَضِرُ غُلْمَاناً ، فَأَخَذ غُلاَماً وَضِيْءَ الْوَجْهِ). قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ مِنْ أحْسَنِهمْ وَأصْبَحِهمْ ، فَأَخَذهُ مِنْ بَيْنَهِمْ فَأصْرَعَهُ وَأضْجَعَهُ ، ثُمَّ ذبَحَهُ بالسِّكِّيْنِ ، وَكَانَ غُلاَماً لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ).
وَقِيْلَ : إنهُ اجتذبَ رأسَهُ فقلعَهُ ، وَقِيْلَ : نزعَ رأسَهُ من جسدهِ ، وَقِيْلَ : رفصَهُ برجلهِ فقتلَهُ ، وَقِيْلَ : ضربَ رأسَهُ فقتلَهُ ، وكان اسمُ الغلامِ خشيود ، وَقِيْلَ : جيشور. و { قَالَ } لهُ موسى حين رأى ذلكَ منهُ : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ } ؛ أي أقَتَلْتَ نفساً بريئةً من الذُّنوب ، لَم تجب ما يوجبُ قتلَها. ومن قرأ (زَاكِيَةً) فمعناهُ : طاهرةً من الذُّنوب لَم تبلغِ الْحُلُمَ ، { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } ؛ أي قَطِيعاً مُنْكَراً لا يعرفُ في شَرْعٍ.
وقد اختلفُوا في هذا الغلامِ أنَّهُ كان بالِغاً أم لَم يكن بالغاً ، إلاّ أن قولَهُ (بغيرِ نفسٍ) فيه دليلٌ على أنه بالغاً ، لأن غيرَ البالغِ لا يُقْتَلُ ، وإن قَتَلَ غيرَهُ ، وكان هذا الغلامُ يقطعُ الطريقَ ، ويلجأُ إلى أبويهِ فيحلفان دونَهُ ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِراً ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } أي مُنْكَراً عظيماً. قال القتيبي : (النُّكُرُ أبْلَغُ مِنَ الإمْرِ فِي الإنْكَارِ ؛ لأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أشَدُّ مِنْ خَرْقِ السَّفِيْنَةِ) ، وقالَ الزجَّاجُ : (الإمْرُ أبْلَغُ فِي الإنْكَارِ ؛ لأَنَّ خَرْقَ السَّفِيْنَةِ يُوجِبُ غَرْقَ أهْلِهَا ، وَذلِكَ أعْظَمُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا } ؛ أي بعدَ هذه الكرَّةِ ، { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } ؛ إنْ طلبتُ صحبتَكَ ، { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } ؛ أي بَلغْتَ من عندي إلى وقتِ العُذْرِ. رويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " رَحِمَ اللهُ أخِي مُوسَى اسْتَحْيَا ، فَقَالَ إنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي ، وَلَوْ ثَبَتَ مَعَ صَاحِبه لأَبْصَرَ الأَعَاجِيْبَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن لَّدُنِّي } قرأ العامَّةُ بتشديدِ النونِ وهو الأجودُ ؛ لأنَّ أصلَ (لَدُنْ) الإسكانُ ، فإذا أضفتَها إلى نفسِكَ رُدَّتْ نوناً ليسلمَ سكونُ النون الأُولَى ، كما يقولُ عن زيدٍ وَعَنِّي. ومَن قرأ بتخفيفِها قال (لَدُنِ) اسمٌ غير متمكّن ، فيجوزُ حذفُ النونِ منه.
(0/0)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } ؛ قيل هي قريةُ أنطاكيَّة ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا } أي سَأَلاَ لَهم الطعامَ ، { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " وَكَانُوا أهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } ؛ أي جِدَاراً مَائِلاً مُشْرِفاً على الانْهِدامِ يكادُ يسقطُ بسرعةٍ. قال وهبُ : (كان جِداراً طولهُ في السَّماءِ مائةُ ذراعٍ) وأمَّا قولهُ { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } هذا من مَجَازِ كلام العرب ؛ لأن الجدارَ لا إرادةَ لهُ ، وإنَّما معناه : قَرُبَ وَدَنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَقَامَهُ }. قال ابنُ عبَّاس : (هَدَمَهُ ثُمَّ أعَادَ بنَاءَهُ). وقال ابنُ جبير : (مَسَحَ الْجِدَارَ وَرَفَعَهُ بيَدِهِ فَاسْتَقَامَ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } قرأ أبو رجاءٍ (يُضِيْفُوهُمَا) مخفَّفة.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَانُوا أهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً " ، وقال قتادةُ في هذه الآية : (شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لا تُضَيِّفُ الضَّيْفَ ، وَلاَ تَعْرِفُ لابْنِ السَّبيْلِ حَقَّهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } ؛ أي قالَ لهُ موسى : لاتَّخذتَ على إقامتِكَ للجدار جُعلاً. وقُرِئَ (لتَخِذْتَ) ومعناهُ معنى الأول.
(0/0)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } ؛ أي هذا الكلامُ والإنكارُ على تركِ الأجر هو الْمُفَرِّقُ بينَنا ، لأنَّكَ قد حكمتَ على نفسكَ ، وَقِيْلَ : معناهُ هذا فراقٌ بينَنا ؛ أي فراقُ إيصالنا ، والبَيْنُ مِن الأضدادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } ؛ أي سأخبرُكَ بتأويلِ الأشياء التي رأيتَها منِّي فلم تصبرُ علَيْها.
(0/0)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } ؛ يعني السفينةَ التي كانت لفقراءٍ يعملونَ في البحرِ لَم يكن لَهم مالٌ غيرُها ، وكانوا يعملونَ عليها ، ويأخذونَ إجرَتَها ، { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } ؛ بالخرقِ ، { وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } ؛ يقال له جَلَنْدُ ، { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } ؛ صحيحةٍ ، { غَصْباً } ؛ وقد يذكرُ (وَرَاءَ) بمعنى أمامَ ، وفيه دليلٌ أن للوصيِّ أنّ يعيبَ مالَ اليتيمِ إذا رأى فيه مصلحةً.
(0/0)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى { وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } ؛ أي الغلامُ الذي قَتَلَهُ كان كافراً ، وكان أبواهُ مؤمنين ، { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } ؛ فلذلكَ قَتَلَهُ ، وكان قد أعلمَهُ اللهُ بذلك ، قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِراً ، وَلَوْ عَاشَ لأَرْهَقَ أبَوَيْهِ طُغْيَاناً وَكُفْراً ".
(0/0)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } ؛ أي فأرادَ اللهُ أن يبدلَهما ولَداً خيراً منهُ صلاحاً وطهارةً ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي وأوْصَلَ للرَّحمِ وأبرَّ بوالديهِ. قال ابنُ عبَّاس : (أبدَلَهُمَا اللهُ بهِ جَاريَةً تَزَوَّجَهَا نَبيٌّ مِنَ الأَنْبيَاءِ فَوَلَدَتْ سَبْعِيْنَ نَبيّاً).
(0/0)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ } ؛ أي في القريةِ المذكورة ، وكان اسمُ اليتيمين : أصْرَماً وَصَرِيْماً ، { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } ؛ قِيْلَ : إنه كان مَالاً ، وَقِيْلَ : كان عِلماً.
وعن ابنِ عبَّاس : (أنه كانَ لَوحاً من ذهبٍ وفيه : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ؛ لاَ إلَهَ إلاّ اللهُ ؛ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ، عَجِبْتُ لِمن أيقنَ بالموتِ كيف يفرحُ ، ولِمن أيقنَ بالنارِ كيف يضحكُ ، وعجبْتُ لِمن أيقنَ بالقَدَر كيف يحزنُ ، وعجبتُ لِمن يرى الدُّنيا وتقلُّبَها بأهلِها كيف يطمئنُّ إليها). وَقِيْلَ : كان ذهباً وفضَّةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } ؛ أي كان ذا أمانةٍ ، كان يقالُ له : كاشح ، وَقِيْلَ : إنه مِن الأنبياءِ. قال سعيدُ بن جُبير عن ابنِ عبَّاس : (حُفِظا بصَلاَحِ أبيهِمَا وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمَا صَلاَحاً). قال جعفرُ بن محمَّد : (كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الأَب الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ).
وعن محمَّد بنِ المنكدرِ قال : (إنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَحْفَظُ بالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأهْلَ دُوَيْرَتِهِ ، وَأهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ وَأُسْرَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيْهَا ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللهِ مَا دَامَ فِيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } ؛ أي فأرادَ ربُّكَ بالأمرِ تسويةِ الجدار إلى أن يَكْبُرَا ويعقلاَ ، { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً } ؛ أي نعمةً ؛ { مِّن رَّبِّكَ } ؛ وهذا نُصِبَ على المصدريَّة ؛ أي رَحِمَهما اللهُ بذلك رحمةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } ؛ وإنَّما فعلتهُ بأمرِ الله تعالى ، { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً } ؛ وأصلهُ تَسْتَطِعْ ؛ إلاّ أن الطاءَ والتاء من مخرجٍ واحد ، فحذفَ التاء لَمَّا اجتمعا لتخفيفِ اللفظ.
وروَي أن الخضرَ لَمَّا أرادَ أن يُفارقَ موسى أوصاهُ ، قال يا موسَى : أفْرِغ عن اللَّجَاجَةِ ولا تَمشِ في غيرِ حاجة ، ولا تضحَكْ من غير عجبٍ ، ولا تعيِّرِ المذنبين بخطاياهم ، وابْكِ على خطيئتك يا ابنَ عمرانَ.
(0/0)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً } ؛ يعني يسألُكَ اليهودُ يا مُحَمَّدُ عن خبرِ ذي القَرنَين { قُلْ سَأَتْلُواْ } سأقرأ عليكم خبرَهُ. قال مجاهدُ : (مَلَكَ الأَرْضَ أرْبَعةً : مُؤْمِنَانِ وَكَافِرَانِ ، فَالْمُؤْمِنَانِ سُلَيْمَانُ وَذُو الْقَرْنَيْنِ ، وَالْكَافِرَانِ النَّمْرُودُ وَبَخِتْنَصِّرُ).
واختلفُوا في تسميتهِ بذِي القرنَين ، فقال بعضُهم : أنه مَلَكَ فارسَ والرُّوم ، وَقِيْلَ : لأنه دَعَا قومَهُ إلى التوحيدِ ، فضربوهُ على قرنهِ الأيسر ، وَقِيْلَ : على قَرْنَيْهِ ، وَقِيْلَ : لنه دخلَ النورَ والظلمة ، وَقِيْلَ : لأنه بَلَغَ قُطْرَي الأرضِ ، وكان اسمهُ اسْكَنْدَرُ.
(0/0)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ } ؛ أي مَكَّنَّاهُ في الأرضِ ، { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ؛ أي من كلِّ شيء تستعينُ به الملوكُ على فتحِ المدائن ومحاربةِ الأعداء ، (سَبَباً) أي بلاداً إلى حيث أرادَ ، وَقِيْلَ : قَرَّبْنَا له أقطاراَ الأرضِ ، كما سَخَّرْنَا الريحَ لسليمان. وقال عليٌّ رضي الله عنه : (سَخَرَ اللهُ لِهُ السَّحَابَ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا وَمَدَّ لَهُ فِي الأَسْبَاب ، وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ ، وَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ) وهذا معنى تَمَكُّنِهِ في الأرضِ ، وهو أنه سَهَّلَ عليه المسيرَ فيها ، وذلَّلَ له طُرُقَها.
(0/0)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَتْبَعَ سَبَباً } ؛ أي طريقاً تؤدِّيه إلى مغرب الشَّمس. قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } ؛ أي إلَى قومٍ لَم يكن بينَهم وبين مغرب الشَّمس أحدٌ ؛ لأنه لا يُمكنه أن يبلُغَ موضعَ غروب الشَّمس. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ؛ أي رآها تغربُ في الماءِ ، وَقِيْلَ : في عينٍ ذات حَمَأَةٍ وهي الطينُ الأسودُ الْمُنْتَنُ.
وتقرأ (حَامِيَةٍ) أي حارَّةٍ ، وهي قراءةُ العبادلةِ الثلاثةِ - عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - وابنُ عامرٍ وأهلُ الكوفةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } ؛ أي عند العينِ ، { قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ } ؛ قِيْلَ : في هذا دليلٌ أن ذا القرنين كان نبيّاً ؛ لأن الانسانَ لا يعلمُ أمرَ الله إلاّ بالوحيِ ، ولا يجوزُ الوحيُ إلاّ إلى الأنبياءِ ، وَقِيْلَ : كان معه نبيٌّ ، فأوحَى اللهُ إلى ذلك النبيِّ ، وفي الجملةِ لا يُمكن إثباتُ النبوَّة إلاّ بدليلٍ مقطوع به.
ورويَ " عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئِلَ عن ذي القرنينِ قال : " هُوَ مَلِكٌ يَسِيْحُ فِي الأَرْضِ ". قال ابنُ الأنباريِّ : (إنَّهُ كَانَ نَبيّاً ، فَإنَّ اللهَ قَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِلأنْبيَاءِ ، إمَّا بتَكْلِيْمٍ أوْ بوَحْيٍ ، وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبيّاً ، قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ ألْهَمْنَا كقولهِ{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى }[القصص : 7] أي ألْهَمْنَاها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } ؛ أي قُلنا له إما أن تَقْتُلَهُمْ على الكفرِ إن أبَوا الإسلامَ ، وإما أن تأسِرَهم فتعلِّمَهم الهدى وتبصِّرَهم الرشادَ.
(0/0)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ } ؛ أي من أسرفَ ، { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } ؛ أي نقتلهُ ، وكلُّ مَن أشركَ فقد ظلمَ نفسه ، { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ } ؛ في الآخرةِ بعد قتلي إيَّاهُ ، { فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } ؛ يعني في النارِ أنكَى من القتلِ وأعظم.
(0/0)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى } ؛ أي فلَهُ في الآخرة جزاءَ الْحُسنَى أي الجنةَ بالطاعةِ التي عمِلَها في الدنيا. وقرأ أهلُ الكوفةِ (جَزَاءً) نصباً وهو مصدرٌ وقعَ موقعَ الحالِ ؛ أي فلهُ الْحُسْنَى مَجْزِيّاً بها. قال ابنُ الأنباريِّ : (جَزَاءً نصباً على المصدر ؛ أي فيُجْزَى الْحُسْنَى جَزَاءً). قولهُ : { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } ؛ أي سنأمرهُ في الدُّنيا بما نُيَسِّرُ عليهِ.
(0/0)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } ؛ أي سَلَكَ طريقاً آخرَ نحو المشرقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } ؛ أي حتى إذا انتهىَ إلى آخرِ العمارة من جهةِ المشرق وجدَ عند الشمسِ قوماً لَم يكن لَهم جبلٌ ولا شجرٌ ولا شيء يسترُهم عن الشمسِ. قال لكلبيُّ : (مَعْنَاهُ حُفَاةً عُرَاةً يَفْتَرِشُ أحَدُهُمْ أُذُنَهُ وَيَلْبَسُ الأُخْرَى).
(0/0)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } ؛ أي وجدَ قوماً كذلك. الذين كانوا عند مغرب الشَّمسِ ، وَقِيْلَ معناهُ : كما بَلَغَ مغربَ الشمسِ وكذلك بَلَغَ مطلعَها ، ثم استأنفَ وقال { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } ؛ أي عِلْماً.
(0/0)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } ؛ أي ثُم أتبعَ سبباً ثالثاً مما يبلغهُ قطراً من أقطارِ الأرض ، وَقِيْلَ : أتْبَعَ سَبَباً : حتى إذا بلغَ طريقاً من المشرقِ نحو الرُّومِ ، وحتى إذا بلغَ بين الجبلين الذين جعلوا الرَّدْمَ بينهما ، وهما السدَّانِ.
قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو : (السَّدَّيْنِ) بفتحِ السِّين ، وقرأ الباقون بضمِّها ، وهما لُغتان ، { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } ؛ الجبلينِ ، { قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ؛ أي لا يكادون يفقهونَ قولَ غيرِهم ، ولا يعرفون لُغة غيرهم.
قرأ حمزةُ والكسائيُ وخلف (يُفْقَهُونَ) بضمِّ الياء وكسر القاف ، ومعناهُ : لا يكادون يفقهونَ أحداً قولاً. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (لاَ يَفْقَهُونَ كَلاَمَ أحَدٍ ، وَلاَ أحَدٌ يَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ).
(0/0)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي قالوا بإشارةٍ أو ترجُمانٍ ؛ لأنه قد تقدَّم أنَّهم لا يفقهونَ قولاً ، إن يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، وهما قبيلتان من أولادِ يافث بنِ نوحٍ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ ؛ أي يفسدونَ أموالَ الناسِ ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ بغيٍ وظُلْمٍ. قال الكلبيُّ : (كَانُواْ يَخْرُجُونَ إلَى أرْضِ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ شَكَوهُمْ إلَى ذِي الْقَرْنَيْنِ أيَّامَ الرَّبيْعِ فَلاَ يَدَعُونَ فِيْهَا شَيْئاً أخْضَرَ إلاّ أكَلُوهُ ، وَلاَ يَابساً إلاَّ احْتَمَلُوهُ).
" وعن عبدِالله قالَ : سَأَلْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، قَالَ : " يَأْجُوجُ أُمَّةٌ وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ ، كُلُّ أُمَّةٍ أرْبَعُمِائَةِ ألْفٍ ، لاَ يَمُوتُ أحَدُهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى ألْفِ ذكَرِ مِنْ صُلْبهِ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلاَحَ " قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا ؟ قَالَ : " هُمْ ثَلاَثَةُ أصْنَافٍ : صِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعُشْرُونَ ذِرَاعاً ، وَصِنْفٌ طُولُهُ وَعِرْضُهُ سَوَاءٌ عُشْرُونَ وَمِائَةُ ذِرَاعٍ أيْضاً ، وَهُمُ الَّذِيْنَ لاَ يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ وَلاَ يَمُرُّونَ بفِيْلٍ وَلاَ جَمَلٍ وَلاَ وَحْشٍ وَلاَ خِنْزِيْرٍ إلاَّ أكْلُوهُ ، لَهُمْ مَخَالِبُ فِي أيْدِيْهِمْ وَأضْرَاسٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ ، وَأنْيَابٌ يُسْمَعُ لَهَا حَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْجَرَسِ فِي حُلُوقِ الإبلِ ، وَلَهُمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيْهِمْ ، وَمَا يُتَّقَى مِنْهُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ ، يَعْوُونَ عَوِيَّ الذِّئَاب ، وَيَتَسَافَدُونَ كَتَسَافُدِ الْبَهَائِمِ إذا الْتَقَوْا ".
قال وهبُ : (يَشْرَبُونَ مَاءَ الْبَحْرِ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهَا ، وَيَأْكُلُونَ الْخَشَبَ وَالشَّجَرَ ، وَمَنْ ظَفَرُواْ بهِ مِنَ النَّاسِ أكَلُوهُ). وقال كعبٌ : (هُمْ زيَادَةٌ فِي وَلِدِ آدَمَ ، وَذلِكَ أنَّ آدَمَ احْتَلَمَ ذاتَ يَوْمٍ فَامْتَزَجَتْ نُطْفَتُهُ فِي التُّرَاب ، فَخَلَقَ اللهُ مِنْ ذلِكَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ، فَهُمْ مُتَّصِلُونَ بنَا مِنْ جِهَةِ الأَب دُونَ الأُمِّ).
وقال ابنُ عبَّاس : (هُمْ عَشْرَةُ أجْزَاءٍ وَوَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ جُزْءٌ). وَقِيْلَ : إن التُّرْكَ منهم إلاّ أن أولئكَ أشدُّ فساداً من التُّركِ ، فتباعدُوا عن الناسِ ، كما ينعزلُ اللُّصوصُ. ويأجوجُ ومأجوج اسْمانِ أعجميَّان لا ينصرفان ؛ لأنَّهما معرفةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } ؛ أي قالوا هل نجعلُ لك بعضاً من أموالِنا ضربتهُ في كلِّ سنةٍ على أن تجعلَ بيننا وبينهم حاجزاً وسدّاً. والرَّدْمُ هو السدُّ. وردمْتُ البابَ ؛ أي سَدَدْتُهُ ، والْخَرْجُ والخراجُ واحدٌ.
(0/0)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } ؛ أي قال لَهم ذو القَرنين : مَا مَكَّنْي اللهُ مِن الإتساعِ في الدُّنيا خيرٌ من خَراجِكم الذي تبذلونه لِي ، يريدُ ما أعطانِي اللهُ وملَّكَني أفضلُ من عطيَّتِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } ؛ أي الرِّجالِ والآلاتِ ، { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } ؛ الرَّدْمُ أشدُّ الحجاب ، وهو أكبرُ من السدِّ.
(0/0)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ } ؛ والزُّبَرَةُ القطعةُ العظيمة ، فأتَوهُ بها فبناهُ ، { حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ } ؛ أي حتى إذا مَلأَ ما بين الجبلينِ ، وسَمَّاهُما صَدَفَيْنِ ؛ لأنَّهما يتصادفان ، أي يتقابَلان ، فلما وضعَ بينهما الحديدَ وجعلَ " بين " كلَّ قطعتَي حديدِ حطباً حتى ملأَ ما بين الجبلين ، فأمرَ بالنارِ فأُرسِلت فيه ، و { قَالَ } ؛ للحدَّادين : { انفُخُواْ } ؛ بالمنافيخ ، { حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } ؛ حتى إذا صارَ الحديدُ كالنارِ ، { قَالَ آتُونِي } ؛ أي أعطونِي قِطْراً ، { أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } ؛ وهو النحاسُ الذائب أصبُّهُ على الحديدِ والحطب فيتقطَّرُ كما يتقطرُ الماء ، ففعلَ حتى إذا جعلَ بعضه في بعضٍ ، فصارَ الجميعُ شيئاً واحداً جبلاً صَلْداً من حديدٍ ونُحاس. قيل إنه حفر له الأساس حتى بلغ الماء ، ثم جعل عرضه خمسين فرسخًا ثم ملأه وشرفه.
(0/0)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
قولهُ تعالى : { فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } ؛ أي ما قدَرُوا أن يَعْلُوهُ لارتفاعهِ ومَلاسَتِهِ ، وما قدَرُوا أن ينقِبُوهُ من أصلهِ ؛ لشدَّتهِ وصلابتهِ.
وعن أبي هريرةَ : " أنَّّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ ، ثُمَّ يَقُولُونَ : نَرْجِعُ إلَى غَدٍ وَنِجِيْءُ أيْضاً نَحْفِرُهُ ، فَيَأْتُونَهُ غَداً وَقَدْ أعَادَهُ اللهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ أنْ يَحْفِرُوهُ "
(0/0)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ هَـاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } ؛ أي قال لَهم ذُو القرنينِ لَمَّا فَرَغَ من بنائهِ ، هذا التمكينُ الذي أدركتُ به السدَّ رحمةٌ مِن ربي من حيثُ ألْهَمني وقوَّانِي ، ونعمةٌ مِن ربي عليكم ، { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ } ؛ أي وقتُ اشتراطِ السَّاعة جعلَ السدَّ كَسْراً. ومن قرأ (دَكّاً) فمعناهُ أرْضاً منبسطةً ، يقالُ : نَاقَةٌ دَكَّاءٌ إذا لَم يكن لَها سِنَامٌ ، { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } ؛ أي كان تقديرهُ لِخروجهم صِدْقاً كائناً.
(0/0)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ؛ أي تركنا يأجوجَ ومأجوجَ يومَ انقضاءِ أمر السدِّ يَموجُونَ في الدُّنيا مختلطين لكثرَتِهم ، يقالُ : مَاجَ الناسُ إذا دخلَ بعضُهم في بعضٍ حيَارَى كمَوْجِ الماءِ ، فيخرجون على الناسِ فيشرَبُون الماءَ ، يأكلونَ الدوابَّ ، ومَن ظَفَرُوا به من الناسِ أكلوهُ ، فاذا كَثُرَ فسادُهم في الأرضِ بعثَ اللهُ عليهم بعثاً فيقتلهم فيموتون كموتِ الجرادِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } ؛ يعني النفخةَ الثانيةَ التي تكون للحَشْرِ يُحْشَرُ بها الناسُ من قبورِهم ، ويُجمَعُون جَمعاً في الموقفِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً } ؛ أي وأظْهَرْنَا جهنَّمَ يومَ القيامةِ للكافرينَ حتى يَرَوا فيها جزاءَ أعمالِهم مُعَايَنَةً.
(0/0)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } ؛ أي أظْهَرْنَا جهنَّمَ حتى شاهَدَها الناسُ الذين كانت أعينُ قلوبهم فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي لِما تراءى لها من الرَّين والغشاوةِ ، { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } ؛ أي كان يثقلُ عليهم ذِكْرُ اللهِ تعالى.
(0/0)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَآءَ } ؛ أي أيَحْسَبُ الكفارُ أن ينفعَهم اتِّخاذُهم عبادي مثلَ المسيحِ والملائكة الذين عبدُوهم مشن دونِي أرْبَاباً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً } ؛ أي جعلناها مَنْزِلاً ومَأْوىً لَهم ، ومعدَّةً عندنا ، كما يُهَيَّأُ المنْزِل للضَّيف.
(0/0)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : هل نُخبرُكم بالآخْسَرِيْنَ أعْمَالاً في الآخرةِ يعني كفار أهل الكتاب واليهودَ والنصارى ؟ وقال عليٌّ رضي الله عنه : (هُمُ الرُّهْبَانُ وَالْقِسِّيْسُونَ حَبَسُواْ أنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ) وَقِيْلَ : هم جميعُ اليهودِ والنَّصارى ، { الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ؛ أي بَطَلَ عملُهم واجتهادُهم في الدِّين ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } ؛ أي وهم يظنُّونَ أنَّهم يعملون صالِحاً.
ثُم بَيَّنَ مَن هم فقال : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } ؛ أي جَحَدُوا دلائلَ توحيدهِ ، وأنكَرُوا البعثَ بعد الموتِ ، { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ؛ أي بَطَلَتْ حسناتُهم التي عَمِلُوها مثل صِلَةِ الرَّحمِ ، والإحسانِ إلى الناس ، فلا يَرَوْنَ سعيَهم مع الكفرِ شيئاً ، { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ } ؛ ولا يكون لَهم عند اللهِ ، { يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } ؛ قَدْراً ولا مَنْزِلَةً.
(0/0)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ } ؛ أي ذلك الإحباطُ جزاؤهم ، { وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } ؛ أي واتِّخاذهم القُرْآنَ ونبوَّة أنبيائي هُزُواً ؛ يستهزؤن بها.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً } ؛ الْفرْدَوْسُ في اللُّغة : جَنَّةٌ ذاتُ كُرُومٍ. قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، الْفِرْدَوْسُ أعْلاَهَا ، مِنْهَا تَتَفَجَّرُ الأَنْهَارُ الأَرْبَعَةُ ، فَإذا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ " وقال صلى الله عليه وسلم : " جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أرْبَعٌ : جَنَّتَان مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيْهِمَا مِنْ فِضَّةٍ ، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذهَبٍ آنِيَتُهَمَا وَمَا فِيْهِمَا مِنْ ذهَبٍ ".
وَقِيْلَ : خلقَ اللهُ الفردوسَ بيدهِ يفتحُها كلَّ يومٍ خمسَ مرَّات ، فيقولُ : ازْدَادِيَ حُسْناً وَطِيْباً لأَوْلِيَائِي. وقال قتادةُ : (الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأفْضَلُهَا وَأرْفَعُهَا) وقال أبو أُسَامَةَ : (الْفِرْدَوْسُ سُرَّةُ الْجَنَّةِ). وقال كعبٌ : (لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ جَنَّةٌ أرْفَعُ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ، فِيْهَا الآمِرُونَ بالْمَعْرُوفِ ، والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
(0/0)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } أي مُقيمين فيها لا يطلبونَ عنها تِحوِيلاً. قال صلى الله عليه وسلم : " إنَّ الْفِرْدَوْسَ أرْفَعُ مَوْضِعٍ فِي الْجَنَّةِ وَأحْسَنُهُ ".
(0/0)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } ؛ الآيةُ ، وذلكَ أنه لَمَّا نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }[الاسراء : 85] وقالَتِ اليهودُ والنصارى : أوْتِيْنَا عِلماً كثيراً ، أوْتِيْنَا التوراةَ فيها عِلْمُ كلِّ شيء ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ؛ أي لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِعِلْمِ ربي وحكمتهِ ، فيكتبُ من البحرِ كما يكتبُ من المدادِ ، { لَنَفِدَ الْبَحْرُ } ؛ وتكسَّرَتِ الأقلامُ ، { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } ؛ أي بمثل البحر ، { مَدَداً } ؛ لِهذا البحرِ. ويقالُ أرادَ بـ (كَلِمَاتِ رَبي) معانِيَ القُرْآنِ والأحكامِ المستنبطةِ منه ، والْمَدَدُ شيءٌ بعدَ شيءٍ.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ : إنَّمَا أنَا بَشَرٌ آدَمِيٌّ مثلُكم. قال ابنُ عبَّاس : (عَلَّمَ اللهُ نَبيَّهُ التَّوَاضُعَ لِئَلاَّ يَتَبَاهَى عَلَى خَلْقِهِ ، فَأَمَرَهُ اللهُ أنْ يُقِرَّ عَلَى نَفِسِهِ بأَنَّهُ آدَمِيٌّ كَغَيْرِهِ إلاَّ أنَّهُ أكْرِمَ بالْوَحْيِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَـاهُكُمْ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ؛ لا شريك له ، { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } ؛ أي يَخْشَى لقاءَ ربه ويخافُ البعثَ في المصيرِ إليه ، { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } ؛ أي خالِصاً لا يرَى في عبادةِ الله أحداً ، { وَلاَ يُشْرِكْ } ؛ مع اللهِ غيرَهُ في العبادةِ.
وقال سعيدُ بن جبير : معناه (وَلاَ يَرَى) { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } ؛ وعن عطاء عن ابن عباس قال : (قال : وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أحَداً ، ولَم يقُلْ : ولا يشركْ بهِ ؛ لأنه أرادَ العملَ الذي يعملهُ للهِ ، ويحبُّ أن يُحمدَ عليهِ). قال الحسنُ : (هَذا فِي مَنْ أشْرَكَ بعَمَلِهِ يُرِيْدُ اللهَ بهِ وَالنَّاسَ).
وعن عُبادة بن الصامتِ : قال سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول : " مَنْ صَلَّى صَلاَةً يُرَائِي بهَا فَقَدْ أشْرَكَ ، وَمَنْ صَامَ صَوْماً يُرَائِي بهِ فَقَدْ أشْرَكَ " وقرأ هذه الآية { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } "
وعَن أبي هريرةَ وأُبَيِّ بنِ كعب عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الكَهْفِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ يَكُونُ فِيْهَا ، وَمَنْ قَرَأ الآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِهَا حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ إلَى مَكَّةَ ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَضْجَعِهِ. وَإنْ كَانَ مَضْجُعُهُ بمَكَّةَ فَتَلاَهَا كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ مِنْ مَضْجَعِهِ إلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " وَمَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ ثُمَّ أدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ ". وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهْوَ مَعْصُومٌ إلَى سِتَّةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ ، فَإنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ ".
(0/0)
كهيعص (1)
{ كهيعص } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (أوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ ثَنَاءٌ أثْنَى بهِ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْكَافُ مِنَ كَافٍ ، وَالْهَاءُ مِنْ هَادٍ ، وَالْيَاءُ مِنْ حَكِيْمٍ ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيْمٍ ، وَالصَّادُ مِنْ صَادِقٍ وَصَمَدٍ). وَقِيْلَ : معناهُ : كافٍ لخلقهِ هادٍ لعبادهِ ، يده فوقَ أيديهم ، عالِمٍ ببَريَّتهِ ، صادقٍ في وعدهِ.
(0/0)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } ؛ أي بهذا اذكر رحمةَ ربك على زكرَّيا ، أو ما يُتْلَى عليكم ذكرُ رحمةِ ربكَ ، و(عَبْدَهُ) منصوبٌ بالرحمة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } ؛ أي إذ دعَا ربَّهُ سِرّاً في جوفِ اللَّيلِ مُخلصاً لَم يطَّلِعُ عليه إلاَّ اللهُ ، { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } ؛ أي ضَعُفَ منِّي.
قال قتادةُ : (شَكَا ذهَابَ أضْرَاسِهِ) ، والوَهَنُ في اللغة : نُقْصَانُ الْقُوَّةِ ، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } ؛ يقولُ : شِخْتُ وَضَعُفْتُ ، ومن الموتِ قَرُبْتُ. والاشتعالُ : انتشارُ شُعَاعِ النَّارِ ، واشتعالهُ في الشَّيْب من أحسنِ الاستعارةِ ؛ لأنه ينتشرُ في الرأسِ ، كما ينتشرُ شُعاع النارِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَيْبًا) نُصِبَ على المصدرِ ، وهذا يدلُّ على أن أفضلَ الدُّعاء دعاءُ السرِّ ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الدُّعَاءِ الْخَفِيُّ ، وَأفْضَلُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } ؛ أي كنتَ تُجيبُنِي إذا دعوتُكَ ، وقد عوَّدْتَني الإجابةَ في ما مضى فلِمَ لا تُجيبُنِي.
(0/0)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآءِى } ؛ أي خِفْتُ العصبةَ وبَنِي العمِّ أن يرِثُوا عِلمي دون مَن كان مِن نَسْلِي ، ويقالُ : خِفْتُهُمْ على الدِّين من ورائي ؛ لأنَّهم كانوا من أشرار بني إسرائيل. قرأ يحيى بن يعمر : (خَفَّتِ) بفتحِ الخاء وتشديدِ الفاء ، و(الْمَوَالِيْ) بسكون الياء ، يعني ذهَبَتِ الموالِي.
وقلتُ : وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن وَرَآءِى } أي بعدَ موتِي. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً } ؛ أي عَقِيماً من الولدِ ، والرجلُ العَاقِرُ : الذي لا يولَدُ لهُ. وامرأتهُ هي أختُ أُمِّ مرَيم بنت عمرانَ بن ماثان.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } ؛ أي أعطِني مِن عندك ولداً ، { يَرِثُنِي } ؛ يَرِثُ نبوَّتِي ومكاني { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ؛ العلمَ والنبوَّةَ ، أرادَ بذلك يعقوبَ بنِ ماثان وهم أخوالُ يَحيى ، وبنو ماثان كانوا رؤساءَ بني إسرائيل ، وليسَ يعقوبُ هذا أبو يوسفَ. قرأ أبو عمرو والكسائي : (يَرِثُنِي وَيَرِثْ) بالجزمِ فيهما على جواب الدُّعاء ، وقرأ الباقون برفعهما على الحالِ والصِّفة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيّاً } أي وَالِياً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } ؛ أي وَفِّقْهُ للعملِ حتى يصيرَ مِمَّن ترضاهُ. وقال أبو صالِح : (مَعْنَاهُ : وَاجْعَلْهُ رَب نَبيّاً كَمَا جَعَلْتَ أبَاهُ). وَقِيْلَ : إجْعَلْهُ صالِحاً تقيّاً بَرّاً مرْضِيّاً.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين أنَّ معنى قَوْلُهُ تَعَالَى { يَرِثُنِي } أي يرِثُ مالِي ، إلاّ أنَّ حملَ الآية على ميراثِ العلم أولَى ؛ لأن الأنبياءَ كانوا لا يَشُحُّونَ بالمالِ ، ولا يتنافسونَ على مصيرِ المال بعد موتِهم إلى مستحقِّهِ ؛ ولأنه قال (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ولَم يُرِدْ بذلكَ المالَ ، ولأنَّ البنيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبيَاءِ - لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةً " وإنَّما دعاءُ زكريا بالولدِ لِيَلِيَ أمورَ الدِّين بعدَهُ ؛ لخوفهِ من بَنِي أعمامهِ أن يبدِّلوا دِيْنَهُ بعدَ وفاته ، وخافَ أن يستولُوا على علومهِ وكُتُبهِ فيحرِّفُونَها ، ويواكلونَ الناس بها ، ويفسدون دِيْنَهُ ، ويصدُّون الناسَ عنه.
(0/0)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ؛ معناهُ : إنَّ الله استجابَ لهُ فأوحى إليه : { يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ } أي نُفَرِّحُكَ { بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى } ؛ لأنَّ الله أحيَا به الإيْمانَ والحكمةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } قال الكلبيُّ وقتادةُ : (مَعْنَاهُ : لَمْ نُسَمِّ أحَداً قَبْلَهُ يَحْيَى) ، قال ابنُ جبير وعطاء : (لَمْ نَجْعَلُ لَهُ شَبيْهاً وَلاَ مِثْلاً ؛ لأنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلاَ يَهِمُّ بمَعْصِيَةٍ). وَقِيْلَ : لَم تلِدِ العواقرُ مِثْلَهُ.
وإنَّما قالَ { مِن قَبْلُ } لأنهُ تعالى أرادَ أن يخلُقَ بَعْدَهُ أفضلَ منه وهو مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وَقِيْلَ : إن اللهَ تعالى لَم يُرِدْ بهذا القول جمعَ الفضائلِ كلِّها ليحيَى ، وإنَّما أرادَ في بعضِها ؛ لأن الخليلَ والكليمَ كانا قبلَهُ ، وكانا أفضلَ منهُ.
(0/0)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ؛ أي قال زكريَّا لجبريلَ : يا سيِّدي مِن أين يكونُ لِي ولدٌ ، { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً } ؛ مِن الولد ، { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } ؛ أي حالَ اليأسِ والجفف.
روي أنهُ كانَ له يومئذ بضعٌ وستُّون سنةً ، والعِتِيُّ هو الذي غَيَّرَهُ طولُ الزمانِ إلى اليأسِ. قال قتادةُ : (وإنَّمَا قَالَ ذلِكَ لِنُحُولِ عَظْمِهِ) يقالُ : رجلٌ عَاتٍ إذا كان قاسيَ القلب غيرَ ليِّن. وقرأ حمزةُ والكسائي : (عِتِيّاً) بكسرِ العين وهُما لُغتان ، وقد تقدَّم أن هذا القولَ من زكريا لَم يكن على جهةِ الإنكار ، ولكن أحبَّ مِن أيِّ وجهٍ يكونُ أبرَدِّهِمَا إلى الشَّباب ، أو يرزقهُما الولدَ وهما على هذه الصفةِ.
(0/0)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } ؛ أي قال لهُ جبريل : هكذا قَالَ رَبُّكَ ، كما قلتُ لكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ، { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } ؛ أي من قبل يحيى ، { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } ؛ وكنتَ معدوماً. قرأ حمزةُ والكسائيُّ : (وَقَدْ خَلَقْنَاكَ مِنْ قَبْلُ) بالنون والألف.
(0/0)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً } ؛ أي قالَ زكريا : يا رب اجعل لِي علامةً أعلمُ بها وقوعَ ما بُشِّرْتُ بهِ ؛ لأتعجَّلَ الْمَسَرَّةَ ، { قَالَ آيَتُكَ } ؛ علامتُكَ ، { أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } ؛ أي لا تقدر أن تكلم الناسَ ، وأنت سَوِيٌّ لا خَرَسَ بلسانِكَ ولا آفةَ ، فإنه كان يقرأ الزَّبُورَ ويدعو اللهَ ويُسَبِّحُهُ ، ولكنه اعتقلَ كلامَهُ عن كلامِ الناس. وقوله { سَوِيًّا } أي صَحيحاً سالِماً من غيرِ بأسٍ ولا خَرَسٍ ، و(سَوِيّاً) منصوبٌ على الحال.
(0/0)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ } ؛ أي خَرَجَ عليهم من مُصَلاَّهُ مُتَغَيِّرَ اللونِ ، وهم ينتظرونه فأنكروهُ وقالوا : ما لكَ يا زكريا ؟ { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ } ؛ أي أشارَ إليهم وأوْمَأَ ، ويقالُ : كتبَ بيدهِ { أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ؛ أي صَلُّوا لله غَدْوَةً وَعَشِيَّةً ، والسُّبْحَةُ الصلاةُ ، فلما كان وقتُ حملِ امرأتهِ ومنع من الكلامِ ، خرج إليهم يأمرهم بالصلاة إشارةً ، ثم تكلم بعد ثلاث ، وأتى امرأته على طُهْرٍ ، فحملت بيَحْيَى.
(0/0)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } ؛ أي قال اللهُ ليَحْيَى بعدَ ما بَلَغَ البلغ الذي يجوزُ أن يخاطَبَ : { خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } أي اعمل بما في التَّوراةِ بجِدٍّ ومواظبةٍ وعزِيْمَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } ؛ أي أعطيناهُ الحكمةَ ، وهي الفَهْمُ لكتاب الله صَبيّاً ، وكان يحيى عليه السلام على هَيْأَةِ الصبيان ، ولهُ عقلُ البالغينَ. وقال ابنُ عبَّاس : (وَآتَيْنَاهُ النُّبُوَّةَ فِي صِبَاهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَتِ سِنِيْنَ. وروي أنهُ مَرَّ بالصِّبيانِ وهو صغيرٌ ، فقالوا : تَعَالَ نلعبُ ، فقال : مَا لِلَّعِب خُلِقْنَا.
(0/0)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً } ؛ أي وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً على قومهِ ، وَرِقَّةَ قلبٍ عليهم ؛ ليدعوَهُم إلى طاعة ربهم ، وقولهُ { وَزَكَاةً } أي عَمَلاً صالحاً وإخلاصاً ، وَقِيْلَ : معناهُ : جعلناهُ طاهراً من الذُّنوب. وَقِيْلَ : معناه : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } أي جعلناهُ رحمةً من عندنا لأبويهِ { وَزَكَاةً } أي صدقةً عليهما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ تَقِيّاً } ؛ أي مُطِيعاً مُخلصاً بجميعِ كل ما يرضاهُ الله مِن عبادهِ. قال المفسِّرون : وكانَ من تقواهُ أنه لَم يعمل خطيئةً ولا هَمَّ بها.
(0/0)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } ؛ أي لطيفاً بوالديه ، مُحسناً إليهما ، { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } ؛ أي لَم يكن مُتَكَبراً على مَن في دِينه ، ولا عاصياً لربهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ } ؛ أي سلامةٌ وسعادة مِنَّا عليه حين وُلِدَ وحين يَموتُ ، { وَيَوْمَ } ، وحين ، { يُبْعَثُ حَياً } ؛ من القبرِ. قال عطاءُ : (يُرِيْدُ سَلاَمَةً لَهُ مِنَّا).
قال سفيان بن عُيينة : (أوْحَشُ مَا يَكُونَ الْخَلْقُ فِي ثَلاَثَةِ مَوَاطِن : يَوْمَ وُلِدَ فَيَرَى نَفْسَهُ خَارجاً مِمَّا كَانَ فِيْهِ ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْماً مَا لَمْ يَكُنْ عَايَنَهُمْ ، وَأحْكَاماً لَمْ يَعْهَدْهَا ، وَيَوْمَ يُبْعَثُ فيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ لَمْ يَرَهُ ، فَخَصَّهُ اللهُ بالْكَرَامَةِ وَالسَّلاَمَةِ وَالسَّلاَمِ فِي الْمَوَاطِنِ الثَّلاَثَةِ).
وعن الحسن : (أنَّ يَحْيَى وَعِيْسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ الْتَقَيَا ، فَقَالَ لَهُ عِيْسَى : اسْتَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، وَقَالَ يَحْيَى : اسْتَغْفِرْ لِي فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، فَقَالَ عِيْسَى : بَلْ أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي ، أنَا سَلَّمْتُ عَلَى نَفْسِي ، وَأنْتَ سَلَّمَ اللهُ عَلَيْكَ).
(0/0)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } ؛ أي اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ في القُرْآنِ خَبَرَ مريَمَ ؛ لتعتبرَ الناسُ بدِينها وصلاحِها ، والمعنى اذْكُرْ خبَرَها لأهلِ مكَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذِ انتَبَذَتْ } أي تَنَحَّتْ من أهلِها ، وتفرَّدت مِمَّن كانوا معَها في الدارِ إلى مكانٍ في جانب الشَّرق ، جلست فيهِ ؛ لأنَّها كانت في الشتَّاء ، فجلست في مَشْرَقَةِ الشمسِ.
وقال عكرمةُ : (أرَادَتِ الْغُسْلَ مِنَ الْحَيْضِ ، فَتَحَوَّلَتْ إلَى مَشْرَقَةِ دَارِهِمْ لِلْغُسْلِ) { فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } ؛ أي مِن دون أهلِها سِتْراً لئلاَّ يرَوها ، فَـ ؛ بينما هي في مشرقة الدار تغتسلُ من الحيضِ ، { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } ، أي دخلَ عليها جبريل عليه السلام بعد ما فرغت من الاغتسالِ في صورة شابٍّ أمردَ حسنِ الوجه جَعْدَ الشعرِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } ؛ وإنَّما أرسلَ اللهُ جبريلَ في صورة البشرِ ؛ لتثبت مريَمَ وتقدرَ على استماعِ كلامه.
قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا رَأتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ تَقَصَّدَ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيْدٍ) ، { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } ؛ أي إنْ كنتَ تقيّاً مُخلصاً مطيعاً ، فستنتهي لتعوذِي بالله منكَ ، وَقِيْلَ : إنَّ تقيّاً كان رجُلاً من أمثلِ الناسِ في ذلك الزمان ، فقالت : إن كنتَ في الصلاحِ مثل التقيِّ ، فإنِّي أعوذُ بالرَّحمنِ منكَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } أي جبريلَ عليه السلام ، خُصَّ بالإضافةِ إلى اللهِ تعالى تشريفاً له ، وسُمِّي روحاً ؛ لأن الناسَ يَحْيَوْنَ بما جاء في أديانِهم ، كما يحيون بأرواحِ أبدانِهم.
(0/0)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } ؛ أي لأهبَ لك بأمرِ الله ولداً صالحاً طاهراً من الذنوب. ومن قرأ : (لِيَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً) فالمعنى لِيَهَبَ اللهُ لكِ.
(0/0)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } ؛ أي مِن أينَ يكون لِي ولدٌ ، { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؛ ولَم يقربني زوجٌ ، { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } ؛ أي ولَم أكن فاجرةً زانية ، والباغيةُ هي الطالبةُ للزِّنَى. قال ابنُ عبَّاس : (قَالَتْ مَرْيَمُ لَيْسَ لِي زَوْجٌ ، وَلَسْتُ بزَانِيَةٍ ، وَلاَ يَكُونُ الْوَلَدُ إلاَّ مِنَ الزَّوْجِ أو الزِّنَى).
(0/0)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكِ } ؛ أي قالَ لَها جبريلُ ، كما قلتُ لكِ قالَ ربُّك : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } ؛ أي خَلْقُهُ عليَّ هيِّنٌ من غيرِ هاتين الجهتين ، كخلقِ آدمَ ، لا أبَ ولا أُمَّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا } ؛ أي لنجعلَهُ دلالةً على قدرتِنا ورحمةً للخلقِ ، وَقِيْلَ : ورحمةً لِمن اتَّبعَهُ على دِينه وصِدقه وكان خلقهُ ، { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } ؛ أي مَحكوماً به مَفروغاً منه ، سابقاً في علمِ الله أن يقعَ.
(0/0)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } ؛ وذلك أنَّها لَمَّا سَمعت كلامَ جبريل اطمأنَّتْ إلى قولهِ ، فدَنَا منها ونفخَ في جيبها ، فوصلت تلك النفخةُ إلى بطنِها فحملت بعيسَى عليه السلام. وَقِيْلَ : نفخَ جبريلُ بها من بعيدٍ فوصلت النفخةُ إليها فحملَتْ. فلما ظهرَ حملُها انْتَبَذتْ أي خرجت وانفردَتْ ، وتَنَحَّتْ بولادتِها إلى مكانٍ بعيد من الناسِ. والانْتِبَاذُ : مأخوذٌ من نَبَذْتُ الشيءَ إذا رميتُ بهِ ، وجلسَ نُبْذةً أي ناحيةً ، والقاصِي والقصِيُّ خلافُ الدَّانِي.
واختلفوا في مُدَّةِ حَملِها ، فقال بعضُهم : تسعةُ أشهرٍ كحمل سائرِ النِّساء على ما جرت به العادةُ ، وقال : بعضُهم ثَمانية أشهرٍ ، وكان ذلك آيةً أُخرى ؛ لأنه لَم يعِشْ مولودٌ وُضِعَ لثمانيةِ أشهر غيرُ عيسى عليه السلام ، وقال بعضُهم : ستةُ أشهر ، وَقِيْلَ : ثلاث ساعات ، وَقِيْلَ : ساعةٌ واحدة.
وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (مَا هُوَ إلاَّ أنْ حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَمْلِ وَالإنْبَاذِ إلاَّ سَاعَةٌ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ بَيْنَهُمَا فَصْلاً). وقال مقاتلُ : (حَمَلَتْهُ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ ، وَوَضَعَتُهُ فِي سَاعَةٍ حِيْنَ زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهَا وَهِيَ بنْتُ عَشْرِ سِنِيْنَ ، وَقْدْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تَحْمِلَ بعِيْسَى عليه السلام). قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَكَاناً قَصِيّاً } أي مَكاناً بعيداً. قال ابنُ عبَّاس : (أقْصَى الْوَادِي فِرَاراً مِنْ قَوْمِهَا أنْ يُعَيِّرُوهَا بوِلاَدَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ).
(0/0)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ } ؛ أي ألْجَأَهَا ، ويقالُ : جاءَ بها وأجَاءَها بمعنى واحدٍ ، كما يقالُ ذهبَ بهِ وأذهبَهُ. والْمَخَاضُ : وَجَعُ الولادةِ ، وَقِيْلَ : تَحَرُّكُ الولدِ للولادة ، وَقِيْلَ : الحملُ. وقرأ عبدُالله : (فَآوَاهَا الْمَخَاضُ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } ؛ وكانت نخلةً يابسة في الصحراءِ ولَم يكن لَها سَعَفٌ أي لا رأسَ لَها ، وَقِيْلَ : كان جِذْعاً مِيتاً قد أُتِي به لبناء بيتٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَتْ يالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَـاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أي لَم أُخْلَقْ ، وَقِيْلَ : شيئاً متروكاً لا يُذكر ، والنَّسْيُ في كلام العرب : الشيءُ الحقير الذي إذا أُلْقِيَ نُسِيَ ، ولَم يُلْتَفَتْ إليه. قال السديُّ : (إنَّما تَمَنَّتْ مَرْيَمُ الْمَوْتَ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ ، خَافَتِ الْفَضِيْحَةَ).
وَقِيْلَ : للحالِ الذي دُفِعَتْ إليها من الولادةِ ، والصحيحُ : أنَّها إنَّمَا تَمَنَّتْ لعلمِها بأنَّ الناسَ سيرمُونَها بالفاحشةِ فيأثَمون بسبَبها ، فَتَمَنَّتْ أن تكون ماتت قبلَ أن تقولَ الناسُ بسببها قولاً يُسْخِطُ اللهَ تعالى. قرأ حمزةُ وحفص (نَسْياً) بفتح النون وهما لُغتان.
(0/0)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي } ؛ قال ابنُ عبَّاس والسديُّ والضحَّاك وقتادةُ : (إنَّ الْمُنَادِي مِنْ تَحْتِهَا هُوَ جِبْرِيْلُ عليه السلام ، كَأَنَّهُ كَانَ فِي مَكَانٍ أسْفَلَ مِنْ مَكَانِهَا ، فَنَادَاهَا ألاَّ تَحْزَنِي يَا مَرْيَمُ عَلَى ولاَدَةِ عِيْسَى ، فَقَدْ أحْسَنَ اللهُ لَكِ الاخْتِيَارَ ، وَجَعَلَ تَحْتَكِ سَرِيّاً). قَالَ السديُّ : (هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيْرُ ، سُمِّيَ سَرِيّاً ؛ لأَنَّهُ يَسْرِي لِجَرَيَانِهِ).
وقال الحسنُ : (هُوَ عِيْسَى ، وَهُوَ وَاللهِ السَّرِيُّ مِنَ الرِّجَالِ). وهذا التأويلُ على قراءةِ مَن قرأ (مِنْ تَحْتِهَا) بكسر الميم والتَّاء ، وهي قراءةُ نافع وحمزة والكسائي وحفص ، وقرأ الباقون بالفتحِ وهو عيسَى عليه السلام لَمَّا خرجَ من بطنِ أُمِّهِ نادَاها ألاَّ تَحْزَنِي ، { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } ؛ أي نَهراً صغيراً.
(0/0)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُزِّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (ضَرَبَ جِبْرِيْلُ ، وَقِيْلَ : عِيْسَى عليه السلام برِجْلِهِ الأَرْضَ فَظَهَرَتْ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ ، وَجَرَى تَحْتَ النَّخْلَةِ ، فَحَيَتْ بَعْدَ يُبْسِهَا فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ وَرَطِبَتْ). ومعنى الآية : حَرِّكِي وخُذِي إليكِ جذعَ النخلةِ. والباءُ فيه زائدةٌ ، تقولُ العرب : هَزَهَّ وهَزَّ بهِ ، وخُذْ بالخطامِ وخُذِ الْخِطَامَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } ؛ قرأ يعقوبُ (يُسَاقِطْ) بالياء ، يعني الجذعَ ، وقرأ حفصٌ بالتاء وضمِّها وتخفيف السِّين وكسرِ القاف. وقرأ حمزةُ (تَسَاقَطُ) بفتح التاء والقافِ مخفَّفاً ، وقرأ الباقونَ بفتحِ التاء وتشديد السين ؛ أي يَتَسَاقَطُ ، فأُدغمت الياءُ في السين. معناهُ : يُسْقِطُ عليكِ النخلةُ ، والرطبُ الْجَنِيُّ : هو الْجَنِيُّ من الثمرةِ الرطبة الطريَّة. ونُصب (رُطَباً) على التفسيرِ. ومن قرأ (تُسَاقِطْ) بالضم انتصبَ على المفعول.
(0/0)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً } ؛ أي فكُلِي من الرُّطب ، واشرَبي من النهرِ ، وقَرِّي عَيْناً بولدِكِ عيسى ، وطيبي نفساً ؛ أي يقالُ : قَرَّتْ عَيْنُهُ ؛ أي بَرَدَتْ بردَ السرورِ بما ترى ، ويقالُ : سَكَنَتْ سكونَ السُّرور برؤيةِ ما تحبُّ ، فالأولُ مِن القَرِّ ؛ والثانِي من القَرَارِ. وانتصبَ (عَيْناً) على التفسير الْمُحول ، كما يقالُ : طِيْبي نَفْساً ؛ أي طابَتْ نفسْكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً } ؛ أي فإما تَرَينَّ من الآدميِّين أحداً ، فسألَكِ عن الولدِ أو لاَمَكِ عليه ، { فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـانِ صَوْماً } ؛ أي صَمْتاً ، وكذلكَ كان يقرؤُها ابنُ مسعود وأنسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (صَمْتاً ؛ أيْ أوْجَبَتْ عَلَى نَفْسِهَا أنْ لاَ تَتَكَلَّمَ).
وقال قتادةُ : (صَامَتْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب وَالْكَلاَمِ) ولِهذا قالَتْ : { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً } ؛ أي آدَمِيّاً ، وكان قد أُذِنَ لَها أن تتكلمَ بهذا القدر ثم سكتت. قال ابنُ مسعود رضي الله عنه : (أُمِرَتْ بالصَّمْتِ ؛ لأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حُجَّةً عِنَدْ النَّاسِ فِي شَأْنِ وَلَدِهَا ، فَأُمْرَتْ بالْكَفِّ عَنِ الْكَلاَمِ يَكْفِيْهَا وَلَدُهَا الْكَلاَمَ بمَا يُبْرِئُ سَاحَتَهَا). وفي الآيةِ دلالةً أنَّ الصمتَ كان قُرْبَةً في زمانِهم ، ولولا ذلكَ لَمَا نذرتْهُ مريَمُ ، ثم نُسِخَ ذلكَ بنهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن صومِ الصَّمت. ويروى " أنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ ".
(0/0)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } ؛ روي أنَّها أتَتْ بعيسى تحملهُ إلى قومِها بعد أن طَهُرَتْ من نِفَاسِهَا ؛ أي بعد أربعينَ يوماً ، فتكلَّمَ عيسى في الطريقِ وهو ابنُ أربعينَ يوماً ، فقالَ : يا أُمَّاهُ أبْشِرِي فإنِّي عبدُ اللهِ ومسيحُهُ ، فلما دخلت على قومِها بَكَوا وحزِنُوا ، وكانوا أهلَ بيتٍ صالح ، و { قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي مُنْكَراً عظيماً لا يُعْرَفُ منكِ ، ولا من أهلِ بيتكِ.
(0/0)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هَارُونَ رَجُلٌ صَالِحٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيْلَ نُسِبَتْ إلَيْهِ) والمعنَى : يا شَبيْهَةَ هارون في العبادةِ. " رويَ أن أهلَ الكتاب قالوا : كيفَ يقولون إنَّ مريم أختَ هارون وبينهُما ستُّمائة سنةٍ ، فذُكِرَ ذلك للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّونَ باسْمِ الأَنْبيَاءِ وَالصَّالِحيْنَ ".
فعلى هذا يجوزُ أنَّ أخا مريَم كان يسمَّى هارون. وقال السديُّ : (هُوَ هَارُونُ أخُو مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ، نُسِبَتْ إلَيْهِ ؛ لأنَّهَا مِنْ وَلَدِهِ كَمَا يُقَالُ يَا أخَا بَنِي فُلاَنٍ). وَقِيْلَ : كان رجُلاً فاسقاً معروفاً بالفِسْقِ فنُسبت إليه : وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } قال ابنُ عبَّاس : (يُرِيْدُ زَانِياً) ، { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } ؛ حِنَّةُ ؛ { بَغِيّاً } ؛ أي ما كانت بغيَّا ، فمِن أينَ لكِ هذا الولد.
(0/0)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } ؛ أي أشارَتْ إلى عيسَى عليه السلام وهو يرضعُ بأن كَلِّمُوهُ ، فَعَجِبُوا مِن ذلك و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً } ؛ أي في الْحِجْرِ رضيعاً ، والْمَهْدُ هَهُنَا حِجْرُ أُمِّهِ ، وَقِيْلَ : هو الْمَهْدُ بعينهِ. قال أبو عبيدةَ : (كَانَ هَهُنَا زَائِدَةٌ لاَ مَعْنَى لَهَا). والمعنى كيفَ نُكَلِّمُ صبياً في المهدِ ، ويجوزُ أن تكون (مَنْ) في موضعِ الشَّرط والجزاء ، والمعنى مَن يكن في المهدِ صبيّاً فكيفَ نُكَلِّمُهُ ، والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء ، ويجوزُ أن يكون (صَبيّاً) نُصِبَ على الحالِ ؛ أي كيفَ نُكَلِّمُ مَن في المهدِ صبياً ؛ أي في هذه الحالةِ.
قال السديُّ : (فَلَمَّا أشَارَتْ إلَى عِيْسَى عليه السلام غَضِبُوا وَقَالُواْ : لَسُخْرِيَتُهَا بنَا أشَدُّ مِنْ زنَاهَا. فَلَمَّا سَمِعَ عِيْسَى كَلاَمَهُمْ ، تَرَكَ الرِّضَاعَ وَأقْبَلَ بوَجْهِهِ عَلَيْهِمْ وَ { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ } ؛ يعنِي علَّمَني التوراةَ والزبورَ. وقال مقاتلُ : (عَلَّمَهُ اللهُ الإنْجِيْلَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) { وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } ؛ أي حَكَمَ لِي بالنبوَّةِ في ما مضَى.
(0/0)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً } ؛ أي مُعَلِّماً للخيرِ ، نَفَّاعاً { أَيْنَ مَا كُنتُ } ؛ حيثُما كنتُ أدعُوا إلى اللهِ تعالى ، وإلى توحيدهِ وعبادته ، { وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ } ؛ أي أمَرَنِي بإقامةِ الصَّلاة وإيتاءِ الزكاة ، { مَا دُمْتُ حَيّاً }.
(0/0)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي } ؛ أي وجعلَنِي بَرّاً لوالدتِي. قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا قَالَ عِيْسَى عليه السلام : بوَالِدَتِي ، عَلِمُواْ أنَّهُ شَيْءٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى ، { وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } ؛ أي متعَظِّماً ، أقْتُلُ وأضربُ على الغضب ، ولا شقيّاً عاصياً لربهِ.
(0/0)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } ؛ معناهُ : والسلامُ عَلَيَّ يومَ وُلدْتُ حتى لَم يضرَّنِي شيطانٌ ، وَيَوْمَ أمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً من القبرِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّ للإنسانِ أن يصفَ نفسَهُ بصفاءِ الخيرِ إذا أرادَ تعريفَها إلى غيرهِ ، ولَمْ يُرِدِ الافتخارَ ، وهو مثلُ قولِ يوسفَ عليه السلام للملكِ{ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }[يوسف : 55]. قال ابنُ عبَّاس : (إنَّمَا كَلَّمَهُمْ عِيْسَى عليه السلام بهَذا الْكَلاَمِ لاَ غَيْرِهِ ، ثُمَّ سَكَتَ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ حَتَّى بَلَغَ مِقْدَارَ مُدَّةِ مَا يَتَكَلَّمُ الصِّبْيَانُ).
(0/0)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ } ؛ أي ذلكَ الذي قالَ إنِّي عبدُ اللهِ عيسَى بنُ مريَمَ قَوْلَ الْحَقِّ ، مَن قرأ بنصب (قَوْلَ) فالمعنى : قولَ الحقُ ، ومَن رفعهُ فالمعنى : هو قولُ الحقِّ ، أو كلمةُ الحقِّ ، والحقُّ هو الحقُّ تعالى. ومعنى قراءةِ النصب أقولُ قولَ الحقِّ ، { الَّذِي فِيهِ يَمْتُرُونَ } ؛ أي يَشُكُّونَ فيختلفون ، فإنَّهم اختلفوا - يعنى النصَارَى - فقائلٌ منهم يقولُ : هو اللهُ ، وقائلٌ يقولُ : هو ابنُ الله ، واليهودُ تقول : وُلِدَ لغيرِ رشدةٍ.
(0/0)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } ؛ أي ما ينبغي للهِ أن يتخذ ولداً وليس ذلك مِن صفاتهِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سُبْحَانَهُ } ؛ أي تنْزيهاً له عن الولدِ والشريك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ؛ أي كيفَ يَتَّخِذُ ولداً مَنِ إذا شاءَ أمراً كان كما خلقَ عيسى بلا أبٍ.
(0/0)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ؛ هذا إخبارٌ عن عيسى أنهُ قال ذلك. من قرأ بفتحِ الهمزة فالمعنَى : وأوصانِي أنَّ اللهَ ربي وربُّكم ، أو قضَى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم ، ومَن كسرَها فعلى الاستئنافِ ، ويجوزُ أن يكون عطفاً على (إنَّي عَبْدُ اللهِ). والصراطُ المستقيمُ هو الدِّين المستمرُّ في جهةٍ واحدة ، وَقِيْلَ : معناهُ : هذا الذي أخبَرَكم أنَّ اللهَ أمرَنِي به هو الطريقُ المستقيم الذي يؤدِّي إلى الجنَّة.
(0/0)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } ؛ ويعني بالأحزاب : النصارَى ، كانوا أحزَاباً متفرِّقين في أمرِ عيسى عليه السلام ، فبعضُهم يقول : اللهُ ، وبعضهم يقولُ : هو ابنُ الله ، وبعضُهم يقولُ : ثالثُ ثلاثةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ؛ أي فَوَيْلٌ لِلَّذِيْنَ تحدَّثوا في عيسَى مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ يشهدهُ الخلائقُ.
(0/0)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } ؛ أي ما أسْمعُهم وما أبصرُهم يومَ القيامةِ ؛ أي يشاهدون من الغيب ما يُسْمَعُ ويُبْصَرُ بلا شكٍّ ولا مِرْيَةٍ. قال قتادةُ : (سَمِعُوا حِيْنَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ السَّمْعُ ، وَأبْصَرُوا حِيْنَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْبَصَرُ). وقال الحسنُ : (لَئِنْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا عُمْياً وَصُمّاً عَنِ الْحَقِّ ، فَمَا أبْصَرَهُمُ وَأسْمَعَهُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَـاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي لكنَّهم في الدُّنيا في كُفْرٍ بَيِّنٍ.
(0/0)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } ؛ أي خَوِّفْ يا مُحَمَّدُ أهلَ مكَّة يومَ يَتَحَسَّرُ الْمُسِيْءُ هَلاَّ أحسنَ العملَ ، والْمُحْسِنُ هلاَّ ازدادَ مِن الأحسنِ. وقال أكثرُ المفسِّرين : يعني الْحَسْرَةَ يومَ يُذْبَحُ الموتُ بين الفريقين ، فلو ماتَ أحدٌ فرَحاً لَما ماتَ أهلُ الجنَّة ، ولو ماتَ أحدٌ حُزناً لَمَا ماتَ أهلُ النارِ.
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " يُجَاءُ بالْمَوْتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ كَبْشٌ أمْلَحُ ، فَيُوقَفُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، فَيُقَالُ : يَا أهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذا ؟ فَيُشْرِفُونَ عَلَيْهِ ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ؛ هَذا الْمَوْتُ. فَيُقَالُ لأَهْلِ النَّارِ كَذلِكَ ، فَكُلُّهُمْ قَدْ عَرَفَهُ ، فَيُذْبَحُ ، وَيُقَالُ : يَا أهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ بلاَ مَوْتٍ ، وَيَا أهْلَ النَّارِ خُلُودٌ بلاَ مَوْتٍ " ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } " قال مقاتلٌ : (لَوْلاَ مَا قَضَى اللهُ مِنْ تَخْلِيْدِ أهْلِ النَّّارِ وَتَعْمِيْرِهِمْ فِيْهَا ، لَمَاتُواْ حَسْرَةً حِيْنَ رَأوْا ذلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ } أي قُضِيَ لَهم العذابُ في الآخرة ، وهم في الدُّنيا في غفلةٍ. وقال السديُّ : (إذْ قُضِيَ الأَمْرُ ؛ أيْ ذُبحَ الْمَوْتُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ فِي الدُّنْيَا عَمَّا يُصْنَعُ بالْمَوْتِ ذلِكَ الْيَوْمِ) { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ بما يصنعُ بالموتِ ذلكَ اليوم.
ويقالُ : معنى قولهِ تعالى { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ } هو يومُ يأتيهم مَلَكُ الموتِ يقبضُ أرواحَهم ، فإذا وقعتِ المعاينةُ قال عندَ ذلك : رَب أرْجِعُونِي ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }[المؤمنون : 99-100] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } أي وَهُمْ في الدُّنيا في غفلةٍ ، وهم لا يؤمنونَ بالقُرْآنِ.
(0/0)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا } ؛ أي نُمِتْ سكَّانَها فنرثُها ، وهذا كقولهِ تعالى{ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ }[الحجر : 23] ؛ لأنَّهم إذا ماتُوا انقطعَ مُلْكُ العبادِ عنِ الأرض. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } ؛ أي بعدَ الموتِ ، فنجزِيَهم بأعمالِهم.
(0/0)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } ؛ أي واذكُرْ في القُرْآنِ لقومِكَ قصَّةَ إبراهيمَ ؛ إنهُ كثيرُ التصديقِ بالحقِّ مُوقِناً صَدُوقاً رَسُولاً نبيّاً.
(0/0)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } ؛ أي لِمَ تعبدُ مِن دون الله مَا لاَ يسمَعُ إنْ دعوتَهُ ، ولا يُبْصِرُ إن عبدتَهُ ، يعني الصنمَ ، { وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } ؛ من عذاب الله ، ولا يدفعُ عنك ضُرّاً.
(0/0)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ } ؛ أي من العِلْمِ باللهِ والمعرفة ، وإنَّ مَنْ عبدَ غيرَ الله عَذْبَهُ ، { فَاتَّبِعْنِي } ؛ عَلَى دِيني { أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } ؛ أي أُرشِدُكَ إلى دِينٍ مستقيم.
(0/0)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ } ؛ أي لا تُطِعْهُ فيما زَيَّنَ لكَ من الكفرِ والمعاصي ، { إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـانِ عَصِيّاً } ؛ أي كثيرَ العصيانِ لله تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَـانِ } ؛ أي عذابٌ مِنَ اللهِ بطاعتك للشيطانِ ، { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } ؛ أي قَرِيْناً في النار.
(0/0)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ } ؛ أي قالَ له أبوهُ مُجِيباً له : أمُعْرِضٌ وتاركٌ أنتَ عبادةَ آلِهتي يا ابراهيمُ ، { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } ؛ عن مقالِتكَ ، وتسكُتَ عن شَتْمِ آلِهتي وعيبها ، { لأَرْجُمَنَّكَ } ؛ أي لأرمينَّكَ بالشَّتمِ والعيب ، وَقِيْلَ : لأقتلنَّكَ رَجْماً ، { وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } ؛ أي تَبَاعَدْ عنِّي دهراً طويلاً.
وقال الحسنُ وقتادة : (مَعْنَى مَلِيّاً ؛ أي سالِماً سويّاً مِن قبلِ أن يلحقكَ مكروهٌ منِّي) ، وأصلُ الْمَلاَوَةِ الزمانُ الطويل من الدهرِ ، يقالُ : أقامَ في موضع كذا مَلِيّاً ، والْمَلَوَانِ : الليلُ والنهارُ.
(0/0)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ } ؛ أي قالَ إبراهيمُ لأبيهِ : سَلِمْتَ منِّي لا أصيبُكَ بمكروهٍ ، وذلك أنهُ لَم يؤمِن بقتالهِ على كُفرهِ ، هذا سلامٌ توديعٍ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي } ؛ أي سأسأَلُ اللهَ لكَ توبةٌ تنالُ بها مغفرتَهُ ، ويرزقكَ التوحيدَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } ؛ أي لَطِيْفاً رَحِيماً ، وَقِيْلَ : عالِماً يستجيبُ لِي إذا دعوتُ.
(0/0)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي أتَنَحَّى عنكم وأفارِقُكم ، وأعتزلُ ما تدعون من دون اللهِ يعني الأصنامَ ، فاعتزلَهم وهاجرَ إلى الأرضِ المقدسة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } ؛ أي مَحْرُوماً خَائِباً.
(0/0)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } ؛ أي فلما خرجَ إلى ناحيةِ الشَّام ، وتركَهم وتركَ أصنامَهم آنَسْنَا وحشتَهُ بأولادٍ كِرَامٍ على اللهِ تعالى ، ووَهَبْنَا لَهم نِعَماً كثيرةً ، وأكرمناهم بالثَّناءِ الحسَنِ.
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا } ؛ أي وهبنا لَهم المالَ والولدُ ، وبسَطْنا لَهم في الرِّزقِ. وقال بعضُهم : يعني الكتابَ والنبوَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } ؛ أي ثناءً حَسَناً في الناس ، مرتفعاً سائراً لإي الناسِ ، فكلُّ أهلِ الْمِلَلِ والأديانِ يُحْسِنُونَ الثناءَ عليهم ، ويتولَّون إبراهيمَ ودِينَهُ.
(0/0)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } ؛ أي واذْكُرْ في القُرْآنِ خَبَرَ موسى إنه كان مُخلصاً للهِ تعالى بالعبادةِ والتوحيد ، وكان رسُولاً رفيعاً. ومَن قرأ (مُخْلَصاً) بفتحِ اللام فمعناهُ : أخْلَصْنَاهُ وأحببناهُ.
(0/0)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ } ؛ قِيْلَ : إن النداءَ هو قولُ اللهِ تعالى له يا موسى{ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[القصص : 30] ، والطَّورُ : هو جبلٌ بالشامِ ، نادهُ الله تعالى من ناحيةِ اليُمنى ، يعني يَمين موسى ، والمعنى أن موسَى سَمع النداءَ عن يَمينهِ ، ولا يكون للجبلِ يَمينٌ ولا يسار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } ؛ أي جعلنا محلَّهُ مِنَّا ، محل مَن قربه مولاهُ من مجلسِ كرامته ، والنَّجِيُّ هو المختصُّ بإدراكِ كلامِ مُكَلِّمِهِ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (قَرِّبَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى إلَى أعْلَى الْحُجُب حَتَّى سَمِعَ صَرِيْرَ الْقَلَمِ).
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } ؛ وذلكَ حين سألَ موسى رَبَّهُ فقال{ وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي }[طه : 29-30] فاستجابَ اللهَ دعاءَهُ.
(0/0)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ } ؛ هو إسماعيلُ بن إبراهيمَ ، ومعنى صادِقَ الوعدِ ؛ أي أنه كان إذا وَعَدَ أنْجَزَ. قال ابنُ عبَّاس : (إنَّهُ وَعَدَ رَجُلاً أنْ يَنْتَظِرَهُ حَتَّى رَجَعَ إلَيْهِ ، فَأَقَامَ مَكَانَهُ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَرَجَعَ إلْيْهِ الرَّجُلُ). { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } ؛ إلَى جُرْهُمَ.
(0/0)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّـلاَةِ وَالزَّكَـاةِ } ؛ قِيْلَ : أرادَ بالأهلِ أُمَّتَهُ ، وأهلَ أُمَّتِهِ ، ونظيره{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ }[طه : 132] أي قومَكَ ، { وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } ؛ أي صَالحاً زكِيّاً.
(0/0)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } ؛ اسمُ ادريسَ أخْنُوخَ ، وهو جدُّ أبي نوحٍ ، وسُمي إدريس لكثرةِ دَرْسِه الكتبَ ، وكان خَيَّاطاً وهو أولُ من خطَّ بالقلمِ ، وهو أولُ من خاطَ الثيابَ ولبس المخيطَ ، وأولُ من نَظرَ في علمِ النُّجوم والحساب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً } أنزلت عليه ثلاثونَ صحيفةً ، وهو أولُ من لَبسَ القطنَ ، وكانوا قَبْلَ ذلك يلبسونَ جلود الضَّأْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } رُوي عن أنسِ بن مالك ، وأبي سعيدٍ الخدريِّ ومجاهد : (أنَّهُ رُفِعَ ألَى السَّمَاءِ الرَّابعَةِ) ، وقال ابنُ عبَّاس والضحَّاك : (إلَى السَّمَاءِ السَّادِسَةِ). وَقِيْلَ : معناهُ : ورفعناهُ في العلمِ والنبوَّة إلى درجةٍ عالية. وروي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : " لَمَّا عُرِجَ بي رَأيْتُ إدْريْسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابعَةِ ".
وكان سببُ رفعهِ على قولِ ابنِ عبَّاس : (أنهُ سارَ ذات يومٍ في حاجتهِ فأصابَهُ وَهَجُ الشمسِ ، فقال : يا رب إنِّي مشيتُ يوماً واحداً ، فكيفَ بمن حملَها خمسمائةَ عامٍ في يوم واحد ، اللَّهُمَّ خَفِّفْ عنهُ مِن ثقلِها واحمِلْ عنهُ حرَّها ، فلما أصبحَ الملكُ الْمُوَكَّلُ بها وجدَ خِفَّةً في حرِّها بخلافِ ما يعرفُ ، فقالَ : يا رب ما الذي قضيتَ ؟ فقال : إنَّ عبدي إدريسَ سألَني أن أخفِّفَ عنكَ حملَها وحرَّها فأجبتهُ ، فقال : يا رب اجْمَعْ بيني وبينَهُ صبحةً فأذِنَ له حتى أتَى إلى إدريسَ ، فسألَهُ عن ذلك فأخبرَهُ أنه دعا له شفقةً عليهِ ، ثُم حملَهُ مَلَكُ الشمسِ على جناحهِ ، ورفعه إلى السَّماء بإذنِ الله تعالى).
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُولَـائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } ؛ معناهُ : إن الذينَ ذكرتُهم هم الذينَ أكرَمَهم اللهُ بالنبوَّة والإسلام من ذريَّة آدمَ ، وإنَّما قَرَنَ ذكرَ نَسَبهِمْ مع أنَّ كلَّهم كانوا لآدمَ لِيُبَيِّنَ مراتبَهم في شرفِ النسب ، فإنهُ كان لإدريسَ شرفُ القُرْب من آدمَ ، وكان إبراهيمُ من ذريَّة نوحٍ ، وكان إسماعيل واسحقُ من ذريَّة إبراهيمَ ، وكان موسى وهارون وزكريَّا ويحيى وعيسَى من ذريَّة إسرائيلَ ، فقولهُ : { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } يعني إدريسَ ونوح ، { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } ؛ في السفينةِ يعني إبراهيمَ ؛ لأنه من ولدِ سَامِ بن نوحٍ ، { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } ؛ يعني إسماعيلَ وإسحق ويعقوبَ ، وقوله ، { وَإِسْرَائِيلَ } ؛ يعني أنَّ من ذريَّة إسرائيل : موسَى وهارون ومَن ذكرناهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ } ؛ أي هؤلاء كانوا مِمَّن أرشدنا واصطفينا لإداءِ الرِّسالة ، { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـانِ } ؛ التي أُنزلت عليهم ، { خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } ؛ أي وَقَعُوا يسجدونَ للهِ تعالى ، ويبكونَ من مخافةِ الله ، والسُّجَّدُ : جمعُ ساجدٍ ، والبُكِيُّ جمعُ بَاكٍ.
(0/0)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ } ؛ أي فخَلَفَ مِن بعد هؤلاء الأنبياءِ المذكورين والصالحينَ { خَلْفٌ } أي قومٌ سُوءٍ وهم اليهودُ والنصارى ومَن لَحِقَ بهم. يقالُ في الرداءةِ : خَلْفٌ بإسكانِ اللام ، وفي الصَّلاَحِ : خَلَفٌ بفتحِ اللام.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ } أي أخَّرُوها عن مواقيتِها لغيرِ عُذر ، وَقِيْلَ : تَرْكُوها أصلاً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ } يعني المعاصِيَ وشربَ الخمرِ ، واشتغَلُوا بالملذات في ما حُرِّمَ عليهم ، وآثرُوها على طاعةِ الله تعالى. قال وهبٌ : (شَرَّابُونَ الْقَهَوَاتِ ؛ لَعَّابُونَ بالْكِعَابِ ؛ رَكَّابُونَ الشَّهَوَاتِ ؛ مُتَّبعُونَ الْمَلَذاتِ ؛ تَاركُونَ الْجَمَاعَاتِ ؛ مُضَيِّعُونَ الصَّلَوَاتِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } ؛ قال ابنُ مسعودٍ وعطاء : (هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ بَعِيْدُ الْقَعْرِ) ، قال ابنُ عبَّاس : (الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَسْتَعِيْذُ أوْدِيَةُ جَهَنَّمُ مِنَ حَرِّهِ أُعِدَّ لِلزَّانِي وَشَارِب الْخَمْرِ وَآكِلِ الرِّبَا وَأهْلِ الْعُقُوقِ وَلِشَاهِدِ الزُّورِ ، وَلإمْرَاةٍ أدْخَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَلَداً مِنْ غَيْرِهِ).
وَقِيْلَ : الغَيُّ وَادٍ في جهنَّمَ يسيلُ قيحاً ودَماً أُعِدَّ للغاوينَ ، فسُمي غَيّاً ؛ لأنهُ جزاءُ الْغَيِّ ، كما قالَ تعالى{ يَلْقَ أَثَاماً }[الفرقان : 68] أي جزاءَ الإثمِ. وقال كعبٌ : (الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أبْعَدُهَا قَعْراً وَأشَدُّهَا حَرّاً ، فِيْهِ بئْرٌ يُسَمَّى بَهْغَمُ ، كُلَّمَا خَبَتْ جَهَنَّمُ فُتِحَ لَهَا بَابٌ إلَى تِلْكَ الْبئْرِ فَتُسْعَرُ بهِ جَهَنَّمُ).
(0/0)