يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ؛ كَانُواْ يشْرَبُونَ الْخَمْرَ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ ، ثُمَّ يَأَتُونَ الصَّلاَةَ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُصَلُّّونَ مَعَهُ ؛ فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ).
وتأويلُ الآية على هذا : لاَ تَقرَبُوا مواضِعَ الصلاةِ وهو المسجدُ وَأنْتُمْ سُكَارَى ، حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وما يقرأ إمَامُكم في الصلاةِ. وسُكَارَى : جمعُ سَكْرَانٍ ، وهذا خطابٌ لمن لم يَبْلُغْ به السُّكْرُ إلى حدٍّ لا يفهمُ الكلامَ كلَّهُ ، لأنَّ الذي لا يفهمُ شيئاً لا يصحُّ أن يخاطَبَ ، فكانوا بعد نزولِ هذه الآية يَجْتَنِبُونَ السُّكر أوقاتَ الصلاةِ حتى نزلَ تحريمُ الخمرِ في سورة المائدةِ.
وقال مقاتلُ : (نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ؛ كَانُواْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي دَار عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَبْلَ التَّحْرِيْمِ ؛ فَحَضَرَتْ صَلاَةُ الْمَغْرِب ؛ فَقَدَّمُوا رَجُلاً فَقَرأ{ قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ }[الكافرون : 1] وَقَالَ : أعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ؛ وَحَذفَ (لاَ) فِي جَمِيْعِ السُّورَةِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
فمعناها على هذا : لاَ تَقْرَبُوا نَفْسَ الصلاةِ ، وأنتمُ سُكَارى حتَّى تعلموا ما تَقْرَأونَ. وعن عمرَ رضي الله عنه أنهُ قال بَعْدَ نزولِ هذه لآية : (اللَّهُمَّ إنَّ الْخَمْرَ يَضُرُّ بالْعُقُولِ وَالأَمْوَالِ ؛ فَأنْزِلَ فِيْهَا أمْرَكَ) فَصَبَّحَهُمُ الْوَحْيُ بآيَةِ الْمَائِدَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ جُنُباً } أي لا تَقْرَبُوا مواضعَ الصلاةِ وأنتم جُنُباً ، { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ } ؛ إلاّ أن تكونُوا مُجْتَازيْنَ ، وإذا لم يكن الماءُ إلاَّ في المسجدِ ، تَيَمَّمَ الْجُنُبُ ودخلَ المسجدَ وأخذ الماء ثم خرجَ واغتسلَ. وقال الشافعيُّ : (يَجُوزُ لِلْجُنُب الْعُبُورُ فِي الْمَسْجِدِ بغَيْرِ تَيَمُّمٍ ، وَلاَ تَجُوزُ لَهُ الإقَامَةُ فِيهِ). وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : لا تُصَلُّوا وأنتم جُنُبٌ إلا أن تكونوا مسافرينَ لا تجدون الماءَ فتيمَّمون وتصلُّون ، هكذا رويَ عن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ومجاهدُ والحاكم. وانتصبَ قوله (جُنُباً) على الحالِ ؛ أي لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنتم جُنُبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } ؛ أي إذا كنتم مَرْضَى فَخِفْتُمْ الضررَ باستعمالِ الماء أو كنتم مسافرينَ ، { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ } ؛ معناهُ : وجاءَ أحدُكم من الغائطِ : هو المكانُ المطمئِنُّ من الأرضِ ؛ يقال : تَغَوَّطَ الرجلُ إذا دَخَلَ المكانَ المطمئنَّ لقضاءِ الحاجةِ ، ويجعلُ هذا اللفظ كنايةً عن ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ } ؛ قال عَلِيٌّ وابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (مَعْنَاهُ : أوْ جَامَعْتُمْ النِّسَاءَ) وبه قال الحسنُ ومجاهد وقتادةُ. وقال ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ والنخعيُّ والشعبيُّ : (أرَادَ بهِ اللَّمْسَ بالْيَدِ ، وَكَانُوا لاَ يُبيْحُونَ لِلْجُنُب التَّيَمُّمَ).
واختلفَ العلماء في هذا ، فقال الشافعيُّ : (إذا مَسَّ الرَّجُلُ بَدَنَ الْمَرأَةِ نُقِضَ وَضُوءُهُ سَوَاءٌ كَانَ بالْيَدِ أمْ بغَيْرِهَا مِنَ الأعْضَاءِ). وقال الأوزاعيُّ : (إنْ مَسَّهَا بالْيَدِ نُقِضَ ؛ وَإنْ كَانَ بغَيْرِ الْيَدِ لَمْ تُنْقَضْ).(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُمُ الْيَهُودُ ؛ كَانُواْ يَسْتَبْدِلُونَ الضَّلاَلَةَ بأَخْذِ الرِّشَا بكِتْمَانِ صِفَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، يَأْخُذُونَ الرَّشْوَةَ عَلَى كِتْمَانِهِمْ بَعْدَمَا أُوتُوا الْعِلْمَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ } ؛ أي يريدون أن تَضِلُّوا أنتُمْ طريقَ الْهُدَى كما ضَلُّوا هُمْ بأنفسِهم.(0/0)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } ؛ أي هو أعلمُ بهم ، يعلمُهم ما هم عليه ، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً } ؛ أي أنَّ عداوةَ اليهودِ لا تَضُرُّ المسلمين إذ ضَمِنَ لَهم النصرَ والولايةَ ؛ أي اكتفُوا بولايةِ الله ونصرتِه. وقرأ الحسنُ : (أنْ تَضَلُّوا السَّبيْلَ) بفتحِ الضَّاد ؛ أي عن السَّبيلِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : (وَاللهُ أعْلَمُ بأَعْدَائِكُمْ) أي أعلمُ بهم منكم فلا تَسْتَنْصِحُوهُمْ ، ويجوزُ أن يكون أعْلَمُ بمعنى عَلِمَ.(0/0)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } ؛ إن شِئْتَ جعلتَهُ متَّصلاً بقولهِ{ الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ }[آل عمران : 23] { مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ } ، وإن شئتَ جعلتَها منقطعةً مستأنفة. قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَسْأَلُونَهُ عَنِ الأَمْرِ فَيُخْبرُهُمْ ، وَيُرَى أنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ بهِ فَإذا انْصَرَفُوا حَرَّفُواْ كَلاَمَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ لَهُ : سَمِعْنَا قَوْلَكَ ، وَيَقُولُونَ فِي أنْفُسِهِمْ : وَعَصَيْنَا أمْرَكَ). وقال بعضُهم (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) راجعٌ إلى قولِهِ{ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ }[النساء : 45] على جهةِ التبيين للأعداءِ كما يقالُ : هذا الثوبُ من القُطْنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا } ؛ معناهُ : أنَّهم كانوا إذا كَلَّمُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ قالوا : اسْمَعْ ؛ وقالوا في أنفُسِهم : لا أسْمعْتَ ولا سَمعتَ. وقيل : معناهُ : غَيْرُ مُجَابٍ لَهُ بشيءٍ مما يدعُو إليهِ ، وكانوا يقولون : رَاعِنَا ؛ يوهِمُونَ أنَّهم يريدون بهذا القولِ : انْظُرْنَا حتَّى نُكَلِّمْكَ بما نريدُ ، وكانوا يريدونَ بذلك السَّبَّ بالرُّعُونَةِ بلُغَتِهم. ويقالُ : كانوا يقولونَ هذه الكلمةَ على وجهِ التَّجَبُّرِ والتَّكَبُّرِ ، كما يقولُ المتكبرُ لغيرهِ : افْهَمْ كَلاَمِي وَاسْمَعْ قَوْلِي ، وكانوا يقولونَ : أرْعِنَا سَمْعَكَ وَتَأَمَّلْ كلامَنا ومثل هذا مِمَّا لا يخاطَبُ به الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، إنَّما يخاطبون بالإجْلاَلِ والإعْظَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ } ؛ أي كانوا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهُمْ بالسَّب والتَّعييرِ والطَّعْنِ في الدِّين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا } ؛ معناهُ : لو قالوا سَمِعْنَا قولَكَ وأطَعْنَا أمرَكَ مكان قولِهم سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، وقالُوا : وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا نَسْمَعْ قَوْلَكَ وَنَفْهَمْ كلامَك مكان قولِهم : وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ } ؛ وأصوبُ ، { وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ } ؛ أي خذلَهم وأبعدَهم من رحمتهِ مجازاةً بكفرِهم. { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ فلا يؤمنون إيْماناً إلاَّ قليلاً ، وقِيْلَ : معناهُ : لا يؤمنونَ إلاَّ قليلاً منهُم وهم : عبدُالله بْنُ سلاَمٍ ومن تابَعَهُ.(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } ؛ أي يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ أعْطُواْ عِلْمَ التَّوْراةِ ، صدَّقوا بهذا القُرْآن الذي نَزَّلْنَا على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مُوافِقاً لِمَا معكُم من التوراةِ ، { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } ؛ أي مِن قَبْلِ أن نَمْحُوَ آثاراً لوجوهٍ منها : فَنَخْسِفُ بالعينِ والأنفِ وغيرَ ذلك من آثار الوجُوهِ فنحوِّلُها إلى الأَقْفِيَةِ فتمشونَ الْقَهْقَرَى.
روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَدِمَ عَبْدُاللهِ بنُ سَلاَمٍ مِنَ الشَّامِ ؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَأتِيَ أهْلَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا كُنْتُ أرَى أنْ أصِلَ إلَيْكَ حَتَّى تُحَوِّلَ وَجْهِي فِي قِفَاءِ.
ويقال معنى : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ } ؛ نجعلُ وجوهَهم على هَيْأَةٍ أقْفَائِهِمْ ، ومعنى : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ } ؛ أو نجعلهم قِرَدَةً كما مَسَخْنَا أصحابَ السبتِ ، { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } ؛ قضاؤُه كائِناً لا شكَّ فيهِ ، فإن قيلَ : كَيْفَ قالَ اللهُ تعالى آمِنُوا { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } وَأَوْعَدَهُمْ بطمسِ الوُجوهِ إن لَم يؤمِنُوا ، ثُمَّ لم يؤمِنوا ، ولم يقع الطَّمْسُ ؟ قيلَ : يحتملُ أن يكون هذا وَعِيْداً لَهم على تركِ جَمِيعهم الإسلامَ ، وقد آمَنَ منهم جماعةٌ بعدَ هذه الآية كعبدِالله بنِ سلام وعبدِالله بن ثعلبةَ وأسَيْدَ بن ثعلبة وأسَيْدَ بن عبيدٍ وغيرهم ، ويحتملُ أن يكون المرادُ بالآية : الطَّمْسُ في الآخرةِ ، وسيفعلُ اللهُ ذلك بهم.(0/0)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ؛ قال الكلبيُّ : " نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِيْنَ ؛ فِي شَأْنِ وَحْشِيٍّ وَابْنِ حَرْبٍ وَأصْحَابهِ ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لِوَحْشِيٍّ إنْ قَتَلَ حَمْزَةَ أنْ يُعْتِقَهُ مَوْلاَهُ ، فَلَمْ يُوَفِّ لَهُ بذلِكَ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ نَدِمَ هُوَ وَأصْحَابُهُ عَلَى مَا فَعَلُواْ مِنْ قَتْلِ حَمْزَةَ ؛ فَكَتَبُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أنَّا قَدْ نَدِمْنَا عَلَى مَا صَنَعْنَا ، وَأنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُنَا عَنِ الإسْلاَمِ إلاَّ أنَّا سَمِعْنَاكَ تَقُولُ إذْ كُنْتَ عِنْدَنَا بمَكَّةَ { وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } وَقَدْ دَعَوْنَا مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ وَقَتَلْنَا النَّفْسَ وَزَنَيْنَا ، وَلَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ لاتَّبَعْنَاكَ ، فَنَزَلَ { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } الآيةُ ، فَبَعَثَ بهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى وَحْشِيٍّ وَأصْحَابهِ ، فَلَمَّا قَرَأوهَا كَتَبُوا إلَيْهِ : إنَّ هَذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ أنْ لاَ نَعْمَلَ عَمَلاً صَالِحاً فَلاَ نَكُونَ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيَةِ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } فَبَعَثَ بهَا إلَيْهِمْ فَقَالُواْ : نَخَافُ أنْ لاَ نَكُونَ مِنْ أهْلِ الْمَشِيْئَةِ ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً } فَبَعَثَ بهَا إلَيْهِمْ فَوَجَدُوهَا أوْسَعَ مِمَّا كَانَ قَبْلَهَا ، فَدَخَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي الإسْلاَمِ وَرَجَعُواْ إلَى رَسُولِِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَبلَ مِنْهُمْ ثُمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم لِوَحْشِي : " أخْبرْنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ ؟ " فَلَمَّا أخْبَرَهُ ، قَالَ لَهُ : " وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي " فَلَحِقَ وَحْشِيُّ بالشَّامِ فَكَانَ فِيْهَا إلَى أنْ مَاتَ. قَالُواْ : مَاتَ وَفِي بَطْنِهِ الْخَمْرُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } ؛ أي ومَن يُشْرِكْ باللهِ سِوَاهُ فقدِ اختلَقَ على اللهِ ذنباً عظيماً غيرَ مغفورٍ له.(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي بَحْرَى بْنِ عَمْرٍو وَمَرْحَبَ بْنِ زَيْدٍ ؛ أتَيَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ بأطْفَالِهِمْ ؛ فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ ؛ هَلْ عَلَى أوْلاَدِنَا هَؤُلاَءِ مِنْ ذنْبٍ ؟ قَالَ : " لاَ " فَقَالُوا : وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ ؛ مَا نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئَتِهِمْ مَا مِنْ ذنْبٍ نَعْمَلُهُ بالنَّهَارِ إلاَّ كُفِّرَ عَنَّا باللَّيْلِ ، وَمَا مِنْ ذنْبٍ نعمله باللَّيْلِ إلاَّ كُفِّرَ عَنَّا بالنَّهَار. فَهَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ يُزَكُّونَ أنْفُسَهُمْ ، بَرَّؤُهَا مِنَ الذُّنُوب ، وَزَعَمُواْ أنَّهُمْ أزْكِيَاءُ " يقولُ الله تعالى : { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } أي يُطَهِّرُ من الذنوب مَن يشاءُ مَن كان أهْلاً لذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ أي لا يُنْقَصُونَ من جزاءِ ما يستحقُّونه قدرَ الْفَتِيْلِ وهو مَا تفتلُهُ بينَ إصبعَيْكَ من الوَسَخِ إذا مَسَحْتَ إحداهُما بالأخرى ، وَقِيْلَ : الْفَتِيْلُ : ما في بَطْنِ النَّوَاةِ في شقِّها من لِحَائِهَا.(0/0)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } ؛ أي انْظُرْ يا مُحَمَّدُ كيفَ يَخْتَلِقُ اليهودُ الكذبَ على اللهِ ، { وَكَفَى بِهِ } ؛ بما يفعلونه ، { إِثْماً مُّبِيناً } ، ذنباً بَيِّناً.(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } ؛ قرأ السلمي : (ألَمْ تَرْ) ساكنةَ الراء في كلِّ القرآن كما قالَ الشاعرُ : مَن يَهْدِهِ اللهُ يَهْتَدِ لاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ أضَلَّ فَمَا يَهْدِيهِ مِنْ هَادِيقال ابنُ عبَّاس : (رَكِبَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ فِي تِسْعِيْنَ رَاكِباً مِنَ الْيَهُودِ ؛ فِيْهِمْ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ وَجَدْيُ بْنُ أخْطَبَ وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ وغَيْرُهُمْ إلَى أهْلِ مَكَّةَ لِيُحَالِفُوهُمْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَيَنْقُضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ قَبْلَ أجَلِهِ ، فَقَالَ أبُو سُفْيَانَ : يَا مَعْشَرَ أهْلِ الْكِتَاب ؛ أنْشِدُكُمْ باللهِ أيُّهُمْ أقْرَبُ لِلْهُدَى ؛ نَحْنُ أمْ مُحَمَّدٌ وَأصحَابُهُ ، فَإنَّا نُعَمِّرُ مَسْجِدَ اللهِ ، ونَسْقِي الْحَجِيْجَ ، وَنَحْجُبُ الْكَعْبَةَ ، وَنَصِلُ الرَّحِمَ ، وَمُحَمَّدٌ قَطَعَ أرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ شِرَارُ الْحَجِيْجِ بَنُو غِفَارٍ ، فَنْحْنُ أهْدَى أمْ هُمْ ؟ فَقًالَتِ الْيَهُودُ : أنْتُمْ أهْدَى مِنْهُمْ. فَأَنْزَلَ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناه : ألم يَنْتَهِ علمُكَ يا مُحَمَّدُ إلى{ الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ }[آل عمران : 23] أي علماً بالتَّوراةِ وما فيها من نَعْتِ مُحَمَّدٍ وصفتِه يصدِّقون بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ. قال ابنُ عبَّاس : (الْجِبْتُ : حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ ، وَالطَّاغُوتُ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ). وقيل الجِبْتُ : الكَهَنَةُ ، والطَّاغُوتُ : الشَّيَاطِيْنُ. وَقِيْلَ : الْجِبْتُ والطاغُوتُ : صَنَمَانِ كان المشركونَ يعبدونَهما من دون اللهِ. وقيل الْجِبْتُ : الصنمُ ، والطَّاغُوتُ : مترجمة الصنمِ على لسانه.
وقال أهلُ اللغة : كُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ تَعَالَى مِنْ حَجَرٍ أو مَدَر أو صُورَةٍ فهو جِبْتٌ وَطَاغُوتٌ ، دليلهُ قال تعالى : { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ }[النحل : 36] وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا }[الزمر : 17]. وقال مجاهدُ : (الْجِبْتُ : السِّحْرُ ، وَالطَّاغُوتُ : الشَّيْطَانُ). يدلُ عليه قولهُ : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ }[البقرة : 257]{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ }[النساء : 76].
وقال بعضُ المفسِّرين : لَمَّا خَرَجَ كَعْبُ بْنُ الأَشْرَفِ هُوَ وَمنْ مَعَهُ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ أحُدٍ لِيُحَالِفُوا قُرَيْشاً عَلَى عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ نَزَلَ كَعْبُ عَلَى أبي سُفْيَانَ فَأَحْسَنَ مَثْوَاهُ ، وَنَزَلَ الْيَهُودُ فِي دُور قُرَيْشٍ ، فَقَالَ أهْلُ مَكَّةَ : إنَّكُمْ أهْلُ كِتَابٍ وَمُحَمَّدٌ صَاحِبُ كِتَابٍ ، وَلاَ نَأْمَنُ أنْ يَكُونَ هَذا مَكْرٌ مِنْكُمْ ، فَإنْ أرَدْتَ يَا كَعْبُ أنْ نَخْرُجَ مَعَكَ فَاسْجُدْ لِهَذَيْنِ الصَّنَمَيْنِ وآمِنْ بهِمَا ؛ فَفَعَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ }[النساء : 51].
قَالَ كَعْبُ لأَهْلِ مَكَّةَ : يَجِيْءُ مِنْكُمْ ثَلاَثُونَ ؛ وَمِنَّا ثَلاَثُونَ ؛ فَنَلْزِقُ أكْبَادَنَا بالْكَعْبَةِ فَنُعَاهِدُ رَبَّ الْبَيْتِ لَنُجْهِدَنَّ عَلَى قِتَالِ مُحَمَّدٍ ، فَفَعَلُواْ ذلِكَ ، ثُمَّ قَالَ أبُو سُفْيَانَ : يَا كَعْبُ ؛ إنَّكَ امْرُؤٌ تَقَرَأ الْكِتَابَ وَنَحْنُ أمِّيُّونَ لاً نَعْلَمُ ، فَمَنْ أهْدَى سَبيلاً ، وَأقْرَبُ إلَى الْحَقِّ نَحْنُ أمْ مُحَمَّدٌ ، فَقَالَ كَعْبٌ : وَاللهِ أنْتُمْ أهْدَى سَبيْلاً مِنَ الََّذِي عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ }[آل عمران : 23]. يَعْنِي كَعْباً وأصحابَهُ يؤمنونَ بالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يعني الصَّنمين ، { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي لأبي سُفيانَ وأصحابَه : { هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ } ؛ أي أبْعَدَهُمْ من رحمتهِ ، ومن يُبْعِدْهُ اللهُ من رحمتهِ ، { فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً }.
(0/0)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } ؛ أي ألَهم نصيبٌ ، والميمُ زائدةٌ ، وهذا على وجه الإنكارِ ؛ أي ليس لَهم من الْمُلْكِ شيءٌ ، { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً } يعني مُحَمَّداً وأصحابَه لا يعطونَهم شيءٌ من حَسَدِهِمْ وبُخْلِهِمْ وَبُغْضِهِمْ ، ورُفعَ قوله : (يُؤْتُونَ) لاعتراضِ (لا) بينهُ وبين (إذاً). وفي قراءةِ عبدِاللهِ : (فَإذاً لاَ يُؤْتُوا) بالنصب ، ولم يعمل بـ (لا). وقال بعضُهم : معناهُ : أنَّ اليهودَ لو كان لَهم نصيبٌ مِن الْمُلْكِ ما أعطوا الناسَ مقدارَ النَّقِيْرِ ؛ وهو النقطةُ التي تكون في ظَهْرِ النَّواةِ.
(0/0)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } ؛ أي بَلْ يحسدون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم على ما أعطاهُ الله تعالى من النبوَّة. وَقِيْلَ : على ما أحَلَّ اللهُ له من النساءِ ، وقالوا : لو كان نَبيّاً لشغلتْهُ النبوَّةُ عن النساءِ. وقال قتادةُ : (أرَادَ بالنَّاسِ الْعَرَبَ ، حَسَدُوهُمْ عَلَى النُّبُوَّةِ أكْرَمَهُمْ اللهُ بهَا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) ، وقال عَلِيٌّ رضي الله عنه : (أرَادَ بالنَّاسِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ؛ أي لَمَّا قالتِ اليهودُ : لو كان مُحَمَّدٌ نَبيّاً ما رَغِبَ في كثرةِ النِّساءِ ؛ حسدوهُ على كَثْرَةِ نسائهِ وعابُوهُ بذلك فأكذبَهم اللهُ بقوله { قَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أرادَ بالحكمةِ النبوَّة ، { وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " هُوَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ، وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُمَائَةِ مَهْرِيَّةٍ - أيْ مَمْهُورَةٍ - وَثَلاَثُمِائَةِ سَرِيَّةٍ ولداؤد مِائَةُ امْرَأةٍ ، فَأَقَرَّتِ الْيَهُودُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلِكَ ، فَقَالَ لَهُمْ : " ألْفُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ وَمِائَةُ امْرَأةٍ عِنْدَ رَجُلٍ أكْثَرُ أمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ " فَسَكَتُواْ ".
(0/0)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } ؛ معناهُ : مِنَ اليهودِ مَن آمَنَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم : عبدُاللهِ بنُ سَلاَمٍ وأصحابُه ؛ ومنهم من أعرضَ عن الإيْمانِ به. وَقِيْلَ : معناهُ : مِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بهذا الْخَبَرِ عن داودَ وسليمانَ ، ومنهم من كَذبَ به ، { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } ؛ أي وَقُوداً لِمَنْ كفرَ بهِ ؛ أي إنْ صَرَفَ اللهِ عن اليهودِ بعضَ العذاب في الدُّنيا مثل الطَّمْسِ وغيرِه ، فقد أبدَلَهم عذابَ جهنَّمَ في الآخرةِ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً } ؛ أي إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ سَوفَ نُدْخِلُهُمْ نَاراً. وقرأ حُميد بن قيسٍ : (نَصْلِيهِمْ) بفتحِ النون ؛ أي نَشْوِيْهِمْ مِن قولِهم : شاةٌ مَصْلِيَّةٌ ؛ أي مَشْوِيَّةٌ ، ونُصبتِ النارُ بنَزعِ الخافض على هذه القراءةِ ؛ تقديرهُ : بنَار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } ؛ أي كُلَّمَا أحْرِقَتْ جلودُهم جَدَّدْنَا لَهم جلوداً غيرَها بيضاءَ كالقراطيسِ ، وذلك أنَّهم كلَّما احْتََرَقُوا حَسَّت عليهم النارُ ساعةً ثم تَزَايَدَتْ سعيراً وَبَدَأوا خَلْقاً جديداً فيهم الرُّوحُ ثم عادَتْ النَّارُ تُحْرِقُهُمْ ؛ فهذا دَأبُهُمْ أبداً. قال الحسنُ : (تَنْضَجُ جُلُودُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعِيْنَ ألْفَ مَرَّةٍ ، كُلَّمَا أكَلَتْهُمُ النَّارُ وَأنْضَجَتْهُمْ ؛ قِيْلَ لَهُمْ : عُودُوا ؛ فَيَعُودُونَ كَمَا كَانُوا). وعن مجاهدٍ قَالَ : (مَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَلَحْمِهِ دُودٌ لَهَا حَلْبَةٌ كَحَلْبَةِ حُمُرِ الوَحْشِ). وعن أبي هريرةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ : " غِلَظُ جِلْدِ الْكَافِرِ اثْنَانِ وَأرْبَعُونَ ذِرَاعاً ، وَضِرْسُهُ مِثْلُ أحُدٍ "
قيل : كيفَ جاز أن يعذِّبَ اللهُ جِلْداً لَم يَعْصِهِ ؟ قيل : إنَّ العاصِي والمتألِّمُ واحدٌ وهو الإنسانُ لا الجلدُ ؛ لأن الجلودَ إنَّما تَأْلَمُ بالأرواحِ ، والدليلُ على أنَّ القصدَ تعذيبُ الإنسانِ لا تعذيبُ الجلودِ قولهُ تعالى : { لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ؛ ولَم يقل ليذوقَ العذابَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : تبدل جلودٌ هي تلك الجلودُ المتحرقة ، وذلك أنَّ (غيرَ) على ضربين : بتضَادٍّ و (غير) بلا تضادٍّ ، فالتضادُّ مثلُ قولِكَ : الليلُ غيرُ النَّهار ، والذكرُ غير الأنثى ، والثاني مثل قولِكَ لصائغٍ : صُغْ لي من هذا الخاتمِ خاتماً غيرَهُ ، فيكسره ويصوغُ لكَ خاتماً ، والخاتَمُ المصوغُ هو الأوَّلُ ، إلاّ أن الصياغةَ قد تغيَّرت ، والقصةُ واحدةٌ.
وقالت الحكماءُ : كما أنَّ الجلد بَلِيَ قبلَ البعثِ كذلك يبدلُ بعد النُّضج. وقال السُّدِّيُّ : (يُبْدَلُ مِنْ لَحْمِ الْكَافِرِ يُعَادُ الْجِلْدُ لَحْماً وَيَخْرُجُ مِنَ اللَّحْمِ جِلْدٌ آخَرُ ؛ لأنَّهُ جِلْدٌ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيْئَةً). قَوُلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً } ؛ أي غالباً في أمرهِ ، لا يَمْلِكُ أحدٌ مَنْعَهُ من إنزالِ وعدِّهِ ، ذو حِكْمَةٍ فيما حَكَمَ من النار للكفَّار.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي بساتينَ تجري من تحتِ شجرها وغُرَفها الأنْهارُ ، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } ؛ في الْخَلْقِ ، { وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً } ؛ أي ظِلاًّ دائماً وهو ظِلُّ الأشجار والقصور ؛ ظلٌّ لا حرَّ معه ولا بَرْدَ ، وليس كلُّ ظلٍّ يكون ظَلِيلاً. وقِيْلَ : الظَّلِيْلُ الكثيفُ الذي لا تَنْسَخُهُ الشَّمسُ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ؛ وذلك : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ أتَى الْبَيْتَ لِيَدْخُلَهُ ؛ فَسَأَلَ عَنِ الْمِفْتَاحِ ؛ فَقِيلَ : هُوَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الدَّار وَكَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ ، فأَرْسَلَ إلَيْهِ ؛ فَقَالَ لَهُ : [هَاتِ الْمِفْتَاحَ] فَأَبَى ، فََلَوَى عَلِيٌّ رضي الله عنه يَدَهُ وَأََخَذهُ مِنْهُ وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ ، وَصَلَّى فِيْهِ رَكْعَتَيْنِ ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لَهُ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ : بأَبي أنْتَ وَأمِّي يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إجْعَلْ لِيَ السِّدَانَةَ مَعَ السِّقَايَةِ - يَعْنِي اجْعَلْ لِي مِفْتَاحَ الْبَيْتِ - فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { نَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً رضي الله عنه أنْ يَرُدَّ الْمِفْتَاحَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ ؛ فَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ عُثْمَانُ : أنَا أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ؛ وَأسْلَمَ ، فَقَالَ جِبْرِيْلُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : مَا دَامَ هذا الْبَيْتُ أرَى اللَّبنَةَ مِنْ لَبنَاتِهِ قَائِمَةً ؛ فَإنَّ الْمِفْتَاحَ فِي أوْلاَدِ عُثْمَانَ بْنِ أبي طَلْحَةَ.
روي : " أنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْمِفْتَاحَ مِنْ عُثْمَانَ أبَى : فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يَا عُثْمَانُ ؛ إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَهَاتِ الْمِفْتَاحَ " فَقَالَ : هَاكَ أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ خُذْهُ بأمَانَةِ اللهِ. فَأَخَذ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْمِفْتَاحَ فَفَتَحَ الْبَابَ وَمكَثَ فِي الْبَيْتِ مَا شَاءَ اللهُ ، فَلَمَّا خَرَجَ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ " ويدخلُ في هذا جملةُ الأمانةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } ؛ خطابٌ لِلأَئِمَّةِ ؛ أي ويَأْمُرُكُمُ اللهُ أن تحكمُوا بين الناس بالحقِّ ، { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } ؛ أي نِعْمَ الذي يَأَمُرُكُمْ به من أداءِ الأمَانَةِ والحكمَ بالحقِّ ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً } ؛ لِمَقَالَةِ الْعَبَّاسِ ؛ { بَصِيراً } ؛ بأمَانَةِ عُثمَانَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } ؛ أي أطيعُوا اللهَ تعالى فيما أمَرَ ؛ وأطيعُوا الرسُولَ فيما بَيَّنَ. وَقِيْلَ : أطيعُوا اللهَ في الفرائضِ ، وأطيعُوا الرسولَ في السُّنَنِ.
وقولهُ تعالى : { وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } قال عكرمةُ : (هُوَ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ) لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم : " اقْتَدُوا مِنْ بَعْدِي بأبي بَكْرٍ وَعُمَرَ " ، " وَإنَّ لِي وَزَيْرَيْنِ فِي الأَرْضِ ؛ وَوَزيْرَيْنِ فِي السَّمَاءِ ، فَبالسَّمَاءِ جِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ ، وَبالأَرْضِ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ " ، " عِنْدِي بمَنْزِلَةِ الرَّأسِ مِنَ الْجَسَدِ " وقال الورَّاق : (هُمْ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٌّ لقولهِ صلى الله عليه وسلم : " الْخِلاَفَةُ بَعْدِي فِي أرْبَعَةٍ مِنْ أُمَّتِي : أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيَّ " وقال عطاءُ : (هُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَالتَّابعُونَ بإحْسَانٍ لقولهِ تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ }[التوبة : 100] الآية. وَقِيْلَ : هم أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم كما قالَ : " أصْحَابي كَالنُّجُومِ ؛ بَأَيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ "
وقال جابرُ بن عبدِالله والحسنُ والضحَّاك ومجاهدُ : (هُمُ الْفُقَهَاءُ وَالْعُلَمَاءُ أهْلُ الدِّيْنِ وَالْفَضْلِ) الَّذِيْنَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ مَعَالِمَ دِيْنِهِمْ ؛ وَيَأَمُرُونَهُمْ بالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَأَوْجَبَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ طَاعَتَهُمْ. قال ابنُ الأسودِ : (لَيْسَ شَيْءٌ أَعَزُّ مِنَ العِلْمِ ، فَالْمُلُوكُ حُكَّامٌ عَلَى النَّاسِ ، وَالْعُلَمَاءُ حُكَّامٌ عَلَى الْمُلُوكِ). وقال أبو هريرةُ : (هُمْ وُلاَّةُ الْمُسْلِمِيْنَ). وقال الكلبيُّ ومقاتلُ : (هُمْ أمَرَاءُ السَّرَايَا ، كَانَ صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ سَرِيَّةً أمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً ، وَأَمَرَهُمْ أنْ يُطِيْعُوهُ وَلاَ يُخَالِفُوهُ).
والأظهرُ مِن هذه الأقاويلِ : أن المرادَ بهم العلماءُ لقولهِ تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ؛ أي فإنِ اخْتَلَفْتُمْ في شيءٍ من الحلالِ والحرام والشرائعِ والأحكام ، فردُّوه إلى أدلَّةِ الله وأدلَّة رسولهِ ، وهذا الردُّ لا يكون إلاّ بالاستدلالِ والاستخراج بالقياسِ ؛ لأن الموجودَ في نصِّ الكتاب اذا عُلِمَ وَعُمِلَ به لا يوصفُ بأنه رَدٌّ إلى الكتاب ، وإنَّما يقالُ : هو اتِّبَاعٌ للنَّصِّ ، وغيرُ العلماءِ لا يعلمونَ كيفيَّةَ الردِّ إلى الكتاب والسُّنة ولا دلائلِ الأحكامِ ، والجواب قولهُ تعالى : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ؛ دليلٌ على أن الإيْمَانَ اتِّبَاعُ الكتاب والسُّنة والإجماعِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ؛ أي رَدُّ الخلافِ إلى اللهِ والرسول خيرٌ من الإصرار على الاختلافِ وأحسنُ عاقبةً لكم ، ويقالُ : أحسنُ تأويلاً من تأويلِكم الذي تُؤَوِّلُونَهُ من غيرِ رَدِّ ذلكَ إلى الكتاب والسُّنة. وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ : (الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ).
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ؛ الآيةُ. قال الكلبيُّ : (نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ يُقَالُ لَهُ بشْرٌ ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَهُودِيٍّ خُصُومَةٌ ، فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : انْطَلِقْ نَتَحَاكَمُ إلَى مُحَمَّدٍ - لأَنَّهُ عَلِمَ أنَّهُ لاَ يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ وَلاَ يَجُورُ فِي الْحُكْمِ -. وَقَالَ الْمُنَافِقُ : نَنْطَلِقُ إلَى كَعْب بْنِ الأَشْرَفِ - وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللهُ الطَّاغُوتَ - فَأَبَى الْيَهُودِيُّ أنْ يُخَاصِمَهُ إلاَّ إلَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَمَضَى مَعَهُ الْمُنَافِقُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى لِلْيَهُودِيِّ ، فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ لَزِمَهُ الْمُنَافِقُ وَقَالَ : انْطََلِقْ بنَا إلَى عُمَرَ ضي الله عنه فَقَالَ الْيَهُودِيُّ : يَا عُمَرُ ؛ اخْتَصَمْتُ أنَا وَهَذا إلَى مُحَمَّدٍ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ فَلَمْ يَرْضَ بقَضَائِهِ ، وَزَعَمَ أنَّهُ يُخَاصِمُنِي إلَيْكَ ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْمُنَافِقِ : أكَذلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : رُوَيْدَكُمَا حَتَّى أخْرُجَ إلَيْكُمَا ، فَدَخَلَ عُمَرُ وَأخَذ السَّيْفَ وَاشْتَمَلَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمَا ؛ فَضَرَبَ بهِ الْمُنَافِقَ حَتَّى مَاتَ ؛ وَقَالَ : هَكَذا قَضَائِي فِيْمَنْ لَمْ يَرْضَ بقَضَاءِ اللهِ وَقَضَاءِ رَسُولِهِ ، وَهَرَبَ الْيَهُودِيُّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. وَقَالَ جِبْرِيْلُ : إنَّ عُمَرَ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْْبَاطِلِ فَسُمِّيَ الْفَارُوقَ).
ومعنى الآية : ألَم ترَ يَا مُحَمَّدُ إلى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالْقُرْآنِ وبالكُتُب التي أُنْزِلَتْ من قبلِكم وهم المنافقونَ ، { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } ؛ وهو كعبُ بنُ الأشرفِ ، { وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } ؛ بالطَّاغُوتِ ، { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً } ؛ عَنِ الحقِّ.
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (اخْتَصَمَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أمْرٍ بَيْنَهُمَا ؛ فَقَضَى لِلزُّبَيْرِ ؛ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ ؛ فَمَرَّا عَلَى الْمِقْدَادِ فَقَالَ : لِمَنْ كَانَ الْقَضَاءُ يَا ثَعْلَبَةَ ؟ فَقَالَ : قَضَى لابْنِ عَمَّتِهِ ؛ وَلَوَى شِدْقَهُ ، فَفَطِنَ يَهُودِيٌّ كَانَ مَعَ الْمِقْدَادِ فَقَالَ : قَاتَلَ اللهُ هَؤُلاَءِ ؛ يَشْهَدُونَ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ ثُمَّ يَتَّهِمُونَهُ فِي قَضَاءٍ بَيْنَهُمْ ، وَأيْمِ اللهِ لَقَدْ أذْنَبْنَا فِي حَيَاةِ مُوسَى عليه السلام فَقَالَ لَنَا : اقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ ؛ فَقَتَلْنَا فَبَلَغَ قِتَالُنَا سَبْعِيْنَ ألْفاً فِي طَاعَةِ اللهِ حَتَّى رَضِيَ عَنَّا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ ثَعْلَبَة وَلَيِّهِ شِدْقَهُ { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ } أي هَلُمُّوا إلى التَّحَاكُمِ إلى أوامرِ الله في كتابه وإلى الرسُولِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْكُمَ بينَكم رأيتَ المنافقينَ يُعْرِضُونَ عن حُكْمِكَ إعْرَاضاً.
(0/0)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } ؛ أي كيفَ يكونُ حالُهم من نَدَمٍ وجُرأةٍ إذا أصابتهم مصيبةٌ بقتلِ عُمَرَ لصاحبهم وظهور نفاقهم بما فعلوهُ من ردِّ حُكْمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَيِّ الشِّدْقِ ، { ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } ؛ مُعْتَذِريْنَ ، { إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً } ؛ تَسْهِيْلاً كيلا تَشْغَلَكَ خصومتُنا ، { وَتَوْفِيقاً } ؛ بين الخصومِ بالإلتماسِ ما يقاربُ التوسط دون الحملِ على الإعراض عن الحكمِ.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
قال اللهُ تعالى : { أُولَـائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } ؛ عن عقوبتِهم في الدُّنيا ، ويقال : أعْرِضْ عن قَبُولِ عُذْرهِمْ ، { وَعِظْهُمْ } ؛ مع ذلك بلسانِكَ { وَقُل لَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } وأعْلِمْهُمْ أنََّهم إنْ عادُوا فحقُّهم العقوبةُ والقتلُ ، والقولُ البليغ أن يبلغَ صاحبه بعبارتهِ كُنْهَ ما في قلبهِ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ أي لِيُطَاعَ ذلك الرسولُ بأمرِ الله ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ } ؛ بمُطَالَبَةِ الحُكمِ إلى الطاغوتِ ، { جَآءُوكَ } ؛ أيُّهَا الرسُولُ ، { فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ } ؛ وتابوا إليه ، { وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ } ؛ عند ذلكَ ، { لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً } ؛ قَابلاً للتوبةِ ، { رَّحِيماً } ؛ بهم بعدَ التوبةِ.
(0/0)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ؛ أي لا يكونوا مؤمنينَ عند اللهِ حتى يُحَكِّمُوكَ فيما وقعَ من الاختلاف بينَهم ، { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } ؛ أي ثُمَّ لا تَضِيْقُ صدروُهم مِمَّا قضيتَ ، وَقِيْلَ : لا يَجِدونَ شَكّاً في حُكمِكَ ، { وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } ؛ أي يُقَادُوا لحكمكَ انقياداً.
والْمُشَاجَرَةُ في المخاصمةِ مأخوذٌ من الشَّجَرِ ؛ تشبيهاً للخصومةِ في دخُول بعضِ الكلام في بعض الأشجار بالتِفَافِ بعضِها على بعضٍ.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } ؛ (نزلت في ثابتِ بن قيسٍ لأنه قال : أمَا وَاللهِ إنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنِّي الصِّدْقَ أنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم لَوْ أمَرَنِي بقَتْلِ نَفْسِي لَقَتَلْتُ نَفْسِي) ، وكان ثابت من القليلِ الذين استثناهم الله في الآيةِ.
ومعنى الآيةِ : لو أنَّا فَرَضْنَا عليهم كما فَرَضْنَا على بني إسرائيلَ أن اقْتُلُوا أنفُسَكُمْ ، أو أمرناهم أن يخرجُوا من ديارهم لَشَقَّ ذلكَ عليهمِ ولم يفعلْهُ إلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ. ورُفع الـ (قَلِيْلٌ) على البدلِ من الواو ، ومعنى ما فَعَلَهُ إلاَّ قليلٌ منهم ، وقرأ أبَيُّ ابن كعبٍ وابنُ عامر (إلاّّ قَلِيْلاً مِنْهُمْ) بالنصب على معنى استثنَى قليلاً منهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } ؛ أي لو فَعَلَ المنافقون ما يُؤْمَرُونَ به من الرِّضَى بحكمكَ ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ؛ من الْمُحَاكَمَةِ إلى غيرِكَ ، { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } ؛ لقلوبهم على الصَّواب ؛ لأن الحقَّ يبقَى والباطلَ يذهبُ.
(0/0)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـآ أَجْراً عَظِيماً } ؛ أي إذْ لو يفعلونَ ما يُؤمرون به لأعطيناهُم مِن عندنا ثواباً جَزِيلاً في الجنَّة ، { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } ؛ أي إلى صِرَاطٍ مستقيمٍ ، وَقِيْلَ : معناهُ : لَهَدْيَنْاَهمْ في الآخرةِ إلى طريقِ الجنَّةِ.
(0/0)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } ؛ " نزلت في ثَوْبَانَ مَوْلَى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ شَدِيْدَ الْحُب لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَلِيْلُ الصَّبْرِ عَنْهُ ، فَأَتَاهُ ذاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ وَنَحَلَ جِسْمُهُ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا غَيَّرَ لَوْنُكَ ؟ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا بي مَرَضٌ وَلاَ وَجَعٌ ، غَيْرَ أنِّي لَمْ أرَكَ فَاشْتَقْتُ إلَيْكَ فَاسْتَوْحَشْتُ ، فَهَذا الَّذِي نَزَلَ بي مِنْ أجْلِ ذلِكَ ، ثُمَّ ذكَرْتُ الآخِرَةَ فَأخَافُ أنْ لاَ أرَاكَ هُنَاكَ فَإنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبيِّيْنَ ، وَإنِّي إذا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ أدْنَى مِنْ مَنْزِلَتِكَ ، وَإنْ لَمْ أدْخُلِ الْجَنَّةَ فَذاكَ حِيْنَ لاَ أرَاكَ أبَداً ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَابْنِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أجْمَعِيْنَ "
ومعنى الآية : ومَن يُطِعِ اللهَ في الفرائضِ والرسولَ في السُّننِ ؛ فأولئِكَ مع الذينَ أنْعَمَ اللهُ عليهم مِنَ النبيِّين والصدِّيقينَ ، وهم أفاضلُ الصَّحابةِ ، { وَالشُّهَدَآءِ } ؛ هم الذين اسْتُشْهِدُواْ في سبيلِ الله ، { وَالصَّالِحِينَ } ؛ وهم الذينَ اسْتَقَامَتْ أحوالُهم بحُسْنِ عملِهم ، وَالْمُصْلِحُ الْمُقَوِّمُ بحُسْنِ عَمَلِهِ. وقالَ عكرمةُ : (النَّبيُّونَ : هَا هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ، وَالصِّدِّيْقُونَ : أبُو بَكْرٍ ، وَالشُّهَدَاءُ : عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِِيٌّ ، وَالصَّالِحُونَ : سَائِرُ الصَّحَابَةِ).
فإن قيلَ فكيفَ يكونُ المطيعون للهِ ورسولهِ مع النبيِّين ودرجتِهم في أعلى عِلِّيِّيْنَ ؟ قِيْلَ : إنَّ الأنبياءَ ولو كانوا في أعْلى عِلِّيِّيْنَ ؛ فإنَّ غيرَهم من المؤمنينَ يَرَوْنَهُمْ وَيَزُروُنَهُمْ ويستمتِعونَ برؤيتِهم ، فيصلحُ اللفظ أنْ يقالَ إنَّهم معهُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَسُنَ أُولَـائِكَ رَفِيقاً } ؛ أي حَسُنَ الأنبياءُ ومَن معهُم رُفَقَاءَ في الجنَّةِ ؛ أي ما أحسنَ مُرَافَقَتَهُمْ فيها ، فذكرَ الرفيقَ بلفظِ التوحيدِ ؛ لأنه نُصِبَ على التمييزِ ، كما في قولهِ تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً }[النساء : 4] ويجوزُ أن يكونَ معناهُ : حَسُنَ كُلُّ واحدٍ من أوْلَئِكَ رَفِيْقاً ، كما قالَ تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً }[غافر : 67] ولم يقل أطْفَالاً.
(0/0)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } ؛ أي ذلك الْمَنُّ من اللهِ على المطيعين ، { وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً } ؛ بهم وبأعمالِهم ومجازياً لهم بما يستحقُّونَه من ثوابٍ وكرامةٍ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ } ؛ أي أسلحتكم ، { فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ } ؛ أي مِن عدوِّكم بالأسْلِحَةِ والرِّجالِ ، ولا تَخْرُجُوا متفرِّقين ، ولكن اخرجُوا ثُبَاتٍ ، { أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً } ؛ أي اخرجُوا جماعاتٍ جماعاتٍ ؛ سَرِيَّةً سَرِيَّةً كما يأمرُكم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في جهادِ عدوِّكم ، واخرجوا كلُّكم جميعاً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم إن أرادَ الخروجَ ، والثُّباتَ : الجماعاتُ في تفرقةٍ واحدُها ثُبَةٌ ؛ أي انفرُوا جماعةً بعد جماعةٍ ، ويجوزُ أن يكون معنَى : الْحِذْرُ : السِّلاَحُ.
واستدلَّ أهل القدر بهذه الآيةِ قالوا : إنَّ الحذرَ ينفعُ ويَمنعُ عنكم مُكَايَدَةَ العدوِّ ، وإلاَّ لم يكن لأمرهِ تعالى آتاهم بالحذر ، معناهُ : فيقالُ لَهم الائتمار بأمرِ الله والإنتهاء بنَهْيهِ واجبٌ عليهم ؛ لأنَّهم به يَسْلَمُونَ من معصيةِ الله تعالى ؛ لأن المعصيةَ تركُ الأوامرِ والنواهي. وليسَ في الآية دليلٌ على أن حَذرَهُمْ ينفعُ من القدر شيئاً ، بل المرادُ منه طُمَأْنِيْنَةُ النفسِ لا أنَّ ذلك يدفعُ القدرَ.
(0/0)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } ؛ أي مِمَّنْ أظهرَ الإيْمان ليتشاغَلَنَّ عن الجهادِ ، ويثقِلَنَّ غيرَهُ وهو عبدُاللهِ بن أبَيٍّ وَجَدُّ بنُ قيسٍ ، وأصحابُهما مِن المنافقينَ الذين كانوا يشاركون المسلمينَ في ظاهرِ الإسلامِ كانوا ينتظرونَ هلاكَ المسلمين وهزيْمَتَهم ويتثاقَلون عن الجهادِ ، يقال : أبْطَأَ الرجُلُ اذا تأخَّرَ عنِ العمل بإطالةِ المدَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } ؛ أي إنْ أصابتُكم نَكْبَةٌ أو هَزِيْمَةٌ أو قتلٌ ، قال هذا الْمُبْطِئُ : قَدْ مَنَّ اللهُ عليَّ إذْ لَم أكُنْ مَعَهُمْ حَاضِراً في تلك الغزوةِ فيصيبُني مثلَ الذي أصابَهم.
(0/0)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله } ؛ أي وإن أصابَكم أيُّها المؤمنون ظَفَرٌ وغَنِيْمَةٌ ، { لَيَقُولَنَّ } ؛ هذا الْمُبْطِئُ نَادِماً ، { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ } ؛ في الغَزْو فأُصيبَ حظّاً وافراً وغنائمَ كثيرةً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } ؛ قال بعضُهم : هو معرضٌ بين اليمينِ وما قبلَهُ ؛ تقديرهُ : وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فضلٌ من اللهِ ليقولَنَّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم ، { فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } ؛ كأنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ؛ أي يتمنَّى أن ينالَ مِن غيرِ أن يريدَ الجهادَ والقتال ، وقيلَ : هو متصلٌ بقولهِ { قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ؛ أي صِلَةٌ في الدِّين ومعرفةٌ في الصُّحبةِ ، كأنهُ لم يُعَاقِدْكُمْ قَبْلَ أن يجاهدَ معكم.
ثُمَّ أمرَ اللهُ تعالى كُلَّ مَنْ عَقَدَ الإيمانَ بالقتالِ ؛ فقال عَزَّ وجَلَّ : { فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } ؛ أي لِيُقَاتِلْ في طاعةِ الله ورضَائِهِ الذين يَبْيعونَ الحياةَ الدُّنيا بالآخرةِ وهم المؤمنونَ. وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ الخطاب لِلْمُبْطِئِيْنَ ؛ ومعنى { يَشْرُونَ } : يَخْتَارُونَ الحياةَ الدُّنيا على الآخرةِ. وهذا اللفظُ من الأضدادِ ، يقالُ : شَرَيْتُ بمَعْنَى بعْتُ ، وَشَرَيْتُ بمَعْنَى اشْتَرَيْتُ ، فيكون معنى الآيةِ على هذا : آمِنُوا ثُمَّ قاتِلوا ، لإنة لا يجوزُ أن يكونَ الكافرُ مأموراً بشيءٍ يتقدَّم على الإيْمانِ.
ثم ذَكَرَ اللهُ تعالى فضلَ الْمُجَاهِدِيْنَ ؛ فَقَالَ : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي في الجهادِ الذي هو طاعةُ اللهِ تعالى ؛ { فَيُقْتَلْ } ؛ هو ؛ { أَو يَغْلِبْ } ؛ العدوَّ ؛ { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } ؛ فسوفَ نُعْطِيْهِ في كِلاَ الوجهينِ ثواباً وافراً في الجنَّة ، وسَمَّى اللهُ تعالى الثوابَ عظيماً ؛ لأنه نالَ ثمناً مِن العزيزِ بأغلَى الأثْمانِ ، وقد يكون ثَمَنُ الشيءِ مثلَهُ ، ويكون وَسَطاً من الأثْمانِ.
(0/0)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : أيُّ شيءٍ لكم أيُّها المؤمنون في تَرْكِ الجهادِ مع اجتماعِ الأسباب الموجبَة للتحريضِ عليهِ ، وقولهُ تعالى : { لاَ تُقَاتِلُونَ } في موضعِ نصبٍ على الحال كأنهُ قال : وَمَا لََكُمْ تَاركِيْنَ الْجِهَادَ ؟ كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ }[المدثر : 49].
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ } ؛ في موضعِ خَفْضٍ بإضمار (في) ؛ معناهُ : وفِي بيان المستضعفينَ ؛ أي وفي نُصْرَةِ المستضعفينَ ، ويجوزُ أن يكون معناهُ : وعَنِ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ ؛ أي لِلذب عن المستضعفينَ ، { مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ } ؛ الذين هم بمَكَّةَ وَيَلْقَوْنَ فيها أذىً كثيراً وهم : سَلَمَةَُ بْنُ هِشَامٍ وَالْوَلِيْدُ بْنُ الْوَلِيْدِ وَعبَّاسُ بْنُ رَبيعَةَ وغيرَهم ، كانوا أسْلَمُوا بمَكَّةَ فأراد عشائِرُهم من أهلِ مكَّة بعدَ هجرةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أن يفتنوهم عنِ الإسلامِ. يقولُ الله تعالى : مَا تُقَاتِلُونَ المشركينَ في خَلاَصِ هؤلاء الضُّعفاءِ ؛ { الَّذِينَ } ؛ يسألونَ اللهَ ؛ { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةِ } ؛ أي خَلِّصْنَا من هذه القَرْيَةِ ؛ يَعْنُونَ مَكَّةَ ؛ { الظَّالِمِ أَهْلُهَا } ؛ أي الكفَّارُ أهلُها ، { وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } ؛ أي مِن عندك حَافِظاً يحفظُنا من أذاهُم ، { وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ } ؛ مِنْ عِنْدِكَ ؛ { نَصِيراً } ؛ أي مَانِعاً يَمْنَعُنَا منهم. فاستجابَ اللهُ دعاءَهم ، وجعلَ لَهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم حافِظاً وناصِراً بفتحِ مكة على يديهِ ، واستعملَ عليهم عَتَّابَ بنَ أُسَيْدِ ، عتاب يُنْصِفُ الضعيفَ من الشديدِ.
(0/0)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : الذين آمَنُوا بمُحَمَّدٍ والْقُرْآنِ ، يُقَاتِلُونَ في طاعةِ اللهِ بأمْرِ الله ، { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أبُو سُفْيَانَ وأصحابَهُ ، { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } ؛ يقاتلون في طاعةِ الشيطان ، { فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } ؛ وضَعفهُ بالوسوسَةِ إلى أوليائهِ بأنَّ الظفرَ يكون لَهم كيدُ ضعيفٍ ، وإنَّما أدخلَ على هذا اللَّفظِ (كانَ) لتبين أن صفةَ الضَّعْفِ لازمةٌ له ، وأنهُ { كَانَ ضَعِيفاً } فَخَذلَ أولياءَه ، كما خذلَهم يومَ بدر حيث قال لَهم : إنِّي بريءٌ منكُم إنِّي أرَى ما لاَ تَرَوْنَ.
(0/0)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ والحسن والكلبيُّ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَهُمْ : عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِاللهِ وَالْمِقْدَادُ وَغَيْرُهُمْ ، كَانُوا يَلْقَوْنَ مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ أذىً كَثِيْراً وَهُمْ بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ وَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ءأذنْ لَنَا فِي قِتَالِ هَؤْلاَءِ فَإنَّهُمْ قَدْ آذُوْنَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " كُفُّواْ أيْدِيَكُمْ ؛ فَإنِّي لَمْ أؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ ، وَأقِيْمُوا الصَّلاَةَ الْخَمْسَ ، وَأدُّواْ زَكَاةَ أمْوَالِكُمْ " فَلَمَّا خَرَجُواْ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بقِتَالِ الْمُشْرِكِيْنَ ، وَأمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالْمَسِيْرِ إلَى بَدْر ، كَرِهَ بَعْضُهُمْ وَشُقَّ ذلِكَ عَلَيْهِمْ ".
ومعنى الآية : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ } ؛ بالمدينةِ أي فُرِضَ ؛ { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ } ؛ وقيل معناهُ : { أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } ؛ كقولهِ{ مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ }[الصافات : 147].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } ؛ يعنِي مُشْرِكِي مكَّة لِمَ فَرَضْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ ؛ أي الجهادَ ؛ { لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } ؛ أي هَلاَّ تَرَكْتَنَا حتى نَمُوتَ بآجالِنا. قال الحسنُ : (لَمْ يَقُولُوا هَذِهِ لِكَرَاهَةِ أمْرِ اللهِ ، ولَكِنْ لِدُخُولِ الْخَوْفِ عَلَيْهِمْ بذلِكَ) ، وقال بعضُهم : نزلَتْ في المنافقينَ ، لأن قوله : { لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ } لا يَلِيْقُ بالمؤمنينَ ، وكذلك الحسَنَةُ من غيرِ الله. وَقِيْلَ : نزلت في قَوْمٍ من المؤمنين لم يكونُوا راسخين في العِلْْمِ ، قالوا هذا القولَ ؛ لأنَّهم رَكَنُوا إلى الدُّنيا وآثرُوا نعيمَها على القتالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : منفعةُ الدُّنيا يسيرةٌ تنقطعُ وتقضى ، والاستمتاعُ بها قليلٌ ؛ لأن الجديدَ منها إلى البلَى ، والشابُّ منها إلى الهرمِ والإنقضاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى } ؛ أي وثوابُ الآخرةِ أفضلُ لِمن اتَّقَى المعاصي ، { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } ؛ أي ولا يُنْقَصُونَ من جَزَاءِ أعمالِهم الذي استحقُّوه مقدارَ الفتيلِ ، وقد تقدَّم تفسيرُ الفتيلِ.
(0/0)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } ؛ أي أيْنَمَا تَكُونُوا يَا مَعْشَرَ المؤمنينَ والمنافقينَ في بَرٍّ أو بَحْرٍ أو سَفَرٍ أو حَضَرٍ يَلْحَقْكُمُ الموتُ ، وإنْ كُنْتُمْ فِي حُصُونٍ مُحَصَّنَةٍ مِن حديدٍ وغيرِه ، مرتفعةٍ إلى عَنَانِ السَّماء ، والمعنى : أنكم وإنْ سُومِحْتُمْ وأخذتُم بتركِ القتال ، فإن آخِرَ أعماركم موتٌ لا تَنْجُونَ منه. وقال عكرمةُ : (مُشَيَّدَةٌ : مُحَصَّنَةٌ). وقال العينيُّ : (مُطَوَّلةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ } ؛ هذا حكايةُ قولِ المنافقين واليهودِ ، كانوا يقولون : ما زلْنَا نعرفُ النَّقْصَ في ثِمارنا ومراعينا مُذْ قَدِمَ هذا الرجلُ علينا - يعنون النبيَّ صلى الله عليه وسلم - بعدَ قُدُومِهِ المدينةَ ، فذلك قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ } أي إنْ يُصِبْهُمْ خِصَبٌ ورخصُ سِعْرٍ وتتابعُ أمطار يقولوا : هذهِ من فَضْلِ الله ؛ { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ؛ قَحْطٌ وجُدُوبَةٌ وغلاءُ سِعْرٍ ، { يَقُولُواْ هَـاذِهِ مِنْ عِندِكَ } ؛ هذه من شُؤْمِ مُحَمَّدٍ وأصحابهِ.
يقولُ الله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ } ؛ أي قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ : الحسنةُ والسيِّئةُ كلُّها بقضاءِ الله وتقديرهِ ، { فَمَالِ هَـاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ؛ اليهودُ والمنافقين لا يقربونَ من فَهْمِ حديثٍ عن الله. والْفِقْهُ : هو الْفَهْمُ ، ثم اختصَّ من جهة العُرْفِ بعلم الْفَتْوَى. وقال الحسنُ : (أرادَ بالْحَسَنَةِ فِي هَذِهِ الآيَةِ : الظَّفَرَ وَالْغَنِيْمَةَ ، وَبالسَّيِّئَةِ : الْقَتْلَ وَالْهَزِيْمَةَ) وَكَانُواْ إذا غَلَبُوا قَالُواْ : هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإذا غَلَبَهُمْ الْعَدُوُّ قَالُواْ : هَذِهِ مِن خَطَأ رَأيكَ وتَدْبيرِكَ.
(0/0)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } ؛ واختلفَ المفسِّرون في المخاطَب بهذه الآية ، قال أكثرُهم : هُوَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ لَهُ عَامَّةُ النَّاسِ. وقال قتادةُ : (الْمُخَاطَبُ بهَا الإنْسَانُ) كَأَنَّهُ قَالَ : مَا أصَابَكَ أيُّهَا الإنْسَانُ مِنْ حَسَنَةٍ ؛ أيْ مِنْ خِصْبٍ وَرُخْصِ سِعْرٍ وَفَتْحٍ وَغَنِيْمَةٍ فَاللهُ تَعَالَى هَدَاكَ لَهُ وَأَعانَكَ عَلَيْهِ وَوَفَّقَكَ لَهُ ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ قَحْطٍ وَجُدْبَةٍ وَهَزِيْمَةٍ وَنَكْبَةٍ وَكُلَّ أمْرٍ تَكْرَهُهُ ؛ فَإنَّمَا أصَابَكَ ذلِكَ بمَا كَسَبَتْ يَدَاكَ بقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى{ وَمَآ أَصَـابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }[الشورى : 30]. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " مَا مِنْ خَدْشَةٍ عُودٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ وَلاَ عَثْرَةِ قَدَمٍ إلاَّ بذنْبٍ ، وَمَا يَعْفُو اللهُ أكْثَرُ "
وقال بعضُ المفسِّرين : بين هذه الآيةِ وبينَ التي قبلَها إضمارٌ تقديرُه : فَمَا لِهَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيْثاً يَقُولُونَ مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ؛ لأنَّهُ مستحيلٌ أن يأمرَ اللهُ تعالى بإضافةِ الحسنَةِ والسيِّئة إلى أمرهِ وقضائه في آيةٍ ثم يَتْلُوهَا بآيةٍ تُفَرِّقُ بينهُما بعدَ أن ذمَّ قوماً على التفرقةِ في الأُولى ، فكيف يجوزُ أن يَذِمَّ على الجمعِ في الآية الثانيةِ ، ومثلُ هذا الإضمارِ كثيرٌ في القرآنِ.
وقرئَ في الشواذِ بنصب الميم (فَمَنْ نَفْسِكَ) أي كلٌّ مِنَ اللهِ ، فمَن أنتَ ونفسَكَ حتى يُضَافَ إليكَ شيءٌ ، غير أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ؛ فلا يقرأ إلاَّ بما تَصِحُّ به الروايةُ ، وحاصلُ المعنى على قراءةِ العامَّة : أي مَا أصابَكَ مِنْ خَيْرٍ ونِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَمَا أصَابَكَ مِنْ بَلِيَّةٍ ، أوْ شَيْءٍ تَكْرَهُهُ فَمِنْ نَفْسِكَ ؛ أي بذنوبكم ، وأنا الذي قدَّرتُها عليكَ. قال الضحَّاك : (مَا حَفِظَ الرَّجُلُ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ إلاَّ بذنْبٍ) ثم قَرَأ{ وَمَآ أَصَـابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ }[الشورى : 30] ، قال : (فَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ مِنْ أعْظَمِ الْمَصَائِب).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } ؛ أي ومِن نِعْمَةِ اللهِ عليكَ إرسالهُ إياكَ رسولاً إليهم ، { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } ؛ على أنكَ رسولٌ صادقٌ يشهدُ لك بالرسالةِ والصِّدق ، وَقِيْلَ : شَهِدَ على مقالةِ القوم أنَّ الحسنةَ من اللهِ ، والسيئةَ من عندكَ : وَقِيْلَ : معناهُ : يشهدُ أنَّ الحسنةَ والسيِّئةَ كلَّها من اللهِ.
(0/0)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ؛ أي مَن يُطِعِ الرسولَ فيما يأمرهُ فقد أطاعَ الله ؛ لأنَّ الرسولَ إنَّما يأمرُ به من عندِ اللهِ ، { وَمَن تَوَلَّى } ؛ أي أعْرَضَ عن طاعتهِ ، { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ؛ أي ليسَ عليك إلاّ البلاغُ وما أرسلناكَ عليهم مُسَلَّطاً تُجْبرُهُمْ على الإيْمَانِ والطاعة وتَمنعُهم عن الكفرِ والمعصيةِ ؛ فإنك مُبَلِّغٌ وأنا العالِمُ بسرائرِهم ، وهذه الكلمةُ من آخرِ الآية منسوخةٌ بآيةِ السَّيْفِ.
(0/0)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } ؛ معناهُ : أنَّ المنافقين كانوا يقولونَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أمْرُكَ طاعةٌ وقولُكَ مُتَّبَعٌ ، { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } ؛ فَإنْ خَرَجُوا مِن عندِكَ يا مُحَمَّد ، { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } ؛ أي غَيَّرَتْ جماعةٌ منهم الأمرَ الذي أمرتَهم به على وجهِ التكذيب ، يقالُ لكلِّ أمر قُضِيَ بليلٍ : قَدْ بَيَّتَ بهِ ، وإنَّما لم يقل للبيت ؛ لأنَّ كل تأنيثٍ غيرَ حقيقي يجوزُ تعبيرهُ بلفظِ التذكيرِ ، وَقِيْلَ : معناهُ : قَدَّرُوا ليلاً غيرَ ما أعطوكَ نَهاراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } ؛ أي يَحْفَظُ عليهم ما يَفْتَرُونَ من أمرِك ، وَقِيْلَ : ما يُسِرُّونَ من النفاقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي لا تُعَاقِبْهُمْ يا مُحَمَّدُ واسْتُرْ عليهم إلى أنْ يَسْتَقِيْمَ أمرُ الإسلامِ { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ثِقْ باللهِ وفوِّضْ أمركَ إليه ، { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } ؛ أي حَافِظاً ، والوكيلُ : هو العالِمُ بما يُفَوَّضُ إليه من التدبيرِ.
(0/0)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ } ؛ أي أفلا يَتَفَكَّرُونَ في الْقُرْآنِ أنه يُشْبهُ بعضُه بعضاً ويصدِّقُ بعضه بعضاً ، وأنَّ أحَداً من الخلائقِ لا يقدرُ على مِثْلِهِ ، فيعلمون أنه حَقٌّ ويعلمونَ أنه مِن عِنْدِ اللهِ ، { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } ؛ أي تعارضاً وتَبَايُناً وبعضهُ بليغاً وبعضُه ساقطاً.
(0/0)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } ؛ يَعْنِي المنافقينَ كانوا إذا أتاهُم خبرٌ من أمرِ السَّرَايَا الذين بعثَهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من ظَفَرٍ وَدَوْلَةٍ وَغَنِيمَةٍ ؛ أو أتاهم عنهم خَبَرُ نَكْبَةٍ أو هَزِيْمَةٍ أفْشَوا ذلكَ الخبرَ ، وأظهروهُ قبل أن يُحَدَّثَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَحْذرَ بخبرِ الظَّفَرِ من ينبغِي أن يحذرَ من الكفَّار ويقوَى بخبرِ هزيْمَة المسلمينَ قَلْبُ مَن كان يَبْتَغِي نكبةَ المسلمين منهُم ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ.
ومعناهُ : اذا جاءَ المنافقينَ { أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ } ؛ يعني الغنيمةَ والفتحَ ، { أَوِ الْخَوْفِ } أي الهزيْمَة والقتلِ { أَذَاعُواْ بِهِ } ؛ أي أشاعُوهُ وأفْشَوهُ ، { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } ؛ أي لم يَتَحَدَّثُوا به ولم يُفْشُوهُ حتى يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي يَتَحَدَّثُ بهِ. والمعنى : لو تَرَكُوا أمرَ السَّرايَا والعسكرِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمرِ أولي الأمرِ من المؤمنينَ وهم : أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَأكَابرُ الصَّحَابَةِ حتى يكونوا هم الذين يُفْشُونَهُ ، { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ؛ يطلبونَ الخبرَ ويستخبرونَهُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأكابرِ الصَّحابة أن ذلك الخبرَ صحيحٌ أم لاَ.
قال الكلبيُّ : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبطُونَهُ أيْ يَتَّبعُونَهُ). وقال عكرمةُ : (يَسْأَلُونَ عَنْهُ ، أيْ لَوْ تَرَكُواْ إذاعَتَهُ حَتَّى يَتَحَدَّثَ بهِ النَّبيُّ لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْأَلُونَ عَنْهُ). وقال القُتيبيُّ : (لَعَلِمَهُ الَّذِيْنَ يَسْتَخْرِجُونَهُ ، يُقَالُ : اسْتَنْبَطْتُ الْمَاءَ إذا أخْرَجْتُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } ؛ أي لولا ما أنزلَ اللهُ عليكم من القُرْآنِ ، وبَيَّنَ لكم الآياتِ على لسانِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم ، { لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي كانَ أقَلُّكُمْ يَنْجُوا من الكُفْرِ ، والمرادُ بالفضلِ ها هنا النبيَّ صلى الله عليه وسلم والقُرْآنَ ، وَقِيْلَ : في الآيةِ تقديمٌ وتأخيرٌ ؛ معناه : أذاعُواْ بهِ إلاَّ قَلِيْلاً مِنَ الخبر لم يذيعوهُ ، أو قليلاً من الْمُنَافِقِيْنَ لَمْ يُذِيْعُوهُ.
(0/0)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } ؛ وذلك أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا الْتَقَى هُوَ وَأبُو سُفْيَانَ يَوْمَ أحُدٍ وَكَانَ مِنْ أمْرِهِمْ مَا كَانَ ، وَرَجَعَ أبُو سُفْيَانَ إلَى مَكَّةَ وَوَاعَدَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَدْرَ الصُّغْرَى فِي ذِي الْقِعْدةِ ، فَلَمَّا بَلَغَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم الْمِيْعَادُ ، قَالَ لِلَّناسِ : اخْرُجُوا إلَى الْعَدُوِّ ، فَكَرِهُوا ذلِكَ كَرَاهَةً شَدِيْدَةً أوْ بَعْضَهُمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } أي لا تَدَعْ بجهاد العدو ولو وحدك.
وَقِيْلَ : لا تُؤَاخَذُ بفعلِ غيرِك ، وإنَّما تُؤَاخَذُ بفعلِ نفسِك وليسَ عليك ذنبُ غيرِك ، { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ على القتالِ لَعَلَّ اللهَ أن يَكُفَّ عنكَ قتالَ الكفَّار ، وعسَى مِن اللهِ واجبٌ ؛ لأنهُ في اللغة الإطْمَاعُ ، وإطماعُ الكريْمِ لا يكونُ إلا إنجازاً.
والفاءُ : في قوله : (فَقَاتِلْ) جوابٌ عن قولهِ : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً }[النساء : 74] فَقَاتِلْ وحَرِّضِ المؤمنينَ على القتالِ ؛ أي حَرِّضْهُمْ على القتالِ ورَغِّبْهُمْ فيهِ. فَتَثَاقَلُوا وَلَمْ يَخْرُجُواْ مَعَه ؛ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبْعِيْنَ رَاكِباً حَتَّى أتَي بَدرَ الصُّغْرَى ؛ فَكَفَاهُمُ اللهُ بَأسَ الْعَدُوِّ وَلَمْ يُوافِقْهُمْ أبُو سُفْيَانَ ؛ ولَمْ يَكُنْ قِتَالٌ يَوْمَئِذٍ ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي قتالَ المشركينَ وصولَتَهم ، { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } ؛ أي عُقُوبَةٌ.
(0/0)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ } ؛ أي مَنْ يصلِحْ بين اثنين يَكُنْ لهُ أجرٌ وثواب مِن ذلك الإصلاحِ ، ومن يَمْشِي بالْغِيْبَةِ والنَّمِيْمَةِ لهُ حظٌّ من وزْرهَا وعقوبتِها ، هكذا رويَ عن ابنِ عبَّاس ، وقيلَ : معناهُ : من يوحِّدْ ويأمُرْ بالتوحيدِ يكُنْ له أجرٌ من ذلكَ ، ومن يُشْرِكْ ويأمُرْ بالشِّركِ يكن له وزْرٌ مِن ذلكَ. ويقالُ : الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ هي للمؤمنينَ ، والشفاعة السيِّئةُ الدعاءُ عليهِم ، فإنَّ اليهودَ كانوا يدعون على المؤمنينَ فَتَوَعَّدَهُمُ اللهُ بذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كِفْلٌ مِّنْهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس وقتادةُ : (الْكِفْلُ : الإثْمُ وَالْوِزْرُ). قال الفرَّاء وأبو عبيدٍ : (الْكفْلُ : الْحَظُّ وَالنَّصِيْبُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } ؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس : (مُقِيْتاً أيْ مُقْتَدِراً مُجَازياً بالْحَسَنَةِ وَالسَّيِّئَةِ) ، قال الشاعرُ : وَذِي ضِعْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ وَكُنْتُ عَلَى مُسَاءَتِهِ مُقِيْتَاأي مُقْتَدِراً. وقال الزجَّاج : (الْمُقِيْتُ : الْحَفِيْظُ). قال الشاعرُ : ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذا حُو سِبْتُ أنِّي عَلَى الْحِسَاب مُقِيتُوقال مجاهدُ : (الْمُقِيْتُ الشَّاهِدُ). وقال الفرَّاء : (الْمُقِيْتُ الَّذِي يُعْطِي كُلَّ إنْسَانٍ قُوْتَهُ). وجاء في الحديثِ : " كَفَى بالْمَرْءِ إثْماً أنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقَوَّتُ - أو يُقِيْتُ - "
(0/0)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بالتَّحِيَّةِ السَّلاَمَ ؛ أيْ إذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أحَدٌ فَأَجِيْبُوا بتَحِيَّةٍ أحْسَنَ مِنْهَا ؛ وَهُوَ أنْ تَزِيْدُواْ فِي التَّحِيَّةِ فَتَقُولُواْ : وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، يُحَيِّي بذلِكَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ ، وَالْمَلَكَيْنِ الْحَافِظَيْنِ مَعَهُ بأَبْلَغِ التََّحِيَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ رُدُّوهَآ } مَعْنَاهُ : وأجيبُوا بمثلِ الذي سَلَّمَ عليكُم. وقال بعضُهم : معناهُ : وَإذا حُيِّيتُمْ بتَحِيَّةٍ ؛ أي إذا أهْدِيَ إليكم هديةً فَكَافِئُوا بأفضلَ منها أو مِثْلِهَا ؛ لأن التحيَّةَ في اللغة الْمِلْكُ ، وكانوا يقولون قبلَ الإسلام : حَيَّاكَ اللهُ ؛ أي مَلَّكَكَ اللهُ ؛ ثم أبدلُوا بهذا اللفظِ بالسَّلامِ بعدَ الإسلامِ ، وأقِيْمَ السلامُ مقامَ قولِهم : حيَّاكَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } ؛ أي مُجَازِياً يعطي كلَّ شيء من العِلْمِ والحفظِ والجزاء مقداراً يَحْسِبُهُ ؛ أي يَكْفِيهِ ، يقال : حَسْبُكَ هَذا ؛ أي اكْتَفِ به ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { عَطَآءً حِسَاباً }[النبأ : 36] أي كافِياً.
(0/0)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } ؛ أي لاَ إلَهَ في الأرضِ وفي السَّماء غيرُه ، واللامُ في (لِيَجْمَعَنَّكُمْ) لامُ أنفُسِهم ، كأنهُ قال اللهُ : يجمعكُم في الحياةِ والموت في قبوركم ، إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيْهِ ؛ أي لا شَكَّ فيهِ أنهُ كائنٌ لا محالةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً } ؛ استفهامٌ بمعنى النَّفيِ ، ليسَ أحدٌ أوفَى من اللهِ تعالى وَعْداً ولا أصْدَقَ منه قَوْلاً ، ولا صادقاً إلاّ ويوجدُ غيرهُ على خلافِ مُخْبَرِهِ وقتاً من الأوقاتِ إلاّ الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَمَنْ أصدقُ مِن اللهِ حديثاً.
(0/0)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } ؛ قال ابنُ هِشَامٍ : (هَاجَرَ أنَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدِمُواْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِيْنَةَ فَأَسْلَمُواْ ، ثُمَّ نَدِمُواْ عَلَى ذلِكَ وَأرَادُواْ الرَّجْعَةَ ، فَقَالَ بَعْضُهُم لِبَعْضٍ : كَيْفَ نَخْرُجُ ؟ قَالُواْ : نَخْرُجُ كَهَيْأَةِ الْمُتَنَزِّهِيْنَ ، فَقَالُواْ لِلْمُسْلِمِيْنَ : إنَّا قَدِ اجْتَوَيْنَا الْمَدِيْنَةَ فَنَخْرُجُ وَنَتَنَزَّهُ - أي نَتَفَسَّحُ - فَصَدَّقُوهُمْ ، فَخَرَجُواْ فَجَعَلُواْ يُبَاعِدُونَ قَلِيلاً حَتَّى بَعُدُواْ ، ثُمَّ أسْرَعُواْ فِي السَّيْرِ إلَى مَكَّةَ حَتَّى لَحِقُواْ بهَا ، وَكَتَبُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أنَّا عَلَى مَا فَارَقْنَاكُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّصْدِيْقِ ، وَلَكِنَّا اشْتَقْنَا إلَى أرْضَنَا وَاجْتَوَيْنَا الْمَدِيْنَةَ.
ثُمَّ أنَّهُمْ أرَادُواْ أنْ يَخْرُجُوا فِي تِجِارَتِهِمْ إلَى الشَّامِ ، فَاسْتَبْعَضَهُمْ أهْلُ مَكَّةَ وَقَالُواْ : أنْتُمْ عَلَى دِيْنِ مُحَمَّدٍ ، فَإنْ لَقُوكُمْ فَلاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ. فَخَرَجُواْ مِنْ مَكَّةَ مُتَوَجِّهِيْنَ إلَى الشَّامِ ، فَبَلَغَ ذلِكَ الْمُسْلِمِيْنَ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ : مَا يَمْنَعُنَا أنْ نَخْرُجَ إلَى هَؤُلاَءِ الَّذِيْنَ رَغِبُواْ عَنْ دِيْنِنَا وَتَرَكُوهُ ، نَخْرُجُ إلَيْهِمْ فَنَقْتُلُهُمْ وَنَأْخُذُ مَا مَعَهُمْ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كَيْفَ نَقََتُلُ قَوْماً عَلَى دِيْنِكُمْ ، وَكَانَ بحَضرَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ سَاكِتٌ لاَ يَنْهَى أحَدَ الْفَرِيقَيْنِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ وَالَّتِي بَعْدَهَا يُبَيِّنُ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُمْ).
ومعناها : فِمَا لكُمْ من هؤلاءِ المنافقينَ حتى صِرْتُمْ في أمرِهم فرقتين من مُحِلٍّ لأموالِهم وَمُحَرِّمٍ ، { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ } ؛ أي رَدَّهُمْ إلى كُفْرِهم وضلالَتِهم بما كَسَبُوا من أعمالِهم السيِّئَةِ ، ونفاقِهم وخُبْثِ نِيَّاتِهم ، وانتصاب (فِئَتَيْنِ) على الحالِ ؛ يقالُ : مَا لَكَ قََائِماً ؛ أي لِمَ قُمْتَ في هذه الحالةِ ، وَقِيْلَ : على خَبَرِ (صار).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ } ؛ أي تريدون يا مَعْشَرَ المخلصينَ أن تُرْشِدُوا مَن خَذلَهُ اللهُ عن دِينه وحجَّته ، وَقِيْلَ : معناهُ : أتقولونَ إنَّ هؤلاءِ مهتدون ، { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } ؛ أي لن تَجِدَ له هَادِياً ، وَقِيْل : لن تَجِدَ لهُ طَريقاً إلى الْهُدَى. وقرأ عَبْدُاللهِ وأبَيّ : (واللهُ رَكَّسَهُمْ) بالتشديدِ.
(0/0)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } ؛ أي تَمَنَّى المنافقونَ والكفارُ أن تكفرُوا أنتُم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ كما كَفَروا ، فتكونُوا أنتم وهم سواءٌ في الكفرِ ، { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ } ؛ أي أحِبَّاءَ ، { حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ في طاعةِ اللهِ ، { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ } ؛ فإنْ أعْرَضُوا عن الإيْمانِ والْهِجْرَةِ فَأْسِرُوهُمْ ، { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } ؛ في الحلِّ والْحَرَمِ ، { وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ؛ أي حَبيْباً في العَوْنِ والنُّصرةِ.
وهذه الآية محمولةٌ على حالِ ما كانتِ الهجرةُ فَرْضاً كما قال صلى الله عليه وسلم : " أنَا بَرِيْءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ أقَامَ بَيْنَ أظْهُرِ الْمُشْرِكِيْنَ " ثم نُسِخَ ذلك يومَ فتحَ مكَّة كما روَى ابنُ عبَّاس قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ عليه السلام يَوْمَ الْفَتْحِ : " لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُواْ ".
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَكُونُونَ سَوَآءً } لَمْ يدخل جوابَ التَّمنِّي ؛ لأنه جوابَهُ بالفاءِ منصوبٌ ، وإنَّما أرادَ العطفَ على معنى : وَدُّوا لو تكفرونَ وَوَدُّوا لو تكونُوا سواءً ، مثلَ قولهِ : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }[القلم : 9] أي وَدُّوا لو تُدْهنُ وودُّوا لو تُدْهِنُونَ ، ومثلُه{ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ }[النساء : 102] أي وَودُّوا لو تَميلونَ.
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } ؛ هذا استثناءٌ لِمَنِ اتَّصَلَ من الكفار بقومٍ بينهم وبين المسلمينَ مِيْثَاقٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بالْقَوْمِ الأَسْلَمِيِّينَ ، وَادَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بُرْدَةَ هِلاَلَ بنَ عُوَيْمِرَ الأَسْلَمِيَّ وَأَصْحَابَهُ عَلَى أنْ لاَ يُعِينُوهُ وَلاَ يُعِيْنُوا عَلَيْهِ ، فَمَنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ وَلَحِقَ بهِمْ بالأَنْسَاب أوْ بالْوَلاَءِ) يعني : لجأَ أحدٌ من الكفار في عهدِ الأسلَمِيِّينَ على حَسْب ما كان بين يدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وبينَ قُريشٍ من الموادعة ؛ فدخلت خُزاعَةُ في عهدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بَنُو كِنَانَةَ في عهدِ قُرَيشٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ } ؛ معناهُ : ويَصِلُونَ إلى قومٍ جاؤُكم ضَاقَتْ صدورُهم أن يقاتِلوكُم مع قومِهم ، { أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ } ؛ معكُم وهم بَنُو مُدْلَجٍ ، { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } ؛ لَسَلَّطَ قوم هلالِ بن عويْمِر ، وبنِي مُدْلَجٍ عليكم ، { فَلَقَاتَلُوكُمْ } ؛ كما قَتَلْتُمُوهُمْ ظالِمين لهم ، { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } ؛ أي فإنْ تركوكُم فلم يقاتِلُوكم مع قومِهم ، واستسلَمُوا أو خَضَعُوا بالصُّلح والوفاءِ ، { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } ؛ أي حُجَّةً في القتالِ وقال أهلُ النَّحْوِ : معنى { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } أي حَصِرَتْ. و(حَصِرَتْ) لا يكون حالاً إلاّ بعدَ ؛ قالوا : ويجوزُ أن يكون (حَصَرِتْ صُدُورُهُمْ) خبراً بعد خبرٍ ؛ كأنه قالَ : أو جاؤُكم ، ثم أخبرَ بعدُ فقالَ : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أنْ يُقَاتِلُوكُمْ). وفي الشواذِّ : (أوْ جَاؤُكمُ حَصْرَةَ صُدُورُهُمْ).
وأمَّا اللامُ في { لَسَلَّطَهُمْ } فجوابُ { لَوْ شَاءَ اللهُ } ، واللاَّمُ في { فَلَقَاتَلُوكُمْ } للبدلية ، والفاءُ فاءُ عطفٍ بمنْزِلة الواو.
وقد رويَ عن عطاءِ عنِ ابنِ عبَّاس : (أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[النساء : 89] بآيَةِ السَّيْفِ ، هِيَ مُعَاهَدَةُ الْمُشْرِكِيْنَ وَمَوَادَعَتُهُمْ مَنْسُوخَةٌ بقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[التوبة : 5]). ولأن الله تعالى أعَزَّ الإسلامَ وأهلَهُ ؛ فلا يُقْبَلُ من مشركي العرب إلاّ الإسلامُ أو السَّيْفُ بهذه الآيةِ ، وقد أمرَنا اللهُ تعالى في أهلِ الكتاب بقتالِهم حتى يُسْلِمُوا أو يُعْطُوا الجزيةَ بقوله تعالى : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة : 29] إلى قولهِ تعالى : { وَهُمْ صَاغِرُونَ }[التوبة : 29] فلا يجوزُ مُدَاهَنَةُ الكفَّار وتركُ أحدِهم على الكفرِ من غيرِ جِزْيَةٍ إذا كان بالمسلمين قُوَّةٌ على القتالِ ، وأما إذا عَجَزُوا عن مقاومتِهم وخافُوا على أنفسِهم وذراريهم جازَ لَهم مهادنةُ العدوِّ من غير جزيةٍ يؤدُّونَها إليهم ؛ لأن حَظْرَ الموادعةِ كان لسبب القوَّة ؛ فإذا زالَ السببُ زالَ الْحَظْرُ.
(0/0)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ } ؛ معناهُ : ستجدون قَوماً آخرينَ يريدون أن يَأَمَنُوكُمْ ، أي يُظهرون لكم الصُّلْحَ ، يريدونَ أنْ يأْمنُوكم بكلمةِ التَّوحِيدِ ، يُظهرونَها لكم ، { وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } ؛ أي ويأمَنُوا من قومِهم بالكفرِ في السرِّ ، { كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا } ؛ كلَّما دُعُوا إلى الكُفْرِ رَجَعُوا فيهِ.
قال ابنُ عبَّاس : (هُمْ أسَدُ وَغَطَفَانُ ؛ كَانَوا حَاضِري الْمَدِيْنَةِ ، وَكَانَا يَتَكَلَّمَانِ بالإسْلاَمِ وَهُمَا غَيْرُ مُسْلِمَيْنِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَقُولُ لَهُ قَوْمُهُ : بمَاذا آمَنْتَ ؟ وَلِمَاذا أسْلَمْتَ ؟ فَيَقُولُ : آمَنْتُ برَب العُودِ ، وَبرَبِّ الْعَقْرَبِ وَبربِّ الْخَنْفُسَاءِ. يُرِيْدُونَ بهِ الاسْتِهْزَاءَ ، فَإذا لَقُواْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَالُواْ : إنَّا عَلَى دِيْنِكُمْ ؛ وَأظْهَرُواْ الإسْلاَمَ ، فَأَطْلَعَ اللهُ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى ذلِكَ بهَذِهِ الآيَةِ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ } ؛ أيْ فانْ لَمْ يتركوا قتالكم ولَمْ يَستَدِيموا لكم في الصُّلْحِ ، ولَمْ يَمنعوا أيديَهم عن قتالِكم ، { فَخُذُوهُمْ } ؛ أي إسِرُوهُمْ ، { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } ؛ أي حيث وَجَدْتُمُوهُمْ ، { وَأُوْلَـائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } ؛ أي أهل هذه الصفة جعلنا لكم عليهم حجة ظاهرة بالقتال معهم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً }[النساء : 92] أي ما كانَ لِمؤمنٍ في حُكْمِ اللهِ أن يَقْتُلَ مؤمناً بغيرِ حقٍّ إلاَّ أن يكونَ وُقُوعُ القتلِ منه على وجهِ الخطأ ، وهو ألاَّ يكونَ قاصداً قَتْلَهُ فيكونُ مرفوعَ الإثْمِ والعقاب.
واختلفَ المفسِّرون فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ ؛ قال ابنُ مسعودٍ : (فِي عَيَّاشِ بْنِ رَبيْعَةَ الْمَخْزُومِيِّ ؛ أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِيْنَةِ فَأَسلَمَ مَعَهُ ، فَخَافَ أنْ يَعْلَمَ أهْلُهُ بإسْلاَمِهِ ، فَخَرَجَ هَارباً إلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ فَاخْتَفَى فِي جَبَلٍ مِنْ جِبَالِهَا ؛ فَجَزِعَتْ أمُّهُ جَزَعاً شَدِيْداً حِيْنَ بَلَغَهَا إسْلاَمُهُ وَخُرُوجُهُ إلَى الْمَدِيْنَةِ ؛ فَقَالَتْ لأَبيْهَا الْحُرَيْثِ وَأبي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - وَهُمَا أخَوَاهُ لأُمِّهِ - : وَاللهِ لاَ يُظِلُّنِي سَقْفٌ وَلاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى تَأْتُونِي بهِ ، فَخَرَجَا فِي طَلَبهِ ، وَخَرَجَ مَعَهُمَا الْحَرْثُ بْنُ زَيْدٍ حَتَّى أتَيَا الْمَدِيْنَةَ ، فَوَجَدَا عَيَّاشاً فِي أطَمٍ - أيْ جَبَلٍ - فَقَالاَ لَهُ : إنْزِلْ ؛ فَإنَّ أمَّكَ لَمْ يَأْوهَا سَقْفُ بَيْتٍ بَعْدَكَ ، وَقَدْ حَلَفَتْ لاَ تَأْكُلُ طَعَاماً وَلاَ تَشْرَبُ شَرَاباً حَتَّى تَرْجِعَ إلَيْهَا ، وَلَكَ عَلَيْنَا ألاَّ نُكْرِهَكَ عَلَى شَيْءٍ ؛ وَلاَ نَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ دِيْنِكَ ، فَحَلَفُواْ لَهُ عَلَى ذلِكَ فَنَزَلَ إلَيْهِمْ ، فَأَوْثَقُوهُ بنِسْعَةٍ ثُمَّ جَلَدَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
ثُمَّ قَدِمُواْ بهِ عَلَى أمِّهِ ، فَلَمَّا أتَاهَا قَالَتْ لَهُ : وَاللهِ لاَ أحِلُّكَ مِنْ وثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بالَّذِي آمَنْتَ بهِ ، ثُمَّ تَرَكُوهُ مَطْرُوحاً مَوْثُوقاً فِي الشَّمْسِ مَا شَاءَ اللهُ ، ثُمَّ أعْطَاهُمُ الَّذِي أرَادُوا ، فَأَتَاهُ الْحُرَيْثُ بْنُ زَيْدٍ ، فَقَالَ لَهُ : يَا عَيَّاشُ ؛ هَذا الَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ ، فَوَاللهِ لَئِنْ كَانَ الْهُدَى لَقَدْ تَرَكْتَ الْهُدَى ، وَلَئِنْ كَانَ ضَلاَلَةً لَقَدْ كُنْتَ عَلَيْهَا ، فَغَضِبَ عَيَّاشُ مِنْ مَقَالَتِهِ ، قَالَ : واللهِ لاَ ألْقَاكَ خَالِياً إلاَّ قَتَلْتُكَ.
(0/0)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي مِقْيَسِ بْنِ خَبَابَةَ ؛ وَجَدَ أخَاهُ قَتِيْلاً فِي بَنِي النَّجَّار ؛ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً مِنْ بَنِي فِهْرٍ ، وَقَالَ لَهُ : " إئْتِ بَنِي النَّجَار فَأَقْرِئْهُمْ مِنِّي السَّلاَمَ ؛ وَقُلْ لَهُمْ : رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأَمُرُكُمْ إنْ عَلِمْتُمْ قَاتِلَ هِشَامَ أنْ تَدْفَعُوهُ إلَى مَقِيْسٍ يَقْتَصُّ مِنْهُ ، وَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا لَهُ قَاتِلاً أنْ تَدْفَعُواْ إلَيْهِ دِيَّتَهُ " فَأَبْلَغَهُمُ الْفِهْرِيُّ ذلِكَ ، فَقَالُواْ : سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ ؛ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ لَهُ قَاتِلاً ؛ وَلَكِنَّا نُؤَدِّي دِيَتَهُ ، فَأَعْطَوْهُ مَائِةً مِنَ الإبلِ ، وَانْصَرَفَا رَاجِعَيْنِ نَحْوَ الْمَدِيْنَةِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَدِيْنَةِ قَرِيْبٌ ، فَوَسْوَسَ الشَّيْطَانُ إلَى مِقْيَسٍ وَقَالَ لَهُ : أيُّ سَبَبٍ صَنَعْتَ بقَبُولِ دِيَّةِ أخِيْكَ فَتَكُونَ عَلَيْكَ سُبَّةٌ ، أقْتُلِ الَّذِي مَعَكَ تَكُونُ نَفْسٌ مَكَانَ نَفْسٍ وَفَضْلَ الدِيَّةِ ، فَرَمَى الْفِهْرِيَّ بصَخْرَةٍ فَشَدَخَ رَأَسَهُ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ رَكِبَ بَعِيْراً مِنْهُمَا وَسَاقَ بَقِيَّتَهَا رَاجِعاً إلَى مَكَّةَ كَافِراً ، وَجَعَلَ يَقُولُ : قَتَلْتُ بهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ سُرَاةَ بَنِي النَّجَّار وَأرْبَابَ فَارعِفَأَدْرَكْتُ ثَأْري وَاضْطَجَعْتُ مُوسَّداً وَكُنْتُ إلَى الأَوْثَانِ أوَّلَ رَاجِعِفَنَزَلَتْ هذه الآيةُ ، وَقُتل مِقيَسُ يومَ فتحِ مكَّة.
ومعناها : ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً في قلتهِ مُسْتَحِلاًّ لَهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيْهَا باستحْلالهِ لَهُ وارتدادهِ عن إسلامهِ ، { وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ } ؛ بقَتْلِهِ غيرَ قاتلِ أخيهِ ؛ { وَلَعَنَهُ } ؛ أي بَاعَدَهُ من رحمتهِ ، { وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } ؛ بجُرْأتِهِ على اللهِ بقتلِ نفسٍ بغير حقٍّ.
واختلفَ الناسُ في حُكْمِ هذه الآيةِ ، قالتِ الخوارجُ والمعتزلة : (إنَّهَا فِي الْمُؤْمِنِ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً ، وَهَذا الْوَعِيْدُ لاَحِقٌ بهِ). وقالت المرجئةُ : (إنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ قَتَلَ مُؤْمِناً ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ إذا قَتَلَ مُؤْمِناً فَإنَّهُ لاَ يُخَلَّدُ فِي النَّار).
وقالت طائفةٌ من أصحاب الحديث : كُلُّ مُؤْمِنٍ قَتَلَ مُؤْمِناً فَهُوَ خَالِدٌ فِي النَّار غَيْرَ مُؤَبَّدٍ يُخْرَجُ بشَفَاعَةِ الشَّافِعِيْنَ ، وَزَعَمَتْ : أنَّهُ لاَ تَوْبَةَ لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.
والصحيحُ : أنَّ المؤمنَ إذا قَتَلَ مؤمناً متعمِّداً لا يَكْفُرُ بذلك ولا يخرجُ من الإيْمانِ ؛ إلاَّ إذا فَعَلَ ذلك مُسْتَحِلاً لهُ ، فإنْ أقِيدَ بمن قتلَه فذلك كفارةٌ له ، وإن كان تائِباً من ذلك ولم يكن مُعَاداً كانت التوبةُ أيضاً كفَّارةً له ، فإنْ ماتَ بلا توبةٍ ولا قَوْدٍ فأمرهُ إلى الله ؛ إنْ شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذبه على فعلهِ ثم يخرجهُ بعد ذلك إلى الجنَّةِ التي وعدَهُ بإيْمَانهِ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يُخْلِفُ الميعادَ ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعيدِ يكونُ منه تَفَضُّلاً ، وتركُ الْمُجَازَاةِ بالوعدِ يكونُ خِلْفاً ، تعالَى اللهُ عن الخلفِ عُلُوّاً كبيراً.
والدليلُ على أنَّ المؤمنَ لا يصيرُ بقتلهِ المؤمنَ كافراً ، ولا خارجاً عن الإيْمان قَوْلُهُ تَعَالَى :
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُو } ؛ قال ابنُ عبَّاس : " نَزَلَتْ فِي مِرْدَاسِ بْنِ نُهَيْكٍ ؛ كَانَ مُسْلِمَاً لَمْ يُسْلِمْ مِنْ قَوْمِهِ غَيْرُهُ ، فَسَمِعُوا بسَرِيَّةٍ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تُرِيْدُهُمْ فَهَرَبُوا كُلُّهُمْ ، وأَقَامَ الرَّجُلُ فِي غَنَمِهِ ؛ لأَنَّهُ كَانَ عَلَى دِيْنِ الْمُسْلِمِيْنَ ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْلَ خَافَ أنْ يَكُونُواْ مِنْ غَيْرِ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَأَلْجَأَ غَنَمَهُ إلَى عَاقُولٍ مِنَ الْجَبَلِ وَهُوَ الْعِوَجُ ، فَلَمَّا سَمِعَهُمْ يُكَبرُونَ عَرَفَ أنَّهُمُ الصَّحَابَةُ ؛ فَكَبَّرَ وَنَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ؛ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ، فَغَشَاهُ أسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَقَتَلَهُ وَسَاقَ غَنَمَهُ ، وَكَانَ أمِيْرُ السَّرِيَّةِ غَالِبَ بْنَ فُضَالَةَ اللَّيْثِيّ ، ثُمَّ رَجَعُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، فَوَجَدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذلِكَ وَجْداً شَدِيْداً وَقَالَ : " قَتَلْتُمُوهُ إرَادَةَ مَا مَعَهُ " فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ؛ فَقَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أسَامَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اسْتَغْفِرْ لِي ، قَالَ : " فَكَيْفَ بلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ! ؟ " قَالَ ذلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدَ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ ، وَأَمَرَهُ أنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً ".
وعن الحسن : (أنَّ أنَاساً مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ لَقُوا أنَاساً مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ فَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ ، فَشَدَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَمَعَهُ مَتَاعٌ ، فَلَمَّا غَشِيَهُ السَّيْفُ قَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ ، فَكَذبَهُ ثُمَّ أوْجَرَ السِّنَانَ وَأخَذ مَتَاعَهُ ، وَكَانَ وَاللهِ قَلِيْلاً ، فَأُخْبرَ بذلِكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قالَ جُنْدُبُ بْنُ سُفْيَان : " وَلَقَدْ كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ جَاءَ السَّيْفُ ، وَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ بَيْنَما نَحْنُ نَطْلُبُ الْقَوْمَ وَقَدْ هَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى إذْ لَحِقْتُ رَجُلاً بالسَّيْفِ ، فَلَمَّا أحَسَّ السَّيْفَ وَاقِعٌ بهِ ، قَالَ : إنِّي مُسْلِمٌ ؛ إنِّي مُسْلِمٌ ؛ فَقَتَلْتُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " قَتَلْتَ مُسْلِماً! " قَالَ : يَا نَبيَّ اللهِ ؛ إنَّهُ قَالَ ذلِكَ مُتَعَوِّذاً ، فَقَالَ : " فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبهِ! فَنَظَرْتَ أصَادِقاً هُوَ أمْ كَاذِباً " قَالَ : لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبهِ مَا كَانَ يُعْلِمُنِي ؛ هَلْ قَلْبُهُ إلاَّ بضْعَةٌ مِنْ لَحْمٍ ، قَالَ : " فَأنْتَ قَتَلْتَهُ ؛ لاَ مَا فِي قَلْبهِ عَلِمْتَ ؛ وَلاَ لِسَانَهُ صَدَّقْتَ ؛ إنَّمَا يُعَبرُ عَنْهُ لَِسانُهُ " فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ اسْتَغْفِرْ لِي ، قَالَ : " لاَ أسْتَغْفِرُ لَكَ " قَالَ : فَمَا لَبثَ الْقَاتِلُ أنْ مَاتَ فَدَفَنُوهُ ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ إلَى جَانِب قَبْرِهِ ، فَعَادُواْ فَحَفَرُواْ لَهُ وَأمْكَنُوا فَدَفَنُوهُ ؛ فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ ثَلاَث مَرَّاتٍ ، فَلَمَّا رَأى ذلِكَ قَوْمُهُ اسْتَحْيَوا وَحَزِنُوا وَأخَذُواْ برِجْلِهِ فَألْقَوْهُ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَاب ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ ؛ إنَّهَا لَتَنْطَبقُ عَلَى مَنْ هُوَ أعْظَمُ جُرْماً مِنْهُ ، وَلَكِنْ أرَادَ اللهُ أنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ حُرْمَةَ الدَّمِ ".(0/0)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } ؛ أي لا يستوِي في الفَضْلِ والثَّواب القاعدونَ عنِ الجهادِ من المؤمنين الأصحَّاء ؛ الذين لا ضَرَرَ بهم من المرضِ والزَّمَانَةِ ؛ ولا عُذْرَ يَمنعُهم من الجهادِ ، { وَالْمُجَاهِدُونَ } ؛ في طاعةِ الله بالإنفاقِ من أموالِهم والخروج بأنفُسِهم.
رويَ : أنَّهُ نَزَلَ أوَّلاً (لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) فَجَاءَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ وَرَجُلٌ آخَرُ مَعَهُ وَهُمَا أعْمَيَانِ ، فَقَالاَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أمَرَ اللهُ بالْجِهَادِ وَفَضَّلَ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ ، وَحَالُنَا عَلَى مَا تَرَى ، فَهَلْ لَنَا مِنْ رُخْصَةٍ ؟ وَاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَجَاهَدْنَا ، فَأَنْزَلَ اللهُ { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } أي غير أولي الضرر فِي الْبَصَرِ ، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الأجْرِ مَا لِلْمُجَاهِدِيْنَ.
وروَى ابنُ أبي لَيْلَى ؛ قال : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبيلِ اللهِ) قَالَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ : اللَّهُمَّ أنْزِلْ عُذْري ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } فَوُضِعَتْ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ بَعْدُ ذلِكَ يَغْزُو وَيَقُولُ : إدْفَعُواْ إلَيَّ اللِّوَاءَ ؛ وَيَقُولُ : أقِيْمُونِي بَيْنَ الصَّفَّيْنِ).
وعن زيد بن ثابت قال : (كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي ، وَقَدْ أمْلَى عَليَّ قَوْلُهُ : { لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } فَعَرَضَ ابْنُ أمِّ مَكْتُومٍ فَثَقُلَتْ فَخِذُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فَخِذِهِ حَتَّى كَادَتْ تَنْحَطِمُ ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ }.
ومَن قرأ (غَيْرَ أوْلِي الضَّرَر) بالنصب فهو نصبٌ على الاستثناءِ ، كأنَّهُ قالَ : إلاَّ أوْلِي ، كما يقالُ : جاءَنِي القومُ غيرَ زيدٍ. ويجوزُ أن يكونَ على الحالِ ؛ أي لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ وَالمُجَاهِدُونَ ، وهذا كما يقالُ : جاءَنِي زيدٌ غيرَ مريضٍ ؛ أي صَحِيْحاً.
ومن قرأ (غَيْرُ) بالرفعِ ، فيجوزُ الرفعُ في استثناءِ الإثباتِ من النَّفي ، ويجوزُ أن يكونَ (غَيْرُ) صفةٌ للقاعدين ، وإنْ كان أَصلُ (غَيْرُ) أن تكونَ صفةً كما هو نكرةٌ. المعنى : لاَ يَسْتَوِي القاعدونَ الذي هُم غَيْرُ أولِي الضَّرَر والْمُجَاهِدُونَ في الفَضْلِ والثَّواب ، وإن كانوا كلُّهم مؤمنين.
واختارَ بعضُهم قراءةَ الرفعِ ؛ لأنَّ معنى الصِّفةِ على لفظةِ (غَيْرُ) أغلبُ من معنى الاستثناء ، واختارَ بعضُهم قراءةَ النصب لأن قولَه { غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ } نزلَ بعد قولهِ : (لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سبيلِ اللهِ) فيكونُ معنى الاستثناءِ به ألْيَقُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً } ؛ أي فَضِيْلَةً ومَنْزِلَةً ؛ { وَكُـلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } ؛ أي وُكِلاَ الفريقين الْمُجَاهِدُ والقاعدُ وعدَهم اللهُ الْحُسْنَى يعنِي الْجَنَّةَ بالإيْمان. وفي هذا دليلٌ أنَّ الجهادَ فرضٌ على الكفايةِ ؛ لأنه لو كان فَرْضاً على الأعيانِ لَمْ يَجُزْ أن يكونَ القاعدُ عنه موعودٌ بالْحُسنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً } ؛ أي فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهدين على القاعدينَ عنِ الجهادِ بغيرِ عُذر ثواباً حَسَناً في الجنَّة ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (أجْراً) نُصِبَ على التَّفسيرِ. وقال الأخفشُ : (عَلَى الْمُقَدَّر ؛ تَقْدِيْرُهُ : آجَرَهُمُ اللهُ أجَراً).
والفائدةُ في تكرار لفظ التفضِيل : أنَّ في الأول بيانُ تفضيلِ مَن جاهدَ بالمال والنفسِ جميعاً ؛ وفي آخرِ الآية بيانُ تفضيلِ الْمُجَاهِدِ مُطْلقاً ، ويدخلُ فيه الْمُجَاهِدُ بالمالِ والنَّفْسِ ، والْمُجَاهِدُ بالمالِ دونَ النفس ، وبالنفس دونَ المالِ.
(0/0)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } ؛ هذا بدلٌ من قولهِ تعالى (أجْراً) أو صفةٌ له ؛ وهو موضع نصبٍ. وعن ابن مُحَيْرِيْزِ أنهُ قال : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِيْنَ عَلَى الْقَاعِدِيْنَ سَبْعِيْنَ دَرَجَةً ؛ بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيْرَةَ سَبْعِيْنَ خَرِيْفاً لِلْجَوَادِ الْمُضَمَّرِ).
قولهُ : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ أي غَفُوراً لذنب مَن جاهدَ ، رَحِيْماً إذ ساوَى في وعدِ الْحُسنى بينَ مَن له العذرُ وبين مَن جاهدَ.
فإنْ قِيْلَ : كيفَ ذكرَ التفضيلَ في هذه الآية بدرجاتٍ ، وفي الآيةِ التي قبلها بدرجةٍ ؟ قُلْنَا : قالَ بعضُهم : أراد بذكرِ الدرجَة في الآيةِ الأُولى : الفضيلةَ والكرامةَ في الدُّنيا ، وبذكرِ الدرجاتِ درجاتِ الجنَّة منال في النَّعيمِ ، بعضُها أعلى من بعضٍ ، وذكرَ المغفرةَ لبيانِ خُلُوصِ نعيمِهم عنِ الكَدَر ، كما رويَ في الخبرِ : (أنَّ اللهَ يُنْسِيْهِمْ فِي الْجَنَّةَ مَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الذُّنُوب فِي الدُّنْيَا حَتَّى لاَ يَلْحَقَهُمُ الْحَيَاءُ) ، وذكرَ الدرجةَ لبيانِ أنَّ اللهَ أعطاهُم ذلكَ النفعَ العظيم على جهةِ النِّعْمَةِ مع ما يضافُ إليه من الفضلِ بالزيادة في النِّعْمةِ. وقال بعضُهم : أرادَ بالتفضيلِ في الدرجةِ في الآية الأُولى تفضيلَ الْمُجَاهِدِيْنَ على القاعدينَ المعذورينَ ، وبالآيةِ الثانية تفضيلَهم على القاعدين الذين لا عُذْرَ لَهم.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
قوله عزّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ تَكَلَّمُواْ بالإسْلاَمِ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ - أيْ أظْهَرُوا الإسْلاَمَ وَأسَرُّواْ النِّفَاقَ - فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ خَرَجُواْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ إلَى الْمُسْلِمِيْنَ ، فَلَمَّا رَأوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِيْنَ قَالُواْ وَهُمْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ : غَرَّ هَؤُلاَءِ دِيْنُهُمْ ، فَقُتِلُواْ يَوْمَئِذٍ فَضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) ، وَقَالَتْ لَهُمْ : لِمَاذَا خَرَجْتُمْ مَعَ الْمُشْرِكِيْنَ وَتَرَكْتُمُ الْهِجْرَةَ؟! فَكَانَ سُؤَالُ الْمَلاَئِكَةِ لَهُمْ بهَذا عَلَى سَبيْلِ التَّقْرِيْعِ.
ويجوزُ أن يكونَ معناهُ : فِيمَ كُنْتُمْ في المشركينَ أمْ فِي المسلمينَ ؟ { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ } ؛ أي مَقْهُورُونَ في أرضِ مكَّة ، فأخرَجُونا معهم كَارهينَ ، قالتِ الملائكةُ : { قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً } ؛ يعني أرضَ المدينةِ واسعة أمِيْنَةً ، { فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } ؛ أي إليها ، وتخرجُوا من بين أظْهُرِ المشركينَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } نُصِبَ على الحالِ بمعنى تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ في حال ظُلْمِهِمْ لأنْفسِهم بالشِّركِ والنِّفَاقِ ، والأصلُ (ظَالِمِيْنَ) إلاَّ أن النونَ حُذِفَتْ استخفافاً وهي ثانيةٌ في المعنى ، فيكونُ هذا في معنى النكرةِ وإنْ أضيفََ إلى المعرفةِ ، كما في قولهِ تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ }[المائدة : 95]. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } أي تَقْبضُ أرواحَهم عند الموتِ ، وإنَّما حُذفت التاءُ الثانية لاجتماع التَّاءين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ أي أهلَ هذه الصِّفة مصيرُهم ومنْزِلتهم جهنمُ ؛ { وَسَآءَتْ مَصِيراً } ؛ لِمن صارَ إليها ، واختلفوا في خَبَرِ : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ } ؛ قال بعضُهم : خبرهُ : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } ، أي قالوا لهم : فيما كنتم ، قال بعضُهم خبرهُ : { فَأُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }. وفي قولهِ تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } دليلٌ أنهُ لا عذرَ لأحدٍ في المقام على المعصيةِ في بَلَدِهِ لأجلِ الْمَالِ والوَلَدِ والأهلِ ، بل ينبغي أن يُفارقَ وَطَنَهُ إن لم يُمكنه إظْهَارُ الْحَقِّ فيهِ ، ولِهذا رويَ عن سعيدِ بن جُبير أنه قالَ : (إذا عُمِلَ بالْمَعَاصِي فِي أرْضٍ فَاخْرُجْ مِنْهَا) ، ورويَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " مَنْ فَرَّ بدِيْنِهِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ ، وَإنْ كَانَ شِبْراً اسْتَوْجَبَ بهِ الْجَنَّةَ ، وَكانَ رَفِيْقَ ابْرَاهِيْمَ وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم "
(0/0)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } ؛ استثناءٌ من قولهِ تعالى : { فَأُوْلَـائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ }[النساء : 97] والمعنَى : إلاّ مَن صَدَقَ أنه مُسْتَضْعَفٌ من الشُّيوخِ والوِلْدَانِ ونِسَاءٍ لا يَجدونَ نَفَقَةَ الخروجِ إلى المدينة ولا يُمكنهم الخروجُ إليها ، ولا يعرفونَ الطريقَ حتى يُهاجروا ، والمعنَى : إلاَّ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ المخلصينَ الْمُقْهُوريْنَ بَمَكَّةَ لم يستطيعوا الْهِجْرَةَ ، ومُنِعُوا من اللُّحُوقِ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وهم يريدونَ اللُّحُوقَ بهِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } ؛ قال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ لاَ يَعْرِفُونَ طَرِيْقَ الْمَدِيْنَةِ). وقالُ ابنُ عبَّاس : (كُنْتُ أنَا وَأمِّي مِنَ الَّذِيْنَ لاَ يَسْتَطِيْعُونَ حِيْلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبيلاً ، وَكُنْتُ غُلاَماً صَغِيراً يَومَئِذٍ ، فَنَحْنُ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ).
(0/0)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأُوْلَـائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة من المستضعفين ، عَسَى اللهُ أنْ يَتَجَاوَزَ عنهُم ، و { عَسَى } مِن اللهِ كلمةُ إيجابٍ ؛ لأنه أرْحَمُ الرَّاحِمِيْنَ ، والفائدةُ في ذِكْرِ هذا اللفظِ أنْ يكونَ العبدُ بين الخوفِ والرَّجاءِ. وَقَوْلُهُ تَعََالَى : { وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } ؛ أي لَم يَزَلْ عَفُوّاً عن عبادهِ غَفُوراً لَهم.
(0/0)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } ؛ أي مَن يَخْرُجْ في سبيلِ الله الذي أمرَ اللهُ بالْهِجْرَةِ فيهِ وهو سبيلُ المدينةِ ؛ يَجِدْ في الأرض مُتَحَوَّلاً كثيراً وَمُتَزَحْزَحاً عَمَّا يكرهُ. وقولهُ تعالى : { وَسَعَةً } أي سَعَةً في الرِّزْقِ. وقال قتادةُ : (سَعَةً فِي إظْهَار الدِّيْنِ) وإنَّما قال ذلكَ كان يلحقُهم من الضِّيْقِ من جهةِ الكفَّار في إظهار دِينهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي اللَّيْثِ شَيْخٌ كَبيْرٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدُعُ بْنُ ضَمِرَةَ فَقَالَ : أنَا وَاللهِ مِمَّنِ اسْتَثْنَانَا اللهُ تَعَالَى فَإنِّي لاَ أجِدُ حِيْلَةً ، وَاللهِ لاَ أبِيْتُ لَيْلَةً بَمَكَّةَ ، فَخَرَجُواْ بهِ يَحْمِلُونَهُ عَلَى سَريْرِهِ ؛ فَأَتَواْ بهِ التَّنْعِيْمَ فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ ، فَصَفَّقَ بيَمِيْنِهِ عَلَى شِمالِهِ ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ هَذِهِ لَكَ وَهَذِهِ لِرَسُولِكَ أبَايعُكَ عَلَى مَا بَايَعَكَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَمَاتَ حَمِيْداً.
فَبَلَغَ ذلِكَ أصْحَابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانُواْ يَقُولُونَ : لَوْ بَلَغَ إلَيْنَا لَتَمَّ أجْرُهُ ، وَضَحِكَ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُواْ : مَا أدْرَكَ مَا طلَبَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً }. أي مهاجِراً قومَهُ وأهلَه وولدَه إلى طاعةِ الله وطاعةِ رسوله ؛ { ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ } ؛ في الطريقِ ؛ { فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ } ؛ فقد وجبَ ثوابهُ على اللهِ الْمَلِيءُ الوفِيُّ بوعدهِ ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً } ؛ بما كان منهُ في الشِّرْكِ ؛ { رَّحِيماً } ؛ بهِ في الإسلامِ.
(0/0)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلَاوةِ } ؛ أي إذا سافرْتُم في الأرضِ ؛ لأن الخروجَ إلى الصحراءِ أو القصدَ إلى القرية القريبةِ لا يسمَّى ضَرْباً في الأرضِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي ليسَ عليكم حَرَجٌ وَمَأْثَمٌ في أن تَقْصُرُوا من الصلاةِ ، يعني من أربعِ رَكَعَاتٍ إلى ركعتين ، { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ } ؛ أي إنْ عَلِمْتُمْ أنْ يَغْتَالَكُمُ ، { الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ ويقتلُوكم ، { إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً } ؛ أي عَدُوّاً ظاهِرَ العداوة ، يُقبدون عداوتَهم لكم.
وفي الآيةِ ذكرُ القَصْرِ من الصلاةِ بين شَرْطَيْنِ ، وأجمعتِ الأُمَّةُ أن أصلَ القَصْرِ لا يَتَعَلَّقَ بهما وأن كلَّ واحدٍ منهما يؤثِّر في القصرِ نوعَ تأثيرٍ ، فتأثيرُ السَّفرِ في القصرِ في العددِ في الصَّلاة الرباعيَّة ، وتأثيرُ الخوفِ في القصرِ في أركان الصَّلاة إذا خافَ إنْ قامَ في الصلاة أن يراهُ العدوُّ ، أو خاف أن ينزل عن الدابَّة أن يدركهُ العدوُّ ، وكان لهُ ترك القيامِ ، وأنْ يُؤمِئَ على الدابَّة ، فيحتملُ أن حرفَ العطفِ مضمراً في قولهِ : { إِنْ خِفْتُمْ } كأنهُ قال : وإنْ خِفْتُمْ أن يَفْتِنَكُمُ الذينَ كَفَرُوا فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ.
وقال الحسنُ : (صَلاَةُ السَّفَرِ رَكْعَتَانِ ، فَإذا قامَ الْحَرْبُ فَرَكْعَةٌ) وهذا اللفظُ يقتضي القصرَ الذي هو في غاية في القصرِ متعلقٌ بشرطين على مذهبهِ. ورويَ : " أنَّ رَجُلاً سَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : كَيْفَ يَقْصُرُ النَّاسُ وَقَدْ أمِنُواْ ؟ فَقَالَ عُمَرُ : عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ ؛ حَتَّى سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ فَقَالَ : " صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بهَا عَلَيْكُمْ ألاَ فَاقْبَلُواْ صَدَقَةَ اللهِ عَلَيْنَا " يقتضي إسقاطَ الفرضِ عنَّا. وفي قولهِ صلى الله عليه وسلم : " فَاقْبَلُواْ صَدَقَتَهُ " دليلٌ أنَّ القصرَ عَزِيْمَةٌ لا رُخْصَةٌ ؛ لأن ظاهرَ الأمرِ على الوجوب ، ولِهذا قال أصحابُنا : إنَّ المسافرَ إذا صَلَّى الظهرَ أربعاً ، ولم يقعُد في الثانيةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَسَدَتْ صلاتُه ، كمصلَّي الفجرِ أربعاً.
(0/0)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ } ؛ الآيةُ ، قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا رَأى الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ قَامُواْ إلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ وَهُوَ يَؤُمُّهُمْ ؛ نَدِمُواْ عَلَى تَرْكِهِمْ الإقْدَامَ عَلَى قِتَالِهِمْ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : دَعُوهُمْ ؛ فإنَّ بَعْدَهَا صَلاَةٌ هِيَ أحَبُّ إلَيْهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ - يُرِيْدُونَ الْعَصْرَ - فَإذا رَأَيْتُمُوهُمْ قَامُواْ إلَيْهَا فَشُدُّوا عَلَيْهِمْ ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام بهَذِهِ الآيَةِ وَأطْلَعَ اللهُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَصْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ ، وَعَنْ هَذا كَانَ إسْلاَمُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيْدِ حِيْنَ عَرَفَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اطَّلَعَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَصْدِ الْمُشْرِكِيْنَ فِي السِّرِّ فِيْمَا بَيْنَهُمْ).
ومعنى الآيةِ : وإذا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ معَ المؤمنينَ في الغَزْو فابتدأتَ في صلاةِ الخوفِ ؛ فَلْيَقُمْ جَمَاعَةٌ منهُم معكَ في الصلاةِ ؛ وَلْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في صلاتِهم ؛ لأنَّ ذلك أهْيَبُ للعدوِّ ، فإذا سَجَدَتِ الطائفةُ التي معكَ وصَلَّتْ ركعةً ، فلينصرِفُوا إلى المصاف وليقفُوا بإزَاءِ العَدُوِّ ؛ { وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ } ؛ وهمُ الذينَ كانوا بإزاءِ العدوِّ ، ولم يصلُّوا معكَ في الركعةِ الأُولى ؛ فليصلُّوا معكَ الركعةَ الأُخرى ، ولْتَكُنْ أسلحتُهم معَهم في الصَّلاةِ ، ولم يذكرْ في الآية لكلِّ طائفةٍ إلاّ ركعةً واحدةً.
وفي صلاةِ الخوفِ خلافٌ بين العلماء ؛ قال بعضُهم : إنَّها غير مشروعةٍ بعدَ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهو روايةٌ عن أبي يوسف وهو قولُ الحسنِ بن زياد ؛ لأنَّ في هذه الآيةِ ما يدلُّ على كون النبيِّ صلى الله عليه وسلم شَرَطٌ في إقامةِ صلاة الخوف ؛ ولأنَّها إنَّما جازَتْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَدْركَ الناسُ فضيلةَ الصلاةِ خَلْفَهُ ؛ لأنَّ إمامةَ غيرهِ لَمْ تكن لتقومَ مقامَ إمامتهِ.
وذهبَ أكثرُ العلماء إلى أنَّ صلاةَ الخوف مشروعةٌ بعد النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ الخطابَ في هذه الآيةِ وإنْ كان للنبيِّ صلى الله عليه وسلم فالأئمَّةُ بعدَه يقومون مقامَه كما في قولهِ تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً }[التوبة : 103] ونحوِ ذلك من الآياتِ.
واختلفوا في كيفيَّة صلاةِ الخوف ، فقال أبُو حَنِيْفَةَ ومحمدٌ : (يَجْعَلُ الإمَامُ النَّاسَ طَائِفَتَيْنِ ؛ طَائِفَةٌ بإزَاءِ الْعَدُوِّ ، وَطَائِفَةٌ مَعَهُ ؛ فَيُصَلِّي بهِمَا رَكْعَةً رَكْعَةً ، ثُمَّ تَنْصَرِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ ؛ وَتَجِيْءُ الأُخْرَى فَيُصَلِّي بهِمْ رَكْعَةً ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. ثُمَّ تَرْجِعُ هَذِهِ الطَّائِفَةُ إلَى وَجْهِ الْعَدُوِّ بغَيْرِ سِلاَمٍ ، وَتَأْتِي الأُوْلَى فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ وحْدَاناً بغَيْرِ قِرَاءَةٍ ، فَإذا سَلَّمَتْ وَقَفَتْ بإزَاءِ الْعَدُوِّ ، وَجَاءَتْ تِلْكَ الطَّائِفَةُ فَتَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُوْلَى وحْدَاناً بقِرَاءَةٍ.
وعن أبي يوسُف : (إذا كَانَ الْعَدُوُّ فِي وَجْهِ الْقِبْلَةِ ؛ وَقَفَ الإمَامُ وَجَعَلَ النَّاسَ خَلْفَهُ صَفَّيْنِ ؛ فَافْتَتَحَ بهِمُ الصَّلاَةَ مَعاً ، فَصَلَّى بهِمْ رَكْعَةً ؛ فإذا سَجَدَ الإمَامُ سَجَدَ مَعَهُ الصَّفُّ الأَوَّلُ ، وَوَقَفَ الثَّانِي يَحْرِسُونَهُمْ ، فَإذا رَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ سَجَدَ الصَّفُّ الثَّانِي ؛ وَتَأَخَّرَ الأَوَّلُ ، وَيَقُومُ الصَّفُّ الثَّانِي فَيَرْكَعُ بهِمْ جَمِيْعاً ، ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ وَيَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُتَقَدِّمُ سَجْدَتَيْنِ ، وَالصَّفُّ الآخَرُ يَحْرِسُونَهُمْ ، ثُمَّ يَسْجُدُ الصَّفُّ الْمُؤَخَّرُ سَجْدَتَيْنِ لأنْفُسِهِمْ ؛ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ الإمَامُ وَيُسَلِّمُ بهِمْ جَمِيْعاً).
(0/0)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } ؛ يعني صَلاَةَ الخوفِ إذا فَرَغْتُمْ منها فَاذْكُرُوا اللهَ ؛ أي صَلُّوا قِيَاماً للصحيحِ ؛ وقُعُوداً للمريضِ ؛ وَعَلَى جُنُوبكُم للمرضَى والجرحَى الذين لا يستطيعون الجلوسَ. وَقِيْلَ : معناهُ : فَاذْكُرُوا اللهَ بتوحيدِه وتسبيحه وشُكْرِهِ على كلِّ حالٍ. قال ابنُ عبَّاس : (لَمْ يَعْذُر اللهُ أحَداً فِي تَرْكِ ذِكْرِهِ إلاَّ الْمَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ } ؛ أي رَجَعْتُمْ من سفرِكم وزالَ عنكمُ الخوفُ والمرض والقتالُ { فَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ } أي أتِمُّوها أربعاً بركوعِها وسُجودِها وسائرِ شروطها ، { إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً } ؛ أي فَرْضاً مَفْرُوضاً مُوَقَّتاً أوقاته ، ويقالُ : معلوماً فَرْضُهُ للمسافرين ركعتان ولِلْمُقِيْمِ أربعُ ركعاتٍ. وقال الأعمشُ : (مَوْقُوتاً ؛ أيْ مُؤْقَّتاً).
(0/0)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ } ؛ أي لا تَضْعُفُوا في طلب ابتغاء القوم أبي سفيان وأصحابه لِمَا أصابَكم من القتلِ والجراحات يوم أُحُدٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ } ؛ أي إنْ كُنْتُمْ تَأْلَمُونَ مِن الجِرَاحِ فَلَهُمْ مثلُ ذلك ، والمعنَى : إنْ كان لكم صَارفٌ عن الحرب وهو أنكم تألَمُونَ مِن الجراحِ فلهم مثلُ ذلك من الصَّارفِ ، ولكم أسبابٌ داعية إلى الحرب ليست لَهم ، وهو أنَّكم ترجونَ الثوابَ والنَّصْرَ من اللهِ ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } ؛ بمصالِحكُم { حَكِيماً } ؛ فيما يَأَمُرُكُمْ به.
(0/0)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَار يُقالُ لَهُ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق ؛ سَرَقَ دِرْعاً مِنْ جَارٍ لَهُ يقالُ لَهُ : قتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ ، وَكَانَتِ الدِّرْعِ فِي غِرَارَةٍ وَجِرَابٍ فِيْهِ دَقِيْقٌ ، فَانْتَثَرَ الدَّقِيْقُ مِنَ الْمَكَانِ الَّّذِي سَرَقَهُ إلَى بَاب مَنْزِلِهِ ، فَفُطِنَ بهِ أنَّهُ هُوَ السَّارِقُ ؛ فَمَضَى بالدِّرْعِ إلَى يَهُودِيٍّ يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ السَّمِينِ فَأَوْدَعَهُ إيَّاهَا ، فَالْتُمِسَتِ الدَّرْعُ عِنْدَ طُعْمَةَ فَلَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ ، فَحَلَفَ لَهُمْ مَا أخَذهَا وَلاَ لَهُ عِلْمٌ ، فَقَالَ أصْحَابُ الدِّرْعِ : لَقَدْ أدْلَجَ عَلَيْنَا وَأخَذهَا ، وَطَلَبْنَا أثَرَهُ حَتَّى دَخَلْنَا دَارَهُ ، وَلَقِيْنَا الدَّقِيْقَ مُنْتَثِراً ، فَلَمَّا حَلَفَ تَرَكُوهُ وَاتَّبَعُواْ أثَرَ الدَّقِيْقِ حَتَّى انْتَهَوا إلَى مَنْزِلِ الْيَهُودِيِّ وَطَلَبُوهُ ، فَقَالَ : دَفَعَهَا إلَيَّ طُعْمَةُ بْنُ أبَيْرِق ، وَشَهِدَ لَهُ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى ذلِكَ ، فَقَالَ قَوْمُ طُعْمَةَ : انْطَلِقُواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُكَلِّمُهُ فِي صَاحِبنَا نُعذُرُهُ وَنَتَجَاوَزُ عَنْهُ ، فَإنَّ صَاحِبَنَا بَرِيْءٌ مَعْذُورٌ. فَأَتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانُواْ أهْلَ لِسَانٍ وَبَيَانٍ ، فَسَأَلُوهُ أنْ يَعْذُرَهُ عِنْدَ النَّاسِ ؛ فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْذُرَهُ وَيُعَاقِبَ الْيَهُودِيَّ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
وفي رواية عن ابنِ عبَّاس : (أنَّ طُعَمَةَ سَرَقَ دِرْعاً ؛ وَكَانَ الدِّرْعُ فِي جِرَابٍ فِيْهِ نِخَالَةٌ ، فَخَرَقَ الْجِرَابَ حَتَّى كَانَ يَتَنَاثَرُ النِّخَالَةُ بطُولِ الطَّرِيْقِ ، فَجَاءَ بهِ إلَى دَارَ زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ الْيَهُودِيِّ وَتَرَكَهُ عَلَى بَاب دَارهِ ، وَحَمَلَ الدِّرْعَ إلَى بَيْتِهِ ، فَلَمَّا أصْبَحَ صَاحِبُ الدِّرْعِ جَاءَ إلَى زَيْدِ بْنِ السَّمِيْنِ عَلَى أثَرِ النِّخَالَةِ ، وَحَمَلَهُ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقْطَعَ يَدَهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). إنا أنزلنا إليك يا مُحَمَّدٌ القُرْآنَ إنْزالاً بالحقِّ ، وَقِيْلَ : (بالْحَقِّ) أي بالأمرِ والنَّهي والفصلِ لتحكمَ بين الناسِ بما أعلمَكَ اللهُ وأوحَى إليكَ ، { وَلاَ تَكُنْ } ؛ يَا مُحَمَّدُ ؛ { لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } ؛ أي لِطُعْمَةَ وقومهِ مُعِيْناً.
(0/0)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } ؛ أي تُبْ إلى اللهِ واستغفرْهُ مِمَّا هَمَمْتَ بهِ من قطعِ يد زَيْدِ بن السَّمين. وقال الكلبيُّ : (مِنْ هَمِّكَ بالْيَهُودِيِّ أنْ تَضْرِبَهُ). وقال مقاتلُ : (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ مِنْ جِدَالِكَ الَّذِي جَادَلْتَ عَنْ طُعْمَةَ) ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً } ؛ لِمَنْ يستغفرُهُ ؛ { رَّحِيماً } ؛ بالتَّائبينَ.
(0/0)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } ؛ ولا تُخَاصِمْ عن الذين يَظْلِمُونَ أنفسهَم بالخيانةِ والسَّرقة ورميِ اليهوديِّ بها ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً } ؛ أي خَائِناً في الدِّرعِ ؛ { أَثِيماً } ؛ في رَمْيهِ اليهوديَّ. وَقِيْلَ : الْخَوَّانُ : المكتسبُ للإثْمِ ، والآثِمُ الفاجرُ بالكذب ورمي البريءِ ، وإنَّما قال : (يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ) وإنْ كانوا خَانُوا غيرَهم ؛ لأن مضرَّةَ خيانتِهم راجعةٌ إليهم ، كما يقالُ : فَمَنْ ظَلَمَ غَيْرَهُ مَا ظَلَمَ إلاَّ نَفْسَهُ ، وإنَّما قال : (خَوَّاناً) ولم يقل خَائِناً لعظيمِ أمرِ الخيانَةِ.
(0/0)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } ؛ معناهُ : يستخفِي قومُ طُمْعَةَ ؛ أي يُسِرُّونَ من الناسِ وهم يعلمون أنهُ سارقٌ ولا يستَتِرُون من اللهِ ؛ أي لا يُمكنهم الاستخفاءُ منه ، فإنَّ سِرَّهُمْ وعلانيتَهم عند الله ظَاهرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ مَعَهُمْ } وهو شاهدٌ لأفعالِهم { إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ } أي يُدَبِرُونَ ، ويقولون بالليلِ قَوْلاً لا يرضاهُ اللهُ ؛ وهو اتَّفاقُ قول طُعْمَةَ على أنْ يَرْمُوا اليهوديَّ. وقَوْلُهَ تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } ؛ أي عالِماً لا يفوتهُ شيء كما لا يفوتُ الْمُحِيْطَ بالشيءِ.
(0/0)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { هَا أَنْتُمْ هَـاؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرادَ أن يقطعَ طُعْمَةَ في السرقةِ بعد هذه الآيات ؛ فجاءَ قومُه شَاكِّينَ في السِّلاحِ فجاجلُوا عنه وهربُوا به ، فأنزل اللهُ هذه الآية ، ومعناها : هَا أنْتُمْ يَا قومَ طُعْمَةَ خاصمتُم النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن طعمةَ وعن خيانتهِ في دار الدُّنيا.
وفي قراءة أبيّ : (جَادَلْتٌُمْ عَنْهُ فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذا أخَذهُ بعَذَابهِ وأَدْخَلَهُ النَّارَ) ؛ { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } ؛ يتوكَّلُ بهم ويصلحُ أمرَهم ويحفظَهم من عذاب الله.
(0/0)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } ؛ أي ومَن يَعْمَلُ سوءاً " ويرمي " به غيرَه نحو السَّرقةِ والقتلِ والقذْفِ ، أو أنه يَظْلِمُ نفسَه نحو الكذب الكذب واليمين الفاجِرَةِ وشرب الْخَمْرِ وتركِ الفرائض ؛ { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ } ؛ بالتوبةِ ؛ { يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً } ؛ للمستغفرينَ التائبين ؛ { رَّحِيماً } ؛ بهم بعدَ التوبةِ. وإنَّما شُرطت التوبة ؛ لأن الاستغفارَ لا يكونُ توبةً بالإجماع ما لم يَقُلْ معهُ : تُبْتُ وأسأتُ ولا أعوذُ إليه أبداً ؛ فَاغْفِرْ لِي يا رب. وَقِيْلَ : معناهُ : مَن يعمل سوءاً بسَرِقَةِ الدرعِ ، أو يظلم نفسَه برميهِ البريءَ بالسرقةِ.
وَقِيْلَ : معناهُ من يعمل سُوءاً أو شِرْكاً { أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } يعني ما دونَ الشِّركِ ، { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ } أي يتوبَ إلى اللهِ ، { يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً }. وَقِيْلَ : أرادَ بالسُّوء : الكبيرةَ ، ويَظْلِم النفسَ : الصغيرةَ.
وعن عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ ؛ قالَ : (حَدَّثَنِي أبُو بَكْرٍ وَصَدَقَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ : مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْباً ثُمَّ يَتَوَضَّأَ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَيَسْتَغْفِرُ اللهَ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ ، وَتَلاَ هَذِهِ الآيَةَ { وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } الآيةُ).
(0/0)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } ؛ أي مَنْ يعمَلْ معصيةً فإنَّما عقوبته على نفسهِ ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } ؛ أي لَمْ يزل عَلِيْماً بكلِّ ما يكونُ ، حَكِيماً فيما حَكَمَ به من القًَطْعِ على السارقِ. وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : (وَمَنْ يَكْسِبْ إثْماً) يعني بيَمِيْنِهِ بالباطلِ ، فَإنَّما يَضُرُّ به نفسَهُ ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً } بسارقِ الدِّرع ، { حَكِيماً } حَكَمَ بالقطعِ على طُعْمَةَ بالسَّرقةِ.
وقد روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ عَرَفَ قَوْمُ طُعْمَةَ كُلُّهُمْ أنَّهُ هُوَ الظَّالِمُ ، فَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِ وَقَالُواْ لَهُ : اتَّقِ اللهَ وَائْتِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوءُ بالذنْب ، فَقَالَ : لاَ ؛ وَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ مَا سَرَقَهَا إلاَّ الْيَهُودِيُّ. فنَزل قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } ؛ أي وَمن يعمل معصيةً بغيرِ عمدٍ أو متعمِّداً ثُمَّ يَرْمِ بَرِيْئاً ؛ فقد استوجبَ عقوبةَ الْبُهْتَانِ برميهِ غيرَهُ بشيء لم يفعلَهُ { وَإِثْماً مُّبِيناً } أي ذنْباً بَيِّناً ظَاهِراً.
وَقِيْلَ : معناهُ : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً) أي بيمينهِ الكاذبة (أوْ إثْماً) بسرقةِ الدِّرْعِ وَرَمْيِ اليهودي. والْبُهْتَانُ : بَهُتَ الرَّجُلِ بمَا لَمْ يَفْعَلْهُ. وقال الزجَّاج : (الْبُهْتَانُ الْكَذِبُ الَّذِي يُتَحَيَّرُ مِنْ عِظَمِهِ).
(0/0)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } ؛ أي لَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عليكَ يا مُحَمَّدُ بالنبوَّة والإسلامِ ؛ وَرَحْمَتُهُ بإرسال جبريلَ عليه السلام إليكَ بالقُرْآن الذي فيه خَبَرُ ما غاب عنكَ لقصدتَ من قومِ طُعْمَةَ أن يُخْطِئُوكَ ويحملوكَ أن تَحْكُمَ بما هو غيرُ واجبٍ في الباطنِ ، وأن تُبَرِّئَ الخائنَ من غيرِ حقيقيةٍ ؛ { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ } ؛ أي وما يكون إضْلالُهم إلاَّ على أنفسِهم ، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } ؛ ولا ينقصونَكَ شيئاً مع عِصْمَةِ الله تعالى إيَّاكَ ؛ { وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ؛ أي القُرْآنَ ومعرفةَ الحلالِ والحرامِ ؛ { وَعَلَّمَكَ } ؛ بالْوَحْيِ ؛ { مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } ؛ قَبْلَهُ ؛ { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } ؛ بالنبوَّة والإسلامِ.
وفي هذه الآياتِ دلالةٌ أنه لا يجوزُ لأحدٍ أن يخاصِمَ عن غيرهِ في إثباتِ حقٍّ أو نفيهِ وهو غيرُ عالِمٍ بحقيقةِ أمرهِ ، وأنه لا يجوزُ للحاكمِ الْمَيْلُ إلى أحدِ الخصمين ، وإن كان أحدُهما مُسلماً والآخرَ كافراً ، وأن وجودَ السرقةِ في يدَيّ إنسانٍ لا يوجبُ الحكمَ بها عليهِ.
(0/0)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ؛ أي لا خيرَ في كثيرٍ من أسرار قومِ طُعْمَةَ فيما يريدون بينَهم إلاّ نَجْوَى مَن أمرَ بصدقةٍ فتصدَّق بها ، ويجوزُ أن يكون معنى (إلاّ مَنْ أمَرَ) الاستثناء ليس من الأوَّل على معنى (لكن) فيكون موضع (مَنْ أمَرَ) نصباً على الإضمار ، والأوَّل موضعهُ خفضٌ.
وذهب الزجَّاج : (إلَى أنَّ النَّجْوَى فِي اللُّغَةِ : مَا تَفَرَّدَ بهِ الْجَمَاعَةُ وَالاثْنَانِ ؛ سِرّاً كَانَ ذلِكَ أوْ ظَاهِراً). وقال : (مَعْنَى : نَجَوْتُ الشَّيْءَ إذا خَلَّصْتَهُ وَأفْرَدْتَهُ ، وَنَجَوْتُ فُلاناً إذا اسْتَسَرْتُهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ مَعْرُوفٍ } أي أوْ أمرٍ بمعروفٍ ، ويسمى البرُ كلهُ معروفاً ، قال صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَأَوَّلُ أهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولاً أهْلُ الْمَعْرُوفِ ، وَصَنَائِعُ الْْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارعَ السُّوءِ "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ } يعني الإصلاحَ بين المتخاصمين ، وإصلاحَ ذاتِ البَيْنِ ، قال صلى الله عليه وسلم : " ألاَ أخْبرُكُمْ بأفْضَلِ دَرَجَةٍ مِنَ الصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ " قَالُواْ : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " إصْلاَحُ ذاتِ الْبَيْنِ ، وَفَسَادُ ذاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ ، فَلاَ أقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّيْنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } ؛ معناهُ : من يفعل ذاك البرِّ والصلاحَ والصدقةَ لطلب مَرْضَاةِ اللهِ تعالى ، لا لِلرَّيَاءِ والسُّمعةِ ، { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ } ؛ نُعْطِيْهِ ؛ { أَجْراً عَظِيماً } ؛ أي ثَوَاباً وَافِراً في الجنَّة.
(0/0)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ نَزَلَتْ فِي طُعَمَةَ ؛ وَذَلِكَ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ فِيْهِ الْقُرْآنُ ، وَعَلِمَ قَوْمُهُ أنَّهُ ظَالِمٌ ، وَخَافَ هُوَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَطْعَ وَالْفَضِيْحَةَ ؛ هَرَبَ إلَى مَكَّةَ ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، ومعناها : ومن يخالفِ الرسولَ في التوحيدِ والحدُودِ مُعَانداً من بعدِ ما تَبَيَّنَ له حكمُ اللهِ ، ويتَّبع ديناً غيرَ دينِ المؤمنين وهو دينُ أهلِ مكَّة ؛ { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى } ؛ أي نَكِلُهُ في الآخرةِ إلى ما تولَّى. قِيْلَ : وَنَتْرُكْهُ إلى اختارَ لنفسهِ في الدُّنيا ؛ أي لا يتولَّى اللهُ نَصْرَهُ ولا معونتَه ، { وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ } ؛ أي وَنُلْزِمُهُ دخولَ جهنَّم في الآخرةِ ، { وَسَآءَتْ } ؛ جهنَّمُ ؛ { مَصِيراً } ؛ أي لِمن صارَ اليها.
فَلَمْ يَتُبْ طُعْمَةُ وَلَمْ يَنْدَمُ ، وَأقََامَ عَلَى كُفْرِِهِ ، ثُمَّ إنَّهُ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ ؛ فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَنَشَبَ فِيْهِ ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَدْخُلَ وَلاَ يَخْرُجَ حَتَّى أصْبَحَ ؛ فَأَخَذهُ لِيَقْتُلَهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : دَعُوهُ ؛ فَإنَّهُ قَدْ لَجَأَ إلَيْكُمْ وَتَحَرَّمَ بكُمْ فَاتْرُكُوهُ ؛ فَأَخَرَجُوهُ مِنْ مَكَّةَ ، فَخَرَجَ مَعَ قَوْمٍ مِنَ التُّجَّارِ نَحْوَالشَّامِ ؛ فَنَزَلُواْ مَنْزِلاً فَسَرَقَ بَعْضَ مَتَاعِهِمْ وَهَرَبَ ، فَطَلَبُوهُ فَوَجَدُوهُ ؛ فَرَمَوْهُ بالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ ؛ فَصَارَ قَبْرُهُ تِلْكَ الْحِجَارَةَ.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلُ حَمْزَةَ رضي الله عنه). والمعنى : إنَّ الله لا يغفرُ شِرْكَ الْمُشْرِكِ به إنْ ماتَ بغير توبةٍ ؛ ويغفرُ ما دون الشِّرْكِ لِمن يشاءُ من أهلِ الإسلامِ من غيرِ توبةٍ.
وقال الضحَّاك عن ابنِ عبَّاس : (إنَّ شَيْخاً مِنَ الأَعْرَابِ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا نبيَّ اللهِ ؛ إنِّي شَيْخٌ مَنْهَمِكٌ فِي الذُنُوب وَالْخَطَايَا ؛ إلاَّ أنِّي لاَ أُشْرِكُ بهِ شَيْئاً مُذْ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بهِ ؛ ولَمْ أتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيّاً ، وَلَمْ أقَعْ عَلَى الْمَعَاصِي جُرْأَةً عَلَى اللهِ وَلاَ مُكَابَرَةً لَهُ ، وَلاَ تَوَهَّمْتُ طَرْفَةَ عَيْنِ أنْ أعْجِزَ اللهَ هَرَبَاً ، إنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ مُسْتغْفِرٌ ، فَمَا لِي عِندَ اللهِ؟. فًَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { نَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَآءُ }. { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ؛ أي فقد ذهَبَ عن الصواب والْهُدَى ذهاباً بعيداً ، وَحُرِمَ الخيرَ كلَّه.
والفائدةُ في قوله { بَعِيداً } أنَّ الذهابَ عن الجنَّة على مراتبَ أبعجُها الشِّرْكُ باللهِ تعالى.
(0/0)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } ؛ أي إن يعبدُ أهل مكَّةَ من دون الله إلاّ الأصنامَ وَالأوثانَ ، وسمَّاهَا إناثاً ؛ لأنَّهم سَمَّوها باسمِ الإنَاثِ : اللاَّتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاتَ ، فعبدُها مع اعتقادِهم بنُقصَانِ مراتب الإناثِ عن الذُكور ؛ لأنَّ الإناثَ من كلِّ جنسٍ أرَاذلَةٌ ، وَقالُ : إنَاثاً ؛ أي مَوَاتاً ؛ لأنَّ الْمَوَاتَ كلَّها يُخْبرُ عنها كما يخبرُ عن الإناثِ ، يقالُ : هذه الأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي ؛ ((كما تقولُ : هذه المرأة تُعجبني)).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } ؛ أي ما يريدون بِعِبَادَةِ الأوثان إلاَّ عبادةَ الشَّيطانِ ، وَالْمَرِيْدُ : الْعَاتِي الْخَارجُ عَنِ الطّاعَةِ ، ويسمَّى الْمَرِيْدُ مَرِيْداً لِتَعَرِّيْهِ عَنِ الْخَيْرِ ، يقال : شجرةٌ مَرْدَاءُ ؛ أي لا وَرَقَ عليها ، وغلامٌ أمْرَدٌ : إذا لم يكن على وجههِ شعرٌ.
(0/0)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أرادَ به الشيطانَ أبعَدَهُ من رحمتهِ إلى عقابهِ بالحكم لهُ بالخلودِ في جهنَّم ، ويسقطُ بهذا قولُ من قالَ : كيفَ يَصحُّ أن يقالَ : (لَعَنَهُ اللهُ) وهو في الدُّنيا لا يخلُو من نِعْمَةٍ تَصِلُ إليه من الله في كلِّ حال ؟ الجواب لا يعتدُّ بتلك النعمة مع الْحُكْمِ له بالخلودِ في النَّار.
قوله تعالى : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي قالَ إبليسُ : لأَتَّخِذنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيْباً معلُوماً ، فكلُّ ما أطِيْعَ فيه إبليسُ فهو مفروضٌ له.
والفرضُ في اللغة : الْقَطْعُ ؛ ومنهُ الْفُرْضَةً أي الثُّلْمَةُ ، والفرضُ في القوس : ما شَدَّ به الوترُ ، والفريضةُ في العباداتِ : الأمرُ الْحَتْمُ الْقَاطِعُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً }[البقرة : 237] أي جعلتم لَهُنَّ قطيعةً من المالِ ، وأما قولُ الشاعر : إذا أكَلْتَ سَمَكاً وَفَرْضاً ذهَبْتَ طُولاً وذَهَبْتَ عَرْضَافالفرضُ هنا التَّمْرُ ، سُمي فرضاً لأنه يؤخذُ من فرائضِ الصَّدقةَِ.
(0/0)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } ؛ حكايةُ قول إبليسَ ؛ أي لأُضِلَّنَّهُمْ عن الحقِّ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ أنَّهُ لا جَنَّة ولا نارَ ولا بعثَ ولا حسابَ ، ولأُريحنَّهم طولَ الحياةِ في الدُّنيا ، { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ } ؛ أي بتَشْقِيْقِ آذانِ الأنعَامِ ؛ وهي الْبُحِيْرَةُ التي كانوا يفعلونَها نُسُكاً وعبادةً للأوثانِ ، والقطع. { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ وقتادة والحسنُ والضحَّاك : (فَلْيُغَيِّرُنَّ دِيْنَ اللهِ) نَظِيْرُهُ{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ }[الروم : 30] أي لدينِ الله ، كقولهِ : { فَلاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }[الروم : 30]. وقال عكرمةُ : (مَعْنَاهُ : فَلِيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ بالْخَصْيِ وَالْوَشْمِ وَقَطْعِ الآذانِ وَفَقْئِ الْعُيُونِ). قال مجاهدُ : (كَذبَ عِكْرِمَةُ ؛ إنَّما هُوَ دِيْنِ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } ؛ أي مَن يَتَّخِذْهُ ذنَاصِراً من دون اللهِ فقد غُبنَ غُبناً ظاهراً ؛ لأنه خَسِرَ الجنَّةَ والنعيمَ الذي فيها.
فإن قيل : كيفَ عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَتَّخِذُ من عبادِ الله نصيباً ؟ فيه أجوبةٌ ؛ منها : أنَّ اللهَ لَمَّا خاطبَهُ بقولهِ{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }[هود : 119] عَلِمَ إبليسُ أنهُ يَنَالُ من ذرِّيةِ آدمَ ما تَمَنَّى. ومنها : أنه لَمَّا وََسْوَسَ لآدمَ فنَالَ منهُ ما نالَ ، طَمِعَ في ذرِّيته. ومنها : أن إبليسَ يلَمَّا عَايَنَ الجنَّة والنارَ عَلِمَ أنَّ لَهَا سُكَّاناً من الناسِ).
وقوله : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } ؛ أي يَعِدُهُمْ أن لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ ؛ وَيُمَنِّيْهِمْ طُولَ البقاءِ في الدُّنيا ودوامَ نعيمِها ويُؤْثِرُوهَا على الآخرةِ ، { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } ؛ أي بَاطِلاً ، والْغُرُورُ : إيْهَامُ النَّفْعِ فيما فيه ضررٌ.
(0/0)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفةِ مستقرُّهم جهنَّمُ ، { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } ؛ أي مَخْلَصاً ، يقال : حَاصَ يَحِيْصُ حيْصاً ؛ إذا عَدَلَ عن الشيءِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي أنْهَارُ الماءِ واللَّبنِ والخمْرِ والعسلِ ؛ { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ؛ أي مقيمينَ في الجنَّةِ إلى الأبدِ ، وإنَّما ذكرَ الطاعةَ مع الإيْمانِ وجمعَ بينهُما : فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } يُبَيِّنُ بطلانَ مَنْ يَتَوَهَّمُُ أنه لا يَضُرُّ المعصيةً والإخْلاَلُ بالطاعةِ مع الإيْمانِ ؛ كما تنفعُ الطاعةُ مع الكفرِ أو لِيُبَيِّنَ استحقاقَ الثواب على كلِّ واحدٍ من الأمرين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً } ؛ انتصبَ (وَعْدَ) على المصدر ، تقديرهُ : وَعَدَ لَهمُ اللهُ هذا وَعْداً حَقّاً كائناً ؛ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً } ؛ أي ليسَ أحدٌ أصدقَ مِنَ اللهِ قَوْلاً ووَعْداً.
(0/0)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } ؛ أي ليس ثوابُ الله تعالى بأمَانِيِّكُمْ ، فإنَّ (لَيْسَ) يقتضِي اسْماً ، واختلفُوا في المخاطَبين بهذه الآيةِ, قال قتادةُ والضحَّاك : (إنَّ أهْلَ الْكِتَاب وَالْمُسْلِمِيْنَ افْتَخَرُواْ ، فَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب : نَبيَّنَا قَبْلَ نَبيِّكُمْ ؛ وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابكُمْ ؛ وَنَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : نَحْنُ أوْلَى باللهِ مِنْكُمْ ؛ نَبيُّنَا خَاتَمُ النَّبيِّيْنَ ؛ وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُب الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةََ).
وقال مجاهدُ : (الْمُخَاطَبُونَ بهَا عَبَدَةُ الأوْثَانِ ؛ فإنَّهُمْ قَالُواْ : لاَ نُبْعَثُ وَلاَ نُحَاسَبُ ، وَقَالَ أهْلُ الْكِتَاب : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ }. { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ؛ ولا يَنْفَعُهُ تَمَنِّيْهِ ، والمرادُ بالسُّوءِ الكُفْرُ.
وقال بعضُهم : المخاطَب بها المسلمونَ ؛ أي (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بهِ) أي ليسَ بأمَانِيِّكُمْ يا معشرَ المسلمين أنْ لا تُؤَاخَذُواْ بسُوءٍ بعد الإيْمانِ ، { وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } : لاَ يَدْخُلُ الجنَّةَ إلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أوْ نَصَارَى ، من يعمَلْ معصيةًُ يُجْزَ بذلكَ ولا ينفعه تَمنِّيه.
روي : أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : " يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَيْفَ الْفَلاَحُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " غَفَرَ اللهُ لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ ؛ ألَسْتَ تَمْرَضُ ؟ ألَسْتَ تَنْصَبُ ؟ ألَسْتَ تُصِيْبُكَ الَّلأْوَاءُ ؟ " قَالَ : بَلَى ، " فَهُوَ مَا تُجْزَونَ بهِ ".
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنهُ قَالَ : " لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ ، فَشَكَواْ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " قَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ". يقالُ : كلُّ ما يصيبُ المؤمنَ كفَّارَةٌ حتى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا في قدميهِ ، والنَّكْبَةَ يَنْكَبُّهَا ".
قال عطاءُ : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : " هَذِهِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ وَأيَّنَا لَمْ يَعْمَلُ سُوءاً ، وَإنَّا لَمَجْزِيُّونَ بكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! قَالَ : " إنَّمَا هِيَ الْمُصِيْبَاتِ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا ". فَقَالَ أبُو هُرَيْرَةَ : فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا أبْقَتْ هَذَهِ الآيَةِ مِنْ شَيْءٍ ، " أمَا وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ؛ لَكُمَا أنْزِلَتْ ؛ وَلَكِنْ يًسِّرُواْ وَقَارِبُواْ وَسَدِّدُواْ ؛ إنَّهُ لاَ يُصِيْبَ أحَدُكُمْ مُصِيْبَةً فِي الدُّنْيَا إلاَّ كَفَّرَ عَنْهُ بهَا خَطِيْئَةً ؛ حَتَّى الشّوءكَةَ يُشَاكُهَا فِي قًدَمِهِ ".
وقال الحسنُ في قولهِ تعالى : { مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال (الْكَافِرُ ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلاَ يُجَازَى يَوْمَ الْقيَامَةِ إلاَّ بأَحْسَنِ عَمَلِهِ وَيُتَجَاوَزُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) ثُمَّ قَرَأَ{ لِيُكَـفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ }[الزمر : 35] وقَرَأ{ وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ }[سبأ : 35].
ولولا السُّنة لأمكنَ ان يقالَ : إنَّ الآيةَ تنزلت في الكفَّار ؛ لأنَّ في سياقِ الآية : { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ؛ ومَنْ لم يكن لهُ يومَ القيامةِ ولِيٌّ ولا نصيرٌ كان كافراً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى قد ضَمِنَ نصرَ المؤمنين في الدَّارَين فقالَ تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ }[غافر : 51]. ولكنَّ الخطابَ إذا وَرَدَ مُجْمَلاً ، وبَيَّنَ الرَّسُولُ عليه السلام كَانَ الْحُكمُ لِبَيَانِهِ لاَ لِلآيَةِ ؛ إذِ البَيَانُ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم ، قال اللهُ تعالى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ }[النحل : 44].
(0/0)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ؛ أي وهو مصدِّقٌ بالثواب والعقاب ، { فَأُوْلَـائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ } ؛ في الآخرةِ ، { وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } ؛ أي ولا يُنقَصون مما استحقوهُ من جزاء أعمالهم مقدارَ النَّقيرِ ، وهو النُّقرَةُ التي تكون في ظهرِ النَّواة.
(0/0)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } ؛ معناهُ : أيُّ أحدٍ منكُم أصْوَبُ طريقةً وسِيْرَةً ، مِمَّنْ أخلصَ عملَهُ وطاعتَهُ للهِ وهو مُحْسِنٌ في الاعتقادِ والعملِ فيما بينَهُ وبين ربَهِ واتَّبَعَ دينَ إبراهيمَ حَنِيْفاً ؛ أي مَائِلاً عن كلِّ دِيْنٍ سوَى الإسلامِ.
وَقِيْلَ : الْحَنِيْفُ : المستقيمُ في سُلُوكِ الطَّريقِ الذي أُمِرَ بسلوكِهِ. ومعنى الْمُحْسِنُ : ما رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ الإحْسَانِ فَقَالَ : " أنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإنَّهُ يَرَاكَ "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } ؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابنِ عبَّاس : (خَلِيْلاً أيْ صَفِيّاً). وَقِيْلَ : في معنى قوله : { خَلِيلاً } وَجْهَانِ : أحدُهما الإصطفاءُ بالْمَحَبَّةِ ، والإختصاصُ بالإسراءِ دون مَن لم تكن له تلك المنْزلةُ ، والثانِي : من الْخِلّةِ وهو الحاجةُ ، فخليلُ اللهِ : المحتاجُ إليه ؛ المنطقعُ بحوائجهِ إلى اللهِ تعالى دونَ غيرِه ، وقد يُسمَّى الفقيرُ خَلِيْلاً ، قال زهيرُ : وإنْ أتَاهُ خَلِيْلٌ يَوْمَ مَسْغَبَةٍ يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرَمُأي ولا ممنوعٌ.
فإذا أُريدَ به الوجهَ الأول ؛ جازَ أنْ يقالَ : إبراهيمُ خَلِيْلُ اللهِ ؛ واللهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ. وإذا أُريدَ الوجهُ الثانِي ؛ لم يَجُزْ أن يوصفَ اللهُ تعالى بأنهُ خَلِيْلُ إبراهيمَ ، وجاوز وصفهُ بأنَّهُ خليلُ اللهِ.
وعن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنه عَن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيْمَ خَلِيْلاً لإطْعَامِهِ الطَّعَامَ ؛ وَإفْشَائِهِ السَّلاَمَ ؛ وَصَلاَتِهِ باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ " فإنْ قيلَ : لِمَ كان اتِّباعُ ملَّةِ إبراهيمَ أوْلَى من اتِّباعِ مِلَّةَ غيرهِ من الأنبياءِ مثلَ عيسَى ومُوسَى ؟ قِيْلَ : إنََّ الفِرَقَ كلَّهم متَّفقونََ على تَعْظيمِهِ ، ووجوب اتِّباعِ مِلَّتِهِ ، وهو كان يدعُو إلى الْحَنِيْفِيَّةِ دونَ اليهوديَّة والنصرانيَّةِ.
(0/0)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ إمَّا قالَ هكذا لِيُبَيِّنَ أنَّ إبراهيمَ مع كونهِ خليلَ اللهِ وأنهُ لَمْ يَتَّخِذْهُ لحاجتهِ إليهِ ، لكنَّهُ اتَّخذهُ خليلاً جزاءً على عملهِ. وقال بعضُهم إنَّما قالَ ذلكَ لأنَّهُ لَمَّا أمرَ الناسَ بطاعتهِ حَثَّهُمْ على الطَّاعةِ بما يوجبُ الرغبةَ فيها ؛ وهو كونهُ مَالِكَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } ؛ أي عَالِماً بكلِّ شيءٍ ، قادِراً على كلِّ شيء مِن كلِّ وجهٍ ، فلا يخرجُ شيءٌ عن مقدورهِ.
(0/0)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَآءِ الَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي أُمِّ كجَّةِ امْرَأةِ أوْسِ بْنِ ثَابتٍ وَبَنَاتِهَا مِنْهُ ؛ لَمَّا أمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بتَوْرِيثِهِنَّ مِنْ أوْسٍ ، أقْبَلَ عُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنٍ الْفَزَّاريُّ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّكَ قَدْ وَرَّثْتَ النِّسَاءَ وَالْبَنَاتَ وَالصِّغَارَ ؛ وَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ نوَرِّثُ إلاَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ وَحَازَ الْغَنِيْمَةَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ويقالُ : إنَّها نزلَت بعدَ نزولِ قولهِ تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ }[النساء : 11] إلى قولهِ{ عَلِيماً حَكِيماً }[النساء : 11] قَبْلَ نزولِ فَرْضِ الزَّوجاتِ ، فجاؤوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتُونَهُ في ميراثِ أُمِّ كجة امْرَأةِ الْمُتَوَفَّى ، فأنزلَ اللهًُ هذه الآيةَ ووعدَهم أن يُفْتِيْهِمْ في ميراثِ الزوجاتِ ؛ فأتَاهُمْ في ذلكَ بقولهِ تعالى : { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ }[النساء : 12] إلى آخرِ الآيةِ.
ومعنى الآية : يَسْتَفْتُونَكَ يا مُحَمَّدُ في أمرِ النِّسَاءِ وما يجبُ لَهنَّ من الميراثِ ؛ قُلِ اللهُ يُبَيِّنُ لكم ميراثَهُن ، والذي يَقْرَأُ عليكُم في كتاب الله في أوَّلِ هذه السُّورةِ ، يُفْتِيْكُمْ ويُبَيِّنُ لكم ما سَأَلْتُم } عنه في بناتِ أمِّ كجة اللاَّتِي لا تُعْطُوهُنَّ مَا فُرِضَ لَهُنَّ من الميراثِ وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ }[النساء : 11].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } ؛ أي ترغبون عَنْ نِكَاحِهِنَّ لِدَمَامَتِهِنَّ فلا تعطوهُنَّ نصيبَهن من الميراثِ لِمَنْ يَرْغَبُ فيهنَّ غيرُكم ؛ وذلكَ أنَّ بَنِي أعْمَامِ تَلْكَ الْبَنَاتِ كَانُوا أوْلِيَاءَهُنَّ ؛ وَكَانُواْ لاَ يُعْطُونَهُنَ حَظَّهُنَ مِنَ الْمِيْرَاثِ ، وَيَرْغَبُونَ أنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ ، وَهذا قول ابنِ عبَّاس وابنِ جُيبر وقتادةَ ومجاهدٍ. وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا والحسنِ : (أنَّ مَعْنَاهُ : وَتَرْغَبُونَ فِي أنْ تَتَزَوَّجُونَهُنَّ لِجَمَالِهِنَّ وَلاَ تُعْطُوا لِهُمْ مَا أوْجَبَ اللهُ لَهُنَّ مِنَ الصَّداقِ). وفي كِلاَ القولين دليلٌ على جوازِ نِكَاحِ الأولياءِ لليتامَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } ؛ أي وفي (الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي في مِيْرَاثِ اليتامَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } ؛ أي وَفِي (أنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بالْقِسْطِ) في أموالِهم وحقوقهِم بالعدلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } ؛ أي مَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ في أمرِ اليَتَامَى والضِّعَافِ ؛ { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً } يَجْزِيْكُمْ على ذلكَ.
واختلفَ أهلُ النَّحوِ في موضعِ { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } فذهبَ أكثرُهم إلى أنهُ مَوْضِعُ رَفْعٍ ؛ تقديرهُ : وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب يُفْتِيْكُمْ. وقال بعضُهم : هو في موضعِ خَفْضٍ تقديرهُ : وَفي مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، إلاَّ أن هذا الوجهَ أضعفُ من الأوَّل ؛ لأنه لا يصحُّ عطفُ الظاهرِ على المضمرِ بحرفِ الجرِّ من دونِ إعادة حرفِ الجرِّ.
(0/0)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } ؛ الآية نزلت في خُوَيْلَةَ ابْنَةِ مُحمدِ بن مَسْلَمَةَ وفي زوجَها سعدِ بن الربيعِ ؛ تزوَّجَها وهي شابَّةٌ ؛ فلما عَلاَهَا الْكِبَرُ جَفَاهَا وتزوَّج عليها شابَّةً آثرَها عليها ، فشَكَتْ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمح فنَزلت هذه الآيةُ ، هذا قولُ الكلبيُّ وجماعةٍ من المفسِّرين.
وقال سعيدُ بن جُبير : (كَانَ رَجُلٌ لَهُ امْرَأَةٌ قَدْ كَبرَتُ ؛ وَكَانَ لَهَا سِتَّةُ أوْلاَدٍ ، فَأَرَادَ أنْ يُطَلِّقَهَا وَيَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ : لاَ تُطَلِّقْنِي عَلَى أوْلاَدِي ؛ وَاقْسِمْ لِي فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ أوْ أكْثَرَ إنْ شِئْتَ ، وَإنْ شِئْتَ لاَ تُقْسِمْ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ يَصْلُحُ ذلِكَ فَهُوَ أحَبُّ إلَيَّ ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : (وإنِ امْرَأةً خَافَتْ) أي عَلِمَتْ مِن زوجِها بُغضاً ، أو إعْراضاً بوجههِ عنها لإيثار غيرها عليها. قال الكلبيُّ : (يَعْنِي : تَرَكَ مُجَامَعَتَهَا وَمُضَاجَعَتَهَا وَمُجَالَسَتَهَا وَمُحَادَثَتَهَا ؛ فَلاَ جُنَاحَ عَلَى الزَّوْجِ وَالْمَرْأةِ أنْ يُصَالِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً مَعُلُوماً بتَرَاضِيْهِمَا ؛ وَهُوَ أنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ : إنَّكِ امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتِ فِي السِّنِّ ؛ وَأَنَا أُرِيْدُ أنْ أتَزَوَّجَ عَلَيْكِ امْرَأَةً شَابَّةً أوثِرُهَا عَلَيْكِ فِي الْقَسْمِ لَهَا لشَبَابهَا أوْ أزيْدُ فِي نصِيْبهَا مِنَ الْقَسْمِ ، فَإنْ رَضِيْتِ وألاَّ سَرَّحْتُكِ بالأحْسَنِ وَتَزَوَّجْتُ أُخْرَى. فَإنْ رَضِيَتْ بذلِكَ فَهِيَ الْمُحْسِنَةُ ، وَحَلَّ لِلزَّوْجِ ذلِكَ).
كَمَا رُويَ " عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سَوْدَةَ ؛ فَسَأَلَتْهُ لِوَجْهِ اللهِ أنْ يُرَاجِعَهَا وَتَجْعَلَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ فَفَعَلْ ". ومثلُ هذا الصُّلْحِ لا يقعُ لازماً ؛ لأنَّها إذا أبَتْ بعدَ ذلكَ إلى المقاسَمَة على السؤالِ كان لَها ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ؛ أي خيرٌ من الإقامةِ على النُّشُوز. وَقِيْلَ : خيرٌ من الفِرْقَةِ. ودخولُ حرفِ الشَّرطِ على السمِ في قولهِ تعالى : { وَإِنِ امْرَأَةٌ } فعلى تقديرِ فِعْلِ مُضْمَرٍ ؛ أي : وَإنْ خَافَتْ امْرَأَةٌ خَافَتْ ، أو على التقديمِ والتأخير ، كأنه قالَ : وَإنْ خَافَتِ امرأةٌ مِنْ بَعْلِهَا نُشوزاً ، وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن امْرُؤٌ هَلَكَ }[النساء : 176] ، { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ }[التوبة : 6] وهذا لا يكونُ إلاَّ في الفعلِ الماضي ؛ كما يقالُ : إنِ اللهُ أمكنَني ففعلتُ كذا ، فأمَّا في المستقبلِ فيصُحُّ أن يُفَرَّقَ بين الَّتِي للجزاءِ وبين لفظِ الاستقبال ، فيقالُ : إنِ امرأةٌ تَخَفْ ؛ لأنَّ (إنْْ) تحرمُ المستقبلَ فلا يفصلُ بين العاملِ والمعمول.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } ؛ أي جُبلَتِ الأنفسُ على الشُحِّ ، فَشَُحُّ المرأةِ الكبيرة مَنَعَهَا من الرِّضَا بدون حقِّها ، وتركِ بعضِ نصيبها من الرجلِ لغيرِها ، وشُحُّ الرجلِ بنصيبهِ من الشَّابَّةِ يَمْنعُهُ من توقيرِ نصيب الكبيرةِ من القَسْمِ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ } ؛ أي إن تُحسنوا العِشْرَةَ وتتَّقُوا الظُّلْمَ على النساء ؛ { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ؛ من الإحسانِ والْجُودِ ، عالِماً بخيرِ عمِلكم ، والسوءِ فيجزيكُم على ذلكَ.
(0/0)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } ؛ أي ولن تَقْدِرُوا أن تُسَاوُوا بينَ النساءِ ولو اجتهدتُم في العدلِ ، كما رُويَ " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَيَعْدِلُ ثُمَّ يَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا قَسْمِي فِيْمَا أمْلِكُ ؛ فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بَما لاَ أمْلِكُ " وأرادَ به التسويةَ وَالْمَحَبَّةَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } ؛ أي لا تَميلُوا إلى الشابَّة والجملَةِ بالفعلِ كلَّ الميلِ في الفقةِ والقسمة والإقبالِ عليها ، فتتركُوا العجوزَ بغيرِ قسمة كالْمَنْبُوذةِ وَالْمَحْبُوسَةَ لا أيْمَ ولا ذاتَ بعلٍ. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إلَى أحْدَاهُمَا ؛ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شَقَّيْهِ مَائِلٌ "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ } ؛ أي وإنْ تُصْلِحُواْ ما أفْسَدْتُمُوهُ بإفرادِ الْمَيْلِ ، فتَعْدِلُوا في القسمةِ بينَهُنَّ ، وتتَّقوا الْجَوْرَ والعقوبةَ فيه ، { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ؛ لِمَا سَلَفَ منكُم من الظُّلْمِ عليهُنَّ رَحِيْماً بكم بعد التوبةِ.
(0/0)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } ؛ أي معناهُ : أنَّ الزوجَ والمرأةَ إذا تَفَرَّقا دون حقوقِ الله التي أوجبهَا عليهما ؛ أغْنَى اللهُ كُلاَّ من سَعَتِهِ مِن رزقهِ ؛ الزوجَ بامرأةٍ أخرى ، والمرأةَ بزوجٍ آخرَ ؛ { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً } ؛ لَهُما في النِّكاحِ ؛ { حَكِيماً } ؛ حَكَمَ على الزوجِ بالإمساك بالمعروفِ أو التسريحِ بالإحسان. وَقِيْلَ : معناهُ : وكانَ اللهُ واسعَ الْمُلْكِ جَوادَاً لا يُعْجِزُهُ شيءٌ ، وحُكْمُهُ فيما يَحْكُمُ من الفِرْقَةِ يجعلُ لكلِّ واحدٍ منهُما مَن يسكنُ إليه وَيَتَسَلَّى به عن الأوَّل.
ومِنْ حُكْمِ هذه الآيةِ : أنَّ الرجلَ إذا قَسَمَ لنسائهِ لا يجبُ عليه وطئُ واحدةٍ منهُنَّ ؛ لأنَّ الوطءَ لَذةٌ لهُ فهي حَقُّهُ ، فإذا تركهُ لم يُجْبَرْ عليهِ ، وليس هو كَالْمُقَامِ والنفقةِ ، وعمادُ القَسِمْ الليلُ ، ولا يُجامعُ المرأةَ في غيرِ يومِها ، ولا يدخلُ بالليلِ على التي لم يَقسِمْ لَها ، ولا بأسَ أن يدخلَ عليها بالنهار في حاجةٍ ويعودَها في مرضِها في ليلةِ غيرِها ، فإنْ فَعَلَتْ فلا بأسَ أن يُقيم حتى تَشْفَى أو تَموت ، فإن أرادَ أن يَقْسِمَ لَيليتين ليلتين أوْ ثَلاَثاً كانَ لهُ ذلكَ.
(0/0)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ كُلُّهُمْ عبيدُ وإمَاؤُهُ ، { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } ؛ أي أمَرْنَا أهلَ التوراةِ في التَّوراة ، وأهلَ الإنْجِيْلِ في الإنجيلِ ، وأهلَ كل كِتَابٍ في كتابهم ، { وَإِيَّاكُمْ } أي ووصَّيْنَاكم يا أمَّةَ مُحَمَّدٍ في كتابكم ؛ { أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ وأطيعوهُ في النِّسَاءِ واليتامَى وأحكامِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَكْفُرُواْ } ؛ أي وإن تَجْحَدُوا وصيَّةَ اللهِ سُبحَانَهُ وتَعَالَى فلم تَعْلَمُوا بها ، { فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } ؛ من الملائكةِ ، { وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ مِن الْجِنِّ والإنسِ وسائر الْخَلْقِ ، { وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً } ؛ عن عبادَتِكم ، لا يضرُّهُ كُفْرُ من كَفَرَ منكم ، ولا ينفعهُ طاعةُ مَن أطاعَ منكم ، { حَمِيداً } ؛ مَحْمُوداً في ذاتهِ وفي خَوَاصِّ ملائكتهِ وعبادِه ، حَمَدْتُمُوهُ أو لم تَحْمِدُوهُ. وَقِيْلَ : حامداً لِمن وَحَّدَهُ وأطاعَهُ.
(0/0)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ؛ تَنْبيْهٌ بعد تنبيهٍ ؛ كأنهُ تعالى نَبَّهَهُمْ عن غَفْلَتِهِمْ بأنه حَفِيْظٌ على أعمالِهم كي يَتَحَفَّظوا ولا يتهاوَنُوا لِمَا أُمِرُوا من أمرِ الله تعالى ، وليس شيءٌ من هَذِهِ الألْفَاظِ تَكْرَارٌ فِي كِتَاب اللهِ تعالى ، ولكنْ كلُّ واحدٍ منها مَقْرُونٌ بفَائِدَةٍ جَدِيْدَةٍ ، والفائدةُ في قولهِ تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } بأنَّهَا الأمرٌ بالاتَّكَالِ عَلى اللهِ تعالى ، والثِّقَةِ به وتفويضِ الأُمُورِ إليه ، ولذلكَ عَقَّبَهُ بقولهِ تعالى : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً } ؛ أي حَافِظاً لأعمالكم كَفِيلاً بأرزاقِكم.
(0/0)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } ؛ أي كَمَا يَمْلِكُ الموجودَ من السَّموات ولأنهُ تعالى قال من قَبْلُ : { وَإِن تَكْفُرُواْ }[النساء : 131] فكأنهُ قالَ : إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أيُّهَا الكفَّارُ وَيَأَتِ بقوم آخَرِيْنَ أطْوَعَ منكم ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذلِكَ قَدِيراً } ؛ وكان اللهُ على إهْلاَكِكُمْ وخَلْقِ غَيْرِكُمْ قادِراً.
(0/0)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ؛ أي مَن كان يريدُ بعملهِ منفعةَ الدُّنيا ، فَلْيَعْمَلْ ولا يَقْتَصِرْ على طلب الدُّنيا ، فإنَّ ثوابَ الدُّنيا واصلٌ إلى الْبَرِّ والفاجرِ ، والمؤمنِ والكافر ، ولكن لِيَكَلَّفْ طلبَ الآخرةِ التي لا تُنال إلاَّ بالعملِ ، { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً } ؛ لِكَلاَمِ عبادهِ ، { بَصِيراً } ؛ بما في قلوبهم ، وفي الآيَةِ تَهديدٌ للمنافقين الْْمُرَائِيْنَ. وفي الحديثِ : " إنَّ فِي النَّار وَادِياُ تَتَعَوَّدُ مِنْهُ جَهَنَّمَ كُلَّ يَوْمٍ أرْبَعُمِائَةِ مَرَّةٍ أعِدَّ لِلْقُرَّاءِ الْمُرَائِيْنَ " وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : مَن كان يريدُ بعملهِ عِوَضاً من الدُّنيا ولا يريدُ به وجهَ اللهِ ؛ أثَابَهُ الله عليهِ من عَرَضِ الدُّنيا ما أحبَّهُ ؛ وَدَفَعَ منهُ فيها ما أحبَّ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } ؛ أي قُومُوا بالعدلِ وقُولُوا الحقَّ ، والقَوَّامُ بالقِسْطِ المستعملُ له على حَسَبَ ما يجبُ من إنصافهِ من نفسه ، وإنصافِ كلِّ مظلومٍ من ظالِمِه ، ومنعُ كلِّ ظالِمٍ من ظُلْمِهِ ، ولفظُ القْوَامِ لا يكون إلاَّ للمبالغةِ.
وَالْقِسْطِ وَالإْقْسَاطُ : العَدْلُ ، يقالُ : أقْسَطَ الرجلُ إقْسَاطاً إذاعدَلَ ، وَأَتَّى بالْقِسْطِ وَقَسَطَ يَقْسِطُ قِسْطاً إذا جَارَ ، قال اللهُ تعالى : { وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الحجرات : 9] أي اعدِلُوا ، وقالَ تعالى : { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً }[الجن : 15] أي الجائِرُون.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { شُهَدَآءَ للَّهِ } نُصِبَ على أحدِ ثلاثةِ أوجُهٍ ؛ أحدُها : أنه خبرٌ ثَانٍ ، كما يقالُ : هذا حُلْوٌ حَامِضٌ. والثانِي : على الحالِ ، كما يقالُ : هذا زيدٌ راكباً. والثالث : على أنه صِفَةُ الْقَوَّامِيْنَ ، فإن قوَّامين نَكِرَةٌ ، وشُهَدَاءَ نَكِرَةٌ ، والنكرةُ تنعتُ بالنَّكرةِ. ومعنى { شُهَدَآءَ للَّهِ } أي شَهِدُوا بالحقِّ للهِ على ما كان مِن قريبٍ أو بعيدٍ.
وَقِيْلَ : معنَى الآية : كُونُوا قَوَّامِيْنَ بالعدلِ في الشَّهادةِ على مَن كانت وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبينَ في الرَّحِمِ ؛ فأقيمُوها عليهِم للهِ ولا تَخافُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ ، ولا ترحَمُوا فقيراً لِفَقِرِهِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } ؛ أي فلا تَتْرُكُوا الحقَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي قولُوا الحقَّ وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ ، والشهادةُ على النفسِ إقرارٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ } أي على وَالِدِيكُمْ وعلى أقربائِكُم ، وفي هذا بيانُ أنَّ شهادةَ الابن على الوالدين لا تكونُ عُقُوقاً ، ولاَ يَحِلُّ للابن الامتناعُ عن الشهادةِ على أبَوَيْهِ ؛ لأنَّ في الشهادِ عليهما بالحقِّ مَنْعاً لَهما عن الظُّلْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } ؛ معناهُ : إن يكن المشهودُ عليه غَنِيّاً أو فقيراً فاللهُ أحقُّ بالغنيِّ والفقيرِ من عبادهِ من أحدِهم بوالدَيهِ وقَرَابَاتِهِ وأرحمُ وأرْأَفُ ، فَأقيمُوا الشهادةَ للهِ ، لا تَميلُوا في الشهادِةِ رحمةً للفقيرِ ، ولا تقصدوا إقامتَها لاحتمال غِنى الغنيِّ ؛ أي لأجلِ غِنَاهُ ، وعن هذا قال صلى الله عليه وسلم : " أُنْصُرْ أخَاكَ ظَالِماً أوْ مَظْلُوماً " قِيْلَ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِماً ؟ قَالَ : " أنْ تَرُدَّهُ عَنْ ظُلْمِهِ فَإنَّ ذلِكَ نَصْرُهُ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ } ؛ معناهُ : ولا تتَّبعوا الهوَى لِتَعْدِلُوا ، وهذا كما يقالُ : لاَ تَتَّبعِ الهوَى لِرِضَى رَبكَ. وَيُقَالُ : معناهُ : لا تَتَّبعُوا أنْ لا تعدِلُوا ، ويقالُ : كراهةَ أنْ تعدلُوا ، وهذا كقولهِ تعالى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ }[النساء : 176] ويقالُ : معنى تَعْدِلُوا : تَمِيْلُوا من الْحَقِّ إلى الْهَوَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } ؛ من قرأ (تَلْوُوا) بواوَين فمعناهُ : أن تُمَاطِلُوا في إقامةِ الشَّهادَةِ وتُقَلِّبُوا اللسانَ لتفسِدُوا الشهادةَ ، أوْ تُعْرِضُوا عن إقامةِ الشَّهادةِ مأخوذٌ مِن لَوَى فُلاَنٌ فِي دِيْنِهِ ؛ أي دَافَعَ ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم :(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } ؛ قال الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن ابن عبَّاس : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ ؛ وَأسَدِ بْنِ كَعْبٍ وَأَخِيْهِ أُسَيْدٍ ؛ وَثَعْلَبَةِ بْنِ قَيْسٍ ؛ وَسَلاَمِ ابْنِ أُخْتِ عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ ؛ وَسَلَمَةِ ابْنِ أخِيْهِ ؛ وَيَامِيْنِ بْنِ يَامِيْنَ ، فَهَؤُلاَءِ مُؤْمِنُو أهْلِ الْكِتَاب ، أتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّا نُؤْمِنُ بكَ وَبكِتَابكَ وَبمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَبعُزَيْرٍ ، وَنَكْفُرُ بمَا بمَا سِوَاهُ مِنَ الْكُتُب وَالرُّسُلِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " بَلْ آمِنُواْ باللهِ وَبرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ وَبالرُّسُلِ كُلِّهِمْ وَبكِتَابهِ الْقُرْآن وَبُكِّ كِتَابٍ أنْزَلَهُ اللهُ " قَالُواْ : لاَ نَفْعَلُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
ومعناها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } بمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ ومُوسى والتَّوراةِ { آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ } مُحَمَّدٍ { وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } يعني الكُتُبَ الْمُتَقَدِّمَةَ التَّوراةَ والإنْجِيْلَ والزَّبُورَ وسائرَ الكُتُب الْمُنَزَّلَةِ ، { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ؛ أي أخْطَأَ خَطَأً بَعِيْداً ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ إنَّا نُؤْمِنُ باللهِ وَبرَسُولِهِ وَالْقُرْآنِ ؛ وَكُلِّ كِتَابٍ كَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ ؛ وَكُلِّ رَسُولٍ كَانَ مِنْ قَبْلُ ؛ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْهُمْ ، كما فَرَّقَتِ اليهودُ والنصارَى.
ومعنى الآية : يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمِنُوا بموسَى والتوارةِ وعيسَى والإنْجِيلِ آمِنُواْ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ. قال أبُو العاليةِ وجماعةٌ من المفسِّرين : (هَذِهِ الآيَةُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِيْنَ ، وَتَأْوِيْلُهَا : يَا أيُّهَا الَّذِيْنَ آمِنُواْ آمِنُواْ ؛ أيْ أقِيْمُواْ وَاثْبُتُواْ عَلَى الإيْمَانِ). وقال بعضُهم : إنَّها خطابٌ للمنافقينَ ؛ ومعناها : يا أيُّها الذينَ آمَنُوا في الْمَلأ آمِنُواْ في الْخَلاءِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } أي من يَجْحَدْ بوحدانيَّةِ اللهِ تعالى وبملائكتهِ وكُتُبهِ ورسُلِهِ والبعثِ بعدَ الموتِ ؛ فقد أخْطَأَ خَطَأً بَعِيْداً عنِ الحقِّ والصواب.(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً } ؛ اختلفَ المفسِّرون في هذه الآيةِ ، فَقِيْلَ : إنَّ المرادَ بهم اليهودُ. قال الكلبيُّ : (آمِنُواْ بمُوسَى ؛ ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ آمَنُواْ بعُزَيْرٍ عليه السلام ، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ عُزَيْرٍ بعِيْسَى عليه السلام ، ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ). وقال مقاتلُ : (آمَنُواْ بمُوسَى عليه السلام ، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَوْتِهِ ، ثُمَّ آمنُوا بعِيْسَى عليه السلام ، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ مَا رُفِعَ إلَى السَّمَاءِ ، ثُمَّ أقَامُواْ عَلَى كُفْرِهِمْ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ). وَقِيْلَ : آمنُوا بموسى عليه السلام ، ثم كفرُوا بعدَه بعيسَى عليه السلام ، ثم كفرُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم قبلَ أن يُبْعَثَ ، ثُم كفروا به بعدَ ما بُعِثَ ، ثم أقاموا على كفرهمِ. وقال قتادةُ : (آمَنَ الْيَهُودُ بمُوسَى ثُمَّ كَفَرُواْ بهِ بِعِبَادَةِ الْعِجْلِ ، ثُمَّ آمِنُواْ بالتَّوْرَاةِ ، ثُمَّ كَفَرُواْ بَعْدَ ذلِكَ بعِيْسَى ، ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً بنَبيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ؛ أي ما دَامُوا عل كُفْرِهم ؛ { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } ؛ أي ولا يُوَفِّقُهُمْ طَريقاً إلى الإسلامِ ، ولكن يَخْذِلُهُمْ مُجَازاةً لَهم على كُفْرِهم. فإنْ قيلَ : إنَّ الله لا يغفرُ كُفْرَ مَرَّةٍ ؛ فما الفائدةُ في قوله { ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ } ؟ قِيْلَ : إنَّ الكافرَ إذا آمَنَ غُفِورَ لَهُ كفرُه ، فإذا كَفَرَ بعد إيْمانهِ لم يُغْفَرْ لهُ كفرُه الأول ، وهو مُطَالَبٌ بجَمِيْعِ كُفْرِهِ.(0/0)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ خَوِّفِ المنافقين عَبْدَاللهِ بْنَ أبَيِّ وأصحابَه ، ومن يكونُ على سبيلِهم إلى يومِ القيامة بأنَّ لَهم عذاباً وَجِيْعاً يخلصُ وجعه إلى قلوبهم.(0/0)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي همُ الذين يتَّخذونَ اليهودَ أحبَّاء فيب العَوْنِ والنُّصْرَةِ من دون المؤمنينَ المخلصين الموحِّدين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ } ؛ هذا استفهامٌ بمعنى الإنكار ؛ أي كيفَ يطلبون عند الكفَّار العزَّة وهم أذلاَّءُ في حُكْمِ اللهِ تعالى : { فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً } ؛ أي فإنَّ القوةَ وَالْمَنَعَةَ للهِ جميعاً ، فمن أرادَ طَلَبَ العزَّةِ فليطلُبْها من اللهِ تعالى ؛ لأنه المقدِّرُ بجميع مَن لهُ العزَّةُ مِن خلقهِ لِجميع العزَّةِ لَهُ.(0/0)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ؛ أي قد نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ سُورَةَ الأنْعَامِ بمَكَّةَ أنْ سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُجْحَدُ بها ، وَيُسْخَرُ مِنْهَا فلا تَجْلِسُواْ مَعَهُمْ حتَّى يكونَ خَوْضُهُمْ في حديثٍ غيرِ القُرْآنِ ، وأرادَ بذلك المذكورَ في الأنعامِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ }[الأنعام : 68].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } ؛ أي من جَالَسَهُمْ راضياً بما هُم عليه من الكُفْرِ والاستهزاءِ بآياتِ الله فهو مِثْلُهُمْ في الكُفْرِ ؛ لأن الرِّضَا بالكفرِ والاستهزاء كُفْرٌ ، ومَن جَلَسَ معهُم سَاخِطاً لذلكَ منهم لم يَكْفُرْ ، ولكنه يكونُ عاصِياً بالقعودِ معهم ؛ فيكونُ معنى قولهِ تعالى : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } أي في أصْلِ العِصْيِانِ وإن لم تبلُغْ معصيةُ المؤمنين معصيةَ الكفَّارِ ، إذا لم يكن جلوسُ المؤمنينَ معهم لإقامةِ فَرْضٍ أو سُنَّةٍ ، أما إذا كان جلوسُه هنالكمَ لإقامةِ عبادَةٍ وهو سَاخِطٌ لتلكَ الحالِ لا يقدرُ على تغييرها ، فلا بأسَ بالجلوسِ. كما روي عن الحسن : (أنَّهُ حَضَرَ هُوَ وَابْنُ سِيْرِيْنَ ؛ فَذَكَرَ ذلِكَ لِلْحَسَنِ فَقَالَ : إنَّا كُنَّا مَتَى رَأَيْنَا بَاطِلاً تَرَكْنَا حَقّاً ؛ أشُرِعَ ذلِكَ فِي دِيْنِنَا!).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } ؛ أي يَجْمَعُهُمْ فِي جهنَّم مجازاةً لَهم لاجتماعهم في الدُّنيا للاستهزاءِ ، فمن شاءَ لا يكونُ معهم في جهنَّم فلا يكونُ معهم في الدُّنيا.(0/0)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ } ؛ أي هم الذين يَنْتَظِرُونَ بكم الدَّوَائِرَ ، ويرامون أحوالَكم يعني المنافقين ، وَالْمُتَرَبصُ لِلشَّيْءِ : هُوَ الْمُتَوَقِّعُ لأَسْبَابه ، ويسمَّى الْمُحْتَكِرُ مُتَرَبِصاً لِتَوَقُّعِهِ غَلاَءَ السِّعْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي اذا كان لكم ظَفْرٌ ودَوْلَةٌ وغَنِيْمَةٌ ، { قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } ؛ أي قالَ المنافقون : ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ على دِينِكم فَأَعطُونا من الغنيمةِ ، { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } ؛ أي ظُهُورٌ على المسلمين ؛ { قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي قالَ المنافقون : ألَمْ نُخْبِرْكُمْ بعَزِيْمَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ونُطْلِعْهكُمْ على سِرِّهِمْ ونكتُبْ ذلكَ إليكُم ونحذِّرْكُم عنهُم ونُجِبْهم عنكُم ونُواليكُم ، { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ؛ فاللهُ يقضِي بينَ المؤمنين والمنافقينَ والكفار { وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً } ؛ أي لم يجعلِ اللهُ لليهود ظهوراً على المؤمنينَ.
وَقِيْلَ السبيلُ : الْحُجَّةُ ، ولن يجعلَ اللهُ للكافرين مِن اليهودِ وغيرِهم حُجَّةً على المسلمينَ في الدُّنيا والآخرةِ ، وَقِيْلَ : معنى السَّبيْلِ : الدَّوْلَةُ الدَّائِمَةُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لن يُدْخِلَ اللهُ الكافرينَ الجنةَ ؛ فيقولون للمؤمنين : ما أغْنَى عنكُم تَعَبُكُمْ في الدُّنيا ، وما ضَرَّنَا كُفْرُنَا بعد أن تَسَاوَيْنَا.(0/0)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ؛ أي يُخَادِعُونَ أولياءَ اللهِ بإظهارهم الإيْمانِ وإبطانِهم الكفرَ ؛ ليحقِنُوا بذلك دماءَهم ويشاركُوا المسلمين في غنائمِهم ، وجعلَ اللهُ مُخَادعةً أوليائهِ مخادعةً لهُ كما قال تعالى{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ }[الفتح : 10].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي مُجَازِيْهِمْ جزاءَ أعمالِهم ؛ وذلك أنَّهم على الصِّراطِ يُعْطَوْنَ نُوراً كما يغطَى المؤمنونَ ؛ فإذا مَضَوا بهِ على الصِّراطِ طُفِئَ نورُهم ، ويبقى المؤمنون ينظرُون بنورهم ، فينادُون المؤمنينَ : أنْظِرُونَا نَقْتَبسْ من نوركم ، فيناديهم الملائكة على الصِّراطِ : ارجعوا وراءَكم فالتمسُوا نوراً ، وقد علمُوا أنَّهم لا يستطيعون الرجوعَ ، قال : فيخافُ المؤمنونَ حينئذٍ أن يُطْفَأَ نورُهم فيقولون : ربَّنَا أتْمِمْ لنا نورَنا ، واغْفِرْ لنا إنَّكَ على كُلِ شيءٍ قديرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ } ؛ يعني المنافقينَ ؛ { قَامُواْ كُسَالَى } ؛ أي مُتَثَاقِلِيْنَ لا ير يدون بها وَجْهَ اللهِ تعالى ، { يُرَآءُونَ النَّاسَ } ؛ ولا يريدُون الصلاةَ إلاّ مُرَاءَةً للناسِ خَوْفاً منهم ، { وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي لا يُصَلُّونَ للهِ إلاّ قليلاً ريَاءً وسُمْعَةً ، ولو كانوا يريدون بذلكَ القليلِ وجهَ اللهِ لكانَ كثيراً.(0/0)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ } ؛ نصبَ على الذمِّ ؛ ومعناهُ : مُتَرَدِّدِيْنَ بين كُفْرِ السِّرِّ وإيْمانِ العلانيةِ ، ليسُوا من المؤمنين فيجبُ لَهم ما يجبُ للمسلمين ؛ وليسُوا من الكفَّار فيجبُ عليهم ما يجبُ على الكفَّار. وَقِيْلَ : معناهُ : مُتَحَيِّرِيْنَ بين الكفرِ والإيْمان ، { لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ } ؛ أي ليسُوا من المؤمنينَ فيجبُ عليهم ما يجبُ عليهم ، وليسُوا من الكفَّار فيؤخَذُ منهم ما يؤخذُ من الكفَّارِ ؛ أي ما هُم بمؤمنين مُخلصين ، ولا مشركينَ مصرِّحين بالشِّركِ.
وكان صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ مَثَلاً لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُنَافِقِيْنَ وَالْكَافِرِيْنَ كَمَثَلِ ثَلاَثَةٍ دُفِعُواْ إلَى نَهْرٍ ؛ فَقَطَعَهُ الْمُؤْمِنُ ؛ وَوَقَفَ الْكَافِرُ ؛ وَنَزَلَ فِيْهِ الْمُنَافِقُ ، حَتَّى إذا تَوَسَّطَهُ عَجَزَ ؛ فَنَادَاهُ الْكافِرُ : هَلُمَّ إليَّ لاَ تَغْرَقْ ، وَنَادَاهُ الْمُؤْمِنُ : هَلُمَّ إلَيَّ لِتَخْلَصَ. فَمَا زَالَ الْمُنَافِقُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذا أتَى عَلَيْهِ مَاءٌ فَغَرَّقَهُ ، فَكَانَ الْمُنَافِقُ لَمْ يَزَلْ فِي شَكٍّ حَتَّى يَأَتِيْهِ الْمَوْتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } ؛ أي من يَخْذِلُهُ اللهُ عن الْهُدَى ، فلن تَجِدَ له يا مُحَمَّدُ طريقاً إلى الْهُدَى.(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي لا تفعلُوا أيُّها الؤمنونَ كفعلِ المنافقين ، { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } ؛ أي أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ حجَّةً ظاهرةً توجِبُ العقوبةَ عليكم في الدُّنيا والآخرةِ, والسُّلْطَانُ في اللغة : هُوَ الْحُجَّةُ ؛ يقالُ للأميرِ : سُلْطَانٌ ؛ يرادُ بذلك أنه حُجَّةٌ.(0/0)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } ؛ أي في الطَّبَقِ الأسفلِ ؛ وهي الْهَاوِيَةُ لِمَكْرِهِمْ وخيانتهم للنبيِّ صلى الله عليه وسلم مع إبْطَانِ الكُفر ، قال أبو عُبيد : (جَهَنَّمُ أدْرَاكٌ مَنَازِلٌ ، كُلُّ مَنْزِلَةٍ مِنْهُ دَرْكٌ). ومن قرأ (الدَّرْكِ) بإسكان الرَّاء ، وهو لغةٌ : وأكثرُ القرَّاء على فتحِها. الدَّرَكَاتُ في النّار مثلُ الدرجَاتِ في الجنَّة ، كل ما كان من درجاتِ الجنَّة أعلَى ؛ فثوابُ مَن فيه أعظمُ ، وما كان من دَرَكَاتِ النار أسفلَ ؛ فعقابُ مَن فيه أشَدُّ. وسُئل ابنُ مسعودٍ عن الدَّرْكِ الأسْفَلِ ؛ فقالَ : (هُوَ تَوَابيْتُ مِنْ حَدِيْدٍ ؛ مُبْهَمَةٌ عَلَيْهِمْ لاَ أبْوَابَ لَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } ؛ أي مانعاً يَمنع عنهُم العذابَ ، وعن عبدِالله بنِ عمرَ ؛ (أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ : الْمُنافِقُونَ ؛ وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أصْحَاب الْمَائِدَةِ ؛ وَآلَ فِرْعُونَ). قال اللهُ تعالى في أصحاب المائدة : { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ }[المائدة : 115] وقالَ : { أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر : 115] وقالَ : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ }.
فإن قِيْلَ : مَا وجهُ التَّوْفِيْقِ بين هذه الآيةِ وبينَ قولهِ تعالى : { أَدْخِلُواْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ }[غافر : 46] ؟ قِيْلَ : لا يَمتنعُ أن يجتمعَ القومُ في موضعٍ واحد ويكون عذابُ بعضِهم أشدَّ من عذاب بعضٍ ، ألا ترَى أن البيتَ الداخلَ في الحمَّامِ يجتمعُ فيه الناس ، فيكون بعضُهم أشدَّ أذىً بالنار ؛ لكونه أدنَى إلى موضعِ الوَقُودِ. وكذلك يجتمعُ القوم في القعودِ في الشَّمس ، ويتأذى الصَّفْرَاويُّ منها أشدُّ وأكثر من تأذِي السَّوْدَاوِيِّ.
والْمُنَافِقُ فِي اللغة : مأخوذ من النَّفَقِ ؛ وهو السِّرْبُ ؛ أي استَترَ بالإسلامِ كما يَسْتَتِرُ الرجلُ بالسِّرْب. وَقِيْلَ : هو مأخوذٌ من قولِهم : نَافَقَ الْيَرْبُوعُ ؛ إذا دخل نَافِقَاءَهُ ؛ فإذا طُلِبَ من النَّافِقَاءِ خرج من النافقاء ؛ والنَّفْقَاءُ ؛ والقَاصِعَةُ ؛ والرَّاهِطَاءُ ؛ وَالدَّامَّاءُ حُجْرَةُ اليربوعِ.(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ } ؛ أي لا الذين تَابوُا من النِّفَاقِ ، وأصلحُوا العملَ فيما لبينهم وبين ربهم وتَمسَّكوا بتوحيدِ الله ودِينه ، { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ } ؛ وأخلصُوا توحيدَهم وعملَهم ، { للَّهِ } ؛ أي أخلصُوا ذلك من شَوْب الرِّيَاءِ ، وطلب عَرَضِ الدُّنيا ، { فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ في الجنَّة والثواب ، لا يضرُّهم النفاقُ السابق إذا أصلَحُوا وتابُوا. قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } ؛ وهو الجنَّة.
ولَمَّا حُذِفَتِ الياءُ من (يُؤْتَ) في الخطِّ ، كما حذفت في اللفظ بسكونِها وسكون اللام في اسم اللهِ ، فكذلكَ{ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ }[العلق : 18] و{ يَدْعُ الدَّاعِ }[القمر : 6]. ويحتملُ أن يكون معنَى الآية : بَيَانُ زيادةِ الثواب لِمَنْ يَسْبقُ منه كفرٌ ولا نفاق ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً }. (وَسَوْفَ) كلمة تَرْجِيَةٍ وإطْمَاعٍ ؛ وهي من اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيجابٌ ؛ لأنه أكرمُ الأكرمِين ، وَوَعْدُ الكريمِ إنجازٌ.(0/0)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } ؛ يُبَيِّنُ اللهُ تعالى أنَّ المنافقين هم الذينَ أوقعُوا أنفسَهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار ، واستحقُّوا ذلك بنفاقِهم ، وإنه ليسَ في حكمةِ الله تعذيبُ مَن شَكَرَ وآمَنَ ، وإنَّما في حكمتهِ أن يَجْزِيَ كلَّ عامل بما عَمِلَ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } أي ما حَاجَتُهُ إلى تعذيبكم أيًُّها المنافقونَ إن وحَّدتُم في السِّرِّ وصدَقتُم في إيْمانكم.
ويقالُ معنى : { إِن شَكَرْتُمْ } نِعَمَ اللهِ { وَآمَنْتُمْ } بهِ وبكتبه ورُسُلهِ. وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخير ؛ أي إن آمنتُم وشكرتُم ؛ لأنَّ الشُّكْرَ لا يقعُ مع عدمِ الإيْمان. وبيَّنَ اللهُ تعالى أن تعذيبَ عبادهِ لا يزيدُ في مُلْكِهِ ، وأن تركَ عقوبتِهم على فعلهم لا يُنْقِصُ من سُلْطَانِهِ.
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً } ؛ أي شَاكِراً للقليلِ من أعمالكم ؛ مُثِيْباً عليها ؛ يقبلُ اليَسِير ؛ ويعطي الجزيلَ عليها بأضعافِها لكم ؛ واحدةٌ إلى عشرةٍ إلى سبعمائة إلى ما شاءَ اللهُ من الأضْعَافِ. والشُّكرُ من العبدِ : هو الاعترافُ النِّعمة الواصلةِ إليه مع صِدْقٍ من التعظيمِ ، والشُّكْرُ من اللهِ تعالى : هو مجازاتهُ العبدَ على طاعتهِ.(0/0)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ } ؛ قال ابن عبَّاس : (مَعْنَاهُ : لاَ يُحسبُّ اللهُ الْجَهْرَ بالدُّعَاءِ الشَّرِّ عَلَى أحَدٍ إلاَّ أنْ يَظْلَمَ فِيْهِ ؛ فَيَدْعُو عَلَى ظَالِمِهِ فَلاَ يُعَابُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ مَأَذُونُ لَهُ فِي أنْ يَشْكُو ظَالِمَهُ وَيَدْعُو عَلَيْهِ).
ويقالُ : (إلاَّ مَنْ ظُلِمَ) استثناءٌ منقطع ؛ معناهُ : لكن المظلومُ يجهر بظَلاَمَتِهِ تَشَكِّياً. وفي تفسير الحسنِ : (لاَ يُحِبُّ اللهُ الْمُشْتِّمَ فِي الانْتِصَار إلاَّ مَنْ ظُلِمَ ، فَلاَ بَأَسَ لَهُ أنْ يَنْتَصِرَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ يمَا يَجُوزُ لَهُ الانْتِصَارُ بهِ فِي الدِّيْنِ). ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ }[الشعراء : 227]. قال الحسنُ : (لاَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ ((إذا قِيْلَ لَهُ)) : يَا زَانِي ، أنْ يَقُولَ بمثْلِ ذلِكَ أوْ نَحْوهِ مِنْ أنْوَاعِ الشَّتْمِ). وقال مجاهدُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الضَّيْفِ إذا لَمْ يُضَفْ وَمٌُنِعَ حَقَّهُ ، فَقَدْ أُذِنَ لَهُ أنْ يَشْكُو) ، والضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أيَّامٍ.
ومن قرأ [إلاَّ مَنْ ظَلَمَ] بنصب الظاء ، فمعناهُ لكن الظالِمُ يجهرُ بذلك ظُلماً واعتداءً. وَقِيْلَ : لكن الظالِمُ إجْهَرُوا لهُ بالسُّوءِ من القولِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً } ؛ أي { سَمِيعاً } لدُعاءِ الْمَظْلُومِ ؛ { عَلِيماً } بعقوبةِ الظالِم. ويقالُ : (سَمِيْعاً) لجميع المسمُوعات ؛ { عَلِيماً } لجميع المظلُومات. فقولهُ تعالى : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطعِ.(0/0)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } ؛ معناه : إنْ تُظْهِرُوا خيراً أو تُسِرُّوهُ أو تعفُوا عن مَظْلَمَةٍ ظُلِمْتُمْ بها ؛ فَإنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا. العَفُوُّ : كَثِيْرُ الْعَفْوِ من غيرِ حَصْرٍ ، والقديرُ والقادر بمعنى واحدٍ ؛ أي أنَّ اللهَ قادرٌ على العقوبة به ، ثم يعفُو عن عبادهِ مع قدرته على الانتقامِ. وَقِيْلَ : معنَى الآية : إن تَرُدُّوا جواباً حَسَناً أو تَسْكُتُوا عن الظالِم ولا تُحَقِّرُوهُ ولا تؤاخذوه بظُلْمِهِ ؛ فإن يُعفَ عن الظالِم ذنوبُهُ ؛ فإن عَفْوَ اللهِ عن معاصيكم أكثرُ من عفوِكم عمن ظلمَكم.(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً } ؛ نزلت هذه الآية في اليهودِ والنَّصارى ؛ آمنتِ اليهودُ بموسى والتوارةِ ؛ وكفرَتْ بعيسى والإنجيلِ ، وآمنَتِ النصارَى بعيسى والإنجيلِ ؛ وكفرت بموسى والتوارة وبمُحَمَّدٍ والقُرْآنِ ؛ وكلُّهم كَفَرَ بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ ، فأعْلَمَ اللهُ : أنْ ليسَ من الإيْمان بالبعضِ ، والكفرِ بالبعضِ دينٌ يُتَّخَذُ ذلك طريقاً.(0/0)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } ؛ اي أهلُ هذه الصِّفة هُمُ الْكَافِرُونَ البتَّةَ ، وانتصبَ قولهُ (حَقًّا) على المصدر ؛ والفائدةُ في قوله : (حَقًّا) بيانُ أنَّ إيْمانَهم بالبعضِ لا ينفعُهم ، ولا يسلبُ اسمَ الكفرِ عنهم.(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } ؛ يعني في الإيمان والتصديقِ ؛ { أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } ؛ أي ثوابَهم ، وسُمِّي الثوابُ أجراً ؛ لأنه مُسْتَحقٌّ كالأُجرة ، { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }.(0/0)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي يسألك يا مُحَمَّدُ كعبُ بنُ الأشرفِ وجماعةٌ من اليهود أن تُنَزَّلَ علَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ أي يسألك يا مُحَمَّدُ كعبُ بنُ الأشرفِ وجماعةٌ من اليهود أن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ جُمْلَةً واحدةً كما أنْزِلَتِ التوراةُ على موسى ، وهذا حينَ قولوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُنْزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ } ؛ أي لا تَعْجَبْ من مسأَلَتِهم بعدما رَأَوا الآياتِ أعظمَ من ذلك ، { فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } ؛ أي مُعَايَنَةً ظاهرةً مكشفةً ؛ وهم السَّبعون الذين كانوا معه عند الجبلِ حين كلَّمَهُ اللهُ ، فسألوهُ أن يَرَوا ربَّهم رؤيةً يدركونَهُ بأبصارهم في الدُّنيا. وقال أبو عُبيد : (مَعْنَى الآيَةِ : قَالُواْ جَهْرَةً أرنَا اللهَ) فَجَعَلَ جَهْرَةً صِفَةً لِقَوْلِهِمْ ؛ قال : (لأنَّ الرُّؤْيَةَ لاَ تَكُونُ إلاَّ جَهْرَةً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } ؛ أي أخذتْهُم النارُ عقوبةٌ لَهم بسؤالِهم موسى ما لَمْ يستحقُّوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } ؛ أي عَبَدُوا العجحلَ من بعد ما جاءتْهُم الدَّلالاتُ على توحيدِ الله ، وفي هذا بيانُ جَهْلِ اليهودِ وتَعَنُّتِهِمْ وعِنَادِهِمْ ، وأيُّ جَهْلٍ أعظمُ من اتِّخَاذِ العِجْلِ إلَهاً ، بعد ظُهُور المعجزاتِ وثُبوتِ الآيات البيِّنات.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَفَوْنَا عَن ذلِكَ } ؛ أي تَجَاوَزْنَا عنهم بعد توبتِهم مع عِظَمِ جنايتِهم وجريْمَتهم ولم نَسْتَأْصِلْهُمْ ، دلَّ اللهُ تعالى بذلكَ على سَعَةِ رحمتهِ ومغفرته وتَمام نِعْمَتِهْ ومِنَّتِهِ ، بيَّنَ ذلك أنهُ لا جريْمَة تضيقُ عنها مغفرةُ اللهِ ، وفي هذا مَنْعٌ من القُنُوطِ واستدعاءٌ إلى التوبة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً } ؛ أي أعطيناهُ حُجَّةً على مَن خالفَهُ بيِّنةً ظاهرةً ؛ وهي اليَدُ والعصَا.(0/0)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } ؛ أي ورفعنَا فوقَ رؤوسِهم الجبلَ بإقرارهم بالله وبنبوَّة موسَى ، وذلك حين أبَوا قَبُولَ التَّوراةِ ، فرفعَ اللهُ فوقَهم الطُّورَ ، فقبلُوها فَخَرُّوا سُجَّداً ، فرفعَ اللهُ الطُّورَ عنهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } ؛ أي قلنا لَهم : ادخُلُوا بابَ أريْحَيا إذا دخلتمُوها خاشعينَ للهِ مُنْحَنِيَةٌ أصلابُكم ، فدخلوا زَحْفاً وبدَّلُوا ما قِيْلَ لَهم. ويقالُ أراد بالباب : البابَ الذي عَبَدُوا فيه العِجْلَ ، أمَرَهُم اللهُ أن يدخلوه بعدَ تَوْبَتِهِمْ عن عبادةِ العِجْلِ ساجدين للهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فيصيرُ ذلك كفَّارَةً لعبادةِ العجل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ } ؛ أي قُلْنَا لَهَم مع هذا أيضاً : لا تَسْتَحِلُّوا أخْذ السَّمَكِ في يوم السَّبتِ. ومن قرأ (لاَ تَعَدُّوا) بتشديد الدَّال ؛ فأصلهُ : لا تَعْتَدُوا ؛ فَأُدْغِمَتِ الدالُ في الدال وأقيم التشديدُ مقامه. والقراءةُ بالتخفيف من عَدَا يَعْدُو عُدْوَاناً. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } ، إقْرَاراً وثيقاً شَدِيداً يعني العَهْدَ الذي أخذهُ الله في التَّوارةِ فَأَبُواْ إلاّ مُضِيّاً على المعصيةِ وخُرُجاً عن الطاعةِ استخفافاً بأمرِ الله.(0/0)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } ؛ فَبنَقْضِهِمُ الميثاقَ الذي أُخِذ عليهم في التَّوراةِ وبجَحْدِهِمْ القُرْآنَ والإنْجِيْلَ وبما في التَّوراةِ من نَعْتِ الإسلامِ وصِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقتلِهم الأنبياءَ بغيرِ جُرْمٍ ، { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } ؛ أي في أوْعِيَةٍ لا تَعِي شيئاً ، بقولُ الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } ؛ أي ليسَ كما قالُوا ، ولكن خَتَمَ اللهُ على قلوبهم مجازاةً على كفرهم ، { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } ؛ أي إلاّ إيْماناً قليلاً لا يَجِبُ أن يسمَّوا به مؤمنين ، فذلك أنَّهم آمنُوا ببعضِ الرُّسُلِ والكتُب دون البعضِ.
وقال الحسنُ : (فِي هَذَا تَقْدِيْمٌ وَتأخِيْرٌ ؛ مَعْنَاهُ : بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بكُفْرِهِمْ إلاَّ فقَلِيْلاً فَلاَ يُؤْمِنُونَ ، وَالْمُرَادُ بالْقَلِيْلِ عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وَمَنْ تَابَعَهُ }. أما دخولُ (مَا) في قوله تعالى { فَبِمَا نَقْضِهِم } فمعناه التأكيدُ ؛ كأنه قالَ : فَينَقْضِهِمُ الْعَهْدَ ، وجوابُ قولهِ تعالى { فَبِمَا نَقْضِهِم } مضمرٌ في الآية ؛ تقديرهُ : فَبمَا نَقْضِهِمْ مِيْثَاقَهُمُ لَعَنَّاهُمْ ، هذا لأنَّ أولَ الآيةِ ذمٌّ على الكفرِ ، ومَن ذمَّهُ اللهُ فقد لَعَنَهُ ، يعني مَن ذمَّهُ على الكُفْرِ. ويقالُ : إن الجالبَ للباقي قولَهُ : { فَبِمَا } قولهُ تعالى مِنْ بَعْدُ{ فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ }[النساء : 160] فقوله تعالى { فَبِظُلْمٍ } بدلٌ من { فَبِمَا نَقْضِهِم } ، وجوابُهما جميعاً{ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ }[النساء : 160].(0/0)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } ؛ عَطْفٌ على ما تقدَّم ؛ أي وَبجَحْدِهِمْ عِيْسَى وَالإنْجِيْلَ وَمُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وَرَمْيهِمْ مَرْيَمَ بالزِّنَا ؛ وَهُوَ الْبُهْتَانُ الْعَظِيْمُ.
وذلك : أنَّ عِيْسَى عليه السلام اسْتَقْبَلَ رَهْطاً مِنَ الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ جَاءَ السَّاحِرُ بْنُ السَّاحِرَةِ ؛ وَالْفَاعِلُ بْنُ الْفَاعِلَةِ ، فَقَذَفُوهُ وَأمَّهُ ، فَلَمَّا سَمِعِ بذلِكَ عِيْسَى ، قَالَ : اللَّهُمَّ أنْتَ رَبي وَأنَا عَبْدُكَ ؛ بقُدْرَتِكَ خَرَجْتُ وَبكَلِمَتِكَ خَلَقْتَنِي ، وَلَم أُتَّهَمْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ، اللَّهُمَّ الْعَنْ مَنْ سَبَّنِي وَسَبَّ وَالِدَتِي. فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ وَمَسَخَ ذَلِكَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ سَبُّوهُ وَسَبُّوا أُمَّهُ خَنَازِيْرَ ، وَكَانُواْ رَمَوا أُمُّهُ بيُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مَانَانَ.(0/0)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّهُ لَمَّا مُسِخَ الرَّهْطُ الَّذِيْنَ سَبُّواْ عِيْسَى وَأُمُّه ، فَمَسَخَ اللهُ مَنْ سَبَّهُمَا قِرَدَةً وَخَنَازِيْرَ ؛ وَدَخَلَ بَيْتاً فِي سَقْفِهِ روْزَنةٌ - أيْ كُوَّةٌ - فَرَفَعَهُ جِبْرِيْلُ عليه السلام إلَى السَّمَاءِ ؛ وَأمَرَ يَهُودِيّاً مِلِكُ الْيَهُودِ رَجُلاً يُقَالُ لَهُ طِيْطَانُوسُ أنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ فَيَقْتُلَهُ ؛ فَدَخَلَ فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَأَلْقَى اللهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيْسَى عليه السلام ، فَلَمَّا خَرَجَ إلَى أصْحَابهِ قَتَلُوهُ وَهُمْ يَظُنُّونَ أنَّهُ عِيْسَى ، ثُمَّ صَلَبُوهُ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَتَلْنَاهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ وَجْهَهُ وَجْهَ عِيْسَى وَجَسَدَهُ جَسَدَ صَاحِبنَا ، فَإنْ كَانَ هَذا عِيْسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا ؟ وَإنْ كَانَ هَذَا صَاحِبُنَا فَأَيْنَ عِيْسَى ؟ فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ وَاخْتَلَفُواْ فِيْهِ ، ثُمَّ بَعَثَّ عَلَيْهِمْ طَاطُوسَ بْنُ اسْتِيبَانْيُوسُ الرُّومِيُّ فَقَتَلَ مِنْهُمْ مَقْتَلَةً عَظِيْمَةَ).
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { رَسُولَ اللَّهِ } قولُ اللهِ خاصَّة لا قولَ اليهودِ ، وكانت اليهودُ تُقول : عِيْسَى بْنُ مَرْيَمَ ، قال اللهُ تعالى : { رَسُولَ اللَّهِ } أي يَعْنُونَ الذي هو رَسُولُ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ } ؛ أي ومَا قَتَلُوا عيسَى وما صَلَبُوهُ ولكن ألْقَى اللهُ على طِيْطَانُوسُ شَبَهَ عِيْسَى فقتلوهُ ؛ وَرُفِعَ عِيْسَى إلى السَّماءِ. قال الحسنُ : إنَّ عِيْسَى عليه السلام قَالَ لِلْحَوَارِيِّيْنَ : أيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ فَيَدْخُلَ الجنَّةَ ؛ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَوَارِيِّيْنَ فَقَالَ : أنَّا يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَلْقَى اللهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيْسَى ؛ فَقُتِلَ وَصُلِبَ ، وَرَفَعَ اللهُ عِيْسَى إلَى السَّمَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } ؛ أي مِنْ قَتْلِهِ ، قال الكلبيُّ : (اخْتِلاَفُهُمْ فِيْهِ : أنَّ الْيَهُودَ قَالُواْ : نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ ، وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ النَّصَارَى : بَلْ نَحْنُ قَتَلْنَاهُ وَصَلَبْنَاهُ ، فَمَا قَتَلَهُ هَؤُلاَءِ وَلاَ هَؤُلاَءِ ، بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ).
ويقال : إنَّ الله تعالى لَمَّا ألقَى شَبَهَ عِيسَى على طيطانوسُ ألقاهُ على وجههِ دون جَسَدِهِ ، فَلَمَّا قَتَلُوا طيطانوس ؛ نَظَرُوا إليهِ فإذا وجههُ وجهُ عيسَى وجسَدُه غيرُ جَسَدِ عيسَى ، فقالوا : إن كان هذا عيسَى ، فأينَ صاحبُنا ؟ وإن كانَ صاحِبُنا فأينَ عيسَى ؟ فقال اللهُ تعالى : { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } ؛ نَعْتٌ كمصدرٍ محذوف تقديرهُ : وَمَا عَلِمُوهُ عِلْماً يَقِيْناً.(0/0)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } ؛ أي بَلْ رَفَعَهُ الله إلى السَّماء ، وإنَّما سَمَّى ذلكَ رَفْعاً إليه ؛ لأنه رُفِعَ إلى موضعٍ لا يَملكُ فيه أحدٌ شيئاً إلاّ (اللهَ). قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } ؛ قد ذكرنا معناهُ غيرَ مرَّة ، وفائدةُ ذكرِهِ ها هنا : بيانُ قدرةِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على نَجَاةِ من يساءُ ، وبيانُ حكمتهِ فيما فعلَ ويفعلُ وحَكَمَ ويحكمُ ، فلما رَفَعَ اللهُ عيسى عليه السلام كَسَاهُ الرِّيْشَ وألبسَهُ النورَ وقطعَ عنهُ شهواتِ الْمَطْعَمِ والْمَشْرَبِ وطارَ مع الملائكةِ ؛ فهو معهم حولَ العرشِ فكأنه إنْسِيّاً ملكياً سَمَاوِيّاً أرْضِيّاً. قال وهبُ بن مُنَبهٍ : (يُبْعَثُ عِيْسَى عَلَى رَأَسِ ثَلاَثِيْنَ سَنَةٍ ، وَرَفَعَهُ اللهُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً ، وَكَانَتْ نُبُوَّتُهُ ثَلاَثَ سِنِيْنَ).(0/0)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } ؛ لمَّا ذكرَ اللهُ تعالى اختلافَ اليهودِ والنَّصارى في عيسَى ؛ بَيَّنَ بعدهُ أن هذا الشّكَّ سيزولُ عن كل كتابيٍّ ، فقالَ تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } أي ما أحدٌ مِن أهلِ الكتاب إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بعيسَى قبلَ لأن يَموتَ الكتابيُّ يعني : إذا عَايَنَ اليهوديُّ أمرَ الآخرةِ وَحَضَرَتْهُ الوفاةُ ؛ ضَرَبَتِ الملائكةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ ؛ وقالت : أتاكَ عيسى نبيّاً فَكذبْتَ بهِ ؛ فيؤمنُ حبن لا ينفعهُ إيْمانهُ ، ويقول للنصرانِيِّ : أتاكَ عيسى عليه السلام نَبيّاً فَكَذَبْتَ عبدَاللهِ ورسولَهُ ، فزعمتَ أنهُ هو اللهُ وابن اللهِ ، فيؤمنُ بأنهُ عبدُاللهِ حين لا ينفعهُ إيْمانهُ.
وَقِيْلَ : معناهُ : قبلَ موتِ عيسَى ، وهذا قولُ الحسنِ وقتادةَ والربيعِ ؛ جعلوا هاتَين الكنايَتين في (بهِ) و (مَوْتِهِ) راجعينَ إلى عيسَى عليه السلام ، والقولُ الأولُ هو قول عكرمةَ ومجاهدُ والسُّدِّيُّ ؛ جعلوا الهاءَ في قولهِ (به) راجعةً إلى عيسَى ، وفي قوله (مَوْتِهِ) راجعةً إلى الكتابيِّ الذي يؤمنُ به إذا عايَن الموتَ ، وهي روايةٌ عنِ ابن عبَّاس ؛ قالوا : (لاَ يَمُوتُ يَهُودِيٌّ وَلاَ صَاحِبُ أوْ أكَلَهُ سَبْعٌ أوْ مِيْتَةٍ كَانَتْ) حَتَّى قيلَ لابنِ عبَّاس : (أرَأيْتَ إنْ خَرَّ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ ؟ قال : تَكَلَّمَ بهِ الْهَوْيِ ؛ قِيلَ لَهُ : رَأَيْتَ لَوْ ضُرِبَتْ عُنُقُ أحَدِهِمْ ؟ قَالَ : تَلَجْلَجَ بهِ لِسَانُهُ). يدلُّ على صحَّة هذا التأويلِ قراءةُ أُبَيٍّ (قَبْلَ مَوْتِهِمْ).
قال شَهْرُ بن الْحَوْشَب : (قَالَ لِيَ الْحَجَّاجُ يَوْماً : إنَّ آيَةً مِنْ كِتَاب اللهِ مَا قَرَأتُهَا إلاَّ تَلَجْلَجَ لِي فِي نَفْسِي مِنْهَا شَيْءٌ ، قُلْتُ : وَمَا هِيَ ؟ قالَ : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } وَإنِّي لأُوْتَى بالأَسِيرِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ ، فَمَا أسْمَعُهُ يَقُولُ شَيْئاً.
قُلْتُ : إنَّ الْيَهُودِيَّ إذا حَضَرَهُ الْمَوْتُ ؛ ضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ وَدُبُرَهُ ؛ وَتَقُولُ لَهُ : يَا عَدُوَّ اللهِ ؛ أتَاكَ عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذبْتَ بهِ ، فَيَقُُولُ : إنِّي آمَنْتُ بهِ إنَّهُ عَبدٌ نَبيٌّ ، فَيُؤْمِنُ بهِ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ ، وَتَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ لِلنَّصْرَانِيِّ : يَا عَدُوَّ اللهِ ؛ أتَى عِيْسَى عَبْداً نَبيّاً فَكَذْبتَ بهِ وَقُلْتَك إنَّهُ اللهُ وَابْنُ اللهِ ، فَيَقُولُ : إنَّهُ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ حِيْنَ لاَ يَنْفَعُهُ إيْمَانُهُ.
قَالَ الْحَجَّاجُ : وَمَنْ حَدَّثَكَ بهَذا الْحَدِيْثِ ؟ قُلْتُ : حَدَّثَنِي بهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ ، قَالَ : - وَكَانَ مُتَّكِئاً فَجَلَسَ - ثُُمَّ نَكَثَ فِي الأَرْضِ بقَضِيبَةٍ سَاعَةً ، ثُمَّ رَفَعَ رَأَسَهُ إلَيَّ وَقَالَ : أخَذْتَهَا مِنْ مَعْدَنِهَا.
قَالَ الْكَلْبِيُّ : فَقُلْتُ لِشَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ : وَمَا الَّذِي أرْدَتَ بقَوْلِكِ لِلْحَجَّاجِ : حَدَّثَنِي بذلِكَ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ يَكْرَهُهُ ، وَيَكْرَهُ مَنْ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ ؟ قَالَ : أرَدْتُ أنْ أغِيْظَهُ).
وحُجَّةُ من قال : إنَّ الهاءَ في قوله { مَوْتِهِ } راجعةٌ إلى عيسَى : ما رويَ في الخبرِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : [أنَا أوْلَى النَّاسِ بعِيْسَى ؛ لأنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبيٌّ ، وَيُوْشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمْ حَكَماً عَدلاً ، فَإذا رَأَيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ ، فَإنَّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الْخَلْْقِ إلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ ، كَأَنَّ رَأسَهُ يَقْطُرُ وَإنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ ، فَيَقْتُلُ الْخِنْزِيْرَ ؛ وَيُرِيْقُ الْخَمْرَ ؛ وَيَكْسِرُ الصَّلِيْبَ ؛ وَيُذْهِبُ السَّحَرَةَ ؛ وَيُقَاتِلُ النَّاسَ عَلَى الإسْلاَمِ ؛ وَتَكُونُ السَّجْدَةُ وَاحِدَةً للهِ رَب الْعَالَمِيْنَ ، وَيُهْلِكُ اللهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيْحَ الضَّلاَلَةِ الْكَذَابَ الدَّجَّالَ ؛ حَتَّى لاَ يَبْقَى أحَدٌ مِنْ أهْلِ الْكِتَاب وَقْتَ نُزُولِهِ إلاَّ يُؤْمِنُ بهِ ، وَتَقَعُ الأَمَنَةُ فِي زَمَانِهِ حَتَّى تَرْتَعَ الإبلُ مَعَ الأُسُودِ ؛ وَالْبَقَرُ مَعَ النُّمُورِ ؛ وَالْغَنَمُ مَعَ الذِّئّاب ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بالْحَيَّاتِ ، لاَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعضاً ، ثُمَّ يَلْبَثُ فِي الأَرْضِ أرْبَعيْنَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَدْفِنُوهُ).(0/0)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } ؛ أي فَبكُفْرِ اليهودِ وجُرمِهم حرَّمنا عليهم أشياءَ كانت طَيِّبَةً لَهم في التوراةِ ؛ منها : لُحُومُ الإبلِ وألبانُها والشُّحومُ ، وكانوا إذا أصابُوا ذنباً عظيماً حَرَّمَ اللهُ عليهم طعاماً طَيِّباً ، { وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً } ؛ معناهُ : بسبب مَنْعِهِمُ الناسَ عن دينِ الله وهو الإسلامُ ، وَ ؛ بسَبَب ؛ { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } ؛ وقد نُهوا عن ذلك في التَّوراة ، وَ ؛ بسبب ؛ { وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } ؛ أكلِ أموال الناس بالظُّلمِ ، وأخذِ الرِّشَا في الحكمِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ أي خَلَقْنَا وهيَّأْنا للكافرينَ منهم عذاباً وَجِيْعاً يَخْلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم ، وإنَّما خصَّ الكافرينَ لبيانِ أن مَن يؤمنُ منهم غيرُ داخلٍ في هذا الوعيدِ.
ثُمَّ استثنىَ اللهُ تعالى منهم مَن آمَنَ ، فقال تعالى : { لَّـاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ؛ أي لكن التائبون مِن أهلِ الكتاب وهم عبدُالله بنُ سلامٍ وأصحابُه ، وسَمَّاهم { الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } لثباتِهم في العِلْمِ وتَبَحُّرِهِمْ فيه ؛ لا يضطربون ولا تَميلُ بهم الشُّبَهُ ، بمنْزِلة الشجرةِ الرَّاسخةِ بعروقِها في الأرض.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ } أي والمؤمنونَ مِن غير أهل الكتاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدِّقون بما نزل إليكَ من الفُرْقًانِ ، وما فيه من تَحريم هذهِ الأشياء عليهم ، ويصدِّقون بما أُنْزِلَ من قبلِكَ على الأنبياءِ من الكُتُب ، { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ } ؛ يجوزُ أن يكونَ معناهُ : يؤمنونَ بالنبيِّين المقيمينَ الصلاةَ ، فيكون قولهُ { وَالْمُقِيمِينَ } نَسَقاً على قولهِ{ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ }[النساء : 60].
ويجوزُ أن يكون نَصْباً على المدحِ على معنى : أعْنِي الْمُقِيْمِيْنَ الصَّلاَة ؛ وَهُمْ : { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } ؛ كما يقال : جاءنِي قومُكَ الْمُطْعِمُونَ فِي الْمَحَلِّ ؛ وَالْمُعِيْنُونَ فِي الشَّدَائِدِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } ؛ أي الْمُصَدِّقُونَ باللهِ وبالبعثِ بعدَ الموتِ أولئكَ سنعطيهم ثَواباً وافِراً في الجنَّة.
(0/0)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزّ : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ } ؛ أي أنْزِلْنَا جبريلَ عليكَ بهذا القُرْآنِ كما أوحينَا إلى نوحٍ ؛ فأمرَ بالاستقامةِ على التَّوحيدِ ودعوةِ الخلقِ إليه ، وكما أوحيْنَا إلى النبيِّين مِن بعدِ نوحٍ أوحينَا إليكَ. قِيْلَ : إنَّ نوحاً عليه السلام عَمَّرَ ألفَ سنةٍ لم تَنْقُصْ لهُ سِنٌّ ولا قوَّة ، ولم يَشِبْ له شعرٌ ، ولم يبلُغْ أحدٌ من الأنبياءِ في الدذَعوةِ ما بَلَغَ ، ولم يَصْبرْ على أذى قومهِ ما صَبَرَ ، وكان يدعُو قومَهُ لَيلاً ونَهاراً ، وسِرّاً وإعْلاناً ، وكان الرجلُ من قومهِ يضربهُ فيُغْمَى عليه ، فإذا أفَاقَ دَعَا وَبَلَّغْ ، وَقِيْلَ : هو أوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عنهُ الأرضُ يومَ القيامةِ بعد مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ } ؛ وهم بنو يعقوبٍ عليه السلام وهم اثْنَا عشرَ رَجُلاً ، وَ ؛ إلَى ؛ { وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا } ؛ أي أعْطَيْنَا ؛ { دَاوُودَ زَبُوراً } ؛ والزَّبُورُ : هو الكتابُ ، مأخوذٌ من الزُّبْرِ ؛ وهو الكتابةُ ، ومن قرأ زُبُوراً بضَمِّ الزَّاي وهو الأعمشُ وحمزةُ وابن وثَّاب ؛ فمعناهُ : الكتُبُ على الْجَمْعِ.
فإن قيلَ : كيفَ قدَّمَ اللهُ ذكر عِيْسَى على ذِكْرِ أيُّوبَ ويونُسَ وهارونَ وسليمان وداوُدَ ، وهو مِنْ بعدِهم ؟ قِيْلَ : لأنَّ الواوَ للجمعِ دون الترتيب ، فتقديمُ ذِكْرِهِ في الآيةِ لا يوجبُ تقديْمَهُ في الْخَلْقِ والإرسال ، والفائدةُُ في تقديْمهِ في الذكرِ : الردُّ على اليهودِ ، وَلِغُلُوِّهِمْ في الطَّعْنِ وفي نَسَبهِ ، فقدَّمهُ اللهُ في الذكرِ ؛ لأن ذلك أبلغَ في كُتُب اليهودِ وفي تَنْزِيْهِهِ مِمَّا رُمِيَّ به ونُسِبَ إليهِ.
(0/0)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } ؛ عَطْفُ على{ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ }[النساء : 163] ، كأنه قالَ : إنا أرسلناكَ مُوحِيْنَ إليكَ ، وأرسلنا رُسُلاً قد قَصَصْنَا عليكَ ، ويجوزُ أن يكون مَنْصُوباً بالفعلِ الذي بعدَه ، كأنهُ قالَ : وقد قَصَصْنَا رُسُلاً عليكَ ، ومعناه : قَصَصْنَاهُمْ ؛ أي سَمَّيْنَاهُمْ لكَ في القُرْآنِ ، وعرَّفناكَ قِصَّتَهُمْ ، { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } ؛ أي وأرسلنَا رُسُلاً لم نُسَمِّهِمْ لكَ وأمرناهم بالاستقامةِ على التَّوْحِيْدِ ودعوةِ الْخَلْقِ إلى الله.
وعن أبي ذرٍّ قال : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ كَمْ كَانَتِ الأنْبيَاءُ ؟ وَكَمْ كَانَ الْمُرْسَلُونَ ؟ قَالَ : (كَانَتْ الأنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ مَائَةَ ألْفٍ وَأرْبَعَةً وَعِشْرِيْنَ ألْفاً ، وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ ثَلاَثَمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ).
وعن كعب الأحبار أنه قالَ : (الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ ألفَا ألفٍ ومائتا الفٍ وخمسَةٌ وعشرون ألفاً ، والمرسلُ ثلاثُمائة وثلاثة عشر. وكان داودُ عليه السلام قد أُنْزِلَ عليه الزبورُ ، وكان يَنْزِلُ إلى البرَِّية ويقرأ الزبورَ ؛ فيقومُ معه علماءُ بني إسرائيلَ خَلْفَهُ ؛ ويقومُ الناسُ خَلْفَ العلماءِ ، وتقومُ الْجِنُّ خلفَ الناسِ ، وتجيءُ الدوابُ التي في الجبالِ إذا سَمعت صوتَ داودَ فِيَقُمْنَ بين يديه تَعَجُّباً لِمَا يسمعنَ من صوتهِ ، وتجيءُ الطيرُ حتى يُظَلِّلْنَ على داودَ في خلائقِ لا يحصيهنَّ إلاّ اللهُ يُرَفْرِفْنَ على رأسهِ ، وتجيءُ السِّبَاعُ حتى تحيطَ بالدواب والوحشِ لما يسمعنَ ، ولما قَارَنَ الذنْبَ لم يَرَ ذلك ، فقيلَ لهُ : ذلكَ أنْسُ الطاعةِ ، وهذه وَحْشَةُ المعصيةِ.
وعن أبي موسَى الأشعريِّ قالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ رَأيْتَنِي الْبَارِحَةَ وَأَنا أسْتِمِعُ لِقِرَاءَتِكَ ، لَقَدْ أعْطِيْتَ مِزْمَاراً مِنْ مَزَامِيْرِ آلِ دَاوُدَ " فَقَالَ : فَقُلْتُ : أمَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ لَوْ عَلِمْتَ أنَّكَ تَسْتَمِعُ لَحَبَّرْتُهُ تَحْبيْراً. وكان عمرُ رضي الله عنه اذا رأىَ أبَا موسَى عليه السلام قال : " ذكِّرْنَا يَا أبَا مُوسَى " فيقرأهُ عندَهُ ". وعن أبي عثمان النَّهْدِيِّ ؛ قالَ : (مَا سَمِعْتُ قَطُّ بُرْبُطاً وَلاَ مِزْمَاراً وَلاَ عُوداً أحْسَنَ مِنْ صَوْتِ أبي مُوسَى ، وَكَانَ يَؤُمُّنَا فِي صَلاَةِ الْغَدَاةِ فَنَوَدُّ أنَّهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ مِنْ حُسْنِ صَوْتِهِ).
وفي تفسير الكلبيُّ : (أنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْزَلَ الآيَةَ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ؛ وَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى النَّاسِ ؛ قَالَ الْيَهُودُ فِيْمَا بَيْنَهُمْ : مَا نَرَى مُحَمَّداً يَقْرَأُ بمَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى مُوسَى ؛ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إلَيْهِ كَمَا أُوْحِيَ إلَى النَّبِيِّيْنَ مِنْ قَبْلِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالُواْ ؛ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ ذكَرَهُ فِيْمَنْ ذَكَرَهُ وَفَضَّلَهُ بالْكَلاَمِ عَلَيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } ؛ وفائدة تخصيصِ موسَى عليه السلام بالكلامِ مع انَّ اللهَ تعالى كَلَّمَ غيرَه من الأنبياءِ ، ؛ لأنه تعالى كَلَّمَهُ من غيرِ واسطةٍ ؛ وَكَلَّمَ غيرَه من الأنبياء بالْوَحْيِ إليهم على لِسَانِ بعضِ الملائكةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَكْلِيماً } ؛ يدلُّ على التأكيدِ كَيْلاَ يحملَ كلامُ الله إياهُ على معنى الوَحْيِ إليه.
(0/0)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ؛ معناه : فَأَرْسَلْنَا هؤلاءِ رُسُلاً مُبَشِّرِيْنَ بالجنَّةِ لمن أطاعَ وَمُخَوِّفِينَ بالنار لمن عصَى ؛ { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } ؛ لئلاَّ يكونَ للناسِ على اللهِ حُجَّةٌ يومَ القيامةِ بعد إرسال الرُّسُلِ إليهم ؛ فيقولوا : رَبَّنَا لولاَ أرسلتَ إلينا رَسُولاً فَنَتَّبعَ آيَاتِكَ ، { وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } ؛ ظاهرُ المرادِ.
(0/0)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّـاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ أتَواْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَوا : سَأَلْنَا اليَهُودَ عَنْ نَعْتِكَ وَصِفَتِكَ ؛ فَزَعَمُواْ أنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَكَ فِي كُتُبهِمْ ، فَأَتِنَا بمَنْ يَشْهَدُ لَكَ أنَّ اللهَ بَعَثَكَ إلَيْنَا رَسُولاً ، فأَنَزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ ، وَأَنْزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ }[الأنعام : 19]).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } ؛ أي على عِلْمِ منهُ بأنَّكَ أهْلٌ لإنْزَِالِهِ عليكَ ، وعَلِمَ من يَقْبَلُ ومن لا يقبلُ كما قالَ اللهُ تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }[الأنعام : 124]. وَقِيْلَ : معناهُ : (أنْزَلَهُ بعِلْمِهِ) أي عَلِمَ ما فيهِ من الأحكامِ وما تحتاجُ إليه العبادُ من أمرِ دِينهم ودُنياهم ثُمَّ أنْزَلَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : بل وَصَلَ إليكَ كما كان في اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } ؛ أي يشهدونَ على شهادَةِ اللهِ ، وعلى شهادتِكَ بأنَّ الذي شَهِدْتَ به حَقٌّ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } ؛ أي اكْتَفُوا باللهِ شهيداً في شهَادَتِهِ أن تَشْهَدَ اليهودُ بما في كتابهم.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاً بَعِيداً } ؛ معناهُ إنَّ الذين جَحَدُواْ وحدانيَّةَ اللهِ وَمُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم والْقُرْآنَ ، وصَرَفُوا الناسَ عن دينِ الله وطاعتهِ فقد أخْطَأُواْ خَطَأً بعيداً عن الْهُدَى والثواب. بَيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ ضَلاَلَتَهُمْ في الدُّنيا.
ثم بيَّن عقوبتَهم في الآخرةِ فقالَ تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ؛ أي إنَّ الذينَ كفرُوا بما يجبُ الإيْمان به ظَلَمُوا أنفسَهم بكُفْرِهِمْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ مَا دا مُوا على كُفْرِهم ، { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } ؛ إلَى الإسلامِ ، { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } ؛ لكن تَرَكَهُمْ على طريقِ جَهَنَّمَ وهو الكفرُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يُرْشِدُهُمْ في الآخرةِ إلى طريقٍ غيرَ طريق جهنم ، كما في قولهِ تعالى : { فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ }[الصافات : 23] ، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ؛ التَّخْلِيْدُ والتعذيبُ ، { وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً } ؛ سَهْلاً هَيِّناً.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ } ؛ خطابٌ لعامَّةِ الْخَلْقِ ، { قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ } يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بكلمةِ التَّوحيدِ والقُرْآنِ مِنْ عِنْدِ رَبْكًُمْ ، { فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } ؛ فصدِّقوا باللهِ ورسوله ، وبما جاءَ به من عندهِ يكُنْ خيراً لكم من التَّكْذِيْب.
قال الخليلُ والبصريُّون : (انْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (خَيْراً) لأنَّكَ إذا أمَرْتَ بفِعْلٍ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ ؛ تَقْدِيْرُهُ : إئْتُوا خَيْراً لَكُمْ ، وَإذا نَهَيْتَ عَنْ فِعْلِ دَخَلَ فِي مَعْنَاهُ ؛ تَقْدِيْرُهُ : إئْتِ بَدَلَهُ خَيْراً لَكُمْ). وقال الفرَّاءُ : (انْتَصَبَ لأنَّهُ مُتَّصِلٌُ بالأَمْرِ وَهُوَ مِنْ صِفَتِهِ) تَقْدِيْرُهُ : هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ، فَلَمَّا سَقَطَ هُوَ اتَّصَلَ بَما قَبْلَهُ ، وَعَلَى هَذا : انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. وقال الكسائيُّ : (انْتَصَبَ لِخُرُوجِهِ مِنَ الْكَلاَمِ) وقال : (هَذا إنَّمَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ فِي الْكَلاَمِ التَّامِّ ، نَحْوَ قَوْلِكِ : لَتَقُومَّنَّ خَيْراً لَكَ ، وَانْتَهِ خَيْراً لَكَ ، وَإذا كَانَ الْكَلاَمُ نَاقِصاً رَفَعُواْ ، فَقَالَ : أنِ انْتَهُواْ خَيْرٌ لَكُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي إنْ تَكْفُرُوا يُعَاقِبْكُمُ اللهُ ، فَإنَّ للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. وَقِيْلَ : إنْ تكفرُوا فإنَّ الله غَنِيٌّ عنكُم ، لكونهِ مَالكَ السَّمَوات والأرضِ ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } ؛ أي لَمْ يَزَلْ عَلِيْماً بخلقهِ ، بمن يؤمنُ وبمن لا يؤمنُ ، حَكِيْماً في أمرهِ ، حَكمَ بالإسلامِ على عبادهِ.
(0/0)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } ؛ نزلَت في نصارَى نَجْرَانَ وهم : النَّسْطُوريِّةُ : الذين يقولونَ عيسى ابنُ الله ، وَالْمَارْيَعْقُوبيَّةُ : الذين يقولن عيسى هو اللهُ ، وَالْمَرْقُوسِيَّةُ : الذين يقولون ثالثُ ثلاثةٍ ؛ ويقال هم الْملكانيَّة. ومعنى الآيةِ : يَا أهْلَ الْكِتَاب لاَ تُجَاوزُوا الحدِّ في الدينِ فتغيِّروا فيه. والغُلُوَّ في الدينِ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فيهِ ، وقد غَلَتِ النصارى في أمرِ عيسى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ الأنبياءِ فجعلوهُ إلَهاً.
ويقالُ : إنَّ الآيةَ خطابٌ لليهودِ والنصارى ؛ لأنَّ اليهودَ أيضاً غَلَوا في أمرِ عيسَى حتى جَاوَزُوا به مَنْزِلَةَ مَنْ وُلِدَ على غيرِ الطَّهارةِ فجعلوهُ لغيرِ رُشْدِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } أي لا تَصِفُوا اللهَ إلاَّ بالحقِّ ، والحقُّ أن يقالَ : إلَهٌ وَاحِدٌ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلاَ صَاحِبَةَ وَلاَ وَلَدَ ، وينَزِّهُهُ عن القبائحِ والنَّقَائصِ وعن جميعِ صفاتِ الْمُحْدَثِيْنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ } ؛ أي ليسَ المسيحُ إلاَّ رَسُولَ اللهِ ؛ لأن (إنَّمَا) تقتضِي تحقيقَ المذكور وتَمحِيْقَ ما سواهُ ، كقولهِ تعالى : { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ، وفي قولهِ : { عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } بيانٌ أنهُ لا يجوز أن يكونَ إلَهاً ؛ أي كيفَ يكون إلَهاً وهو ابنُ مَرْيَمَ أمَةُ اللهِ ؟ وكيفَ يكون إلَهاً وَأمُهُ قَبْلَهُ. قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } ؛ أي أنهُ كان بكلمتهِ عَزَّ وجَلَّ وهو قولهُ : (كُنْ) فَكَانَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أمْرٌ مِنَ اللهِ عَزَّوَجَلَّ ؛ أتَاهَا جِبْرِيْلُ بأَمْرِ اللهِ فَنَفَخض فِي جَيْب دِرْعِهَا ؛ فَدَخَلَتْ تِلْكَ الْنَّفْخَةُ بَطْنَهَا ؛ فَخَلَقَ اللهُ عِيْسَى بنَفْخَةِ جِبْرِيْلَ عليه السلام]. والنَّفْخُ في اللغة : يُسَمَّى رُوحاً. وَقِيْلَ : سَمَّاهُ اللهُ تعالى رُوحاً ؛ لأنه كان يُحْيي بهِ الناسَ في الدينِ كما يُحْيُونَ بالأرواحِ. وَقِيْلَ : لأنه رُوْحٌ مِن الأرواحِ أضافَهُ اللهُ إليهِ تشريفاً لهُ ، كما يقالُ : بَيْتُ اللهِ. وقال السُّدِّيُّ : (مَعْنَاهُ (وَرُوحٌ مِنْهُ) أيْ مَخْلُوقٌ مِنْهُ ؛ أيْ مِنْ عِنْدِهِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : ورحمةٌ منهُ ؛ أي جعله اللهُ رحمةً لمن آمَنَ بهِ ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ }[المجادلة : 22] أي قَوَّاهُمْ برحمةِ منهُ. وَقِيْلَ : الرُّوحُ : الوَحْيُ ؛ أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالْبشَارَةِ ، وأوحَى إلى جبريلَ بالنَّفْخِ ، وأوحَى إليه أن كُنْ ؛ فَكَانَ ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ }[النحل : 2] أي بالوحْيِ ، { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا }[الشورى : 52] أي وَحْياً.
ورويَ : أنَّهُ كَانَ لِهَارُونَ الرَّشيْدِ طَبيْبٌ نَصْرَانِيٌّ ، وَكَانَ غُلاَماً حَسَنَ الْوَجْهِ جِدّاً ، وَكَانَ كَامِلَ الأَدَب جَامِعاً لِلْخِصَالِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بهَا إلَى الْمَلِكِِ ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ مُولعاً بأَنْ يُسَلِمَ وَهُوَ يَمْتَنِعُ ، وَكَانَ الرَّشِيْدُ يُمَيِّنْهِ الأَمَانِيَّ إنْ أسْلَمَ ، فَقَالَ لَهُ ذاتَ يَوْم : مَا لَكَ لاَ تُؤْمِنُ ؟ قَالَ : إنَّ فِي كِتَابكُمْ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ انْتَحَلَهُ ، قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } فَعَبَّرَ بهَذا أنَّ عِيْسَى جُزْءٌ مِنْهُ.
(0/0)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } ؛ نَزَلَ فِي وَفْدِ نَجْرَانَ ؛ " نَاظَرُواْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فِي أمْرِ عِيْسَى ، فَقَالَ لَهُمْ : " هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ". فَقَالَُواْ : لاَ تَقُلْ هَكَذا ؛ فَإنَّ عِيْسَى يَأَنَفُ مِنْ هَذا الْقَوْلِ ؛ " فَنَزَلَ تَكْذِيْباً لِقَوْلِهِمْ : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيْحُ أنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ) أي لن يَأَنَفَ ، ولم يَتَعَظَّمَ عن الإقرار والعبوديَّة لله عَزَّ وَجَلَّ ، { وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } أي ولن يستنكفَ الملائكةُ المقرَّبونَ عن العبوديَّة وهم حَمَلَةُ الْعَرْشِ. وإنَّما خصَّ الملائكةَ بعد عيسى ؛ لأن النّصارى كانوا يقولونَ : عيسى ابن الله ، وبَنُو مُدْلَجٍ كانوا يقولونَ : الملائكةُ بنات اللهِ ، فَرَدَّ اللهُ على الفريقين جَميعاً.
ِقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } ؛ أي مَن يأْنَفُ ويَمْتنعُ عن توحيدهِ وطاعته وَيَتَعَظَّمُ عنِ الإيْمانِ ؛ فَسَيَجْمَعُهُمُ إليه جميعاً : الْمُسْتَنْكِفُ وَالْمُسْتَكْبرُ ؛ والْمُقِرُّ وَالْمُطِيْعُ.
(0/0)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ؛ أي الذينَ آمنُوا بمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوفِرُ عليهم جزاءَ أعمالِهم في الجنَّة ، وَيَزِيْدُهُمْ من عطائهِ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ ؛ وَلاَ أُذُنٌّ سَمِعَتْ ؛ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْب بَشَرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ } ؛ أي وأما الذين أبَوا وامتنعُوا عنِ الإيْمانِ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ ؛ { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ؛ وَجِيْعاً ، { وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ؛ ولا يَجِدُونَ لَهم سوَى اللهِ قريباً ينفعُهم ، ولا مانعاً يَمنعُهم من النار.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } ؛ خطابٌ للناس كلَّهم ، والْبُرْهَانُ هو النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، سَمَّاهُ بُرْهَاناً لظهور المعجزةِ ، والنورُ المبينُ الْقُرْآنُ ؛ سَمَّاهُ نُوراً مُبيناً ؛ لأن النورَ هو الذي يُبَيِّنُ الأشياءَ حتى تَرَى ، والقُرْآنُ مُبَيِّنُ الأشياءِ كلِّها.
(0/0)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } ؛ أي فأمَّا الذينَ صَدَّقُوا بوحدانيَّةِ الله وتَمَسَّكُوا بدينهِ وكتابهِ ، وسألُوا العصمةَ من مَعَاصِيهِ ؛ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي الآخرةِ جَنَّتَهُ وكراماتهِ التي أعدَّها لَهم فيها ، { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } ؛ أي ويُعَرِّفُهُمْ في الدُّنيا سبيلَ الْهُدَى وهو الإسلامُ ، وَيُثَبتُهُمْ عليهِ ، وتقديرُ الآية : وَيَهْدِيِهْمِ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُهُمْ فِي الآخِرَةِ.
(0/0)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ؛ نزلت في جَابرِ بنِ عبدِالله حين جاءَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ لِي أُخْتاً ؛ فَمَا لِي فِيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيَةَ ، وقد تقدَّم تفسيرُ الكَلاَلَةِ ، وابتدأ بالرجلِ ، فيقالُ : إنهُ ماتَ قبلاَ أختهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } ؛ يعني مِن أُمٍّ وأبٍ أو من أبٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } ؛ وحكمُ الثَّلاثِ والأربعِ فصاعداً حكمُ الاثنين كالبناتِ ، وإنْ كانوا إخوةً ؛ { وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً } ؛ أي وإنْ كان الورثةُ إخوةً من أُمٍّ وأبٍ ، أو من أبٍ ذُكُوراً وإناثاً ؛ { فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } ؛ أي يُبّيِّنُ اللهُ لَكُمْ قِسْمَةَ المواريثِ ؛ لِئَلاَّ تُخْطِئُوا في قِسْمَتِهَا ، وقد حذفَ (لا) في الكلامِ ويرادُ إثباتُها كما في قوله تعالى : { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ }[لقمان : 10] ، ويقال في القَسَمِ : واللهِ أبْرَحُ قَاعِداً ؛ أي لاَ أبْرَحُ ، وَتُذْكَرُ (لا) ويراد طرحُها كما في قولهِ تعالى : { لاَ أُقْسِمُ }[القيامة : 1] و{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }[الأعراف : 12].
وذهبَ البصريُّون إلى أنَّ معناهُ : كَرَاهَةَ أنْ تَضِلُّوا ، فحذفَ المضافَ وأقامَ المضاف إليه مقامهُ ، كما في قولهِ تعالى : { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ }[يوسف : 82]. وقال الفرَّاءُ : (مَوْضِعُهُ نُصِبَ بنَزْعِ الْخَافِضِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ ظاهرُ المعنى.
وعَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ النِّسَاءِ : أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ كَمَنْ اشْتَرَى ذا رَحِمٍ وَأَعْتَقَهُ ، وَبُرِّئَ مِنَ الشَّرْكِ ، وَكَانَ فِي مَشِيْئَةِ اللهِ مِنَ الَّذِيْنَ يَتَجَاوَزَ عَنْهُمْ "
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } ؛ أي أوفوا بالعقود التي كَتَبَهَ اللهُ عليكم مِما أحلَّه لكم حرَّمَه عليكُم ، وَقِيْلَ : معناهُ : أتِمُّوا العهودَ التي بينكم وبين المشركينَ ولا تنقُضُوها حتى يكونَ النّّقْضُ من قِبَلِهِمْ ، هكذا رويَ عن ابنِ عبَّاس والضحَّاك وقتادةَ. وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ أوْفُوا بعُقُودِ الدِّيْنِ ؛ يَعْنِي أوَامِرَ اللهِ وَنَوَاهِيْهِ). وَقِيْلَ : معناهُ : أوفُوا بكُلِّ عَقْدٍ تعقدونَهُ على أنفسِكم من نَذْرٍ أو يَمينٍ. وَقِيْلَ : أوْفُوا بالعقودِ التي يعقِدهَا بعضُكم بعضُكم لبعضٍ ، نحوَ عَقْدِ البيعِ والإجارَةِ والنِّكاحِ والشَّرْكةِ ، ولا تنافِي بينَ هذه الأقوالِ ؛ إذ كلُّ هذه العقود يجبُ الوفاءُ بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ } ؛ أي رُخِّصَتْ لكم الأنعامُ نفسُها ، وأضافَ البهيمةَ إلى الأنعامِ ، كما يقالُ : مسجدُ الجامِعِ ؛ ونفسُ الإنسان. والأنْعَامُ : هِيَ الإبلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، ودخل في هذه الآية إباحةُ الظِّبَاءِ وبَقَرِ الْوَحْشِ وحمار الوحشِ ؛ لأنَّها أبْهَمُ في التَّمْيَيُّزِ من الأَهْلِيَّةِ ، ولِهذا استثنَى اللهُ الصيدَ في حالةِ الإحرام في قولهِ تعالى : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }. والبهيمةُ في اللغة يتناولُ كلَّ حَيٍّ لا يُميِّزُ ، اسْتَبْهَمَ عليه الجوابُ ؛ أي اسْتَغْلَقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } ؛ أي إلاَّ ما يُقْرَأُ عليكم في القُرْآنِ مِمَّا حُرِّمَ عليكم في هذه السورة من الْمِيْتَةِ والدَّمِ ولحمِ الخنْزيرِ والموقُوذةُ والمتَردِّيَةُ والنَّطيحَةُ الايَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } ؛ نُصِبَ على الحالِ من الكافِ والميم التي في قولهِ : { أُحِلَّتْ لَكُمْ } كما يقالُ : جاءَ زيدٌ راكباً ؛ وجاءَ غيرُ راكبٍ. والمعنى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأنَعَامِ غَيْرَ مُحِلبِّي الصَّيْدِ ؛ أي من أنْ تَسْتَحِلُّوا قتلَ الصَّيدِ وأنتُم مُحْرِمُونَ. وَقِيْلَ : نُصِبَ على الحالِ من قوله { أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } أي أوْفُوا بالمعقُودِ غيرِ مُحِلِّي الصَّيْدِ ، هذا قولُ الأخفشِ ، والأوَّلُ قولُ الكسائيِّ.
ومعنى الآيةِ : أُحِلَّتْ لكمُ الأنعامُ إلاَّ ما كان وَحْشِياً ، فإنَّهُ صَيْدٌ لا يحلُّ لكم إذا كنتم مُحْرِمِيْنَ ، فذلكَ قولهُ : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } ؛ أي يقضِي على عبادهِ بما شاءَ من التحليل والتحريْمِ على ما تُوجِبُهُ الحكمةُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ } ؛ أراد به الْمَنَاسِكَ ؛ أي لا تَسْتَحِلُّوا مخالفةَ شيءٍ منها ، ولا تجاوزُوا مواقيتَ الحرمِ غيرَ مُؤَدِّيْنَ حقوقَها ؛ وذلك : أنَّ الأنصارَ كانوا لا يَسْعُونَ بين الصَّفَا والمروةِ ، وكان أهلُ مكَّة لا يخرجونَ إلى عَرَفَةَ فأمرَ اللهُ تعالى أنْ لا يترُكُوا شيئاً من المَنَاسِكِ. وقال الحسنُ : (شَعَائِرُ اللهِ دِيْنُ اللهِ) ؛ أيْ لاَ تَحِلُّوا فِي دِيْنِ اللهِ شَيْئاً مِمَّا لَمْ يُحِلَّهُ اللهُ. وقالُ : هي حدودُ اللهِ في فرائضِ الشرعِ.
والشَّعَائِرُ في اللغة : الْمَعَالِمُ ، والإشْعَارُ : الإعْلاَمُ ، وَالشَّعِيرَةُ وَاحِدَةُ الشَّعَائِرِ ؛ وهِيَ كُلُّ مَا جُعِلَ عَلَماً لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ } ؛ أي ولا تَسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارَة في الشَّهرِ الحرامِ ، وأرادَ بذلك الأشهُرَ الْحُرُمَ كلَّها ؛ وهي رَجَبٌ ؛ وذُو الْقَعْدَةِ ؛ وذُو الْحِجَةِ ؛ وَالْمُحَرَّمُ ، إلاَّ أنه ذُكِرَ باسمِ الجنس كما في قولهِ تعالى : { إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ }[العصر : 2] أرادَ به جِنْسَ الإنسانِ ، ولذلك استثنَى المطيعَ بقوله : { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ }[البقرة : 217] ، ثم نُسِخَ حرمةُ القتال في الشهرِ الحرام بقولهِ تعالى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[التوبة : 5].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ } ؛ أي لا تُحِلُّوا الْهَدْيَ ؛ أي لا تَذْبَحُوهُ قَبْلَ مَحِلِّهِ ؛ ولا تنتفِعُوا بهِ بعدَ أن جعلتموهُ للهِ ، ولا تَمنعوهُ أن يَبْلُغَ البيتَ. قَوْلُهَ تَعَالَى : { وَلاَ الْقَلائِدَ } أي ولا تُحِلُّوا القلائدَ التي تكونُ في أعناقِ الهدايا ؛ أي لا تقطعُوها قبلَ الذبْحِ وتصدَّقوا بها بعدَ الذبحِ كما قالَ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : " تَصَدَّقُوا بحَلاَلِهَا وَخِطَامِهَا ، وَلاض تُعْطِي الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئاً "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } ؛ معناهُ : ولا تسْتَحِلُّوا القَتْلَ والغارَّة على القاصدينَ المتوجِّهينَ نحوَ البيتِ الحرامِ ، وعنِ ابن عبَّاس رضي الله عنه : " أنَّ الآيَةَ وَرَدَتْ في شُرَيْحِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ هِنُدِ الْيُمَامِيِّ ، " دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالْمَدِيْنَةِ وَقَالَ : أنْتَ مُحَمَّدٌ النَّبيُّ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قَالَ : إلاَمَ تَدْعُو ؟ قالَ : " أدْعُو إلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَأنِّي رَسُولُ اللهِ ". فَقَالَ : إنَّ لِي أُمَرَاءَ أرْجِعُ إلَيْهِمْ وَأَشَاورُهُمْ ، فَإنْ قَبلُوا قَبلْتُ. ثمَّ انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِرٍ وَخَرَجَ بعَقِبَي غَادِرٍ ". فَمَرَّ بسَرْحٍ لأَهْلِ الْمَدِيْنَةِ فَاسْتَاقَهَا ، وَانْطَلَقَ نَحْوَ الْيَمَامَةِ وَهُوَ يَرْتَجِزُ يَقُولُ :
_@_ بَاتُوا نِيَاماً وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ _@_ بَاتَ يٌقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزُّلَمْ _@_ خَدَلَّجُ السَّاقينَ خَفَّاقُ الْقَدَمْ _@_ قَدْ لَفَّهَا اللّيْلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ _@_ لَيْسَ برَاعِي إبلٍ وَلاَ غَنَمْ _@_ وَلاَ بجزَّارٍ عَلَى ظَهْرِ وَضَمْ _@_ _@_ هَذا أوَّانُ الْحَرْب فَاشْتَدِّي زَلَمْ _@_
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ دُخُولِهِ عَلَى النَّّبيِّ صلى الله عليه وسلم خَلَّفَ خَيْلَهُ خَارجَ الْمَدِيْنَةِ وَدَخَلَ وَحْدَهُ. فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ ؛ خَرَجَ شُرَيْحُ نَحْوَ مَكَّة فِي تِجَارَةٍ عَظِيْمَةٍ فِي حُجَّاجِ بَكْرٍ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أهْلِ الْيَمَامَةِ وَهُمْ مُشْرِكُونَ وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُغَيْرُ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإذا كَانَ أشْهَرُ الْحَجِّ أمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعضاً ، وَإذا سَافَرَ أحَدُهُمْ فِي غَيْرِ الأَشْهُرِ الْحُرُمِ نَحْوَ مَكَّةَ قَلَّدَ هَدْيَهُ مِنَ الشَّعْرِ وَالْوَبَرِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ هَدْيٌ قَلَّدَ رَاحِلَتَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رَاحِلَةٌ جَعَلَ فِي عُنُقِهِ قَلاَدَةً ، وَكَانُوا يأْمَنُونَ بذلِكَ ، فَإذا رَجَعُوا مِنْ مَكَّةَ جَعَلُوا شَيْئاً مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الْحَرَمِ فِي عُتُقِ الرَّاحِلَةِ فَيْأْمَنُوا ، فَلَمَّا سَمِعَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخُرُوجِ شُرَيْحٍ وَأصْحَابهِ اسْتَأْذَنُوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } ؛ في موضعِ نَصْبٍ على الحالِ ، معناهُ : قَاصِدِيْنَ طالِبينَ رزْقاً بالتِّجارةِ ، { وَرِضْوَاناً } أي رضىً مِن اللهِ تعالى عَلَى عَمَلِهِمْ ، وَلاَ يرضَى عنهم حتَّى يُسْلِمُوا. وقال الحسنُ وقتادةُ : [مَعْنَى رضْوَاناً ؛ أيْ يَرْضَى اللهُ عَنْهُمْ ؛ فَيُصْلِحُ مَعَاشَهُمْ وَيَصْرِفُ عَنْهُمْْ الْعُقُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا إذا كَانُوا لاَ يُقَرُّونَ بالْبَعْثِ ، ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذلِكَ تَعَرَّضَ الْمُشْرِكينَ بقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ } [التوبة : 5] كَافَّةً ، وَبقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا } [التوبة : 28]]. وقرأ الأعمشُ [وَلاَ آمِّينَ] أبي البيتَ الحرامَ بالإضافةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ } ؛ أي لا يحملَنَّكم ويكسبنَّكم بُغْضُ قومٍ وعداواتُهم بأن صرفوكُم عامَ الْحُدَيْبيَةِ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ على أن تَظْلُمُوهُمْ ، وتتجاوزُوا الحدَّ للمكافأةِ. وموضع : [أنْ تَعْتَدُوا] نَصْبٌ لأنه مفعولٌ ، و { أَن صَدُّوكُمْ } مفعوةلٌ لهُ ، كأنهُ قال : لا يَكْسِبَنَّكُمْ بغضُ قومٍ الاعتداءَ عليهم بصدِّهم إيَّاكم.
قرأ أهلُ المدينةِ إلاَّ قالون ابنَ عامرٍ والأعمش : [شَتْآنُ] بجوزِ النُّون الأُولى. وقرأ الآخرون بالفَتْحِ وهُما لُغتان ؛ إلاّ أنَّ الفتحَ أجودُ لأنه أفْهَمُ اللُّغتين ، ولأنَّ المصادِرَ أكثرُ ما تجيءُ على [فِعْلاَنُ] مثل النَّفَيَانِ وَالرِّتَقَانِ والعَسَلاَنِ ونحوُ ذلك.
قال ابنُ عبَّاس : [مَعْنَى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ } أيْ وَلاَ يَحْمِلَنَّكُمْ]. وقال الفرَّاءُ : [وَلاَ يَمْسِبَنَّكُمْ] ، قال : [يُقَالُ : فُلاَتٌ جَرِيْمَةُ أهْلِهِ ؛ أيْ كَاسِبُهُمْ]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن صَدُّوكُمْ } قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو بكسرِ الالفِ على الاستئناف الجزاءِ ، وقرأ الباقون بالفتحِ ؛ أي لئن صَدُّوكُمْ ، والفتحُ أجودُ ؛ لأن الصَدَّ كان وَاقِعاً من الكفَّارِ يومَ الحديبيةِ قبل نُزُولِ هذه السورةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } ؛ أي تَحَاثُّوا على الطَّاعةِ وترك المعصيةِ ، قال أبو العاليَةِ : [الْبِرُّ : مَا أُمْرِتَ به ، وَالتَّقْوَى : تَركُ مَا نُهِيْتَ عَنْهُ]. وظاهرُ الأمرِ يقتضي وجوبَ المعاونةِ على الطَّاعةِ ، وظاهرُ الأمرِ على الوُجُوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ؛ أي لاَيُعِنْ شيءٍ من المعاصي والظُّلْمِ ، وقال بعضُهم : سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الإثْمِ وَالْبرِّ ؛ فَقَالَ : [الْبرُّ : حًسْنُ الْخُلُقِ ، وَالإثْمُ : مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ ، وَكَرَهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ أي اخْشَوْهُ وأطيعوهُ فيما أمرَكم به ونهاكم عنه ، { إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } إذا عَاقَبَ ، فعقابهُ شديدٌ. "
(0/0)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ؛ الْمَيْتَةُ : اسمٌ لِكُلِّ ذِي رُوحٍ فَارَقَهُ رُوحُهُ حَتْفَ أنْفِهِ ، والمرادُ بالدَّمِ : الدَّمُ الْمَسْفُوحُ ، وحُرِّمَ عليكُم لَحْمُ الْخِنْزِيْرِ لِعَيْنِهِ لا لكونهِ ميتةً حتى لا يحلَّ تناولهُ مع وجودِ الذكاةِ فيه.
وفائدةُ تخصيصِ لَحْمِ الْخِنْزِيْرِ بالْذِّكْرِ دونَ لحمِ الكلب وسائرِ السَّباعِ : أنَّ كثيراً من الكُفَّار ألِفُوا لحمَ الْخِنْزِير ، واعتادُوا أكلَهُ وأوْلِعُوا به ما لَمْ يعتادُوا بهِ أكلَ غيرهِ. وَقِيْلَ : فائدتهُ : أنَّ مُطْلَقَ لفظِ التحريم يدلُّ على نجاسةِ عَيْنِهِ مع حُرْمَةِ أكلهِ ، ولحمُ الخنْزِيرِ مختصٌ بهذا الحُكْمِ ؛ وذلكَ : أنَّ سائرَ الحيواناتِ الْمُحَرَّمِ أكلُها إذا ذُبحَتْ كان لحمُها طاهراً لا يفسدُ الماءُ إذا وقعَ فيه ، وإنْ لم يَحِلَّ أكلهُ بخلافِ لحم الْخِنْزِيْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي وحُرِّمَ عليكم ما ذُكِرَ عليه عندَ الذبْحِ اسمُ غيرِ الله ، وذلك أنَّهم كانوا يذبحونَ لأصنامِهم يتقرَّبون بذبْحِها إليهم ، فََحَرَّمَ اللهُ كلَّ ذبيحةٍ يُتَقَرَّبُ بذبحِها إلى غيرِ الله تعالى ، ولذلك قالَ الفُقَهَاءُ : إنَّ الذابحَ لو سَمَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم معَ اللهِ تعالى فقالَ : بسمِ اللهِ ومُحَمَّدٍ ؛ حَرُمَتِ الذبيْحَةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ } ؛ أي حُرِّمَ عليكم أكلُ لحم الْمُنْخَنِقَةِ ؛ وهي التي تَنْخَنِقُ بحَبْلٍ أوْ شَبَكَةٍ فَتَمُوتُ مِنْ غَيْرِ ذكَاةٍ ، وأمَّا الْمَوْقُوذةُ ؛ فهي الْمَضْرُوبَةُ بالْخَشَب حتَّى تَمُوتَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } هي التي تَتَرَدَّى من جَبَلٍ أو سَطْحٍ أو فِي بئْرٍ فَتَمُوتُ قَبْلَ الذكَاةِ. وَالتَّرَدِّي : هُوَ السُّقُوطُ ، مأخوذٌ من الرِّدَاءِ وهو الْهِلاَكُ ، قال صلى الله عليه وسلم لِعَدِيِّ بْنِ حَاتَمٍ : " إذا تَرَدَّتْ رَمْيَتُكَ مِنْ جَبَلٍ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ فَلاَ تَأْكُلْ ؛ فَإنَّكَ لاَ تَدْري أسَهْمُكَ قَتَلَهَا أمِ الْمَاءُ "
فصارَ هذا الكلامُ أصلاً في كلِّ موضعٍ اجتمعَ فيه معنيان : أحدُها حَاظِرٌ ، والآخرُ مبيحٌ فأنَّهُ تَغْلُبُ جِهَةُ الْحَظْرِ ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُشَبَّهَةٌ ، فَدَعْ مَا يُرِيْبُكَ إلَى مَا لاَ يُرِيْبُكَ ، ألاَ وَإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمىً ، وَإنَّ حِمَى اللهِ مَحَارمُهُ ، فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوْشِكُ أنْ يَقَعَ فِيْهِ " وعن عمرَ رضي الله عنه أنه قالَ : (كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أعْشَار الْحَلاَلِ مَخَافَةَ الرِّبَا].
قوله عزّ وَجَلَّ : { وَالنَّطِيحَةُ } ؛ هي التي تُنْطَحُ حتى تَموتَ ، وإذا تناطحتِ الحيواناتُ فَقَتَلَ بعضُها بعضاً في النِّطَاحِ فهي حرامٌ بالآية ، قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَخْنُقُونَ الشَّاةَ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا وَكَذلِكَ الْمَوْقُوذةُ) ، قال قتادةُ : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَضْرِبُونَ الشَّاةَ بالبَعْضِ حَتَّى إذا مَاتَتْ أكَلُوهَا) ، يقالُ منهُ : وَقَدَهُ يَقِدُهُ إذا ضَرَبَهُ حتى أشفاَ على الهلاكِ. قال الفَرَزْدَقُ : شَغَارَةٌ تَقِذُ الْفَصِيلَ برجْلِهَا فَطَّارَةٌ لِقَوَادِم الأَبْكَار
(0/0)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ }[المائدة : 3] جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إنَّ لَنَا كِلاَباً نَتَصَيَّدُ بهَا فَتَأْخُذُ الْبَقَرَ وَالظِّبَاءَ وَالْحُمُرَ ، فَمِنْهَا مَا نُدْركُ ذكَاتَهُ ، وَمِنْهَا مَا لاَ نُدْركُ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللهَ الْمَيْتَةَ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : يَسألونَكَ يا مُحَمَّدُ : أيَّ شيءٍ أحِلَّ لَهم من الصَّيدِ وغيرِه ؟ قُلْ أحَلَّ لَكُمُ الْمُبَاحَاتِ. يقال : هذا يَطِيْبُ لفلانٍ ؛ أي يَحِلُّ ، قال الله تعالى : { فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ }[النساء : 3] أي ما حَلَّ لكم. وكلُّ شَيْءٍ لَمْ يَأْتِ تَحْرِيْمُهُ فِي كِتَابٍ أوْ سُنَّةٍ فَهُوَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. وقال بعضُهم : أراد بالطِّيباتِ المستلذاتِ والمشتَهَياتِ ، وهو عامٌّ أريدَ به غيرُ ما تَضْمَّنَتْهُ الآيةُ المتقدِّمةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي وأحلَّ صَيْدَ ما عَلَّمْتُمْ ، فحذفَ ذِكْرَ الصَّيدِ لأنَّ في الكلامِ دليلاً عليه ، والْجَوَارحُ : هِيَ الْكَوَاسِبُ مِنَ الْفَهْدِ ؛ وَالصَّقْرِ ؛ وَالْبَاز ؛ وَالْعُقَاب ؛ وَالنَّسْرِ ؛ وَالْبَاشِقِ ؛ وَالشَّاهِيْنِ وسائرِ ما يُصْطَادُ به الصيدُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ }[الأنعام : 60] أي كَسَبْتُمْ ، وَقِيْلَ : معنى الْجَوَارحِ : الْجَارحَاتُ بنَاتٍ أو مَخْلَبٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مُكَلِّبِينَ } حالٌ للمعلِّمينَ ؛ أي في حالِ إغْرَائِهِمْ الكلبَ على الصَّيدِ ، والتَّكْلِيْبُ : إغْرَاءُ السَّبُعِ عَلَى الصَّيْدِ وإرْسَالُهُ.
ومن قرأ (مُكَلَّبيْنَ) بفتحِ اللاَّمِ فهو حالُ من الكوَاسِب المعلِّمين. وقرأ ابنُ مسعودٍ والحسنُ : (مُكَلِبيْنَ) بإسكانِ الكافِ وتخفيف اللام ، فعلى هذا المعنى يجوزُ أن يكونَ مِن قولِهم : أكْلَبَ الرَّجُلُ إذا كَثُرَتْ كِلابُهُ ، وأمْشَى إذا كَثُرَتْ مَاشِيَتُهُ ، ولذلكَ ذَكَرَ الكلاب ؛ لأنَّها أعَمُّ وأكثَرُ ، والمرادُ به جميعُ الجوارحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } ؛ أي تُؤَدِّبُوهُنَّ أن يُمْسِكْنَ الصَّيدَ عليكم كما أدَّبَكُمُ اللهُ تعالَى : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } ؛ أي على الإرْسَالِ ، كما رُويَ عنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : " إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ ، وَسَمَّيْتَ اللهَ تَعَالَى فَكُلْ ، وَإنْ أكَلَ مِنْهُ فَلاَ تَأْكُلْ ، فَإنَّهُ إنَّمَا أمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ " وفي بعضِ الرِّواياتِ : " وَإنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلاَ تَأَكُلْ ، فَإنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْب غَيْرِكَ "
وذهبَ بعضُ أهلِ العلم إلى أنَّ معنى الإمساكِ في هذه الآيةِ أنْ يَحْفَظَ الكلبُ الصَّيْدَ حتَّى يجيءَ صاحبهُ ، فإنْ تركَهُ حتى غابَ عن صاحبهِ ثم وجدَهُ صاحبُهُ بعدَ ذلكَ ميتاً لَمْ يَحِلَّ أكلهُ. قال صلى الله عليه وسلم : " كُلْ مَا أصْمَيْتَ ، وَدَعْ مَا أنْمَيْتَ " ، قِيْلَ : الإصْمَاءُ : مَا رَأيْتَ ؛ والإنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ.
(0/0)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ؛ أي الآنَ تَمَّمَ اللهُ لكم بيانَ الْحَلاَلاَتِ ؛ وهو كُلُّ ما لَمْ يَجْرِ ذِكْرُهُ في الْمُحَرَّمَاتِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ؛ أي ذبائحُ اليهودِ والنصارى حلالٌ لكم.
والدليل على أنَّ المرادَ بالطعامِ ها هنا الذبائحُ : أنَّ ما سِوَى الذبائحِ من الأطعمةِ والأشربةِ حلالٌ للمسلمين ؛ سواءٌ كانت لأهلِ الكتاب أو لغيرهم ، فَبَانَ المرادُ به الذبائحُ ؛ لأنَّ ذبائحَ غيرِ أهل الكتاب من الكفَّار حرامٌ على المسلمينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } ؛ أي ذبائحُكم حلالٌ لَهم ؛ أي رُخِصَّ لكم في أن تُطْعِمُوهُمْ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } ؛ قال الحسنُ : (أرَادَ بالْمُحْصَنَاتِ هَا هُنَا الْحَرَائِرَ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْكِتَابيَّاتِ). وقال ابنُ عبَّاس : (أرادَ بهِ الْحَرَائِرَ الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ).
وتقديرُ الآية : وأحِلَّ لكم نكاحُ الْمُحْصَنَاتِ من المؤمناتِ والكتابيَّات ، وقد استدلَّ بعضُ الفقهاءِ بظاهرِ هذه الآية : على أنه لا يجوزُ للمسلم نكاحُ الأَمَةِ الكتابيَّةِ ، والصحيحُ : أنه يجوزُ بظاهرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ }[النساء : 25] بدليلِ حلِّ ذبائحِهن.
وإنَّما خَصَّ الْمُحْصَنَاتِ بإباحةِ نكاحهنَّ مع جواز نكاحِ غيرِهن ؛ لأنَّ الآية خرجت مَخْرَجَ الامتنانِ والْمِنَّةِ في نكاحِ الحرائرِ العفائف أعظمَ وأتَمَّ ، يدلُّ على ذلكَ : أنه لا خلافَ في جواز النكاحِ بين المسلم والأَمَةِ المؤمنةِ ، وإنْ كان في الآيةِ تخصيصُ الْمُحْصَنَاتِ من المؤمنات ، والأفضلُ لمن أرادَ النكاحَ أن لا يَعْدِلَ عن نكاحِ الحرائرِ الكتابيَّات مع القدرةِ عليهنَّ ؛ وذلك لأنَّ نكاح الأمَةِ يؤدِّي إلى إرقاقِ الولد ؛ لأنَّ الولدَ يتبعُ الأَمَةَ في الرِّقِّ والحريَّةِ ، ولا ينبغِي لأحدٍ أن يختارَ رقَّ وَلَدِهِ ، كما لا ينبغي أنْ يختارَ رقَّ نفسهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } ؛ أي ناكحينَ غيرَ زَانينَ معلنينَ بالزِّنَا ، ولا مُتَّخِذِي صديقاتٍ للزِّنا سِرّاً. قال الحسنُ : (كَانَ بَعْضُ الْجَاهِلِيَّةِ تُسَافِحُ وَتَزْنِي بكُلِّ مَنْ وَجَدَ مِنَ النِّسَاءِ ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ خَلِيْلَةً يَزْنِي بهَا سِرّاً وَيَتَجَنَّبُ الزِّنَا عَلاَنِيَةً ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى بهَذِهِ الآيَةِ حُرْمَةَ الزِّنَا سِرّاً وَعَلاَنِيَةً).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا رَخَّصَ اللهُ لِلْمُسْلِمِيْنَ فِي نِكَاحِ الْكِتَابيَّاتِ ؛ قَالَ أهْلُ الْكِتَاب : لَوْلاَ أنَّ اللهَ رَضِيَ أعْمَالَنَا لَمْ يُحِلَّ لِلْمُسْلِمِيْنَ تَزْويْجَ نِسَائِنَا. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : كَيْفَ يَتَزَوَّجُ الرَّجُلُ الْكِتَابيَّةَ وَهِيَ كَافِرةٌ ؟ فَأَنْزَلَ { وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } مِنَ الْمَغْبُونِيْنَ ، غَبَنَ نَفْسَهُ وَفَسَقَ وَصَارَ إلَى النَّار ، لا يُغْنِي عَنِ الْمَرْأةِ الْكِتَابيَّةِ إسْلاَمُ زَوْجِهَا وَلاَ يَنْفَعُهَا ذلِكَ ، وَلاَ يَضُرُّ الْمُسْلِمَ كُفْرُ زَوْجَتِهِ الْكِتَابيَّةِ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ من المفسِّرين : (مَعْنَاهُ : إذا أرَدْتُمُ الْقِيَامَ إلَى الصَّلاَةِ ، وَإنَّمَا أضْمَرُواْ إرَادَةَ الْقِيَامِ ؛ لأنَّ صِحَّةَ قِيَامِ الصَّلاَةِ بالطَّهَارَةِ فَلاَ يَصُحُّ جُزْءٌ مِنَ الْقِيامِ قَبْلَ تَقَدُّمِ الطَّهَارَةِ).
وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ القيامَ إلى الصلاةِ يكون سَبَباً لوجوب الطَّهارةِ ، ولا خلافَ بين السَّلَفِ والْخَلَفِ أنَّ الطهارةَ لا تجبُ سبب القيام إلى الصَّلاةِ ، إلاّ أنه رُويَ عن ابن عُمَرَ وَعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (أنَّهُمَا كَانَا يَتَوَضَّأَنِ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ ، وََيَقْرَآنِ هِذِهِ الآيَةَ). فيحتمل أنَّهما كانا يفعلان ذلك نَدْباً واستحباباً ، فإنْ تَجيدَ الطَّهارةِ لكلِّ صلاةٍ مستحبٌّ. وقد روي عن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " مَنْ تَوَضَّأَ فَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ مَا لَمْ يُحْدِثْ " وَقَالَ : " لاَ وُضُوءَ إلاَّ مِنْ حَدَثٍ " فَثَبَتَ أن في الآيةِ إضمارٌ آخر تقديرهُ : أذا أرَدْتُمْ القيامَ إلى الصلاةِ وأنتم مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، وهذا نظيرُ قولهِ تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }[البقرة : 184] معناه : فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ عدَّةٌ مِن أيَّامٍ أخُرَ ، وقولهُ : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ }[البقرة : 196] معناه فَحَلَقَ فَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وقال بعضُهم : معنى الآيةِ : إذاَ قُمْتُمْ من نَوْمِكُمْ إلى الصَّلاةِ ، وقال : هذا على أنَّ النومَ في حالةِ الاضطجاع حَدَثٌ.
قولُهُ تَعَالَى : { فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ } الغَسْلُ : إجْرَاءُ الْمَاءِ عَلَى المَحَلِّ وَتَسْييْلُهُ ، سَوَاءٌ وُجِدَ مَعَهُ الدَّلْكُ أمْ لاَ ، وَالْوَجْهُ : مَا يُوَاجِهُكَ مِنَ الإنْسَانِ ، وَحَدُّهُ مِن قِصَاصِ الشَّعْرِ إلى أسفلِ الذقْنِ ، ومِن شَحْمَتَي الأُذُنِ إلى شَحْمَتَي الأُذُنِ. وظاهرُ الآيةِ يقتضي أنَّ المضمضةَ والاستنشاقَ غيرُ واجبتينِ في الوضوءِ ، لأن اسمَ الوجهِ يتناولُ الظاهرَ دون الباطنِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أي مع المرافقِ ، هكذا قال علماؤُنا رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى ، إلاّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللهُ ؛ فإنهُ ذهبَ إلى ظاهرِ الآية وقال : (إنَّ حَرْفَ (إلَى) لِلْغَايَةِ ، وَالْغَاَيَةُ لاَ تَدْخُلُ فِي الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى{ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ }[البقرة : 187]). وأمَّا عامَّةُ العلماءِ فقالوا : إنَّ (إلى) تُذْكَرُ بمعنى (مَعَ) كما قالَ تعالى{ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }[النساء : 2] ، فاذا احتملَ اللفظُ الغايةَ واحتملَ معنى المقارنةِ حَلَّ مَحَلَّ الْمُجْمَلِ ، فَكَانَ مَوْقُوفاً عَلَى بَيَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقد روي : " أنَّهُ كَانَ إذا تَوَضَّأَ أدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ " ، فصار فعلهُ بياناً للمجملِ ، فحُمِلَ على الوُجُوب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ } اختلفَ العلماءُ في مقدار وجوب الْمَسْحِ منه ، فذهبَ مالكٌ إلى أنَّ مسحَ جميعِ الرأسِ واجبٌ ، وقال : (ظَاهِرُ الآيَةِ يَقْتَضِي الْجَمِيْعَ دُونَ الْبَعْضِ ، لأنَّكَ إذا قُلْتَ : مَرَرْتُ بزيدٍ ؛ أردتَ جُمْلَتَهُ لاَ بَعْضَهُ ، وَمِثْلُ ذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :
(0/0)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ } ؛ أي احْفَظُوا نِعَمَ اللهِ عليكم ، وإنما ذكره بلفظِ النِّعْمَةِ ؛ لأنهُ ذهبَ فيه مَذْهَبَ الجنسِ ، (وَمِيثَاقَهُ) أي عهده الذي عاهَدَكُم به. قال ابنُ عبَّاس والحسنُ : (يَعْنِي الْمِيْثَاقَ الَّذِي أخَذهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ حِيْنَ أخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبهِ ، وقال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى }[الأعراف : 172].
وقال السُّدِّيُّ : (أرَادَ بالْمِيْثَاقِ هُنَا مُبَايَعَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي كُلِّ مَا أمَرَ بهِ أوْ نَهَى فِي حَالِ الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالرِّضَا وَالْكُرْهِ). وَهَذا أقْرَبُ إلَى ظَاهِرِ الآيَةِ ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَّرَهُمْ الميثاقَ وهم لا يحفظونَ الميثاقَ الذي من وَقْتِ آدمَ.
وَقِيْلَ : أرادَ به العهدَ الوثيقَ الذي أخَذهُ اللهُ على جميعِ عبادهِ في أوامرهِ ونواهيه فَسَمِعُوهُ وقَبلُوهُ وآمَنُوا به على ما فَسَّرَ اللهُ بقولهِ : { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ أي اخْشَوا عِقَابَهُ في نقضِ الميثاقِ ، { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي بما في القلوب من الوَفَاءِ والنَّقْضِ ، وذاتُ الصُّدُور ما تَضَمَّنَتْهُ الصُّدورُ وهي القلوبُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ } ؛ أي كونُوا قَوَّامِينَ بأمرِ الله قائلينَ لهُ مُبَيِّنِيْنَ عن دينِ اللهِ بالحقِّ والعدلِ ، { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ } ؛ أي لاَ يحملنَّكم بُغْضُ الكفَّار على تركِ العدلِ فيه مُكَافَأَةٌ لِما سَلَفَ منهم ، ويقالُ : لا يَحْمِلَنَّكُمْ عَدَاوَةُ المشهودِ لهُ على كِتْمَانِ مالهِ عندَكم من الشهادةِ ، ولا عداوةُ المشهودِ عليه على إقامةِ الشَّهادةِ عليه بغيرِ حَقٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } ؛ أي اعْدِلُوا في جميعِ أقوالِكم وأفعالكم فيما لكُم وعليكُم ، فإنَّ العدلَ أقربُ للتَّقوَى ؛ أي أقربُ إلى أن تَصِيروُا به مؤمنينَ ، وَقِيْلَ : أقربُ إلى تقوَى عذاب الله. { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ؛ من الخيرِ والشرِّ والعدلِ والْجَوْر.
(0/0)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } ؛ أي الذين صَدَّقُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والْقُرْآنِ ، وعَمِلُوا الصالحاتِ فيما بينَهم وبينَ ربهم ، وهذا تَمامُ الكلامِ ، يقالُ : وَعَدْتُ الرَّجُلَ ؛ يرادُ بذلك وَعَدْتَهُ خَيْراً ، وأَوْعَدْتُ الرَّجُلَ ؛ يرادُ بذلك شَرّاً ، فكانَ اللهُ لَهم دليلاً على عِدَةِ الْخَيْرِ ، ثم فَسَّرَ ذلكَ الخيرَ فقالَ : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } ؛ أي مَغْفِرَةٌ لذنوبهم ، وثوابٌ عَظِيْمٌ في الجنَّةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ؛ أي أصْحَابُ النَّار الْمُوقَدَةِ ، والْجَحِيْمُ من أسْمَاءِ جَهَنَّمَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً سَبْعِيْنَ رَجُلاً إلَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وَأمَّرَ عَلَيْهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرِو الأَنْصَاريِّ ، وَكَانَ طَرِيقُهُمْ عَلَى بَنِي سُلَيْمٍ ، وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ صُلَحَاءَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَأمَرَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ السَّرِيَّةَ أنْ يَنْزِلُوا عَلَى بَنِي سُلَيمٍ فَنَزَلُواْ عَلَيْهِمْ ، فَبَعَثَ بَنُو سُلَيْمٍ إلَى بَنِي عَامِرٍ وَأخْبَرُوهُمْ بأَمْرِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ ، فَارْتَحَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عِنْدِ بَنِي سُلَيْمٍ إلَى بَنِي عَامِرٍ ، فَأَضَلَّ أرْبَعَةٌ مِنْهُمْ بَعِيْراً لَهُمْ ، فَاسْتَأْذنُوا أمِيْرَهُمْ أنْ يَطْلُبُوا بَعِيْرَهُمْ ثُمَّ يَلْحَقُوا بهِمْ فَأَذِنَ لَهُمْ ، وَسَارَ الْمُنْذِرُ بمَنْ بَقِيَ مَعَهُ حَتَّى أتَاهُمْ وَقَدْ جَمَعُوا لَهُمْ واْسْتَعَدُّوا لَهُمْ بالسِّلاَحِ ، فَالْتَقَوا ببئْرِ مَعُونَةَ فَاقْتَتَلُوا قِتَالاً شَدِيْداً ، ثُمَّ قُتِلَ الْمُنْذِرُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيْعاً.
ثُمَّ أقْبَلَ الأَرْبَعَةُ الَّذِينَ أضَلُّوا الْبَعِيْرَ ، فَلَقِيَتْهُمُ أمَةٌ لِبَنِي عَامِرٍ فَقَالَتْ لَهُمْ : أمِنْ أصْحَاب مُحَمَّدٍ أنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَتْ : فَإنَّ إخْوَانَكُمْ قَدْ قُتِلُوا جَمِيْعاً عَلَى الْمَاءِ ، فَقَالَ : أحَدُ الأرْبَعَةِ : مَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى أنْ نَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبرَهُ بالأَمْرِ ، قَالَ : لاَ ؛ وَلَكِنْ وَاللهِ لَمْ أكُنْ لأَرْغَبَ بنَفْسِي عَنْ أصْحَابي ، إرْجِعُوا فَأَقْرِئُوا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم مِنِّي السَّلاَمَ. ثُمَّ أشْرَفَ عَلَى أصْحَابهِ فَإذا هُمْ مَقْتُولُونَ ، وَالْمُشْرِكُونَ قُعُودٌ يَتَغَدَّوْنَ ، فَانْحَدَرَ إلَيْهِمْ مِنَ الْجَبَلِ بسَيْفِهِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
وَغَشِيَ الثَّلاَثَةُ الْمَدِيْنَةَ ، فَلَقُوا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ خَارِجَيْنِ مِنَ الْمَدِيْنَةِ فَقَالاَ لَهُمَا : مَنْ أنْتُمَا ؟ قَالاَ : مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، قَالاَ : هَذانِ مِنَ الَّذِيْنَ قَتَلُوا إخْوَانَنَا ؛ فَقَتَلُوهُمَا وَأخَذُوا سِلاَحَهُمَا ، ثُمَّ دَخَلُوا المَدِيْنَةَ فَأَخْبَرُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " بئْسَ مَا صَنْعْتُمْ ، قَتَلْتُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ أهْلِ الْمِيْثَاقِ " وَجَاءَ أوْلِيَاءُ الْقَتِيْلَيْنِ يَطْلُبُونَ الْقِصَاصَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ لَكُمْ إلاَّ دِيَةُ صَاحِبَيْكُمْ أغَرْنَا إلَى عَدُوِّنَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، وَلَكِنَّا نُؤَدِّي إلَيْكُمُ الدِّيَةَ "
فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ حَتَّى أتَى بَنِي قَُرَيْظَةَ ؛ فَقَالَ لَهُمْ : " إنَّكُمْ جِيْرَانُنَا وَحُلَفَاؤُنَا ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا أصَبْنَا بهِ مِنْ دَمِ الرَّجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَهُمَا مِنْ أهْلِ الْمِيْثَاقِ ، وَنَحْنُ نُرِيْدُ أنْ نُؤَدِّي دِيَتَهُمَا ، فَاتَّخِذُوا بهَا عَنْدَنَا يَداً نَجْزِيكُمْ بهَا بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَإنَّ الأَيَّامَ دُوَلٌ " فَقَالُوا : مَرْحَباً وَأهْلاً يَا أبَا الْقَاسِمِ ، وَلَكِنَّ إخْوَانَنَا مِنْ بَنِي النَّضِيْرِ لاَ نَقْضِي أمْراً مِنْ دُونِهِمْ ، نُعْلِمُهُمْ بذلِكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا يَوْمَ كَذا وقَدْ جَمَعْنَا الَّذِي تُرِيْدُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأصْحَابُهُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْمِيْعَادِ ؛ أتَاهُمْ وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ؛ فَأَجْلَسُوهُمْ فِي بَيْتٍ ، ثُمَّ خَرَجُوا يَجْمَعُونَ السِّلاَحَ ، وَخَلاَ بَعْضُهُمْ ببَعْضٍ وَقَالُوا : إنَّكُمْ لَنْ تَجِدُوا مُحَمَّداً أقْرَبَ مِنْهُ الآنَ ؛ فَمَنْ يَظْهَرُ عَلَى هَذا الْبَيْتِ فَيَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيْحُنَا مِنْهُ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ جَحَّاشٍ : أنَا ، فَجَاءَ إلَى رَحَاءٍ عَظِيْمَةٍ لِيَطْرَحَهَا عَلَيْهِ ؛ فَأَمْسَكَ اللهُ أيْدِيَهُمْ.
(0/0)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً } ؛ أي أخَذ اللهُ العَهْدَ على بني إسرائيلَ أن يؤمنُوا بهِ وبجميعِ كُتُبهِ وَرُسُلِهِ ، وبعثَ منهم اثني عَشَرَ مَلِكاً ، مِن كُلِّ سِبْطٍ منهم رَجُلٌ ليأخذ على قومهِ ما يأمرُهم اللهُ به مِن طاعتهِ. وَقِيْلَ : إنَّ النقيبَ هو الرسولُ والأمينُ ، وهم الذين أرسلَهُمْ موسَى إلى قومهِ الجبَّارين عُيوناً ، فوجدوهُمْ يدخلُ في كُمِّ أحدِهم أربعةٌ منهم ، ولا يحملُ عنقود عنبٍ إلاَّ عشرة منهم ، ويدخلُ في شُقِّ رمانةٍ إذا نزع حَبَّهُ خمسةُ أنفس وأربعة ، فرجعَ النقباءُ كلهم ، ونَهى كل نقيب سِبْطَهُ عن القتالِ إلاّ يُوشُعَ بْنَ نُونٍ وَكالِبَ بن يوقنا أمَرَا أقوامهما بالقتال.
وقال الحسنُ : (النَّقِيْبُ الضَّمِيْنُ ، وَإنَّمَا أرَادَ بهَذا أنْ يَضْمَنَ بهَا مُرَاعَاةَ أحْوَالِهِمْ) ، وقد روي : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسيلم جَعَلَ الأَنْصَارَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ اثْنَى عَشَرَ نَقِيْباً " وفائدةُ النَّقِيْب : أنَّ القومَ إذا عَلِمُوا أنَّ عليهِم نقيباً كانوا أقربَ إلى الاستقامةِ ، والنَّقِيْبُ والعَرِيْفُ نَظِيْرَانِ ، وَقِيْلَ : النقيبُ فوقَ العريفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } ؛ خطابٌ للنُّقَبَاءِ ، ومعناها : إنِّي حفيظٌ عليكم في النَّصْرِ لكم والدفعِ عنكم. وَقِيْلَ : هو خطابٌ لجميعِ بني إسرائيلَ ضَمِنَ لَهم النَّصْرَ على عدوِّهم بالشَّرَائطِ التي شَرَطَهَا عليهم بقولهِ تعالى : { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } ؛ أي لو عَظَّمْتُمُوهُمْ وَنَصْرتُمُوهُمْ بالسَّيفِ على الأعداءِ ، { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } ؛ أي تَصَدَّقْتُمْ مِن أموالِكم تطوُّعاً صدقةً حسَنَةً ؛ وهي أن تكونَ من حَلاَلِ المالِ وخِيَارهِ برغبةٍ وإخلاصٍ لا يَشُوبُهَا رياءٌ ولا سُمعةٌ وَلا يُكَدِّرُهَا مَنٌّ ولا أذًى ، { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ من تحت شَجَرِهَا ومساكِنها ؛ { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ } ؛ العَهْدِ والميثاقِ ؛ { مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ } ؛ اي أخْطَأَ قصدَ الطريقِ وهو طريقُ الجنَّةِ ، فمَنْ أضَلَّهُ وقعَ في طريقِ النَّار إذ لا طريقَ سواهُما.
(0/0)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ } ؛ أي فَنَقَضَ اليهودُ ميثاقَهم الذي أخذ عليهم في التَّوراةِ فَبَاعَدْنَاهُمْ من الرحَّمةِ ، وَقِيْلَ : عَذبْنَاهُمْ بالْجِزيَةِ. وَقِيْلَ : مَسَخْنَاهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِيْرَ ، ودخولُ (مَا) في هذه الآيَةِ صِلَةُ زائدةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي صيَّرنَاها يَابسَةً خاليةٌ من حَلاَوَةِ الإيْمانِ مجازاةً لَهم على معصيتِهم. قرأ يحيَى بن وثَّاب والأعمشُ وحمزة والكسائيُّ : (قَسِيَّةً) بتشديدِ اليَاءِ من غيرِ ألِفٍ ، وقرأ الباقون (قَاسِيَةً) بألفٍ وهُما لُغتان ، مثلُ زَكِيَّة وَزَاكِيَة ، وَقِيْلَ : معنى (قَاسِيَةٍ) : غَلِيْظَةٌ متَكَبرةٌ لا تَقْبَلُ الوعظَ ، وَقِيْلَ : رَدِيْئَةٌ فَاسِدَةٌ ، من الدَّراهمِ القَسِيَّةِ ، وهي المغشوشةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ }. قرأ السلَّمي والنخعيُّ : يحرِّفونَ الكلامَ باللَّفِّ ؛ أي يُغَيِّرُونَ ألفاظَهُ ولا يُقِرُّونَهُ على ما هو عليه في التَّوراةِ ، كما أخبرَ الله تعالى عنهُم مِن لَيِّ ألسِنَتِهم بالكتاب ، وَقِيْلَ : يُغَيِّرُونَ تَأْويْلَه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } ؛ أي وَتَرَكُوا نصِيباً مِمَّا أُمِرُوا به في كتابهم من نَعْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصفتهِ ، ومِنْ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وأصلُ النِّسيَانِ التَّرْكُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } ؛ أي لا تَزَالُ يا مُحَمَّدُ تَطَّلِعُ على خَائِنَةٍ ومعصيةٍ مِنْهُمْ ، وفَاعِلَةٌ من أسماءِ المصادرِ مثل : عَاقِبَةٍ وَكَاذِبَةٍ ، وقد تكونُ الخائنةُ من أسماءِ الجماعةِ كما يقالُ : رَافِضٌ ورافِضَةٌ ، فيكون المعنى : ولا تزالُ تَطَّلِعُ على فِرْقَةٍ خائنةٍ منهم مثلَ كعب بن الأشرف وأصحابهِ من بني قُريظةَ حين نَقَضُوا العهدَ ، ورَكِبُوا إلى أبي سُفيانَ بمكة ، ولَقُوهُ وعاهَدوهُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على ما سَبَقَ ذِكْرهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } ؛ لم ينقُضُوا العهدَ ، وهم عبدُالله بنُ سَلامٍ وأصحابُه. وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى (خَائِنَةٍ) أيْ مَعْصِيَةٌ) ، وقال بعضُهم : أي كَذِبٌ وفجورٌ ، وكانت خيانتُهم بنَقْضِ العهدِ ، ومظاهرتُهم المشركينَ على حَرْب رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهَمُّهُمْ بقتلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } ؛ أي أعْرِضْ عنهُم ولا تعاقِبْهُم ، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي الْمُتَجَاوزيْنَ ، وهذا مَنْسُوخٌ بآيةِ السَّيفِ بقولهِ : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ }[التوبة : 29].
(0/0)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } ؛ بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ النصَارَى لم يكونوا بَعْدَ أخذِ الميثاقِ أحْسَنَ معاملةً من اليهودِ ، ومعنى أخْذِ الميثاق : هو ما أخَذ اللهُ عَلَيْهِمْ فِي الإنْجِيْلِ مِنَ الْعَهْدِ الْمُؤَكَّدِ باتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَيَانِ صِفَتِهِ وَنَعْتِهِ ، كما قَالَ تَعَالَى في آيةٍ أخرَى : { مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ }[الصف : 6] فَنَسُوا حَظّاً مما ذُكِّرُوا به ؛ أي تَرَكُوا بعضاً مِمَّا ذُكِّرُوا بهِ ، { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ؛ أي هَيَّجْنَا بين فِرَقِ النَّصَارَى ، وهم النَّسْطُوريَّةُ وَالْيَعْقُوبيَّةُ وَالْمَلْكَانِيَّةُ ، وألْقَيْنَا بينَهم العداوةَ في الدِّينِ.
وذلك أنَّ اللهَ رَفَعَ الأُلْفَةَ بينَهم وألقَى بينهم العداوةَ والبغضاءَ ، فَهُمْ يَقْتَتِلُونَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وأصلُ الإغْرَاءِ : الإلْصَاقُ مَأَخُوذٌ مِنَ الغِرَاءِ الَّذِي يُلْصَقُ بهِ الأَشْيَاءُ ، وَالْعَدَاوَةُ : تَبَاعُدُ الْقُلُوب وَالنِّيَّاتِ ، والْبَغْضَاءُ : الْبُغْضُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ؛ أي يخبرُهم في الآخرةِ بما كانوا يصنعونَ من الجِنَايَةِ والمخالفةِ وكِتْمَانِ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وصِفَتِهِ.
ثم خاطبَ اللهُ تعالى الفريقين من اليهودِ والنَّصارَى فقالَ تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } ؛ يعني التَّوراةَ والإنجِيْلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : (تُخْفُونَ) يعني صِفَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وآيةَ الرَّجْمِ ، وإضافةُ اليهودِ والنَّصارَى إلى الكِتَابِ تَعْييْرٌ لَهم ، كما يقالُ : يَا عَاقِلُ لَمْ تَعْلَمْ ؛ أي يا جاهلُ.
وقولهُ تعالى : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } ؛ يعني بالنُّور مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لكم كثيراً مِمَّا كنتم تَكْتُمُونَ من الإسلامِ ، وآيةِ الرَّجمِ ، وتحريمِ الزِّنَا وغيرِ ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي يتجاوزُ عن كثيرٍ مِمَّا كنتُم تكتمونَهُ ولا يعاقبُكم عليهِ ، يعني مِمَّا لم يُؤْمَرْ ببَيَانِهِ ، وقولهُ تعالى : { وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } يعني الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الحلالَ والحرامَ والأمرَ والنَّهيَ.
(0/0)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ } ؛ أي يَهْدِي اللهُ بالقُرْآنِ مَنْ قَبلَ الحقَّ ورَغِبَ في الإسلامِ ، وقولهُ تعالى : { رِضْوَانَهُ } أي رضَا اللهِ ، وقولهُ تعالى : { سُبُلَ السَّلاَمِ } أي طُرُقَ السَّلاَمةِ ، وهي دِيْنُ الإسلامِ ، والسَّلامُ والسَّلامَةُ ، كالرِّضَاعِ والرَّضَاعَةِ ، ويقالُ : السَّلامُ هو اللهُ ، وسُبُلُ السَّلامِ : طُرُقُ اللهِ التي دَعَا إليهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } ؛ أي يخرجُهم من ظُلُمَاتِ الكُفْرِ ، بالتعريفِ لَهم إلى نُور الإيْمان ، { بِإِذْنِهِ } ؛ أي بإذنِ الله ومشيئتِه ، وسُمِّيَ الإيْمانُ نوراً ؛ لأنَّ الإنسانَ إذا آمَنَ أبْصَرَ بهِ طريقَ نَجاتِهِ فَطَلَبَهُ ، وطريقَ هَلاَكِهِ فَحَذِرَهُ. قَوْلُهُ تعالَى : { وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي ويُرْشِدُهُمْ إلى طريقِ الحقِّ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } ؛ نزلَتْ في نَصَارَى نَجْرَانَ وهم الماريعقوبية أو اليعقوبية ، قالُوا : إنَّ اللهَ هو المسيحُ بن مريَمَ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : مَن يَقْدِرُ أن يدفعَ شيئاً من عذاب الله ؛ { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } ؛ أي إنْ أرادَ أنْ يُهْلِكَ عيسَى ابن مريم وأمَّهُ ، وهذا احتجاجٌ من اللهِ تعالى على النَّصارَى بما لا يَملكون دَفْعَهُ ، إذِ المسيحُ وأمُّهُ بَشَرانِ يأكُلانِ الطعامَ ويحتاجَان إلى ما يحتاجُ إليه الناسُ ، وقد عَلِمُوهُ ضرورةً أنَّهما كَانَا بعدَ أن لَم يَكُونَا ، وشاهدَ كثيرٌ منهم ميلادَ عِيْسَى وحالَهُ مِن الطفولةِ والشَّباب والكُهُولَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ } أي إذا أرادَ اللهُ إهلاكَ عيسَى وأُمَّهُ لَمَا أعجزَهُ ذلكَ ، ولا هناكَ دافعٌ ، وكيفَ يكون إلَهاً مَن لا يقدرُ على دفعِ الْهَلاكِ عن نفسهِ ولا عن غيرِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } ؛ أي مَنْ مَلَكَ السَّمواتِ والأرضَ لا يُوصَفُ بالولادةِ. وَقِيْلَ : مَن كان مَالِكُ السَّمواتِ والأرضَ يقدرُ على خَلْقِ وَلَدٍ بلا وَالِدٍ ، كما قال تعالى : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ؛ أي كما يشاءُ ، بأَبٍ وبغيرِ أبٍ ، ولو كان خَلْقُ عيسَى من غيرِ أبٍ مُوجِباً كونه إلَهاً وابنَهُ لكانَ خَلْقُ آدمَ من غيرِ أبٍ ولا أمٍّ أوْلَى بذلكَ ؛ لأنه أعجَبُ وأبْدَعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ مِن خَلْقِ عيسَى وغيرِه قادرٌ على عقوبَتِكم.
(0/0)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
قَوْلُهُ عَزَ وَجَلَّ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ } ؛ أي يا أهلَ التَّوراةِ والإنجيلِ قد جاءَكم مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يُبَيِّنُ لكُم الحلالَ والحرامَ على انقطاعٍ مِنَ الرُّسُلِ ، ودُرُوسٍ مِن الْعِلْمِ. قال الكلبيُّ : (كَانَ بَيْنَ مِيْلاَدِ عِيْسَى وَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خَمْسُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سَنَةً ، وَبَعْدَ مِيْلاَدِ عِيْسَى أرْبَعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ فِي مِائَةٍ وَأرْبَعَةٍ وَثَلاَثِيْنَ سَنَةً ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ }[يس : 14] قَالََ : وَلاَ أدْري الرَّسُولُ الرَّابعُ مَنْ هُوَ). قال بعضُهم : كان بَيْنَ عيسَى ومُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمَا سِتُّمِائَةِ سَنَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } ؛ معناهُ : كَيْلاَ تقولُوا يومَ القيامةِ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيْرٍ يُبَشِّرُنَا بالجنَّةِ ، ولا مُخَوِّفَ يُخَوِّفُنَا بالنار ، { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ } ؛ يُبَشِّرُكُمْ بالجنَّةِ إنْ أطعتمُوهُ ، { وَنَذِيرٌ } ؛ يُنْذِرُكُمْ بالنار إنْ عصيتموهُ ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ مِن إرسالِ الرُّسُلِ والثواب والعِقَاب.
وقولهُ تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ؛ فَاذْكُرُوا يا أهلَ الكِتَاب إذ قالَ مُوسَى لِبَنِي إسرائيلَ احْفَظُوا مِنَّةَ اللهِ عليكُم إذْ أكرمَ بعضَكم بالنُّبُوَّةِ ، وهم السَّبعُونَ الذين اختارَهم موسَى وانطلَقُوا معهُ إلى الجبلِ.
وإنَّما مَنَّ اللهُ عليهِم بذلكَ ، لأنَّ كثرةَ الأشرافِ والأفَاضِلِ في القومِ شرفٌ وفضلٌ لَهم ، ولا شرفَ أعظمَ من النُّبُوَّةِ ، وقولهُ تعالى : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } أي أحْرَاراً تَملِكُونَ أمرَ أنفسِكم بعدَ أن كانت تَسْتَعْبدُكُمُ القِبْطَةُ في مملكةِ فرعونَ ، وَقِيْلَ : مُلُوكاً ذوي خَدَمٍ ، وأهلِ مَنَازلَ لا يدخلُ عليكم فيها إلاَّ بإذنٍ.
قَوْلُهُ تعالى : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ } ؛ أي أعطاكُم من عالِمِي زمانِكم ، ويقالُ : أرادَ بذلكَ جميعَ العالمين ، فإنه تَعَالَى أنزلَ عليهم الْمَنَّ والسَّلْوَى ، وظَلَّلَهُمْ بالغَمَامِ ، ولم يُؤْتِ أحداً مِثْلَ هذه النِّعَمِ قبلَهم.
ولا يدخلُ المستقبلُ في اللفظِ ؛ لأنَّ اللفظَ خَبَرٌ عن ما مَضَى ، ولا يدخلُ ذلكَ على أنهُ لم يُؤْتِ أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مثلَ الفَضِيْلَةِ التي آتاهُمْ أو أكْثَرَ ، والغرضُ من هذه الآيةِ أنَّ اللهَ تعالى أرادَ أن يُكَلِّفَهُمْ دخولَ الأرضِ المقدَّسة ، وكان يَشُقُّ ذلكَ عليهم فَقَدَّمَ ذِكْرَ نِعَمِهِ عليهم ليكونَ بأمتثالِهم مثالٌ على امتثالِ أمرِ الله تعالى.
(0/0)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّ الاثْنَي عَشَرَ نَقِيْباً الَّذِيْنَ أرْسَلَهُمْ مُوسَى إلَى قَرْيَةِ الْجَبَّاريْنَ جَوَاسِيْسَ ؛ لَمَّا انْتَهَوا إلَى مَدِيْنَتِهِمْ أخِذُوا فَأُتِيَ بهِمْ إلَى الْمَلِكِ ، وَيُقَالُ أخَذهُمْ عِوَجُ ابْنُ عُنُقٍ وَاحْتَمَلَهُمْ فِي ثَوْبهِ حَتَّى ألْقَاهُمْ بَيْنَ يَدَي الْمَلِكِ ، فَقِيْلَ لِلْمَلِكِ : إنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ يَفْتَحُونَ مدِيْنَتَكَ وَيَظْهَرُونَ عَلَيْكَ ، قالَ : فَطُوفُوا بهِمُ الْمَدِيْنَةَ فَأَرُوهُمْ إيَّاهَا.
فَطَافُوا بِهِمْ ، وَكَانُوا يَلْعَبُونَ بهِمْ حَتَّى أنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لِيَأْتِي بالْقَدَحِ وَالسُّكْرَجَةِ وَالْقَصْعَةِ فِيِدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ تَحْتَهَا ، ثُمَّ رَدُّوهُمْ إلَى الْمَلِكَ فَأَرَادَ قَتْلَهُمْ ، فَقَالَتْ : إيْش تَصْنَعُ بقَتْلِ هَؤُلاَءِ وَيَكْفِيْهِمْ مَا رَأواْ ، رُدُّوهُمْ إلَى أصْحَابِهِمْ يُحَدِّثُونَهُمْ بمَا رَأواْ ، فَأَرْسَلُوهُمْ.
فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : قَدْ عَلِمْتُمْ خِلاَفَ بَنِي إسْرَائِيْلَ لِمُوسَى ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ مُوسَى أنْ يَفْتَحَ لَهُمُ الأَرْضَ ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ، فَهِيْمُوا التَّحَالُفَ أنْ لاَ يُخْبَرَ شَيْئاً غَيْرُ مُوسَى ؛ فَتَحَالَفُوا.
فَلَمَّا خَلَوا بنِسَائِهِمْ جَعَلَتِ الْمَرَأةُ تَسْأَلُ زَوْجَهَا عَمَّا رَأَى ، فَيَأْخُذُ عَلَيْهَا الْمَوَاثِيْقَ أنْ لاَ تُخْبرَ أحَداً ، ثُمَّ يُخْبرُهَا ، وَجَعَلَتِ الْمَرْأةُ يَأَتِيْهَا أبُوهَا وَأمُّهَا وَإخْوَانُهَا فَتَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْمَوَاثِيْقَ ثُمَّ تُخْبرُهُمْ.
فَمَا ارْتَفَعَ النَّهَارُ حَتَّى فَشَا الْخَبَرُ فِي الْبلاَدِ ، وَلَمْ يُخْبرْ يُوشُعُ وَلاَ كَالِبُ أحَداً بشَيْءٍ مِنْ أمْرِهِمْ ، إنَّمَا أخْبَرَ بذلِكَ الْعَشَرَةُ. فَجَمَعَ مُوسَى عليه السلام بَنِي إسْرَائِيْلَ وَخَطَبَهُمْ ثُمَّ قَالَ : يَا بَنِي إسْرَائِيْلَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبيَاءَ...) إلى قوله : { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ }.
وأمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } قال ابنُ عبَّاس : (هِيَ أرْضُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ). ويقال : هي دمشقُ وفلسطين وبعضُ الأردنِّ ، وسُميت (الْمُقَدَّسَةَ) ؛ لأنَّها طُهِّرَتْ من الشِّرْكِ ، وجُعِلَتْ مَسْكَناً وقَراراً للأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ } أي أمَرَكُم بدخولِها. وَقِيْلَ : التي كتبَ اللهُ لكم في اللَّوحِ الْمحفوظِ أنَّها لكُم مساكنُ ، ويقال : التي وَهَبَ اللهُ لأبيكُم إبراهيمَ عليه السلام ، وجعلَها مِيراثاً لكم ، وذلكَ أنَّ إبراهيمَ حين ارتفعَ على الجبلِ ، قِيْلَ لهُ : أنْظُرْ ؛ فَلَكَ ما أدركَ بصرُكَ وهو ميراثٌ لولدِكَ مِنْ بعدكَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } ؛ أي لا تَرْجِعُوا وراءَكم وتَجْبُنُوا من عدوِّكم منهزمينَ منهم فتنصرفُوا مغبونينَ بفَوْتِ الظَّفَرِ في الدُّنيا والعقوبةِ في الآخرة.
(0/0)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ } ؛ أي قالت بَنُو إسرائيلَ : يا موسى إنَّ فِيْهَا قَوْماً عُظَمَاءَ قَتَّالِيْنَ ، { وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } ؛ حينئذٍ.
(0/0)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ } ؛ أي قالَ يُوشُعُ وكَالِبُ من الاثنَي عشرَ الذين أرسلَهم موسى إلى قريةِ الجبَّارينَ ، وكانوا يخافونَ الجبَّارين ، { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } ؛ أي هَدَاهُمَا لقَبُولِ أمرهِ ومعرفة صدقِ وَعْدِهِ : { ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ } ؛ أي بابَ قرية الجبَّارينَ وهي أريْحَا ، { فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ } ؛ أي فإذا دخلتُم ذلكَ البابَ ؛ { فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ } ؛ عليهم ؛ لأنَّهم إذا رَأوا كثرتَكم انكسرت قلوبُهم فَتَغْلِبُوهُمْ ، { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ } ؛ أي فَوِّضُوا أمرَكُم إليهِ ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي مُصَدِّقِيْنَ بوعدِ الله.
وفي الآيةِ ثناءٌ على الرَّجُلَيْنِ إذ لم يَمْنعهُما الخوفُ من العدوِّ عن قولِ الحقِّ. وقد رويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ : " لاَ يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ مَخَافَةَ النَّاسِ أنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذا رَآهُ أوْ عَمِلَهُ ، فَإنَّهُ لاَ يُبْعِدُ مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلاَ يُدْنِي مِنْ أجَلٍ "
(0/0)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَالُواْ يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } ؛ وذلك أنَّ موسَى لَمَّا أمرَهم من قولِ الرَّجُلينِ أن يدخلُوا قريةَ الجبَّارين ، قالَتْ لهُ بَنُو إسرائيلَ : أتُكَذِّبُ الْعَشْرَةَ وَتُصَدِّقُ الاثنين ، إنَّا لاَ نَدْخُلُهَا أبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ، { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ؛ مُنْتَظِرِيْنَ ، فقولُهم : اذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ ، احتملَ أنَّهم قالوا ذلكَ على وجهِ الْمَجَاز على معنى : وَرَبُّكَ مُعِيْنٌ لكَ ، وكان هذا القولُ فِسقاً منهم مِن امتناعِهم عن الْمُضِيِّ إلى أمرِ الله.
وَقِيْلَ : يحتملُ أنَّهم عَنَوا بذلكَ الذهابَ ذهابَ النُّقْلَةِ ، وهذا تشبيهٌ وكُفْرٌ مِن قائلهِ ، وهو أقربُ إلى معنى كلامِهم ؛ لأنَّ كلامَ اللهِ تعالى خَرَجَ مخرجَ الإنكار عليهم ، والتَّعَجُّب من جَهْلِهِمْ.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ لَمَّا أرَادَ الْخُرُوجَ إلَى بَعْضِ الْغَزَوَاتِ اسْتَشَارَ سَعْدَ بْنَ مَعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ذلِكَ ؛ فَقَالاَ : (إنَّا لَنْ نَقُولَ لَكَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيِلَ لِمُوسَى : إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَإنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنَّّا نَقُولُ : إذْهَبْ فَقَاتِلْ عَدُوَّكَ إنَّا مَعَكَ مُقَاتِلُونَ).
وفِي بعضِ الرِّواياتِ قالُوا : (أقْعُدْ أنْتَ فَإنَّا بأَمْرِكَ مُقَاتِلُونَ). وقال الْمِقْدَادُ ابنُ الأَسْوَدِ : ((إنَّا وَاللهِ لاَ نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيْلَ لِمُوسَى : (إذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) وَلَكِنَّا نَقُولُ : نُقَاتِلُ عَنْ يَمِيْنِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ ، وَلَوْ خُضْتَ بنَا الْبَحْرَ لََخُضْنَاهُ مَعَكَ ، وَلَوْ عَلَوْتَ جَبَلاً لَعَلَوْنَاهُ مَعَكَ. فَأَشْرَقَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِذلِكَ وَسَرَّهٌ)).
(0/0)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّ مُوسَى عليه السلام غَضِبَ مِنْ مَقَالَةِ قَوْمِهِ ، وَكَانَ رَجُلاً حَدِيْداً فَقَالَ : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي } ولا أمْلِكُ إلاَّ أخِي ، يعني لا يُطِيْعُنِي مِن هؤلاءِ إلاَّ أخِي هَارُونُ ، { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } أي اقْضِ وَافْصِلْ بيننا وبينَ القوم العَاصِيْنَ.
وكَانَتْ عَجَلَةً عَجَّلَهَا مُوسَى عليه السلام ، فأوحَى الله إلى موسى : إلَى مَتَى يَعْصِيني هذا الشعبُ وإلى متَى لا يُصَدِّقُونَ بالآياتِ ، لأُهْلِكَنَّهُمْ وَاجْعَلَنَّ لكَ شَعْباً أشَدَّ وأكثرَ منهم. فقال : إلَهِي لو أنَّكَ أهلكتَ هذا الشَّعبَ من أجْلِ أنَّهم لن يستطيعُوا أن يدخلوا هذه الأرضَ فتقتلُهم في البَرِّيَةِ وأنت عظيمٌ عَفْوُكَ كثيرٌ نِعْمَتُكَ وأنتَ تغفرُ الذنوبَ ، فَاغْفِرْ لَهم.
فقال اللهُ تَعَالَى : قد غَفَرْتُ لَهم بكلمتِكَ ، ولكن بَعْدَمَا سَمَّيتَهُمْ فاسِقينَ ، وَدَعَوْتَ عليهم في عجلة لأُحَرِّمَنَّ عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ ، فذلك قولهُ : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ } ؛ يَتَحَيَّرُونَ ؛ { فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }.
وَقِيْلَ : إنَّ قولهم لموسَى : { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } كان سُؤَالاً منه الفَرْقَ في الحقيقةِ دون القضاء ، وكان دعاؤُه مُنْصَرِفاً إلى الآخرةِ ، أي أدْخِلْنَا الجنَّةَ إذا أدخلتَهم النارَ ، ولم يَعْنِ بذلك في الدُّنيا ؛ لأنه لو عَنَى ذلكَ لأجاب الله تعالى دُعَاءَهُ وأهلكَهم جميعاً ؛ لأنَّ دعاءَ الأنبياءِ لا يُرَدُّ من أجلِ أنَّهم يدعونَ بأمرِ الله تعالى.
ويقالُ : كان هذا دعاءً راجعاً إلى الدُّنيا ، وقد أجابَ اللهُ تعالى دعاءَه ؛ لأنَّهُ عاقبَ قومَهُ في التِّيْهِ ، ولم يكن موسَى وهارون محبوسَين في التِّيْهِ ؛ لأن الأنبياءَ علَيْهِمُ السَّلاَمُ لا يعذبون. قال الحسنُ : (لاَ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسَى مَعَهُمْ فِيْهَا لاَ حَيّاً وَلاَ مَيِّتاً ، ولاَ يجُوزُ إذا عَذبَ اللهُ بنَبيٍّ إلاَّ أنْ يًنَجِّيَ ذلِكَ النَّبيَّ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ). ويقالُ : إنَّ هذا الدُّعاء كان مِن موسى عليه السلام عندَ الغَضَب ؛ لأنه عنى به الحقيقة ، ألا ترى أنه نَدِمَ على دعائه وجزِعَ من تحريم قرية الجبارين عليهم جزعاً شديداً حتى قيل له : لا تأس على القوم الفاسقين.
قوله عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي قال اللهُ تعالى : فإنَّ الأرضَ المقدَّسةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ؛ أي هم مَمْنُوعُونَ من دخولِها أربعينَ سنةً ، وأصْلُ التَّحْرِيْمِ الْمَنْعُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ }[القصص : 12] وأرادَ : به الْمَنْعَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ } أي يَتَحَيَّرُونَ. قال ابنُ عبَّاس : (يَتَحَيَّرُونَ فِي سِتَّةِ فَرَاسِخَ أرْبَعِيْنَ سَنَةً ، كَانُوا يَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ النَّهَار فَيُمْسُونَ فِي مَكَانِهِمْ ، وَيَسِيْرُونَ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ ، فَتَدُورُ بهِمُ الأَرْضُ فَيُصْبحُونَ فِي مَكَانِهِمْ). قال الحسنُ : (عَمِيَ عَلَيْهِمُ السَّبيْلَ وَأخْفِيَ عَلَيْهِمُ الأعْلاَمُ الَّتِي يَهْتَدُونَ إلَى الطَّرِيْقِِ فَلَمْ يَسْتَطِيْعُوا الْخُرُوجَ مِنْهَا).
(0/0)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ } ؛ معناهُ : واقرأ يا مُحَمَّدُ على قومِكَ خبرَ ابْنَي آدَمَ بالصَّدقِ ؛ إذ وضعَا على الجبلِ قُرْبَاناً ، والقُرْبَانُ : مَا يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللهِ تَعَالَى. وقِيْلَ : معناهُ : واقرأ على أولادِ هؤلاء الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ من أهلِ الكتاب حتى يُقِرُّوا برسالتِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا } أي قُبلَ القربانُ من أحدِهما ، ولم يُتَقَبَّلْ من الآخر ، ومعنى القبول : إيجاب الثواب.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذَلِكَ أنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ تَلِدُ كُلَّ بَطْنٍ وَلَدَيْنِ ذكَرٍ وَأنْثَى ؛ إلاَّ شيث فَإنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِداً ، فَوَلَدَتْ أوَّلَ بَطْنٍ قَابيْلَ وَأُخْتَهُ إقْلِيْمَا ، ثُمَّ وَلَدَتْ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي هَابِيْلَ وَأُخْتَهُ لَبُودا. فَلَمَّا أدْرَكُوا ، أمَرَ اللهُ آدَمَ أنْ يُزَوِّجَ قَابيْلَ أخْتَ هَابيْلَ ، وَيُزَوِّجَ هَابيْلَ أخْتَ قَابِيْلَ ، فَرَضِيَ هَابيْلُ وَكَرِهَ قَابيْلُ ؛ لأَنَّ أخْتَهُ كَانَتْ أحْسَنَهُمَا ، فَقَالَ آدَمُ : مَا أمَرَ اللهُ إلاَّ بهَذا يَا بُنَيَّ ؛ وَلاَ يَحِلُّ لَكَ. فَأَبَى أنْ يَقْبَلَ ؛ وَقَالَ : إنَّ اللهَ لَمْ يَأْمُرْ بهَذا وَإنَّمَا هُوَ مِنْ رَأيكَ. فَقَالَ لَهُمَا : قَرِّبَا قُرْبَاناً ؛ فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ فَهُوَ أحَقُّ بهَا.
وَكَانَ هَابيْلُ صَاحِبَ غَنَمٍ ، وَقََابيْلُ صَاحِبَ حَرْثٍ ، فَقَرَّبَ هَابيْلُ كَبْشاً سَمِيْناً وَلَبَناً وَزُبْداً ، وَقَرَّبَ قَابيْلُ سُنْبُلاً مِنْ شَرِّ زَرْعِهِ ، وَأضْمَرَ فِي قَلْبهِ مَا أبَالِي أتُقُبلَ مِنِّي أمْ لاَ ، لاَ يَتَزَوَّجُ أخْتِي أبَداً ، وَأضْمَرَ هَابِيْلُ فِي نَفْسِهِ الرِّضَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَوَضَعَا قُرْبَانَهُمَا عَلَى الْجَبَلِ ، فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَمَا أَكَلَتْ شَيْئاً مِنَ السُّنْبُلِ بَعْدَ ، ثُمَّ أكَلَتِ الْكَبْشَ وَاللَّبَنَ وَالزُّبْدَ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ }.
فَنَزَلُوا الْجَبَلَ وَتَفَرَّقُوا ، وَكَانَ آدَمُ عليه السلام مَعَهُمْ ، فَذَهَبَ هَابيْلُ إلَى غَنَمِهِ ، وَقَابِيْلُ إلَى زَرْعِهِ غَضْبَانَ وَأظْهَرَ الْحَسَدَ لِهَابِيْلَ ، وَقَالَ : يَا هَابيْلُ لأقْتُلَنَّكَ! قَالَ : وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى تَقَبَّلَ قُرْبَانَكَ وَرَدَّ عَلَيَّ قُرْبَانِي ، وَتَنْكِحُ أخْتِي الْحَسَنَةَ ، وَأنْكِحُ أخْتَكَ الْقَبِيْحَةَ ، فَيُحَدِّثُ النَّاسَ أنَّكَ خَيْرٌ مِنِّي. { قَالَ } ؛ هَابِيْلُ : مَا ذنْبي فِي ذلِكَ؟!). { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ؛ أي من الزَّاكيةِ قلوبُهم الذين يخافونَ على حسناتِهم أن لا تُقْبَلَ ، ولم تَكُنْ أنتَ زَاكِيَ القَلْب ، فردَّ اللهُ قربانَكَ حيث نِيَّتَكَ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالمتَّقين الذين يَتَّقُونَ الشِّرْكَ. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ قَابيْلُ كَافِراً) وَفي أكثرِ الرِّواياتِ أنَّهُ كانَ رَجُلَ سَوْءٍ. قال الحسنُ : (كَانَ الرَّجُلُ إذا أرَادَ أنْ يُقَرِّبَ الْقُرْبَانَ ؛ تَعَبَّدَ وَتَابَ وَتَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوب وَلَبسَ الثَّيَابَ الْبيْضَ ، ثُمَّ قَرَّبَ وَقَامَ يَدْعُو اللهَ ، فَإنْ قَبلَ اللهُ قُرْبَانَهُ جَاءَتِ النَّارُ فَأَكَلَتْهُ ، وذلِكَ عَلاَمَةُ الْقَبُولِ ، وَإنْ لَمْ تَجِئْ نَارٌ فَذلِكَ عَلاَمَةُ الرَّدِّ).
(0/0)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } ؛ أي قال هَابيْلُ مُجِيْباً لقابيلَ : لَئِنْ مَدَدْتَ يدكَ إلى القتلِ ظُلماً ما أنا بالَّّذي أمُدَّ يَدِي إليكَ لأقتلكَ ظُلماً ، قال قابيلُ : ولِمَ ذلك ؟ قال : { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } ؛ بقتلِكَ ظُلماً.
واختلفَ العلماءُ في وقتِ مَوْلِدِ قابيلَ وهابيلَ ، قال بعضُهم : غَشِيَ آدمُ حوَّاءَ بعد ما هَبَطَ إلى الأرضِ بمائة سَنَةٍ ، فولدت لهُ قابيلَ وتَوْأمَتَهُ في بطنٍ ، ثم بعدَ ذلكَ البطنِ هابيلُ وتَوْأمَتَهُ. قال ابنُ عبَّاس : (وَلَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدَهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أرْبَعِيْنَ ألْفاً).
وقال بعضُهم : كان آدمُ يغشَى حوَّاءَ في الجنَّةِ ، فَحَمَلَتْ بقابيلَ وتَوْأمَتِهِ ، فلَم تَجِدْ عليهما وَحَماً ولا وَصَباً ولا طَلْقاً ولا نِفَاساً لِطُهْرِ الجنَّة ، فلما هَبَطَ إلى الأرضِ تَغشَّاها فحملت بهابيلَ وتوأمتهِ ، فوجدَتْ عليهما الوَحَمَ وَالوَصَبَ والطَّلْقَ والدَّمَ.
(0/0)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } ؛ أي قال هابيلُ لقابيلَ : إنْ كُنْتَ تريدُ قتلي فلا تَرْجِعْ عنهُ ، فَإنِّي أريدُ أن ترجعَ إلى اللهِ بإثْمِ دَمِي وإثمِ ذنْبكَ الذي مِن أجْلهِ لم يُتَقَبَّلُ قربانُكَ ، { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ } ؛ في الآخرةِ ؛ { وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ } ؛ أي وذلكَ عقوبةُ مَن لَمْ يَرْضَ بحكمِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ؛ أي طَاوَعَتْهُ نفسهُ ، وَقِيْلَ : زَيَّنَتْ لهُ قَتْلَهُ فَقَتَلَهُ. قال السُّدِّيُّ : (لََمَّا قَصَدَ قَابيْلُ قَتْلَ هَابيْلُ أتَاهُ فِي رَأسِ جَبَلٍ وَهُوَ نَائِمٌ وَغَنَمُهُ تَرْعَى ، فَأَخَذ صَخْرَةً فَشَدَخَ بهَا رَأسَهُ فَمَاتَ).
وقال الضحَّاك : (كَانَ قَابيْلُ لاَ يَدْرِي كَيْفَ يَقْتُلُهُ حَتَّى جَاءَ إبْلِيْسُ وَبيَدِهِ حَيَّةٌ فَوَضَعَهَا بَيْنَ حَجَرَيْنِ ، فَرَضَخَ رَأسَهَا بالْحَجَرِ وَقَابيلُ يَنْظُرُ ، فَلَمَا نَظَرَ ذلِكَ جَاءَ إلَى هَابيلَ فَلَمْ يَزَلْ يَضْرِبُ بالْحِجَارَةِ عَلَى رَأسِهِ حَتَّى قَتَلَهُ ، وَكَانَ لِهَابيلَ يَوْمَ قُتِلَ عُشْرُونَ سَنَةً). واختلفوا في موضعِ قتله ، قِيْلَ : قُتِلَ على جبلِ ثور. وقِيْلَ : بالبصرةِ.
فلمَّا مات هابيلُ قصَدتْهُ السِّباعُ لتأكلَهُ ، فحملَهُ قابيلُُ على ظهرهِ حتى انتنَّ ريحهُ ، فعكفَ الطُّيور والسِّباع حوالَيهِ تنتظرُ متى يُرمَي به فتأكلَهُ ، { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } ؛ فبعثَ الله غُرابين فاقتَتلا ، فقَتل أحدُهما صاحبه ، ثم حفرَ له بمنقارهِ ورجله ، ثم ألقاهُ في الحفيرةِ ووارَاهُ ، وقابيلُ ينتظرُ إليه فـ ؛ { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }.
وعن ابنِ عباس قالَ : (لَمَّا قَتَلَ قَابيلُ هَابيلَ رَجَعَ إلَى أبيهِ قَبْلَ أنْ يَدْفِنَهُ ، فَلَمَّا أبْطَأَ هَابيلُ قالَ آدَمُ عليه السلام : يَا قَابيلُ أينَ أخُوكَ ؟ قالَ : مَا رَأيْتُهُ ؛ وَكَأَنَّنِي بهِ أرْسَلَ غَنَمَهُ فِي زَرْعِي فَأَفْسَدَهُ ، فَلَعَلَّهُ خَافَ أنْ يَجِيءَ مِنْ أجْلِ ذلِكَ ، قَالَ : وَحَسَّتْ نَفْسُ آدَمَ ، فَبَاتَ لَيْلَتَهُ تِلْكَ مَحْزُوناً ، فَلَمَّا أصْبَحَ قَابيلُ غَدَا إلَى ذلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإذا هُوَ بغُرَابٍ يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ عَلَى غُرَابٍ مَيِّتٍ لِيُواريَهُ).
وَقِيْلَ : بعثَ اللهُ الغرابَ إكراماً لهابيل ، وكان الغرابُ يحثِي الترابَ على هابيل ليُرِيَ قابيل كيف يُواريه ؛ أي كيف يغطِّي عورتَهُ. وفي الخبرِ : أنَّهُ لَمَّا قتله سلبَهُ ثيابه ، وتركه عُرياناً. وَقِيلَ : أرادَ بالسَّوْءَةِ جسَدَ المقتولِ ، سماه سَوْءَةً لأنه لَمَّا بقي على وجهِ الأرض تغيَّرَ وَنَتَنَ ، والسوءَةُ في اللغة : عبارةٌ عن كل شيء مستنكرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } ؛ الخاسرين ، أي صارَ من المغبونِين بالوزر والعقوبة. قال الكلبيُّ : (كَانَ قَابيلُ أوَّلَ مَنْ عَصَى اللهَ فِي الأَرْضِ مِنْ ولْدِ آدَمَ ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى النَّارِ).
وقال مقاتلُ : (كَانَ قَبْلَ ذلِكَ تَسْتَأْنِسُ الطُّيُورُ وَالسِّبَاعُ وَالْوُحُوشُ بهِ ، فَلَمَّا قَتَلَ قَابيلَ نَفَرُواْ ، فَلَحِقَتِ الطُّيُورُ بالْهَواءِ ؛ وَالْوُحُوشُ بالْبَرِّيَّةِ ؛ وَالسِّبَاعُ فالفيَافِي وشَاكَ الشَّجَرُ ، وَتَغَيَّرَتِ الأَطْعِمَةُ وَحَمِضَتِ الْفَوَاكِهُ وَاغْبَرَّتِ الأَرْضُ).
(0/0)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي من أجلِ ذلك القتلِ الذي عرفَهُ بنو إسرائيل واشتهرَ عندهم ، فرَضْنَا وأوجَبنا عليهم في التَّوراة : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } ؛ أي من غيرِ أن يجبَ عليه القَوْدُ ، { أَوْ } ؛ بغَيرِ ؛ { فَسَادٍ فِي الأَرْضِ } ؛ نحوَ الشِّرك وقطعِ الطريق والزِّنا عند الإحصان ، { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } ؛ أي استوجبَ النار بقتلِ النفس الواحدة ، كما يستوجبُها مَن قَتَلَ الناس جميعاً ، وَقِيْلَ : معناهُ : إنَّ على الناس كلهم معونةُ ولِيِّ القتيلِ حتى يفتدوهُ ، ويكونوا كلُّهم خَصماً للقاتلِ حتى يُقَادَ. وَقِيْلَ : إن المرادَ به استحقاقُ القتلِ عليه بقتلِ النفس الواحدة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ؛ أي من استنقذ نفساً من غَرَقٍ أو من حَرْقٍ أو مما يُميتها لا محالةَ ، أو استنقذها من كفرٍ أو ضلالة فأحياها بالنعيمِ الدائم في الجنَّة ، أو عفَى عن دمها بعد ما وجبَ عليها القصاصُ استوجبَ الجنَّة ، كما استوجبَها مَن أحيَا الناس جميعاً. وعن ابنِ عبَّاس قالَ : قَالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَقَا مُؤْمِناً شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فَكَأَنَّمَا أعْتَقَ سَبْعِينَ رَقَبَةً ، وَمَنْ سَقَاهَا فِي غَيْرِ مَوْطِنِهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا نَفْساً ، وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ } ؛ أي لقد جاءت بني إسرائيلَ رسُلنا بالأوامر والنواهِي والعلامات الواضِحات ، { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ } ؛ بعدَ أن جاءَتهم الدلائلُ والمعجزات ، { فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } ؛ مُشرِكون تاركُو أمرَ اللهِ تعالى.
(0/0)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَادَعَ أبَا بُرْدَةَ هِلاَلَ بْنَ عُوَيْمِرَ الأَسْلَمِيُّ : " عَلَى أنْ لاَ يُعِيِنَهُ وَلاَ يُعَِينَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ أتَاهُ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أمَّنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ مَرَّ بهِلاَلِ بْنِ عُوَيْمِرَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ آمِنٌ "
فَمَرَّ قَوْمٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ عَلَى قَوْمٍ مِمَّنْ أسْلَمَ مِنْ قَوْمِ هِلاَلٍ ، وَلَمْ يَكُنْ هِلاَلٌ يَوْمَئِذٍ حَاضِراً ، فَخَرَجَ أصْحَابُهُ إلَيْهِمْ فَقَتَلُوهُمْ وَأخَذُوا أمْوَالَهُمْ ، فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : (إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ) الفَسَاد نحو القتلِ والنَّهب والتخريب وقطع الطريقِ { أَن يُقَتَّلُواْ } إنْ قتَلُوا أحداً ولم يأخذُوا المالَ { أَوْ يُصَلَّبُواْ } مقتُولين إن قتَلُوا وأخذُوا المالَ ، { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } اليدُ اليمين من الرِّسغ ، والرِّجل اليُسرى من الكعب إن أخَذُوا المالَ ولم يقتُلوا أحَداً ، { أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ } إن أخَافُوا الطريقَ ولم يفعَلُوا سِوَى ذلك.
واختلَفُوا في معنى النَّفي ، قال بعضُهم : يعني الحبسَ ، وقال بعضُهم : هو الطلبُ حتى لا يستقرَّ بهم مكانٌ. والتوفيقُ بين القولَين : أنَّهم إنْ أخِذُوا بعد ما أخَافُوا الطريقَ ؛ أودعَهم الإمامُ السِّجن حتى يتوبُوا أو يموتوا ، وإنْ لم يُؤخَذوا أمَرَ بطلبهم ، وأمرَ أن يُنادى في الناسِ : أنَّ مَن قتلَهم لا سبيلَ عليه.
وإنما سُمي الحبسُ نَفياً ؛ لأنه يمنعُ المحبوسين من التردُّد والتصرُّف في الأرضِ ، ويكون ذلك بمنزلةِ النَّفيِ من الأرض.
واختلَفُوا في كيفيَّة الصَّلب مع القتلِ. قال أبو حَنيفة : (يُصْلَبُ حَيّاً لِيَرَى النَّاسَ وَيَرَوهُ ؛ وَيَكُونُ ذلِكَ زيَادَةً عُقُوبَةٍ لَهُ ، ثُمَّ تُبْعَجُ بَطْنُهُ بالرُّمْحِ ؛ يُطْعَنُ فِي خَاصِرَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ). وقال أبو يُوسف والشافعيُّ : (يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } ؛ أي فضيحةٌ في الدنيا ، { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ أعظَمُ من هذا.
وقال مقاتلُ وسعيد بن جُبير : (نَزلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عُرَيْنَةَ ، قَدِمُوا الْمَدِيْنَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبَايَعُوهُ عَلَى الإسْلاَمِ ، وَهُمْ كَذبَةٌ وَلَيْسَ يُرِيدُونَ الإسْلاَمَ ، فَاجْتَوَواْ الْمَدِيْنَةَ وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ وَاصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَخْرُجُوا إلَى إبلِ الصَّدَقَةِ فَيَشْرَبُواْ مِنْ أبْوَالِهَا وَألْبَانِهَا ، فَفَعَلُوا ذلِكَ حَتَّى صَحُّوا ، ثُمَّ قَتَلُوا الرُّعَاةَ وَاسْتَاقُوا الإبِلَ وَارْتَدُّواْ عَنِ الإسْلاَمِ.
فَصَاحَ الصَّائِحُ : يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي. فََرَكِبُوا لاَ يَنْتَظِرُ فَارسٌ فَارساً ، فَأَسْرَعُوا فِي طَلَبهِمْ ، وَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيَّ بْنَ أبي طَالِبٍ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فِي طَلَبهِمْ ، فَجَاءوا بهِمْ ، فَقَطََّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ ، وَسَمَّلَ أعْيُنَهُمْ ، وَتَرَكَهُمْ بالْحَيَاةِ حَتَّى مَاتُواْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ، فَصَارَتْ عَامَّةً فِي قُطَّاعِ الطُّرُقِ نَاسِخَةً لِتَسْمِيلِ الْعَيْنِ).
وقال الليثُ بنُ سعدٍ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْلِيماً لَهُمْ عُقُوبَتَهُمْ ، فَقَالَ تَعَالَى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ } وَلَمْ يَكُنْ جَزَاؤُهُمْ هَذِهِ الْمُثْلَةَ الَّتِي هِيَ السَّمْلُ ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ خَطِيباً وَنَهَى عَنِ الْمُثْلَةِ).
(0/0)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } ؛ معناهُ : أن يُقتَّلوا أو يُصَلَّبوا إلاَّ الذين تَابُوا من قطعِ الطَّريق من قبلِ أن يقدرَ عليهم الإمامُ ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لعبادهِ ، { رَّحِيمٌ } ؛ بهم بعدَ التوبةِ.
روى الشعبيُّ : (أنَّ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ خَرَجَ مُحَارباً فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رضي الله عنه ، فَأَخَافَ السُّبُلَ وَسَفَكَ الدِّمَاءَ وَأخَذ الأَمْوَالَ ، ثُمَّ جَاءَ تَائِباً فَأَتَى الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَطَلَبَ إلَيْهِ أنْ يَسْتَأْمِنَ لَهُ عَلِياً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ فَأَبَى ، فَأَتَى عَبْدَاللهِ بْنَ جَعْفَرَ فَأَبَى عَلَيْهِ ، فَأَتَى سَعْدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيَّ فَقَبلَهُ وَضَمَّهُ إلَيْهِ ، فَلَمَّا صَلَّى عَلِيٌّ رضي الله عنه صَلاَةَ الْغَدَاةِ ، أتَى سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمَدَانِيُّ وَقَالَ : يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ مَا جَزَاءُ الَّّذِينَ يُحَاربُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ؟ قَالَ : أنْ يُقَتَّلُواْ أوْ يُصَلَّبُواْ أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وَأرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ. قَالَ : مَا تَقُولُ فِيْمَنْ تَابَ مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : أقُولُ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فَقَالَ سَعْدُ بْنُ قَيْسٍ : وَإنْ كَانَ حَارثَةَ بْنَ زَيْدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَجَاءَ بهِ إلَيْهِ ، فَبَايَعَهُ وَأمَّنَهُ وَكَتَبَ لَهُ أمَاناً مَنْشُوراً ، فَقَالَ حَارثَةُ : ألاَ أبْلِغَنَّ هَمَدَان إمَّا لَقِيتَهَا عَلَى النَّأْي لاَ يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَالَعَمْرُو أبيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِى الـ إلَهَ وَيَقْضِى بالكِتَاب خَطِيبُهَا
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ } ؛ أي يا أيُّها الذين آمَنوا اخشَوا عذابَ الله واحذرُوا معاصيَهُ ، واطلبُوا إليه القربةَ بالأعمالِ الصالحة ، { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ } ؛ أعداءَ الله في طاعتهِ ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ أي لعلَّكم تظفَرُون بعدوِّكم في الدنيا ، وتنجُوا من النار في العُقبى. والوسيلةُ : القُرْبَةُ : وهي فَعِيلَةٌ من : توَسَّل إلى فلانٍ بكَذا ؛ أي تقرَّبَ إليه ، وجمعُها وسَائِلُ. قال الشاعرُ : إذا غَفِلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا وَعَادَ التَّصَافِى بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُوقَال عطاءُ : (الْوَسِيْلَةُ : أفْضَلُ دَرَجَاتِ الْجَنَّةِ) ، قال صلى الله عليه وسلم : " سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيْلَةَ ، فَإنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ لاَ يَنَالُهَا إلاَّ عَبْدٌ وَاحِدٌ ، وَأرْجُو مِنَ اللهِ أنْ أكُونَ أنَا هُوَ "
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } ؛ وفي الآية إزالةُ طَمَعِ الكفَّار عن التخلُّص من عذاب الآخرة ، يقول : لو مَاتُوا على الكفرِ ، وكان لهم ما في الأرضِ جميعاً من الأموالِ بأَسرِها وضعفهُ معَهُ ليَشتروا به أنفسهم من عذاب الله ما تُقُبلَ ذلكَ الفداءُ منهم لو فادوا ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وجيعٌ يخلُصُ وجعهُ إلى قلوبهم.
(0/0)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ؛ قِيْلَ : معناهُ : كلَّما رفعَتهُم النارُ بلَهَبهَا يتمنُّوا أن يخرجوا منها ، يقولُ الله تعالى : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } دائمٌ لا ينقطعُ.
(0/0)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي طُعْمَةَ بْنِ أبَيْرِقَ سَارقِ الدِّرْعِ) وقد مضت قصَّتهُ في سورةِ النساء ، ثم صارت عامَّة في جميعِ الناس. ومعنى الآية : والسارقُ من الرجالِ والسارقةُ من النِّساء فاقطَعُوا أيدِيَهُما أي إيمانِهِمَا كذا تأوَّلَهُ ابنُ عباس. وفي قراءةِ ابن مسعود : (فَاقْطَعُواْ أيْمَانَهُمَا).
وقرأ عيسى بن عمر : (وَالسَّارقَ وَالسَّارقَةَ) بالنصب على إضمار اقطَعُوا السارقَ والسارقةَ ، كما تقولُ : زَيداً اضرِبهُ ، والقراءة المختارةُ : الرفعُ ؛ لأن القطعَ على الأيدِي لا على السارقِ. وقال المبرِّدُ : (لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْكَلاَمِ إلَى وَاحِدٍ بعَيْنِهِ ، وَإنَّمَا مَعْنَاهُ : مَنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، بِخِلاَفِ قَوْلِكَ : زَيْداً اضْرِبْهُ. وَلَوْ أرَادَ سَارقاً بعَيْنِهِ لَكَانَ وَجْهُ الْكَلاَمِ النَّصْبَ). وعلى هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا }[النور : 2] ولو أرادَ زانياً بعينهِ لنصبَ.
وإنما ذكرَ أيديَهُما بلفظِ الجمع ؛ لأنه أرادَ أيْمانَهُما ؛ لأنَّ ما كان واحداً فَبَيَّنَهُ بلفظِ الجمع والإضافةِ إلى الاثنين ، ومثلُ ذلكَ{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }[التحريم : 4] ، والإضافةُ إلى الاثنينِ يدلُّ على أن المرادَ به التثنيةُ دونَ الجمعِ.
فإن قِيْلَ : لأيِّ معنى قدَّمَ اللهُ ذكرَ السارقِ على السَّارقة ، وقدَّمَ ذكرَ الزانيةِ على الزانِي ؟ قِيْلَ : لأنَّ السرقةَ في الرجالِ أكثرُ ، والنساءُ هي أصلُ الفتنةِ للرجال بالتعريضِ لهم ، ولو لَزِمَتِ المرأةُ بيتَها كما أمرَ اللهُ تعالى لم تقَعْ هي ، ولا الرجالُ في الزِّنا.
واختلفوا في كم تقطَعُ يدُ السارقِ من المال إذا سرقَهُ ، فقال بعضُهم : في عشرةِ دراهمَ فصاعداً ، ولا يقطعُ فيما دون ذلك ، وإليه ذهبَ أبو حنيفةَ وأصحابهُ ، وكان سُليمان بن يسار لا يقطعُ الخمسَ إلاَّ في خمسةِ دراهمَ. وقال مالكُ : (يُقْطَعُ فِي ثَلاثَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِداً) ، وقال الأوزاعيُّ والشافعي : (يُقْطَعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً).
وقال بعضُهم : يقطع في القليلِ والكثير ولو كان دَانِقاً ، وهو قولُ ابنِ عبَّاس. وقال بعضُهم : في درهمٍ.
ولو قطعَ السارقُ ثم عادَ فسرقَ ، قُطعت رجلهُ اليُسرَى ، فإن سرقَ ثالثاً قال أبو حنيفةَ وأصحابهُ : (لاَ يُقْطَعُ ، لِمَا رُويَ أنَّ عَلِيّاً كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أتِيَ بسَارقٍ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى ، ثُمَّ أتِيَ بهِ مَرَّةً أخْرَى فَقَطَعَ رجْلَهُ الْيُسْرَى ، ثُمَّ أتِيَ بهِ ثَالِثَةً فَضَرَبَهُ وَحَبَسَهُ وَقَالَ : إنِّي أسْتَحِي مِنَ اللهِ أنْ لاَ أدَعَ لَهُ يَداً يَسْتَنْجِي بهَا وَلاَ رجْلاً يَمْشِي بَها).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } ؛ أي عقوبةً على ما فعَلاَ ، وانتصبَ (جَزَاءً) لأنه مفعولٌ له ، كأنه قالَ : فاقطَعُوهما لجزاءِ فعلهِما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ } ؛ أي عقوبةً وفضيحة من اللهِ. والنَّكَالُ : هو أن يُنَكَّلَ بهِ ليعتبرَ به غيرهُ فَيَنْكَلَ ؛ أي لا يفعلَ مثلَ فعلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ؛ أي منيعٌ بالنِّقمة من السارقِ ، ذو حِكمة فيما حكمَ من القطعِ لما في ذلك من زَجْرِِ السَّارق عن غيِّهم صيانةً لأموالِ الناس.
(0/0)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } ؛ أي من تاب من السراق من بعد سرقته وأصلح العمل فيما بينه وبين الله تعالى ، { فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ } ؛ أي يتجاوزُ عنه ولا يؤاخذهُ في الآخرةِ ، ولا تقطعُ يده إذا ردَّ المالَ قبل المرافعةِ إلى الحاكمِ ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ بمن ماتَ على التوبةِ.
وأما إذا رُفع إلى الحاكمِ ثم تابَ فالقطعُ واجبٌ ، فإنْ كانت توبتهُ حقيقةً كان ذلك زيادةَ درجاتٍ له ، كما أنَّ الله تعالى ابتلَى الصالحين والأنبياءَ بالبلايا والْمِحَنِ والأمراضِ زيادةً لهم في درجاتِهم ، وإنْ لم تكن توبتهُ حقيقةً كان الحدُّ عقوبةً له على ذنبهِ ، وهو مؤاخَذٌ في الآخرةِ إن لم يتُبْ.
وعن عبدِالله بن عامر قال : " سَرَقَتِ اْمَرَأةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءُوا بهَا إلَيْهِ ، قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ سَرَقَتْنَا ، فَقَالَ قَوْمُهَا : نَحْنُ نَفْدِيهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " اقْطَعُوا يَدَهَا " قَالُواْ : نَحْنُ نَفْدِيهَا بِخَمْسِمِائَةِ مِثْقَالٍ ، فَقَالَ : " اقْطَعُوا يَدَهَا " فَقُطِعَتْ يَدُهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتِ الْمَرْأةُ : هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " نَعَمْ إنَّ التَّوْبَةَ تُخْرِجُكِ عَنْ خَطِيئَتِكِ كَيَوْمِ وَلَدَتْكِ أمَّكِ " فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }.
وعن عائشةَ قالت : " كَانَتِ امْرَأةٌ مَخْزُومِيَّةٌ تَسْتَعِيْرُ الْمَتَاعَ وَتَجْحَدُهُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقَطْعِ يَدِهَا ، فَأَتَى أهْلُهَا أسَامَةَ فَكَلَّمُوهُ ، فَكَلَّمَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا أُسَامَةُ لاَ أرَاكَ تُكَلِّمُنِي فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ " ثُمَّ قَامَ خَطِيباً فَقَالَ : " إنَّمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَكُمْ بأَنَّهُمْ كَانُوا إذا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإذا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ قَطَعُوهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ كَانَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ مُحَمَّدٍ لَقَطَعْتُ يَدَهَا " أعَاذهَا اللهُ مِنْ ذلِكَ ، فَقَطَعَ يَدَ الْمَخْزُومِيَّةِ.
(0/0)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي له القدرةُ على أهلِ السَّموات والأرضِ ، والخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } ؛ أي يعذِّبُ مَنْ يشاءُ على الذنب الصغير وهو عدلٌ منه ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الذنبَ العظيمَ وهو فضلٌ منه ؛ أي يعذِّبُ من توجبُ الحكمة تعذيبَهُ ، ويغفرُ لمن توجبُ الحكمة مغفرتَهُ ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.
وقولهُ تعالى : { ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ؛ أي لا يحزِنُكَ يا مُحَمَّدُ فعلُ الذين يسارعُ بعضهم بعضاً في الإقامةِ على الكفرِ والحثِّ عليه.
قرأ نافعُ : (يُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء ، ومعناهما واحدٌ. وقرأ السلميُّ : (يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ) ، وقولهُ تعالى : { مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } وهم المنافقون { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُواْ } ؛ أي ومن يهودِ المدينة الذين هم أهلُ الصُّلح للنبيِّ صلى الله عليه وسلم. وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وتثبيتٌ لفؤادهِ بوعد النُّصرَةِ والظفرِ ، وإعلامٌ أنَّ اليهود والنصارَى والمنافقين لا يضرُّونَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : " { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ } ؛ أي قابلون للكذب ، يعني بني قُريظة هم سَمَّاعون لقومٍ آخَرين لم يأتُوكَ ، يعني يهودَ خيبر ، وذلك : أنَّ رَجُلاً وَامْرَأةً مِنْ أشْرَافِ أهْلِ خَيْبَرَ زَنَيَا ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ حَرْباً لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ الزَّانِيَانِ مُحْصِنَيْنِ ، وَكَانَ حَدَّهُمَا الرَّجْمُ فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَرِهَتِ الْيَهُودُ رَجْمَهُمَا لِشَرَفِهِمَا ، وَقَالُواْ : إنَّ هَذا الرَّجُلَ الَّذِي فِي يَثْرِبَ لَيْسَ فِي كِتَابِهِ الرَّجْمُ وَلَكِنَّهُ الضَّرْبُ ، فَأَرْسِلُوا إلَى إخْوَانِكُمْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، فَإنَّهُمْ صُلْحٌ لَهُ وَجِيراَنُهُ فَيَسْأَلُونَهُ عَنْ ذلِكَ ، فَبَعَثُوا رَهْطاً مِنْهُمْ مُسْتَخْفِينَ ، وَقَالُواْ لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّداً عَنِ الزَّانِيَينِ مُحْصِنَينِ مَا حَدُّهُمَا ؟ فَإنْ أمَرَكُمْ بالْجَلْدِ فَاقْبَلُواْ مِنْهُ ، وَإنْ أمَرَكُمْ بالرَّجْمِ فَاحْذرُوهُ وَلاَ تَقْبَلُواْ مِنْهُ ، وَأرْسَلُواْ الزَّانِيَيْنِ مَعَهُمْ.
فَقَدِمَ الرَّهْطُ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَذَكَرُوا لَهُمْ ذلِكَ وَقَالُواْ : اسْأَلُوا لَنَا مُحَمَّداً عَنْ قَضَائِهِ ، فَقَالَ لَهُمْ بَنُو قُرَيْظَةَ : إذاً وَاللهِ يَأْمُرُكُمْ بمَا تَكْرَهُونَ ، ثُمَّ انْطَلَقَ مِنْهُمْ قَوْمٌ مِثْلُ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَسَبْعَةَ بْنِ عُمَرَ وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَعَازُورَاءَ وَغَيْرُهُمْ ، وَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ أخْبرْنَا عَنِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي إذا أحْصَنَا مَا حَدُّهُمَا وَكَيْفَ تَجِدُ فِي كِتابكَ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " وَهَلْ تَرْضَوْنَ بقَضَائِي فِي ذلِكَ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام بالرَّجْمِ ، فَأَخْبَرَهُمْ فَأَبَوا أنْ يَأْخُذُواْ بهِ.
فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام : اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ ابْنَ صُوريَّا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " هَلْ تَعْرِفُونَ شَابّاً مِنَ الرِّبيِّينَ أعْوَرَ سَكَنَ فَدَكْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ ، قَالَ : " فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيْكُمْ ؟ " قَالُواْ : هُوَ أعْلَمُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِنَ الْيَهُودِ بالتَّوْرَاةِ ، قَالَ : " فَأَرْسِلُواْ لَهُ " ، فَفَعَلُواْ ، فَأَتَاهُمْ ابْنُ صُوريَّا ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أنْتَ ابْنُ صُوريَّا ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " أنْتَ أعْلَمُ الْيَهُودِ ؟ " قَالَ : كَذلِكَ يَزْعُمُونَ ، قَالَ : " أتَجْعَلُونَهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ؟ " قَالُواْ : نَعَمْ قَدْ رَضِينَا بهِ إذا رَضِيْتَ بهِ.
فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أنْشِدُكَ باللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ الْقَوِيُّ ، إلَهُ بَنِي إسْرَائِيلَ الَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ، وَالَّذِي فَلَقَ لَكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَاكُمْ وَأغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ ، وَالَّذِي ظَلَّلَ عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ ، وَأنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ، هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أحْصَنَ ؟ " قَالَ ابْنُ صُوريَّا : نَعَمْ وَالَّذِي ذكَّرْتَنِي بهِ ؛ وَلَوْلاَ خِشْيَةَ أنْ تُحْرِقَنِي التَّوْرَاةُ إنْ كَذبْتُ أوْ غَيَّرْتُ لَمَا أعْرَفْتُ لَكَ ، وَلَكِنْ كَيْفَ فِي كِتَابكَ يَا مُحَمَّدُ ؟ قَالَ : " إذا شَهِدَ أرْبَعَةٌ عُدُولٌ أنَّهُ أدْخَلَ فِيْهَا ، كَمَا يَدْخُلُ الْمِيْلُ فِي الْمِكْحَلَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ " ، قَالَ ابْنُ صُوريَّا : وَالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى لَهَكَذا أنْزِلَ عَلَى مُوسَى.
فَقَالَ لَهُ قَوْمُهُ : مَا أسْرَعَ مَا صَدَقْتَهُ ، أمَا كُنْتَ لَمَّا أتَيْنَا عَلَيْكَ بأَهْلٍ وَمَا أنْتَ بأَعْلَمِنَا ، فَقَالَ لَهُمْ : أنْشَدَنِي بالتَّوْرَاةِ ، وَلَوْلاَ خِشْيَةَ التَّوْرَاةِ أنْ تُهْلِكَنِي لَمَا أخْبَرْتُهُ ، وَخِفْتُ إنْ كَذبْتُهُ أنْ يَنْزِلَ بنَا عَذابٌ شَدِيدٌ.
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم برَجْمِ الْيَهُودِيَّين الزَّانِيَينِ ، وَقَالَ : " أنَا أوَّلُ مَنْ يُحيْي سُنَّةً إذا أمَاتُوهَا " ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فَلاَ يُخْبرُكُمْ بهِ.
فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أنْشِدُكَ باللهِ يَا مُحَمَّدُ أنْ تُخبرَنَا بالْكَثِيرِ الَّّذِي أمِرْتَ أنْ تَعْفُو عَنْهُ ، فَأَعْرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ ابْنُ صُوريَّا : أخْبرْنَا عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ ، قَالَ : " مَا هُنَّ ؟ " قَالَ : أخْبرْنِي عَنْ نَوْمِكَ ؟ قَالَ : " تَنَامُ عَيْنَايَ وَقَلْبي يَقْظَانٌ " ، قَالَ : صَدَقْتَ.
قَالَ : فَأَخْبرْنِي عَنْ شَبَهِ الْوَلَدِ بأَبيهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أمِّهِ شَيْءٌ ، وَعَنْ شَبَهِ أمِّهِ لَيْسَ فِيْهِ مِنْ شَبَهِ أبيهِ شَيْءٌ ، قَالَ : " أيُّهُمَا عَلاَ وَسَبَقَ مَاؤُهُ مَاءَ صَاحِبهِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ " ، قَالَ : صَدَقْتَ.
فَأَسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا حِينَئِذٍ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَأْتِيكَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بالْوَحْيِ ؟ قَالَ : " جِبْرِيْلُ " قَالَ : صِفْهُ لِي ، قَالَ : فَوَصَفَهُ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا قُلْتَ ، وَإنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، فَلَمَّا أسْلَمَ ابْنُ صُوريَّا شَتَمُوهُ ".
(0/0)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ راجعٌ إلى صفةِ اليهود والمنافقين الذين سبقَ ذِكرُهم ، والفائدةُ في إعادةِ وَصفِهم بسمَّاعِين للكذب : بيانُ أنَّهم إنما يستحقُّوا الخزيَ بإصرارهم على الكذب واستماعهِ ، وضمِّهم إلى ذلك السُّحْتَ.
واختلَفُوا في المرادِ بالسُّحْتِ ، فقال ابنُ مسعودٍ والحسنُ : (أرَادَ بهِ الرِّشْوَةَ عَلَى الْحُكْمِ) وقال عليٌّ وأبو هريرةَ : (هُوَ الرِّشْوَةُ عَلَى الْحُكْمِ ؛ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ ؛ وَعَسْبُ التَّيْسِ ؛ وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ ؛ وَثَمَنُ الْخَمْرِ).
والسُّحْتُ : اسمٌ لما لا يَحِلُّ أخذهُ ، وأصلُ السُّحتِ من الهلاكِ ، يقال : سَحَتَهُ وَأسْحَتَهُ ؛ إذا اسْتَأْصَلَهُ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ }[طه : 61] أي يُهْلِكَكُمْ ، وسُمِّيَ الحرامُ سُحتاً ؛ لأنه يؤدِّي إلى الهلاكِ والاستئصالِ.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أوْلَى بهِ " قِيلَ : مَا السُّحْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ " وعن مسروقِ عن ابن مسعودٍ قال : ((الرِّشْوَةُ سُحْتٌ ، قُلْتُ لَهُ : فِي الْحُكْمِ ؟ قَالَ : لاَ ؛ ذاكَ الْكُفْرُ ؛ ثُمَّ قَرَأ { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } [المائدة : 44]. وأرادَ بهذا استحلالَ الرِّشوة وجَحْدَ الحقِّ.
والرشوةُ تنقسمُ على وجوهٍ ؛ منها : الرشوةُ على الحكمِ ، وذلك حرامٌ على الرَّاشِي والمرتَشِي ؛ لأنه لا يخلُو إمَّا ليحكمَ له الحاكمُ بحقِّه ، فيكون المرتشِي آخِذاً للأُجرةِ على أداءِ ما هو فرضٌ عليه ، ويكون الرَّاشي مُحَاكِماً إلى مَن لا يصلحُ للحكمِ ولا ينفذُ حُكمه ، وإما أنْ يرشِي فيقضِي له بما ليس له بحقٍّ ، فيكون الإثمُ أعظمَ ويفسق الحاكمُ من وجهين ، وكذلك المرتشي ، والرَّائِشُ : أرادَ بالرائش الذي يمشِي بينهما.
ومنها : الرشوةُ في غيرِ الحكم ، كما رُوي عن وهب بن منبه : (أنَّهُ قِيْلَ لَهُ الرِّشْوَةُ حَرَامٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ؟ قَالَ : إنَّمَا نَكْرَهُ أنْ تَرْشِي لِتُعْطَى مَا لَيْسَ لَكَ ، أوْ تَدْفَعَ حَقّاً لَزِمَكَ ، فَأَمَّا أنْ تَرْشِي لِتَدْفَعَ عَنْ دِينِكَ وَدَمِكَ وَمَالِكَ ، فَلَيْسَ بَحَرامٍ ، وَإنَّمَا الإثْمُ عَلَى الْقَابضِ).
قرأ عاصمُ ونافع وحمزة وابن عامر : (للسُّحْتِ) بضم السين وجزمِ الحاء ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي بضمِّهما جميعاً ، وقرأ أبو العبَّاس : (للسَّحْتِ) بفتح السِّين وجزم الحاء ، وقرأ عُبيد بن عمر : (للسِّحْتِ) بكسر السين وجزم الحاء ، وكلُّه بمعنى واحدٍ وهو الحرامُ.
وَقِيْلَ : يقال رجلٌ مَسْحُوتُ المعِدَةِ ؛ إذا كَانَ أكُولاً لاَ يُلْفَى أبَداً إلاَّ جَائِعاً ، قِيْلَ : نزَلت هذه الآيةُ في حكَّام اليهودِ كعب بن الأشرفِ وأمثالهِ ، كانوا يرتَشُون ويقضُون لمن رشَاهُم. وعن الحسنِ في قوله : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِب أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) قال : (ذلِكَ الْحُكَّامُ ؛ يَسْمَعُ كَذِبَهُ وَيَأْخُذُ رشْوَتَهُ ، فَيَكُونُ الْحَاكِمُ قَدْ سَمِعَ الدَعْوَةَ الْكَاذِبَة وَيَأْكُلُ رشْوَتَهُ).
ورُوي : أنَّ مسروقاً شَفَعَ لرجُلٍ في حاجةٍ ، فأهدَى له جاريةً ، فغضِبَ غَضباً شديداً وقال : لَوْ عَلِمْتُ أنَّكَ تَفْعَلُ هَذا مَا تَكَلَّمْتُ فِي حَاجَتِكَ وَلاَ أتَكَلَّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ ، سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : يَقُولُ : ((مَنْ شَفَعَ فِي حَاجَةٍ لِيَرُدَّ بهَا حَقّاً أوْ يَدْفَعَ بهَا ظُلْماً فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فَهُوَ سُحْتٌ) ، فَقِيلَ لَهُ : يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ مَا كُنَّا نَرَى ذلِكَ إلاَّ أخْذ رشْوَةٍ عَلَى الحُكْمِ ؟ فَقَالَ : (الأَخْذُ عَلَى الْحُكْمِ كُفْرٌ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى :
(0/0)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } ؛ أي كيف يرضَون بحُكمِكَ وعندهم التوراةُ فيها حكمُ الرجمِ والقصاصِ وغير ذلك { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ } ، يعرِضون عن العملِ بها ، { مِن بَعْدِ ذلِكَ } ؛ من بعدِ البيان الذي في كتابهم ، { وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } ؛ ليسوا بمصدِّقين بما عندَهم ، يزعُمون أنَّهم مؤمنون بالتوراةِ وهم كاذِبون. وفي هذه الآية بيانٌ على أنَّ هؤلاء اليهود كانوا لا يحكِّمون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بحكم رضًى وانقيادٍ ، ولولا طلبُهم الترخُّص واتِّباع ما لا يُغني في كتابهم لما جَاءوه.
(0/0)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } ؛ أي إنَّا أنزَلنا التوراةَ على موسى فيها بيانٌ من الضَّلالة ونُورٌ لمن آمَنَ به ، يقضي بها النبيُّون الذين أخلَصُوا ، وهذه صفةُ الأنبياءِ ؛ لا أن فيهم مَن لم يخلِصْ ، كما يقال : صلَّى اللهُ على مُحَمَّدٍ وعلى آلهِ الطيّبين ، لا يرادُ بذلك أنَّ في أهلهِ غيرَ طيِّب.
والمرادُ بالنبيِّين مُوسَى وعيسى ومُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وغيرُهم من الذين كانوا من وقتِ موسى إلى وقت نبيِّنا عليهم السَّلامُ. ويقال أرادَ بالنَّبيِّين مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فإنه كان كالنائب عن أنبياء بني إسرائيلَ في أنْ يحكُمَ في الزِّنا بينهم بحُكمِ التوراةِ.
وَقِيْلَ : معنى { الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } أي انقَادُوا لأحكامِ الله لا على أنَّ غيرَهم من النبيِّين لم يكونوا مُسلمين. وَقِيْلَ : معنى (أسْلَمُوا) أي صَارُوا إلى السَّلامةِ ، كما يقال : أصْبَحُوا وَأمْسَوا : وادَّخَلُوا في الصَّباح والمساءِ. وَقِيْلَ : معناهُ : الَّذِين أسْلَمُوا أنفُسَهم إلى اللهِ. " كما رُوي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقولُ إذا آوَى إلَى فِرَاشِهِ : " أسْلَمْتُ نَفْسِي إلَيْكَ " قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لِلَّذِينَ هَادُواْ } يعني لليهودِ ، وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : للذين تَابُوا من الكفرِ ، كما في قوله تعالى : { وَإِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ }[الأعراف : 156].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالرَّبَّانِيُّونَ } ؛ هم العُلماء العامِلون ، يَرُبُّونَ العلمَ ؛ أي يقُومون به ، { وَالأَحْبَارُ } ؛ سائرُ العلماء دون الأنبياءِ والربَّانيِّين ، وإنما سُمي العالِمُ حَبراً لكثرةِ ما يكتبُ بالحبرِ ، ويقال : هو مِن التحبيرِ وهو تحسينُ العلمِ ، وتقبيحُ الجهلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ } ؛ من الرَّجمِ وسائر الأحكامِ ، { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } ؛ إنه كذلك ، ومعنى (اسْتُحْفِظُوا) : استَودَعُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } ؛ خطابٌ لعلماء اليهودِ ؛ أي لا تخشَوُا السَّفلةَ والْجُهَّالَ في إظهار نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وآيةِ الرَّجم ، واخشَوا عِقَابي في كتمانِها ، { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } ؛ أي لا تختَارُوا عَرَضاً يَسيراً من الدُّنيا ، فإن الدُّنيا ما فيها قليلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } ؛ ذهبَ الخوارجُ إلى أنَّ معنى الآيةِ : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بخِلاَفِهِ كَانَ كَافِراً بفِعْلِ ذلِكَ ، اعْتِقَاداً كَانَ أوْ غَيْرَ ذلِكَ) ، وَكَفَّرُوا بذلك كلَّ مَن عصَى اللهَ تعالى بكبيرةٍ أو صغيرة ، وأدَّاهم ذلك إلى الضَّلال والكُفرِ تكفيرِهم الأنبياءَ صلواتُ الله عليهم بصغائرِ ذُنوبهم!
وأما عامَّةُ أهلِ الإسلام قالوا : إن المرادَ بهذه الآية : أنَّ مَنْ جَحَدَ شيئاً مما أنزلَ اللهُ مثلَ ما فعلَهُ اليهودُ من التحريفِ والتبديل وإنكار بعض آياتِ الله تعالى ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة بمنزلةِ الكافر بالكُتب وبالرُّسل كلِّها.
يدلُّ على هذا أنه لا خلافَ أنَّ مَن لم يَقْضِ بينهم بما نزَّلَ اللهُ لا يكفرُ بأنْ لم يحكُمْ ؛ لأنَّ أكثرَ الناس بهذه الصِّفةِ ، والحاكمُ بين الناس في كثيرِ حالاته لا يحكمُ ، فإذا صَلُحَ الخوارجُ أن يَزِيدُوا في ظاهرِ اللفظ فيقولوا معناهُ : (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بمَا نَزَّلَ اللهُ وَحَكَمَ بِخِلاَفِهِ) صَلُحَ لغيرِهم أن يقولوا معناهُ : ومَن لم يحكُمْ بصحَّة ما نزَّلَ اللهُ { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، وهذا عامٌّ في اليهودِ وغيرهم.
(0/0)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجّلَّ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَبَنِي النَّضِيرِ ، كَانَ لِبَنِي النَّضِيرِ مَقْتَلٌ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَالَدِّيَةُ وَالدَّمُ ضِعْفُ مَا كَانَ لِبَني قُرَيْظَةَ) فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناها : وأوحَينا على بني إسرائيلَ في التَّوراة : { أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } يعني أن نفسَ القاتلِ بنفسِ المقتول وَفاءً ، { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } بفَقْئِهِمَا ، { وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ } يُجدع بهِ ، { وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ } يُقطَعُ به { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } يُقلَعُ بهِ ، وخفَّفَ نافعُ الأُذُنَ في جميعِ القرآن ، وثقَّلَهُ غيرهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } ؛ أي يجزئُ فيها القصاصُ ، والقِصَاصُ : عبارةٌ عن الْمُسَاوَاةِ ، وهذا مخصوصٌ فيما يُمكن القِصَاصُ فيه ، فأمَّا ما كان من رضَّةٍ أو هَشْمَةٍ لعظمٍ ، وهذه ركنٌ لا يحيطُ العلمُ به ، ففيه أرْشٌ أو حكومةٌ.
قرأ الكسائيُّ : (وَالْعَيْنُ) رَفعاً إلى آخرهِ ، وكذلك قولهُ (وَالْجُرُوحُ) رفعَهُ ابنُ كثير وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ ، ونصَبُوا سائرَ الحروفِ قبلَهُ ، قالوا : لأَنَّ لَهَا نَظَائِرَ فِي الْقُرْآنِ ؛ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ }[التوبة : 3] و{ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }[الأعراف : 128] و{ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ }[الجاثية : 32]. وقرأ نافعُ وعاصم وحمزة وخلفُ كلها بالنصب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي مَن عفَا عن مَظْلَمَةٍ في الدُّنيا ، فهو كفَّارةٌ للجراحِ لا يؤاخَذُ به في الآخرة ، كما أنَّ القصاصَ كفَّارةٌ له ، وأما أجرُ العَافِي فعلى اللهِ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }[الشورى : 40] وهذا قولُ إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم ، وروايةٌ عن ابنِ عباس.
وَقِيْلَ : معناهُ : فهو كفَّارة للمجروحِ وولِيِّ القتيلِ ، وهو قولُ ابنِ عمرَ والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد. ودليلُ هذا قولهُ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَصَدَّقَ مِنْ جَسَدِهِ بشَيْءٍ كَفَّرَ اللهُ بقَدْرهِ مِنْ ذُنُوبهِ " فمَن عفا كان عفوهُ كفارةً لذُنوبِه يعفو عنه الله ما أسلفَ من ذُنوبه ، وأما الكافرُ إذا عفَا لا يكون عفوهُ كفارةً له مع إقامتهِ على الكفر. وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أُصِيبَ بشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ فَتَرَكَهُ للهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ "
ورُوي : أنَّ رجلاً طَعَنَ رَجُلاً على عهدِ معاويةَ رضي الله عنه ؛ فأعطَوهُ دِيَتَيْنِ على أن يرضَى ، فلم يَرْضَ ، فحدَّث رجُلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ تَصَدَّقَ بدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ بهِ " فَتَصَدَّقَ بهِ. وقال صلى الله عليه وسلم :
(0/0)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ } ؛ الآيةُ أي اتَّبعنا النبيين الذين ذكرنَاهم بعيسى عليه السلام وجعلناهُ ممن يَقْفُوهُمْ ، يقال : قَفَوْتُ أثَرَ فُلانٍ ؛ إذا اتَّبَعْتُهُ. وحقيقةُ التَّقْفِيَةِ : الإتيانُ بالشيءِ في قَفَا غيرهِ.
قولهُ : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } نُصِبَ على الحالِ من عيسَى ، كان مصدِّقاً بالكتاب الذي أنزِلَ قبله وهو التوراةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ أي أعطيناه الإنجيلَ فيه هدى من الضلالة ، وبيان الأحكام ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً } نعتُ الإنجيل الذي أعطيناهُ ذلك كتاباً ، أو ومُوافقاً لما تَقدَّمَهُ ، { مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى } ؛ أي بَياناً لنعتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وصفته ، { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } ؛ أي نَهياً للذين يتَّقون الفواحشَ والكبائر.
(0/0)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَ : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ } ؛ أي ولِيَقْضِ أهلُ الإنجيلِ ، وهذا جزمٌ بالأمرِ ؛ أي قُلنا لَهم : احكُموا بما أنزلَ الله في الإنجيل. قال الكلبيُّ : (بَيَّنَ اللهُ حُكْمَ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي الْمُحْصِنِ ، وحُكْمَ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَالأَطْرَافِ ، وحُكْمَ الْقَطْعِ عَلَى السَّارقِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وفِيمَا أنْزَلَ عَلَى نَبيِّنَا صلى الله عليه وسلم ، وَجَمِيعُ هَذِهِ الْكُتُب يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضاً).
قرأ الأعمش وحمزةُ : (وَلِيَحْكُمَ) بكسر اللام وفتحِ الميمِ ؛ أي آتيناهُ الإنجيلَ لكي يحكُمَ ، وقرأ الباقون بجزمِ اللام والميم. قال مقاتلُ : (أمَرَ اللهُ الرَّبَّانِيِّينَ أنْ يَحْكُمُوا بمَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَأمَرَ الْقِسِّيسِينَ وَالرُهْبَانَ أنْ يَحْكُمُوا بمَا فِي الإنْجِيلِ ، فَكَفَرُواْ وَكَذبُوا مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ؛ وَقَالُواْ : الْعُزَيْرُ ابْنُ اللهِ ، وَقَالُواْ : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ؛ أي مَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ في كُتبهِ على رُسله ، فأُولئِكَ همُ الخارجون عن أمرِ الله.
(0/0)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } ؛ أي وأنزلنا إليكَ يا مُحَمَّدُ القرآنَ بالصِّدق ، ومُوافقاً لِمَا تقدَّم من الكُتب في التوحيدِ ، وبيانِ الحقِّ من الباطلِ ، { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } ؛ أي أميناً ومُؤتَمناً على ما قبلهِ من الكتب. ويقال : شَاهداً على الكُتب كلِّها ، وهذا وصفٌ خاصٌّ للقرآن دون ما سواهُ.
وأصلُ مُهَيْمِنٍ : مُؤْتَمَنٍ ، على وزن مُفَيْعِلٍ من الأمانةِ ، إلاّ أن الهاءَ أبدلت من الهمزةِ كما قالوا : أرَقْتُ الماءَ وهرَقْتُ الماءَ ، وأنَاكَ وَهُنَاكَ ، وهَيْهَاتَ وأيْهَاتَ ، ونظيرُ المهيمنِ : مُسَيطِرٌ. قال الشعبيُّ والكسائي ورواية الكلبي عن ابنِ عباس معنى قوله { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } أي شَاهداً ، قال الشاعرُ : إنَّ الْكِتَابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبيِّنَا وَالْحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابأي شَاهداً. وقال ابنُ جبير وأبو عبيد والحسن : (أمِيناً) ، وهي روايةُ العوفي عن ابنِ عباس. وأمانةُ القرآن أنه أمينٌ على ما قبلَهُ من الكتب وهي فيما أخبرَ به أهل الكتاب في كُتبهم ، فإنْ كان ذَلك في القرآنِ فصَدَّقوا وإلاّ كَذبوا. وقال الضحاكُ : (مُهَيْمِناً ؛ أيْ قَاضِياً). وقال عكرمةُ : (دَالاًّ). وقال ابنُ زيدٍ : (مُصَدِّقاً). وقال الخليلُ : (رَقِيباً وَحَافِظاً).
ويقالُ : هَيْمَنَ فلانٌ على كذا إذا شاهدَهُ وحَفِظَهُ. تقولُ العرب للطائرِ إذا طارَ ، وحوَّلَ وَكْرَهُ ، ورفرفَ على فَرْخِهِ صيانةً له : هَيْمَنَ الطَّيرُ يهَيْمِنُ ، وكذلك يقالُ للطائرِ إذا أرخَى جناحَيهِ يسَعُهما بيضُهُ وفرخُهُ ورفرفَ على فرخهِ صيانةً له. ومنه قيلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ : الْمُهَيْمِنُ ، أي الرقيبُ الرحيمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } ؛ أي فاحكم في الزانِي والزانية بالرَّجم ، ويقال : احكُمْ بين بني قُريظة وبني النضير في الجراحاتِ التي بينهم في التَّسوية بين الفريقين ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ أي لا تتَّبع مرادَهم ، { عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ؛ أي جعلنا لكلِّ نبيٍّ منكم يا معشرَ الأنبياءِ فرائضَ وسُنناً ، والشِّرْعَةُ والشَّرِيعَةُ : هو التخلُّص إلى الجنَّة كشريعةِ الأنْهَار والحياضِ في الدُّنيا ، وهو التخلُّص إلى الشرب والاستقامة ، وأصلُ الشِّرْعَةِ من قولهم : شَرَعَ فلانٌ يَشْرَعُ شُروعاً إذا دخلَ في الأمرِ دخولاً ظاهراً ، ويقالُ : الشِّرْعَةُ والمنهاجُ كِلاَهُمَا الطريقُ ، والطريقُ ها هنا الدِّينُ ، وقد يعبَّرُ عن الشيءِ الواحد بلَفظَين مختلفين تأكيداً للكلامِ.
وقال المبرِّدُ : (الشِّرْعَةُ : ابْتِدَاءُ الطَّرِيقِ ، وَالْمِنْهَاجُ : الطَّرِيقُ الْمُسْتَمِرُّ). ويقالُ : عنى المنهاجِ : الدلائلُ الواضحة التي يستدلُّ بها على الفرائضِ من كتابٍ وسُنَّة ، وَقِيْلَ : معناهُ : لكلٍّ جَعلنا منكم سَبيلاً وسُنَّة. والمنهاجُ : الطريقُ الْمُبينُ الواضحُ.
قال المفسِّرون : عنَى بذلك جميعَ أهلِ الْمِلَلِ المختلفةِ ، جعلَ الله لكل ملَّةٍ شِرعَةً ومنهاجاً ، فلأَهْلِ التوراةِ شريعةٌ ، ولأهلِ الإنجيل شريعةٌ ، ولأهلِ القرآن شريعةٌ ، يُحِلُّ فيها ما شاءَ ويحرِّمُ فيها ما شاءَ ، فالدِّينُ واحدٌ والشريعةُ مختلفة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } ؛ أي لجعلَكم على أمرٍ واحد في دعوةِ جميع الأنبياء ، { وَلَـاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ } ؛ أي ولكن ليختبرَكم ، { فِي مَآ آتَاكُم } ؛ فيما أعطَاكُم من الكتب ، وفيما أمرَكم من السُّنن والشرائعِ المختلفة ، فيتبيَّنُ من يطيعُ اللهَ ومن يعصيه.
(0/0)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } ؛ معناه : أنزَلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ ، وبأن تحكُمَ بين اليهودِ بما أنزلَ اللهُ من رجمِ الزانِي المحصِن ، والقِصاصِ بين الشَّريف والوضيعِ ، ولا تعمَلْ بهواهُم في الْجَلْدِ ، وتركِ الرَّجمِ ، { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } ؛ أي أن يَستَزِلُّوكَ عن بعضِ ما بيَّن اللهُ في كتابهِ.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِير مِثْلَ ابْنِ صُوريَّا وَكَعْب بْنِ أسَدٍ وَغَيْرِهِمْ ، قَالُوا فِيْمَا بَيْنِهِمْ : اذْهَبُوا بنَا إلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ ، فَإنَّمَا هُوَ بَشَرٌ! فَأَتَوْهُ فَقَالُواْ لَهُ : يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ قَدْ عَرَفْتَ أنَّا أحْبَارُ الْيَهُودِ وَأشْرَافُهُمْ وَسَادَاتُهُمْ ، وَإنَّا إنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّهُمْ وَلَنْ يُخَالِفُونَا ، وَإنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْكَ فَاقْضِ لَنَا عَلَيْهِمْ فَنُؤْمِنُ بكَ ، فَأَبَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وَكَانَ حَرِيصاً عَلَى إسْلاَمِهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى { وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ }.).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم } ؛ أي إنْ أعرَضُوا عن حُكمِكَ ، فاعلم إنَّما يريدُ الله أنْ يُعَاقِبَهم بالقتلِ في بني قُريظَةَ ، وَبالْجَلاَءِ إلَى الشَّامِ فِي بَنِي النَّضِيرِ ، { بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } ؛ أي بمَا سلَفَ من ذُنوبهم ، وهو جُحودهم لدِينِكَ ونَعْتِكَ وصفتِكَ والتوراةِ والإنجيلِ ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } ؛ أي خارجون عن الطاعةِ ناقِضُون للعهدِ.
(0/0)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } ؛ قرأ ابنُ عامرٍ (تَبْغُونَ) بالتاء ، وقرأ الباقون بالياءِ. ومعنى الآية : تطلبُون من حُكم الزِّنا والقصاصِ ، وهم أهلُ الكتاب شيئاً فيما لم ينَزِّلهُ الله عليكم كما يفعلهُ أهلُ الجاهلية ، وأيُّ أحدٍ أعدلُ في الحكمِ من الله تعالى. قولهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ؛ أي مَن أيقَنَ بُيِّنَ له عدلُ اللهِ في حُكمهِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ؛ وذلك : أنَّه لَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أحُدٍ خَافَ النَّاسُ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ أنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ ، فَأَرَادَ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى صُحْبَةٌ أنْ يَتَوَلاَّهُمْ وَيُعَاقِدُوهُمْ ، فَنَهَاهُمْ اللهُ عَنْ ذلِكَ. ومعناهُ : يا أيُّها الذين آمَنُوا لا تتَّخذوا اليهودَ والنصارى أحبَّاءَ في العونِ والنُّصرة ، بعضهم على دينِ بعض ، { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ؛ إذا تولاَّهُ لأجلِ كُفرهِ صارَ كافراً مثلَهُ ، وأمَّا إذا تولاَّهُ لا لأجلِ كُفرهِ صارَ مِن جُملة المستحقِّين العذابَ لمخالفةِ أمر الله ولِمُوالاَتِهِ مَن أوجبَ الله عليه أن يُعذِّبَهُ. وقال عكرمةُ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ لِبَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ رَضُوا بحُكْمِ سَعْدٍ : إنَّهُ الذبْحُ).
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي لا يُرشِدُ اليهودَ والنصارى إلى دِينه ، وحُجَّتهِ ما دامُوا على كُفرِهم.
(0/0)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } ؛ وذلك أنَّ المنافقين كانوا يَوَدُّونَ يهودَ عُرَيْنَةَ ونصارَى نَجران ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ ريْفٍ ، وكانوا يَمرُّون بهم فيُقرِضُونَهم ، فقال المنافِقون : كيف نقطعُ مَوَدَّة قومٍ إنْ أصابَتنا سيِّئةٌ ، واحتَجنا إليهم وسَّعُوا علينا في المنازلِ ، وعرَضُوا علينا الثمارَ في القابلِ ، فنَزل قولهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي ترَى يا مُحَمَّدُ الذين في قلوبهم شكٌّ ونفاق يُبادِرون إلى ولايةِ الكفَّار ومعاقدتِهم ، { يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } ؛ شدَّةٌ وجُدُوبَةٌ.
ويقال : أرادَ بهذا القولِ أنَّهم يخشَون أن لا يَتِمَّ أمرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بأن يدورَ الأمرُ على الحالةِ التي هم عليها فيحتاجون إلى الكفَّار. يقول اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } ؛ أي عسَى أن يَظهَرَ المسلمون ، و { عَسَى } من اللهِ واجبةٌ. وسَمَّى النصرَ فتحاً ؛ لأن فيه الأمرِ المغلَقِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } ؛ معناه : أو يقضِي بالخصب لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وأصحابهِ ، ويقال هو أن يُؤْمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإظهار أمر المنافقين وقَتلِهم ، { فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآأَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } ؛ فيصبحَ المنافقون على ما أضمَرُوا في أنفُسِهم من ولايةِ رؤوس اليهود والنصارَى إليهم نَادِمين ، فلا تنفعُهم الندامةُ حينئذٍ.
(0/0)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
قولُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ } ؛ قرأ أهلُ الكوفةِ : (وَيَقُولُ) بالواو والرفعِ على الاستئناف ، وقرأ أهلُ البصرةِ بالنصب والواو عطفٌ على (أنْ يَأْتِيَ) ، وقرأ الباقون برفعِ اللام وحذفِ الواو.
ومعنى الآية : يقولُ المؤمنون المخلِصون عندما أظَهَرَ اللهُ نفاقَ المنافقين : (أهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أقْسَمُوا باللهِ) يعنون المنافقين الذين حلَفُوا بالله أنَّهم لَمَعَكُمْ على دينِكم ، { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ، بَطَلَ ما أظهروهُ من الإيمانِ والأعمال الصالحةِ, { فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } ؛ فصاروا مَغبُونين في الوِزْر والعقوبةِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } تفسيرٌ للقَسَمِ باللهِ تعالى ، فإنَّ مَن يحلفُ باللهِ فقد بذلَ جُهد يَمينهِ ، إذ لا يمينَ أعظمُ من اليمينِ بالله ، ولا حرمةَ أكبرُ من حرمةِ الله. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه : (فَجَاءَ اللهُ بالْفَتْحِ وَنَصَرَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم ، وجاءَ أمرُ الله من عنده بإجلاءِ بني النضيرِ ، وقتل مقاتِلة بني قُريظة وسَبيِ ذراريهم) ، فنَدِمَ المنافقون حين ظهرَ نفاقُهم ، وقال المؤمنون : { أَهُـؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } ؛ قرأ أهلُ المدينةِ والشام (يَرْتَدِدْ) بدالين ، وفي الآيةِ تهديدٌ لِمَن لا ثباتَ له على الإيمانِ. قال ابنُ عبَّاس : (هُمْ أسَدُ وَغَطَفَانَ وَأَنَاسٌ مِنْ كِنْدَةَ ، ارْتَدُّواْ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عَهْدِ أبي بَكْرٍ رضي الله عنه).
وَكَانَ مِنَ الْمُرْتَدِّينَ فِرْقَةٌ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو حَنِيْفَةَ بالْيَمَامَةِ ، وَرَئِيسُهُمْ مُسَيْلَمَةُ الْكَذابُ وَكَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ سَنَةِ عَشْرٍ ، وَزَعَمَ أنَّهُ أشْرِكَ مَعَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النُّبُوَّةِ ، وَكَتَبَ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : " مِنْ مُسَيْلَمَةَ رَسُولِ اللهِ إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ ؛ أمَّا بَعْدُ : فَإنَّ الأَرْضَ نَصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لَكَ! وَبَعَثَ بذَلِكَ رَجُلَيْنِ مِنْ أصْحَابهِ نَهْشَلاً وَالْحَكَمَ بْنَ الطُّفَيْلِ ، وَكَانَا مِنْ سَادَاتِ الْيَمَامَةِ ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أتَشْهَدَانِ أنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ اللهِ ؟ " قَالاَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : " لَوْلاَ أنَّ الرُّسُلَ لاَ تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أعْنَاقَكُمَا " ، ثُمَّ أجَابَ : " مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلَى مُسَيْلَمَةَ الْكَذاب ؛ أمَّا بَعْدُ : فَإنَّ الأَرْضَ للهِ يُورثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ".
ومَرِضَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وتوفِّيَ ، وجعلَ مسيلمةُ يغلو أمرهُ باليمامةِ يوماً بعدَ يومٍ ، فبعثَ أبو بكرٍ رضي الله عنه خالدَ بن الوليدِ في جيشٍ عظيم حتى أهلكَهُ الله على يدي وحشيٍّ قاتِلِ حمزةَ بن عبدِ المطلب بعد حربٍ شديدة ، فكان وحشيُّ يقول : (قَتَلْتُ خَيْرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَتَلْتُ شَرَّ النَّاسِ فِي الإسْلاَمِ).
ومن المرتدِّين أيضاً طلحةُ بن خُوَيلِد رئيسُ بني أسدٍ ، وكان قد ادَّعى النبوةَ أيضاً في حياةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقاتلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه بعد وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعثَ إليه خالدَ ابن الوليدِ ، فقاتلَهُ قتالاً شديداً ، وهربَ طلحةُ على وجههِ نحوَ الشامِ ، فلجأَ إلى بني حنيفةَ فأجاروهُ ، ثم أسلَمَ بعد ذلك وحسُنَ إسلامهُ.
وارتدَّ أيضاً بعد وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرٌ من العرب منهم : فَزَارَةُ ورئيسهم عُيينة بن حصين ، وبنو سُليم وبنو يربوعَ ، وطائفةٌ من بني تَميم ، ورأسُوا عليهم امرأةً يقال لها سَجَاحُ بنت المنذر ، وادَّعتِ النبوةَ ثم زوَّجت نفسَها من مسيلمةَ الكذاب.
وارتدَّت كندةُ ورئيسهم الأشعثُ بن قيسٍ ، وارتدَّت بنو بكرِ بن وائل بأرضِ البحرين ، وكَفى اللهُ المسلمين أمرَ هؤلاء المرتدِّين ، ونصرَ دينَهُ على يدِ أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه ، وأخبارُ أهلِ الردَّة طويلةٌ مشهورة فلا نطوِّلُ بذكرِها الكتابَ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } ؛ قال عليُّ والحسن وقتادة : (هُمْ أبُو بَكْرٍ وَأصْحَابُهُ) ، وقال مجاهدُ : (هُمْ أهْلُ الْيَمَنِ).
(0/0)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مُسْلِمِي أهْلِ الْكِتَاب : " عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ وأصْحَابهِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ ، بُيُوتُنَا قَاصِيَةٌ ، وَلاَ نَجِدُ مُتَحَدِّثاً دُونَ هَذا الْمَسْجِدِ ، وَإنَّ قَوْمَنَا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ لَمَّا رَأَوْنَا قَدْ آمَنَّا باللهِ وَرَسُولِهِ وَتَرَكْنَاهُمْ وَدِينَهُمْ ، أظْهَرُوا لَنَا الْعَدَاوَةَ ، وأَقْسَمُواْ أنْ لاَ يُنَاكِحُونَا وَلاَ يُوَاكِلُونَا وَلاَ يُخالِطُونَا ، وَلاَ نَسْتَطِيعُ أنْ نُجَالِسَ أصْحَابَكَ لِبُعْدِ الْمَوْضِعِ.
فََبَيْنَمَا هُمْ يَشْكُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ فِيْهِ مِنْ قَائِمٍ وَرَاكِعٍ وَسَاجِدٍ ، إذا بمسْكِينٍ يَطُوفُ يَسْأْلُ النَّاسَ ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ ، فَقَالَ لَهُ : " أعْطَاكَ أحَدٌ شَيْئاً ؟ " قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : " مَاذا ؟ " قَالَ : خَاتَمُ فِضَّةٍ ، قَالَ : " مَنْ أعْطَاكَهُ ؟ " قَالَ : ذاكَ الرَّجُلُ ، فَإذا هُوَ عَلِيٌّ رضي الله عنه ، قَالَ : " عَلَى أيِّ حَالٍ أعْطَاكَهُ ؟ " قَالَ : أعْطَِانِيَهُ وَهُوَ رَاكِعٌ ، فَقَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ عَلَى عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ وَأصْحَابهِ ".
وألبَسَهُمْ بما أبدلَهم اللهُ به من ولايتهِ وولاية رسولهِ وولاية المؤمنين ، ومعنى الآيةِ : إنَّما حافِظُكم وناصرُكم اللهُ ورسوله والمؤمنون الذي يُقيمون الصلاةَ بحقوقها ويؤتُون الزكاةَ في حالِ رُكوعهم. وفي الآيةِ دليلٌ على إباحةِ العمل اليسيرِ في الصَّلاة ، فلما قرأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليهم الآية قالَ عبدُ الله بن سلام وأصحابه : (رَضِينَا باللهِ وَبرَسُولِهِ وَبالْمُؤْمِنِينَ أوْلِيَاءً).
" ورُوي أن عبدَالله بن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَان ذاتَ يومٍ جالساً عند شَفير زَمْزَمَ يقولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، إذا أقْبَلَ رَجُلٌ مُتَعَمِّمٌ بعِمَامَةٍ قَالَ : فَهَلاَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لاَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ألا قَالَ ذلِكَ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : سَأَلْتُكَ باللهِ مَنْ أنْتَ ؟ فَكَشَفَ الْعِمَامَةَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ : أيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ الْبَدْريُّ ، أنَا أبُو ذرٍّ الْغَفَّاريُّ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بهَاتَيْنِ وَإلاَّ فَصُمَّتَا ، وَرَأيْتُهُ بهَاتَيْنِ وَإلاَّ فَعَمِيَتَا ، يَقُولُ عَلَى قَائِدِ الْبُرْدَةِ وَقَاتِلِ الْكَفَرَةِ : " مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذلَهُ ".
أمَا إنِّي صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً مِنَ الأَيَّامِ صَلاَةَ الظُّهْرِ ، فَسَأَلَ سَائِلٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمْ يُعْطِهِ أحَدٌ ، فَرَفَعَ السَّائِلُ رَأسَهُ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ : اللَّهُمَّ اشْهَدْ أنِّي سَأَلْتُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم يَوْماً مِنَ الأيَّامِ فَلَمْ يُعْطِنِي أحَدٌ ، وَكَانَ عَلِيٌّ راكِعاً فَأَوْمَأَ إلَيْهِ نَحْوَهُ بخِنْصَرِهِ الْيُمْنَى وَكَانَ فِيهَا خَاتَمٌ ، فَأَخَذ السَّائِلُ الْخَاتَمَ مِنْ خِنْصَرِهِ وَذَلِكَ بحَضْرَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلاَتِهِ رَفَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأسَهُ إلَى السَّمَاءِ قَالَ :
(0/0)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ أي من تخيَّر طاعةَ الله ورسوله ومحبَّة المؤمنين ، { فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ } ؛ فإن جُند اللهِ ، { هُمُ الْغَالِبُونَ }.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ } ؛ وذلك أنَّ اليهودَ كانوا إذا قامَ بلالٌ للأذان يضحكون ، ويستهزِئون ويقولون : قامَ الغرابُ لا قامَ! وإذا قامَ المؤمنون للصَّلاة قالوا : قد قامُوا لا قاموا! وإذا رأوهم رُكَّعاً وسُجَّداً استهزَأوا بهم ، وتغامَزُوا فيما بينهم تَنفيراً للناسِ عن الصَّلاة وعن الداعِي إليها.
ومعنى الآية : لا تتَّخذوا اليهودَ والنصارى الذين يتخذون { دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } أي استهزاءً وسُخريةً ، يسخَرون منكم إذا أذنَ مُؤذِّنُكم ، ويضحَكون من صلاتِكم إذا صلَّيتُم.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَالْكُفَّارَ } ؛ فيه قراءَتان : النصبُ والخفضُ ، فمَن نصبَهُ فمعناهُ : لا تتَّخذوا الكفارَ ، { أَوْلِيَآءَ } ، وأراد بهم مُشركي العرب ، ومن خفضَهُ فمعناهُ : مِن الذين أوتوا الكتابَ ومن الكفار. وقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي اخشَوهُ في ولايةِ الكافرين إنْ كُنتم مُؤمنين باللهِ وبرسوله.
(0/0)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً } ؛ أي إذا نادَيتم الناسَ إلى الصَّلاة بالأذانِ والإقامة اتَّخذوها سُخرِيَةً واستهزاءً وضَحِكاً وبَاطلاً ، وَ { ذلِكَ } ؛ الاستهزاءُ واللعب ، { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ؛ ثوابَ الله تعالى في إقامةِ الصَّلاة ، ولا عِقابَهُ في إضاعتهِ.
ورُوي : ((أنَّ يَهودياً كان إذا سمعَ المؤذِّنَ يقولُ : (أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ) قالَ : أحرقَ اللهُ الكاذبَ ، فدخلَ خادمهُ البيتَ بنارٍ ، فوقعت شرارةٌ منها في البيتِ فالتهبَ ، واحترقَ اليهوديُّ هو وأهلهُ ، واستُجيب دعاؤهُ على نفسهِ)).
وفي الآيةِ دليلٌ أنَّ للصلاة أذاناً يدعو به الناسَ إليها ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ }[الجمعة : 9]. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " ثَلاَثَةٌ لاَ يَكْتَرِثُونَ مِنَ الْحِسَاب ، وَلاَ تُفْزِعُهُمْ الصَّيْحَةُ ، وَلاَ يُحْزِنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ : حَامِلُ الْقُرْآنِ الْعَامِلُ بهِ ، يَقْدُمُ عَلَى اللهِ سَيِّداً شَرِيفاً ، وَمُؤَذِّنٌ أذنَ سَبْعَ سِنِينَ لاَ يَأْخُذُ عَلَى أذانِهِ طَعَاماً ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أحْسَنَ عِبَادَةَ رَبهِ وَأدَّى حَقَّ مَوْلاَهُ "
وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أذنَ سَنَةً مِنْ نِيَّةٍِ صَادِقَةٍ ، أجْلِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ ، فَقِيلَ لَهُ : إشفَعْ لِمَنْ شِئْتَ " وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه : قالَ ابنُ عبَّاس : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أذنَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ " وقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " الْمُؤَذِّنُ الْمُحْتَسِبُ كَالشَّهِيدِ الْمُتَشَحِّطِ فِي دَمِهِ مَا دَامَ فِي أذانِهِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابسٍ ، فَإذا مَاتَ لَمْ يُدَوِّدْ فِي قَبْرِهِ " قال عمرُ رضي الله عنه : لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّناً لَكَمُلَ أمْرِي ، وَمَا بَالَيْتُ أنْ لاَ أتنصب لِقِيَامٍ وَلاَ لِصِيَامٍ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ "
(0/0)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ : يا أهلَ الكتاب هل تطعَنون عَلينا إلاَّ لإيمانِنا باللهِ تعالى والقُرآن ، { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } ؛ أي إنَّما كَرِهتُم إيمانَنا وأنتم تعلمون أنَّنا على حقٍّ ؛ لأنَّكم فسَقتُم بأنْ أقَمتُم على دِينكم لمحبَّتكم الرئاسةَ وكسبكم بها الأموالَ ، فهل تَدرون شيئاً يُعاب علينا إلاَّ هذا ؟ فَلِمَاذا تطعَنون.
وأما قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } ، قال بعضُهم : أرادَ بالأكثرِ كلَّهم ، وأكثرُ الشيءِ يقومُ مقامَ الكلِّ. وَقِيْلَ : إنما ذكرَ لفظ الأكثرِ ؛ لأن الآيةَ خرجت مخرجَ التلطُّف للدعاءِ إلى الإيمانِ ، وكان في سابقِ علم اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنَّ فيهم من يُسلِمُ ، وكان في القومِ من يطعنُ بنفسهِ في دين الإسلام ، وإنْ كان سكتَ عن طعنِ الطاعنين.
(0/0)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ } ؛ وذلك أنَّ اليهودَ قالوا للمُسلمين : ما نعلمُ أهلَ دينٍ أقلَّ حظاً منكم في الدُّنيا ، ونرجو أنْ تَكونُوا في الآخرةِ! فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لهؤلاء اليهودِ : هل أخبرُكم بسوءٍ مِن الذي قُلتم جزاءً ، { مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } ؛ أي أبعدَهُ عن رَحمتهِ ، وسَخِطَ عليه وهم اليهودُ ، فيكون موضعُ { مَن لَّعَنَهُ } رَفعاً على معنى (هُوَ) ويجوز أن يكون خَفضاً بَدلاً من (شَرٍّ) على معنى : هل أنَبِّئُكُم بمَن لعنَهُ اللهُ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } ؛ أي مَسَخَ بعضَهم قردةً في زمنِ داوُدَ عليه السلام بدُعائه عليهم حين اعتَدَوا في السَّبت واستحلُّوهُ ، ومسخَ بعضَهم خنازيرَ في زمنِ عيسى عليه السلام بعدَ أكلِهم من المائدة حين كفَرُوا بعدَ ما رأوا الآياتِ البيِّنة. ورُوي : أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون لليهودِ : (يَا إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فنَكَّسُوا رؤُوسَهم وفضَحَهم اللهُ تعالى.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } ؛ فيهِ عشرُ قراءاتٍ ، قرأ العامة (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) بفتحِ العين والباءِ والدالِ على الفعلِ ؛ ومعناها : وجعَلَ منهم مَن عَبَدَ الطاغوتَ ؛ أي بالغَ في طاعةِ الشَّيطان والكُهَّان ورؤساءِ المعصية. وقرأ ابنُ مسعود : (وَعَبَدُوا الطَّاغوتَ) أي ومَن عَبَدَ الطاغوتَ ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وحمزةُ : بفتحِ العين وضمِّ الباء وكسر التاء من الطاغوتِ ، وهو لغةٌ في عبَدَ ، مثل سَبْع وَسَبُع. وقرأ أبو جعفرٍ الفرَّاء : (وَعُبِدَ الطَّاغُوتُ) على الفعلِ المجهول ، وقرأ الحسنُ : (وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ) على الواحدِ.
وقرأ يزيدُ الأسلمي : (وَعَابدَ الطَّاغُوتِ) بالأف ، وقرأ ابنُ عباس : (وَعَبيدَ الطَّاغُوتِ) بالجمعِ ، وقرأ أبو واقدٍ الليثيِّ : (وَعُبَّادَ الطَّاغُوتِ) مثل كُفَّار ، وقرأ عَوْنُ العقيلي وإبَانُ بن ثعلبٍ : (وَعُبَّدَ الطَّاغُوتِ) مثل رَاكِعْ ورُكَّع ، وقرأ عبيدُ بن عمير : (أعْبَدَ الطَّاغُوتِ) مثل كلب وأكلَبٍ ، وقرأ الأعمشُ : (وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ) بضمِّ العين والباء وكسرِ التاء من الطاغوتِ. قال الشاعرُ : انْسُبِ الْعَبْدَ إلَى آبَائِهِ أسْوَدُ الْجِلْدِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } فإن قِيْلَ : كيف معنى هذا ليس في الإيمانِ شرٌّ وضلالٌ ؟ قِيْلَ : سِمَةُ المشركين شرٌّ مَكاناً لا يوجبُ أن يكون في الإيمانِ شرٌّ وتطيُّر. قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً }[الفرقان : 24] ومعلومٌ أنه لا خيرَ في مستقرِّ الكُفَّار ومُنقَلَبهم ، فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قال المسلمون ليَهُودَ : (يَا إخْوَانَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازيرِ) فَسَكَتُوا وأفحِمُوا ، وفيهم يقولُ الشاعرُ : فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ إنَّ الْيَهُودَ إخْوَةُ الْقُرُودِ
(0/0)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ؛ ومعناهُ : وإذا جاءَكم المنافقون من أهلِ الكتاب قالوا آمَنَّا بكَ ، ونحن نعرفُ نَعْتَكَ وصِفتَكَ ، يقولُ الله : وقد دخَلُوا بالكفرِ وهم قد خرَجُوا به ؛ اي دخَلُوا عليكم ، وخرجوا من عندِكم كافرين في السرِّ كما دخَلُوا خرجوا ، وقوله : (وَهُمْ) للصِّلة والتأكيدِ ؛ { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } ؛ أي بما كانوا يُضمِرون في قلوبهم من الكُفرِ والنفاقِ ، فأعلمَكم به وأطلعَكم عليه.
(0/0)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ؛ أي وترَى يا مُحَمَّدُ كَثيراً من اليهودِ والمنافقين يُبادرون في المعصيةِ والاعتداء والظُّلم ، { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } ؛ وأكلِ الرِّشوَةِ والحرامِ في تغيير الأحكامِ ، { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ من المعصيةِ ومجاوزة الحدِّ.
(0/0)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ؛ معناهُ : هل ينهاهم العامِلون بالعلمِ والعُلماء الذين هم دونَهم عن قولِ الشِّرك والكذب على الله ، وأكل الحرامِ والرِّشوة في الحكمِ. قال الحسن : (الرَّبَّانِيُّونَ عُلَمَاءُ النَّصَارَى ، وَالأحْبَارُ عُلَمَاءُ الْيَهُودِ). وَيُقَالُ : هُوَ كُلُّهُ فِي الْيَهُودِ ، وقرأ أبو واقدٍ الليثي : (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرِّبِّيُّونَ) كقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ }[آل عمران : 146].
وقولهُ : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } أي بئسَ ما يصنعُ علماؤهم من كتمانِهم الحقَّ ، وتركِهم النهيَ عن المعصيةِ. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا والضحاك : (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ أشَدُّ الآيَاتِ فِي تَخْوِيفِ مَنْ تَرَكَ الأَمْرَ بالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : " مَا مِنْ رَجُلٍ يُجَاورُ قَوْماً فَيَعْمَلُ بالْمَعَاصِي بَيْنَ أظْهُرِهِمْ ، فَلاَ يَأْخُذُونَ عَلَى يَدَيْهِ ، إلاَّ أوْشَكَ أنَّ اللهَ تَعَالَى يَعُمُّهُمْ مِنْهُ بعِقَابٍ "
(0/0)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي فِنْحَاصَ بْنِ عَازُورَاءَ الْيَهُودِيِّ وَأصْحَابهِ ، كَانَ اللهُ تَعَالَى قَدْ بَسَطَ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ ، فَكَانَ مِنْ أخْصَب النَّاسِ ، وأكْثَرِهِمْ خَيْراً وَأمْوَالاً ، فَلَمَّا عَصَوا اللهَ تَعَالَى فِي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَبَالَغُوا فِي تَكْذِيبهِ ، كَفَّ اللهُ عَنْهُمْ بَعْضَ الَّذِي كَانَ بَسَطَ عَلَيْهِمْ ، فَعِنْدَ ذلِكَ قَالُوا : يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). أي قالُوا على سبيل الْهُزْءِ : إنَّ إلهَ مُحَمَّدٍ الذي أرسلَهُ ممسكةٌ يده عنانَ الرزقِ لا يبسطُ علينا كما كان يبسطُ. وهذا اللفظُ في كلامِ العرب عبارةٌ عن البخلِ ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ }[الإسراء : 29] أي لا تمسكها عن الإنفاقِ.
قال بعضُهم : إنما قالَ هذه المقالةَ فِنْحَاصُ ولم ينهَهُ الآخرون ، ورَضُوا بقولهِ فأشرَكهم اللهُ فيها ، وأرادوا باليدِ العطاءَ ، لأن عطاءَ الناسِ وبذلَهم في الغالب بأيديهم ، فاستعملَ الناسُ اليدَ في وصفِ الناسِ بالجودِ والبُخل. ويقالُ للبخيلِ : جَعْدُ الأَنَامِلِ ؛ مقبوضُ الكفِّ ؛ مكفوفُ الأصابعِ ؛ مغلولُ اليدَين ، قال الشاعرُ : كَانَتْ خُرَاسَانُ أرْضاً إذ يَزِيدُ بهَا وَكُلُّ بَابٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ مَفْتُوحُفَاسْتُبْدِلَتْ بَعْدَهُ جَعْداً أنَامِلهُ كَأَنَّمَا وَجْهُهُ بالْخَلِّ مَنْضُوحُوقولهُ تعالى : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } جوابٌ عن كلامِهم على طريقِ المقابلَة في الازدواجِ ؛ أي أمسِكَتْ أيديهم عن الإنفاقِ في الخيرِ ، وجُعِلُوا بُخلاءَ واليهودُ أبْخَلُ الناسِ ، ولا أمَّةٌ أبخلُ منهم. ويقال : معنى (غُلَّتْ أيْدِيهمْ) أي غُلَّت إلى أعناقِهم في نار جهنم ، ويقال : لا يخرجُ يهوديٌّ من الدنيا إلاّ وتصيرُ يدهُ مغلولةً إلى عنقه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } أي عُذِّبوا بالجزيةِ ، وطُردوا عن رحمةِ الله تعالى لقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ؛ عبارةٌ عن الجودِ وكثرة العطيَّة لِمَن يشاءُ ، كما يقالُ : فلان بَسْطُُ اليدَين ، وبَاسِطُ اليدين إذا كان جَواداً يعطي يَمنَةً ويَسرَةً ، وعن ابنِ عباس : (أنَّ مَعْنَاهُ : بَلْ نِعْمَتَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ، وأرادَ نعمةَ الدينِ والدنيا ، وَقِيْلَ : نعمتهُ الظاهرةُ ونعمته الباطنة. وَقِيْلَ : أراد بالتثنيةِ في هذا للمبالغةِ في صفة النعمةِ. قال الأعشى : يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ وَكَفٌّ إذا مَا ضَنَّ بالْمَالِ تُنْفِقُوهذا كلُّه لأنَّ اليهود قصَدُوا تبخيلَ اللهِ ، فحوسِبُوا على قدر كلامهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } ؛ دليلٌ على أن المرادَ بجواب اليهود بيانُ بسطِ النعمة ، وأنَّ اللهَ يرزقُ كيف يشاءُ بحسب المصالحِ ، فربَّما كان الصلاحُ في أن يعتَبروا ، وربَّما كان في أن يُوسِّع ، ولا يخلو حُكمه عن الحكمةِ.
واعلم أن اليدَ في اللغة تتصرفُ على وجوهٍ ؛ منها : الجارحةُ وهي معروفةٌ ، وتعالَى اللهُ عن الجوارحِ. ومنها : النعمةُ كما يقال : لفلانٍ علَيَّ يدٌ ؛ أي نعمةٌ. ومنها : القوةُ كما قال تعالى : { أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ }
(0/0)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } ؛ أي ولو أنَّهم عمِلُوا بما في التوراةِ والإنجيل ، ولم يكتُموا ما علمُوا من ذكرِ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فيها ، وَعمِلُوا بـ ؛ { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } ؛ يعني القرآنَ الذي أنزل على كافَّة الناسِ ، { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ؛ أي لوسَّعنا عليهم الرزقَ بإنزالِ المطر من السماءِ ، وإخراجِ النبات من الأرضِ والشجر والنباتِ. وفي الآيةِ بيانُ أن التُّقَى سببٌ لتوسعةِ الرزق ، واستقامةِ الأمر في الدُّنيا والآخرة ، ونظيرُ هذا قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ }[الأعراف : 96] وقولهُ تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ }[الطلاق : 2-3].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } ؛ أي من أهلِ الكتاب أمَّةٌ عادلة ، يعني جماعةٌ عادلة في القولِ ، وهم الذين أسلَمُوا منهم ، وهم ثمانيةٌ وأربَعون رجُلاً : النجاشيُّ وأصحابهُ من النَّصارى ، وبَحِيرَا الراهبُ وأصحابهُ ، وسَلمان الفارسيُّ وأصحابهُ ، وعبدُالله بن سَلام وأصحابهُ ، وجَبْرٌ مولَى قريشٍ ، { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } ؛ أي كثيرٌ من أهلِ الكتاب ساءَ ما يعمَلون من كتمانِ نعت النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتكذيبهِ ، وهم : كعبُ بن الأشرفِ وأصحابهُ وسوف تسوؤُهم أعمالهم يومَ القيامةِ إذا رأوا وبَالَها.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَـاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ؛ خِطَابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمرٌ له أن يبلِّغَ الناسَ جميعَ ما أنزل إليه من ربه من القرآنِ. قَوْلُهُ تَعَالََى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } ؛ معناهُ : إن لم تبلِّغْ آيةً مما أنزلَ إليك ، أو حُكماً أمِرتَ بتبليغهِ إليهم ، فكأنَّكَ لم تبلِّغْ شَيئاً من الرسالةِ ؛ أي يحصلُ لك الثوابُ الموعود على تبليغِ الرسالة من قبل ، وإنَّ كتمانَ آية واحدةٍ تحبطُُ ثوابَ ما بلَّغَ من الرسالةِ.
يقالُ : إنَّ في هذه الآيةِ دَليلاً على أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر بشيءٍ خاص تأنَّى قَليلاً عن تبليغهِ حَذراً وخوفاً أن يبتليَهُ اللهُ ، كما ابتلَى قبلَهُ إبراهيمَ بالنار وإسماعيلَ بالذبحِ وزكريَّا ويحيى بالقتلِ ، وكان صلى الله عليه وسلم عَازماً على فعلِ ما أُمر به مع خوفهِ ، فقيلَ له إن لم تفعَلْ ما أمرت به من دعوتِهم إلى الإسلامِ ، وعبتَ دينَهم فقد بطلَ جميعُ ما فعلتَ من قبلِ التبليغِ ، كأنَّك لم تبلِّغْ شيئاً من الرسالةِ ، ولهذا قرأ نافعُ وابن عامر وعاصم : (رِسَالاَتِهِ) بلفظ الجمعِ ، وقد يُذكر الواحد ويراد به الجماعةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ؛ أمانٌ من اللهِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم كيلاَ يخافَ ولا يحذرَ ، كما رُوي في الخبرِ : " أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا دَخَلَ الْمَدِيْنَةَ قَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ : يَا مُحَمَّدُ إنَّا ذوُو عُدَدٍ وَنَاسٍ ، فَإنْ لَمْ تَرْجِعْ قَابَلْنَاكَ ، وإنْ رَجَعْتَ زَوَّدْنَاكَ وَأكْرَمْنَاكَ. فَكَانَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَحْرِسُهُ مِائَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَار يَبيتُونَ عِنْدَهُ ، وَيُخْرُجُونَ مَعَهُ خَوْفاً مِنَ الْيَهُودِ ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } عَلِمَ أنَّ اللهَ يَحْفَظُهُ مِنْ كَيْدِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ ، فَقَالَ لِلْمُهَاجِرِيْنَ وَالأنْصَارِ : " انْصَرِفُوا إلَى رِجَالِكُمْ ، فَإنَّ اللهَ قَدْ عَصَمَنِي مِنَ الْيَهُودِ " فَكَانَ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذلِِكَ يَخْرُجُ وَحْدَهُ فِي أوَّلِ اللَّيْلِ وَعِنْدَ السَّحَرِ إلَى أوْدِيَةِ الْمَدِيْنَةِ وَحَيْثُ مَا شَاءَ ، فَعَصَمَهُ اللهُ مَعَ كَثْرَةِ أعْدَائِهِ وَقِلَّةِ أعْوَانِهِ ، فَعَاشَ حَمِيداً وَمَاتَ سَعِيداً صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } ؛ أي لا يُرْشِدُهم إلى دينهِ وحُجَّته ، ولا يهدِيهم إلى طريقِ الجنة في الآخرةِ.
(0/0)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي لستُم على شيءٍ من الدِّين والثواب إلاّ أن تُقرُّوا بما في التوراةِ والإنجيل من نعتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ومبعَثهِ ونبوَّتهِ وسائرِ الأحكام التي فيها ، وتُقِرُّوا بالقرآنِ الذي أنزلَ على كافَّة الناس من ربهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } ؛ قد ذكرنَا تفسيرَهُ ، { فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ؛ أي ليس عليكَ إلاَّ تبليغُ الرسالةِ فلا تحزَنْ عليهم إن كذبوكَ ؛ أي لا تحزَنْ على هلاكِهم إذا أهلكنَاهم.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ؛ معنى الآيةِ : إنَّ الذين آمَنُوا بألسِنَتِهم ولم تؤمِنْ قلوبُهم ، والذين مَالُوا عن الإسلامِ وسُمُّوا باليهوديَّة ، والذين صَبَتْ قلوبُهم ، وهم صِنْفٌ من النصارَى يقال لهم السَّابحون يحلقون أوساطَ رُؤوسِهم.
ويقال : الصَّابئُ هو الخارجُ من ملَّة فيها أمةٌ عظيمة إلى ملَّة فيها شرذمةٌ قليلة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ } أي من آمَنَ من هذه الفرقِ بالله وبجميعِ ما أنزل اللهُ ، والبعثِ بعد الموتِ ، وعَمِلَ صالحاً فيما بينَهُ وبين اللهِ ، فلا خوفٌ عليهم ، حيث يخافُ أهلُ النار ، ولا هم يحزَنون حيث يحزنُ أهل النار.
وأما الرفعُ في قولهِ : (وَالصَّابئُونَ) : فقال الكسائيُّ : هو نسَقٌ على المضمرِ في (هَادُوا) تقديرهِ : هادُوهم والصائبون. وقال الخليلُ وسيبويه والبصريُّون قوله : { وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ } مرفوعٌ بالابتداءِ ؛ تقديرهُ : إنَّ الذين آمَنُوا ومن آمَنَ مِن الذين هَادُوا والصابئون والنصارَى ، مَن آمَن بالله واليوم الآخرِ. وَقِيْلَ : إنما رُفِعَ لأنه عُطِفَ على (الَّذِينَ) قبل دخولِ (إنَّ) ؛ لأنه لا يُحِدثُ معنى ، كما تقولُ : زيدٌ قائمٌ ، وإنَّ زَيداً قَائِمٌ معناهُما واحدٌ. وقرأ الحسنُ : (إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتُهُ) برفع التاءِ.
وأما نفيُ الحزنِ عن المؤمنين ها هنا ، فقد ذهبَ بعض المفسِّرين إلى أنه لا يكون عليهم حزنٌ في الآخرةِ ولا خوفٌ ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ }[فصلت : 30].
وقال بعضُهم : إنَّ المؤمنين يخافون ويحزَنون لقولهِ تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ }[الحج : 2] وقولهُ تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ }[عبس : 34-35]. وقال صلى الله عليه وسلم : " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاسَوْأتَاهُ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " أمَا سَمِعْتِ قَوْلَهُ تَعَالَى : { لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } " قالُوا : وإنما نفَى اللهُ تعالى في هذه الآيةِ الحزنَ عن المؤمنين ؛ لأن حزنَهم لِما كان يعرض الزوالَ ، ولم يكن له بقاءٌ معهم لم يعتدَّ بذلك.
(0/0)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي أخَذنا عهدَ بني إسرائيلَ على أن يعمَلُوا بما في التوراةِ والإنجيلِ ، وكل نبيٍّ يبعثهُ الله إلى قومهِ فآمِنوا به ، فذلك أخذُ ميثاقِهم ، { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ } ؛ أي كلَّما جاءَهم رسولٌ بما لا يوافقُ هوَاهم ولا ما هُم عليهِ ، { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } ؛ أي كذبوا جماعةً من الرُّسل مثلَ عيسى ومُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمَا ، { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ؛ مثلَ زكريَّا ويحيى عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ.
(0/0)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ أي ظنُّوا ألاَّ يكون عَذاباً وعقوبةً ، وَقِيْلَ : ابتلاءً بسبب قتلِهم الأنبياء وتكذيبهم الرسُلَ. من قرأ (يَكُونَ) بالنصب فمعنى (أنْ يَكونَ) ، ومن قرأ بالرفعِ فمعناهُ : (أنَّهُ لاَ يَكُونُ) أي فحَسِبُوا أنَّ فعلَهم غيرُ فاتنٍ لهم ، { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } ؛ عن الحقِّ ؛ أي عَمِلُوا معاملةَ الأعمى الذي لا يُبصر ، والأصمَّ الذي لا يسمعُ ، فصاروا كالعُمْيِ والصُّمِّ. { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ؛ أي تجاوزَ عنهم بأن أرسلَ إليهم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم يُعلِمُهم أنه قد تابَ عليهم إن آمَنُوا وصدَّقُوا فلم يؤمِنْ أكثَرُهم ، ويقال : دَانُوا بعد ذلك وتابُوا من الكفرِ فقَبلَ اللهُ توبتَهم ، فلمَّا بعثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وجاءَهم ما عرَفُوا كفَرُوا بهِ ، فذلك قولهُ : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ } أي عَمُوا عن الهدَى ، وصَمُّوا عن الحقِّ بعد أنِ ازدادَ لهم الأمرُ وضوحاً بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } ؛ بدلٌ من الواوِ في قوله (عَمُوا) كأنه قالَ : عَمِيِ وصَمَّ كثيرٌ منهم ، وهذا كما يقالُ : جاءَني قومُكَ أكثرُهم ، وقوله : { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } يقتضي في المرة الثانيةِ أنَّهم لم يكفُروا بأكملِهم ، وإنما كفَرَ أكثرُهم ، كما قالَ تعالى : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ }[آل عمران : 113] وقال تعالى : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ }[المائدة : 66].
ويُحكى عن بعضِ أهل اللُّغة جوابَ جمعِ الفعل متقدِّماً على الاسمِ ، كما يقالُ : أكَلُونِي البراغيثُ ، ويجوزُ أن يكون (كَثِيرٌ) خبرُ مبتدأ محذوفٍ ؛ معناهُ : العميُ والصمُّ كثيرٌ منهم.
وقوله : { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ؛ أي بما تعمَلون من التكذيب ونقضِ الميثاق وتحريف الكلام.
(0/0)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } ؛ نزَلت في نصارَى نَجران السيِّدِ والعاقب ومَن معهُما ، وهم الماريعقوبيَّة ؛ قالوا : إنَّ اللهَ هو المسيحُ بن مريمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ } ؛ إعلامٌ من اللهِ تعالى أن المسيحَ دعاهم إلى توحيدِ الله تعالى ، وأعلمَهم أنَّ شيئاً حالهُ في أمه مربوبٌ كحالهم ، وأعلمَهم أن مَن أشركَ مع اللهِ شيئاً غيرَهُ فهو كافرٌ من أهلِ النار ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي وحِّدوهُ ، فهو خالِقي وخالقُكم ورازقي ورازقُكم. { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ } ؛ أن يدخلَها ، { وَمَأْوَاهُ النَّارُ } ؛ ومصيرهُ في الآخرة النارُ ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } ؛ أي ما للمشرِكين من مانعٍ يمنعُهم من عذاب الله.
ثم بيَّن اللهُ كُفرَ الفريقِ الآخر من النَّصارى ، وهم المرقُوشيَّة ، فقال عَزَّ وَجَلَّ : { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ؛ أي أحدُ ثلاثةٍ : أبٌ ؛ وابنٌ ؛ وروحُ قدسٍ ، { وَمَا مِنْ إِلَـاهٍ إِلاَّ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ } ؛ أي المنافقون ؛ { عَمَّا يَقُولُونَ } ؛ من مقالتِهم الأُولى والثانية ، { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي ليُصِيبَنَّ الذين أقَامُوا على مقالةِ الكفر ، { مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ وجيعٌ يخلصُ وجعه إلى قلوبكم.
(0/0)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ استفهامٌ ، ومعناها الآمرُ ؛ أي تُوبوا إلى اللهِ عن النصرانيَّة ، واستغفروهُ من هذه المقالةِ الشَّنيعة ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ } ؛ لِمَن تابَ وآمَنَ ، { رَّحِيمٌ } ؛ بمَن ماتَ على التَّوبة.
(0/0)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } ؛ أي ما المسيحُ إلاَّ رسولٌ من رُسُلِ اللهِ ، فإنَّ إبراءَ الأَكْمَهِ والأبرصِ ، وإتيانهِ بالمعجزات كما أتَى موسَى بالمعجزاتٍ ؛ أي الآياتِ ، وكما أتَى إبراهيمُ عليه السلام وغيرهما من الأنبياءِ ، فلو وَجبت عبادةُ الأنبياءِ لظهور المعجزاتِ عليه لوجبت عبادةُ سائرِ الأنبياء واتخاذُهم آلهةً بسبب المعجزات ، { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } ؛ أي كَثيرَةُ الصِّدق والتصدُّقِ ، وذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام أتَاها فقالَ لها : إنَّمَا أنَا رَسُولُ رَبكِ ؛ فصدَّقَتْهُ ، كما قال تعالى : { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا }[التحريم : 12].
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ } ؛ بيانُ أنَّهما كانا مُحدَثَين محتاجَين ، وهذا احتجاجٌ بيِّنُ على القومِ في أنه لم يكن إلَهاً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَهُ في الآيةِ بصفاتٍ تُنافِي الآلهيَّة ، منها : أنَّهُ رسولٌ بعدَ أن لم يكُنْ ، ومنها : أنه كسائرِ الرُّسل فيما ظَهرت منه وعليه ، ومنها : أنه مولودٌ من أمٍّ ، ومنها : أنَّهما كَانا يعِيشان بالغداءِ كما يعيشُ سائر الآدميِّين ، وكيف يكون إلَهاً مَن تكون حياتهُ بالحيلةِ ولا يقيمهُ إلاّ أكلُ الطعامِ.
ومنها ما قالوا : إنَّ أكلَ الطعامِ في الآية كنايةٌ عن قضاءِ الحاجة ؛ لأن الذي يأكلُ الطعامَ لا بدَّ له من قضاءِ الحاجة. فكلُّ هذه الصفاتِ دلالةٌ على كونهِ عَبداً مخلوقاً مربُوباً مستحيلاً أن يكون إلَهاً قَديماً ، تَعَالَى اللهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ } ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف نبيِّنُ لهم العلاماتِ في أمر عيسَى أن لم يكُنْ إلَهاً ولا ابناً له ولا ثالثَ ثلاثةٍ ، { ثُمَّ انْظُرْ } ؛ يا مُحَمَّدُ ، { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } ؛ أي مِن أين يُصرَفون عن الحقِّ الواضح إلى الباطلِ.
وَالإفْكُ : هو الصَّرْفُ ، كلُّ شيء صَرَفْتَهُ فهو مأْفُوكٌ ، تقولُ : أفَكْتُهُ عَنْهُ أفَكَهُ إفكاً ، ويسمَّى الكذبُ إفْكاً ؛ لأنه يصرفُ عن الحقِّ.
(0/0)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لهؤلاء النَّصارى ومَن سَلَكَ طريقتَهم واتَّخذ غيرَ اللهِ إلهاً : أتَعبُدون من دونِ الله ما لا يقدرُ على دفعِ ضُرٍّ عنكم ولا جرَّ نفعٍ إليكم ، { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ لِمقالتِكم فِي عيسى عليه السلام وأمِّه ، { الْعَلِيمُ } ؛ بكم وبعقوبتِكم.
(0/0)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ يَـاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } ؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ : لا تتجَاوَزُوا الحدَّ في دينِكم إلى غيرِ الحقِّ فتقولوا : هل فعلَ أحدٌ مثلَ فعلِ عيسى ؟ وتجعَلُوا للهِ وَلداً ؟ فإنه ليس بحقٍّ ، ويقالُ : هذا خطابٌ لليهودِ والنصارى ؛ أي لا ترفَعُوا عيسَى عليه السلام عن درجةِ النبُوَّة إلى درجةِ الرُّبوبيَّة ، ولا تَحُطُّوهُ عن درجتهِ فتقولوا : إنه مولودٌ على غيرِ رُشدهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } ؛ أي لا تتَّبعوا شَهواتِ أوليائِكُم ورُؤسَائِكُمْ ، ولا تُؤثِرُوا الهوَى على البيان والبرهان ، { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } ؛ من السَّفلة الذين أطَاعُوهم ، { وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ } ؛ وأصَرُّوا على ضلالتِهم عن قصدِ الطريق.
(0/0)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي طُرِدَ الذين كَفَرُوا من بني إسرائيلَ وبُوعِدُوا من رحمةِ الله ، { عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ } ؛ أي بدُعائه عليهم حين اعتَدوا في السَّبتِ ، فمسخَهم اللهُ قردةً. { وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } ، أي ولُعِنُوا بدُعاء عيسى حين كفَرُوا بعد ذلكَ بالمائدةِ فمسخَهم اللهُ خَنازيرَ ، { ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } ؛ ذلك اللَّعنُ والتعذيبُ بعصيانِهم واستحلالِهم المعاصي وقتلِهم الأنبياءَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ بغيرِ حقٍّ.
ثم بيَّن اللهُ تعالى سببَ المعصية والكفرِ ، فقال تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } ؛ أي لا ينهَى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ يعملونَهُ ، واصطَلَحوا على الكفِّ عن نَهي المنكرِ ، { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ؛ ودخولُ اللامِ في (لَبئْسَ) للقسَمِ والتوكيدِ.
(0/0)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلََّ : { تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ ترَى يا مُحَمَّدُ كَثيراً من اليهودِ يُوالون مُشرِكي العرب على مُعاداتِكَ ومحاربتِكَ ، يعني كعبَ بن الأشَرفِ وأصحابَهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : ترَى كثيراً من المنافقين يتولُّون اليهودَ ، { لبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } ؛ أي بئْسَ ما عمِلُوا لأنفسهم حين ، { أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } ؛ وموضعُ (أنْ سَخِطَ) نَصْبٌ على تأويلِ بئسَ الشيءُ ذلك لإن أكسبَهم السُّخْطَ ، فانتصبَ (أنْ) بلامِ (كَيْ) ، ويجوزُ أن يكون موضعهُ رَفعاً على إضمار (هُوَ) تقديرهُ : هُوَ أنْ سَخِطَ اللهُ عليهم ، { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } ؛ أي مُقيمون دائمون.
(0/0)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله } ؛ معناهُ : لو كان اليهودُ يصدِّقون بوحدانيَّة اللهِ تعالى : { والنَّبِيِّ } ، وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، { وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } ؛ أي والقرآنِ الذي أنزل إليه ؛ { مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ } ، ما اتَّخذوا كفارَ قُرَيشٍ وسائرَ عَبَدَةِ الأوثانِ أحبَّاءَ في العونِ والنُّصرة على حربِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم { وَلَـاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ } ؛ من اليهودِ ؛ { فَاسِقُونَ } ؛ خارجون عن الطاعةِ ، ناقِضُوا العهدِ.
(0/0)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ؛ أي لتجدنَّ يا مُحَمَّدُ أشدَّ الناسِ عداوةً لكَ وللذين آمَنُوا اليهودَ ، وهم يهودُ بني قُريظَة وبني النضير وفدك وخيبرَ ، كانوا أشدَّ اليهودِ عداوةً للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. ورُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَا خَلاَ يَهُودِيَّانِ بمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بقَتْلِهِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ } يعني مُشركي العرب كانوا في العداوةِ مثلَ اليهودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى } ؛ لم يرِدْ جميعَ النَّصارى مع ما هم فيه من عداوةِ المسلمين ، وتخريب بلادِهم وهدمِ مساجدهم وقتلِهم وأسرِهم وأخذِ مصاحفهم. وإنما نزَلت هذه الآيةُ في النجاشيِّ وأصحابهِ. قال ابنُ عبَّاس وسعيدُ بن جبير والسديُّ : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ ، وَكَانَ النَّجَاشِيُّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّاً قَبْلَ ظُهُور الإسْلاَمِ ، ثُمَّ أسْلَمَ هُوَ وَأصْحَابُهُ).
قال المفسرون : ائتمَرَتْ قريشُ أن يَفِتنُوا المسلمين عن دِينهم ، فوثَبتْ كلُّ قبيلةٍ على مَن فيهم مِن المسلمين ، يؤذونَهم ويعذِّبونَهم فافتتنَ كثيرٌ ، وعَصَمَ اللهُ من شاءَ منهم ، ومنَعَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعمِّه أبي طالبٍ ، فلمَّا رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابهِ ، ولم يقدِرْ على مَنعِهم ولم يُؤمَرْ بالجهادِ ، أمرَهم بالخروجِ إلى أرضِ الحبشةِ ، وقَالَ : [إنَّ بهَا مَلِكاً صَالِحاً لاَ يَظْلِمُ وَلاَ يُظْلَمُ عِنْدَهُ أحَدٌ ، فَاخْرُجُوا إلَيْهِ حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لِلمُسْلِمِينَ فَرَجاً] ، وأرادَ به النجاشيَّ واسمهُ أصْحَمَةُ ، وهوَ بالحبشيَّة عطيَّة ، وإنما النجاشيُّ اسمُ الملكِ ، كقولهِم : كِسرَى وقَيصَرَ.
فخرجَ إليه سِرّاً أحدَ عشر رجلاً وأربعُ نسوةٍ ، وهم عثمانُ بن عفَّان وامرأتهُ رُقَيَّةُ بنتُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، والزُّبير ، وعبدُالله بن مسعودٍ ، وعبدُالرحمن بن عَوفٍ ، وأبو حُذيفة بن عقبةَ وامرأتهُ سَهلَةُ بنت سُهيل ، ومصعبُ بن عُمَير ، وأبو سَلَمَة وامرأتهُ أمُّ سَلمة ، وعثمانُ بن مظعونٍ ، وعامرُ بن رَبيعة وامرأتهُ لَيلَى بنتُ جَثْمَةَ ، وحَاطبُ بن عمرَ ، وسُهيل بن بيضاءَ. فخرَجُوا إلى البحرِ وأخَذُوا سفينةً بنصفِ مثقالٍ إلى الحبشةِ ، وذلك في رَجب في السَّنة الخامسةِ من عهد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، وهذه الهجرةُ الأُولى.
ثم خرجَ جعفرُ بن أبي طالبٍ وتتابعَ المسلمون ، وكان جميعُ مَن هاجرَ إلى الحبشةِ من المسلمين اثنينِ وثَمانين رجُلاً سوَى النِّساء والصبيان ، فلما عِلمَتْ قريشُ بذلك وجَّهت عمرَو بن العاصِ وصاحبَهُ بالهدايا إلى النجاشيِّ وإلى بَطَارقَتِهِ ليردُّوهم إليهم ، فعصمَهم اللهُ تعالى ، وقد ذكرنا هذه القصَّة في سورةِ آل عِمرانَ.
فلمَّا انصرفَا خَائِبَين أقامَ المسلمون هناك بخيرِ دار وأحسنِ جوار إلى أن هاجرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعَلاَ أمرهُ ، وذلك في سَنة ستٍّ من الهجرةِ.
(0/0)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (هُمْ أرْبَعُونَ رَجُلاً قَدِمُوا مَعَ جَعْفَرَ ابْنِ أبي طَالِبٍ ، وَاثْنَانِ وَثَلاَثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الشَّامِ ، فَلَمَّا قَرَأ عَلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ عَرَفُوهُ ، فَرَقُّوا لَهُ فَفَاضَتْ أعْيُنُهُمْ وَلَمْ يَسْتَكْبرُواْ أنْ يَدْخُلُواْ فِي دِينِهِ).
ومعنَى الآيةِ : وإذا سَمِعوا القرآنَ ترَى الدمعَ يسيلُ من أعيُنِهم بمعرفتهم الحقَّ من صفةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونعتهِ في كتابهم ، { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا } ؛ أي صدَّقنا بوحدانيَّتِكَ وكتابكَ ورسولِكَ ، { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } ؛ أي مَع مَن شَهِدَ من أنبيائِكَ ومؤمنِي عبادِكَ بأنَّكَ واحدٌ لا إلهَ غيرك ؛ أي اجعَلنا في جُملتهم.
قال ابنُ عبَّاس : (فَلَمَّا رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ لاَمُوهُمْ عَلَى الإيْمَانِ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآن وَقَالَوا لَهُمْ : تَرَكْتُمْ مِلَّةَ عِيسَى عليه السلام وَدِينَ آبَائِكُمْ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } ؛ أي نحن نرجو أن يُدخِلَنا ربُّنا في الآخرةِ مع صالِحي أمَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(0/0)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ } ؛ أي جازَاهم اللهُ بأنْ أوجبَ لهم الجنةَ في الآخرةِ بقولهم (رَبَّنَا آمَنَّا) ، وقولِهم : (وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ باللهِ). { جَنَّاتٍ } ؛ أي بساتين ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ تجري من تحت شجرِها ومساكنها وغُرَفِها أنْهَارُ الماءِ والعسل والخمرِ واللبن ، { خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي ذلك الثوابُ جزاءُ الموحِّدين المخلصين.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } أي الذين جَحَدوا وكذبوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ فماتوا على ذلك ، فـ { أُوْلَـئِكَ } ، هم ، { أَصْحَابُ } ، أهل ، { الْجَحِيمِ } ؛ النار الشَّديدة الوقودِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } ؛ قال المفسِّرون : (جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً ، فَذَكَرَ النَّارَ وَوَصَفَ الْقِيَامَةَ ، فَرَقَّ النَّاسُ وَبَكَواْ ، فَاجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ أبُو بَكْرٍ ؛ وَعُمَرَ ؛ وَعَلِيٌّ ؛ وَعَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ؛ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ الْجَمْحِيُّ ؛ وَالْمِقْدَادُ ؛ وَعَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ ؛ وَأبُو ذرٍّ ؛ وَسَالِمُ مَوْلَى أبي حُذَيْفَةَ ؛ وَسَلْمَانُ الْفَارسِيُّ ؛ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ؛ وَمَعْقِلُ بْنُ مُصَرِّفٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، تَوَاثَقُوا فِي دَار عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ أنْ يَصُومُوا النَّهَارَ وَيَقُومُوا اللَّيْلَ ، وَيَرْفُضُوا الدُّنْيَا ، وَيَسِيحُوا فِي الأَرْضِ ، وَيَجُبُّوا مَذاكِيرَهُمْ وَيَعْتَزِلُوا النِّسَاءَ ، وَلاَ يَأْكُلُواْ لَحْماً وَلاَ دَسَماً ، وَيَلْبَسُوا الْمُسُوحَ. فَبَلَغَ ذلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَنْزَلَ اللهُ فِيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : لا تحرِّموا على أنفُسِكم طيِّبات ما أحلَّ اللهُ لكم من الطعام والشراب واللباسِ والجماع ، ولا تظلِمُوا أنفسكم بقطعِ المذاكيرِ ، { وَلاَ تَعْتَدُواْ } ؛ أي لا تُجاوزوا حدودَ اللهِ بتحريم حلالهِ ، فإن مُحَرِّمَ ما أحلَّ اللهُ ، كمُحِلِّ ما حرَّمَ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ؛ أي لا يرضَى عمل المعتدِين على أنفُسِهم المتجاوزين حدودَ الله.
(0/0)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَـالاً طَيِّباً } ؛ أي كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ من الطعامِ والشراب حلالاً أحلَّهُ الله لكم ، { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ }. وَقِيْلَ : " أنَّهُ لما بلغَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خبرُهم ؛ أتَى دَارَ عُثْمَانَ بْنَ مَضْعُونٍ فَلَمْ يَجِدْهُ ، فَقَالَ لامْرَأةِ عُثْمَانَ بْنِ مَضْعُونٍ - أمِّ حَكِيمٍ بنْتِ أمَيَّةَ وَاسْمُهَا الْخَوْلَةُ وَكَانَتْ عَطَّارَةً - : " أحَقٌّ مَا بَلَغَنِي عَنْ زَوْجِكِ وَأصْحَابهِ ؟ " فَكَرِِهَتْ أنْ تَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ وَكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ خَبَرَ زَوْجِهَا ؛ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنْ كَانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فَلَمَّا جَاءَ عثْمَانُ أخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ بذلِكَ ، فَعَنِيَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذلِكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ. فَقَالَ عليه السلام : " أمَّا أنَا ؛ فَلَمْ أوْمَرْ بذلِكَ ، إنَّ لأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقّاً ؛ فَصُومُوا وَأفْطِرُواْ ؛ وَقُومُواْ وَنَامُواْ ، فَأَنَا أقُومُ وَأنَامُ ، وَأصُومُ وَأفْطِرُ ، وَآكُلُ اللَّحْمَ وَالدَسَمَ ، وآتِي النِّسَاءَ ، مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ".
ثُمَّ جَمَعَ النَّاسَ وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ : " مَا بَالُ قَوْمٍ حَرَّمُوا النِّسَاءَ وَالطَّعَامَ الطَّيِّبَ وَالنَّوْمَ ، أمَّا أنَا فَلاَ آمُرُكُمْ أنْ تَكُونُوا قِسِّيسِينَ أوْ رُهْبَاناً ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ وَالنِّسَاءِ ، وَاتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ ، فَإنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الصَّوْمُ ، وَرَهْبَانِيَّتَهُمُ الْجِهَادُ ، فَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُواْ وَأقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَاسْتَقِيمُوا لِيَسْتَقِيمَ لَكُمْ ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بالتَّشْدِيدِ ، شَدَّدُواْ عَلَى أنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ ".
وعن سعيدِ بن المسيِّب ؛ قال : " جَاءَ عُثْمَانُ بْنُ مَضْعُونٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فََقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بأَنْ أخْتَصِي ، قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! إنَّ اخْتِصَاءَ أمَّتِي الصِّيَامُ]. قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أتَرَهَّبَ فِي رُؤُوسِ الْجِبَالِ ، قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانَ! فَإنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الْجُلُوسُ فِي الْمَسَاجِدِ لانْتِظَار الصَّلاَةِ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ. قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ صَدَقَتَكَ يَوْمٌ بيَوْمٍ ، وَتَعِفُّ بنَفْسِكَ وَعِيَالِكَ ، وَتَرْحَمُ الْمَسَاكِينَ وَالْيَتِيْمَ ، فَتُعْطِيهِمَا أفْضَلُ مِنْ ذلِكَ ". قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّ نَفْسِي تُحَدَّثُنِي أنْ أطَلِّقَ امْرَأتِي خَوْلَةَ. قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْهِجْرَةَ فِي أمَّتِي مَنْ هَجَرَ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ ، أوْ هَاجَرَ إلَيَّ فِي حَيَاتِي ، أوْ زَارَ قَبْرِي بَعْدَ وَفَاتِي ، أوْ مَاتَ وَلَهُ امْرَأةٌ أوْ امْرَأتَانِ أوْ ثَلاَثٌ أوْ أرْبَعٌ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنْ نَهَيْتَنِي أنْ لاَ أطَلِّقَهَا فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أغْشَاهَا. قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ الْمُسْلِمَ إذا غَشِيَ امْرَأتَهُ أوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ رَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ ، كَانَ لَهُ وَصِيْفَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَإنْ كَانَ مِنْ وَقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَدٌ ، فَمَاتَ قَبْلَهُ كَانَ لَهُ فَرْطاً وَشَفِيعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإنْ مَاتَ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ نُوراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ آكُلَ اللَّحْمَ. قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنِّي أحِبُّ اللَّحْمَ وَآكُلُهُ إذا وَجَدْتُهُ ، وَلَوْ سَأَلْتُ رَبي أنْ يُطْعِمَنِيَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ لأَطْعَمَنِيَهُ ". قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لاَ أمَسَّ الطَّيبَ. قَالَ : " مَهْلاً يَا عُثْمَانُ! فَإنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام أمَرَنِي بالطَّيب غَبّاً " ، وَقَالَ : " يَوْمَ الْجُمُعَةِ لاَ تَرْكَهُ ، يَا عُثْمَانَ لاَ تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي ، فَإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ ، صَرَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَجْهَهُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".
(0/0)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } ؛ قال ابن عبَّاس : (هُوَ أنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ باللهِ فِي الشَّيْءِ يَرَى أنَّهُ كَذلِكَ). وقالت عائشةُ : (هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ : لاَ وَاللهِ ، وَبَلَى واللهِ ، يَصِلُ بهِ كَلاَمَهُ وَلاَ يَعْقِدُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ). واللَّغْوُ في اللغة : هو الكلامُ الساقطُ الذي لا يعتدُّ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ } ؛ أي بما وكَّدتم الأيمان. قرأ أهلُ الحجاز وحفص وأبو عمرو : (عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ ، وقرأ أهلُ الكوفة إلاَّ حفصاً : بالتخفيف (عَقَدْتُمْ). ومعناه : أن يحِلفَ الرجلُ على أمرٍ في المستقبل ليفعلَهُ ثم لا يفعلهُ ، أو يحلفَ أن لا يفعلَهُ ثم يفعلهُ. فمَن قرأ (عَقَّدْتُمْ) بالتشديدِ فمعناهُ المبالغة والتأكيدُ. وفائدتهُ أن يعتقدَها في قلبهِ ، ولو عقدَها في أحدِهما دون الآخرِ لم يكن مُعتقداً ، وهو كالتعظيمِ.
وكان أبو الحسنِ الكرخيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يقول : (قِرَاءَةُ التَّشْدِيدِ لاَ تَحْتَمِلُ إلاَّ الْعَقْدَ بالْقَوْلِ ، وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ تَحْتَمِلُ عَقْدَ الْقَلْْب ، وَهُوَ الْعَزِيْمَةُ وَالْقَصْدُ إلَى الْقَوْلِ). ويحتملُ عقد اليمينِ قَولاً ؛ يقال : عقدتُ على أمرِ كذا ؛ إذا عزمتُ عليه.
وَقِيْلَ : الأصحُّ أن المرادَ بالعقدِ القولُ ؛ لأنه لا خلافَ بين الأئمَّة أن القصدَ من اليمينِ لا يتعلقُ به وجوبُ الكفَّارة ، وإن وجوبَها متعلقٌ باللفظِ دون القصدِ. ويحتملُ أن يكون معنى التشديدِ : أنه متى أعادَ اليمينَ على وجه التكرار ، وهو يريدُ التكرارَ لا يلزمهُ إلا كفارةٌ واحدة.
وقرأ أهلُ الشام : (عَاقَدْتُمْ) بألف وهو من المعاقَدة ، وهو أن يحلفَ الرجلُ لصاحبهِ على مسأَلته ، أو يحلفَ كلُّ واحد منهما لصاحبهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَفَّارَتُهُ } ؛ أي كفَّارة ما عقَّدتُم من الأيمانِ عند الحنثِ ، { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ؛ أي مِنْ أعدل مَا تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ غداءً وعشاء ولا وكَسَ ولا شَطَطَ.
وَقِيْلَ : معناهُ : من أوسَطهِ في الشَّبع ، ولا تفرطُ في الأكلِ ، ولا يكون دون المغنى عن الجوعِ ، فإن أرادَ أن يُطعِمَهم الطعامَ أعطَى لكلِّ مسكين نصفَ صاعٍ من حنطة عند أصحابنا ، هكذا رُوي عن عمرَ وعليٍّ وعائشة. وقال الشافعيُّ ومالك : (مُدّاً بمُدِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم).
وَالْمُدُّ : رَطْلٌ وَثُلُث ، وهكذا رُوي عن زيدِ بن ثابت وابنِ عبَّاس وابن عمرِو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أجمعين. وأما غدَاؤهم وعشاؤهم فلا عبرةَ بمقدار الطعام ، إلا أن يكون فيهم صبيٌّ صغير لا يستوفِي الأشياءَ يسيراً فلا يعتدُّ به حينئذ ، وإنما قال : يُغَدِّيهِمْ ويُعَشِّيهم ؛ لأن ذلك أوسطُ طعامِ الأهل ؛ لأن أكثرَ الأكلِ ثلاثُ مرات ، وأقلُّه وجبة ، والغالبُ الأوسط ؛ والأوسطُ الغالب مرَّتان. وقال سعيدُ بن جبير : (يُعْطِي لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ ؛ مُدٌّ لِطَعَامِهِ وَمُدٌّ لإدَامِهِ).
وسُئل شريح عن الكفَّارة ؛ فقال : (الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ). فقال له السائلُ : رأيتَ إن أطعمتُ الخبزَ واللحم ، فقال : (ذَلِكَ أرْفَعُ طَعَامِ أهْلِكَ وَطَعَامِ النَّاسِ).
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ } ؛ الْمَيْسِرُ : هو القِمَارُ كلُّه. والأَنْصَابُ : هي الأحجَارُ ؛ كانوا ينصبونَها ويعبدونَها. والأَزْلاَمُ : هي الأَزْلاَمُ التي كانوا يخيلونَها عند المعزمِ على الْمَسِيرِ.
نَهى اللهُ عن هذه الأشياءِ ، وحرَّمَها بأبلغِ أسباب التحريمِ ؛ لأنه تعالى سَمَّاها كلها رجْساً ، والرِّجْسُ : هو الشيءُ المستقذرُ النَّجِسُ ، الذي يرتفع " في القُبحِ " ، ذكرَهُ بالفتحِ ؛ يقال : رَجَسَ الرَّجُلُ يَرْجِسُ ، ورَجِسَ يَرْجِسُ. والرَّجْسُ بفتحِ الراءِ : شدَّةُ الصوتِ ، ورعدٌ رَجَّاسٌ إذا كان شديدَ الصوتِ. وسُميت هذه المعاصي رجْسًا ؛ لوجوب اجتنابها كما يجبُ اجتناب الشيءِ المستقذر.
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } ؛ أي من تزيينهِ ؛ لأنه هو الداعِي إليه والمرغِّبُ فيه والمرنِّنُ له في قُلوب فَاعليه. وقولهُ تعالى : { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ أمرٌ باجتنابهِ وهو تَركُه بَاطناً ، وظاهر الأمرُ على الوجوب. وروي عن عثمانَ بن عفَّان رضي الله عنه أنه قالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ تَعَالَى يُجْمِعُ الْخَمْرَ وَالإيْمَانَ فِي قَلْب مُؤْمِنٍ أبَداً " وقالَ صلى الله عليه وسلم : " مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابدِ الْوَثَنِ ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهَا ، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ "
وقالَ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا سَقَاهُ اللهُ مِنْ سُمِّ الأَسَاوِدِ ، وَسُمِّ الْعَقَارب ، إذا شَرِبَهُ تَسَاقَطَ لَحْمُ وَجْهِهِ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أنْ يَشْرَبَهَا ، فَإذا شَرِبَهَا يُفَسَّخُ لَحْمُهُ بالْجِيفَةِ ، يَتَأَذى بهِ أهْلُ الْمَوْقِفِ. وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ مِنْ شُرْب الْخَمْرِ كَانَ حَقّاً عَلَى اللهِ أنْ يَسْقِيَهُ بكُلِّ جُرْعَةٍ شَرِبَهَا فِي الدُّنْيَا شَرْبَةً مِنْ صَدِيدِ أهْلِ جَهَنَّمَ "
وقال صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ وَسَاقِيهَا ؛ وَشَارِبَهَا ؛ وَبَائِعَهَا ؛ وَمُبْتَاعَهَا ؛ وَعَاصِرَهَا ؛ وَمُعْتَصِرَهَا ؛ وَحَامِلَهَا ؛ وَالْمَحْمُولَةَ إلَيْهِ ؛ وآكِلَ ثَمَنِهَا " وقالَ صلى الله عليه وسلم : " اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ ، فَإنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَ أنْ حَرَّمَهَا اللهُ عَلَى لِسَانِي ، فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُزَوَّجَ إذا خَطَبَ ، وَلاَ يُصَدَّقَ إذا حَدَّثَ ، وَلاَ يُشَفَّعَ إذا شَفَعَ ، وَلاَ يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمَانَةٍ ؛ فَمَنِ ائْتَمَنَهُ عَلَى أمَانَةٍ فَاسْتَهْلَكَهَا فَحَقٌّ عَلَى اللهِ تَعَالَى أنْ لاَ يُخْلِفَ عَلَيْهِ "
(0/0)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } ؛ وذلك أنَّ مَن شربَ الخمر وسَكِرَ زال عقلهُ وارتكبَ القبائحَ ، وربَّما عَرْبَدَ على جُلسائه ، فيؤدِّي ذلك إلى العداوةِ والبغضاء ، وكذلك القمارُ يؤدِّي إلى ذلك. قال قتادةُ : (كَانَ الرَّجُلُ يُقَامِرُ غَيْرَهُ عَلَى مَالِهِ وَأهْلِهِ ، فَيَقْمِرُهُ وَيَبْقَى حَزِيناً سَلِباً ، فَيُكْسِبُهُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ لِذهَاب مَالِهِ عَنْهُ بغَيْرِ عِوَضٍ وَلاَ مِنَّةٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ } ؛ أي يريدُ الشيطان أن يَصرِفَكم عن طاعةِ الله وعن الصَّلوات الخمسِ على ما هو معلومٌ في العادةِ من أحوال أهلِ الشَّراب والقِمار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ؛ معناهُ : انْتَهُوا عنهُما ، وهذا نَهيٌ بألطفِ الوجُوهِ ؛ ليكون أدعى إلى تنهاكما ، كما قال تعالى : { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ }[هود : 14] معناه : أسلِمُوا. فلمَّا نزَلت هذه الآيةُ قالوا : (انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ). فأنزلَ الله تعالى هذه الآيةَ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ } ؛ أي أطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ في تركِ جميعِ المعاصي عُموماً ، واحذرُوا شُربَ الخمرِ وتحليلها وسائرِ المعاصي ، { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } ؛ أي أعرَضتُم عن طاعةِ الله وطاعة الرسولِ ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } ؛ أي تبليغُ الرسالة عن اللهِ بأوامره ونواهيه بلُغَة تعرفونَها. وأما التوفيقُ والخذلان والثواب والعقابُ ، فإلى الله عَزَّوَجَلَّ.
فلمَّا نزلَ تحريمُ الخمرِ والميسر قال الصحابةُ : (يَا رَسُولَ اللهِ! فَكَيْفَ بإخْوَانِنَا الَّذِينَ مَاتُوا وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ؟) حتى قال المهاجِرون : (يَا رَسُولَ اللهِ! قُتِلَ أصْحَابُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَاتُوا فِيْمَا بَيْنَ بَدْر وأحُدٍ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ؛ فَمَا حَالُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ؟) فأنزل اللهُ قَولَهُ تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ } ؛ أي فيما شَرِبوا من الخمرِ ، { إِذَا مَا اتَّقَواْ } ؛ الشِّركَ ، { وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ } ؛ وصدقوا واجتنبوا الخمرَ والميسرَ بعد تحرِيمها ، { وَآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ } ؛ ما حرَّمَ الله كلَّهُ ، { وَّأَحْسَنُواْ }.
وَقِيْلَ : معناه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا - بالله ورسوله - وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني الطاعاتِ (جُنَاحٌ) أي حرَجٌ ومَأْثَمٌ (فيمَا طَعِمُوا) من الحرامِ وشربوا من الخمرِ قبل تحريمها ، وقبل العلمِ بتحريمها إذا ما اجتَنبوا الكفرَ والشِّركَ وسائرَ المعاصي فيما مضى ، { وَآمَنُوا } أي وصدَّقوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ { وَعَمِلُواْ } الطاعات { ثُمَّ اتَّقَواْ } شربَ الخمرِ بعد التحريم { وَآمَنُوا } أي أقَرُّوها بتحريمها { ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ } أي ثم دَاوَمُوا على ذلك وضَمُّوا إلى ذلك الإحسانَ في العملِ.
وَقِيْلَ : أرادَ بالاتقاءِ الأول : اتقاءُ جميع المعاصِي فيما مضَى ، وأراد بالثانِي : اتقاءُ المعاصي في المستقبلِ ، وأراد بالثالثِ : اتقاءُ ظُلمِ العباد في المعاملاتِ. وَقِيْلَ : أرادَ بقوله : (إِذَا مَا اتَّقَواْ وَآمَنُواْ) إذا ما اجتَنبوا شُربَ الخمرِ بعد تحريمها وصدَّقوا بتحريمها ، { ثُمَّ اتَّقَواْ } سائرَ المعاصي ، وأقرُّوا بتحريم ما يحدُثُ تحريمهُ من بعد مجانبته ، ثم جَمعوا بين اتِّقاء المعاصي وإحسانِ العمل والإحسان إلى الناسِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ } ؛ أي ليعاملنَّكم اللهُ معاملةَ المختبرِ ليجازيَكم على ما يظهرُ منكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ } ؛ اختلَفُوا فيهُ ؛ فقال بعضُهم : (مِن) ها هنا للتبعيضِ ، وأرادَ بذلك صيدَ البرِّ دون صيد البحرِ ، وصيدَ الإحرامِ دون الإحلالِ.
وقال بعضهم : (مِن) ها هنا للجنس كقوله تعالى : { فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ }[الحج : 30] معناه : اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الذي هو وثَنٌ. وقال بعضُهم : أرادَ بقوله : (بشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ) بما يكون من جزاءِ الصَّيد وإن لم يكن صَيداً كالبيضِ والفرخ والريشِ ، والآية شاملةٌ لجميع هذه المعانِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } ؛ أي تأخذونَهُ بأيديكم من فراخِ الطَّير وصغار والوحش والبيضِ ، وما تصيبهُ رماحُكم من كبار الصَّيد التي لا تُصاد باليدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } ؛ أي ليميِّزَ اللهُ مَن يخافهُ ممن لا يخافه في السرِّ بينه وبين اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ } ؛ أي من تجاوزَ الحدَّ في أخذ صيدِ البرِّ مع الإحرامِ ، وأخذ الصيد في الحرمِ بعد البيان له والنهيِ عنه ، { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ يعني التعزيرَ والكفَّارة في الدُّنيا ؛ يفرق الضربُ على أعضائهِ كلِّها ما خلاَ الوجهَ والرأس والفرجَ ، فيضربُ ضَرباً وجيعاً ويؤمر بالكفَّارة ، ويكون هذا المتعدِّي مأخوذاً بعذاب الآخرة إن ماتَ قبل التوبة.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَـاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ؛ رُوي أن هَاتين الآيتَين نزلَتا بالحديبيةِ ، وكان أصحابُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مُحرِمين ، وكان الصيدُ من الوحشِ والطير يغشَى رحالَهم. وفي قوله { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وجهانِ ؛ أحدُهما : وأنتم مُحرِمون بحجٍّ أو عُمرة ، والثاني : وأنتم داخِلون في الحرَمِ.
وقولهُ تعالى : { لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ } دليلٌ على أن كلَّ ما يقتلهُ المحرِمُ من الصيدِ لا يكون مِلكاً ؛ لأن اللهَ تعالى سَمَّى ذلك قَتلاً ، ولا يجوزُ أكلُ المقتولِ وإنما يجوز أكلُ المذبوحِ على شرط الذكاة.
والصيدُ في اللغة : اسمٌ لكل مُمتَنعٍ متوحِّش ، فلا يفرقُ الحكمِ في وجوب الحلِّ بين المأكولِ منه وبين غيرهِ ، إلا أنه رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ : الْحَيَّةُ ؛ وَالْعَقْرَبُ ؛ وَالْغُرَابُ ؛ وَالْفَأْرَةُ ؛ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " وأرادَ بالكلب العقور : الذئبَ على ما وردَ في بعض الرواياتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ؛ روي أنه نزلَ في كعب بن عمرٍو ؛ عُرِضَ له حمارُ وحشٍ فطعنَهُ برُمحهِ فقتلَهُ ، ولم يكن عَلِمَ بنُزولِ التحريمِ.
واختلَفُوا في صفةِ العمل الموجب للجزاءِ والكفَّّارة في قتلِ الصيد ، فقال الأكثَرون من أهلِ العلم : سواءٌ قَتَلَ الْمُحرِمُ الصَّيدَ عَمداً أو خطأًَ فعليه الجزاءُ ، وجعلوا فائدةَ تخصيصِ العمل بالذِّكر في هذه الآيةِ ما في نَسخِها بقوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ؛ لأن المخطئَ لا يجوزُ أن يلحقه الوعيدُ.
والقول الثانِي : ما رُوي عن قتادةَ وطاووس وعطاء ؛ أنَّهم قالوا : (لاَ شَيْءَ عَلَى الْخَاطِئ) وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاس.
والقولُ الثالث : وهو قولُ مجاهدٍ والحسن : (أنَّ الْمُرَادَ بهِ إذا قَتَلَهُ نَاسِياً لإحْرَامِهِ ، وَحَصَلَ الْقَتْلُ عَمْداً). وهذا القولُ يقتضي أن غيرَ العامدِ الذاكر لإحرامهِ لا يؤمَرُ بالكفَّارة ، ولكنَّ اللهَ يعاقبهُ في الآخرةِ على ما فعلَهُ. وعلى هذا التأويلِ قالوا : إنَّ معنى قولهِ : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } أي عادَ إلى هذا الفعلِ من بعد العلمِ بالنهي ، كان عقوبتهُ النقمة ينتقمُ الله منه.
وقال آخَرون : هو القتلُ عَمداً وهو ذاكرٌ لإحرامه ، فحُكم عليه في العمدِ والخطأ الكفارةُ والجزاء ، وهو اختيارُ الشافعيِّ. وقال الزهريُّ : (نَزَلَ الْقُرْآنُ بالْعَمْدِ ، وَجَرَتِ السُّنَّةُ بالْخَطَأ). وقال ابنُ عبَّاس : (إنْ قَتَلَهُ عَمْداً سُئِلَ : هَلْ قَتَلَ قَبْلَهُ شَيْئاً مِنَ الصَّيْدِ ؟ فَإنْ قَالَ : نَعَمْ ؛ لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهُ ، وَيُقَالُ لَهُ : اذْهَبْ ، فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ، وَإنْ قَالَ : لَمْ أقْتُلْ قَبْلَهُ شَيْئاً ، حُكِمَ عَلَيْهِ ، فَإنْ عَادَ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ ثَانياً وَهُوَ مُحْرِمٌ بَعْدَمَا حُكِمَ ، وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ثَانِياً ، ويُمْلأُ بَطْنُهُ وَظَهْرُهُ ضَرْباً وَجيعاً). وعندَنا إذا عادَ حُكم عليه ثانياً ، وعليه الجمهورُ.
(0/0)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } ؛ أي أحِلَّ لكم اصطيادُ ما في البحرِ ، { وَطَعَامُهُ } ؛ أي ما لَفَظَهُ البحرُ وحسَرَ عنه الماءُ ، وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وأبي هريرةَ. وقال بعضُهم : (طَعَامُهُ) هو الملحُ ؛ وهو قولُ سعيدِ بن جُبير وعكرمة والنخعي وقتادة.
وقولهُ تعالى : { مَتَاعاً لَّكُمْ } ؛ أي منفعةً لكم. وهو مصدرٌ مؤكِّد للكلامِ ؛ أن تَمتَّعوا مَتاعاً لكم. وقولهُ تعالى : { وَلِلسَّيَّارَةِ } ؛ أي ومنفعةٌ للمارَّة في السفر. قال ابن عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي مُدْلَجٍ ، كَانُوا أهْلَ صَيْدِ الْبَحْرِ ، أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا : إنَّا نَصْطَادُ فِي الْبَحْرِ ، وَرُبَّمَا يَعْلُو الْبَحْرُ وَرُبَّمَا مَدَّ الْبَحْرُ ، فَيَعْلُو الْمَاءُ كُلَّ شَيْءٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ وَيَبْقَى السَّمَكُ بالأَرْضِ ، وَيَذْهَبُ الْمَاءُ عَنْهُ فَنُصِيبُهُ مَدّاً ، فَحَلاَلٌ لَنَا أكْلُهُ أمْ لاَ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } ؛ أي وحرَّمَ عليكم اصطيادَ ما في البرِّ. ويقالُ : عَينُ صيدِ البر ما دُمتم مُحرِمين ، ولا خلافَ في الاصطيادِ أنه حرامٌ على الْمُحْرِمِ في البرِّ ، فأما عينُ الصيدِ فإن صادَهُ حلالٌ بأمرِ الْمُحْرمِ أو بإعانتهِ أو دلالته وإشارتهِ حَرُمَ على المحرمِ تناولهُ ، وإنْ صادَهُ حلالٌ بغيرِ أمر المحرمِ حلَّ للمحرم تناولهُ كما رُوي في حديث أبي قتادةَ ؛ قالَ : " كُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُحْرِمِينَ وَأَنَا حَلاَلٌ ، فَبَصُرْتُ بحِمَارِ وَحْشٍ فَقُلْتُ : نَاوِلْنِي الرُّمْحَ ، فَأَبَواْ ، فَأَخَذْتُهُ وَأتَيْتُ الصَّيْدَ ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أكْلِهِ فَقَالَ : " هَلْ أعنْتُمْ ؟ هَلْ أشَرْتُمْ ؟ هَلْ دَلَلْتُمْ ؟ " فَقَالُوا : لاَ ؛ فَقَالَ : " إذاً فَكُلُوا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؛ أي اتَّقوا اللهَ في أخذِ الصَّيد في الإحرامِ الذي إلى موضعِ جزائه تُبعثون.
(0/0)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } ؛ أي جعلَ الله الكعبةَ أمْناً للناسِ ، بها يقُومون ويأمنون ، وذلك أنَّ الرجلَ كان إذا أصابَ ذنباً في الجاهليَّة والإسلامِ ، أو قَتَلَ قتيلاً لجأَ إلى الحرمِ فأَمِنَ بذلك ، وكانت الكعبةُ قِوَاماً بمعايشِهم وعماداً لَهم في أمرِ دينهم ودُنياهم ؛ لِمَا يحصلُ في ذلك من الحجِّ والعُمرة والتجاراتِ ، وما يجيءُ إلى الحرمِ من ثَمرات كلِّ شيء.
وَقِيْلَ : معنى قولهِ : { قِيَاماً لِّلنَّاسِ } أي قِبلَةً لهم ، أمروا أن يقوموا في الصلاةِ متوجِّهين إليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ } أي جعلَ الشهر الحرامَ آمِناً أيضاً ، كانوا إذا دخلَ الشَّهرُ الحرامُ لم يقتُلوا فيه أحداً حتى يمضيَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ } ؛ جعل الهديَ الذي يُهدى إلى البيت أمناً للرِّفقة ، وجعلَ القلائدَ أمناً ، والقلائدُ البُدْنُ من البقرِ والإبل كانوا يقلِّدونَها بنعلٍ أو خُفٍّ ، وربَّما كانوا يقلِّدون رواحلَهم إذا رجَعوا من مكَّة من لحاءِ شجرِ الحرم فيأمَنون بذلك ، وكان أهلُ الجاهلية يأكلُ الواحد منهم القضيبَ والشجرَ من الجوع وهو يرَى الهديَ والقلائد فلا يتعرَّضُ له تَعظيماً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ معناهُ : ذلك أمرُ الجاهلية دليلٌ أنه تعالى يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرضِ وما فيه صلاحُ الخلقِ إذ جعلَ في أعظمِ الأوقات فَساداً يؤمَنُ به ، وشرعَ الحجَّ وفيه مصالِحُ الخلقِ على نحو ما تقدَّمَ.
(0/0)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ لمن استحلَّ ما حرَّمَ اللهُ ، { وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ لمن تابَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ } ؛ أي ما على مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلاّ تبليغُ الرسالة في أمرِ الثواب والعقاب ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } ؛ أي ما تُظهِرون من القولِ والعمل ، { وَمَا تَكْتُمُونَ } ؛ وليس على مُحَمَّدٍ طلبُ سرائرِكم ، ولا يعلمُ السرائرَ إلاّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ } ؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ : لا يستوِي الحلالُ والحرام ، { وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } ؛ ولو أعجبكَ كثرةُ الحرامِ ، فمثقالُ حبَّة من الحلالِ أرجحُ عندَ الله من جبالِ الدُّنيا من حرامِ.
وَقِيْلَ : مَعناهُ : ولا يستوِي الكافرُ والمؤمن ولو أعجبكَ كثرةُ الكافرِ ، والعدلُ والفاسقُ وإنْ كان في الفُسَّاقِ كثرةٌ ، ولا يباركُ في الحرامِ وإنما يباركُ في الحلالِ ، { فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ أي اخشَوا عذابَ الله في أخذِ الحرام يا ذوي العقولِ ، لكي تفوزُوا بالنجاةِ والسَّعادات في الآخرةِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ }[آل عمران : 97] قَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَيْدٍ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أفِي كُلِّ عَامٍ؟
فَوَجَدَ مِنْ قَوْلِ ذلِكَ الرَّجُلِ وَجْداً شَدِيداً ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : [مَا كَانَ يُؤْمِنُكَ أنْ أقُولَ : نَعَمْ ، فَيَجِبُ عَلَيْكُمْ فِي كُلِّ عَامٍ فَلاَ تُطِيقُوهُ ، فَإنْ لَمْ تَفْعَلُوهُ كَفَرْتُمْ ، ذرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ]).
وفي بعضِ الروايات : " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَامَ خَطِيباً ، فَسَأَلَهُ النَّاسُ عَنْ أشْيَاء ، فَقَالَ : " لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إلاَّ حَدَّثْتُكُمْ بهِ " ، فَأَكْثَرُوا عَلَيْهِ السُّؤَالَ حَتَّى سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنِ الْحَجِّ : أفِي كُلِّ عَامٍ ؟ فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَعَادَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ثَالِثاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لَوْ قُلْتُ لَكُمْ : نَعَمْ ، لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ " فَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ : أفِي الْجَنَّةِ أنَا أمْ فِي النَّار؟! فَاشْتَدَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى تَغَيَّرَ لَوْنُهُ ، فَقَالَ عُمَرُ : رَضِينَا باللهِ رَبّاً وَبالإسْلاَمِ دِيناً وَبكَ نَبيّاً ، نَعُوذُ باللهِ مِنْ غَضَب اللهِ وَغَضَب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَرَى عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الْغَضَبُ ".
وروي : " أن رجلاً قال يا رسولَ اللهِ أين أبي ؟ فقال : " فِي النَّار " ، فَقَامَ عُمَرُ رضي الله عنه وَقَالَ : رَضِينَا باللهِ رَبّاً وَبالإسْلاَمِ دِيناً وَبمُحَمَّدٍ نَبيّاً وَبالْقُرْآنِ إمَاماً ، إنَّا يَا رَسُولَ اللهِ حَدِيثُو عَهْدٍ بالْجَاهِلِيَّةِ فَاعْفُ عَنَّا عَفَا اللهُ عَنْكَ ، فَسَكَنَ غَضَبُهُ ".
ورويَ : " أنَّ رَجُلاً مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ حُذافَةَ ، وَكَانَ يُطْعَنُ فِي نَسَبهِ إذا لاَحَى ؛ أيْ يُدْعَى لِغَيْرِ أبيهِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أبي ؟ قَالَ : " أبُوكَ حُذافَةُ ". قَالَ الزُّهْرِيُّ : فَقَالَتْ أمُّهُ : مَا رَأَيْتُ وَلَداً أعَقَّ مِنْكَ قَطْ! أكُنْتَ تَأْمَنُ أنْ تَكُونَ أمُّكَ قَارَفَتْ مَا قَارَفَ " نِسَاءُ " أهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَيَفْضَحَهَا عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ ".
وفي رواية أخرى : " أنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ : " أبُوكَ حُذافَةُ " ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ أبي فُلاَنٌ ، قَالَ : " إنَّكَ وَلَدُ الزَّانِيَةِ ، وَإنَّ الَّذِي وُلِدْتَ عَلَى فِرَاشِهِ كَانَ كَثِيرَ الْمَالِ ، فَتَعَرَّضَتْ أُمُّكَ لِحُذَافَةَ فَجَامَعَهَا فَاشْتَمَلَتْ بكَ " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. ومعناها : يا أيُّها الذين آمَنوا بالله ورسولهِ لا تسأَلُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أشياء إنْ أظهرَ لكم جوابَها ساءَكم ، ذلك { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } ؛ وإنْ تسألوا عنها عندَ نُزول القرآنِ أظهرَ لكم جواباً ، { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } ؛ أي عن مسأَلتِكم لم يؤاخذكم بالبحثِ عنها. ويقال : أراد بالعفوِ السترَ عليهم ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } ؛ أي متجاوزٌ عن العباد ، حليمٌ عن الجهَّال لا يعجِّلُ عليهم بالعقوبةِ.
(0/0)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } ؛ أي قد سألَ نحوَ هذه المسائل مَن قبلَكم ، قال ابنُ عبَّاس : (كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ يَسْأَلُونَ أنْبِيَاءَهُمْ عَنْ أشْيَاءَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُؤْمَرُواْ بهَا ، فَإذا بَيَّنُوا لَهُمْ حُكْمَهَا لَمْ يَفْعَلُوا ، فَعَذبَهُمُ اللهُ وَأَهْلَكَهُمْ بسَبَب ذلِكَ ، كَمَا سَأَلَ قَوْمُ عِيسَى الْمَائِدَةَ ثُمَّ كَفَرُوا ، وَسَأَلَ قَوْمُ صَالِحٍ النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا وَكَفَرُواْ).
(0/0)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } ؛ أي لم يجعلِ اللهُ ما يقولهُ كفّار قريشٍ من تحريم البَحيرةِ والسَّائبة والوصيلةِ والحامِي ، { وَلَـاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ، ولكنَّهم هم الذين جعَلوا من ذاتِ أنفسهم ، واختلقوا على اللهِ بأنه حرَّم هذه الأشياء ، { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وهم السَّفَلَةُ والعوَامُّ لا يعقِلون ، بل يُقلِّدُون رُؤساءَهم فيما يقولون.
وأما تفسيرُ البَحِيرَةِ : كانت الناقةُ إذا نتَجت خمسةَ أبطُنٍ نظَرُوا ، فإنْ كان البطنُ الخامس ذكراً ذَبَحوهُ لآلهتِهم ، وكان لَحمهُ للرِّجال من سَدَنَةِ آلهتِهم ومن أبناءِ السَّبيل دونَ النِّساء ، وإن ماتَ قبل الذبحِ أكلَهُ الرجالُ والنِّساء ، وإن كان الخامسُ أنثى نَحَرُوا أذُنَها ؛ أي شَقُّوها شَقّاً وَاسعاً وهي البَحِيرَةُ : لا تُركَبُ ولا تذبَحُ ولا تطرَدُ من ماءٍ ولا أكلٍ ، وألبانُها ومنافعُها للرِّجال من السَّدَنَةِ وأبناءِ السبيلِ دون النِّساء حتى تموتَ ، فاذا مَاتت اشتركَ فيها الرجالُ والنساء.
وأما السَّائبة : فكان إذا قَدِمَ الرجلُ من سَفَرٍ أو بَرِئَ من مرضٍ أو بنى بناءً ، سَيَّبَ شيئاً من إناثِ الأنعام وسلَّمها إلى سَدَنَةِ آلهتهم ، فيُطعمون منه أبناءَ السَّبيل من ألبانِها وأسمانِها إلاّ النساءَ ، فإنَّهم كانوا لا يُطعمونَهن منها شيئاً حتى تموتَ ، فإذا ماتت أكلَها الرجالُ والنساء جميعاً.
وأما الوَصِيلَةُ : فهي من الغَنم كانت الشاةُ إذا نَتجت سبعةَ أبطُن ، فإنْ كان البطنُ السَّابع ذكراً ذبَحوهُ لآلهتهم ، وإنْ كانت أنثى صَنَعوا بها ما يصنَعون بالأُنثى من البَحِيرَةِ ، وإنْ كان ذكراً وأنثى قالوا : إنَّها وصَلَتْ أخَاها ، فلم تَذبح الذكرَ لمكانهِ منها ، وكان منافعُهما للرِّجال دون النساءِ من السَّدَنَةِ وأبناءِ السَّبيل الى أن يموتَ واحدٌ منهما فيشتركُ فيه الرجالُ والنساء.
وأما الْحَامِي : فهو الفحلُ إذا رَكِبَ ولدُ ولدهِ قالوا : قد حَمَى ظهرَهُ فلا يُركب ولا يحمل عليه ولا يُمنع من ماءٍ ولا مرعَى حتى يموتَ ، فيأكلهُ الرِّجالُ والنساء.
وقد رُوي عن زيدِ بن أسلمَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ ، وَأوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ خَلِيل اللهِ " ، قَالُوا : مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ : " عَمْرُو بْنُ لَحِي ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار برِيحِ قُصْبهِ. وَإنِّي لأَعْرِفُ أوَّلَ مَنْ بَحَّرَ الْبَحَائِرَ " ، قَالُوا : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ : " رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلَجَ ، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ أذُنَيْهِمَا وَحَرَّمَ ألْبَانَهَا ، ثُمَّ شَرِبَهُ بَعْدَ ذلِكَ ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يَعَضَّانِهِ بأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبطَانِهِ بأَخْفَافِهِمَا ".
وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قَالَ : " قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَكْثَمَ الْخُزَاعِيَّ : " رَأيْتُ عَمْرَو ابْنَ لُحَي يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّار ، فَمَا رَأيْتُ مِنْ رَجُلٍ أشْبَهَ برَجُلٍ مِنْهُ بكَ وَلاَ بكَ مِنْهُ ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عليه السلام ، وَنَصَبَ الأَوْثَانَ ، وبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ ، وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ ، وَحَمَى الْحَامِي ، وَلَقَدْ رَأيْتُهُ فِي النَّار يُؤْذِي أهْلَ النَّار بريحِ قُصْبهِ " ، قَالَ أكْثَمُ : يَا رَسُولَ اللهِ أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ ؟ فَقَالَ : " إنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ ".
(0/0)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } ؛ معناهُ : إذا قيلَ لأهلِ مكة هَلُمُّوا إلى تحليلِ وتحريم ما أنزَلَ اللهُ في كتابه وبيَّنَهُ الرسولُ في سُننه ، قالوا : يَكفينا ما وجَدنا عليه آباءَنا من الدِّين والسُّنة ، يقولُ اللهُ تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً } ؛ من الدِّين والسُّنة ، { وَلاَ يَهْتَدُونَ } ؛ الطريقَ المستقيمَ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؛ أي الزَمُوا أنفُسَكم واحفظوها كما يقال : عليكَ زَيداً ، فتنصبُ زَيداً على الإغراءِ بمعنى : الزَمْ زَيداً ، كأنَّهُ تعالى قال : عليكم أيُّها المؤمنون بإصلاحِ أنفُسِكم ، ومتابعةِ سُنَّة نبيِّكم ، فإنكم إذا فعلتُم ذلك لا يضرُّكم ضلالةُ مَن ضلَّ من أهلِ مكة إذ هُديتم أنتم ، { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ } ؛ في الآخرةِ ، { جَمِيعاً } ؛ البرُّ والفاجرُ ، والمؤمنُ والكافر ، { فَيُنَبِّئُكُمْ } ؛ فيجزيكم ؛ { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ من خيرٍ أو شرٍّ.
ورُوي عن السَّلف في تأويلِ هذه الآية أحاديثُ مختلفة الظواهرِ ، وهي متفقةٌ في المعنى ، فمِنها ما رُوي عن أبي بكرٍ رضي الله عنه قال على المنبرِ : أيُّها النَّاسُ ، إنِّي أرَاكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } وَإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَا مَنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ بالْمَعَاصِي فَلَمْ يُغَيِّرُوهَا إلاَّ يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بعِقَابِهِ "
وعن أبي أمَامَةَ قالَ : سَأَلْتُ أبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبيراً ، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي : " يَا أبَا ثَعْلَبَةَ ائْتَمِرُوا بالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوا عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَإذا رَأيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً وَشُحّاً مُطَاعاً ، وَإعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأيٍ برَأيهِ ، فَعَلَيْكَ بنَفْسِكَ ، فَإنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ أيَّامَ الصَّبْرِ ، وَالصَّابرُ فِيهَا كَالْقَابضِ عَلَى الْجَمْرِ ، وَالصَّبْرُ فِيْهَا كَالْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، وَالْمُتَمَسِّكُ فِيهَا بمِثْلِ الَّذِي أنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ كَأَجْرِِ خَمْسِينَ عَامِلاً مِنْكُمْ ".
ففي هذه الأخبار دليل على أنَّ فرضَ الأمرِ بالمعروف والنهيَ عن المنكرِ لا يسقطُ إلاَّ عند العجزِ عن ذلك. كما رُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إذا رَأى أحَدُكُمْ مُنْكَراً وَاسْتَطَاعَ أنْ يُغَيِّرَهُ فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبلِسانِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبقَلْبهِ ، وذَلِكَ أضْعَفُ الإيْمَانِ "
وحكي : أنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْحَجَّاجُ قَالَ الْحَسَنُ رضي الله عنه : (اللَّهُمَّ أنْتَ أمَتَّهُ فَاقْطَعْ عَنَّا سُنَّتَهُ ، فَإنَّهُ أتَانَا أخَيْفِشُ أعَيْمِشُ ، يَمُدُّ بيَدٍ قَصِيرَةٍ ، وَاللهِ مَا عَرِقَ فِيهَا فِي سَبيلِ اللهِ عَنَانٌ ، يَرْجُلُ جُمَّتَهُ وَيَتَبَخْتَرُ فِي مِشْيَتِهِ ، وَيَصْعَدُ الْمِنْبَرَ فَيَهْدِرُ حَتَّى تَفُوتَهُ الصَّلاَةُ ، لاَ مِنَ اللهِ يَتَّقِي وَلاَ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحْيي ، فَوْقَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَتَحْتَهُ مِائَةُ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ ، لاَ يَقُولُ لَهُ قَائِلٌ : الصَّلاَةُ أيُّهَا الرَّجُلُ. ثُمَّ جَعَلَ الْحَسَنُ يَقُولُ : هَيْهَاتَ ، وَاللهِ حَالَ دُونَ ذلِكَ السَّيْفُ وَالسَّوْطُ). وفي هذا الخبرِ دليلٌ أن السَّلفَ كانوا مُعذُورينَ في ذلك الوقتِ في تركِ الإنكار باليدِ واللِّسان.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي ثَلاثَةِ نَفَرٍ ، خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إلَى الشَّامِ لِتِجَارَةٍ ، أحَدُهُمْ : عَدِيُّ بْنُ بَدَّاءِ ، وَالآخَرُ عَامِرُ بْنُ أوْسٍ الدَّاريُّ ، وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ ، وَالثَّالِثُ بَدِيلُ بْنُ وَرْقَاءَ مَوْلَى عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِ ، وَكَانَ مُسْلِماً مُهَاجِراً ، فَحَضَرَ بَدِيلَ بْنُ وَرْقَاءَ الْوَفَاةُ وَكَانَ مُسْلِماً ، فَأَوْصَى إلَى صَاحِبَيْهِ ، وَأمَرَهُمَا أنْ يَدْفَعَا مَتَاعَهُ إلَى أهْلِهِ إذا رَجَعَا ، فَمَاتَ بَدِيلُ فَفَتَّشَا مَتَاعَهُ ، وَأخَذا مِنْهُ إنَاءً مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذهَب كَانَ فِيهِ ثَلاَثُُمِائَةِ مِثْقَالٍ.
فَلَمَّا قَدِمَا الْمَدِيْنَةَ وَسَلَّمَا الْمَتَاعَ إلَى أهْلِهِ ، وَجَدَ أهْلُهُ كِتَاباً فِي دُرْجِ الْثِّيَاب فِيْهِ أسْمَاءُ الأمْتِعَةِ ، قَالُوا لَهُمَا : هَلْ بَاعَ صَاحِبُكُمَا شَيئاً مِنْ مَتَاعِهِ ؟ قَالاَ : لاَ ، فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ شَيْئاً ؟ قَالاَ : لاَ ، إنَّمَا مَرِضَ حِينَ قَدِمَ الْبَلََدَ ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ مَاتَ. فَقَالَ لَهُمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبُ ابْنُ أبي وَدَاعَةَ : فإنَّا وَجَدْنَا فِي مَتَاعِهِ صَحِيفَةً فِيهَا تَسْمِيَةً مَتَاعِهِ ، وَفِيْهَا إنَاءٌ مَنْقُوشٌ مُمَوَّهٌ بالذهَب فِيْهِ ثَلاَثُمِائَةِ مِثْقَالٍ. قَالاَ : مَا نَدْري ، إنَّمَا أوْصَى إلَيْنَا بشَيْءٍ وَأَمَرَنَا أنْ نَدْفَعَهُ إلَيْكُمْ فَدَفَعْنَاهُ. فَرَفَعُوهُمَا إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَذكَرُوا ذلِكَ لَهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.
ومعناها : يا أيُّها الذين آمَنوا شهادةُ الحالِ الذي بينكم إذا حضرَ أحدَكم الموتُ فأراد الوصيَّةَ شهادةُ اثنين ذوي عدلٍ منكم ؛ أي من أهل دينِكم. وهذه جملةٌ تامَّة تتناولُ حكمَ الشَّهادة على الوصيَّة في الحضر والسفرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ؛ مقيَّدٌ بالسَّفرِ خاصَّة ، معناهُ : أو آخَران من غير أهل دينكم ، { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ إن أنتم سافَرتُم في الأرضِ ، { فَأَصَابَتْكُم } ؛ في السَّفرِ ، { مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } ؛ ولم يكن يحضرُكم مسلمون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } ؛ أي تَقِفونَهما وهما النصرانيَّان ، والمرادُ بقوله : { بَعْدِ الصَّلاَةِ } بعد صلاةِ العصر كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقضي بعدَ صلاة العصرِ وهو وقتُ اجتماعِ الناس ، وأهلُ الكتاب يعظِّمونَهُ ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } ؛ أي الشَّاهدان النصرانيان يَحلفان باللهِ إذا ادَّعى عليهما ورثةُ الميِّت بسبب شأنِهم في جِنايتهما ، ويقولان في اليمينِ : لاَ نشتري بهذا القول الذي نقولهُ بأنا دفَعنا المالَ جميعه إليكم عَرَضاً يَسِيراً من الدُّنيا ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ؛ أي وإن كان الميْتُ ذا قرابةٍ منَّا في الرَّحِمِ ؛ أي لم نَخُنْ في التِّركة لقرابته منَّا. رُوي أنه كان بين الميْتِ المسلمِ وبين هذين النصرانيين قرابةٌ في الرَّحِم ، ومعنى قوله : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي شَكَكْتُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } ؛ أي ويقولون في اليمينِ : ولا نكتمُ شهادةَ اللهِ ، { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } ؛ أي العاصِين إنْ كتَمنَاهما كما قالَ تعالى في آيةٍ أخرى
(0/0)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ } يعني يومَ القيامةِ ، ونُصِبَ (يَوْمَ) على إضمار اذكُروا واحذرُوا ، ويحتمل أنه انتصبَ بقولهِ { وَاتَّقُوا الله } ، والسُّؤال للرسلِ توبيخٌ للذين أرسِلُوا إليهم ، كما في قوله تعالى{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ }[التكوير : 8] إنما تُسأل الموءودَةُ لتوبيخِ قاتِلها.
وأما قولُ الرسلِ : (لاَ عِلْمَ لَنَا) ، فقال ابنُ عبَّاس والحسن والسديُّ ومجاهد : (إنَّ هَذا الْجَوَابَ إنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ مَوَاطِنِ الْقِيَامَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ زَفْرَةِ جَهَنَّمَ ، وَجُثُوِّ الأُمَمِ عَلَى الرُّكَب ، لاَ يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ إلاَّ قَالَ : نَفْسِي نَفْسِي ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَطِيرُ الْقُلُوبُ مِنْ أمَاكِنِهَا ، فَتَقُولُ الرُّسُلُ مِنْ شِدَّةِ هَوْلِ الْمَسْأَلَةِ وَهَوْلِ الْمَوْطِنِ : لاَ عِلْمَ لَنَا) { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ؛ تُرجِعُ إليهم عقولُهم ، فيشهَدُون على قومِهم أنَّهم بلَّغوهم الرسالةَ ، وأنَّ قومَهم كيف ردُّوا عليهم.
فإن قِيْلَ : كيف يصحُّ ذُهول العقلِ مع قولهِ تعالى{ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ }[الأنبياء : 103] قِيْلَ : إن الفزعَ الأكبرَ دخولُهم جهنَّم. وعن ابنِ عبَّاس : (أنَّ مَعْنَى : لاَ عِلْمَ لَنَا ؛ أيْ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا) ، فَحُذِفَ الاسْتِثْنَاءُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا علمَ لنا بتفصيلِ الأمُور.
(0/0)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } ؛ معناهُ : واذكُروا أيُّها المؤمنون { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى } ، ويجوز أنْ يكون عَطفاً على قولِهِ : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } تقديرهُ : إذ يقولُ الله : يا عيسَى بنَ مريَم ، إلاَّ أنه ذكرَهُ بلفظ الماضِي لتقديم ذكرِ الوقت.
ومعنى الآيةِ : أظْهِرْ مِنَّتِي عليكَ بالنبوَّة وعلى أمِّك بأن طهَّرتُها واصطفيتُها على نساءِ العالَمين ؛ ليكون حجَّة على من كَفَرَ وادَّعاكَ إلهاً ، فيكون ذلك حسرةً وندامةً عليهم يومئذٍ. والفائدةُ في ذكرِ أمِّهِ : أنَّ الناس تكلَّمُوا فيها كما تكلَّمُوا فيه.
ثم عدَّ الله نِعمَةً نعمةً : { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } ؛ أعَنتُكَ وقرَّبتُكَ بجبريلَ الطاهر حين حاولَتْ بني إسرائيل قتلَكَ ، ويقال : أيَّدتُكَ به في الحجَّة في كلِّ أحوالِكَ.
وقوله تعالى : { ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } انتصبَ (ابْنَ مَرْيَمَ) لأنه مُنادَى مضافٌ ؛ أي يا عيسى يا ابنَ مريمَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } معناهُ : اذكر نِعمَتي ، لفظة واحدةٌ ومعناها الجمعُ ، كقوله تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[إبراهيم : 34] أي نِعَمَ اللهِ ، لأنَّ العددَ لا يقعُ على الواحدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } ؛ أي تكلِّمُ الناسَ في حِجْرِ أمِّكَ في حالِ صِغَرِكَ ، وتخاطبُهم كَهلاً بعد ثلاثين سَنة ، على صفةٍ واحدة واحداً واحداً ، وذلك من أعظمِ الآيات.
ويقال : أرادَ بالمهدِ الذي يُربَّى فيه الطفلُ حين قال لَهم وهو في المهدِ : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }[مريم : 30]. قال الكلبيُّ : (مَكَثَ فِي رسَالَتِهِ بَعْدَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً ثَلاَثِينَ شَهْراً ، ثُمَّ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ). وَقِيْلَ : ثلاثَ سنين ، ثم رُفع إلى السَّماء وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثين سَنة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } ؛ أي علَّمتُكَ كُتبَ الأنبياء قبلَك والفهمَ ، ويقال : أرادَ بالكتاب الخطَّ بالقلمِ ، وأرادَ بالحكمةِ كلَّ صوابٍ منهنَّ من قول أو فعلٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } ؛ معناهُ : إذ تُصوِّرُ من الطينِ كَشِبهِ الْخُفَّاشِ بأمرِي ، { فَتَنفُخُ فِيهَا } ؛ أي في الهيئةِ ، { فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } ؛ يطيرُ بين السَّماء والأرضِ بأمرِ الله ، ويكون النفخُ كنفخِ الرَّاقِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي } ؛ الأكمَهُ : الذي وُلد أعمَى ، والأَبْرَصُ : الذي لا تعالِجهُ الأطبَّاء ، وهو الذي إذا غُرزَ الإبرةَ لا يخرجُ منه الدَّم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِيِ } ؛ أي الموتَى تخرِجُهم من قُبورهم احياءَ بإرادتِي ، والمرادُ أنَّ الله تعالى كان يأذنُ له في المسألةِ والدُّعاء ، فيقعُ ذلك عن اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ } ؛ معناه وإذ صَنعتُ (صَرَفْتُ) أولادَ يعقوب عنكَ حين هَمَّوا بقتلِكَ ، { إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالمعجزاتِ الدالَّة على رسالتِكَ ، { فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَا } ؛ أي ما هذا الذي يُرينا عيسى ، { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ سحرٌ ظَاهِرٌ. ومن قرأ (سَاحِرٌ مُبينٌ) أراد به عيسَى عليه السلام.
(0/0)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } ؛ معناهُ : وإذ ألْهَمْتُ الحواريِّين وهم خَوَاصُّ عيسى ، وألقيتُ في قلوبهم : أن صدِّقوا بتوحيدِي وبرَسولِي ، { قَالُواْ آمَنَّا } ؛ وصدَّقنا ، { وَاشْهَدْ } ؛ يا عيسَى ، { بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } ؛ أي مُخْلِصُون بالعبادة والتوحيدِ.
(0/0)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } ؛ كأنه قالَ : اذكُرْ نِعمَتِي عليكَ إذْ قَالَ الْحَوَاريُّونَ.
وقولهُ تعالى : { هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ }. قرأ الكسائيُّ (هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبَّكَ) بالتاءِ بإدغام ونصب الباءِ من رَبَّكَ ، أي هل تقدرُ أن تسأَلَ رَبَّكَ؟.
وقد رُوي عن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنَّها قالت : (كَانَ الْحَوَارِيُّونَ أعْلَمَ باللهِ مِنْ أنْ يَقُولُوا : هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ؟) وفيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدهم : أنَّ هذا السؤالَ كان في ابتداءِ أمرهم قبل أن تَستحكِمَ معرفتُهم باللهِ تعالى ولذلك أنكرَ عليهم عيسَى عليه السلام فقال : (اتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأنه لم يُسْتَكْمَلَ إيمانُهم في ذلك الوقتِ.
والقولُ الثاني : أنَّ معناهُ : هل يفعلُ ذلك كما يقول الرجلُ لآخرَ : هل تستطيعُ أن تقومَ معي في أمرِ كذا ؟ أي هل أنتَ فاعلهُ؟
والقولُ الثالث : أنَّ معناهُ : هل يستجيبُ لكَ ربُّكَ ؟ وهل يُطِيعُكَ إنْ سألتَهُ ؟ كما تقولُ : استجابَ بمعنى أجابَ.
وَالْحَوَاريُّونَ : خواصُّ أصحاب عيسى عليه السلام. قال الحسنُ : (كَانُوا قَصَّارينَ) وقال مجاهدُ : (كَانُوا صَيَّادِينَ) وَقِيْلَ : كانوا مَلاَّحِينَ. وقال قتادةُ : (الْحَوَاريُّونَ : الْوُزَرَاءُ) وقال عكرمة : (هُمُ الأَصْفِيَاءُ) وكانوا اثنَى عشرَ رجُلاً.
(0/0)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } ؛ أي قال الحواريُّون : نريدُ بما سألناكَ أن نأكُلَ من المائدةِ ، وتسكُنَ قلوبُنا بما جِئتَنا به من المعجزاتِ ، { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } ؛ بأنَّكَ رسولُ الله ، وَقِيْلَ : صَدَقْتَنَا في دُعائك ، وفيما دَعوتَنا من كفايةِ الله تعالى إيانا ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا } ؛ على المائدةِ ؛ { مِنَ الشَّاهِدِينَ } ؛ إذا رجَعنا إلى قومِنا.
(0/0)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } ؛ أي قال عيسَى : يا الله ، إلاَّ أنه أقيم الميمُ في آخرهِ مقامَ النداءِ في أوَّلهِ ، وقوله : { أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ } أي طَعاماً ، { تَكُونُ لَنَا عِيداً } أي نتَّخذُ اليومَ الذي تنْزِلُ فيه المائدةُ يومَ سُرورٍ لأزمَانِنا ولمن يكون خلفَنا. ورُوي : (أنَّ نُزُولَ الْمَائِدَةِ كَانَ في يَوْمِ الأَحَدِ ، فَاتَّخَذتِ النَّصَارَى ذلِكَ الْيَوْمَ عِيداً). وقرأ زيدُ ابن ثابت : (لأُوْلاَنَا وَأخْرَانَا).
وقولهُ تعالى : { وَآيَةً مِّنْكَ } ؛ أي تكون المائدةُ دَلالة وحجةً لِمَنْ آمنَ على مَن كفرَ ، { وَارْزُقْنَا } ؛ أي اجعَلْ ذلك رزقاً لنا ، وَقِيْلَ : ارزُقنا الشُّكرَ عليه ، { وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ؛ وأنتَ أفضلُ الْمُعْطِينَ والموفِّقين.
(0/0)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } ؛ أي قالَ اللهُ : يا عيسَى إنِّي مُنزِلٌ المائدةَ عليكم. قرأ أهلُ المدينة والشامِ وقتادة وعاصم : (مُنَزِّلُهَا) بالتشديدِ ؛ لأنها نزَلت مِرَاراً ، والتفعيلُ يدلُّ على التكثيرِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ كقوله تعالى{ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً }[الإسراء : 106], وقرأ الباقون بالتخفيفِ كقوله : (أنزِلْ عَلَيْنَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ } ؛ أي فمَن يكفُرْ بعدَ نُزول المائدةِ ، وَقِيْلَ : بعد ما أكَلَ من المائدةِ ، فإنِّي أُعذِّبهُ بجنسٍ من العذاب لا أعذِّبُ أحداً من عالَمي زمانِهم بذلك العذاب ، وهو أن جعلَ اللهُ مَن كَفَرَ منهم بعد نزول المائدة خنازيرَ. وَقِيْلَ : أرادَ بهذا عذابَ الآخرةِ ، كما رُوي عن ابنِ عمر أنه قالَ (أشَدُّ النَّاسِ عَذاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلاَثَةٌ : الْمُنَافِقُونَ ، وَمَنْ كَفَرَ مِنْ أصْحَاب الْمَائِدَةِ ، وَآلَ فِرْعَوْنَ).
ورُوي عن ابنِ عبَّاس في سبب نُزول المائدةِ : (أنَّ عِيسَى كَانَ إذا خَرَجَ اتَّبَعَهُ خَمْسَةُ آلاَفِ رَجُلٍ أوْ أكْثَرُ مِنْ أصْحَابهِ الَّّذِينَ يَقْتَدُونَ بهِ ، وَأهْلُ الزَّمَانَةِ وَالْمَرْضَى والبطارة ، فَسَلَكَ بهِمْ ذاتَ يَوْمٍ الْقِفَارَ ، فَفَنِيَ طَعَامُهُمْ وَجَاعُواْ جُوعاً شَدِيداً ، فَأَعْلَمَ النَّاسُ تَلاَمِيذهُ الْحَوَارِيِّينَ قَالُواْ : إنْ كَانَ صَاحِبُكُمْ حَقّاً فَلْيَدْعُ رَبَّهُ يُنَزِّلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ، فَكَلَّمَهُ فِي ذلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْحَوَاريِّينَ يُقَالُ لَهُ : شَمْعُونَ الصَّفَّارُ ، فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ يَتَّقُوا اللهَ وَلاَ يَسْأَلُوا لأَنْفُسِهِمْ الْبَلاَءَ ، فَإنَّهُمْ إنْ كَفَرُوا بَعْدَ نُزُولِهَا عَاقَبَهُمُ اللهُ. فَأَخْبَرَهُمْ شَمْعُونُ بذلِكَ ، فَقَالُواْ : (نُرِيدُ أنْ نأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أنْ قَدْ صَدَقْتَنَا).
فَقَامَ عِيسَى عليه السلام فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ : (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ) ، ثُمَّ أنْزَلَ اللهُ مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ فَوْقَهَا مَنَديلُ ، وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا وَعِيْسَى يَبْكِي ، حَتَّى اسْتَقَرَّتِ الْمَائِدَةُ بَيْنَ يَدَي عِيسَى وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً ، ثُمَّ كَشَفَ الْمِنْدِيلَ وَقَالَ : بِسْمِ اللهِ ، فَإذا عَلَى الْمَائِدَةِ سَمَكَةٌ مَشْوِيَّةٌ لاَ شَوْكَ فِيهَا ، وَالْوَدَكُ يَسِيلُ مِنْهَا ، وَالْخَلُّ عِنْدَ رَأْسِهَا ، وَالْمِلْحُ عَنْدَ ذنَبهَا ، وَعَلَيْهَا أرْبَعَةُ أرْغِفَةٍ ، وَعَلَيْهَا الْبَقُولُ إلاَّ الكُرَّاثُ - قالَ عطيَّةُ : (كَانَ فِي السَّمَكَةِ طَعْمُ كُلِّ شَيْءٍ).
فَقَالَ لَهُمْ عِيسَى : كُلُوا مِنْ رزْقِ رَبكُمْ ، فَأَكَلُواْ مِنْهَا ، وَرَجَعَتِ الْمَائِدَةُ كَمَا كَانَتْ ، فَلَمَّا فَرَغَ الْقَوْمُ إلَى قَرَارِهِمْ ، وَبَشَّرُوا هَذا الْحَدِيثَ لِسَائِرِ النَّاسِ ، ضَحِكَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ ، وَقَالَ : وَيْحَكُمْ! إنَّهُ قَدْ سَحَرَ أعْيُنَكُمْ وَأخَذ بقُلُوبكُمْ. فَمَنْ أرَادَ اللهُ بهِ الخَيْرَ ثبَّتَهُ عَلى الصَّبْرِ ، وَمَنْ أرَادَ فِتْنَتَهُ رَجَعَ إلَى كُفْرِهِ ، فَلَعَنَهُم عِيْسَى فَبَاتُوا لَيْلَتَهُمْ ، ثُمَّ أصْبَحُوا خَنَازيرَ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْهِمْ ، الذكَرُ ذكَرٌ وَالأُنْثَى أنْثَى وَيَلْعَنُوهُمْ ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ ثُمَّ هَلَكُواْ ، وَلَمْ يَتَوَالَدُواْ وَلاَ طَعِمُواْ وَلاَ شَرِبُواْ).
وقال بعضُهم : لَمَّا دعَا عيسى ربَّهُ أن يُنزِّلَ عليهم مائدةً من السَّماء ، أقبَلت الملائكةُ بمائدةٍ يحملونَها ، عليها سبعةُ أرغفةٍ وسبعةُ أحْوَاتٍ حتى وضَعُوها بين أيديهم ، فأكلَ منها آخرُهم كما أكلَ أوَّلُهم.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أوَّلُ هذه الآيةِ معطوفٌ على قولهِ : { إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ }[المائدة : 110] ويجوزُ أن يكون عَائداً على ما تقدَّم من قولهِ : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ }[المائدة : 109] كأنه قالَ : إذ يقولُ الله يومَ القيامةِ ، وفي آخرِ السُّورة ما يدلُّ على هذا ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اللَّهُ هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }[المائدة : 119] وذكرَ اللفظَ على صيغةِ الماضي ؛ لتحقُّقِِ أمرهِ كأنه قد وقَعَ وشُوهِدَ ، ونظيرهُ{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ }[الأعراف : 44] وقوله : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ }[إبراهيم : 22] أي سيَقُولُ.
وقال السديُّ وقطرب : (إنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ لِعِيسَى عليه السلام هَذا الْقَوْلَ حِينَ رَفَعَهُ) ، واحتجَّا بقولهِ : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ }[المائدة : 118] ، ولا خلافَ أنَّ الله لا يَغفِرُ لِمُشرِكٍ ماتَ على شِركهِ ، وإنما معنى الآية : وَإنْ تَغْفِرْ لَهُمْ بتَوْبَتِهِمْ.
وقال أكثرُ المفسِّرين : إنَّما يقولُ الله تعالى هذه المقالةَ يوم القيامةِ ، بدليلِ ما ذكَرنا من قولهِ : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ }[المائدة : 109] ، { يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }[المائدة : 119] ، فإن قالوا (إذْ) للماضي ، قُلنا قد تكون بمعنى (إذا) كقوله : { وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ }[سبأ : 51] أي إذا فَزِعوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } يعني أأنتَ قُلتَ لَهم في الدُّنيا : { اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ } ؟ فإنْ قيلَ : ما وجهُ سؤالِ الله تعالى لعيسَى مع علمهِ بأنه لم يقُلْ ؟ قِيْلَ : ذلكَ توبيخٌ لقومِ عيسى وتحذيرٌ لهم عن هذه المقالةِ. وَقِيْلَ : أرادَ الله بذلك أن يُقِرَّ عيسَى بالعبوديَّة على نفسهِ ، فيظهرُ منه تكذيبُهم بذلك ، فيكون حجَّةً عليهم.
قال أبو رَوْقٍ وميسرةَ : (إذْ قَالَ اللهُ لِعِيسَى عليه السلام : أأنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ؟ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ ، وَانْفَجَرَتْ مِنْ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ عَيْنٌ مِنَ الدَّمِ).
ثُمَّ يَقُولُ عِيسَى عليه السلام مُجيباً اللهَ عَزَّ وَجَلَّ : { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } ؛ أي تَنزيهاً لكَ يا رب ، ما ينبغِي لي أن أدَّعي شيئاً لستُ بجديرٍ له ، { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي } ؛ عندي وما في ضَمِيري ، وما كان منِّي في الدُّنيا ، { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } ؛ غَيبكَ ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } ؛ لا يعلمُ الغيبَ أحدٌ غيرُكَ. وَقِيْلَ : معناهُ : تعلمُ ما أريدُ ، ولا أعلمُ ما تريدُ ، { إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ } أي ما كانَ وما يكون.
وأمَّا ذِكْرُ النفسِ في قوله : { وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } فعلى من أوجُه الكلامِ : بأن الغيبَ من اللهِ تعالى في حُكمِ الضميرِ من الآدميِّين ، والنَّفْسُ في كلامِ العرب على ضُروب ؛ تُذكَرُ ويرادُ بها ذاتُ الشيءِ ، كما يقالُ : جاءَني زيدٌ نفسُه ؛ أي ذاتهُ ، وقتَلَ فلانٌ نفسَهُ ، وأهلَكَ فلان نفسَهُ ، ويرادُ بذلك الذاتُ بكمالِها.
(0/0)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } ؛ أي ما قُلت لهم شيئاً إلاّ القولَ الذي أمَرتَني به ، { أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } ؛ أو وحِّدوهُ وأطيعوهُ ، { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ } ؛ معناهُ : فلمَّا قبَضتَني إليك من بينِهم ، ورفَعتَني إلى السَّماء كنتَ أنتَ الحفيظَ عليهم ، { وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؛ من مقالَتي ومقالتِهم ، مطَّلعٌ عالِمٌ مشاهدٌ.
وذهبَ بعضُ المفسرين إلى أن معنى قولهِ : { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي } أمَتَّني ، وقالوا : إنَّ عيسى ليس بحيٍّ في السَّماء. إلاّ أنَّ القولَ الأولَ أشهرُ ، ويحتمل أنَّ الله تعالى أمَاتَهُ ، ثم أحياهُ ورفعَهُ إلى السَّماء.
وقال الحسن : (الْوَفَاةُ فِي كِتَاب اللهِ تَعَالَى عَلَى ثَلاَثَةِ أوْجُهٍ : وَفَاةُ الْمَوْتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا }[الزمر : 42] ، وَوَفَاةُ النَّوْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ }[الأنعام : 60] أيْ يُنِيمُكُمْ ، وَوَفَاةُ الرَّفْعِ كَقَوْلِهِ : { ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ }[آل عمران : 55].
(0/0)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } ؛ قرأ الحسنُ : (عَبْدُكَ) ، قِيْلَ : معناهُ التبعيضُ ؛ أي إن تُعذِّبَ الذين أقَامُوا على الكفرِ فإنَّهم عبادُك ، { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } ؛ للَّذين أسلَمُوا وتابوا ، { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ؛ لأنه قالَ : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ }[المائدة : 116] ، وما قلتُ لهم ، وفيهم المسلمون والمشركون ، فقوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ } راجعٌ إلى الكافرين ، وقوله : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } راجعٌ إلى المؤمنِين.
عن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في معنى هذه الآيةِ : (وَإنْ تُعَذِّبْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ الَّتِي أجْزَمُوهَا فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ ، وَإنْ يَتُوبُوا فَتَغْفِرَ لَهُمْ). قولهُ : { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، أي المنيعُ في مغفرتِكَ لهم لا يمنعُكَ أحدٌ مما تريدُ ، الحكيمُ في أمرِكَ.
فإنْ قيلَ : ظاهرُ الآية يقتضي سؤالَ المغفرةِ للكفَّار ، واللهُ لا يغفِرُ أن يُشركَ به ، فما معنى هذا السؤالِ ؟ قِيْلَ : يحتملُ أنه لم يكن في كتابهِ : إنَّ الله لا يغفرُ أن يُشركَ بهِ ، ويحتملُ أن يكون معناهُ : إنْ تغفِرْ لهم كَذِبَهم الذي قالوا عليَّ.
وَقِيْلَ : إنَّ عيسى عَلِمَ أنه منهم مَن آمنَ ، ومنهم من أقامَ على الكفرِ ، فكأنه قالَ : إن تعذِّب الكفارَ منهم فإنَّهم عبادُكَ ، وأنت القادرُ عليهم ، وإنْ تغفِرْ لِمَن تابَ منهم فذلك تفضُّلٌ منكَ ؛ لأنه كان لكَ أن لا تفعلَ ذلك بهم بعد عظيمِ فِريَتِهم عليكَ ، وكان هذا القولُ من عيسَى عليه السلام على وجهِ الخضوع والانقيادِ والاستسلام على معنى أنَّكَ أنتَ المالكُ والقادر على كلِّ شيء ، فلذلك قالَ : { فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ولو كان قالَ : فإنك أنتَ الغفورُ الرحيم ، لأوْهَمَ الدعاءُ بطلب المغفرة والرحمةِ.
ورُوي : أنه لَمَّا نزَلت هذه الآيةُ ، " أحْيَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَتَهُ بهَا ، وَكَانَ بهَا يَقُومُ وَبهَا يَقْعُدُ وَبهَا يَسْجُدُ ، ثُمَّ قَالَ : " أمَّتِي أمَّتِي يَا رَب " ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ : إنَّ اللهَ تَعَالَى يُقْرِؤُكَ السَّلاَمَ وَيَقُولُ لَكَ : " إنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءَكَ ".
(0/0)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَالَ اللَّهُ هَـاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } ؛ مَن قرأ (يَوْمُ) بالرفعِ فمعناهُ : قالَ اللهُ لعيسَى عليه السلام هذا يومُ ينفع النبيِّين صدقُهم بتبليغِ الرسالة ، والمؤمنين إيمانُهم الذي هو صدقٌ في الدنيا والآخرةِ ، ولا ينفعُ الكفارَ صِدقُهم في الآخرةِ.
ومن قرأ (يَوْمَ) بالنصب فعلى الظرفِ ، على معنى : قالَ اللهُ لعيسى هذا القولَ الذي تقدَّم ذِكرهُ في يومٍ ينفعُ الصادقين صدقُهم. وقال الكلبيُّ : (مَعْنَى الآيَةِ : قالَ اللهُ : هَذا يَوْمُ يَنْفَعُ الْمُؤمِنِينَ إيْمَانُهُمْ) ، وَقِيْلَ : ينفعُ الصَّادقين في الدُّنيا صِدقَهم وفي الآخرةِ. وقرأ الأعمشُ (هَذَا يَوْمٌ) بالتنوينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ؛ أي بساتينُ تجري من تحت شجرها وغُرَفها الأنهارُ ، { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ؛ أي إلى الأبدِ ، { رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } ؛ بإيمانِهم وطاعتهم ، { وَرَضُواْ عَنْهُ } ؛ بإكرامِهم في الجنَّة النجاةَ الوافرة. وحقيقةُُ الفوز نيلُ المرادِ. قوله عزّ وَجَلَّ : { وَرَضُواْ عَنْهُ } أي بما أكرمهم به من الثواب ، { ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي ذلكَ الثوابُ والخلود في الجنَّة النجاةُ الوافرة ، وحقيقةُ الفوز نيلُ المرادِ.
(0/0)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { للَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ } ؛ أي للهِ خزائنُ السَّموات والأرضِ ، وما فيهنَّ من الخلقِ ، يُعطي من شاءَ ما شاءَ ، ويغفرُ لِمَن يشاءُ ، ويعذِّبُ مَن يشاءُ ، { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ مما يريدُ بعبادهِ من المغفرةِ والعذاب قادرٌ.
والغرضُ من هذه الآيةِ نفيُ الربُّوبية عن عيسَى عليه السلام ، وبيانُ أنَّ الله تعالى هو المستحقُّ للعبادةِ دونَ غيره ، فإنه هو القادرُ على كلِّ شيءٍ من الجزاء ؛ تَرغيباً في الطاعةِ ؛ وتَحذيراً عن المعصيةِ.
وعن أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْمَائِدَةِ أعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ "
(0/0)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } ؛ قال كعبُ الأحبار : وأولَّ مفتاحِ التوراة (الحمدُ لله الذي خلقَ السمواتِ والأرضَ) ، وخاتِمتُها خاتِمة سورة هُود{ وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[هود : 124]. قال مقاتلُ : (قَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : مَنْ رَبُّكَ ؟ قََالَ : { الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } فَكَذَبُوهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى حَامِداً نَفْسَهُ دَالاً عَلَى تَوْحِيْدِهِ : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } أي خلقَ السَّموات بما فيها من الشَّمسِ والقمر والنجومِ ، والأرضَ بما فيها من البَرِّ والبحر ؛ والسَّهلِ والجبل ؛ والنَّباتِ والشجَر ، خلقَ السموات وما فيها في يومين ؛ يومِ الأحدِ ويوم الاثنين ؛ وخلقَ الأرضَ وما فيها في يومين ؛ يومِ الثلاثاء ويوم الأربعاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ؛ قال السديُّ : (ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَنُورَ النَّهَار). وقال الواقديُّ : (كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور فَهُوَ الْكُفْرُ وَالإيْمَانُ ؛ إلاَّ فِي هَذِهِ الآيَةِ فَإِنَّهُ يُرِيْدُ بهِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ). قال قتادةُ : (يَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ). وقال الحسنُ : (يَعْنِي الْكُفْرَ وَالإيْمَانَ).
وقيل : خلقَ الليلَ والنهار لمصالحِ العباد ؛ يستريحون باللَّيل ويبصرون معايشَهم بالنهار. وإنَّما جَمَعَ (الظُّلُمَاتِ) ووحَّدَ (النُّورَ) لأن النورَ يتعدَّى ، والظلمةَ لا تتعدَّى.
وقال أهلُ المعانِي : (جَعَلَ) ها هنا صلةٌ ؛ والعربُ تزيد (جَعَلَ) في الكلامِ كقول الشاعرِ : وَقَدْ جَعَلْتُ أَرَى الاتْنَيْنَ أرْبَعَةً وَالْوَاحِدَ اثْنَيْنِ لَمَّا هَدَّنِي الْكِبَرُوتقديرُ الآية : { الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } والظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ. وقيلَ : معناهُ : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) ؛ لأنه خَلَقَ الظلمةَ والنورَ قبل السمواتِ والأرض. وقال قتادةُ : (خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ قَبْلَ الأَرْضَ ، وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّور ، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّار).
وقال وهبُ : (أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ مَكَاناً مُظْلِماً ، ثُمَّ خَلَقَ جَوْهَرَةً فَأَضَاءَتْ ذلِكَ الْمَكَانَ ، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْجَوْهَرَةِ نَظَرَ الْهَيْبَةِ ، فَصَارَتْ مَاءً وَارْتَفَعَ بُخَارُهَا وَنبَذ زَبَدُهَا ، فَخَلَقَ مِنَ الْبُخَار السَّمَواتِ ؛ وَمِنَ الزَّبَدِ الأرْضِيْنَ).
قَوْلُهُ عَزَّ وَجََلَّ : { ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ؛ أي (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بَعْدَ هذا البيان (برَبهِمْ يَعْدِلُونَ) الأوثانَ ؛ أي يُشْرِكُونَ. وقيل : معناهُ : (يَعْدِلُونَ) أي يجعلون لله عَدِيْلاً ويعبدون الحجارةَ والأموات ؛ وهم يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ خالقُ هذه الأشياءِ ، فالأصنامُ لاَ تَعْقِلُ شيئاً من ذلك.
(0/0)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
َقَوْلَهُ تَعَالَىَ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } ؛ معناهُ : خلقَكُم منَ آدمَ عليه السلام ، فأخرجَ الخطابَ له ؛ لأنَّهم ولَدَهُ ، قال السُّديُّ : (لَمَّا أرَادَ اللهُ خَلْقَ آدَمَ ، بَعَثَ جِبْرِيْلَ إِلَى الأَرْضِ لِيَأْتِيَهُ بِطَائِفَةٍ مِنْهَا ، فَاسْتَعَاذتِ الأَرْضُ باللهِ أنْ يَنْقُصَ مِنِّي ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ. فَبَعَثَ مِيْكَائِيْلَ ؛ فَاسْتَعَاذتْ ، فَبَعَثَ مَلَكَ الْمَوَتِ ؛ فَاسْتَعَاذتْ باللهِ مِنْهُ ؛ فَقَالَ : وَأَنَا أَعُُوذُ باللهِ أنْ أُخَالِفَ أمْرَهُ ، فَأَخَذ مِنْ وَجْهِ الأَرْضِ ، فَخَلَطَ السَّوْدَاءَ وَالْبَيْضَاءَ وَالْحَمْرَاءَ ؛ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَتْ الأَلْوَانُ ؛ ألْوَانُ بَنِي آدَمَ ، ثُمَّ عَجَنَهَا بالْمَاءِ الْعَذْب وَالْمِلْحِ وَالْمِسْكِ ؛ فَلِِذلِكَ اخْتَلَفَتْ أَخْلاَقُهُمْ ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِمَلَكِ المَوْتِ : رَحِمَ جِبْرِيْلُ وَمِيكَائِيْلُ الأَرْضَ وَلَمْ تَرْحَمْهَا ؛ لا َجَرَمَ أنْ أجْعَلَ أَرْوَاحَ مَنْ أَخْلُقُ مِنْ هَذا الطِّيْنِ بَيِدِكَ).
وروى أبو هريرةُ عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ ، وَجَعَلَهُ طِيْناً ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى كَانَ حَمَأَ مَسْنُوناً ، ثُمَّ خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ، ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إذا كَانَ صَلْصَالاً كَالْفَخَّار ؛ مَرَّ بهِ إبْلِيْسُ لَعَنَهُ اللهُ ، فَقَالَ : خُلِقْتَ لأَمْرٍ عَظِيْمٍ. ثُمَّ نَفَخَ اللهُ فِيْهِ الرُّوح ".
قَوْلَهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أي خَلَقَكُم مِن آدمَ عليه السلام { ثُمَّ قَضَى أَجَلاً } أي جعلَ لِحياتكُم وفاةً تحيونَ فيه وهو مُدَّةُ كلِّ واحدٍ منَّا مِنْ يومِ يولدُ إلى يومِ يَموت. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } ؛ أي مدَّة انقضاء الدُّنيا إلى أنْ تقومَ الساعةَ ؛ ولا يعلمُ وقتَ قيامِها إلاَّ اللهُ. وقال مجاهدُ وابن جبير : (ثُمَّ قَضَى أجَلاً) يَعْنِي أجَلَ الدُّنْيَا { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } وُهُوَ الآخِرَةُ. قََوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } أي ثُمَّ أنتُم بعدَ هذا البيان تَشُكُّونَ في موضعٍ ليس هو موضعُ الشَّكِّ. وَالْمِرْيَةُ هي الشَّكُّ الْمُجْلِبُ بالشُّبهة ؛ أصلُها مِن : مَرَيْتُ النَّاقَةَ إذا مَسَحْتَ ضَرْعَهَا لِيَنُزَّ لَبَنُهَا ، وَيَجْلِِبَهُ لِلْحَلْب.
(0/0)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
قََوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ؛ معناه : هو اللهُ المعبود المنفردُ بالتدبيرِ في السَّموات والأرضِ ، العالِمُ بما يُصْلحهما وبما يعملُ فيهما. يعلمُ جهرَكم وسرَّ أعمالِكم وعلانيةَ أموركم ، { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } ؛ أي ما تعلمونَ مِن خيرٍ وشرٍّ. وعن جابر بن عبدالله رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ؛ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ قَرَأَ مِنْ أَوَّلِ سوُرَةِ الأَنْعَامِ ثَلاَثَ آيَاتٍ إلَى قََوْلِهِ : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } وَكَّلَ اللهُ بهِ أرْبَعِيْنَ مَلَكاً يَكْتُبُونَ لَهُ مِثْلَ عِبَادَتِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ مَعَهُ مَرْزَبَةٌ مِنْ حَدِيْدٍ ، فَإِذا أرَادَ الشَّيْطَانُ أنْ يُوَسْوسَ لَهُ ؛ ضَرَبَهُ بَها ضَرْبَةً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ حِجَاباً ، فَإِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : امْشِ فِي ظِلِّي ؛ وَكُلْ مِنْ ثِمَار جَنَّتِي ؛ وَاشْرَبْ مِنْ مَاءِ الْكَوْثَرِ ؛ وَاغْتَسِلْ مِنْ مَاءِ السَّلْسَبيْلِ ؛ وَأَنْتَ عَبْدِي وَأَنا رَبُّكَ ".
(0/0)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } ؛ أي ما تأتِي كفَّارَ مكةَ من دلائلِ التوحيد والنبوَّة ؛ مثلَ كسُوف الشمسِ والاستسقَاء ، وكسوفِ القمرِ والدُّخان ؛ إلا كانوا عن هذهِ الآيات والعلامات معرضينَ مكذِّبين تاركين لَها.
(0/0)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ؛ أي فقد كَذبَ أهلُ مكة بُمحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ ؛ وبما رَأوْهُ من انفلاق القمَر بمكةَ ، كما رويَ عن ابنِ مسعود (أنَّ الْقَمَرَ انْفَلَقَ فِلْقَتَيْنِ حَتَّى رَأواْ اجْرَابَي فِلْقَتَي الْقَمَرِ ، ثُمَّ ذهَبَتْ فِلْقَةٌ وَبَقِيَتْ فِلْقَةٌ).
وقَوْلَهُ تَعَالَى : { فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } هذا وعيدٌ لَهم ؛ أي سيعلمون ما يَؤولُ إليه عاقبةُ استهزائِهم بالرُّسُلِ والكُتُب والآيات التي كانت تأتيهم ، فَقَتَلَهُمُ اللهُ يومَ بَدْرٍ بالسَّيف ، ويأتيهم خبرُ استهزائهم حين يرون العذابَ ومعاينةَ. والنبأُ عبارةٌ عن خَبَرِ الَّذي لهُ عِظَمٌ وشَأْنٌ.
(0/0)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } ؛ أي ألَمْ يعلم أهلُ مكَّة كم أهلَكنا من قبلهم من قرنٍ بكفرهم ، مثلَ قومِ نُوح وعَاد وثَمود, { مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } ؛ وأمهلناهم في العُمْرِ والولد ورفعِ الموانع ما لَمْ نُمْهلْ لكم ، { وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } ؛ أي فأنزلنا عليهم المطرَ دَارّاً دائماً يتبعُ بعضُه بعضاً ، { وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } ؛ " أي مِنْ تَحْتِ " أشجارِهم وبساتينهم ، فلم يشكرُوا وعَصَوا ربَّهم وكذبوا رسلَهُم ، { فَأَهْلَكْنَ ؛ 1648;هُمْ بِذُنُوبِهِمْ } ؛ بكفرهم وتكذيبهم ، { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ } ؛ أي مِن بعدِ هلاكِهم ، { قَرْناً } ؛ قَوْماً ، { آخَرِينَ } ؛ فسكَنُوا ديارَهم ، ثم بُعِثْتْ إليهم الرُّسلُ ، فمن لم يأخُذْ بِملَّةِ الرُّسُل ومنهاجهم أهلكَهم الله.
والقَرْنُ - في قول أكثرِ المفسِّرين - : أهلُ عَصْرٍ واحِد ، سُمُّوا قَرْناً ؛ لاقترانهم في قَرْنٍ واحد. ويقالُ : أهلُ كلِّ عصرٍ فيهم نبِيٌّ أو عالِمٌ ، لاقترانِهم بالنبوَّة والعلم ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ، ثمَّ الَّذِيْنَ يَلُونَهُمْ " وأرادَ بالقرن ، الأوَّل : الصَّحابةَ ، وبالثانِي : التابعين ، وبالثالِث : تابعِي التابعين. اختلفُوا في مدَّة القرن ؛ قال بعضُهم : ثَمَانُونَ سنَةً ، وقيل : مِائةُ سنةٍ ، وبين القرنين ثَمَانِي عشرةَ سنَةً.
(0/0)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } ؛ قال ابن عباس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ أَبي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ ؛ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَمَعَهُ أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأنَّكَ رَسُولُهُ). وقال مقاتلُ والكلبيُّ : (نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارثِ ، وَعَبْدِاللهِ ابْنِ أبي أُمَيَّةَ ، وَنَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ ؛ قَالُواْ لِلَّنِبيِّ صلى لله عليه وسلم : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَاْتِيَنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَمَعَهُ أرْبَعَةً مِنَ المْلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَأنَّكَ رَسُولُهُ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي) صَحِيْفَةٍ وعلَّقناهُ بين السَّماءِ والأرضِ ينظرون إليه ويعاينونَه ويلمسونَه بأيديهم ، { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ كفَّارُ مكَّة بعد معاينةِ ذلكَ : { إِنْ هَـاذَآ } ؛ مَا هَذَا ؛ { إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي كما قالُوا في انشقاقِ القَمَرِ : { سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ }[القمر : 2] وفي الآية بيانُ أنَّهم كانوا مُعاينين مصرِّين على التكذيب.
(0/0)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } ؛ أي قالُوا : لولا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ مَلَكٌ نشاهدُه ونعاينُه يخبرنا بأنه نبِيٌّ ، يقولُ تعالى : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً } كما سألوهُ فكذبوا لعذبناهُم بعذاب الاستئصال { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لا يؤجَّلون ولا يُمْهَلُونَ بعدَ نزولِ الآية المقترحة ، نحوَ ما ذكرَ اللهُ تعالى في قصَّة قومِ صالحٍ وغيرِهم. قال الضحَّاك : (مَعْنَاهُ : لَوْ أتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَتِهِ لَمَاتُوا).
(0/0)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } ؛ أي لو أرسَلنا إليهم رسُولاً من الملائكةِ لأرسلناهُ في صورةِ الإنسان ؛ لأنَّهم لا يستطيعون النظرَ إلى الملائكَةِ ؛ لأنَّ ذلك يؤدِّي إلى هلاكِهم ؛ وليكونَ الشكلُ إلى الشكلِ أميلَ ، وبه الذهن إلى الفهمِ عنه أقربَ ، وإلى القَبول منه أسرع ، ولو نظرنا إلى الْمَلَكِ على هيبتهِ لصُعِقْنَا.
وقد كانتِ الملائكةُ تأتِي الأنبياء فِي صورة الإِنسانِ ؛ من ذلك أنَّ جبريلَ عليه السلام كان يأتِي النبِيَّ صلى الله عليه وسلم في صورةِ دحية الْكَلْبِيَّ ، وجاءتِ الملائكةُ إلى إبراهيمَ عليه السلام في صورةِ الضَّيفين ، وجاءتِ الملائكةُ إلى داودَ عليه السلام في صورة رَجُلَيْنِ يختصمان إليه ، وذلكَ قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً } أي لو أنزلنا إليهم مَلَكاً لجعلنا ذلكَ في صورةِ الرَّجُلِ أيضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي اخْتَلَطْنَا وشَبَّهْنَا عليهم ما يَخْلُطُونَ على أنفسِهم حتى شَكُّوا ؛ فلا يدرونَ أمَلَكٌ هو أم رجُلٌ ؟ وهذا لأنَّهم أنكرُوا نبوَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعدَما عرفُوه بالصدقِ والأمانةِ ، ثم لَبَسُوا على أنفسهم وعلى ضَعَفَتِهِمْ ؛ فقالوا : إنَّما هو بَشَرٌ ، فلو نزلَ الملَك على صورةِ رجلٍ لَلَبَسُوا على أنفسهم أيضاً فلم يقبلُوا منه وقالوا : إنهُ في مِثْلِ صورَتنا!
(0/0)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
قَوْلُُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } ؛ أي اسْتَهْزَأتِ الأممُ الماضية بأنبيائِهم كما اسْتَهْزَأ بكَ يا مُحَمَّدُ قومُكَ ، { فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ؛ أي نَزَلَ بهم وحَلَّ بالمستهزئين من الكفَّار عقوبةُ استهزائهم بالكتاب والرسُول عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ.
وقال الضَّحاك : (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِساً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِيْنَ : بلاَلٍ وَصُهَيْبٍ وَعَمَّارِ وَغَيْرِهِمْ ، فَمَرَّ بهِمْ أبُو جَهْلٍ فِي مَلإٍ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ فَقَالَ : تَزْعُمُ يَا مُحَمَّدُ أنَّ هَؤُلاَءِ مُلُوكُ الْجَنَّةِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لِيُثَبتَ فُؤَادَهُ وَيَصْبرَ عَلَىَ أذى الْمُشْرِكيْنَ). أي إن سَخِرَ أهلُ مكَّة من أصحابكَ ، فقد فَعَلَ ذلك الجهلةُ برسلِهم قبلكَ.
وَالْحَيْقُ في اللُّغة : مَا اشْتَمَلَ عَلَى الإِنْسَانِ مِنْ مَكْرُوهِ فِعْلِهِ ، ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ }[فاطر : 43]. وأما الاستهزاءُ فهو إيْهَامُ التَّفْخِِيْمِ بِمَعْنَى التَّحْقِيْرِ.
(0/0)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ سافِرُوا في الأرضِ ، ثم انظرُوا بأبصاركم وتأمَّلوا بقلوبكم كيفَ صارَ إجرامُ المكذِّبين بالرُّسل والكتب مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودُ وَغَيْرِهِمُ ، الذينَ عذبَهم اللهُ تعالى بعذاب الاستئصال ، وكانت آثارُ ديارهم باقيةً قريبةً من مكَّة. وقال الحسنُ : (مَعْنَى { سِيرُواْ فِي الأَرْضِ } أيِ اقرْأواْ الْقُرْآنَ وَتَفَكَّرُواْ فِيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَتَفَكَّرَ فِيْهِ فَكَأَنَّهُ سَارَ فِي الأَرْضِ).
(0/0)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّدُ لكفار مكَّة : لِمَنْ مُلْكُ ما في السَّموات والأرضِ ، فإِنْ أجابوكَ وقالوا : الله ، وإلا فَقُلْ لَهم " الله " إذ هُم يعلمونَ ويُقِرُّونَ أن الأصنامَ لا تَملك خَلْقَ شيء ، وإنَّما اللهُ يَمْلِكُ ذلك.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي أوْجَبَ على نفسهِ الرَّحمةَ فضلاً وكَرَماً. أو قيل : معناهُ : أوجبَ على نفسهِ الثوابَ لِمن أطاعَهُ ؛ وقيل : أوجبَ على نفسهِ الرحمةَ بإِمهالِ مَن عصاهُ ؛ ليستدركَ ذلك بالتوبةِ ولم يُعَاجِلْهُ بالعقوبةِ ، وهذا استعطافٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ للمُتَوَلِّيْنَ عنه إلى الإِقبالِ ، وإخبارٌ بأنه رَحِيْمٌ بعبادهِ لا يُعَجِّلُ عيهم بالعقوبة ، ويقبلُ منهم الإِنابةَ والتوبةَ.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْخَلْقَ ؛ كَتَبَ فَوْقَ الْعَرْشِ : إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ". وقال عمرُ رضي الله عنه لكعب الأحبار : (مَا أوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأ اللهُ بهِ ؟ فَقَالَ كَعْبٌ : كَتَبَ اللهُ كِتَاباً لَمْ يَكْتُبْهُ بقَلَمٍ وَلاَ مِدَادٍ ؛ كِتَابُهُ الزُّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتَ : إِنِّي أنا اللهُ لاَ إِلَهَ إلاَّ أنا ، سَبَقَتْ رَحْمَتَي غَضَبي).
وفي الخَبرِ : أنَّ للهِ تعالى مائة رحمةٍ كلُّها مِلْىءُ السَّموات والأرضِ ، فأهبطَ اللهُ تعالى منها رحمةً واحدة لأهلِ الدُّنيا ، فهم بها يتراحَمون ؛ وبها يتعاطَفون ؛ وبها يتراحمُ الإنس والجنُّ وطيرُ السَّماء وحيتانُ الماء ؛ وما بين الهواء ودواب الأرض وهوامِّها ، وأخَّرَ تِسْعاً وتسعين رحمةً يرحمُ بها عبادَهُ يومَ القيامةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } ؛ بدلُ من الرحمةِ وتفسيرٌ لَها ، فكأنَّهُ قالَ : لَيَجْمَعَنَّ بين المؤمنينَ والكفار ، بين المؤمنِ والكافر في الرِّزق والنِّعمةِ والدَّولةِ إلى يوم القيامة ، لا شَكَّ فيه عند المؤمنينَ أنهُ حقٌّ كائنٌ ، ثم تكونُ العاقبةُ بَدَلَ البعثِ للمؤمنين.
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } ؛ ابتدأ كلامَهُ ؛ وجوابهُ { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ لأنَّ (الَّذِيْنَ) في موضعِ شرطٍ ؛ وتقديرُ الآية : الذين غَبَنُوا أنفسَهم وأهليهم ومنازلَهم وخَدََمَهَمْ في الجنَّة في سابق عِلْمِ الله لا يؤمنونَ ؛ أي لا يُصَدِّقُونَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ.
وذهبَ بعضُهم إلى أنَّ قولَه تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } كلامٌ مبتدأ على وجهِ القَسَمِ ، و(الَّذِيْنَ) بدلٌ من الكافِ والميم في (ليَجْمَعَنَّكُمْ) ، كأنهُ قال : لَيَجْمَعَنًَّ هؤلاءِ المشركين { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } إلى هذا اليومِ الذي يجحدونَه ويكفُرونَه. ويحتملُ أن يكونَ قولهُ : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } راجعاً إلى المكذِّبين ، كأنهُ قال : عاقبةُ المكذبين { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ }.
(0/0)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } قال ابنُ عبّاس : (وَذلِكَ أنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى عليه وسلم فَقَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ ؛ قَدْ عَلِمْنَا مَا يَحْمِلُكَ عَلَى مَا تَدْعُونَا إِلَيْهِ إلاَّ الحَاجَةَ ، فَنَحْنُ نَجْعَلُ لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أغْنَانَا رَجُلاً ، وَتَرْجِعُ عَمَّا أنْتَ عَلَيْهِ. فأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ),
ومعناهُ : وللهِ مُلْكُ ما استقرَّ { فِي الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ } من الخلائقِ كلِّهم ، وهذا اللفظُ يشتمل على جميعِ المخلوقات ؛ لأنَّ من الحيوانات ما يَتَصَرَّفُ بالنهار ويسكنُ بالليل ، ومنها ما يتصرفُ بالليل ويسكنُ بالنَّهار. وقال محمدُ بن جُرير : " كُلُّ مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَِّمْسُ وَغَرَبَتْ فَهُوَ مِنْ سَاكِنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار ، وَالْمُرَادُ : جَمِيعُ مَا فِي الأَرْضِ ؛ لأنَّهُ لاَ شَيْءَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى إلاَّ وَهُوَ سَاكِنٌ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ).
وقال أهلُ المعانِي : في الآية إضمارٌ تقديرهُ : ولهُ ما سَكَنَ وتَحَرَّكَ في الليلِ والنهار. فإن قيلَ : فَلِمَ قالَ : { وَلَهُ مَا سَكَنَ } ولَمْ يَقُلْ : ولهُ ما تَحَرَّكَ ؟ قيلَ : لأنَّ الساكنَ في الأَشياءِ أعمُّ ؛ لأنهُ ما من مُتَحَرِّكٍ إلا وسَكَنَ ؛ وفي الأشياءِ الساكنة ما لا يتحركُ البَتَّةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } معناهُ : السميعُ لِمَقَالَةِ الكفَّار ، الْعَلِيْمُ بهم وبعقوبَتِهم. ويقالُ : هو السميعُ للأصواتِ والأقوال ، العليمُ بالأشياءِ والأرزَاق.
(0/0)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : أسِوَى اللهِ أَعْبُدُ رَبّاً وأتَّخِذُ نَاصراً ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أي خالِقُهُما ومُبْدِعُهُما ، قال ابنُ عبَّاس : (مَا كُنْتُ أدْري مَا (فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) حََتَّى أتَانِي أعْرَابيَّان يَخْتَصِمَانِ في بئْرٍ ، فَقَالَ أحَدُهُمَا لِصَاحِبهِ : أنا فَطَرْتُهَا ، أي ابتْدَأتُهَا ، يَعْنِي ابْتَدَأتُ حَفْرَهَا).
قَوْلَهُ تَعَالى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } ؛ أي يرزقُ ولا يُرزق ولا يُعاوَن على الرِّزق. وقرأ الأعمشُ : (وَلاَ يَطَْعَمُ) بفتحِ الياء ؛ أي يرزقُ ولا يَأْكُلُ ؛ أي لا يجوزُ عليه الحاجةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ } انخفضَ لأنه نعتٌ لا اسمٌ لله تعالى ، ويجوزُ نَصْبُهُ على معنى : أعْنِي فَاطرَ السموات ، ويجوزُ رفعه على إضمار (هُوَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : إنِّي أمِرْتُ أن أكُونَ أوَّلَ من أخلصَ لله بالتوحيدِ والعبادة من أهلِ هذا الزَّمان.
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } ؛ لا يجوزُ أن يكونَ عطفاً على قولهِ : { قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } لأنه غيرُ مأمورٍ بأن يقولَ : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ } وإنَّما هو نَهْيٌ معطوف على أمرٍ من حيثُ المعنى دون اللَّفظ ؛ لأنَّ معنى الآيةِ : قِيْلَ لِي كذا : أوَّل من أسلمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ.
(0/0)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي قُلْ يا مُحَمَّد : إنِّي أَعْلَمُ أنِّي إنْ عَصَيْتُ رَبي وعبدتُ غيرَه ، أن يُنْزِلَ بي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ شأنهُ وهو يومُ القيامةِ.
(0/0)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } ؛ أي مَنْ يُصْرِفُ اللهُ عنه العذابَ العظيمَ يوم القيامةِ فقد رَحِمَهُ ، { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } ؛ أي النجاةُ الوافرة الظَّاهرة. قرأ أهلُ الكوفة إلا حَفْصاً : (مَنْ تَصْرِفُ) بفتحِ التَّاء وكسرِ الراء ؛ وتفسيرهُ ما ذكرناه. وقرأ الباقون (يُصْرَفُ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ ؛ أي من يُصرف عنهُ العذابَ بأمرِ الله ؛ فقد سبقت رحمةُ اللهِ له بإيجاب الثَّواب.
(0/0)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } ؛ إنْ يُصِبْكَ اللهُ بفقرٍ أو مَرَضٍ أو بلاء ، فلا يقدرُ أحدٌ من الأصنام وغيرِها على كَشْفِ ذلك الضُّرِّ إلا اللهُ ، وإنَّما أطلقَ هذا اللفظ وإن كان يُتَصَوَّرُ أن يكشفَ الإنسانُ عن صاحبه كُرْبَةً من الْكُرَب ؛ لأن كاشفَ الضُّرِّ في الحقيقةِ هو اللهُ تعالى ، إمَّا أن يكشفه بفضلهِ أو نسبةً له.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ } ؛ أي بفَضْلٍ وسَعَةٍ في الرزق وصحَّة في الجسمِ ، فلا مُزِِيْلَ لَها إلا هُوَ. إلا أنهُ لَمْ يَقُلْ : فلا مزيلَ لَها إلا هوَ ؛ لأنه لَمَّا أكَّدَ هذا في الضُّرِّ دلَّ على هذا في الخيرِ فاستغنَى عن إعادتهِ. وإنَّما قال (يَمْسَسْكَ) مع أن كون الْمَسِّ المعيَّن من صفةِ الأجسام ؛ لأنَّ المعنى يَمْسَسْكَ اللهُ تعالى الضَّرَرَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } ؛ أي لا يقدرُ أحدٌ أن يَمْنَعَهُ عن فعلِ ما أرادَ فِعْلَهُ من كَشْفِ ضُرٍّ أو غيرِه.
وعن ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قال : " أرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلََى بَغْلَةٍ ، فَلَمَّا سَارَ بي مَلِيّاً الْتَفَتَ إلَيَّ وَقََالَ لِي : " يَا غُلاَمُ ". قُلْتُ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : " احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإذا سَأَلْتَ فَسْأَلِ اللهَ ، وَإذا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، وَقَدْ مَضَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَلَوْ جَهِدَ الْخَلاَئِقُ أنْ يَنْفَعُوكَ بمَا لَمْ يَقْضِ اللهُ لَكَ ؛ مَا قَدِرُواْ عَلَى ذلِكَ ، وَلَوْ جَهِدُوا أنْ يَضُرُّوكَ بمَا لَمْ يَكْتُب اللهُ عَلَيْكَ ؛ لَمَا قَدِرُواْ عَلَيْهِ. وَاعْلَمْ : أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأنًّ مَعَ الْكَرْب الْفَرَجُ ، وَأنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ".
(0/0)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } ؛ أي هو الغالبُ على أمرِ عباده. والقَهْرُ : هُوَ الاسْتِعْلاَء بالاقْتِدَارِ عَلَى الْغَلَبَةِ. وأراد بقولهِ : (فَوْقَ) أنَّهم تحتَ التسخير والتذليل عمَّا علاَهم من الاقتدارِ عليهم ، لا ينهاكَ أحدٌ منهم. قولهُ : { وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } ؛ أي الْمُحْكِمُ لصنعِهِ ؛ الخيبرُ بأعمال الخلقِ.
(0/0)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ أتَوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَقَالُواْ : يا مُحَمَّدُ ؛ أمَا وَجَدَ اللهُ رَسُولاً يُرْسِلُهُ غَيْرُكَ؟! مَا نَرَى أحَداً يُصَدِّقُكَ بمَا تَقُولُ ؛ وَلَقَدْ سَأَلْنَا عَنْكَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؛ فَزَعَمُواْ أنَّهُ لَيْسَ لَكَ عِنْدَهُمْ ذِكْرٌ وَلاَ صِفَةٌ وَلاَ نَعْتٌ ، فَأَرنَا مَنْ شَهِدَ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ كَمَا تَزْعُمُ. فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : أيُّ أحدٍ أعظمُ وأعدلُ برهاناً وحجَّةً ؟ فإن أجابوكَ وقَالوا : اللهُ ، وإلاَّ فَقُلْ : اللهُ أكْبَرُ شَهَادَةً مِن خَلْقِهِ ، وهو شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، بأنِّي رسولُ اللهِ ، وأنَّ هذا القرآنَ كلامهُ. والشاهدُ هو الْمُبَيِّنُ للدعوَى ، وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى دعوَى رسولهِ بالبراهين والمعجزات والآيَات الدالَّةِ على توحيدِ الله ونبوَّة مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } ؛ معناهُ : أُنْزِلَ إِلَيَّ هَذا الْقُرْآنُ لأُخَوِّفَكُمْ به بما فيه من الدلائلِ ؛ وأخبار الأُمَم السَّالفةِ ؛ والإنباءِ بما يكونُ ؛ والتأليفِ الذي عَجَزَ عنه العربُ. قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ بَلَغَ } أي وَأَنْذِرْ مَن بَلَغَهُ القرآنُ سواكم من العَجَمِ ، وغيرِهم من الجنِّ والإنس إلى أن تقومَ الساعةَ ؛ لأنه ليس من بَعْدِ القرآنِ كتابٌ ، ولا من بعدِ مُحَمَّدٍ رسولٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ ءَالِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ } ؛ استفهامٌ بمعنى الإنكارِ ؛ أي إنْ كنتم تشهدونَ بإثباتِ شريكٍ لله ؛ فأنا لا أشهدُ بما تشهدونَ به. وإنَّما قالَ : (أُخْرَى) ولَمْ يَقُلْ أُخَرُ ؛ لأن الجمعَ تُذكَّرُ بلفظ وحْدَانِ التأنيث ، كما قالَ تعالى : { قَالَتِ الأَعْرَابُ }[الحجرات : 14] ومثله كثيرٌ.
َقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـاهٌ وَاحِدٌ } ؛ لا شريكَ له ولا وَلَدَ ، { وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ؛ بهِ من الأصنَامِ والأوثان.
(0/0)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
قَوْْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ } ؛ أي الذين أعطيناهُمْ التوراةَ والإنجيلَ يعرفون مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم بما يجدونَه مكتوباً عندهم من صِفَتِهِ ونَعْتِهِ ، كَمَا يَعْرِفُونَ أبْنَاءَهُمْ إذا رأوهم بين الغِلْمَانِ. كما روي في الخبرِ : (أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ لِعَبْدِالله بْنِ سَلاَمٍ : يَا أَبَا حَمْزَةَ ؛ أَتَعْرِفُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم كَمَا تَعْرِفُ ابْنَكَ ؟ قَالَ : يَا عُمَرُ ؛ إنَّ مَعْرِفَتِي بهِ أَشَدُّ مِنْ مَعْرِفَتِي بابْنِي ؛ لأنَّ أمِيْنَ السَّمَاءِ - يَعْنِي جِبْرِيْلَ قَدْ جَاءَ بنَعْتِهِ إلَى أمِيْنِ الأَرْضِ وَهُوَ مُوسَى عليه السلام. فَقالَ عُمَرُ : وَكَيْفَ ذلِكَ ؟ قَالَ : أشْهَدُ أنَّهُ رَسُولُ اللهِ حَقٌّ مِنَ اللهِ تَعَالَى ، وَقََدْ نَعَتَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كِتابنَا فَعَرَفْتُهُ ، وَأَمَّا ابْنِي فَلاَ أدْري مَا أحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدِي. فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه : وَفَّقَكَ اللهُ يَا ابْنَ سَلاَمٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ ابتداءُ كلامٍ معناهُ : وَالَّذِينَ غَبَنُوا أنفسَهم بذهاب الدُّنيا والآخرة عنهم ، وهم المعاندونَ الذين يعرفون ويَجْحَدُونَ مِنْ رؤساءِ اليهود والنصارَى ، فهم لا يُقَرِّونَ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقرآنِ.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } ؛ معناهُ : أيُّ أحدٍ أظْلَمُ في فاحشةٍ أتاهَا مِمَّنِ اختلقَ على الله كَذِباً بإِضافتهِ إلى الله ما لَمْ يُضِفْهُ إلى نفسهِ من صفة أو أمرٍ وقَوْلٍ ، وهم الذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا : وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللهُ أمَرَنَا بهَا ؛ قُلْ : إنَّ اللهَ لا يَاْمُرُ بالْفَحْشَاءِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي بدَلاَئِلِهِ ؛ { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي لا يُؤْمَنُ من عذاب الله ولا يَصِلُ إلى مُراده ؛ وبُغْيَتِهِ القومُ الكافرون.
(0/0)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } ؛ أي وَاذْكُرُوا يومَ نَبْعَثُ الكفَّارَ وآلِهَتَهُمْ جميعاً للحساب والجزاء. وقال بعضُهم : الواوُ عاطفةٌ على قوله : { لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ }[الأنعام : 21] كأَنَّهُ قال : لاَ يُفْلِحُونَ في الدُّنيا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ. والْحَشْرُ : جَمْعُ النَّاسِ إلَى مَوْضِع مَعْلُومٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } ؛ معناهُ : ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِيْنَ أَشْرَكُواْ باللهِ غَيْرَهُ : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ } ؛ آلِهَتُكُمْ : { الَّذِينَ كُنتُمْ } ؛ التي كُنْتُمْ تعبدونَ مِنْ دون اللهِ ؛ و ؛ { تَزْعُمُونَ } ، أنَّهم شركاءُ اللهِ وشفعاؤُكم.
(0/0)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؛ أي ثُمَّ لم تكن معذرتُهم يومَ القيامة إلا مقالتَهم : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } في دار الدُّنيا. وإنَّما سميت المعذرةُ فتنةً ؛ لأنَّها عينُ الفتنةِ.
ومَن قرأ (فِتْنَتَهُمْ) بالنصب فعلى خبر (لَمْ تَكُنْ) واسْمها (أنْ قَالُوا). ومن قرأ (رَبَّنَا) بالنصب فمعناه النداءُ. وقراءة حفصٍ على البدلِ ، ويجوزُ الرفع على إضمار (هو). وقيل : المرادُ بالفتنة محبَّتُهم للأوثان التي كانوا مُفْتَتَنِيْنَ بها في الدُّنيا ، فأعلمَ اللهُ تعالى أنه لم يكن افتتانُهم بشركهم وإقامتِهم عليه ، إلا أن تَبَرَّأواْ منه وانتهوا عنه ، فحلفوا أنَّهم ما كانوا مشركينَ.
(0/0)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } ؛ أي انظر يا مُحَمَّدُ كيف صارَ وَبَالُ الكذب عليهم ؟ { وَضَلَّ عَنْهُمْ } ؛ أي عَزَبَ عنهم افتراؤُهم بما لَحِقَهُمْ من الذُّهول والدَّهَشِ ، قال الضحَّاك : (وَذلِكَ حِيْنَ نَطَقَتِ الْجَوَارحُ ، وَشَهِدَتْ عَلَيْهِمْ أيْدِيْهِمْ وَأرْجُلُهُمْ بَعْدَ حَلْفِهِمْ{ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }[الأنعام : 23] يقولُ الله تعالى : { انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ } { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }.
(0/0)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْراً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ أبَا سُفْيَانَ وَالْوَلِيْدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالنَّضِرَ بْنَ الْحَارثِ وَأُبِيَّ بْنَ خَلَفٍ وَجَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ؛ كَانُواْ يَسْمَعُونَ إلَى حَدِيْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قََالُواْ لِلنَّضِرِ : مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ ؟ قَالَ : لاَ أدْرِي مَا يَقُولُ ؟ إلاَّ أنِّي أرَاهُ مُحَرِّكاً شَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بشَيْءٍ وَلاَ يَقُولُ إلاَّ أَسَاطِيْرَ الأَوَّلِيْنَ مِثْلَ مَا كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنِ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ. وَكَانَ النَّضِرُ كَثِيرَ الْحَدِيْثِ عَنِ الْقُرُونِ الأَوَّلِيْنَ وَأَخْبَارهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناهَا : ومِن أهلِ مكة من يستمعُ إلى حديثكَ وقراءتك ، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ أغْطِيَةً كراهةَ أنْ يَفْقَهُوهُ ؛ وَفِي آذانِهِمْ ثُقْلاً وصَمَماً ، فلا يسمعونَ الْهُدَى. وموضعُ { أَن يَفْقَهُوهُ } نُصِبَ على أنه مفعولٌ له ؛ أي جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهِمْ أكِنَّةً لِكَرَاهَةِ أنْ يَفْقَهُوهُ. والوَقْرُ بفتح الواو : الثَقَلُ فِي الأُذُنِ ، والوِقْرُ بكسر الواو : مَا يُحْمَلُ عَلَى الظَّهْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } ؛ أي وإن يروا كُلَّ حُجَّةٍ ودلالةٍ لا يُقِرُّوا ولا يصدِّقوا بها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } ؛ أي يُخَاصِمُونَكَ بالباطل ؛ { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ أي يقولُ النَّضِرُ بن الحارثِ وأصحابُه : مَا هَذا إلا أحاديثُ الأوَّلِين وأباطيلُهم.
(0/0)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } ؛ قال مقاتلُ (نَزَلَتْ فِي أَبي طَالِبٍ ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُ إلَى الإِسْلاَمِ ، فاجْتَمَعَتْ قُرَيْشُ إلَى أبي طَالِبٍ يُرِيدُونَ سُوءاً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ : واللهِ لَنْ يَصِلُواْ إِلَيْكَ بجَمْعِهِمْ حَتَّى أوَسَّدَ فِي التُّرَاب دَفِيْنَافَاصْدَعْ بَأَمْرِِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ وَأَبْشِِرْ بذاكَ وَقَرَّ مِنْكَ عُيُونَاوَدَعَوْتَنِي وَزَعَمْتَ أنَّكَ نَاصِحِي فَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثمَّ أمِيْنَاوَعَرَضْتَ دِيْناً لاَ مَحَالَةَ أَنَّهُ مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِيْنَالَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أوْ حِذارُ مَسَبَّةٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بذاكَ يقِيْناًفأنزلَ اللهُ تعالى : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } ويَنْهَوْنَ الناسَ عن أذى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي يَتَبَاعَدُونَ عمَّا جاءَ به من الْهُدَى ، فَلاَ يُصَدِّقُونَهُ.
وقال السُّدِّيُّ والضحَّاك : (نَزَلَتْ الآيَةْ في جَمِيْعِ كُفَّار مَكَّةَ) يعني وَهُمْ يَنْهُوْنَ الناسَ عن اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والإِيمانِ ؛ ويُبْعِدُونَ أنفسَهم عَنْهُ. { وَإِن يُهْلِكُونَ } ؛ بذلكَ ، (إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ؛ وما يعلمون أنَّهمْ يهلكون أنفُسَهم.
(0/0)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } ؛ أي وَلَوْ تَرَى يا مُحَمَّدُ كفارَ قريشٍ إذْ حُبسوا عَلَى النَّار ؛ إذ عاينُوها ودخلُوها وعرفوا عذابَها ؛ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بآيَاتِ رَبنَا ؛ تَمَنُّوا الرجعةَ إلى الدُّنيا.
وقرأ ابن السميقع : (وَقَفُوُا) فبفتحِ الواو والقاف من الوُقُوفِ. القراءةُ الأُولى من الوَقْفِ ، وجوابُ (لا) محذوفٌ وتقديرهُ : ولو تَرَاهُمْ في تلكَ الحالةِ لرأيتَ عَجَباً ، وقيلَ : لعَلِمْتَ ماذا يَنْزِلُ بهم من الْخِزْيِ والندامةِ ، ورأيتَ حسرةً يا لهَا من حَسْرَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } { وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ قرأ حمزةُ ويعقوب وحفص : (وَلا نُكَذِّبَ) (وَنَكُونَ) بالنصب على جواب التَّمَنِّي ، والعربُ تنصب جوابَ التمني بالواو كما تنصبهُ بالفاء ، كما قالوا : يا ليتَكَ تصيرُ إلينا ونُكرِمَك ، أو فُنكرِمَك فكلاهما بالنصب.
وقرأ ابنُ عامر (وَلا نُكَذِّبُ) بالرفع (وَنَكُونَ) بالنصب ؛ لأنَّهم تَمَنَّوا الردَّ وأن يكونوا مؤمنين وأخبروا أنَّهم لا يكذبون بآياتِ ربهم وإنْ ردُّوا إلى الدنيا. ومعناه : يا ليتنَا نُرَدُّ ، ويا ليتنا لا نُكَذبُ ، كأنَّهم تَمَنُّوا الردَّ والتوفيقَ بالتصديقِ. ويجوز أن يكون ذلكَ رفعاً على معنى : ونحنُ لا نُكَذِّبُ بآيات ربنا ، رُدِدْنَا أو لَمْ نُرَدَّ.
(0/0)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } ؛ أي بل ظَهَرَ للذين يتَّبعون الغُوَاةَ ما كان الغُوَاةُ يُخفون عنه من أمرِ البعث والنُّشور ، وما كان رؤساؤُهم يُخْفُونَ من سَفَلَتِهِم.
وقَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } ؛ أي لو رُدُّوا إلى الدنيا كما سَأَلُوا لعادُوا لِمَا نُهُوا عنه من الكفرِ والشِّرك. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ؛ يعني وإِنَّهم لكاذبون في قولِهم : { وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }[الأنعام : 27] لأنَّهم لا يؤمنون لسابقِ عِلْمِ الله تعالى فيهم أنَّهم خُلِقُوا للنار.
(0/0)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } ؛ أي قالَ كُفَّارُ مكَّةَ : ما حياتُنا إلا كحياةِ الدُّنيا ، { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ؛ بعَد الموتِ.
(0/0)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ } ؛ أي لو ترى يا مُحَمَّدُ إذ حُبسُوا عند ربهم للسؤالِ والحساب. ويقال : عَرَفُوا ما وَعَدَهم ربُّهم من البعثِ والقيامة والجنَّة والنار. { قَالَ } ؛ يقولُ الله تعالى لَهم : { أَلَيْسَ هَـاذَا } ؛ البعثُ والعذاب ، { بِالْحَقِّ } ؛ أي بالصِّدق ، { قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا } ؛ إنهُ لَحَقٌّ ؛ أي لَصِدْقٌ ، { قَالَ } ؛ يقولُ الله تعالى : { فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } في الدُّنيا.
وإنَّما ذكر الذوْقَ بمعنى الْخُلُودِ ؛ لِيُبَيِّنَ أن حالَهم في كلِّ وقت كَحَالِ مَنْ يُعَذبُ بالعذاب المبتدأ. ومعنى { وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ } أي على حُكْمِ ربهم وقضائهِ ، فتقولُ لَهم الملائكةُ بأمرِ الله تعالى : ألَيْسَ هَذا العذابُ بالْحَقِّ ، قَالُوا بَلَى وَرَبنَا إنه حقٌّ.
(0/0)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ اللَّهِ } ؛ أي قد غُبنَ الذين كَذبُوا بالبعثِ بعد الموتِ ، { حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً } ؛ أي فَجْأَةً نَدِمُوا في وقتٍ لا ينفعُهم الندامةُ. وسُميِّت القيامةُ ساعةً ؛ لِتَوَهُّمِ قيامِها في كلِّ ساعةٍ.
وقوله تعالى : { قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } ؛ أي على ما قََصَّرْنَا وضَيَّعْنَا في الدُّنيا من عملِ الآخرة ، { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } ؛ معناهُ : والكفَّارُ يحملون أثقالَ آثامِهم فوق ظهروهم بذنوبهم ، والذنبُ من أثقلِ ما يحمل. وقيل : معناهُ { عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } أي في الصفقةِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } قال السُّدِّيُّ : (لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إلاَّ أتَاهُ رَجُلٌ قَبيْحُ الْوَجْهِ ؛ أسْوَدُ اللَّوْنِ ؛ مُنْتَنٌّ الرَّائِحَةِ ؛ عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ ، فَإذا رَآهُ الظَّالِمُ قَالَ لَهُ : مَا أقْبَحَكَ! فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ فِي الدُّنِْيَا ، فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ ، فَإذا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامةِ قَالَ لهُ : طََالَمَا كُنْتُ أحْمِلُكَ عَلَى اللَّذةِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. فَيَرْكَبُهُ وَفِي يَدِهِ مَقْمَعَةٌ فَيَضْرِبُ بها رَأسَهُ ؛ فَيَفْضَحُهُ عَلَى رُؤُوس الْخَلاَئِقِ حَـتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } ؛ أي بئْسَ الشيءُّ الذي يحملونَ من الآثامِ. ويقالُ : بئْسَ الشيء شيئاً يَزِرُونَهُ ؛ أي يَحْمِلُونَهُ.
(0/0)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا الْحَيَاوةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ؛ معناه : ما زينةُ الدُّنيا وزهرتُها إلا استمتاعٌ ؛ يعني مِن قريبٍ ، ثُمَّ يعقبهُ حسرةً وندامة. وسُمِّي ذلك لَعِباً تَشَبُّهاً بلعب الصبِّيان ، يبنونَ بناءً ثم يهدمونَه ، يلعبون بشيء فيلهُونَ به ، كذلكَ أهلُ الدُّنيا يجمعون ما لا يأكلون ؛ ويَبْنُونَ ما لا يسكُونون ؛ ويأْملون ما لا يُدركون.
وهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تعالى لكفَّار مكَّة ، يفعلون ما لا يَرْجُونَ به الثوابَ ، ولا يخشون منه العقابَ ، ولا يَتَفَكَّرُونَ في العاقبةِ كالصبيان والبهائِم. واللَّعِبُ شَغْلُ النَّفْسِ عَمَّا لاَ حَقيْقَةَ لَهُ وَلاَ قَصْدَ. واللَّهْوُ : طَلَبُ الْمَزْحِ بِمثْلِ ذلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ؛ يعني الجنَّةَ أفضلُ للذين يتَّقون الشركَ والكبائر والفواحشَ ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ أن الآخرة الباقيةٌ خيرٌ من الدنيا الفانيةِ. قرأ ابنُ عامر : (وَلَدَارُ الآخِرَةِ) بلامٍ واحدة على الإِضافة.
(0/0)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } ؛ معناه : قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ما يقولُ كفارُ مكَّة من تكذيبهم إيَّاك في العلانيةِ وجُحودِهم باللهِ ، { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ } ؛ في السرِّ ولا بقلوبهم ؛ أي هم يعلمُونَ أنك صادقٌ وكنتَ تُسمَّى فيهم (الأمينُ) قبل الرسَالة ، فلا يحْزُنُكَ تكذيبُهم إيَّاك فيما يعلمون صدقكَ فيه ، { وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ } ؛ المشركين ، { بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } ؛ بألسنتهم ما تَشْهَدُ به قلوبُهم بكذبهم فيه.
وقال السُّدِّيُّ : (الْتَقَى الأَخْنَسُ بْنُ شُرَيْق وَأبُو جَهْلٍ ؛ فَقَالَ الأَخْنَسُ لأَبي جَهْلٍ : يَا أبَا الْحَكَمِ ؛ أخْبرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ ؛ أصَادِقٌ هُوَ أمْ كَاذِبٌ ؛ فَإِنُّهُ لَيْسَ هَا هُنَا أحَدٌ يَسْمَعُ كَلاَمَنَا ؟ فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : وَاللهِ إنَّ مُحَمَّداً لَصَادِقٌ ؛ وَمَا كَذبَ مُحَمَّدٌ قَطٌّ ، وَلَكِنْ إذا ذهَبَ بَنُو قُصَيٍّ باللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابَة وَالنُّبُوَّةِ ؛ فَمَاذا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِه الآيَةَ). وقال : (مَعْنَى : (لاَ يُكَذِّبُونَكَ) لاَ يَقْدِرُونَ أنْ يَقُولُوا لَكَ فِيْمَا أنْبَأْتَ بهِ مِمَّا فِي كُتُب الأَنْبيَاءِ قَبْلَكَ : كَذبْتَ!.
وقرأ نافع والكسائيُّ : (يَكْذِبُونَكَ) بالتخفيفِ. ومعناهُ : لا يجدونَكَ كاذباً ، يقال : كَذبتَ فُلاناً بالتشديد إذا قُلْتَ له : كَذبْتَ ، وأكْذبْتَ فُلاناً ؛ إذا رأيتَ ما أتَى به كَذِباً. وقرأ نافعُ (لَيُحْزِنُكَ) بضمِّ الياء ، والمعنى واحدٌ.
(0/0)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } ؛ تسليةٌ للنبِيِّ صلى الله عليه وسلم ليصبرَ على أذى الكفار ، ومعناهُ : أنَّ الرسُلَ قبلَكَ كذَبَهُم قومُهم كما كذبَكَ هؤلاء ، وآذوْهُمْ كما آذوْكَ ؛ فَصبَرَ الرُّسلُ على تكذيبهم وإيذائهم { حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } أي أتاهُم نَصْرُنَا بإِهلاكِ قومِهم ، فَاصْبرْ أنتَ أيضاً على تكذيب قومك إيَّاكَ وإيذائهم لكَ حتى يأتيكَ نصرُنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } ؛ أي لا مُغَيِّرَ لِمَا وَعَدَكَ من النصر والظَّفَرِ بقولهِ : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا }[غافر : 51] ، { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ } أي مِنْ خَبَرٍِ المرسلين قبلكَ ما يكونَ لكَ فيه سُلْوَةٌ ، فَاعْتَبرْ بأخبارهم.
(0/0)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } ؛ أي إنْ كان عَظُمَ وثَقُلَ عليكَ يا مُحَمَّدُ إعراضُهم عن القبولِ منكَ وقولُهم : لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ، وسؤالُهم كلَّ معجزةٍ شاءُوا ، { فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } ؛ فَإن اسْتَطَعْتَ أنْ تطلبَ مَسْلَكاً نافذاً فِي الأرْضِ ؛ كنفقِ الْيَرْبُوعِ ، فتدخلَه هارباً متوارياً ؛ أوْ تطلبَ شيئاً يُسْلِمُكَ إلى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بالآية التي سألُوكها ، فَافَْعَلْ ، وليس فِي الْقُرْآنِ فَافْعَلْ ؛ لأنه قد يُحْذفُ ما يكونُ في الكلام دَلِيلاً عليه مثل قولِ الرجُل : إن رأيتَ أن تَمضي معي إلى فلانٍ ، ولا يذكرُ فافعل.
وقد بَيَّنَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ : إنَّ ما تأتِي من الآياتِ بمَا أحبُّ ، وإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ لا يقدرُ على الإِتيان إلا بمَا شاءَ اللهُ ، وكان قد عَلِمَ أنه لو أنْزَلَ عليهم الْمَلَكَ وكلَّ آية سألُوها لم يُؤْمِنُوا ، فلم يُنْزِلْ إلا ما تَثْبُتُ به الحجَّة عليهم ، فَتُؤْجَرُ بالصبرِ والثَّبات على الإيْمانِ بالآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } ؛ أي لو شاءَ اللهُ لاضْطَرَّهُمْ إلى الإِيْمان كما قال : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء : 4]. وقيلَ : معناهُ : ولو شاءَ اللهُ لأَطْبَقَهُمْ على الْهُدَى. وقيل : لَوَفَّقَهُمْ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } ؛ أي لاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ بتركِ الصَّبر وإظهَار الْجَزَعِ ؛ واستشعار الغَمِّ لإعراضِهم عنك ، فإن هذا من فِعَالِ الجاهلين. ويقال : معناهُ : لاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ بَمقْدُوري عليهم.
(0/0)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } ؛ معناه : إنَّما يُجيب الذين يَقْبَلُونَ الحقَّ ، وأمَّا الذي لا يقبلُ الحقَّ فكأنه أصَمٌّ أو مَيِّتٌ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } ؛ أرادَ به كفارَ مكة ؛ سَمَّاهُمْ موتى لأنَّهم لم يتَدَبَّرُوا ولم يَـتَأَمَّلُوا ، ولم ينتفعوا بحياتِهم ، فكانوا بمنْزِلة الموتَى وإن كانوا في صُورَةِ أحياءٍ ، { ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } ؛ في الآخرةِ فيجازيهم بأعمالِهم.
(0/0)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ؛ أي قال كفَّارُ قريشٍ : لولا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ علامةٌ لنبوَّته من ربه ؛ يعنونَ الآياتَ التي كانوا يقترحونَها ، { قُلْ } ؛ يا مُحَمَّدُ ؛ { إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً } ؛ على ما تقترحونَها أنتم ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ ما عليهم من الْمَضَرَّةِ في إنزالِ هذه الآية ، إذِ الحكمةُ تقتضي التعذيبَ بعذاب الاستئصال لِمَنْ كفرَ بعد إنزالِ الآية المقترحَة.
(0/0)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } ؛ أي ما مِنْ دابَّة تدبُّ وتتحرَّك على وجهِ الأرض ، وَلا طَائِرٍ يُطِيرُ بجَنَاحَيْهِ في الْهَوَاءِ ، إلا أُمَمٌ أمْثَالُكُمْ ، في الفقرِ والفَاقَةِ والحاجة إلى مُدَبرٍ يدبرهم في أغذِيَتهم وأكنَّتهم وهدايتهم إلى مراشِدهم ومصالحِهم.
وقيل : معناهُ : إلا أممٌ أمثالُكم في الْخَلْقِ والرزقِ والموت البعثِ ؛ لأنهُ قال : { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ }[الأنعام : 36] فيكونُ معناه : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } في أنَّ الله يُمِيْتُهَا ويَبْعَثُهَا للجزاء. وقيلَ : معناهُ : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } يَفْقَهُ بعضُه عن بعضٍ ، كما يفقهُ بعضكم عن بعضٍ.
وذِكْرُ الجناحين في الآية على جهةِ التَّأكيد ؛ لأنه يقالُ : طَارَ فلانٌ في الأمرِ ؛ أي أَسْرَعَ ، وفلانٌ طُيْرٌ من الطُّيور ؛ لسرعتهِ في الأمور. وقيل : ذِكْرُ الجناحين في الآيةِ لبيان أنَّ المرادَ به الطيرُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } ؛ معناهُ : ما تركنا في اللَّوح المحفوظِ شيئاً إلا كَتَبْنَاهُ فيه. ويقالُ : ما تركنا بيانَ شيءٍ فِي الْقُرْآنِ فيما يَحتاجون إليه من أحكام الدِّين والدُّنيا ، بل قدْ بَيَّنَّا في الكتاب كلَّ شيء إما مُفَصَّلاً أو مُجْمَلاً ، أما الْمُفَصَّلَ كقولهِ تعالى : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ }[المائدة : 45] وأما الْمُجْمَلُ كقوله : { وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ }[الحشر : 7].
وقوله تعالى : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } ؛ معناهُ : أنَّ الطيورَ والدوابَّ يجمعون مع سَائِرِ الْخَلْقِ يومَ القيامةِ للحساب والجزاء ، كما روي في الخبر عن رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ : " إنَّ اللهَ تََعَالَى يَحْشُرُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ وَالْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ والطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ ؛ فَيَبْلُغُ مِنْ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى يَوْمَئِذٍ أنْ يَأْخُذ لِلْجَمَّاءِ مِنَ الْقَرْنَاءِ ، فَإذا مُيِّزَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَِّةِ وَالنَّار ؛ قَالَ لِلْبَهَائِمِ وَالْوُحُوش وَالطُّيُور : كُونُوا تُرَباً تَسْتَوِي بكُمُ الأَرْضُ ، فَتكُونُ تُرَِاباً ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَتَمَنَّى الْكَافِرُ فَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً ".
والمرادُ بهذا الإفناءِ للبهائمِ بعد أنْ أحياهَا أنهُ إفناءٌ لا يكون فيه ألَمُ.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } ؛ معناه : الذين جَحَدُوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ صُمٌّ عن الخيرِ لا يسمعونَ الْهُدَى ، خُرْسٌ لا يتكلمون بخيرٍ ؛ أي يكون حالُهم كحالِ الأَصَمِّ الأَبْكَمِ. وحُذِفَ التشبيهُ مِن قوله : { صُمٌّ وَبُكْمٌ } على جِهَةِ المبالغة في الوَصْفِ ، كما يقالُ في وصفِ القوم بالْبَلاَدَةِ : هَؤُلاَءِ حُمُرٌ.
قَولهُ : { فِي الظُّلُمَاتِ } أي في ضَلاَلاَتِ الكفر في ظُلْمَةِ السَّمع والبصرِ والقلب ، { مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ } ؛ أي من شَاءَ اللهُ يَتْرُكْهُ في ضلالةِ الكفر ، فلا يُخْرِجُهُ منه ، { وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ وَمَن يشأْ يُرْشِدْهُ ويُوَفِّقْهُ للإِسلامِ فَيُثَبِّتْهُ على ذلك حتَّى يَموت عليه ، ويقال : معناهُ : من يَشَأ اللهُ يُضْلِلْهُ في الآخرةِ عن طريقِ الجنَِّة إلى طريقِ النّارِ ، ومن يشأْ يجعلْهُ على طريق الجنَّة.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } ؛ أي قل يا مُحَمَّد لأهلِ مكَّة : أرَايْتُمْ ، والكافُ زائدةٌ في بيان الخطاب للتأكيد كما في (ذلِكَ) و(أُؤْلََئِكَ). والمعنى : قُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أتَاكُمْ عذَابُ اللهِ ، كما أتَى الأممَ الماضينَ قبلَكم المكذبين لرسُلِهم ، أوْ أئَتْكُمْ القيامةُ بأهوالِها وشدائدِها. ويقال : أرادَ بـ (السَّاعَةُ) الوقتَ الذي يُصْعَقُ فيه العباد ، ُ فيموتُون كلُّهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ } ؛ أي أغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ في كشفِ ذلك العذاب وَدَفْع تلكَ الأهوال عنكُم ، أم تَدْعُونَ اللهَ تعالى. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ } ؛ أي في مقالتِكم أنَّ الأصنامَ شركاءٌ للهِ ؛ فَهَلاَّ تدعون الأصنامَ عند الشدائدِ. وهو احتجاجٌ مِن الله عليهم بما لا يَدْعُونَهُ ؛ لأنَّهمْ كانوا إذا مسَّهم الضرُّ دَعَوا اللهَ تعالى.
(0/0)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ } ؛ أي بَلْ تدعونَ اللهَ في كَشْفِ العذاب والأهوال ، و(بَلْ) للاستدراك بعدَ النَّفي ، { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ } أي يكشفُ عنكم الضُّرَّ الذي مِنْ أجله دعوتُموه فكشفَهُ. وقََوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ شَآءَ } إنَّما قُرْنَ بالمشيئةِ ؛ لأنَّ كشفَ العذابِ فضلٌ من الله تعالى ، وفضلُ الله يعطيهِ مَن يشاءُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } ؛ أي وتتركون دعوةَ آلِهتكُم عند الشِّدة إذا أشرفتُم على الْهَلاَكِ ؛ وَاضْطَرَبَتْ بكم الأمواجُ في لُجَجِ البحار ؛ وفي غير ذلك من السِّجن والأوجاعِ التي لا صَبْرَ عليها ، وقد يُذْكَرُ النِّسيان بمعنى التَّرْكِ كما في قولهِ : { نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ }[التوبة : 67] أي تَرَكُوا ذِكْرَ اللهِ ، فَتَرَكَهُمُ اللهُ في العذاب.
(0/0)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ } أي وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رسُلاً إلَى أمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ ، كما أرسلناكَ إلى قومِكَ فلم يؤمِنُوا ، فَأَخْذَْنَاهُمْ بالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ. والضَّرَّاءُ هِيَ الشِّدَّةُ النَّازِلَةُ ؛ وَالْبَأْسَاءُ مَأْخُوذةٌ مِنَ الْبَأْسِ ، وقيل : مِن الْبُؤْسِ ؛ وهو الفقرُ. والضرَّاءُ هي الأمراضُ والأوجاعُ ؛ وهي مأخوذةٌ من الضَّرَرِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } ؛ أي لكي تَخْشَعَ القلوبُ ، وتَتَضَرَّعَ النفوسُ عند الشِّدة ؛ فيرجعون إلى اللهِ فيؤمنون به ؛ فيكشفُ عنهم ؛ فلم يفعلُوا.
(0/0)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } ؛ أي فَهَلاَّ حين جَاءَهُمْ بَأْسُنا ؛ أي عذابُنا ؛ دَعَوا اللهَ وآمنُوا به ، { َلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) ؛ أي يَبسَتْ وجَفَّتْ قلوبُهم ؛ فأقاموا على كُفرهم ؛ إذ لم يكن في قلوبهم رقةٌ ، ولا خوفٌ من اللهِ تعالى ، { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ } ؛ أي حَسَّنَ لَهم ، { مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } ؛ في كفرِهم ؛ بأن أغْوَاهُمْ ودعاهم إلى اللَّذةِ والراحةِ دون التَّفَكُّرِ والتدبُّر ببيانِ الْحَقِّ من الباطلِ.
(0/0)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ أي فلمَّا تَرَكُوا ما وُعِظُواْ به وأُمروا به { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } مِمَّا كان مُغْلَقاً عليهم من الخيرِ والرِّزق والخصب والمطر. وأخْصَبَتْ بلادُهم وَكَثُرَ خيرُهم ، { حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ } ؛ أُعْجِبُوا ؛ { بِمَآ أُوتُواْ } ؛ أي بما أُعطوا مِنَ النِّعَمِ والسِّعةِ وَالصِّحَّةِ ؛ { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } ؛ أي فَجْأَةً بالعذاب بعد أن ابتليناهُم في النعمةِ والشدَّة ؛ فلم يزدادوا إلا كُفراً ، { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } ؛ أي فإِذا هم عندَ نزول العذاب بهم آيسُونَ من كلِّ خير ؛ متحسِّرون غايةَ الحسرَةِ. وَالْمُبْلِسُ : الْبَائِسُ الْحَزِِيْنُ الشَّدِيْدُ الْحَسْرَةِ ، ويقالُ : هو المنقطعُ عن الحجَّةِ.
فإن قيل : لِمَ أنعمَ الله عليهم حين نَسَوا ما ذُكِّرُوا به ؛ وهذا موضعُ العقوبة دون الإنعامِ ؟ قيل فيه قولان : أحدُهما : أنه أنعمَ عليهم بالدعاءِ لَهم إلى الطاعة ، فإن الدعاءَ إلى الطاعة تارةً يكونُ بالعنف والتشديد ، وتارةً باللِّين والإنعامِ.
والثانِي : أنه إنَّما فعلَ ذلك بهم ؛ لأنَّ من يُنْقَلُ من النعمةِ والراحة إلى العذاب يُجْمَعُ عليه العذابُ والحسرةُ على ما فَاتَهُ ؛ فيكون ذلك أشدَّ عليه ممن ينقلُ من الشدَّة إلى العذاب.
(0/0)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ } ؛ أي اسْتُؤْصِلَ بالهلاكِ آخرُ من بقيَ من القوم الكافرين. ودَابرُ الْقُوْمِ : آخِرُهُمْ مِنْ نَسْلِهِمْ وغيرِهم ، بحيثُ لا يبقى لَهم بعد ذلك باقيةٌ ، { وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ يجوزُ أن يكون حمداً مِن الله تعالى لنفسهِ على إهلاكهِ القومَ الكافرين والمعاندين بعد أن أعْذرَهُمْ وَأنْذرَهُمْ. ويجوزُ أن يكون قوله : { وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } تعليماً من اللهِ " للنَّاس " يحمدونَهُ على إهلاك الظالمينَ.
وقد قطعَ اللهُ دابرَ المعاندين من أهل مكَّّة يومَ بَدْرٍ كما قطعَ دابر المكذبين قبلَهم. وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا رَأيْتَ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي عَبْداً فِي الدُّنْيَا عَلَى مَعْصِيَتِهِ مَا يُحِبُّ ؛ فَإنَّ ذلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } الآيةُ ".
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّد لكفَّار مكة : إنْ سلبَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ التي هي أشرفُ ما قِبَلِكُم من الأعضاءِ ، وخَتَمَ عَلَى قُلُوبكُمْ ؛ فإن سَلَبَ عقولكم حتى لا تفهمُوا بها فعاقَبَكم بذلك على تكذيبكُم الرسلَ ؛ هل مِنْ إلَهٍ غَيْرُ اللهِ يردُّ عليكم ما سَلَبَهُ الله تعالى ؟ وهل يقدرُ على ذلك غيرهُ ؟ { انْظُرْ } ؛ يا مُحَمَّد ؛ { كَيْفَ نُصَرِّفُ } ؛ نُبَيِّنُ لَهُمْ ؛ { الآيَاتِ } ؛ فِي الْقُرْآنِ ؛ ونُخَوِّفُهُمْ بها ؛ { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } ؛ أي يُعْرِضُونَ عما وَضَحَ لَهم مكذِّبين به ، لا تتحركُ أفئدتُهم. والتصريفُ توجيه المعنىَ في الجهات تُظْهِرُهُ أتَمَّ الإِظهار.
(0/0)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ { قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً } ؛ أي أرَأيْتُمُ إنْ أتَاكُمْ وهذا حالُكم في الإصرار على الكفر عَذابُ اللهِ فجأةَ وعلانية ؛ نَهاراً جِهاراً ، { هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } ؛ إِلا أنتم وما أشبَهَكُم ؛ لأنكم كفرتُم معاندينَ ، فقد عَلِمْتُمْ أنكم ظالمون. وإنَّما قابلَ البغتةَ بالجهرةِ وإن كان ضدُّ الجهرةِ الخفيةَ ؛ لأن ما يأتِي فجأةً فإنَّما يأتي خِفْيَةً.
(0/0)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } ؛ أي ليسَ على الرسلُ أن يأتوا الناسَ بمَا يقترحون عليهم من الآياتِ ، إنَّما نرسلُهم بالتبشير بالجنَّة للمطيعين ؛ والتحذيرِ بالنار للكافرين ، { فَمَنْ ءَامَنَ } ؛ بالرسُلِ والكُتُب ؛ { وَأَصْلَحَ } ؛ العملَ فيما بينهُ وبينَ ربه ؛ فأقام على إيْمانه وتوبتهِ ؛ { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ؛ حين يخافُ أهل النار ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ؛ إذا حَزِنُوا.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي يصيبُهم العذابُ بفِسْقِهمْ وجحودِهم بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والْقُرْآنِ.
(0/0)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
وَقُوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } ؛ نزلَت هذه الآيةُ جواباً عن قولِ الكفار للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : يا محُمَّدُ ؛ لولاَ أُنْزِلَ عليكَ كَنْزٌ فتستغني به ؛ فإنك فقيرٌ محتاج! وعن قولِهم : لولا أُنْزِلَ عليهِ مَلَكٌ ، وقولِهم : لولا أُنْزِلَ عليه آيةٌ.
ومعناها : قلْ لَهم يا مُحَمَّد : { لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ } أي لا أدَّعي أن مفاتيحَ الرزقِ بيدي ؛ فأقبضُ وأبْسُطُ ، وليس خزائنُ الله مثلَ خزائنِ العباد ، إنَّما خزائنُ الله مقدوراتُه التي لا تُوجَدُ إلا بتكوينهِ إيَّاها ، { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي لا أدَّعي عِلْمَ الغيب فيما مضَى وما سيكونُ ، { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } مِن السَّماء شاهدتُ ما لم تشاهدِ البشرُ ، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ } ؛ أي لا أعْلَمُ ولا أقولُ إلا بما نَزَّلَهُ اللهُ على لسانِ بعض الملائكة ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } ؛ أي الكافرُ والمؤمن ، ويقال : الجاهلُ والعالِمُ ، { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ؛ في آياتِ اللهِ ومَوَاعِظهِ.
(0/0)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } ؛ أي أنْذِرْ بالْقُرْآنِ وخوِّف به { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ } وخوِّف به الذين يعلمون أنَّ حَشْرَهُمْ إلى ربهم ؛ أي إلى موضعٍ لا يَمْلِكُ فيه أحدٌ نَفَعَهم ولا ضُرَّهم إلا اللهَ تعالى. قالوا : والذينَ يخافونَ البعثَ أحدُ رجلين ؛ إما مسلمٌ فَيُنْذرُ ليؤدِّي حقَّ الله في إسلامهِ ، وإما رجلٌ من أهل الكتاب فهو مقرونٌ بأن الله تعالى خَلَقَهم وأنَّهم مبعوثون محاسَبون. { لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ }.
(0/0)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ؛ قال عبدُالله بن مسعودٍ : (مَرَّ جَمَاعَةً مِنَ المُشْرِكِينَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ صُهَيْبُ وخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ وَبلاَلُ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُُسْلِمِيْنَ ؛ فَأَرَادُواْ الْحِيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِيَطْرُدُواْ أصْحَابَهُ ، فَقَالُواْ : يَا مُحَمَدَّ ، لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلاَءِ السَّفَلَةَ وَالْعَبِيْدَ عَنْكَ أتَاكَ أشْرَافُ قَوْمِكَ وَرُسَاؤُهُمْ يَسْتَمِعُونَ مَقَالَتَكَ وَيُصَدِّقُونَكَ ، وَذكَرُواْ ذلِكَ أيْضاً لِعُمَرَ رضي الله عنه ، فَذكَرَ ذلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِرْصاً عَلَى إسْلاَمِ أشْرَافِ قَوْمِهِ ، فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الَّذِي طَلَبُوهُ ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). يعلِّمُه أنه لا يجبُ أن يفضِّل غَنِياً ولا شريفاً على فقيرٍ وضعيف ؛ لأن طريقَهُ فيما أُرْسِلَ به الدِّيْنُ دون أحوالِ الدُّنيا.
فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي يعبدون ربَّهم بالصلاةِ المفروضة غُدُوّاً وعَشِيّاً وهم ضَعَفَةُ الصحابةِ وَصَفَهُمُ اللهُ بالمواظبة على عبادتهِ في طرفَي النَّهارِ ؛ ثُم شهِدَ لَهم أنَّهم مخلصون في الإِيْمانِ بقولهِ : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي يريدون وجهَ اللهِ تعالى بذلك ؛ ويطلبون رضَاهُ. وذكرَ الوجهَ على سبيلِ التفخيم كقولهِ تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }[القصص : 88]. معناهُ : إلاَّ هُو.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } ؛ أي ما عليكَ مِن حساب عملِهم وباطنِ أمرهم من شيء ، { وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ؛ أي مَا عليهم من باطِن أمرِكَ شيءٌ ولا يُسْأَلُونَ عن عملِكَ ولا تسألْ أنتَ عن عملِهم.
وقيل : معناهُ : ما عليكَ من رزقِهم من شيءٍ ، وما مِن رزقِكَ عليهم من شيءٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَطْرُدَهُمْ } ؛ جوابُ { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم }. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَكُونَ } ؛ جوابُ { وَلاَ تَطْرُدِ }. { مِنَ الظَّالِمِينَ } ، ومعناهُ : فتكون من الضارِّين لنفسكَ أن لو طردتَهم.
وتقديرُ الآية : وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ، مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابهِمْ مِْن شَيْءٍ ، وَمَا مِنْ حِسَابكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ ، فَتَطْرُدَهُمْ. وقال سلمانُ وخبَّاب : (فِيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ ، فَجَاءَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابسٍ التَّمِيْمِيُّ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حُصَيْنِ الْفَزَّاريّ وَأصْحَابُهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ ، فَوَجَدُواْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَاعِداً مَعَ بلاَلٍ وَصُهَيْبَ وَعَمَّارِ وَخَبَّابٍ فِي نَاسٍ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِيْنَ ، فَلَمَّا رَأوْهُمْ حَوْلَهُ حَقَّرُوهُمْ ؛ وَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ لَوْ جَلَسْتَ فِي صَدْر الْمَسْجِدِ ، وَنَفَيْتَ عَنَّا هَؤُلاَءِ وَرَائِحَةَ جِبَابهِمْ لَجَالَسْنَاكَ وَحَادَثْنَاكَ وَأخَذْنَا عَنْكَ. وَكَانَ عَلَيْهِمْ جِبَابٌ مِنْ صُوفٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ غَيْرُهَا.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا أَنَا بطَاردِ الْمُسْلِميْنَ " فَقَالُواْ : إنَّا نُحِبُّ أنْ تَجْعَلَ لَنَا مَجْلِساً تَعْرِفُ الْعَرَبُ بهِ فَضْلَنَا ، فَإنَّ وُفُودَ الْعَرَب تأْتِيْكَ ؛ فَنَسْتَحِي أنْ تَرَانَا الْعَرَبُ مَعَ هَؤُلاَءِ الأَعْبُدُ ، فَإِذا نَحْنُ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا ، فَإذا نَحْنُ قُمْنَا فَأْقْعِدْهُمْ مَعَكَ إنْ شِئْتَ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـاؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } ؛ قال ابنُ عَبَّاس : معناه : (وَكَذِلكَ ابْتَلَيْنَا (بَعْضَهُمْ ببَعْضِ) : الْعَرَبِيَّ بالْمَوَالِي ؛ وَالْغَنِيَّ بالْفَقِيْرِ ؛ وَالشَّرِيْفَ بالْوَضِيْعِ ؛ لِيَقُولَ الأَغْنِيَاءُ وَالأَشْرَافُ مِثْلُ عُيَيْنَةَ بْنِ حُصَيْنٍ الَّذِي دَخَلَ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ : لَوْ طَرَدْتَ هَؤُلاَءِ السَّفَلَةَ ، وَمِثْلَ أَصْحَابِهِ ؛ كَانُواْ يَقُولُونَ : هَؤُلاَءِ - يَعْنُونَ سَلْمَانَ وَأصْحَابَهُ - مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ بالْمَغْفِرَةِ وَالإِسْلاَمِ مِنْ بَيْنِنَا). وقال الكلبيُّ : (هُوَ أنَّ الشَّرِيْفَ إذا نَظَرَ إلَى الوَضِيْعِ قَدْ أَسْلَمَ قَبْلَهُ اسْتَنْكَفَ أنْ يُسْلِمَ ، وَقَالَ : قَدْ سَبَقَنِي هَذا بالإسْلاَمِ ؛ فَلاَ يُسْلِمُ).
ومعنى (اللام) في قوله : (لِيَقُولُوا) لامُ العاقبة ؛ ومعناهُ : ليكونَ عاقبةُ أمرهِما ؛ قال الأغنياءُ والأشراف : أهؤلاءِ المستضعفونَ فضَّلهم اللهُ علينا. ونظيرُ هذه اللاَّم في هذهِ الآية قَوْلَهُ تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[القصص : 8] ، ومعلومٌ أنُّهم لم يلتقطوهُ لأجلِ أن يكون لَهم عدوّاً وحَزَناً ، ولكن عاقبةُ التقاطِهم إياه أنْ صارَ لَهم عدُوّاً وحَزَناً.
وقال بعضُهم : اللامُ في قوله : (لِيَقُولُوا) معناها الاستفهامُ ؛ أي ليقولَ بعضُهم لبعضٍ استفهاماً لا إنْكاراً : أهَؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا بالإيْمانِ.
والفائدةُ في ذلك أن الأغنياءَ كانوا شاكِّين في أن سَبْقَ الفقراءِ إلى الإِيْمان وصبرِهم على طريقةِ الدِّين ؛ هل يوجبُ أن تكونَ نعمةً من الله عظيمة عليهم ، فأمرَهُم اللهُ تعالى أن يَسْتَفْهِمُوا من الرسولِ صلى الله عليه وسلم ما لأجلهِ يقومُ الفقراء بحضرةِ الرسُول صلى الله عليه وسلم واستحقُّوا الإعظامَ ، فيظهرُ عند الاستفهامِ جوابُ النبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، ويكون في سَماعهِم لذلكَ مصلحةٌ عظيمة توجبُ رضَاهُم بتقديمِ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم أهلَ الدين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } ؛ استفهامٌ بمعنى التحقيقِ على معنى أنَّ اللهَ أعلمُ بمن هو من أهلِ التوحيد والثَّواب.
(0/0)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وَقَوْلَهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ اختلفُوا فيمَنْ نزلت هذه الآيةُ ؛ فقال عكرمةُ : (نَزَلَتْ فِي الَّذِيْنَ نَهَى اللهُ نَبيَِّهُ صلى الله عليه وسلم عَنْ طَرْدِهِمْ ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم إذا رَآهُمْ بَدَأهُمْ بالسَّلاَمِ وَقَالَ : " الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أبْدَأهُمْ بالسَّلاَمِ ".
وقَالَ بانُ عبَّاس والكلبِيُّ : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ{ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ }[الأنعام : 52] الآيةُ ، جَاءَ عُمَرُ رضي الله عنه مُعْتَذِراً مِنْ مَقَالَتِهِ ؛ فأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا } الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالقُرْآنِ { فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } أي قَبلَ اللهُ مَعْذِرَتَهُمْ وَتَوْبَتَهُمْ). ومعنى السَّلاَمِ : السلامةُ من جميع الآفاتِ.
وقيل : إنَّ اللهَ تعالى أمرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أنْ يُسَلِّمَ على المستضعفين إذا جاءُوا إليه ، وإنَّما أمرَهُ بأن يبدأهم بالسَّلامِ مع أن العادةَ أن يُسَلَّمَ على القاعدِ حتى يَنْبَسِطَ إليهم بالسَّلامِ عليهم ؛ لِئَلاَّ يحتشمُوا من الانبساطِ إليه. قال عطاءُ : (نَزَلَتْ فِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَليٍّ وأَبي عُبَيْدَةَ وَبلاَلٍ وَسَالِمٍ وَمُصْعَب بْنِ عُمَيْرٍ وَحَمْزَةَ وَجَعْفَرَ وَعُثْمَانَ ابْنِ مَضْعُونٍ وَعَمَّار بْنِ يَاسِرٍ).
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه قالَ : (أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رجَالٌ فَقَالُواْ : إنَّا أصَبْنَا ذُنُوباً عَظِيمَةً كَبِيْرَةً ، فَسَكَتَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله علليه وسلم ، فأَنْزَلَ اللهُ تعَالىَ : { وَإِذَا جَآءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
واختلفُوا في قوله : { سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : لاَ يَعْرِفُ حَلاَلاً مِنْ حَرَامٍ ، فَمِنْ جَهَالَتِهِ رَكِبَ الأََمْرَ). وقيل : جاهلٌ بما يُورثُهُ ذلك الذنبُ. وقيل : جَهِلَ حين آثَرَ المعصيةَ على الطاعةِ ، واللذةَ اليسيرةَ الفانيةَ على الكثيرةِ الباقية الدائمةِ ، فعلى هذا يسمَّى مرتكبُ المعصيةِ جاهلاً.
واختلفَ القُرَّاءُ في قولهِ تعالى : { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } وقولهِ : { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فكسَرَهما جميعاً ابنُ كثير وأبو عمرٍو وحمزة والكسائيُّ وخلف والأعمشُ على الاستئناف. ونصَبَهما الحسنُ وابن عامر وعاصمُ ويعقوب بدلاً من الرحمةِ. وفتحَ نافعُ الأولَ على معنى : وَكَتَبَ أنَّهُ مَنْ عَمِلَ ، وكسرَ الثانِي على الاستئنافِ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ } ؛ أي نُبَيِّنُ بياناً الأَمرَ والنهي فِي الْقُرْآنِ من قبلُ ، وكذا نُبَيِّنُ وَنُنَزِّلُ الآياتِ متفرقةً شيئاً بعد شيء. وقولهُ تعالى : { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } ؛ معطوفٌ على مُضْمَرٍ تقديرهُ : لِيَظْهَرَ الْحَقُّ مَن الْبَاطِلِ وَلِتَسْتَبِينَ طريقُ الْمُجْرِمِينَ.
وإنَّما لم يقل : سبيلُ المؤمنين ؛ لأن في الكلامِ ما يدلُّ عليه ؛ لأن معناهُ وَلِتَسْتَبيْنَ سبيلَ المجرمين من سبيلِ المؤمنين. ويقرأ : (وَلِيَسْتَبيْنَ) بالياء ؛ لأن السبيلَ يُذكَّرُ ويؤنَّثُ ، فَتَمِيْمٌ تُذكِّرُهُ ؛ وأهلُ الحجاز تُؤَنِّثُهُ.
ودليلُ التذكير قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ }[الأعراف : 86] ولم يقل بها ، ودليل التأنيث قَوْلُهُ تَعَالىَ : { قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي }[يوسف : 108] ولم يقل هذا سبيلِي. وقرأ أهلُ المدينة : (سَبيْلَ) بالنصب على خطاب النبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ معناهُ : وَلِتَعْرِفَ يا مُحَمَّدُ سبيلَ المجرمين ؛ فالخطابُ للنبيِِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به عامَّة المسلمين ؛ كأنه ولِتَسْتَبيْنُوا وتزدادوا معرفةً بطريق المجرمين.
(0/0)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي قل يا مُحَمَّد لِعُيَيْنَةَ وأصحابه : إنِّي نُهِيتُ عن عبادةِ الذي تعبدون من الأصنام مِنْ دُونِ اللهِ ، { قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ } ؛ فإِنَّكم قد عَبَدْتُمُوهُ وسألتموهُ طردَ سلمان وبلالَ وأصحابَهما عن طريق الهدَى ، لا على طريق البيِّنة والبرهانِ ، وقَوْلَهُ تَعَالَى : { قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً } ؛ أي قد ضَلَلْتُ إنْ عبدتُها ؛ معناهُ إن فعلتُ ذلك فقد تركتُ سبيلَ الحق ، وسلكتُ غيرَ سبيل الهدى.
وقرأ يحيى بن وثَّاب وأبو رجَاء : { قَدْ ضَلَلْتُ } بكسرِ اللام ؛ وهما لُغتان ؛ إلا أنَّ الفتحَ أفصحُ ؛ لأنَّها لغةُ أهلِ الحجاز. وقولهُ : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ } ؛ عطفٌ على { ضَلَلْتُ } ؛ أي إنْ أتَّبعْ أهواءَكم فما أنا من الذينَ سلكُوا طريقَ الهدى.
(0/0)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّد : إنِّي على بَصِيْرَةٍ وبيانٍ مِن أمرِ ربي ؛ لاَ مُتَّبعٌ للهَوى ، { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي بالبيانِ ، وإنَّما ذكَرَ الكنايةَ لأن البيِّنةَ والبيانَ بمعنى واحدٍ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : وكذبتُم بما آتيتُكم به ؛ وهو الْقُرآنُ. ومعنى البيِّنةِ : الدلالةُ بينَ الحقِّ والباطلِ.
قَوْلَهُ تَعَالَى : { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } رُوي : أنَّ رؤساءَ قريشٍ كانوا يستعجلونَ العذابَ ، حتى قامَ النضرُ بن الحارثِ في الحَطِيْمِ وقالَ : اللَّهُمَّ إنْ كان ما يقولُ مُحَمَّدٌ حقّاً فَأْتِنَا بالْعَذاب ، فَنَزلت هذه الآيةُ.
وقيل : معناه : { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من الآياتِ التي تقترحونَها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ } ؛ أي ما القضاءُ وتنْزيل الآياتِ إلاَّ لله ، { يَقُصُّ الْحَقَّ } ؛ أي يَحْكُمُ بالعدل ويقضي القضاءَ الحقَّ ، { وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } ؛ أي أعدلُ الْفَاصِلِيْنَ.
ومن قرأ (يُقِِضُّ الْحَقَّ) بالضادِ المشدَّدة ، فمعناهُ : يُبَيِّنُ ويَأْمُرُ به ، ومن قرأ (يَقْضِي) أي يَحْكُمُ. وقرأ ابن عبَّاس : (يَقْضِي بالْحَقِّ). وأما سقوطُ الياءِ في قراءة من قرأ (يَقُضِّ) فإِنَّها سقطت في الخطِّ لالتقاء السَّاكنَين ، كما في قولهِ تعالى : { سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ }[العلق : 18]{ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ }[القمر : 6]. وفي جميعِ المصاحف : (يَقْضِ) بغيرِ ياءٍ.
(0/0)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّد : { لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } من العذاب ، { لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ؛ أي لأهلكتُكم ؛ وانقطعَ ما بيني وبينكم من مطالبَتي إياكم بالإخلاص في طاعة الله وعبادتهِ ، وامتناعِكم من ذلكَ ، { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } ؛ أي بعقوبتِكم ووقتِ عذابكم.
(0/0)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } ؛ قرأ ابن السُّمَيقِعِ : (مَفَاتِيْحُ الْغَيْب) بالياء. واختلفُوا في معنى (مَفَاتِحُ الْغَيْب) فروى عبدُالله بن عمرَ : أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ : " مَفَاتِحُ الْغَيْب خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إلاَّ اللهُ : عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَنُزُولُ الْغَيْثِ ، وَعِلْمُ مَا فِي الأَرْحَامِ ، ومَا تَدْري نَفْسٌ مَاذا تَكْسِبُ غَداً ، وَمَا تَدْري نَفْسٌ بأَيِّ أرْضِ تَمُوتُ ". وقال السُّدِّيُّ : (مَفَاتِحُ الْغَيْب : خَزَائِنُ الْغَيْب) وَهِيَ الْمَقْدُورَاتُ الَّتِي يُفْـتَحُ بهَا مَا فِي الْغَيْب ، وَسُمِّيَتِ الْخِزَانَةُ مِفْتَاحاً ؛ لأَنَّهُ يَنْفَتِحُ مِنْهُ الأَمْرُ).
وقيل : { مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } ما ينفتحُ به علمُ ما في الغيب من وقتِ نزول العذاب الذي كانوا يستعجلُون به وغيرُ ذلك. قيل : معناهُ : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } أي نزولُ العذاب لا يَعلمُ متَى ينْزل ما غابَ عنكم من الثواب والعقاب ، وما يصيرُ إليه من أمرِي وأمرِكم إلا هوُ. وقيل : معناهُ : { مَفَاتِحُ الْغَيْب } الآجَالُ وأحوالُ العباد من السَّعادة والشَّقاوةِ ، وعواقب الأمور ، وخواتِم الأعمال. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه : (أوْتِيَ نَبيُّكُمْ عليه السلام كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ مَفَاتِحَ الْغَيْب). وَالْمَفَاتِحَ جَمْعُ مِفْتَحٍ ، وَالْمَفَاتِيْحُ جَمْعُ مِفْتَاحٍ ؛ وهو معرفةُ المغيَّب.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي يَعْلَمُ ما في البرِّ من النباتِ والْخَلْقِ ؛ وَما في الْبَحْرِ من الدواب والعجائب. وقيل : يعلمُ رزقَ كلِّ مَنْ في البرِّ والبحر ، يسوقُ إلى كلِّ ذي روحٍ رزقَهُ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَا مِنْ شَجَرَةٍ فِي الْبَرِّ إلاَّ وَبهَا مَلَكٌ مُوكَّلٌ يَعْلَمُ مَا يُؤْكَلُ مِنْهَا ، وَمَا يَسْقُطُ مِنْ وَرَقِهَا ، وَيَعْلَمُ عَدَدَ مَا بَقِيَ عَلَى الشَّجَرَةِ مِنَ الْوَرَقِ وَمَا يَسْقُطُ مِنْهُ). وقيل : معنى الآيةِ : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ } من أوراقِ الشَّجر ، { إِلاَّ يَعْلَمُهَا } اللهُ ثابتةً وساقطةً ، ويعلمُ متَى سقوطُها وموضعُ سقوطها.
قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ } ؛ أي كلُّ حبَّة تكون في الأرضِ حتى الحبَّةُ التي تكون تحتَ الصخرة التي هي أسفلُ الأرضين يعلمُها الله ، وقيل : أرادَ كلَّ حبَّة تكون في شُقوق الأرضِ مِمَّا يخرجُ منها النبات. ومن قرأ (وَلاَ حَبَّةٌ) بالرفعِ فعلى الابتداء ؛ وخبرهُ { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }.
وَقَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ؛ أرادَ بالرَّطْب الماءَ والخضر ، وباليابسِ الحجرَ والمدرَ ، كلُّ ذلك مكتوبٌ في اللوحِ المحفوظ ، أثبتَ اللهُ تعالى فيه كلَّ ما يخلقُ قبلَ أن يخلقَهُ ، كما قالت تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ }[الحديد : 22].
وَاعْلَمْ : أنهُ قد أثبتَ ما خَلَقَ قبل خلقِهِ. والرطبُ واليابس عبارةٌ عن جميع الأشياءِ التي تكون في السَّموات والأرضِ ؛ لأنَّها تخلق من أحدِ هاتين الصِّفتين. وعن النبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنهُ قال : " مَا زَرْعٌ عَلَى الأَرْضِ وَلاَ ثِمَارٌ عَلَى الأَشْجَار ؛ إلاَّ عَلَيْهَا مَكْتُوبٌ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ، رزْقُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ".
فإن قيلَ : ما الفائدةُ في كون ذلك مكتوباً في اللَّوح مع أنَّ اللهَ لا يخفى عليه شيءٌ ، وأنه كان عالِماً بذلك قبلَ أن يخلقَه وقبل أن يكتبَه ؛ ولم يكتُبها ليحفظَها ويدريها. قيل : فائدتهُ أن الحوادثَ إذا حدثت موافقةً للمكتوب ، ازدادَتِ الملائكةُ بذلك علماً ويقيناً بعِظَمِ صفاتِ الله عَزَّ وَجَلُّ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيلِ } ؛ معناه : هو الذي يقبضُكم عن التصرُّفِ بالنوم وما تصيرونَ في منامكم بالليلِ في قبضتهِ لا تَمْلكون لأنفسِكُم تصريفاً في أموركم.
والتَّوفِّي في اللغة : هُوَ الْقَبْضُ ؛ إلاَّ أن روحَ النائمِ لا تصيرُ مقبوضةً في حال نومه على جهةِ الحقيقة ؛ لأن النائمَ يستمدُّ من الهواءِ على حسب ما يفعلهُ المنتبهُ ، ولكنَّ الله يحدثُ في حال النوم من بدنِ النائم ضرباً من الاسترخاءِ في إغماءٍ منه ، إمَّّا بسلب عقله ، أو بإِحداثِ فعلٍ في البدن يكونُ ذلك الفعل سبباً لراحةِ البدن ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً }[النبأ : 9] فلما صارَ النائمُ كالميتِ في أنه لا يعقلُ وفي أن تصرفَه لا يقع على تَمييز ؛ شُبهَ بالميتِ من حيث التوفِّي على هذا الوجه ، كما وردَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " النَّوْمُ أخُو الْمَوْتِ ، وَأهْلُ الْجَنَّةِ لاَ يَمُوتُونَ وَلاَ يَنَامُونَ " وعلى هذا الوجهِ يتأوَّل قَوْلُهُ تَعَالَى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا }[الزمر : 42] إلى آخر الآية.
وذهبَ بعضُهم إلى أن الروحَ تخرجُ من البدن في المنامِ ، ولكن لا تنقطعُ حركة النائمِ ؛ لأن نظرَ الروحِ لم ينقطع عن البدن ؛ إذ هو على العَوْدِ في كلِّ وقتٍ وفي كل ساعةٍ ؛ وقال : لا يخرجُ منه الروحُ ، وإنَّما يخرج منه الذهن.
قَوْلَهُ تَعَالىَ : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ } ؛ أي كسبتُم من الخيرِ والشرِّ بالنهار ، يقالُ : جَرَحَ وَاجْتَرَحَ ؛ بمعنى كَسَبَ وَاكْتسَبَ ، وأصلُ الاجْتِرَاحِ : عَمَلُ الْجَوَارِحِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } ؛ أي يُنَبهُكُمْ من نومِكم في النهار على علمٍ منه بما اجترحتُم من قبلُ وما تجترحون من بعدُ ، { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى } أي لتبلغُوا الوقتَ المقدور الذي قدَّرهُ الله بحَيَوِيَّتِكُمْ ؛ فتنقطعُ أرزاقكُم وأعمالُكم التي تعملونَ في الدُّنيا من خيرٍ أو شرٍّ.
قَوْلَهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } ؛ أي ثم إلى اللهِ مصيرُكم ومتقلَّبُكم بعدَ الموتِ ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ أي ثم يُخْبرُكُمْ في الآخرةِ بما كنتم تعملون في الدُّنيا ؛ فيجازي كلَّ عاملٍ ما عَمِلَ.
(0/0)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } ؛ أي هو الْغَالِبُ لعبادهِ الْمُسْتَعْلِي عليهم بالقدرَةِ ، وليس معنى (فَوْقَ) معنى المكان ؛ لاستحالةِ إِضافَةِ الأماكنِ إلى الله ، وإنَّما معناهُ الْغَلَبَةُ والقدرةُ ، ونظيرهُ : فلانٌ فَوْقَ فلانٍ في العلمِ ؛ أي أعْلَمُ منهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } ؛ معناه : وَالْمُرْسِلُ عَلَيٍْكُمْ حَفَظَةً ، فاكتفَى بالفعلِ عن الاسم. وَالْحَفَظَةُ : هُمُ الْمَلاَئِكَةُ يحفظونَ على العبادِ أعمالَهم على ما تقدَّم.
وقد وردَ في الخبرِ : أن على كلِّ واحدٍ منَّا ملَكين بالليلِ ؛ وملَكين بالنهار ، يكتبُ أحدُهما الحسناتِ ؛ والآخرُ السيِّئاتِ ، وصاحبُ اليمينِ أميرٌ على صاحب الشِّمال ، فإذا عَمِلَ العبدُ حسنةً ؛ كتبَ له بعَشْرِ أمثالِها ؛ وإذا عَمِلَ سيِّئةً فأرادَ صاحبُ الشِّمال أن يكتبَ ؛ قال له صاحبُ اليمين : أمْسِكْ ، فيمسِكُ عنه ستِّ ساعاتٍ أو سبع ساعات ، فإنْ هو استغفرَ اللهَ تعالى ؛ لم يكتُبْ عليه ، وإن لم يستغفرْ يكتب عليه سيِّئةً واحدةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } معناه : حَتَّى إذا حضرَ أحَدَكُمْ الْمَوْتُ ؛ قبضَ روحَهُ مَلَكُ الموتِ وأعوانُه ، وَهُمْ لا يقصِّرونَ ولا يؤخِّرونَه طرفةَ عينٍ ، فإن قيلَ : كيفَ هنا { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } وقال في آيةٍ أخرى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ }[السجدة : 11] ؟ قيلَ : إنَّ مَلَكَ الموتِ هو الذي يقبضُ الأرواحَ كلَّها وهو القائمُ بذلك ؛ إلا أنَّ له أعواناً ؛ فتارةً أضافَ قبضَ الروحِ إلى مَلَكَ الموتِ ؛ لأنه هو المختصُّ بذلك ، وتارةً أضافَهُ إليه وإلى غيرِه ؛ لأنَّهم يَصْدُرُونَ في ذلك عن أمرهِ.
وقال مجاهدُ : (جُعِلَتِ الأََرْضُ لِمَلَكِ الْمَوْتِ كَالطَّشْتِ يَتَنَاوَلُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ ، ولَهُ أعْوانٌ يَتَوَفَّوْنَ الأَنْفُسَ ، ثُمَّ يَقْبضُهَا مِنْهُمْ). ويقالُ : إنَّ أعوانَ مَلَكِ الموت يستخرجون الروحَ من الأعضاءِ عُضْواً عُضْواً ، حتى إذا جَمَعُوهُ في صدرهِ وجعل يُغَرْغِرُ به ؛ قبضَهُ حينئذٍ مَلَكُ الموتِ.
وقد رويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ دَخَلَ عَلَى مَرِيْضٍ يَعُودُهُ ، فَرَأَى مَلَكَ الْمَوْتِ عِنْدَ رَأسِه ؛ فقَالَ : " يَا مَلَكَ الْمَوْتِ ؛ ارْفُقْ بهِ ، فإِنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فقَالَ مَلَكُ الْمَوْتِ : ياَ مُحَمَّدُ ؛ أبْشِرْ وَطِبٍ نَفْساً وَقَرَّ عَيْناً ؛ فإِنِّي بكُلِّ مُؤْمِنٍ رَفِيْقٌ ، إنِّي لأقْبضُ رُوحَ الْمؤْمِنِ فَيُصْعَقُ أهْلُهُ فَأعْتَزِلُ فِي جَانِبِ الدَّار ، فأََقُولُ : مَا لِي مِن ذنْب ، وَإِنِّي لَمَأْمُورٌ ، وَإنَّ لِي لَعَوْدَةً فَالْحَذرَ الْحَذرَ ، وَمَا مِنْ أهْلِ بَيْتِ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ ، فِي بَحْرٍ أو بَرٍّ ، إلاَّ وأَنَا أَتَصَفَّحُهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ ، حَتَّى أنِّي لأَعْلَمُ بصَغِيْرِهِمْ وَكَبيْرِهِمْ مِنْهُمْ بأَنْفُسِهِمْ ، وَاللهِ لَوْ أَرَدْتُ أنْ أقْبضَ رُوحَ بَعُوضَةٍ لَمَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي اللهُ تَعَالَى بقَبْضِهَا ".
(0/0)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } ؛ أي ثم ردَّهُمُ الملائكةُ إلى الموضعِ الذي لا يَمْلِكُ أحدٌ الحكمَ فيه إلا اللهُ تعالى : وقولهُ : { مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } أي مَوْلاَهُمُ من كلِّ جهةٍ ، فإنهُ يَمْلِكُ خلقَهم وإنشاءَهم وتربيتَهم وإماتتهم وإحياءَهم وضُرَّهم ونفعَهم ، وهو الذي دَبَّرَ في الابتداء أمرَهم حيث أنشأهم. ومعنى قولهِ تعالى : { مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ } أي الذي عِبَادَتُهُ حقٌّ ، ويعطي الثوابَ الحقَّ ، ويتولَّى العقابَ بالحقِّ ، وقيل : إنَّ هذه أرجَى آيةٍ في كتاب اللهِ تعالى ؛ لأنه لا مَرَدَّ للعبدِ أحسنُ من مَرَدِّهِ إلى مَوْلاَهُ.
قَوْلَهُ تَعَالَىَ : { أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ } ؛ كلمة بَيِّنَةٌ ؛ أي اعلمُوا أنَّ بَيِّنَةَ القضاءِ بين العباد يومَ القيامة يحكمُ فيهم ما شاءَ وكيف شاءَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ } ؛ إذا حاسَبَ فحسابهُ يسيرٌ سريعٌ ؛ لأنه لا يحاسبُ بحقد ولا يتكلَّمُ بآلةٍ ، ولا يَحْجُزُهُ الكلامُ مع بعضِهم عن الكلامِ مع غيرهم ، بل يحاسِبُ الجميعَ في دُفعة واحدةٍ. ومعنى الْمُحَاسَبَةِ : تَعْرِيْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ثَوَابٍ أوْ عِقَابٍ ؛ حَتَّى رُويَ فِي الْخَبَرِ : أنَّهُ يَكُونُ حِسَابُهُ فِي مِقْدَار حَلْب شَاةٍ.
(0/0)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّد : مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ شدائد الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وأهوالِهما. تقولُ العرب لليومِ الذي فيه شدَّة : يَوْمٌ مُظْلِمٌ ؛ حتى أنَّهم يقولون : يَوْمٌ ذُو كَوَاكِبٍ ؛ إذا اشتدَّت ظلمتهُ حتى صارَ كالليل. ويقال : أرادَ بالظلمات ظلمةَ الليل ، وظلمةَ الغيمِ ، وظلمة الأمواجِ.
وقََوْلُهُ تَعَالَى : { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } أي تدْعُونَهُ علانيةً وسرّاً ، والتَّضَرُّعُ : إظْهَارُ الضَّرَاعَةِ ؛ وَهِيَ شِدَّةُ الْفَقْرِ وْالْحَاجَةِ إلَى الشَّيْءِ. وقرأ أبو بكرٍ : (وَخِفْيَةً) بكسرِ الخاء ، وقرأ الأعمشُ : (وَخِيْفَةً) من الخوفِ كما في آخرِ الأعراف.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ؛ في موضعِ الحال ؛ معناهُ قائلين : لَئِنْ أنجَيتنا مِنْ هَذِهِ الشدائد لَنَكُونَنَّ مِنَ المؤمنينَ الموحِّدين المطيعين. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } ؛ قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ من شدائدِ البرِّ والبحر ومن كلِّ غَمٍّ ، { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } ؛ بهِ الأصنام في الرَّخاءِ بعد النجاةِ ، وبعد قيامِ الحجَّة عليكُم.
(0/0)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } ؛ راجعٌ إلى مشركي مكَّة ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّد : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } كما بعثَ على قومِ نوحٍ ولُوطٍ من الطوفانِ والحجَارة ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } ؛ أي هو القادرُ على أن يَخْسِفَ بكم ، كما فعلَ بقَارُونَ وقومِه. ويقالُ : أراد بقوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } الظلمةَ ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } أو يُغَلِّبَ عليكم سفهاءَكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } ؛ معناه : أو يَخْلِِطَكُمْ فِرقاً مختلفِي الأهواء ، بأن يضربَ بعضَكم ببعضٍ بما يلقيهِ بينكم من العداوةِ. وقيل : معنى : { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } يَكِلْكُمْ إلى أنفسِكم ويُخْلِيْكُمْ من الطاعةِ بذنوبكم ؛ فتختلفُوا حتى يذوقَ بعضُكم شدَّة بعضٍ بالحرب والقتال. وقالَ : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ؛ يعني بالسيُّوف يَقْتُلُ بعضُكُمْ بعضاً.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } ؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّد كيف نُبَيِّنُ لَهم الآيةَ على إثْرِ آيةٍ ، { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } ؛ أي لكي يَفْقَهُوا أوامرَ اللهِ ، ثم هم لا يفقهون.
قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ شُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فقَالَ : " يَا جِبْرِيْلُ ، مَا بَقَاءُ أُمَّتِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الأَرْبَعِ؟! " فَقَالَ : إنَّمَا أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ ، فَادْعُ رَبَّكَ وَاسْأَلْهُ لأُمَّتِكَ. فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ فَتَوَضَأَ وَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ؛ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى وَأحْسَنَ الصَّلاَةَ ؛ ثُمَّ سَأَلَ اللهَ أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَى أُمَّتِهِ عَذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ، وَلاَ يُلْبسَهُمْ شِيَعاً ، وَلاَ يُذِيْقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ، فَنَزَلَ جِبْرِيْلُ عليه السلام ؛ فَقَالَ : يَا مُحَمَّد ؛ إنَّ الله قَدْ سَمِعَ مَقَالَتَكَ ، وَإنَّهُ قَدْ أَجَارَهُمْ مِنْ خِصْلَتَيْنِ : أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُمْ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ الأُخْرَتَيْنِ ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " سَأَلْتُ رَبِي أنْ لاَ يَبْعَثَ عَلَى أُمَّتِي عَذاباً مِنْ فَوْقِهِمْ ، وَلاَ مِنْ تَحْتِ أرْجُلِهِمْ ؛ فأَعْطَانِي ذلِكَ. وَسَأَلْتُهُ أنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ، فَمَنَعنِي ذلِكَ ، وَأخْبَرَنِي جِبْرِيْلُ أنَّ فَنَاءَ أُمَّتِي بالسَّيْفِ ".
(0/0)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } ؛ أي كذب بالْقُرْآنِ قومْك وهو الصدقُ ، { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } ؛ أي بحفيظٍ أحفظُ أعمالَكم وأجازيَكم عليها ، وقيل : معناهُ : لستُ أقدِرُ أن أحُولَ بينَكم وبين الكفرِ الذي يضرُّكم ، كما يدفعُ الوكيلُ الضررَ عن موكِّله. وعن ابْنِ عبَّاس : (أنَّ مَعْنَاهُ : لَسْتُ بمُوَكَّلٍ عَلَيْكُمْ ؛ أُخْبرُكُمْ عَنِ الإِيْمَانِ ، قَالَ : ثمَّ نُسِخَ هَذا بآيَةِ السَّيْفِ).
(0/0)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } ؛ معناهُ : لِكُلِّ وَعْدٍ وَوَعِيْدٍ وقتٌ ، وأجلُ غايةٍ ؛ منهُ ما يكون في الدُّنيا ، ومنه ما يكون في الآخرةِ ، { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، يا أهلَ مكَّة ذلكَ إذا نَزَلَ بكم.
(0/0)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } ؛ معناهُ : وإذا رأيتَ المشركين الذين يكذِّبون ويستهزِئون بكَ وبالْقُرْآنِ { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي اتْرُكْهُمْ ولا تجالِسْهم على وجهِ الإنكار عليهم ، إلا أنْ يتركُوا استهزاءَهم ويَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ. وذلكَ أن المشركينَ كانوا إذا جالسُوا المؤمنين ؛ وَقَعُوا في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فسبُّوه واستهزؤا بهِ ، فنهَى اللهُ المؤمنينَ عن مُجَالَسَتِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ معناهُ : وَإمَّا يوقعنَّك الشَّيْطانُ في النِّسْيَانِ بَعْدَ النهي فتجلسَ معهم ، فلا شيءَ عليك في تلك الحالِ التي تكون فيها ناسياً ، فلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مََعَ قَوْمٍ إذا ذكرتَ ، ودَعْ مجالسةَ المشركين فتأثَم. قرأ ابنُ عبَّاس وابن عامرٍ : (يُنْسِيَنَّكَ) بالتشديدِ.
فلما نزلت هذه الآيةُ قال المسلمون : يا رسولَ اللهِ ؛ لَئِنْ كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالْقُرْآنِ قُمْنَا وتركناهم ، لا نستطيعُ أن نجلسَ في المسجدِ الحرام ، ولا أن نطوفَ بالبيتِ ؟ فنَزل قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } ، أي ما على الذين يَتَّقونَ الشركَ والمعاصي والخوضَ في آثامِهم ، ومخالفتِهم أمرَ الله من شيء من العقاب. { وَلَـاكِن ذِكْرَى } ؛ أي ولكن ذكِّروهم بالْقُرْآنِ ذِكْرَى إذا فعلُوا وَعِظُوهُمْ ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ؛ الشركَ والاستهزاءَ والخوضَ. فموضع (ذِكْرَى) نَصْبٌ على المصدر ، ويجوزُ أن يكون في موضعِ رفعٍ ؛ أي هُوَ ذِكْرَى.
(0/0)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاوةُ الدُّنْيَا } ؛ أي ذر الْكُفَّارَ الذين اختارُوا في أنفسهم اللَّعِبَ والباطلَ والاستهزاء. ويقال : معناهُ : الذين اتَّخذوا دينَهم بهوى أنفسهم ، ومن اتَّخذ دينَهُ بهوى نفسهِ فهو لاعبٌ. وقال الفرَّاء في معنى الآية : (لَيْسَ مِنْ قَوْمٍ إلاَّ وَلَهُمْ عِيْدٌ يَلْهُونَ فِيْهِ ، إلاَّ أمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَإنَّ أعْيَادَهُمْ صَلاَةٌ وَتَكبيْرٌ وَبرٌّ وَخَيْرٌ). وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاوةُ الدُّنْيَا } معناه : وَشَغَلَتْهُمُ الحياة الدُّنيا بما فيها من زهرتِها وزينتِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } ؛ ِأي ذكِّرْ بالْقُرْآنِ وعِظْ بهِ كراهةَ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بمَا كَسَبَتْ. ويقال : قَبْلَ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ. ويقال : لئلا تُبْسَلَ نَفْسٌ ؛ أي لئلا تَهلِكَ نفسٌ. وقال الحسنُ مجاهد وعكرمة والسدي : (تُبْسَلَ : أيْ تُسَلَّمَ لِلْهَلَكَةِ).
وقال ابنُ زيد : (معناه : وَذكِّرْ بهِ أنْ تُبْسَلَ ؛ أيْ لَئِلاَّ تَبْسَلَ ؛ أيْ لَئِلاَّ تُؤْخَذ). وعن ابنِ عبَّاس : (أن تُفْضَحَ). وقال الأخفشُ : (أنْ تُبْسَلَ : أنْ تُجَازَى). وقال الفرَّاءِ : (تَرْتَهِنَ) ، وقال عطيةُ العوفِي : (مِنْ قَبْلِ أنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ ؛ أيْ مِنْ قَبْلِ أنْ تُسَلَّمَ إلَى خَزَنَةِ جَهَنَّمَ). والْمُتَبَسِّلُ : الْمُسْتَسْلِمُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } ؛ أي ليس لتلك النفس مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ ولاَ شَفِيعٌ ؛ أي قريبٌ يَمنع العذابَ عنها ولا شفيعٌ يشفعُ لَها في الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } ؛ أي لو جاءَت مكانَها بكلِّ ما كان في الأرضِ جميعاً افتداءً عن نفسها لا يُقْبَلُ منها. وسُمي الفداءُ عدلاً ؛ لأنه مِثْلٌ للشيء ، ويقالُ لأحد جَانبِي الحجل : عِدْلٌ بالكسرِ ؛ لأن كلَّ واحدِ من العِدلين مِثْلٌ لصاحبهِ ، فمعنى الآيةِ : وإن تَفْتَدِي بكلِّ فداءٍ لا يُؤخَذُ منها.
وقوله تعالى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي وجيعٌ ؛ { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ؛ أي بما كانوا يَجْحَدُونَ في الدُّنيا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والْقُرْآنِ.
(0/0)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
َقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا } ؛ أي قل يا مُحَمَّد لكفَّار مكَّة الذين يدعونَكم إلى دينِ آبائهم : أنَعْبُدُ سِوَى اللهِ من الأصنام مَا لا يَنفَعُنَا إن عبدناهُ في رزقٍ ولا معاشٍ ، وَلاَ يَضُرُّنَا إن تركناهُ في رزق ولا معاش ، { وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } ؛ عطفٌ على الاستفهامِ ؛ أي كيف نرجعُ إلى الكفر بَعْدَ إذْ هَدَانَا اللهُ لدينه ، وأكْرَمَنَا بمعرفتهِ ، فيكونُ مَثَلُنَا ؛ كَـ ؛ مَثَلِ ؛ { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ } ؛ فأذهبَهُ ؛ { فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ } ؛ ضَالاً ، لا يقالُ : كالذي زَيَّنَتْ له الشياطيينُ هواهُ ؛ فهو يعملُ في الأرضِ بالمعاصي. وقيل : معناهُ : كالذي اسْتَفْرَسَتْهُ الغِيْلاَنُ في الْمَهَامَةِ فأضَلُّوهُ ؛ فهو حَائِرٌ. و(حَيْرانَ) نُصِبَ على الحال.
قرأ الأعمش وحمزة : (كَالَّذِي اسْتَهْوَاهُ) بالألفِ والإِمالة ، وقرأ طلحةُ بالألف ، وقرأ الحسنُ : (اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ). وفي مصحفِ عبدِاللهِ : (اسْتَهْوَاهُ الشَّيْطَانُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا } ؛ أي لهُ أصحابٌ يدعونَه إلى الطريقِ المستقيم : أنِ ائْتِنَا وَاتَّبعْنَا ؛ فإنَّا على الطريقِ ، فأبَى أن يأتِهم ويطيعَهم.
وقيل : إن الآيةَ نزلت في عبدِالرحمن بن أبي بكرٍ حين دعا أباهُ إلى الكفر ، فأنزلَ اللهُ تعالى : { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا }. وقولهُ : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ } وهو عبدُالرَّحمن بن أبي بكرٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى } قيل : كان أمُّهُ وأبوهُ يدعوانِه إلى الإِسلام ، وكان الشياطينُ والكفَّار يُزَيِّنُونَ له الكفرَ إلى أن مَنَّ الله عليه بعد ذلك بقَبُولِ الإِسلامِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ } ؛ أي قُلْ لَهُمْ : إنَّ دينَ الله هو الإسلامُ ؛ وأمَرَنَا لِنُخْلِصَ العبادةَ ؛ : { لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }.
(0/0)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } ؛ عطف على قوله : (لِنُسْلِمَ) أي أُمِرْنَا لِنُسْلِمَ ؛ فقيل لنا : أسْلِمُوا وأقيمُوا الصلاةَ بركوعها وسجودها ، (وَاتُّقُوهُ) أي اتَّقُوا سَخَطَهُ ؛ { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؛ أي تُجمعون يوم القيامةِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } ؛ أي لإِقامةِ أمر الحقِّ ؛ وهو الثوابُ والعقاب في الآخرةِ ، ولم يَخْلُقْهَا باطلاً لغيرِ شيء ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ } ؛ أي وَخَلَقَ الخلائق يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَُيَكُونُ. وقيل : معناهُ : واتُّقُوهُ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ. وقيل : وَاذْكُرُوا يَوْمَ يَقُولُ ليومِ القيامةِ : كُنْ فَيَكُونُ مكوَّناً بإذنِ الله تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ } ؛ أي الآخرة في أمرِ يوم القيامة حقٌّ كائنٌ لا محالة ، وَلَهُ الْمُلْكُ يومئذ. وتخصيصُ ذلك اليوم بالْمُلْكِ ؛ لأنَّ اليومَ الذي لا يظهرُ فيه مِن أحدٍ سوى اللهِ نفعٌ ولا ضَرٌّ كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ }[الانفطار : 19]. والصُّورُ : قَرْنٌ يَنْفُخُ فِيْهِ إسْرَافِيلُ نفختين ؛ فتُغشَى الخلائقُ كلُّهم بالنفخةِ الأولى ؛ ويَحْيَوْنَ بالنفخة الثانيةِ ، فتكون النفخةُ الأولى لانتهاءِ الدُّنيا ؛ والثانيةُ لاتبداءِ الآخرة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } ؛ أي وعالِمُ ما غابَ عن العبادِ وما علموهُ ؛ { وَهُوَ الْحَكِيمُ } ؛ في أمرهِ ، { الْخَبِيرُ } ؛ بأعمالِ عباده.
(0/0)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } ؛ أي اذْكُرُ يا مُحَمَّد إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ آزَرَ ، من قرأ (آزَرَ) بالنصب فموضعُه خفض بدل من (أبيْهِ) إلا أنه لا ينصرفُ ؛ لأنه اسم أعجميٌّ ، ومَن رَفَعَهُ فعلى النداءِ ؛ أي يَا آزرُ. وكان آزرُ مَسْكَنُهُ (كُوتٌ) قريةٌ من سوادِ الكوفة.
قال السُّدِّيُّ والحسنُ : (آزَرُ اسْمٌ لأَبي إبْرَاهِيْمَ). وقال الفرَّاء : (هُوَ صِفَةٌ عَيْبٍ وَسَبٍّ ؛ وَمَعَناهُ فِي كَلاَمِهِمْ : الْمِعْوَجُّ). وقيل : معناهُ : الشيخُ لَهم. وقيل : قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبيهِ الْمُخْطِىءِ ، أو قال لأبيه : يَا مُخْطِىءُ. وكان على هذا القولِ اسمٌ أندتارخ بن ياجوراء. وقال سعيدُ بن المسيب ومجاهدُ : (آزَرُ اسْمُ صَنَمٍ) وهو على هذا التأويلِ في موضع نصبٍ ، وفي الكلام تقديمٌ وتأخير ؛ تقديرهُ : اتَّخَذ آزرَ أصْنَاماً آلِهَةً مِنْ دون اللهِ.
وقيل : كان إبراهيمُ قالَ لأبيه : لا تَتَّخِذُوا آزَرَ إلَهاً ، أتَتَّخِذُ أصْنَامًا آلهِةً ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ } ؛ عن الحق ؛ { مُّبِينٍ } ؛ أي ظاهرَ الضَّلالةِ في ذهابٍ عن الحقِّ بيِّنٍ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي كما أرينا إبراهيم النصرةَ في دينهِ والحقَّ في مخالفة قومهِ ؛ نُرِيَهُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ ؛ أي مُلْكُهَا ونريه القدرةَ التي يقوِّي بها دلالتَهُ على توحيدِ الله تعالى ، وهو ما رأى من السماءِ والأرض والكواكب والقمرِ والشمس.
وقال مجاهدُ وسعيدُ بن جبيرٍ : (مَعْنَى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } أيْ آيَاتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ؛ وَذلِكَ أنَّهُ أُقِيْمَ عَلَى صَخْرَةٍ وَكُشِفَ لَهُ عَنِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى الْعَرْشَ وَأسْفَلَ الأَرْضِيْنَ ، وَنَظَرَ إِلَى مَكَانِهِ فِي الْجَنَِّةِ ؛ وَذلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا }[العنكبوت : 27] يَعْنِي أرَيْنَاهُ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ).
وقيل : معنى الآية : كما أرَينا إبراهيمَ قُبْحَ ما كان عليه أبوهُ وقومه من المذهب ؛ كذلك نُرِيَهُ ملكوتَ السموات والأرض. والْمَلَكُوتُ : عِبَارَةٌ عَنْ أعْظَمِ الْمُلْكِ ؛ زيدتِ الواوُ والتاء للمبالغةِ ؛ كما يقال : رَهَبُوتٌَ خَيْرُ مِنْ رَحَمُوت ، هذا مثلٌ يقوله العربُ ؛ معناه : لئن تُرهب خيرٌ من أن تُرحم. فملكوتُ السموات : الشمسُ والقمر والنجوم ؛ وملكوتُ الأرض : الجبال والشجرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } ؛ أي نُرِيَهُ الملكوتَ ليستدلَّ بذلك على توحيدِ الله ويَثْبُتَ على اليقين.
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـاذَا رَبِّي } قال المفسرون : إنَّ إبراهيم وُلِدَ في زمانِ النَّمْرُودِ بْنِ كَنْعَانَ ، وكان النمرودُ أولَ من دعا الناسَ إلى عبادتهِ ، وكان له كهَّان ومنجِّمون ، فقالوا له : إنهُ يولد في هذه السنةِ غلامٌ يغيِّرُ دينَ أهل الأرض ، ويكونُ هلاكُكَ وزوالُ مُلْكِكَ على يديهِ.
قال السديُّ : (رَأى النَّمْرُودُ فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ كَوْكَباً طَلَعَ فَذَهَبَ بضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَتَّى لَمْ يُبْقِ لَهُمَا ضَوءاً ، فَفَزِعَ مِنْ ذلِكَ وَدَعَا السَّحَرَةَ وَالْكُهَّانَ ؛ وَسَأَلَهُمْ عَنْ ذلِكَ فَقَالُواْ : هُوَ مَوْلُودٌ يُولَدُ فِي نَاحِيَتِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، وَأمَرَ الرِّجَالَ باعْتِزَالِ النِّسَاءِ ، وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الْحُرِّاسَ ، فَمَكَثَ كَذلِكَ مَا شَاءَ اللهُ).
قال السديُّ : (خَرَجَ النَّمْرُودُ بالرِّجَالِ إلَى الْعَسْكَرِ ، وَنَهَاهُمْ عَنِ النِّسَاءِ مَخَافَةً مِنْ ذلِكَ الْمَوْلُودِ ، فَبََدَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَلَمْ يأْتَمِنْ عَلَيْهَا أحَداً مِنْ قَوْمِهِ إلاَّ آزَرَ ، فَدَعَاهُ وَأَمَرَهُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَقَالَ لَهُ : إنَّكَ ثِقَتِي ؛ فَأَقْسَمْتُ إلَيْكَ أنْ لاَ تَدْنُو مِنِ امْرَأَتِكَ وَلاَ تُوَاقِعْهَا ، ثُمَّ أوْصَاهُ بحَاجَتِهِ. فَلَمَّا دَخَلَ الْمَدِيْنَةَ وَقَضَى حاَجَتَهُ ، قالَ : لَوْ دَخَلْتُ عَلَى أهْلِي فَرَأْيْتُ كَيفَ حَالُهُمْ ، فَلَمَّا نَظَرَ إلَى امْرَأتِهِ لَمْ يَتَمَالَكْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَكَانَتْ قَدْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ، فَحَمَلتْ بإِبْرَاهِيْمَ عليه السلام ، فَلَمَّا حَمَلَتْ بهِ ؛ قَالَتْ الْكَهَنَةُ لِلنَّمْرُودِ : إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي أخْبَرْنَاكَ بهِ قدْ حَمَلَتْ بهِ أُمُّهُ اللَّيْلَةَ ، فَأَمَرَ النَّمْرُودُ بذبْحِ كُلِّ وَلَدٍ مِنَ الْغِلْمَانِ.
فَلَمَّا دَنَتْ ولاَدَةُ أُمِّ إبْرَاهِيْمَ وَأخَذهَا الْمخَاضُ ، خَرَجَتْ هَاربَةً مَخَافَةَ أنْ يُطَّلَعَ عَلَيْهَا فَيُقْتَلُ وَلَدُها ، فَوَضَعَتْهُ فِي مَوْضِعٍ ، ثُمَّ لَفَّتْهُ في خِرْقَةٍ وَجَعَلَتْهُ فِي الْحَلْفَاءِ ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى زَوْجِهَا فَأْعْلَمَتْهُ ، فَانْطَلَقَ أبُوهُ إلَيْهِ وَحَفَرَ لَهُ سَرَباً فِي ذلِكَ الْمَكَانِ وَجَعَلَهُ فِيْهِ ، وَسَدَّ عَلَيْهِ بصَخْرَةٍ مَخَافَةَ أنْ تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَخَتَلِفُ إلَيْهِ سِرّاً فَتُرْضِعُهُ ، وَكَانَ إذا بَكَى عَلَى أُمِّهِ أتَاهُ جِبْريْلُ عليه السلام فَوَضَعَ إصْبَعَهُ فِي فَمِهِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا اللَّبَنُ ، فَكَانَ يَمُصُّ سَبَّابَةَ نَفْسِهِ).
(0/0)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } ؛ وذلك أنَّ قومَ إبراهيم خاصَمُوه في مخالفتهِ إياهم في دينِهم وخوَّفهم بآلِهتهم ، وقالوا : أمَا تَخَافُ آلِهَتَنَا وأنتَ تشتِمُها أن تُخَبلَكَ وتُفْسِدَكَ؟! وقالوا له : إنَّ موضعَ أهلِ كذا قد تركُوا عبادةَ الأصنام فأُمْحِنُوا وقُحِطُوا ، وأهلُ موضعِ كذا أحسَنُوا عبادةَ الأصنامِ فرُزقوا السَّعةَ والخصبَ ، فأجابَهم إبراهيمُ عليه السلام : (أتُحَاجُّونِي فِي الله) أي أتُخاصموني في توحيدِ الله ودينه ، وقد نصرنِي اللهُ وعرَّفَني دينَهُ وتوحيدهُ بما نَصَبَ لِي من الدلائلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ } ؛ أي لا أخافُ من هذهِ الأشياءِ التي تعبدُونَها وهي مِمَّا لا يسمعُ ولا يبصرُ ولا ينفَعُ ولا يضرُّ. قَوْلَهُ تَعَالَى : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } ؛ استثناءٌ منقطع ؛ أي ولكن أخافُ مشيئةَ ربي أن يعذِّبَني ببعضِ ذنوبي أو يَبْلُوَنِي بشيءٍ من مِحَنِ الدُّنيا. وموضع (أنْ يَشَاءَ) نَصْبٌ على تقديرِ : لا أخافُ إلا مشيئةَ اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ؛ أي أحَاطَ علمُ ربي بكلِّ شيء ، ومَلأَ كلَّ شيءٍ علماً ، وهو يعلمُ أنَّكم على غيرِ الحقِّ ، وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } ؛ تنبيهٌ على التفَكُّرِ فيمَا كان بقولهِ لََهمْ.
(0/0)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } ؛ وكيف أخافُ الأصنامَ التي أشركتُموها مع اللهِ ، وهي لا تَمْلِكُ الضَّرََّ والنفعَ ، بل لا تعرفُ مَن عَبدَها ومَن تركَ عبادَتَها ، { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ } ؛ الذي يَمْلِكُ النفعِ والضرَّ ويعلمُ مَنْ عبدَهُ ومَنْ لم يعبدْهُ ، { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } ؛ أي عُذْراً وحجَّة لكم ؛ { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ } ؛ أي الموحِّدون أم المشركون ، { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، ذلكَ.
فَلم يُجيبُوا فأنزلَ اللهُ تعالى : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } ؛ أي الذين أقَرُّوا بتوحيدِ الله ولم يَخْلِطُوا إيْمَانَهُمْ بشِرْكٍ ، { أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ } ؛ من العذاب ؛ { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } ؛ إلى الحجَّة ، وقيل : إلى الجنَّة. وقيل : إنَّ قولَه : { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قولُ إبراهيمَ عليه السلام.
وعن ابن مسعُودٍ رضي الله عنه أنه قال : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ؛ " شُقَّ ذلِكَ عَلَى أصْحَاب رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَقَالُواْ : وَأيُّنَا لَمْ يُلْبَسْ إيْمَانَهُ بظُلْمٍ ؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّهُ لَيْسَ كَذلِكَ ، ألاَ تَسْمَعُونَ إلَى قَوْلِ لُقْمَانَ : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } " ؟.
(0/0)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } ؛ أي تلك المقالةُ التي حاجَّ بها إبراهيمُ حجَّتُنا أعطينَاها ولَقَّنَّاهَا إبراهيمَ ؛ لِيَحْتَجَّ بها على قومهِ ، { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } ؛ في الدُّنيا بالحجَّة والنُّصرةِ ، وفي الآخرةِ بالثواب والفضيلة. ومن قرأ (دَرَجَاتٍ) بالتنوين لا على الإِضافةِ فمعناهُ : نرفعُ مَن نشاءُ درجاتٍ ، { إِنَّ رَبَّكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ : { حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ؛ في تفضيلِ بعض الناس على بعضٍ ، وتخصيصِ بعضهم بالنُّبوَّة.
(0/0)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } ؛ أي وَهَبْنَا لإِبراهيمَ إسْحَقَ نَبيّاً لصلبهِ ويعقوبَ نافلةً ، (كُلاً) يعني أنَّ إبراهيمَ وإسحقَ ويعقوب هَدَيْنَاهم للنَّبوة والإِسلام { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } مِن قَبْلِ إبراهيمَ ، { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ } ؛ أي ومِن ذريَّة نوحٍ ، وهذا قولُ بعضِهم ؛ جعلوا الهاءَ راجعةً إلى نوحٍ ؛ لأنَّها أقربُ إلى اسْمِهُ ؛ ولأنه ذُكِرَ في جملة المعطوفينَ على داودَ وسليمانَ مِمَّن ليس مِن ذريَّة إبراهيمَ وهو من ذريَّة نوحٍ كيونُسَ عليه السلام وكلُوطٍ عليه السلام الذي كان ابنَ أخِ إبراهيم ولم يكن مِنْ ولدهِ.
وقال بعضُهم : هي راجعةٌ إلى إبراهيم ؛ لأنه هو المقصودُ بالذِّكر فيما تقدَّم من الآية ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي كما تفضَّلنا على هؤلاء الأنبياءِ بالنبوَّة وما يتصَّلُ بها من العِزِّ والكرامةِ ، كذلك نتفضَّلُ على الْمُحسنينَ.
(0/0)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ } ؛ معناه : ومِن ذريَّة إبراهيمَ { وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ } المرسلينَ. قال الضَّحاك : (كَانَ إلْيَاسُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيْلَ بْنِ إبْرَاهِيْمَ). وقال بعضُهم : معنى الآية : وَهدينا (زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ). وفي الآيةِ حُجَّةٌ على مَن أنكرَ في الحسنِ والحسين أنَّهما أبناءُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالى جَعل عيسى - ولا أبَ له - مِن ذريَّة إبراهيمَ.
(0/0)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً } ؛ معناه : وَهدينا إسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ ؛ وهو تلميذُ إلياسَ وخليفتُه من بعده. وقال محمدُ بن إسحق : (هو ابن أخي موسى عليه السلام). و(الْيَسَعَ) فيه قراءَتان : بالتشديدِ والتخفيف ، { وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ } ؛ أي وكلَّ هؤلاء الأنبياءِ فضَّلناهُم بالنبوَّة والإِسلام على عالمَي زمانِهم.
(0/0)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } ؛ أي هدينا بعضَ آبائهم من قبلِهم مثلَ آدمَ وشيت وإدريسَ ، وبعضَ ذرياتِهم مِن بعدهم ؛ وهم أولادُ يعقوب. ومن جملة ذرياتِهم نبيُّنا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. وقوله تعالى : (وَإخْوَانِهِمْ) هم أخوةُ يوسفَ في عصرهم ، ويحتملُ أن يكون المراد بهم كلُّ من آمنَ معهُم ، فإنَّهم كلُّهم داخلون في هدايةِ الإسلام.
وقوله تعالى : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ } ؛ أي اصفطينَا هؤلاءِ الأنبياءَ بالنبوَّة والإِخلاصِ ، وجَمَعْنَا فيهم خصالَ الاجتباء ؛ مأخوذٌ من قولِهم : جَبَيْتُ الماءَ في الحوض واجْتَبَيْتُهُ ؛ إذا جَمَعْتُهُ. وقوله تعالى : { وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي أثْبَتْنَاهُمْ على طريقِ الحقِّ وهو دينُ الإسلامِ.
(0/0)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ؛ أي إنَّ ذلك الطريقُ المستقيم دينُ الله يُوَفِّقُ له من يشاءُ مِمَّن كان أهْلاً لذلك ، { وَلَوْ أَشْرَكُواْ } ؛ أي لو أشْرَكَ هؤلاء الأنبياءُ طُرْفَةَ عين مع اصطفاءِ الله تعالى إيَّاهم ، { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا } ؛ أي لَبَطَلَتْ أعمالُهم التي ؛ { كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ من الطاعة ، فكيفَ أنتُم يا أهلَ مكَّة؟!
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } ؛ أي أولئك الأنبياءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أعطيناهُم الكتابَ المنَزَّلَ ، والحُكْمَ بين الناس ، وأكرمناهُم بالنبوَّة والرسَالة ، { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } أي بملَّة هؤلاءِ الأنبياء ، { هَـاؤُلاءِ } ؛ يعني قُريشاً ؛ { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } ؛ أي فقد قََام بها ، { قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } وهم أهلُ المدينةِ وأتباعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وقيل : هم الملائكةُ ، وإنَّما قال : { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا } ولم يقل : فقد قامَ بها ، تشريفاً للملائكةِ بالإضافة إلى نفسهِ على معنى : أكرَمْنا ووفَّقْنا إلى الإيْمان بها. يقال : معناهُ : فقد أكرمنَا بهَا قَوْماً لَيْسُوا بهَا بكَافِرِينَ ؛ فقامُوا بها.
(0/0)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } ، أي أولئكَ الأنبياءُ الذين ذكرناهم من قَبْلُ هم الذين أكرمَهُمْ الله بالطريقةِ الحسَنة ؛ فَاقْتَدِ بسيرتِهم ؛ اصْبرْ كما صَبَروا حتى تستحقَّ من الثواب ما استحقُّوا. وأما الهاء في (اقْتَدِهِ) فإذا أثَبَتَّ الهاء في الوقفِ تتبين بها كسرة الدال ، فإن وَصَلْتَ قُلْتَ : { اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ }.
قَوْلُهُ : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } ؛ معناهُ : قُلْ يَا مُحَمَّدُ : لاَ أسْأَلُكْ على الإيْمان والقُرْآن جُعلاً ، { إِنْ هُوَ } ؛ يعني القُرْآنِ ، { إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } ؛ إلا عِظَةً بليغةٌ للجنِّ والإنسِ. وفي الآية دليلٌ على أن شرائعَ الأنبياءِ تَلْزَمُنَا ما لم نَعْلَمْ نسخَة ؛ لأن اسمَ الهدى يعقُ على التوحيدِ والشَّرائع.
(0/0)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } ؛ قال ابن عبَّاس وسعيدُ بن جُبير في معنى هذه الآية : " جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَال لَهُ مَالِكُ بنُ الصَّيْفِ ، وَكَأنَ رَأْسَ الْيَهُودِ ؛ فَقَِالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أُنْشِدُكَ اللهَ يَا مَالِكُ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عليه السلام ؛ أتَجِدُ فِيْهَا أنَّ اللهَ يَبْغَضُ الْحَبْرَ السَّمِيْنَ ؟ " قَالَ : نَعَمْ. قَالَ : " فأَنْتَ الْحَبْرُ السَّمِيْنُ ، وَقَدْ سَمََّنَتْكَ مَأكَلَتُكَ الَّتِي ُتُطْعِمُكَ الْيَهُودُ ، وَلَسْتَ تَصُومُ - أيْ وَلَسْتَ تُمْسِكُ- " فَضَحِكَ بهِ بَعْضُ الْقَوْمِ ، فَغَضِبَ مَالِكٌ ، وَكَانَ حَبْراً سَمِيْناً ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَقَالَ : مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ".
وقال السُّدِّيُّ : (نَزَلَتْ في فِنْحَاصَ بْنِ زَوْرَاءَ ؛ وَهُوَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ). وقال مُحمد بن كعبٍ : (جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ وَهُوَ مُحْتَبٍ ، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ ، ألاَ تَأْتِيْنَا بكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، كَمَا جَاءَ بهِ مُوسَى مِنْ عِنْدِ اللهِ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ }[النساء : 153]. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ : مَا أنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ ، وَلاَ عَلَى مُوسَى ، وَلاَ عَلَى عيْسَى ، وَلاَ عَلَى أحَدٍ شَيْئاً. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها : ما عَظَّمُوا اللهَ حقَّ عَظَمَتِهِ ، ولا عَرَفُوهُ حقَّ معرفتِه إذ جَحَدُوا فقَالُوا : مَا أنزَلَ اللهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ؛ أي من كتابٍ ولا وَحْيٍ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمّدُ : { مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى } ؛ يعني التوراةَ ؛ { نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } ؛ أي ضياءً للناسِ وبياناً لَهم من الضَّلاَلة ، { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ } ؛ يكتبونَه صحائفَ ، { تُبْدُونَهَا } ؛ يُظهرونَ ما فيها مما ليسَ فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وزمانُه ومبعثه ونبوَّتُه ، { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } ؛ أي يسترون ما فيه صفةُ النبِيِّ صلى الله عليه وسلم وبَعَثُهُ وآيةُ الرَّجمِ.
وقولُه تعالى : { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } ؛ يحتملُ أن يكون خطاباً للمسلمين ، أي عُلِّمْتُمْ أنتم أيُّها المؤمنون من الأحكامِ والحدُودِ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ. والأظهرُ : أنه خطابٌ لليهودِ ؛ لأنه مَسُوقٌ على ما سبقَ ، معناهُ : عَلِمْتُمْ بالقُرْآنِ ما كنتم أخْفَيْتُمُوهُ قبلَ نزولِ القُرْآنِ ؛ لأنَّهم قد ضَيَّعُوا شيئاً كثيراً من الْقُرْآنِ والأحكامِ ، وكانوا يُعَانِدُونَ ولا يعملونَ حتى صاروا كأنُّهم لم يعلمُوه.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلِ اللَّهُ } ؛ معناه : إنْ هم أجابُوكَ وقالوا : أعْلَمَنَا اللهُ ، وإلا فَقُلْ : اللهُ عَلَّمَكُمْ. ويقال معناهُ : قُلْ اللهُ أنزلَ الكتابَ على موسى ، { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } ؛ أي دَعْهُمْ واتركهم في باطلِهم يَلْهُونَ ، ويقال لكلِّ من عَمِلَ ما لا ينفعهُ : إنَّما أنْتَ لاَعِبٌ.
(0/0)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهَـاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } ؛ يعني الْقُرْآنَ الذي كذب به أهلُ الكتاب ومشركُو قريشٍ ؛ هو { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } أي فيه بَرَكَةً ومغفرةٌ للذنوب لِمَنْ آمنَ به ، والبركةُ : ثبوتُ الخير على النَّماءِ والزيادةِ. وقوله تعالى : { مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ؛ هو موافقٌ للتوارة والإِنجيلِ وسائر كتب اللهِ في أصلِ الدِّين ، ويقال : المرادُ بـ { الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } النشأة الثانيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } ؛ أي أنزلناهُ للبركةِ ، ولِتُخَوِّفَ به أهلَ أُمِّ القُرَى ، وسُميت مكةٌ أمَّ القرى لأنَّها أصلُ القرى دُحِيَتِ الأرضُ من تحتِها ، ويقال : لأنَّها أعظمُ القرى شأناً ، وقيل : لأنَّها قِبْلَةً تأْمُّهَا الناسُ بالصلوات إليها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } ؛ أي الذين يُقِرُّونَ ويصدِّقونَ بالبعثِ يؤمنون بالقُرْآنِ ، وفي هذا بيانٌ أنَّ الإيْمانَ بالحساب والجزاءِ يقتضي الإيْمانَ بالقرآن ، ولا ينفعُ بدون الإيْمان به وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ؛ أي يُدَاوِمُونَ على الصلوات الخمسِ بركوعها وسجودها ومواقيتها.
(0/0)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللَّهُ } ؛ قال ابن عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ وَمُسَيْلَمَةَ الْكَذاب الَّذِي كَانَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ ، وَفِي عَبْدِاللهِ بْنِ سَعْدِ بْن سَرْحٍ الْقُرَشِيِّ ، " كَانَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ يَتَكَلَّمُ بالإسْلاَمِ ، وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ ، وَكَانَ إذا أمْلَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ اللهَ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ ، كَتَبَ مِنْ قَلْبهِ : أنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ ، وَقَالَ : هَذا وَذاكَ سَوَاءٌ.
فَلَمَّا نَزَلَتِ الآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } إلى قَوْلِهِ تَعَالَى { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً } [المؤمنون : 12-14] ، ثُمَّ أمْلاَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا أمْلَى عَلَيْهِ قَوْلَهُ : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } [المؤمنون : 14] عَجِبَ عَبْدُاللهِ بْنُ سَعْدٍ مِنْ تَفْصِيْلِ خَلْقِ الإِنْسَانِ ، فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ : فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : أكْتُبْ ، هَكَذا أُنْزِلَ عَلَيَّ. فَشَكَّ عَبْدُاللهِ حِيْنَئِذٍ ، وَقَالَ : لَئِنْ كَانَ مُحَمُّدٌ صَادِقاً فَقَدْ أُوْحِيَ إلَيَّ كَمَا أُوْحِيَ إِلَيْهِ ، وَلإنْ كَانَ كَاذِباً فَلَقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ)
ومعناها : أيُّ أحدٍ أكفرُ وأشدُّ غبناً في كفره ممن اختلق على الله كذباً ، بأن جعل له شريكاً وولداً كما قال المشركون ومالكُ بن الصيف : (وَمَنْ قَالَ سَأْنزِلُ مِثْلُ مَا أنزَلَ اللهُ) ، والمرادُ بالذي { قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } مسيلمةَ الكذاب وكان يَسْجَعُ وَتَكَهَّنُ ويدَّعي النبوَّة ويزعمُ أنَّ الله أوحَى إليه. وأما عبدُالله بن سرح فارتدَّ ولَحِقَ بالمشركين وقال : أنا أعلمُكم بمُحَمَّدٍ ، فلقد كان يُملي عليَّ فأغيرَه واكتبُ كما شئت.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ } ؛ أي لو رأيتَ الظالمين { فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } لرأيتَ لَهم عذاباً عظيماً. والظالمون هُم الكافرون ، وقيلَ : المنافقون رَآهُمْ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يومَ بدرِ في صفوفِ المشركين ، وقد نَرَى مسلمين بمكَّة فأخرجَهم أهلُ مكة معهم كرْهاً ، فلما رأوا قِلَّةَ المؤمنين رَجَعُوا إلى الشِّرك ، فقالوا : غَرَّ هؤلاء دينُهم ، عَنَوا به المؤمنينَ ، وقاتلُوا مع المشركين فَقُتِلُوا جميعاً عامَّتهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي في سَكَرَاتِهِ ونزعاتِه وشدائده ، وقوله تعالى : { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ } معناه : أنَّ مَلَكَ الموتِ وأعوانَه من ملائكةِ العذاب يَبْسُطُونَ أيدَيهم عليهم بالعذاب ويقولون لَهم : { أَخْرِجُواْ أَنْفُسَكُمُ } أي خلَّصوا أنفسَكم ، ولستُم تقدرون على خلاصٍ. وقيل : معناه فَارَقُوا أرواحكم الخبيثةَ ، كما يقولُ : لأُحْرِقَنَّكَ بالْعَذاب ، لأُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } ؛ أي يقال لَهم يومَ قبضِ الرُّوح ، وقيل : يومَ القيامةِ حين معاينَة العذاب : اليوم تُجْزَوْنَ العذابَ الشَّديد الذي تُهَانُونَ فيه ، { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ } ، بكَذِبكُمْ ، { عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } ، وبما كنتم تَتَعَظَّمُونَ عن الإيْمَان بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ.
(0/0)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ أي جئتمونا بلا مَالٍ ولا وَلَدٍ كما خلقناكُم في الابتداءِ ، والمعنى : أنهُ يقال لَهم : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى }. وفي الخبرِ : " أنُّهُمْ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، قالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا : (وَاسَوْأَتَاهُ! الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَذلِكَ) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ، لاَ يَنْظُرُ الرِّجَالُ إلَى النِّسَاءِ ، وَلاَ النِّسَاءُ إلَى الرِّجَالِ ، شُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } ؛ أي وخلَّفتُم ما أعطيناكم من الأموال لغيركم أي خَلَّفَ عليها غيرَكم في دار الدُّنيا ، ولم تقدِّموها لأنفسكم ، { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ } ، آلِهَتَكَم ، { الَّذِينَ } ، التي ، { زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } ، يشفعون لكم ويقرِّبونكم إلَيَّ ، { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } ؛ أي وَصْلُكُمْ.
ومن قرأ (بَيْنَكُمْ) بالنصب فمعناه : تقطعَ ما بينَكم ؛ أي ما كنتم فيه من الشِّركة ، { وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ؛ أنَِّها شفاؤُكم عندَ الله حين لم يقدرُوا عن دفعِ شيء من العذاب عنكُم.
وقال الحسنُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى } أيْ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَةٍ). وقال ابنُ كيسان : (مُفْرَدِيْنَ مِنَ الْمَعْبُودِيْنَ). وقيل : (فُرَادَى) أي وحْداناً لا مالَ لكم ولا زوجَ ولا ولدَ ولا خدم. فُرَادَى : جمعَ فَرْدٍ ، مثلُ سَكْرَانٍ وَسُكَارَى ، كَسْلاَنٍ وكُسَالَى. ويقال أيضاً : فُرَادَى بجزمِ الرَّاء وكسرها وفتحها ، وجمعه أفْرَادٌ. وقرأ الأعرجُ : (فُرْدَى) بغيرِ ألِفٍ مثل سُكْرَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أي ما أعطيناكم وملَّكناكم من الأموال والأولاد والخدَم وراءَ ظهوركم في الدنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قرأ أهلُ الحجاز والحسن ومجاهد والكسائيُّ وحفص بالنصب ؛ وهي قراءة أبي موسَى الأشعري ، وقرأ الباقون بالرفع.
(0/0)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } ؛ أي خالقُ الْحَب وَالنَّوَى ، كقولهِ تعالى : { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }[الأنعام : 14] أي خالقُهما. وقال الحسنُ وقتادة : (فَالِقُ الْحَب) أيْ شَاقُّ الْحَبَّةِ عَنِ السُّنْبُلَةِ ، وَالنَّوَاةِ عَنِ النَّخْلَةِ. والْحَبُّ : جمع حَبَّةٍ والنَّوَى : جمع نَوَاةٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } ؛ أي يخرجُ الإنسانَ من النُّطفةِ ، والنطفةَ من الإنسانِ. وسُميت النطفةُ ميتاً ؛ لأنَّها من جُملة المواتِ. وقيل : معناهُ : يخرج النباتَ الغَضَّ الطرِيَّ من الحب اليابسِ ، ويخرجُ الحبَّ اليابس من النباتِ.
وكلُّ ما يكون نامياً عند أهلِ اللغة بمَنْزِلة الحيِّ ، وما لا يكون نامياً فهو بمنْزِلة الميت. ويقال : معناهُ : يخرج المؤمنَ من الكافرِ ، ويخرج الكافرَ من المؤمنِ ، وقوله : { ذالِكُمُ اللَّهُ } ؛ أي ذلكم اللهُ الذي يفعلُ هذا الفعلَ ؛ هو اللهُ ، { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } ؛ أي فمن أينَ تُُصْرَفُونَ عن الحق والإفِكُ في اللُّغة : هُوَ قَلْبُ الشَّيْءِ وَصَرْفُهُ.
(0/0)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَالِقُ الإِصْبَاحِ } ؛ أي شاقُ عَمُودِ الصُّبح عن سوادِ الليل ، وقال ابن عبَّاس : (مَعْنَاهُ : خَالِقُ الإصْبَاحِ). قال الزجَّاج : (الإصْبَاحُ وَالصُّبْحُ وَاحِدٌ ، وَالأَصْبَاحُ جَمْعُ الصُّبْحِ). ويقالُ : الإصباحُ بكسر الألف المصدرٌ ؛ ومعناهُ الدخولُ في ضوءِ النَّهار.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً } ؛ لستكنُوا فيه من ظُلْمتهِ في أوطانكم. وقرأ الحسنُ : (فَالِقُ الأَصْبَاحِ) بالفتحِ جمعُ صُبْحٍ ، { وَجَعَلَ الْلَّيْلَ سَكَناً } يسكنُ فيه خَلْقُه. وقرأ النخعيُّ : (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) على الفعلِ في معناه : نَوَّرَ النهارَ بالنور ؛ لتبتغُوا من فضلهِ ، وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً } ؛ نصبُ الشَّمسِ على معنى : (وَجَعَلَ) ؛ لأنَّ في (جَاعِلُ) معنى جَعَلَ ؛ أي جعلَ منازلَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبَانٍ معلومٍ لا يختلفُ ، إذا انتهَى إلى أقصى منازلهِ رجعَ ، فإن الشَّمسَ تدورُ على الفَلَكِ كلِّه في ثلاثِمائة وخمسةٍ وستِّين يوماً ورُبع يومٍ ، والقمرَ يدورُ على الفَلَكِ كلِّه في ثَمانٍ وعشرين ليلةً ، ويكون مستُوراً في ليلتين ، ثم يعودُ إلى ما كان ، فيعرفُ الناسُ بذلكَ آجالَ عقودِهم ، وأوقاتَ معاملاتِهم وعبادتِهم ، وسنينَ أعمارهم.
والْحُسْبَانُ : مصدرٌ ، يقال : فُلانٌ حُسْبَانُهُ على اللهِ ؛ أي حِسَابُهُ على اللهِ. ويقال : إنَّ الْحُسْبَانَ جمعُ حِسَابٍ ، كما يقال : شِهَابٌ وَشُهْبَانٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } ؛ أي ذلك الذي وَصَفَ تدبيرَ العزيزِ المنيع في سُلطانهِ ، الغالب الذي لا يُغلبُ ، العالِمِ بمصالح مَملكتهِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
وقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } ؛ أي هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ التي تختلفُ مواضِعها من جهة الشَّمال والجنوب والدبور والصبا ، لتعرفوا بها الطُّرُقَ من بلدٍ إلى بلد { فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي في الْمَفَاوز وَلُجَجِ البحار في الليلَة المظلمة في السُّفُنِ. فإنَّ مِن النُّجومِ ما يجعلهُ السائرَ تلقاءَ وجههِ ، ومنها ما يجعلهُ خلفَه ، ومنها ما يجعله على يَمينه ، ومنها ما يَجعله على شِماله ؛ لتظهرَ له الطريقُ التي تؤدِّيه إلى بُغْيَتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } ؛ أي بَيَّنا العلاماتِ مفصَّلةً ، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ؛ أي أنشأَ خلقكُم من نفسِ آدمَ عليه السلام وحدِها ؛ فإنه خَلَقَنَا جميعاً منهُ ، وخلقَ أُمَّنا حَوَّاءَ من ضِلع من أضلاعِ آدم عليه السلام ، وإنَّما مَنَّ علينا بهذا ؛ لأنَّ الناسَ إذا رجعوا إلى أصلٍ واحد كانوا أقربَ إلى أن يَأْلَفَ بعضُهم بعضاً.
وَقَوْلُهُ تَعَالى : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } ؛ قرأ ابن كثير وأبو عمرو : (فَمُسْتَقِرٌّ) بكسر القاف على معنى فَمنكم مُسْتَقِرٌّ ، وقرأ الباقون بفتحها على معنى : ذلك مُسْتَقَرٌّ. قال ابن عبَِّاس : (مَعْنَى قَوْلُهُ : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } أي مُسْتَقَرٌّ فِي أرْحَامِ الأّمَّهَاتِ ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أصْلاَب الآبَاءِ). وقال بعضهُم على الضدِّ من هذا ، إلا أنَّ لفظ الـ (مُسْتَقَرُّ) فيمَن خَلَّفَ ، كفلظِ المستودَع فيمَن لَمْ يَخَلِّفْ أقربُ.
وقال ابنُ مسعُودٍ : (مَعْنَاهُ : فَمُسْتَقَرٌّ فِي الرَّحِمِ إلَى أنْ يولَدَ ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي الْقَبْرِ إلَى أنْ يُبْعَثَ). وقال الحسنُ : (مُسْتَقَرٌّ فِي الدُّنْيَا ، وَمُسْتَوْدَعٌ فِي القَبْرِ). وقال مجاهدُ : (فَمُسْتَقَرٌّ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ فِي الدُّنْيَا ، وُمسْتَوْدَعٌ عِنْدَ اللهِ فِي الآخِرَةِ). وقال أبو العاليَة : (مُسْتَقَرُّهَا أيَّامُ حَيَاتِهَا ، وَمُسْتَوْدَعُهَا حِيْنَ تَمُوتُ وَحِيْنَ تُبْعَثُ). وقال بعضُهم : مُسْتَقَرٌّ في الرَّحم ، ومستقرُّ فوقَ الأرضِ ، ومستقرُّ تحت الأرضِ ، اقرأ : { وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى }[الحج : 5] و{ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ }[البقرة : 36]. وقيل : المستقرُّ في القبرِ ، والمستودعُ في الدنيا. وقال الحسنُ : (يا ابْنُ آدَمَ ، أنْتَ وَدِيَعَةٌ فِي أهْلِكَ ، وَيُوشِكُ أنْ تَلْحَقَ بصَاحِبكَ ، وَأنْشَدَ قَوْلَ لَبْيدٍ : وَمَا الْمَالُ وَالأَهْلُونَ إلاَّ وَدِيْعَةُ وَلاَ بُدَّ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُوقال آخرُ : فُجِعَ الأَحِبَّةُ بالأَحِبَّةِ قَبْلَنَا وَالنَّاسُ مَفْجُوعٌ بهِ وَمُفَجَّعُمُسْتَقِرٌّ أوْ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ خَلاَ وَالْمُسْتَقِرُّ يَزُورُهُ الْمُسْتَوْدَعُقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } ؛ أي بيَّنا العلاماتِ الدالاَّت على توحيدِ الله مفصَّلةً ، { لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } ؛ أي لقوم يستدلُّون بمعانِي الآيَات.
والفِقْهُ في اللُّغة : هو الْفَهْمُ لِمَعْنَى الْكَلاَمِ ، إلا أنه قد جُعِلَ في العُرْفِ عبارةً عن عِلْمِ الغيب ، على معنى أنهُ استدراكُ معنى الكلامِ بالاستنباطِ عن الأُصُولِ ، ولِهذا لاَ يَجُوزُ أن يوصفَ الله تعالى بأنه فَقِيْهٌ ؛ لأنه يوصَفُ بالعلمِ ، والعلمُ حجَّةُ الاستنباطِ ، ولكنه عَالِمٌ بجميعِ الأشياء على وجهٍ واحد.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ أي أنزلَ من السَّماء المطرَ ، فإن الله تعالى مُنَزَّلُ المطرِ من السماء إلى السَّحاب ، يُنَزِّلُ من السحاب إلى الأرضِ ، كما قال تعالى : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً مُّبَارَكاً }[ق : 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } أي فأخرجنا بالمطرِ نَبَاتَ كلِّ صِنْفٍ من أصنافِ الحبُوب معاشاً لَهم.
فإن قيل : كيفَ قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } فجعلَ المطر سَبَباً للنباتِ ، والفاعلُ بالسبب يكون مستعيناً بفعلِ السبب ، واللهُ تعالى مُسْتَغْنٍ عن الأسباب؟
قيل : إنَّما قال اللهُ تعالى : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } ؛ لأن المطرَ سببٌ يؤدِّي إلى النَّبات ، وليس بمولودٍ لهُ ، واللهُ تعالى قادرٌ على إنبات النباتِ بدون المطر ، وإنَّما يكون الفاعلُ بالسبب مستعيناً بذلك السبب إذا لم يُمكنه فعلُ ذلك الشَّيء إلا بذلك السبب ، كما أنَّ الإِنسانَ إذا لم يُمكنه أن يصعَد السطحَ إلا بالسُّلَّمِ ، كان السُّلَّمُ آلةَ الصُّعود ، والطائرُ إذا صعدَ السطح بالسُّلَّمِ ، لم يكن السُّلَّمُ آلةً لهُ ؛ لأنه يُمكنه أن يصعدَ السطحَ بدون السُّلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } ؛ أي أخرجنَا من المطرِ نباتاً أخضرَ ؛ وهو ساقُ السُّنْبلةِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } ؛ أي نُخْرِجَ من ساق السُّنبلةِ ، ما قد رَكِبَ بعضُه بعضاً ؛ يعني سنابلَ البُرِّ والشعيرِ والأَرُزِّ والذرَّة وسائرَ الحبوب ، يَرْكَبُ بعضُه بعضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } ؛ أي عُرُوقٌ قريبةُ المتناول ينالُها القاعدُ. والقِنْوَانُ : جَمْعُ الْقِنْوِ ؛ مثل صِنْوٍ وَصِنْوَانِ. والقِنْوُ : عَذقُ النَّخلةِ والعَذقُ ؛ بفتح العين : النَّخْلَةُ. قال الزجَّاج : (فِي الآيَةِ مَحْذُوفٌ ؛ أيْ دَانيَةٌ وَغَيْرُ دَانِيَةٍ ؛ وَهِيَ الَّتِي تَكُونُ بَعِيْدَةَ الْمُتَنَاوَلِ).
وقرأ الأعرجُ : (قُنْوَانٌ) بضمِّ القاف ؛ وهي لغةُ قيس. وقال مجاهدُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ : (دَانِيَةً) أيْ مُتَدَلِّيَةٌ). وقال الضَّحاك : (مُلْزَقَةٌ بالأِرْضِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } ؛ عطفُ على قوله تعالى : { خَضِراً } أي وأخرجنا جَنَّاتٍ ؛ أي بساتينَ وأشجارٍ مُلْتَفَّةٍ ، وكل نَبَاتِ مَُتَكَاتِفٍ يَسْتُرُ بعضُه بعضاً فهو جَنَّةٌ ، من جنَّ إذا اسْتَتَرَ. وقرأ الأعمشُ ويحيى بن يعمر وعاصم : (وَجَنَّاتٌ) بالرفعِ عطفاً على (قِنْوَانٌ) لفظاً ، وإن لم تكن في المعنى من جِنْسِهَا ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } بالرفعِ أيضاً.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } ؛ أي وأخرجنَا من شجرِ الزَّيتونِ وشجر الرُّمَّانِ ، { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } أي منها ما يُشْبهُ غيرَه في الصُّورةِ واللَّون ، ومنها ما لا يشبهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : متشابهاً في المنظرِ واللَّونِ ، وغيرَ متشابهٍ في الطَّعمِ مثلَ الرُّمَّانِ الحامضِ والْحُلْوِ. والفائدةُ في الجمعِ بين شَجَرِ الزيتونِ وشَجَرِ الرُّمانِ في هذه الآيَةِ : بأنَّهما شجرَتان يشتملُ ورقُهما على الغُصْنِ من أوَّلهِ إلى آخره مشتبهٌ بأوراقِهما ، ومختلفٌ ثِمارهما.
(0/0)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الزَّنَادِقَةِ ؛ قَالُواْ : إنَّ اللهَ تَعَالَى وَإبْلِِيْسَ أخَوانِ ؛ فاللهُ تَعَالَى خَالِقُ النَّاسِ وَالدَّوَاب وَالأَنْعَامِ وَكُلِّ خَيْرٍ ، وَإبْلِيْسُ خَالِقُ السِّبَاعِ وَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارب وَكُلِّ شَرٍّ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الْجِنَّ }. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً }[الصفات : 158]). وقال مقاتلُ : (نَزَلَتِ الآيَةُ فِي جُهَيْنَةَ وَخُزَاعَةَ ، قَالُواْ : إنَّ صِنْفاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يُقَالَ لَهُمْ الْجِنُّ : بَنَاتُ اللهِ) تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبيْراً.
وانتصبَ (الْجِنَّ) لكونهِ بدلاً من (شُرَكَاءَ) أو لأنهُ مفعولٌ ثانٍ على تقدير : وجعلُوا الجنَّ شركاءَ اللهِ ؛ كقولهِ : { وَجَعَلُواْ الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَـانِ إِنَاثاً }[الزخرف : 19].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَلَقَهُمْ } ؛ يجوزُ أن يكون الهاءُ والميم عائدةً إلى أهلِ الشِّركِ ، ويجوز أن تكونَ عائدةً على الجنِّ ، على أن المعنى : أنَّ الله خالِقُ الجنِّ ؛ فكيفَ يكونوا شركاءَ لهُ؟!
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ أي وكذبُوا بنسبةِ البنين والبنات إلى اللهِ تعالى ، فإنَّ مشركي العرب قالوا : الملائكةُ بناتُ الله ، والنصارى قالوا : المسيحُ بنُ اللهِ ، واليهود قالوا : عزيرٌ بنُ الله. وكَذبُوا كلُّهم لَعْنَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ ، يقالُ : خَرَقَ ؛ وَاخْتَرَقَ ؛ وَاخْتَلَقَ ؛ وَافْتَرَى : إذا كَذبَ.
وقرأ أهلُ المدينة : (وَخَرَّقُواْ) بالتشديد على التكثير. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجهلهم بلا حُجَّة ؛ { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } ؛ كلمة تَنْزِيْهٍ وتبعيدٍ لله تعالى عن كلِّ سوءٍ ؛ أي سَبحُوهُ أيُّها المؤمنونَ عمَّا يقولُ عليه الجاهلون. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَعَالَى } عُلُوَّاً من العُلُوِّ ؛ أي اسْتَعْلَى عمَّا وصفوهُ به. ويجوزُ في صفاتِ الله تعالى : (عَلاَ) ولا يجوز : ارْتَفَعَ ؛ لأن العُلُوَّ قد يكون بالاقتدارِ ؛ والارتفاعُ يقتضي الجهةَ والمكانَ.
(0/0)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ أي مُبْتَدِعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ومُنْشِؤُهمَا ابتداءً على غيرِ مثال سبقَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } ؛ أي مِن أينَ يكونُ له ولدٌ ؛ وكيفَ يكون له ولدٌ ولم تكن له زوجةً ، ولا يكون الولدُ إلا من زوجةٍ.
وَقَوْلُهُ : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } ؛ نَفْيٌ للزوجةِ والولد ؛ أي كيفَ يكون له ولدٌ وصاحبة وقد خَلَقَ الأشياءَ كلَّها ، { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ من خلْقِ العبادِ ومصالِحهم ؛ وجَهْلِ الكفَّار وعنادِهم.
(0/0)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذالِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } ؛ معناهُ : إنَّ الذي خَلَقَ الأشياءَ كلَّها وعملَها وأشركتم به هو اللهُ تعالى رَبُّكُمْ لاَ إلَهَ غيرهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الْخَلْقِ فأطيعوهُ ووحِّدوهُ ولا تشركوا بينَهُ وبينَ غيرهِ في العبادةِ ؛ { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ؛ أي حافظٌ.
(0/0)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ؛ أي لا تدركُ الأبصار كُنْهَهُ ؛ { وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ } ؛ أي يعلمُ كُنْهَهَا وماهيَّتَها ؛ فإنهُ لا أحدَ يَعْلَمُ أنَّ الإنسانَ لِمَ صارَ يُبْصِرُ من عينَيهِ ولا يبصرُ بغيرهما ؛ وما الشيءُ الذي يصيرُ به الإنسانُ مُبْصِراً ؛ وكيفَ حقيقةُ البصرِ ، فأعلَمَ اللهُ تعالى أنَّ خَلْقاً من خَلْقِهِ لا يُدْرَكُ كُنْهُهُ ولا يحيطونَ بعلمهِ ؛ فيكفَ يحيطونَ باللهِ؟!
فمَنْ حَمَلَ الآيةَ على هذا التأويلِ ؛ لم يكن فيهِ ما يَنْفِي الرؤيةَ في الآخرةِ ؛ لأن معنى الرؤيةِ غيرُ معنى الإحاطةِ بحقيقة الشيء. وقال بعضُ المفسِّرين : (إنَّ الإِدْرَاكَ إذا قُرِنَ بالْبَصَرِ ؛ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ الرُّؤيَةُ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : أدْرَكْتُ ببَصَرِي ؛ وَرَأيْتُ ببَصَرِي ، بمَعْنًى وَاحدٍ ، كَمَا يُقَالُ : أدْرَكْتُ بأُذْنِي ؛ وَسَمِعْتُ بأُذُنِي ، بمَعْنًى وَاحِدٍ).
قالوا : وأصلُ الإِدْراكِ : اللُّحُوقُ ؛ نحوُ قولِكَ : أدركتُ زمانَ فلانٍ ؛ وأدركَ فلانٌ أبا حَنِيْفَةَ ؛ وأدركَ الزرعَ والثمرةَ ؛ وأدركَ الغلامُ إذا لَحِقَ حَالَ الرِّجَالِ. وإدراكُ البصرِ الشيءَ ولُحُوقُهُ بهِ برُؤْيَتِهِ إيَّاهُ ، إلا أنهُ لا يَمْتَنِعُ أن تكونَ هذه الآيةُ عامَّةً من جهةِ اللفظ والمرادُ منها الخصُوصُ تَوْفِيقاً بين هذه الآيةِ وبين قولهِ تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة : 22-23]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ؛ أي اللَّطيْفُ بعبادهِ في التَّدبيرِ ، الْخَبيْرُ بمصالِحهم.
(0/0)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } ؛ أي جاءَكُمْ الْقُرْآنُ الذي فيه الْبَيَانُ. والبَصَائِرُ : جَمْعُ الْبَصِيْرَةِ ؛ وهي الْحُجَّةُ الْبَيِّنَةُ ، فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ نفعهُ ، { وَمَنْ عَمِيَ } ؛ عنِ الْحَقِّ وَالقُرْآنِ ؛ { فَعَلَيْهَا } ؛ فَعَلَى نفسهِ ضَرَرُ ذلكَ ، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ؛ أي برَقِيْبٍ أحْفَظُ أعمالَكُم وأجازيكم عليها ، فإنَّ اللهَ يجازيكُم على أعمالِكم.
وَقِيْلَ : معناهُ : لستُ عليكم بحَفِيْظٍ فأَحُولَ بينَكم وبينَ إضْرَاركُمْ بأنفسكم ، وإنَّما أنا رسولٌ أُبَلِّغُكُمْ رسَالاَتِ رَبكُمْ وهو الحفيظٌ عليكم ، لا يخفَى عليهِ شيءٌ من أعمالكم.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } أي مِثْلَ ما صَرَّفْنَا الآيَاتِ وبيَّناها فيما تُلِيَ عليكَ ؛ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ونُبَيِّنُهَا في المستقبلِ لِئَلاَّ يقولُوا : تَخْتَلِقُهُ من تِلْقَاءِ نَفْسِكَ ، وَلئَلاَّ يَقُولُوا دَرَسْتَ ؛ أي قَرَأْتَ كُتُبَ أهلِ الكتاب. ومن قرأ (دَارَسْتَ) فمعناهُ : ذاكَرْتَ أهلَ الكتاب. وكان أهلُ مكَّة يقولون : إنَّما يَتَعَلَّمُهُ مِن جَبرٍ ويَسَار ؛ وكَانا غُلامَين عَبْرَانِيَّيْنِ بِمَكَِّةَ.
وَمعنى (دَرَسْتَ) أدَرَسْتَ هذه الأخبارَ التي تَتْلُوهَا علينَا ، ومعنى (دَارَسْتَ) أي قَارَأتَ أهلَ الكتاب : تَعَلَّمْتَ منهُم وقرأتَ عليهم وقرأوا عليكَ.
وقرأ قتادةُ : (دُرِّسْتَ) أي قُرِّيْتَ وَتُلِيْتَ ، وقرأ الحسنُ وابن عامر ويعقوب : (دَرَسَتْ) بفتح الدال والرَّاء والسين وجَزْمِ التاء ؛ يعني : تَقَادَمَتْ وانْمَحَتْ وَانْمَضَتْ ، وذكر الأخفشُ : (دَرُسْتَ) بضمِّ الراء ؛ ومعناها : دَرَسْتَ ؛ إلا أن ضَمَّ الراءِ أشدُّ مبالغةً. وقرأ ابنُ مسعودٍ والأعمشُ : (دَرَسَ) بفتح السِّين من غيرِ تاء ؛ يعنونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهٌُ تَعَالَى : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ؛ أي وَلِنُبَيِّنَ الْقُرْآنَ والتصريفَ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
(0/0)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ؛ أي اعْمَلْ يا مُحَمَّدُ بما أُنزل إليكَ من الْقُرْآنِ من حَلالهِ وحَرامهِ ؛ { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ أنْزَلَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } ؛ أي اتْرُكْهُمْ في ضَلاَلَتِهِمْ. وهذا منسوخٌ بآيةِ السَّيفِ. وَقِيْلَ : معناهُ : أعِرضْ عنهم اسْتِجْهَالاً لَهم.
(0/0)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ } ؛ أي لو شاءَ اللهُ لَوَفَّقَهُمْ إلى الإيْمان ، { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } ؛ أي يَمْنَعُهُمْ عما يضرُّهم ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } ؛ أي وما أمَرْنَا أن تُلْزِمَهُمْ الإيْمانَ شاءُوا أم أبَوا ، فإنَّكَ لا يُمْكنكَ أنْ تفعلَ ذلك بهم ، وإنَّما هو الذي يَقْدِرُ على فِعْلِ هذا ، ولكنَّهُ لم يفعلْ حتى لا يزولَ التكليفُ.
وإنَّما جَمَعَ بين حَفِيْظٍ ووَكِِيْلٍ لاختلافِ معناهما ، فإن الْحَافِظَ للشيءِ هو الذي يَصُونُهُ عما يَضُرُّهُ ، والْوَكِيْلُ بالشيء هو الذي يَجْلِبُ الخيرَ إليه.
(0/0)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ وذلك حينَ قالَ اللهُ تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَـاؤُلاءِ آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }[الأنبياء : 98-99] قال المشرِكونَ : لئن لَمْ تَنْتَهِ يَا مُحَمَّدُ عن سَب آلِهَتنا وعَيْبها لَنَسُبَّنَّ إلهكَ الذي تعبدهُ ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ. أي لا تَسُبُّوا معبودَهم الذي يعبدونَه من دون اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً وظُلْماً.
ونُصبَ (عَدْوًا) على المصدر ؛ أي يَعْدُونَ عَدْواً. ويقال : نُصِبَ على إرادة اللام ؛ أي يَسُبُّونَ بالعَدْو. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بجَهْلِهِمْ يحملهم الغَيْظُ على أن يَسُبُّوا معبودَكم.
وفي هذا دليلٌ على أن الإنسانَ إذا أراد أن يَأْمُرَ غيرَه بالمعروفِ ، ويَعْلَمُ أنَّ المأمورَ يقعُ بذلك فيما هو أشدُّ مِمَّا هو فيه من شَتْمٍ أو ضربٍ أو قَتْلٍ ، كان الأَََولى أن لا يَأْمُرُهُ ويتركه على ما هو فيهِ. وقرأ بعضُهم : (عَدُوًّا بغَيْرِ عِلْمٍ) أي أعْدَاءً ؛ نُصبَ على الحالِ. وقال قتادةُ : (كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسُبُّونَ أصْنَامَ الْكُفَّار ، فَنَهَاهُمُ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذلِكَ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللهَ ، فَإنَّهُمْ قَوْمٌ جَهَلَةٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } ؛ أي كما زيَّنا لك دِينَكَ وعملَكَ ؛ زَيَّنَّا لَهم دينَهم وعملَهم ، { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } الذي يعملونَه بمَيْلِ الطَّبائِع إليهِ مُجَازَاةً لَهم على فِعْلِهِمْ ، كما قالَ تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ }[النساء : 155]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ } ؛ أي مصيرُهم ومُنقلبَهم إلى اللهِ تعالى ، { فَيُنَبِّئُهُمْ } ؛ فيجزِيَهم ؛ { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } ؛ أي حَلَفُوا بالله واجْتَهَدُوا في المبالغةِ في اليمين { لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } أي علامةٌ لِنُبُوَّتِكَ ليصدِّقن بها. وعَنَوا بالآيةِ الآيات التي كانوا يقترحونَها عليه ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمَّدُ : { إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ } ؛ إنَّ مَجِيْءَ الآياتِ مِن عند اللهِ ؛ إن شَاءَ أنزلَها وإن شاء لم يُنْزِلْهَا ، وإنما يُنْزِلُ على حَسْب المصلحةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } ؛ خطابٌ للمؤمنين ؛ { أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي وما يدريكم أيُّها المؤمنون ؛ أنَّهَا إذا جَاءَتْهم لاَ يُؤْمِنُونَ لِمَا سبقَ لَهم في عِلْمِ اللهِ تعالىل من الشَّقَاوَةِ.
وقرأ مجاهدُ وقتادة وأبو عمرٍو وابنُ كثير : (إنَّهَا) بالكسر على الابتداءِ ؛ وخبرهُ : { لاَ يُؤْمِنُونَ }. وقرأ الباقون بالفتحِ ؛ ومعناهُ عند الخليل وسِيْبَوَيْهِ : لَعَلَّهَا إذا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ. وقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ : (لاَ تُؤْمِنُونَ) بالتاء على مُخَاطَبَةِ الكفَّار ؛ أي وَمَا يُشْعِرُكُمْ يا أهلَ مَكَّةَ أنَّهَا إذا جَاءَتْ لاَ تُؤْمِنُونَ. وقرأ الباقون بالياء. وقرأ الأعمشُ : (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أنَّهَا إذا جَاءَتْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ).
(0/0)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ؛ أي نَتْرُكُ أفْئِدَتََهُمْ وأبصارَهم مُنْقَلِبَةً كما هي في الحيرةِ التي بهم ؛ والغفلةِ التي فيهم ؛ فلا نُوَفِّقُهُمْ مجازاةً لَهم فلاَ يؤمنون { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي أوَّلَ ما رَأوا من الآياتِ.
وَقِيْلَ : معناه : وَنُقَلِّبُ أفئدتَهم وأبصارَهم على جَمْرِ جهنَّم ونارِها ؛ جزاءً على تَرْكِ الإيْمان وعقوبةً عليهِ ، { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ؛ أي نَتْرُكُهُمْ في ضلاَلَتِهِمْ يتحيَّرون ويتردَّدون.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ } ؛ نزلَتْ هذه الآيةُ في رهْطٍ من أهلِ مكَّةَ من المستهزئينَ ، وهم : الوليدُ بنُ المغيرةِ ؛ والعاصُ بنُ وائلٍ ؛ والأسودُ بنُ عبدِ يَغُوثَ ؛ وغيرُهم. قالوا : يا مُحَمَّدُ ؛ ابْعَثْ لنا بعضَ موتَانا حتى نسألَهم عنكَ : أحقٌّ ما تقولُ أم باطلٌ ؟ فنؤمِنُ بِكَ ، وأرنَا الملائكةَ يشهدون أنَّكَ رسولُ اللهِ ، وائْتِنَا باللهِ والملائكة قَبيْلاً - أي كَفِيلاً - على ما تقولُ إنه الحقُّ. فأنزلَ اللهُ تعالى هذهِ الآيةَ.
ومعناها : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ } معاينةً للشَّهادةِ على نبوَّتكَ كما سألوكَ ، { وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } بأنكَ رسولُ اللهِ ، وأنَّ القُرْآنَ كلامهُ ، وجَمعنا عندَهُم كلَّ شيء من الطَّيرِ والوحوشِ والسِّباعِ وسائر الدواب كَفِيلاً يكلفُون بصحَّةِ ما تقولُ يا مُحَمَّدُ ، ما كانوا لِيُؤْمِنُوا بكَ إلا أن يُوَفِّقَهُمُ اللهُ للإيْمانِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ؛ أنَّ اللهَ قادرٌ على ذلك.
ويجوزُ أن يكون معنى (قُبُلاً) أي قََبيْلاً يقابِلُهم ويواجههم مِن الْمُقَابَلَةِ ، ويقالُ : جماعةٌ على معنى أن القُبُلَ جمعُ القبيلِ ، والقَبيْلُ جمعُ القبيلةِ ؛ كسفينةِ وسُفُنٍ. قرأ أهلُ المدينةِ والشامِ : (قِبَلاً) بكسرِ القاف وفتحِ الباء ؛ أي مُعَايَنَةً ؛ والمعنى : لو نَاطََقَتْهُمْ الأرضُ والسَّماءُ والطير والوحوشُ أن مُحَمَّداً رسولُ اللهِ ، وأن ما أتَاكُم به حقٌّ ، قالوا لَهم ذلك معاينةً ومُشَافَهَةً ؛ ما كانوا ليؤمنُوا إلا أنْ يَشَاءَ اللهُ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَذَالِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ } أي كما جعلنَا لكَ ولأُمَّتِكَ أعداءً مثلَ أبي جهلٍ وأصحابه ، كذلك جعلنا لِمَنْ تقدَّمَكَ من الأنبياءِ وأُمَمِهِمْ عَدُوّاً. و(شَيَاطِيْنَ) نصبَ على البدلِ من (عَدُوّاً) ومفسِّراً لهُ ، ويجوزُ أن يكون مَفْعُولاً ثانياً.
قال ابنُ عبَّاس في معنى هذه الآيةِ : (إنَّ إبْلِيْسَ قََسَّمَ جُنْدَهُ فَرِيْقَيْنِ ، فَبَعَثَ فَرِيْقاً مِنْهُمْ إلَى الإنْسِ ؛ وَفَرِيْقاً إلَى الْجِنِّ. فَشَيَاطِيْنُ الإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ يَلْتَقِي بَعْضُهُمْ ببَعْضِ ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : أضْلَلْتُ صَاحبِي بكَذَا وَكَذا ، أتَيْتُهُ مِنْ قِبَلِ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذاتِ ، وَمِنْ قِبَلِ الْمَرَاكِب وَالْمَلاَبسِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَاب ، فَإنْ أعْيَانِي مِنْ وَجْهٍ أتَيْتُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، فأَضْلِلْ صَاحِبَكَ بِمثْلِهِ).
فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } ؛ أي يُلْقِي بعضُهم إلى بعضٍ ويُمْلِي بعضُهم إلى بعضٍ ؛ { زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } ؛ أي الْمُمَوَّهُ الذي يكونُ فيه تَزْييْنُ الأعمالِ القبيحة. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { غُرُوراً } نُصبَ على المصدرِ ؛ كأنه قالَ : يُغْرُونَ به غُرُوراً.
وذهبَ بعضُ المفسِّرين : (إلَى أنَّ الشَّيَاطِيْنَ اسْمٌ لِكُلِّ عَاتٍ مُتَمَرِّدٍ ؛ مِنَ الْجِنِّ وَمِنَ الإِنْسِ شَيَاطِيْنُ). كما رُويَ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال : " دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ، فأَمَرَنِي أنْ أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ؛ فَصَلَّيْتُ وَجَلَسْتُ إلَيْهِ ؛ فَقَالَ لِي : " يَا أَبَا ذرٍّ ؛ تَعَوَّذْ باللهِ مِنْ شَيَاطِيْنِ الإنْسِ وَالْجِنِّ ". فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ أوَمِنَ الإنْسِ شَيَاطِيْنَ؟! فَقَالَ : " أوَمَا تَقْرَأْ قَوْلَهُ تَعَالَى : { شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ } ؟ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } ؛ أي لو شاءَ ربُّكَ أن يَمْنَعَ الشياطين من الْوَسْوَسَةِ مَا فَعَلُوهُ ، ولكن يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ بما يعلمُ أنه أبلغُ في الحكمةِ وأجزلُ في الثواب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } ؛ أي اتْرُكْهُمْ وَافْتِرَائِهِمِ وكَذِبهِمْ على استجهالاتِهم ، فإنِّي القادرُ عليهم.
(0/0)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ } عطفٌ على (غُرُوراً) ؛ أي يُوحِي بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقُوْلِ الغُرُور ، وَلِتَمِيْلَ إليه أفئدةُ الذين لا يُقِرُّونَ بالبعثِ ، ولكن يَرْضُوا القولَ الزخرف ويَكْتَسِبُونَ من الإثْمِ ؛ وهو ما قُضِيَ عليهم في اللَّوحِ الْمَحْفُوظِ ، يقالُ : اقْتَرَفَ فُلاَنٌ ذنْباً ؛ إذا عَمِلَهُ. وَقِيْلَ : معنى (لِيَقْتَرِفُوا) أي لِيَخْتَلِقُوا وَيَكْذِبُوا. وقرأ النخعيُّ : (وَلِتُصْغِيَ) بضمِّ التاءِ وكسرِ الغين ؛ أي تَمِيْلُ ، الإصْغَاءُ : الإمَالَةُ ؛ ومنهُ الحديث : " إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصْغِي الإِنَاءَ لِِلْهِرَّةِ ".
والأفْئِدَةُ : جمعُ فُؤَادٍ ؛ مثلُ أغْرِبَةٍ وَغُرَابٍ. { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } أي فَلْيَكْتَسِبُوا ما هم مُكْتَسِبُونَ. وقال ابنُ زيدٍ : (وَلِيَعْمَلُوا مَا هُمْ عَامِلُونَ). يقال : اقْتَرَفَ فُلاَنٌ مَالاً ؛ أي اكْتَسَبَهُ ، وقَارَفْتُ الأمْرَ : أي وَاقَعْتُهُ ؛ قالَ الله تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً }[الشورى : 23]. ومَن قرأ : (وَلْيَرْضَوْهُ وَلْيَقْتَرِفُوا) بجزمِ اللام على لفظِ الأمرِ ، فمعناهُ : التهديدُ ؛ أي اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.
(0/0)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً } ؛ وذلك أن نَفَراً من أهلِ مكَّةَ قالوا : يَا مُحَمَّدُ ؛ اجْعَلْ بينَنا وبينكَ حَكَماً من اليهودِ والنَّصَارى ، فإنَّهم قرأوا الكُتُبَ قبلكَ. فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناها : قُلْ لَهم يَا مُحَمَّدُ : أفَغَيْرَ اللهِ أطلبُ رَبّاً ومعبوداً يُسَاوِي حُكْمُهُ حُكْمَ اللهِ ؛ فأجعلهُ حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أنزلََ إلَيْكُمْ القرآن مُفَصَّلاً مبيَّناً أمرَهُ ونَهْيَهُ بلغةٍ تَعرفونَها. ويقالُ : مُتَفَرِّقاً سورةً سورةً ؛ وآية آيةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } ؛ أي التَّوْرَاةَ ؛ هم عَبْدُاللهِ بْنُ سَلاَمٍ وأصحابُه ؛ { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ } ؛ أي الْقُرْآنُ ؛ { مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ } ؛ بما تقدَّم لَهم من البشَارَةِ في كُتُبهِمْ بأنَّ الله يبعثُ في آخِرِ الزمانِ نَبِيّاً من ولْدِ إسماعيلَ ، ويُنَزِّلُ عليه الْقُرْآنَ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْحَقِّ } ؛ أي بمَا أقام لَهم من البراهينِ على ذلك.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } ؛ أي لا تَكُونَنَّ يا مُحَمَّدُ من الشَّاكِّيْنَ في أنَّهم يعلمونَ ذلك. ويقالُ : هذا خطابٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرُه ، كأنه قال : لا تَكُونَنَّ أيها الجاهلُ بأَمْرِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من الشَّاكِّينَ في أمرهِ. وقرأ الحسنُ والأعمش وابنُ عامرٍ وحفصُ : (مُنْزَّلٌ) بالتشديدِ من التَّنْزِيْلِ ؛ لأنه أُنْزِلَ نُجُوماً مرَّةً بعد مرَّةٍ ، وقرأ الباقونَ بالتخفيفِ من الإنْزَالِ.
(0/0)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } ؛ قرأ أهلُ الكوفة ويعقوبُ : (كَلِمَةُ) على التوحيدِ ، وقرأ الباقون : (كَلِمَاتُ) على الجمعِ. ومعنى الآية : وَتَمَّ إلزام الحجَّة على وَجْهِ الحكمة ، لاَ ينقصان في ذلك. قولهُ (صِدْقاً) أي مُخْبَرُهُ على ما أخْبَرَ به فيما وعَدَ وأوْعَدَ ، و(عَدْلاً) أي أحْكَامُهُ كلُّها عدلٌ ، و { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } أي لا مُغَيِّرَ لِحُكْمِهِ ودِيْنِهِ ، فإن اليهودَ والنصارى - وإنْ غيَّروا التوراةَ والإنجيلَ - لن يُمْكِنَهُمْ أن يأتُوا بحُكْمٍ حتى يقومَ مقامَ حُكْمِهِ.
وَقِيْلَ : معناه : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ } أي وَجَبَ قولُ ربكَ بأنه ناصرٌ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وأنَّ عاقبةَ الأمر له صِدْقاً وَعَدْلاً ؛ لا مُغَيِّرَ لقولهِ : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }[غافر : 51]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } وذلك أنَّ أهلَ مكَّةَ كانوا يستحلُّون أكلَ الميتةِ ، ويَدعُونَ المسلمين إلى أكلِها ، وكانوا يقولون : إنَّما ذلك ذبحُ اللهِ ؛ فهو أحَلُّ مَمَّا ذبحتُم أنتم بسكاكينكُم ، فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ. ومعناها : إن تُطِعْ - يا مُحَمَّد - أكثرَ مَن في الأرض يصرفونَكَ عن ديْنِ الله ، وإنَّما قال : { أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ } لأن أكثرهَم كفَّار ضُلاَّلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } ؛ معناه : إن أكثرُهم يتَّبعونَ أكَابرَهُمْ بالشَّكِّ ؛ يتبعونهم فيما يعملون " ويظنون " أنَّهم على الحق ، وإنَّما يعذبون على هذا الظنِّ ؛ لأنَّهم اقْتَصَرُوا على الظَّنِّ والجهلِ واتَّبَعُوا أهواءَهم ، { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } ؛ أي ما هم إلا يَكْذِبُونَ في قولِهم : ما قَتَلَ اللهُ أحقُّ أن تأكلوهُ مِمَّا قَتَلْتُمْ بسكاكينِكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } ؛ أي عن دِيْنِ الإسلامِ وشرائعهِ ؛ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ؛ بمُحَمَّدٍ والإسلامِ ، وإنَّما قال : (أعْلَمَ) لأنَّ الله تعالى يعلمُ الشيءَ من كلِّ جهاتهِ ، وغيرُه يعلمُ الشيءَ من بَعْضِ جهاتهِ.
(0/0)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ؛ عُطِفَ على ما دلَّ عليه الكلامُ الذي قبلَه ، كأنه قال : كُونُوا على الْهُدَى فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ من الذبائحِ ، { إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } ؛ هذا للترغيب في اعتقاد صحَّة إباحتهِ وفي أكلهِ.
(0/0)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ؛ يعني من الذبائحِ ، وموضع (أنْ) نصب لأنَّ (في) سقطت ، { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } ؛ أي وقد بَينَ لكم مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ من الْمَيْتَةِ والدَّمِ والخنْزيرِ على ما تقدَّم في سورةِ المائدة.
قرأ الحسنُ وقتادة وأهلُ المدينة وحفصُ : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) بالفتحِ فيهما على معنى : فصَّل اللهُ. وقرأ ابنُ عامر وابنُ كثير وأبو عمرٍو بضمِّهما جميعاً. وقرأ أهلُ الكوفةِ إلا حفصاً : (فَصَّلَ) بالفتح (وحُرِّمَ) بالضَّمِّ. وقرأ عطيةُ العوفِيُّ : (فَصَلَ) بالتخفيف مفتوحاً ؛ يعني قَطَعَ الحكمَ فيما حرَّمَ عليكم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ؛ أي إلا ما دَعتْكُمُ الضرورةُ إلى أكلهِ ، فقد رَخَّصَ لكم حينئذٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ كَثِيراً } ؛ يعني الكفارَ يأكلونَ الْمَيْتَةَ والذبائحَ التي لم يُذْكَرِ اسمُ اللهِ عليها عَمْداً ، والتي يذبحونَها لآلِهتهم بلا عِلْمٍ عندهم ولا بَصِيْرَةٍ ، يتَّبعون الهوَى والشَّهوات في ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ قرأ الحسنُ وأهلُ الكوفة بضمِّ الياء لقوله : { يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }[الأنعام : 116]. وقرأ الباقونَ بفتحِها لقولهِ : { هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ }[الأنعام : 117]. فمعنى مَن قرأ بضمِّ الياء : أنَّهم يَصْرِفُونَ الناسَ عن الْهُدَى بالدُّعاءِ إلى أكلِ الْمَيْتَةِ على وجهِ الْجِدَالِ والْخِدَاعِ ، وقولهُ : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } أي أعْلَمُ بعقوبةِ المتجاوزين من الحلالِ إلى الحرام.
(0/0)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } ؛ أي لا تَقْرَِبُوا ما حَرَّمَ اللهُ عليكم جهراً ولا سِرّاً ، ويقالُ : أرادَ بظاهر الإثْمِ : الزِّنَا الظاهرَ ، وبباطنهِ : الزِّنا السِّر. فالعربُ كانوا يَرَوْنَ الزِّنا ظاهراً معصِيةً ، ولا يَرَوْنَهُ في الْخِفْيَةِ معصيةً. وَقَوُْلهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } ؛ أي إنَّ الذين يعملون المعصيةَ ظاهراً وباطناً سَيُعَاقَبُونَ في الآخرةِ بما كانوا يَكْسِبُونَ في الدُّنيا من المعاصِي والفواحشِ.
(0/0)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ؛ يعني الذبائح. رويَ عن عبدِالله بن عمرَ : (أنَّهُ أتَى حُرّاً ذَبَحَ شَاةً نَسِيَ أنْ يَذْكُرَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ، فأَمَرَ ابْنُ عُمَرَ غُلاَمَهُ أنْ يَقُومَ عِنْدَهُ ، فَإذا جَاءَ إنْسِانٌ يَشْتَرِي مِنْهُ قَالَ : إنَّ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ : إنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ عَلَيْهَا اسْمَ اللهِ ، فَلاَ تَشْتَرِي).
وقال ابنُ سيرينَ : (إذا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِياً ؛ لَمْ تُؤْكَلْ). إلاَّ أن أكثرَ أهل العلمِ على أن نسيانِها لاَ يوجبُ التحريْمَ. هكذا رُويَ عن عَلِيٍّ وابن عبَّاس ومجاهدٍ وعطاء وابنِ المسيِّب ؛ قالوا : (إنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نَاسِياً لاَ بَأْسَ بأَكْلِهَا ؛ لأَنَّ خِطَابَ الآيَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَامِدَ ، إذِ النَّاسِي فِي حَالِ نِسْيَانِهِ لاَ يَكُونُ مُكَلَّفاً).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ؛ أي إنَّ أكلَهُ لفسقٌ. وَقيْلَ : إنْ تركَ التسميةَ ، وَقِيْلَ : المذبوحَ بغير تسميةِ الله فِسْقٌ فيه حينَ ذُبحَ على غيرِ وجه الحقِّ ؛ كقولهِ : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }[الأنعام : 145].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } ؛ أي إنَّ الشياطين لِيُوَسْوِسُونَ لأوليائِهم من الإنْسِ ؛ وهم : أبُو الأَخْوَصِ الْخَثْعَمِيُّ وَبَدِيْنُ ابْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ وغَيرُهما من أهلِ مكَّة ؛ كانوا يُخَاصِمُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في أكل الْمَيْتَةِ وَاسْتِحْلاَلِهَا. والوَحْيُ : إلْقَاءُ الْمَعْنَى إلَى النَّفْسِ فِي الْخِفْيَةِ ، { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } ؛ في أكلِ الْمَيْتَةِ واستحلالِها من غير اضطرارٍ ، { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ؛ مثْلُهُمْ.
(0/0)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } ، قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ فِي عَمَّار بْنِ يَاسِرٍ ، وَأبِي جَهْلٍ). ويقالُ : إنَّ المرادَ بالآية النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأبو جَهْلٍ. ومعنى الآيةِ على القولِ الأَوَّل : أوَمَنْ كَانَ كافراً ، فهديناهُ إلى المغفرةِ والإسلامِ ، { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } ؛ وهو نورُ القُرْآنِ والإيْمَانِ والحكمةِ ؛ { يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } ؛ يضيءُ بذلك النور فيما بين النَّاسِ ؛ { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } ؛ أي كَمَثَلِ مَن هو في الضَّلاَلة وظُّلُمَاتِ الكفرِ ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } ؛ أبَداً.
بيَّنَ اللهُ تعالى بهذه الآيةِ أنَّ أبا جَهْلٍ ليسَ بخارجٍ من الضَّلالة أبداً. وقال بعضُهم : الْمِثْلُ زائدٌ ؛ تقديره : كَمَنْ في الظُّلُمَاتِ.
وعن ابنِ عبَّاس أيضاً : (أنَّ مَعْنَاهُ : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } يُرِيْدُ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب { كَمَن مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } أبَا جَهْلٍ ؛ رَمَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَحَمْزَةُ كَافِرٌ ، فَأُخْبرَ حَمْزَةُ بمَا فَعَلَ أبُو جَهْلٍ وَهُوَ رَاجِعٌ مِنْ قًنْصِهِ يَفُوتُ وَبيَدِهِ قَوْسٌ ، فَأَقْبَلَ وَهُوَ غَضْبانٌ حَتَّى عَلاَ أبَا جَهْلٍ بالْقَوْسِ وَهُوَ يَتَضَرَّعُ وَيَسْتَكِيْنُ وَيَقُولُ : أمَا تَرَى مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّداً ، قَدْ سَفَّهَ عُقُولَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا وَخَالَفَ آبَاءَنَا. فَقَالَ حَمْزَةُ : وَمَنْ أسْفَهُ مِنْكُمْ؟! تَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ مِنْ دُونِ اللهِ ، أنَا أَشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ ؛ وَأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي كما زُيِّنَ لأبي جَهْلٍ عملهُ الذي كان يعملُ ؛ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ أعمالُهم مجازاةً لَهم على كُفْرِهم. وقال الحسنُ : (مَا زَيَّنَهَا لَهُمْ إلاَّ الشَّيْطَانُ).
(0/0)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ؛ أي جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ ذا نُور يَمشي به في الناسِ ، كَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ رؤساءَها وكبراءَ وعظماءَ أهلِها مُجْرِمِيهَا. وَقيلَ : معناهُ : جعلنا في أهلِ مكَّةِ عظاؤُهم مُجْرِمِيها ، كَذلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } أي لِيَصِيْرَ أمرُهم إلى أن يَمكروا بالتَّكَبُّرِ وتكذيب الرسُلِ ، { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } ، أنَّ كلَّ وَبَالَ أمرِهم يرجعُ إليهم.
(0/0)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } ؛ أي إذا جاءَتِ الأكابرَ المذكورين ، وَقِيْلَ : أهلَ مكَّة ؛ إذا جَاءَتُهُمْ دلالةٌ واضحة على نُبُوَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ؛ قالوا : لاَ نُصَدِّقُ حتى نُعطى من الآياتِ مثلَ ما أُعْطِيَ رسلُ اللهِ المعجزاتِ والدَّلائل.
وذلك أنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال : وَاللهِ لو كانتِ النُّبُوَّةُ حقّاً لكنتُ أوْلَى بها منكَ ؛ لأنِّي أكبرُ منكَ سِنّاً وأكثرُ منكَ مالاً. وقال مقاتلُ : (قالَ أَبُو جَهْلٍ : زَحَمَنَا بَنُوا عَبْدِ الْمُطَّلِب فِي الشَّرَفِ ؛ حَتَّى إذا كُنَّا كَفَرَسَي رهَانٍ ، قَالُواْ : مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إلَيْهِ ، وَاللهِ لاَ نُؤْمِنُ بهِ وَلاَ نَتَّبعُهُ أبَداً ؛ إلاَّ أنْ يَأْتِيْنَا وَحْيٌ كَمَا يَأْتِيَهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).
يقولُ اللهُ تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } ؛ أي هو أعلمُ مَن يُرْسِلُ ومن يَخْتَصُّ بالرسالةِ ومَن هو أهْلٌ لَها. وهذا جوابٌ يَمنعهم أن يكونوا رُسُلاً حين أنِفُوا أن يكونوا أتْبَاعاً للرُّسلِ بعد قيام حُجَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
بَيَّنَ اللهُ تعالى أنه إنَّما يجعلُ الرسالةَ عند مَن يقومُ بأدائِها ، ولا يجعلُ عند مَن يضيِّعُ ولا يصبرُ على الْمَكَارِهِ. وَقِيْلَ : إنَّما لم يجعلِ اللهُ الرسلَ في الرؤساءِ والأغنياء ؛ لأنَّ الناسَ يتبعونَهم وإن لم يأتوا بالْحُجَجِ ، فيقولُ مَنْ بعدُهم : إنَّما اتَّبعوهم لأنَّهم كانوا رؤساءَ وأكابرَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ } ؛ أي سيصيبُ الذين اكتسَبُوا الْجُرْمَ مَذلَّةٌ وهَوَانٌ ثابتٌ لَهم عندَ الله ؛ { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } ؛ أي بفكرِهم وتكذيبهم الرسلَ.
قال ابن عبَّاس رَضِيَ الله عَنْهُمَا : (ثُمَّ رَجَعَ إلَى ذِكْرِ عَمَّارِ وأبي جَهْلٍ) فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ } ؛ أي فمن يُرِدِ اللهُ أن يُوَفِّقَهُ للإِسلام يُوسِعَ قَلْبَهُ وَيُلَيِّنْهُ لِقَبُولِ الإِسلام ، { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ } ؛ أي أن يَخْذِلَهُ ويجعلهُ في ضلالةِ الكفر ، { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً }.
{ حَرَجاً } ؛ قِيْلَ : الْحَرَجُ : مَوْضِعُ الشَّجَرِ الْمُلْتَفِّ ؛ يعني أنَّ قلبَ الكافرِ لا تصلُ إليه الحكمةُ كما لا تصلُ إلى الموضعِ الذي الْتَفَّ فيه الشجرُ.
وقال أهلُ اللغة : الْحَرَجُ : أضْيَقُ الضِّيْقِ. وقال مجاهدُ : (الْحَرَجُ : الشَّكُّ) وقال قتادةُ : (حَرَجاً مُلْتَبساً). وقال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ : (قَلِقاً) ، وقال الكلبيُّ : (لَيْسَ لِلْخَيْرِ فِيْهِ مَنْفَذٌ). قرأ ابنُ كثير : (ضَيْقاً) بالتخفيفِ ، وشدَّدهُ الباقون ؛ وهما لُغتان مثل هَيِّنٍ وَلَيِّنٍ. وقولهُ تعالى : (حَرِجاً) قرأ أهلُ المدينةِ وأبو بكرٍ بكسرِ الرَّاء ، وفتحَها الباقون ؛ وهُما لُغتان مثل دَنَفٍ وَدَنِفٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَآءِ } ؛ يعني : يَشُقُّ عليه الإيْمَانُ ويَمْتَنِعُ ويعجزُ عنه ، كما يَشُقُّ عليه صعودُ السَّماء. واختلفَ القُرَّاءُ في قوله تعالى : { يَصَّعَّدُ } فقرأ أهلُ المدينة والبصرةِ والكوفة إلا أبَا بكرٍ : (يَصَّعَّدُ) بتشديد الصَّاد والعينِ من غير ألفٍ ، وقرأ طلحةُ والنخعيُّ وأبو بكر : (يَصَّاعَدُ) بتشديدِ الصَّاد وبألفٍ بعدها ، بمعنى يَتَصَاعَدُ.
(0/0)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَهَـاذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } ؛ (هذا) إشارةٌ إلى الإسلامِ ، وَقِيلَ : إلى بَيَانِ الْقُرْآنِ ، سُمي ذلك مُسْتَقِيماً ؛ لأنه يَسْتَقِيمُ بِمن يَسْلُكُهُ ؛ فلا يَعْرِجُ فيه حتَّى يُورِدَهُ إلى الجِنَّةِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } ؛ أي أتَيْنَا بآيةٍ على إثْرِ آية مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً ؛ { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } ؛ أي يَتََّعِظُونَ بآياتِ الله ، وَيَتَفَكَّرُونَ في دَلالاَتِ القُرْآنِ ، فلم يَبْقَ لأحدٍ عذرٌ في التَّخَلُّفِ عن الإيْمان بعد هذا البَيَانِ.
(0/0)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (اللهُ السلاَمُ ، وََدَارُهُ الْجَنَّةُ). كأنه قِيْلَ لَهم : جَنَّةُ اللهِ. وقال الفرَّاء : (مَعْنَاهُ : لَهُمْ دَارُ السَّلاَمُ الدَّائِمَةِ مِنْ كُلِّ آفَةٍ وَبَلِيَّةٍ). وََقَوْلُهُ تَعَالَى : { عِندَ رَبِّهِمْ } أي في الآخرةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : مُقِيمُونَ عند ربهم ؛ { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } ؛ أي يتولَّى أمرَهم بنصرِهم في الدُّنيا وإكرامِهم في الآخرة ، { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ مِن الطاعَة.
(0/0)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِّنَ الإِنْسِ } معناه : يَوْمَ نَحْشُرُ الخلائقَ كلَّهم إلى الجزاءِ ، يقول : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قََدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ مِمَّنْ أضْلَلْتُمُوهُمْ ؛ أي أضلَلْتم كثيراً من الإنسِ وكثيرٌ مُتَّبعُوكُمْ منهُم ؛ { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم } ؛ أي قُرَنَاءُ الجنِّ ؛ { مِّنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ }.
أما اسْتِمْتَاعُ الإنسِ بالجن فما روى الحسنُ : (أنَّ الْعَرَبَ كَانُواْ إذا سَافَرُواْ فَنَزَلُواْ وَادِياً ؛ خَافُوا عَلَى أنْفُسِهِمْ فَقَالُواْ : نَعُوذُ بسَيِّدِ هَذا الْوَادِي مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ ؛ فَيَبيْتُونَ فِي جِوارٍ مِنْهُمْ ، وَكَانُوا يَرَوْنَ ذلِكَ اسْتَجَارَةً بالْجِنِّ).
وأما استمتاعُ الجنِّ بالإِنسِ ؛ فكان عُظَمَاءُ الجنِّ يقولون : قد سُدْنَا الإنسَ مع الجنِّ ؛ حتى أن الإنسَ يعودُون بنَا ، فيزدادون بنَا ، فيزدادون بذلك شَرَفاً في قومِهم وَعَظَماً في أنفسهم. وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً }[الجن : 6].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } ؛ أي أدْرَكْنَا وَقْتَنَا الذي وُقَّتَ لنا. قِيْلَ : إنَّ المرادُ به وقتُ البعثِ ، وَقِيْلَ : إن المراد وقتُ الموتِ. وفي هذا دليلٌ على أنه لا يكون للمقتول أجَلاَنِ بخلافِ ما يقولُ بعض القومِ : إنَّ المقتولَ لو لم يُقتل لكان يبقى حَيّاً لا محالةَ. لأنه قد كان في هؤلاءِ مقتولون وقد أُخْبرُوا كلُّهم أنَّهم قد بلغُوا أجلهم الذي أجَّلَهُ الله لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ } ؛ أي قالَ اللهُ تَعَالَى : النَّارُ مقرُّكم ومَنْزِلُكمْ ؛ فإنكم قد أقْرَرْتُمْ على أنفسكم باستحقاقِ العذاب ولزُومِ الحقِّ عليكم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَكَانَ مَا شَاءَ اللهُ بقَوْلِهِ : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ }[النساء : 48]).
وَقِيْلَ : معناه : { إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } ما بَيْنَ البعثِ من القبرِ إلى وقت الفَرَاغ من الحساب ؛ فإنه لا يكون لَهم عذابٌ في ذلك الوقت. وَقِيْلَ : معناه : { إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } أن يعذِّبَهم من صُنُوفِ العذاب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ } ؛ في عِقَابهِ ؛ { عَليمٌ } ؛ بقَدْر ما يستحقُّونَ من العذاب.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَذالِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي مِثْلَ ما قصَصْنَا عليكَ من تسليطِ الجنِّ على الإنس ؛ كذلك نُسَلِّطُ بعضَ الْمُجْرِمِيْنَ على بعضٍ ، ثم يُنْتَقَمُ منهما جميعاً في الآخرةِ بالنَّار. وقال بعضُهم : معناهُ : يَتْبَعُ بعضُهم بعضاً في النار من الْمُوَالاَةِ. وقال بِعضُهم : يُسَلِّطُ بعضَهم على بعضٍ ، يدلُّ عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أعَانَ ظَالِماً سَلَّطَهُ اللهُ عَلَيْهِ ".
(0/0)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } ؛ أي يقول لَهم يومَ القيامةِ : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ ؛ لِمَاذَا فعلتُم ما فعلتم ألَمْ يأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقْرَأْونَ عليكُم القُرْآنَ ، { وَيُنذِرُونَكُمْ } ؛ أي وَيُخَوِّفُونَكُمْ ؛ { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـاذَا } ؛ وهو يومُ القيامةِ.
قَالَ ابن عبَّاس : (كَانَتِ الرُّسُلُ تُبْعَثُ إلَى الإِنْسِ ؛ وَبُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إلَى الْجِنِّ وَالإِنْسِ). قال : (وَهَذا كَقَوْلِهِ : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ }[الرحمن : 22] يَخْرُجُ مِنَ الْمِلْحِ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ مِنَ الإِنسِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } ؛ يعني أنَّهم لا يَجِدُونَ جَوَاباً إلاَّ الاعترافَ بذنوبهم ؛ ويقولون : أقْرَرْنَا على أنفسِنا ، أنَّهم بَلَّغُوا الرسالةَ ، وكَفَرْنا بهم. يقولُ اللهُ تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } ؛ أي بزهرتِها ونَعِيْمِهَا ، { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } ؛ في الآخرةِ ؛ { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } ؛ في الدُّنيا ؛ أي أقَرُّوا.
(0/0)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } (ذلِكَ) أي ذلكَ الأمرُ. وَقِيْلَ : أرادَ الإِشارةِ إلى إرسَالِ الرُّسُلِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ } أي معناهُ : لأَجْلِ أنهُ لم يَكُنْ رُبُّكَ مُعَذِّبَ أهلِ القُرى { بِظُلْمٍ } أي بشركِهم وذنوبهم { وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } عن الأمرِ والنَّهْيِ وتبليغِ الرُّسُلِ ؛ أي لم يكن يُهْلِكُهُمْ بذنوبهم قَبْلَ أن يأتيَهم رسولٌ يُبَيِّنُ لَهم. وينهاهُم عمَّا هم عليهِ من المعصيةِ ، فإن رجَعُوا وإلا عذبَهم اللهُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا يهلكهم بظلم منه ؛ ولا يعذبهم وهم غافلون لِمَا كُلِّفوا من غيرِ إقامة الحجَّة بما يُقَبَّحُ ويُحَسَّن من غيرِ تَنْبيْهِ لَهم من الرُّسُلِ.
(0/0)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } ، أي لِكُلِّ عَاملٍ من الفريقين مراتبُ في عملهِ ، لأهل الخير درجاتٌ في الجنَّةِ بعضُها فوقَ بعضٍ ، ولأهلِ الشِّرْكِ درجاتٌ في النار بعضُها أشدُّ عذاباً من بعضٍ ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } ؛ أي لا يَجْرِي عليه السُّهْوُ عن طاعةِ المطيعين ومعصيَةِ العاصِينَ ، فيجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ.
(0/0)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } ؛ أي هو الغَنِيُّ عن إيْمَانِ العبادِ وطاعتِهم. والغَنِيُّ : الَّذي لاَ يَحْتَاجُ إلَى شَيءٍ ؛ فَيَكُونُ وُجُودُ كُلِّ شَيْءٍ عِنْدَهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذُو الرَّحْمَةِ } بيانٌ أنه تَعَالَى مع كوْنِهِ غَنِيّاً عن شُكْرِ العبادِ وطاعتهم ذو إنْعَامٍ عليهم. والمعنى : ورَبُّكَ الْغَنِيُّ عن خَلْقِهِ ذو الرحمةِ بهم ، { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } ؛ أي إنْ يشاء يُهْلِكُّم يا أهلَ مكَّة ؛ { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكمْ } ويخلِف من بعدكم ؛ أي مِنْ بَعْدِ إهلاكِكم ؛ { مَّا يَشَآءُ } ؛ خَلْقاً آخرَ أطوعَ للهِ منكُم ؛ { كَمَآ أَنشَأَكُمْ } ؛ أي مِثْلَ ما ابْتَدَأ خَلْقَكم قَرْناً بعد قرنٍ ؛ { مِّن ذُرِّيَّةِ } ؛ أي من أولادِ ؛ { قَوْمٍ آخَرِينَ } ؛ هالكِين.
(0/0)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ } ؛ أي إنَّ الذي تخافونَ من البَعْثِ والعَذاب لكائنٌ لا خَلَفَ فيه ، { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } ؛ أي فائِتين لستُم تقدرونَ أن تُعْجِزُوا اللهَ عن إدراكِكم.
(0/0)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قَوْلَهُ تَعَالَى : { قُلْ يَاقَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : اثْبُتُوا على حَالَتِكُمْ وعلى عملكم القَبيْحِ الذي أنتُم عليهِ وعلى منازلكم ؛ { إِنَّي عَامِلٌ } ؛ في أمْرِي على مَنْزِلَتِي ، وهذا على سبيلِ الوَعِيْدِ والتَّهْدِيْدِ ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ } ؛ أي { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أيُّنا يَكُونُ لَهُ العَاقِبَةُ المحمودةُ في الدُّنيا ؛ وفي الآخرة ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } ؛ أي لا يَظْفَرُونَ بمُرادهِم. وقرأ السلميُّ وعاصمُ (عَلَى مَكَانَاتِكُمْ) على لفظِ الجماعة. وقرأ مجاهدُ وأهل الكوفة إلا عاصماً : (مَنْ يَكُونُ) بالياء ؛ لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي.
(0/0)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
وقوله عَزَّ وَجَلَّ : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـاذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـاذَا لِشُرَكَآئِنَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ أهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُواْ إذا حَرَثُوا حَرْثاً ؛ جَعَلُوا للهِ خَطّاً ؛ وَقَالُواْ : مَا دُونَ هَذا الْخَطِّ لآلِهَتِنَا يُنْفَقُ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِ الأصْنَامِ ، وَمَا وَرَاءَ هَذا الْخَطِّ لله يُتَصَدَّقُ بهِ عَلَى أهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالسَّائِلِيْنَ.
وَكَانُوا إذا أرْسَلُواْ الَْمَاءَ فِيْمَا سَمَّوْهُ للهِ تَعَالَى ، فَانْفَجَرَ مِنْهُ إلَى الَّذِي جَعَلُوهُ لآلِهَتِهِمْ تَرَكُوهُ ؛ وَقَالُواْ : هَذا أحْوَجُ وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْهُ ، وَإذا انْفَجَرَ مِنَ الَّذِي جَعَلُوهُ لأَصْنَامِهِمْ ؛ رَدُّوهُ وَقَالُواْ : لَيْسَ لآلِهَتِنَا بُدُّ مِنَ النَّفَقَّةِ. وَكَانُواْ إذا هَلَكَ الَّذِي لآلِهَتِهِمْ : وَكَثُرَ الَّذِي للهِ ؛ أخَذُوا الَّذِي للهِ وَأَنْفَقُوهُ عَلَى الأَصْنَامِ ، وَإذا هَلَكَ الَّذِي للهِ ؛ وَكَثُرَ الَّذِي لِلأَصْنَامِ قَالُواْ : لَوْ شَاءَ اللهُ لأَزْكَى الَّذِي لِهُ).
ومعنى الآية : وجعلَ المشركون مِن أهلِ مكَّة لله مَِّا خَلَقَ من الزَّرْعِ والأنعامِ نَصِيْباً. وللأصْنَامِ نَصِيْباً فقالُوا : هذا نصيبُ اللهِ بقولِهم ، ولم يأمرْهُم اللهُ تعالى بذلك ، وهذا نصيبُ الآخر لآلِهتنَا. وفي الايةِ إضمارٌ تقديرهُ : وَجَعَلُواْ للهِ نَصِيْباً ولشركائِهم نَصِيْباً. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِزَعْمِهِمْ } قرأ السلميُّ والأعمشُ والكسائيُّ بضمِّ الراء ، والباقون بفتحِها ، وُهما لُغتان.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي ما كان مِن نصيب آلِهتهم فلا يرجعُ إلى الذي جعلوهُ للهِ ، { وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ } ؛ أي يرجعُ إلى الذي جَعَلُوهُ لشركائِهم ، { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ؛ أي بئْسَ ما يَقْضُونَ ؛ يُوَفُّونَ نَصِيْبَ الأصنامِ ويُنْقِصُونَ نصيبَ الرَّحْمَنِ ، فَبئْْسَ الحكمُ حكمُهم في الإشراكِ وبالقسمةِ. وكانوا يفعلونَ بالأنعامِ الثمانيةِ أزواجٍ ونحوِها كذلكَ.
(0/0)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَدْفِنُونَ بَنَاتَهُمْ أحْيَاءً كَرَاهِيَةً لِلْبَنَاتِ ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَحْلِفُ لَئِنْ وَلِدَ لَهُ كَذَا وَكَذا غُلاَمًا لَيَنْحَرَ أحَدَهُمْ كَمَا حَلَفَ عَبْدُ الْمُطَّلِب عَلَى ابْنِهِ عَبْدِاللهِ. وَكَانَ لآلِهَتِهِمْ خُدَّامٌ يَقُومُونَ عَلَيْهِمُ الَّذِيْنَ كَانُواْ يُزَيِّنُونَ لِلْمُشْرِكِيْنَ قَتْلَ أوْلاَدِهِمْ.).
ومعنى الآية : وكما زُيِّنَ تحريمُ الحرثِ والأنعام ؛ زُيِّنَ لكثيرٍ من المشركين دفنُ بناتِهم أحياءً كراهيةً لَهُنَّ ومخافةَ الفقرِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { شُرَكَآؤُهُمْ } أي قُرَنَاؤُهُمْ وشَيَاطِيْنُهُمْ ، وَقِيْلَ : سَدَنَةُ ألهِتهم ؛ يعني خُدَّامَ أصنامِهم.
قرأ بعضُهم : (زُيِّنَ) على ما لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ ، ورَفَعَ قولَهُ : { قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ } يحملُ على المعنى على الفَاعِلِ ؛ كأنهُ قال : مَنْ زُيِّنَ لَهم ، ثم قالَ (شُرَكَاؤُهُمْ) على إضمار (زَيَّنَهُ). وقرأ ابنُ عامرٍ بضمِّ الزاي ، وَقِيْلَ : بضمِّ اللام (أوْلاَدَهُمْ) بالنصب و(شُرَكَائِهِمْ) بالكسرِ. ومعنى ذلكَ : على التقديمَ والتَّاخيرِ ؛ كأنهُ قالَ : زُينِّ لكثيرٍ من المشركينَ قَتلَ شُرَكايُهم أولادِهم ، فيكونُ معنى الشركاءِ الكفار القاتلون ، المتقدِّمون منهمُ والباقونَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُرْدُوهُمْ } أي لِيُهْلِكُوهُمْ. يجوزُ أن تكون هذه لامَ العاقبةِ ، إن لم يكن غرضُهم بذلكَ الأمرِ إهلاكَهم ، ويجوزُ أن تكون لامَ الغرضِ ؛ لأنه قد كانَ فيهم معانِدون وغيرُ معاندين ؛ فَغلبَتْ صفةُ المعاندين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } ؛ أي لِيَخْلِطُوا ويُشَبهُوا عليهم دينَهم دينَ إسماعيلَ عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } ؛ أي لو شاءَ الله لَمَنَعَهُمْ من دفنِ البناتِ أحياءً ، { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } ؛ أي اتْرُكْهُمْ وافتراءَهم على اللهِ أنه أمَرهم بدفنِ بناتِهم أحياءً ، فإنَّ اللهَ تعالى مع قدرتهِ عليهم تَرَكَهُمْ ؛ فاتركْهُم أنتَ ، فإنَّ لَهم موعداً يُحاسبون فيهِ.
وقُرِىءَ : (قَتْلَ أوْلاَدِهِمْ شُرَكَائِهِمْ) كلاهُما بالكسرِ ، فتكون الشركاءُ من نعتِ الأولاد ؛ لأن أولادَهم شركاؤهم في أموالِهم.
(0/0)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قَوْلُهُ عَزََّ وَجَلَّ : { وَقَالُواْ هَـاذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ } ؛ أي قالوا : هذهِ الأنعامُ والحرثُ التي جعلوا بعضَها للهِ وبعضَها للأوثان حِجْرٌ ؛ أي حرامٌ لا يأكلُها ولا يذوقُها إلا مَن يُأذنُ له في أكلِها ؛ وهم الرجالُ دونَ النِّسَاءِ ، { بِزَعْمِهِمْ } أي بقولِهم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } ؛ هي الْبَحِيْرَةُ والسَّائِبَةُ وَالْحَامُ ؛ حَرَّمُوا الركوبَ عليها ، وأما الْوَصِيْلَةُ فإنَّها كانت من الغَنَمِ خاصَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } ؛ أي وأنعامٌ أُخَرُ كانوا يذبحونَها للأصنامِ تَقَرُّباً إليها ؛ زَعَمُوا أنَّ اللهَ أمرَهم بذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { افْتِرَآءً عَلَيْهِ } ؛ أي على اللهِ ، نُصِبَ على معنى : { لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } كَذِباً على اللهِ أنهُ أمرَهم بذلك. وَقِيْلَ : نُصِبَ على المصدر ؛ أي افَتَرَوا افْتِرَاءً. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ أي سَيُكَافِئُهُمْ بكَذِبهِمْ وافترائِهم على اللهِ.
(0/0)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـاذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } ؛ أي قالَ أهلُ الجاهليَّةِ : إنَّ الأجِنَّةَ التي في بُطُونِ هذه الأنعام - التي زَعَمُوا أنَّهَا لأوثانِهم - إذا انْفَصَلَتْ عن الأمَّهاتِ ؛ فهي حلالٌ لرجالِنا منافعُها وألبانُها ، ومُحَرَّمٌ على نسائِنا ما دامَت تلكَ حَيَّةً. وأمَّا تأنيثُ الـ (خَالِصَةٌ) ؛ فعلى معنَى : سَأَلَهُمْ.
قال جماعةٌ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ أو الأنعامِ التي في بُطُونِ هذهِ الأنعامِ. وأما تذكيرُ قولهِ : { وَمُحَرَّمٌ } فلأنهُ مردودٌ على لفظِ (مَا). وقرأ الأعمشُ : (خَالِصٌ لِذُكُورنَا) بغيرِها ، وردَّهُ إلى (مَا). ومَن نَصَبَ (خَالِصَةً) فعلى القَطْعِ ؛ تقديرهُ : مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ لِذُكُورنَا خَالِصاً. وقرأ ابنُ عبَّاس : (خَالِصَةٍ) بالإضافةِ إلى الهاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَكُن مَّيْتَةً } ؛ أي قالُوا : وَإنْ تَكُنْ أجنَّةُ هذه الأنعام ميتةً ؛ { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } ؛ الرِّجَالُ النساءُ. قرأ أبو جعفرٍ وابنُ عامرِ : (وَإنْ تَكُنْ) بالتاء (مَيْتَةٌ) بالرفعِ على معنى وإنْ يَقَعْ. وقرأ ابنُ كثيرٍ كذلكَ إلا أنه بالياء ، وقرأ أبو بكرٍ التاء (تَكُنْ مَيْتَةً) بالنصب على معنى : وإن تكن الأجنةُ ميتةً. وقرأ الباقون (يَكُنْ) بالياء والنصب ، وردُّوه إلى ما يؤيِّدُ ذلكَ قولهُ : { فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } ولم يقل : فيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } ؛ أي سَيَجْزِيَهِمْ في الآخرةِ بوَصْفِهِمْ الذي وَصَفُوا في هذه الأنعام ، إلا أنهُ لَمَّا حذفَ الباءَ انتصبَ ، ويجوزُ أن يكون معناه : سَيَجْزِيُهِمْ جَزَاءَ وَصْفِهِمْ ، إلا أنهُ حذف الجزاءَ ، وأجرى إعرابَهُ على (وَصْفَهُمْ) ، { إِنَّهُ حِكِيمٌ } ؛ في مجازاتهم ؛ { عَلِيمٌ } ؛ بمقدار جزائهِم. والمعنى : سيجزيهم على وَصْفِهِمُ الكذبَ على اللهِ.
(0/0)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ أي الذين قَتَلُوا بناتِهم أحياءً جَهْلاً منهم ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي بلاَ بَيَانٍ ولا حُجَّةٍ. نزلت في رَبيْعَةَ ومُضَرٍ الذين كانوا يدفِنون بناتِهم أحياءً مخافةَ السَِّبْيِ والفقرِ ، إلا مَن كان مِن بني كِنَانَةَ ، فإنَّهم كانوا لا يفعلونَ ذلك. وقرأ الحسنُ والسلميُّ وأهلُ مكة والشَّام : (قَتَلُوا) بالتشديد على التَّكْثِيْرِ ، وخفَّفَ الباقون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ } ؛ أي حَرَّمُوا على أنفسِهم ما أعطاهُم اللهُ من الرِّزْقِ ومن الأنعامِ والحرث ، يعني : أنَّ هؤلاء الكفَّار لِجَهْلِهِمْ يقتلونَ البناتَ أحياءً مخالفةَ الفقرِ والإنفاق ، ثم يجعلون طائفةً من أموالِهم للأوثانِ ، ويُحَرِّمُونَهَا على إنَاثِ أولادِهم.
وقولهُ : { افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ } أي يَفْتَرُونَ ذلك افْتِرَاءً عَلَى اللهِ ؛ بأنَّ اللهَ حَرَّمَ هذه الأشياءَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ ضَلُّواْ } ؛ أي ضَلُّوا في فِعْلِهِمْ هذا عنِ الْهُدَى ، { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } ؛ مَنَ الضَّلاَلَةِ.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ؛ أولُ هذه الآية راجعٌ إلى ما قبلِها ، كأنهُ قال : افْتِرَاءً عَلَى اللهِ وَهُوَ الَّذِي أنْشَأَ جَنَِّاتٍ ؛ أي هو الذي خَلَقَ بساتينَ مَعْرُوشَاتٍ ؛ وهي الكُرُومُ رَفَعَ بَعْضَ أغصانِها على بعضٍ ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } وهي الشَّجَرُ والزَّرْعُ وكلُّ ما لا يرتفعُ بعضُه على بعضٍ ، هكذا رُويَ عنِ ابنِ عبَّاس والحسنِ.
ويقالُ : معنى { مَّعْرُوشَاتٍ } ما لا يرفع له حيطان ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما لا يجعلُ له حائطٌ ، وَقيلَ : { مَّعْرُوشَاتٍ } ما انْبَسَطَ على الأرضِ وأنبتَ مما يُغْرَسُ مثلِ الكَرْمِ والقَرْعِ والبطِّيخِ وشَبَهِهَا ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما قامَ على سَاقٍ فطالَ مثلَ النَّخْلِ والزَّرْعِ وسائرِ الأشجار. وقال الضَّحاكُ : { مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } الكَرْمُ خَاصَّةً ؛ مِنْهَا مَا غُرِسَ ؛ وَمِنْهَا مَا لَمْ يُغْرَسُ). وروي عنِ ابنِ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أيضاً : (أنَّ الـ { مَّعْرُوشَاتٍ } ما نَبَتَهُ النَّاسُ ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } مَا أُخِذ مِنْ الْبَرَاري وَالْجِبَالِ مِنَ الثِّمَار). يدلُّ عليه قراءة علي رضي الله عنه (مَغْرُوساتٍ وغَيْرَ مَغْرُوسَاتٍ) بالغين والسين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } ؛ معناهُ : وأنشأَ النخلَ الزرعَ ، وهذا تخصيصُ بعضِ ما دخلَ في عمومِ الأوَّل ؛ لكونِهما أعمُّ نفعاً من جملةِ ما يكونُ في البساتين. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ } أي مُخْتَلِفاً جملةً من الألوان كلِّها ، ومختلفٌ في الطَّعْمِ من الْحُلْوِ والحامضِ والْمُرِّ ؛ والجيِّدِ والرَّديءِ. ونُصِبَ { مُخْتَلِفاً } على الحال ؛ أي أنشأهُ في حالِ اختلاف أكُلِهِ. وقد يقالُ : ارتفعَ { أُكُلُهُ } بالابتداءِ { مُخْتَلِفاً } نَعْتُهُ ، إلا أنه لَمَّا تقدَّمَ النعتُ على الاسمِ نُصِبَ ، كما يقالُ : عندي طَبَّاخاً غُلامٌ قال الشاعرُ : الشَِّرُّ مُسْتَتِرٌ يَلْقَاكَ عَنْ غُرُضٍ وَالصَّالِحَاتُ عَلَيْهَا مُغْلَقاً بَابُقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ } ؛ أي وأنْشَأَ شجرَ الزَّيْتونِ والرُّمَّانِ ، { مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } ؛ أي منها ما هو متشابهٌ ؛ ومنها ما هو غيرُ متشابهٌ ؛ ومنها ما هو غيرُ متشابهٍ. وَقِيْلَ : { مُتَشَابِهاً } بالنَّظَرِ { وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } في الطَّعمِ ؛ نحوُ : كالرُّمَّانَتَيْنِ لونُهما واحدٌ ؛ وطعمُهما مختلفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } ؛ هذا أمرُ إباحةٍ لا أمرُ إيجابٍ ، والفائدةُ في قولهِ تعالى : { إِذَآ أَثْمَرَ } إباحةُ الأكلِ من قَبْلِ إخراجِ الحقِّ الذي وَجَبَ فيه شائعاً للمساكينِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ؛ أي أعْطُوا حقَّ اللهِ تعالى يَوْمَ يُحْصَدُ ، أرادُوا العُشْرَ فيما سَقَتْهُ السَّماءُ ، ونِصْفَ الْعُشْرِ فيما سُقِيَ بغرب ودَالِيَةٍ. قال ابنُ عبَّاس والحسنُ وقال ابنُ عمر رضي الله عنه : ( { وَآتُواْ حَقَّهُ } مَا يَتَطَوَّعُ بهِ الإِنْسَانُ عِنْدَ رَفْعِ الْغُلَّةِ وَالتَّصَدُّقُ بهِ).
قال مجاهدُ : (إذا حَصَدْتَ فَحَضَرَكَ الْمَسَاكِيْنُ ، فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ ، وَإذا دَرَسْتَهُ وَذرَّيْتَهُ فَاطْرَحْ لَهُمْ مِنْهُ ، فَإذا عَرَفْتَ كَيْلَهُ فَأَخْرِجْ زَكَاتَهُ). قال إبراهيمُ النَّخعِيُّ : (هَذِهِ الآيَةُ مَنْسُوخَةً بالْعُشْرِ وَنِصْفِ الْعُشْرِ). وفي قوله : { حَصَادِهِ } قراءَتان بكسرِ الحاء وفتحِها.
(0/0)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } ؛ الْحَمُولَةُ : كِبَارُ الإِبلِ الَّتِي يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا ، وَالْفَرْشُ : صِغَارُهَا الَّتِي لاَ يُمْكِنُ الْحَمْلُ عَلَيْهَا ، سميت فَرْشاً لاستوائِها في الصِّغَرِ والانْحِطَاطِ كما سُوِّيَ ما يُفْرَشُ. وَقِيْلَ : سُميت فَرْشاً ؛ لِقُرْبهَا من الإبلِ ، وتسمى أيضاً الغَنَمُ : فَرْشاً.
والمعنى : مما نشاء من الأنعامِ حَمُولَةَ وَفَرْشاً. ويقالُ : أرادَ بالفَرْشِ ما يُفْرَشُ من الثِّياب والبُسُطِ التي تُعْمَلُ من الوَبَرِ. إلا أنَّ القولَ الأوَّل أقربُ ؛ لأنَّ الله تعالى ذكرَ في الآيةِ بعدَها : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ }[الأنعام : 143] ؛ أي أنْشأَ اللهُ في الْحَمُولَةِ والفَرْشِ ثَمانيةَ أزواجٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } ؛ إذْنٌ الأكلِ من الحرث والأنعامِ ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } ؛ في تحريْمِ الحرثِ والأنعامِ ؛ أي { ولا تَتَّبعُوا طُرُقَ الشيطانِ } ؛ في تحريم الحرثِ والأنعام ؛ أي ولا تَتَّبعُوا طُرُقَ الشيطلنِ ، فإنه لا يدعوكُم إلاَّ إلى المعصيةِ ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ؛ أي ظاهرُ العداوة ، وقد بَانَت عداوتهُ لأبيكُم آدَمُ عليه السلام.
(0/0)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } ؛ معناهُ : وَأنْشَأَ لُكُمْ { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي أصْنَافٍ ، { مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } ذكَرٍ وأنثى ، يعني بالذكرِ زَوْجاً وبالأنثَى زَوْجاً ، يقالُ لكلِّ مَنْ له قَرِيْنٌ : زَوْجٌ ، كما قالَ تعالى : { اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ }[الأعراف : 19].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } أي ذكَرٍ وأُنثى زوجين اثنين. والضَّأْنُ : ذوَاتُ الإلْيَةِ ، وهو جمع ضَائِنٍ ، كما يقال : تَاجِرٌ وتُجَرٌّ ، وَقِيْلَ : واحدهُ ضَائِنَةٌ. وَالْمَعْزِ : ذوَاتُ الأَذْنَاب الْقِصَار ، وفيه قراءتان : تَسْكِيْنُ العينِ ؛ وفتحُها.
قوله : { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ } أي قل لَهم يا مُحَمَّد : مِن أينَ جاء هذا التحريمُ الذي تذكرونَهُ أيُّها الكفارُ في الولدِ السَّابِعِ في الغنمِ أنه حرامٌ على النساءِ ؛ حرَّمَ اللهُ الذكرَ من الضأْنِ ؛ والذكرَ من المعزِ ؛ فحرَّم ولدَهما لحرمةِ الإناث؟
فإن جاءَ هذا التحريمُ من قِبَلِ ذُكورهما ؛ فيجبُ أن تكون كلُّ أنثى حرامٌ عليكم ، وإنْ كانَ من قِبَلِ اشتمالِ أرحامِ الأنْثَيَيْنِ ؛ فيجبُ أن يكونَ كلُّ أولادِهما من الذكرِ والأنثى حَرَاماً عليكم ؛ لأنَّ الأرحام تشتملُ عليهما جمعياً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ أي قُلْ للكافرين خَبرُونِي وفَسِّروا لِي ما حُرِّمَ عليكم ببَيَانِ حُجَّةٍ إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ في مقالَتِكم : إنَّ اللهَ حَرَّمَ الوَصِيْلَةَ ونحوِها. وإنَّما قال : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } لأن الصِّدْقَ لا يُمكن إلا بعلمٍ.
(0/0)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ } ؛ أي وَأنْشَأَ مِنَ الإِبلِ اثْنَيْنِ ؛ ذكَرٍ وأُنثى من جملةِ الثمانيةِ الأزواجٍ ، { وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } ؛ ذكَرٍ وأُنثى ، { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّد : إنَّكم تُحَرِّمُونَ الولدَ من الجاموس والإبلِ والبقرِ على النِّساء ، فمِنْ أينَ جاء هذا التحريمُ ؛ مِن قِبَل الذكور ؛ { أَمِ الأُنْثَيَيْنِ } ؛ أي مِن قِبَلِ الإناث ؟ { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ } ، أي مَن الذي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أرْحَامُ الأُنَثَيَيْنِ ، { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَـاذَا } ؛ أي أمْ شاهَدتُم اللهَ تعالى حرَّم هذه الأشياءِ التي تحرِّمونَها وأمرَكم بتحريْمها.
يعني إذا كُنْتُمْ لا تُقِرُّونَ بِنَبِيٍّ من الأنبياءِ ؛ فمِن أينَ عَلِمْتُمْ تحريمَ اللهِ ؛ أبالْقِيَاسِ ؟ لأنَّ الله تعالى أمَرَ نَبيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أن يُنَاظِرَهُمْ ، ويُبَيِّنَ بالحجَّةِ فسادَ قولِهم وبطلانَ اعتقادِهم ، فلمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ " قَرَأهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أبي الأحْوَصِ الْجُشَمِي ومَالِكِ بْنِ عَوْفٍ - وكان هو الَّذي يُحَرِّمُ لَهم ، وكانوا يرجعون إليه فيه - فَسَكَتَ مَالِكُ وَتَحَيَّرَ فِي الْجَوَاب. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا لَكَ يَا مَالِكُ لاَ تَتَكَلَّمُ ؟ " فَقَالَ لَهُ مَالِكُ : بَلْ تَكَلَّمْ أَنْتَ ؛ أنَا أسْمَعُ ".
فنزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ؛ هذا استفهامٌ بمعنى التَّوْبِيْخِ وَالتَّعَجُّب ؛ معناه : أيُّ أحدٍ أعْتَى وأجرأ على اللهِ مِمَّنِ اختلقَ على اللهِ كَذِباً { لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي لِيَصْرِفَ الناسَ عن دِينه وحُكْمِهِ بالْجَهْلِ ، { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ؛ أي لا يُهْدِيْهِمْ إلى الْحُجَّةِ فيما افْتَرَواْ على اللهِ ، ويقالُ : لا يهديهم إلى حُجَّتِهِ وثوابهِ.
فلما نزلَتْ هذه الآيةُ قال مالكُ بنُ عوفٍ : فِيْمَ هذا التحريمُ الذي حَرَّمَهُ آباؤُنا من السَّائِبَةِ والوَصِيْلَةِ والْحَامِ وَالْبَحِيْرَةِ ؟ فَأنزلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ؛ فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الآية ، ثُمَّ قَالَ : " يَا مَالِكُ ؛ أسْلِمُ " فَقَالَ : إنِّي امْرِؤٌ مِنْ قَوْمِي فَأُخْبرُهُمْ عَنْكَ. فأَبَى قَوْمُهُ ؛ فَقَالُواْ : كَيْفَ رَأيْتَ ؟ فَقَالَ : رَأَيْتُ رَجُلاً مُعَلَّمًا. وَذكَرَ لَهُمْ ؛ فَقَالُواْ : إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
ومعنى الآية : قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : لاَ أجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ من القرآن شيئاً مُحَرَّماً عَلَى آكِلٍ يَأْكُلُهُ إلاَّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً لَمْ يُذكَّ ؛ وهي تَموتُ حَتْفَ أنْفٍ. فمَنْ قرأ { إِلاَّ أَن يَكُونَ } بالياء فعلى معنى : إلاَّ أن يكونَ المأكولُ ميتةً. ومن قرأ بالتاء ؛ فعلى معنى : إلا أن تكونَ تلك الأشياءُ ميتةً. وقرأ عَلِيٌّ رضي الله عنه : (يَطَّعِمُهُ) بتشديدِ الطاء ، فأدْغَمَ التاءَ في الطاء.
(0/0)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } ؛ في هذه الآية بيانُ ما حَرَّمَ اللهُ على اليهودِ. قال ابنُ عبَّاس : (أرَادَ بقَوْلِهِ : { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } الإبلَ والنَّعامَ وَالْبَطَّ وَالإِوَزَّ وَمَا أشْبَهَ ذلِكَ مِمَّا لاَ يَكُونُ مُنْفَرِجَ الأَصَابعِ). وَقِيلَ : أراد به ما يصيدُ بالظُّفْرِ مثلَ النُّسُور والبراري وما يُشَاكِلُ ذلكَ من السِّبَاعِ والكلاب. وقال ابنُ زيدٍ : (هِيَ الإبلُ فَقَطْ). قرأ الحسنُ : (كُلَّ ذِي ظِفْرٍ) بكسرِ الظَّاء وإسكان الفاء. وقرأ أبو السِّمَال : (ظِفِرٍ) بكسرِهما جميعاً ؛ وهي لغةٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } ؛ من الشِّحْمِ وهو السَّمْنُ ، { أَوِ } ؛ ما حَمَلَتِ ؛ { الْحَوَايَآ } ؛ وهي الْمَبَاعِرُ والأمْعَاءُ التي عليها الشَّحْمُ من داخلِها ؛ واحدتُها حَاويَةٌ وحَاويَاءُ وحَوِيَّة ؛ سُميت بذلك لأنَّها تَحوي ما في البَطْنِ. وقولهُ : { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } ؛ أرادَ به ما يكونُ من الشَّحْمِ الْمُخَلَّطِ من اللَّحمِ على عَظْمِ الجنب. وأما الإلْيَةُ ؛ فقد كانت داخلةً في التحريم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } ؛ أي ذلك التحريمُ عاقبناهُم بظلمِهم ، { وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } ؛ فيما نقولُ إنَّ هذه الأشياءِ كانت حَلالاً في الأصلِ ؛ فحرَّمناها على اليهودِ بمعصيتِهم ومخالفتهم لأنبيائِهم ، وكانتِ اليهودُ مع هذا التحريمِ يجملونَ الشُّحُومَ فيبيعونَها ؛ فيستحلُّون ثَمنَها ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهمْ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأكَلُو ثَمَنَهَا ؛ إنَّ اللهَ تَعَالَى إذا حَرَّمَ شَيْئاً حَرَّمَ بَيْعَهُ وَأكْلَ ثَمَنِهِ ".
فلمَّا نزلت هذه الآيةُ ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " هَذا مَا أوْحَى اللهُ تَعَالَى إلَيَّ أنَّهُ مُحَرَّمٌ مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ ، وَمِنْهُ عَلَى الْيَهُودِ ". فقالَ المشركون : إنَّكَ لَمْ تُصِبْ فيما قُلْتَ ، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } ؛ أي إنْ أنكَرُوا ولم يقبلُوا قولَكَ ؛ فقُلْ : { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } بالإمهالِ بأن لَنْ يُعَاجِلَكُمْ بالعقوبةِ ؛ { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي لا يُرَدُّ عذابهُ عن المشركين واليهودِ إذا جاء وقتُ العذاب.
(0/0)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } ؛ أي آباؤُنا من قبلِنا الذين اسْتَنَنَّا بهم ، { وَلاَ حَرَّمْنَا } ؛ على أنفسِنا ؛ { مِن شَيْءٍ } ؛ من الحرْثِ والأنعام ، ولكنه شَاءَ لنا الشِّرْكَ والتحريمَ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ كَذَّبَ } ؛ أي قالَ ؛ { الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم } ؛ أي هكذا كَذبَ الذين مِنْ قبلِهم رُسُلَهُمْ كما كَذبَ قومُك ، { حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا } ؛ أي عذابَنا. من قرأ (كَذلِكَ كَذبَ الَّذِينَ) بالتخفيفِ ؛ فمعناهُ : كما كَذبَ قومُك على اللهِ ؛ كذلك كَذبَ مَن قبلَهم من الأُمَمِ الخالية على اللهِ ؛ حتى ذاقُوا عذابَنا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : هَلْ عندَكم من عِلْمٍ من بَيَانٍ وحُجَّةٍ غير ما في القُرْآنِ ؛ فَبَيِّنُوهُ لَنَا ، { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ } ؛ يعني ظَنَّهُمْ في تحريمِ البَحِيْرَةِ والسَّائِبَةِ وَالْوَصِيْلَةِ وَالْحَامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } ؛ ما أنتم إلاَّ تَكْذِبُونَ على اللهِ.
قال المشركون : لو شاءَ الله ما أشْرَكْنَا ، على وجهِ الاستهزاء ؛ فكذبَهم اللهُ في ذلك ، وإنْ كانت المشيئةُ حقّاً كما في سورة (المنافقون) : { إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون : 1] فكذبَهم الله في قولِهم : إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ؛ وإن كان ذلك حَقّاً ؛ لأنَّهم قالوا على وجهِ الاستهزاء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ آبَاؤُنَا } عطفٌ على الْمُضْمَرِ المتَّصل ؛ معناهُ : ما أشْرَكْنَا نحنُ ولا آباؤنا. ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ بعضَهم قال : إنَّ مشيئةَ المعاصي إذا أُضيفت إلى اللهِ تعالى كان معناها الْخُذْلاَنَ مجازاةً لَهم على سُوءِ أفعالِهم ، وإصرارهم على المعصيةِ.
(0/0)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ أي إنَّ الله قد أبلغَكم حُجَّتَهُ ؛ وهو ما أحَلَّهُ من الثمانيةِ أزواجٍ ؛ فلو شاءَ لَوَفَّقَكُمْ لدينهِ وأكرمَكم بمعرفته. وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : قَدْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ وَجَاءَكُمُ الرَّسُولُ ؛ فَلَوْ شَاءَ لَوَفَّقَكُمْ وأجْبَرَكُمْ على الإيْمانِ). و { الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } : التَّامَّةُ الكافيةُ.
(0/0)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَـاذَا } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّد : هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أنَّ اللهَ حَرَّمَ هذه الأشياءِ ، { فَإِن شَهِدُواْ } ؛ بأنَّ اللهَ حرَّمَها ، { فَلاَ تَشْهَدْ } ، أنتَ يا مُحَمَّدُ ، { مَعَهُمْ } ؛ لأنَّهم لا يشهدون إلاَّ الباطِل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } ؛ أي لا تَعْمَلُ بهوى الذين جَحَدُوا بكَ وبالقُرْآنِ ؛ ولا بهوى الذين لاَ يُصَدِّقُونَ بالبعثِ. وإنَّما فَصَلَ بين الفريقين ؛ لأنَّ مِن الكفارِ مِن يُؤْمِنُ بالبعثِ كأهل الكتاب ؛ ومنهُم مَن لا يؤمِن بذلكَ كَعَبَدَةِ الأوثانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } ؛ أي يُسَوُّونَ باللهِ تعالى في الطاعةِ.
(0/0)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } ؛ أي قل يا مُحَمَّد لِمَالِكِ بنِ عوفِ الْخُشمي ولأصحابه : هَلُمُّوا واجْتَمِعُوا أقْرَأ عليكم الذي حَرَّمَ ربُّكم عليكُم.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ؛ أي أوْصِيْكُمْ وآمُرُكُمْ أنْ لا تُشْرِكُوا. ويقال : أتْلُوا عليكم أنْ لا تُشركوا كما في قولهِ : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ }[الأعراف : 12]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } ؛ أي وَأوْصِيكُمْ بالوالدين ؛ أي بالإحسانِ إلى الوالدين برّاً بهما وعَطْفاً عليهما ، { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } ؛ أي لا تَدْفُنُوا بناتِكم أحياءً مخافةَ الفقرِ.
والإملاقُ في اللغة : نَفَادُ الزَّادِ وَالْنَفَقَةِ ، يقال : أمْلَقَ الرجلُ ؛ إذَا نَفِدَ زَادُهُ وَنَفَتُهُ ومنه الْمَلَقَ ؛ وهو بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي تَحْصِيْلِ الْمُرَادِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ؛ أي علينا رزْقُكُمْ ورزْقُهُمْ جميعاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } ؛ أي لا تقربوا الزنا مسرِّين ولا معلنين ، { وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } أي إلاَّ بإحدى ثلاثِ خِلاَلٍ : زناً بعد إحْصَانٍ ؛ وكفرٌ بعد أيْمَانٍ ؛ وقتلُ نفسٍ بغير حقِّ.
وروي " أن عثمان رضي الله عنه حين أرادوا قتله أشرف عليهم وقالَ : " عَلاَمَ تَقْتُلُونِي ؟ سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " لاَ يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحْدىَ ثَلاَثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ؛ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ ، وَرَجُلٌ قَتَلَ عَمْداً ، أو ارْتَدَّ بَعْدَ إسْلاَمِهِ ". فَوَاللهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلَيَّةٍ وَلاَ إسْلاَمٍ ؛ وَلاَ قَتَلْتَ أحَداً فَأفْتَدِي نَفْسِي مِنْهُ ؛ وَلاَ ارْتَدَدْتُ مُنْذُ أسْلَمْتُ ؛ إنِّي أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسم ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } ؛ أي هذا الذي ذُكِرَ لكم أمَرَكُمُ اللهُ في كتابهِ لِكَي تَفْعَلُوا ما أمرَكم بهِ ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }.
(0/0)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ؛ أي لا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ الذي لا أبَ لهُ إلا لِحِفْظِهِ وتَمييزه وإصلاحِه ، { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }. قال الشعبيُّ : (هُوَ بُلُوغُ الْحُلُمِ ؛ حَيْثُ تُكْتَبُ الْحَسَنَاتُ وَتُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ).
وقال السُّدِّيُّ : (الأشَدُّ : أنْ يَبْلُغَ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً). وقال الكلبيُّ : (مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إلَى ثَلاَثِيْنَ سَنَةً). وجعل أبُو حَنِيْفَةَ غَايَةَ الأَشُدِّ : (خَمْساً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً ؛ فَإذا بَلَغَهَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْتُوهاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } ؛ أي أتِمُّوا الكَيْلَ والوزنَ بالعدلِ عند البيعِ والشِّراء ، { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ؛ أي إلاَّ طاقَتَها وجَهْدَهَا. وهذه الآيةُ أصلٌ في جواز الاجتهاد في الأحكامِ ، وإنَّ كلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيْبٌ ؛ فإذا اجتهدَ الإنسانُ في الكيلِ والوزن ، ووَقَعَتْ فيه زيادةٌ يسيرةٌ أو نقصان يسيرٌ لم يُؤَاخِذْهُ اللهُ به إذا اجتهدَ جهده ، وإنه اعتاد الكيل على ذلك فزادَ أو نقص أثبت التراجع إذا كان ذلك القدر من التفاوت مما يقع بين الكيلين.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ؛ أي إذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا في الْمَقَالَةِ. قِيْلَ : معناه : قولوُا الحقَّ إذا شهدتُم وحكمتُم ولو كان المشهودُ عليه أُوْلِي قرابةٍ من الشاهد.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ } ؛ أي أتِمُّوا فرائضَ اللهِ التي أمرَكم بها ، كما قالَ تعَالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِي ءَادَمَ }[يس : 60]. ويقال : أرادَ بالعهدِ في هذه الآية : النَّذْرَ واليمينَ ، كما قال تعالى : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ }[النحل : 91]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذالِكُمْ وَصَّـاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ؛ أي في هذا الذي ذكَرَهُ اللهُ لكم وأمرَكم اللهُ به في الكتاب لكي تتَّعِظُوا فَتَمْتَنِعُوا عنِ الْمُحَرَّمَاتِ.
(0/0)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَنَّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً } ؛ في الجنَّة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّبِعُوهُ } ؛ أي اعْتَقِدُوا حلالَ هذا الدينِ وحرامَه ومَأْمُورَهُ وَمَنْهِيَّهُ ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ } ؛ أي ولا تَتَّبعُوا اليهوديَّةَ والنصرانيَّة وسائرَ مِلَلِ الكفرِ ؛ فإنَّها سَبيْلُ الشَّيْطانِ وهي طريقُ النَّارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } ؛ أي فَيُضِلُّكُمْ ذلك السُّبُلُ الذي تتَّبعونَه بهواكم عن دينِ الله الذي هو الإسلامُ ، { ذالِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ } ؛ أي هذا الذي أمَرَكم اللهُ به في القُرْآنِ ، { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ؛ أي لِتَتَّقُوا السُّبُلَ المختلفةَ وتَسْتَقِيْمُوا على الإيْمانِ.
قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (هَذِهِ الثَّلاَثُ آيَاتٍ مِنَ الْمُحْكَمَاتِ ؛ وَهُنَّ إمَامٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيْلِ وَالزَّبُور وَالْفُرْقَانِ ؛ لَمْ يَنْسَخْهُنَّ شَيْءٌ فِي جَمِيْعِ الْكُتُبِ ؛ وَهِيَ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى بَنِي آدَمَ كُلَّهُمْ ؛ وَهُنَّ أُمُّ الْكِتَاب ؛ مَنْ عَمِلَ بِهنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ ؛ وَمَنْ تَرَكَهُنَّ دَخَلَ النَّارَ). قال كعبُ الأحبَار : (وَالَّذِي نَفْسُ كَعْبٍ بيَدِهِ ؛ إنَّ هَذِهِ لأَوَّلُ شَيْءٍ فِي التَّوْرَاةِ : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ؛ قُلْ تَعَالُوا أتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.إلَى آخرِ الآياتِ الثَّلاَثِ).
(0/0)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } ؛ معناه : بل آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ. وَقِيْلَ : معنى (ثُمَّ) معنى العطفِ كأنه قال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }[الأنعام : 51] ثم أُتْلُ ما آتاهُ اللهُ موسى من التَّوراةِ. قولهُ : { تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } أي تَماماً للأحْسَنِ على الْمُحْسِنِيْنَ النِّبِيُّ موسَى عليه السلام أحدُهم.
ويقالُ : معناه : تَمَاماً على ما أحْسَنَ موسَى عليه السلام. كان موسَى عليه السلام مُحْسِناً فِي معرفةِ العلمِ وكُتُب المتقدِّمين ، فأعطيناهُ التوراةَ زيادةً على ذلك. و(تَمَاماً) نُصِبَ على القطع. وَقِيْلَ : على التَّفسيرِ. وقرأ ابنُ عمر : (عَلَى الَّذي أحْسَنُ) بالرفعِ على معنى : على الذي هُوَ أحْسَنُ.
قََوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي تَتْمِيْماً بالإحسانِ إليهم ؛ وتَبْييْناً لكلِّ شيءٍ من الحلالِ والحرام ؛ والهُدى من الضَّلالةِ ؛ والنَجَاةَ من العذاب لِمَنْ آمَنَ به وعَمِلَ بما فيه ؛ لَعَلَّهُمْ بالبعثِ الذي فيه جزاءُ الأعمال يُقِرُّونَ وَيُصَدِّقُونَ.
(0/0)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهَـاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَـاهُ مُبَارَكٌ } ؛ أي وَهَذا القُرْآنُ كتابٌ أنزلناهُ فيه بركةٌ وخير كثيرٌ لِمن آمَنَ به. ومعنى الْبَرَكَةِ : ثُبُوتُ الْخَيْرِ وديمومتهُ ، { فَاتَّبِعُوهُ } ؛ أي اقْتَدُوا به في أوامرهِ ونواهيه ، { وَاتَّقُواْ } ، مخالفَته سُخْطَهُ ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ لتكونوا على رَجَاءِ الرَّحمةِ.
(0/0)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } ؛ أي كراهةَ أن يقولوا : إنَّما أنزلَ الكتابَ على طائفتين مِن قبلِنا ؛ أرادَ به التوراةَ لليهود ؛ والإنجيلَ للنصارى ، { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } ؛ أي وقد كُنَّا عن قراءةِ كُتُبهِمْ التوراةِ والإنجيل لَغَافِلِيْنَ عمَّا فيه. وَقِيْلَ : معناهُ : وما كُنَّا عن قراءةِ كُتبهم التوراةَ والإنجيل إلاَّ غافلين عمَّا فيهما.
(0/0)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ } ؛ أي وكراهةَ أن يقولوا : لَوْ أنَّا أنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ كما أُنْزِلَ على اليهودِ والنصارى ، لكُنَّا أسرعُ إجابةً منهم. وذلك : أنَّ أهلَ مكَّة كانوا يقولون : قاتلَ اللهُ اليهودَ ؛ كيف كذبوا على أنبيائِهم ، واللهِ لو جاءَنا نذيرٌ كتابٌ لكُنَّا أهْدَى منهم.
قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي القُرْآنُ بَيَاناً ودلالةً من ربكم ، { وَهُدًى } ؛ مِن الضَّلالة ؛ { وَرَحْمَةٌ } ؛ لِمن آمنَ به واتَّبعَهُ ، رَحِمَ اللهُ بإنزالهِ عبادَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ } ؛ أي لا أجِدُ أعْتَى ولا أجْرَأ على الله مِمَّنْ كَذبَ بآيَاتِ اللهِ ، { وَصَدَفَ عَنْهَا } ؛ أي أعْرَضَ عنها ، { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } ؛ أي سَنُعَاقِبُ الذين يُعْرِضُونَ عن آياتِنا بأقبحِ العذاب وأشدِّه بإعراضِهم وتكذيبهم.
(0/0)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلائِكَةُ } ؛ أي ما يَنْظُرُ أهلُ مكةَ بعد نزولِ الآيات وقيام الْحُجَجِ عليهم إلا إتيانَ مَلَكِ الموتِ وأعوانهِ لِقَبْضِ أوارحهم ؛ أي لَمْ يَبْقَ إلاَّ هذا. قولهُ : { أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } ؛ معناهُ : أو يَأْتِيَ أمرُ ربكَ بإهلاكهم والانتقامِ منهم ؛ إمَّا بعقابٍ عاجل أو بالقيامَةِ. وقولهُ : { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ } ؛ يعني طلوعَ الشَّمْسِ من مغربها.
قال الحسن : (أوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبكَ الْحَاجَّة مِنَ التَّوْبَةِ) ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " بَادِرُوا بالأَعْمَالِ سِتّاً : طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبهَا ؛ وَدَابَّةَ الأَرْضِ ؛ وَخُرُوجَ الدَّجَّالِ ؛ وَالدُّخَانَ ؛ وَخُوَيْصَةَ أحَدِكُمْ - يَعْنِي مَوْتَهُ - ، وَأمْرَ الْعَامَّةِ - يَعْنِي الْقِيَامَةَ " ".
وقال صلى الله عليه وسلم : " بَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ مِنْ قِبَلِ الْمَغْرِب مَسِيْرَةَ أرْبَعِيْنَ سَنَةٍ ، وَمَلَكٌ قَائِمٌ عَلَى ذلِكَ الْبَاب يَدْعُو النَّاسَ إلَى التَّوْبَةِ ، فَإذا أرَادَ اللهُ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبهَا ؛ طَلَعَتْ مِنْ ذلِكَ الْبَاب سَوْدَاءَ لاَ نُورَ لَهَا ؛ فَتَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ ثُمَّ رَجَعَتْ ، فَيُغْلَقُ الْبَابُ وَتُرَدُّ التَّوْبَةُ ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى شَرْقِهَا لِتَطْلُعَ بَعْدَ ذلِكَ مِائَةً وَعِشْرِيْنَ سَنَةً ، إلاَّ أنَّها سَوْدَاءُ تَمُرُّ مَرّاً ".
وعن ابن عبَّاس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ ؛ رُفِعَ بهَا إلَى السَّمَاءِ السَّابعَةِ فِي سُرْعَةِ طَيَرَانِ الْمَلاَئِكَةِ ، وَتُحْبَسُ تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَيُسْتَأْذنُ مِنْ أيْنَ تَطْلُعُ ؛ أمِنْ مَطْلَعِهَا أمْ مِنْ مَغْرِبهَا ، وَكَذا الْقَمَرُ ، فَلاَ يَزَالاَ كَذلِكَ حَتَّى يأْتِيَ اللهُ بالْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتَهُ لِتَوْبَةِ عِبَادِهِ.
وَتَكْثُرُ الْمَعَاصِي فِي الأَرْضِ ، وَيَذْهَبُ الْمَعْرُوفُ فَلاَ يَأْمُرُ بهِ أحَدٌ ، وَيَكْثُرُ الْمُنْكَرُ فَلاَ يَنْهَى عَنْهُ أحَدٌ ، فَإذا فَعَلُوا ذلِكَ حُبسَتِ الشَّمْسُ تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَإذا مَضَى مِقْدَارُ لَيْلَةٍ سَجَدَتْ ، وَاسْتَأْذنَتْ رَبَّهَا مِنْ أيْنَ تَطْلُعُ ، فَلَمْ يجِئُ لَهَا جَوَابٌ حَتَّى يُوَافِقَهَا الْقَمَرُ ، فَيَسْجُدُ مَعَهَا ؛ فَلاَ يَعْرِفُ مِقْدَارَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلاَّ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي الأَرْضِ ؛ وَهُمْ يَوْمَئِذٍ عِصَابَةً قَلِيْلَةً فِي هَوَانٍ مِنَ النَّاسِ.
فَيَنَامُ أحَدُهُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مِثْلَ مَا يَنَامُ قَبْلَهَا مِنَ اللَّيَالِي ، ثمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ ورْدَهُ ؛ فَلاَ يُصْبِحُ ؛ فَيُنْكِرُ ذلِكَ ، فَيَخْرُجُ وَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ ؛ فَإذا هِيَ باللَّيْلِ مَكَانَهَا وَالنُّجُومُ مُسْتَدِيْرَةٌ ، فَيُنْكِرُ ذلِكَ وَيَظُنُّ فِيْهِ الظُّنُونَ ، فَيَقُولُ : خْفَّتْ قِرَاءَتِي ؛ أوْ قَصُرَتْ صَلاَتِي ؛ أمْ قُمْتُ قَبْلَ حِيْنٍ؟!
ثُمَّ يَقُومُ فَيَعُودُ إلَى مُصَلاَّهُ ، فَيُصَلِّي نَحْوَ صَلاَتِهِ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ ، ثُمَّ يَنْظُرُ ؛ فَلاَ يَرَى الصُّبْحَ ، فَيَخْرُجُ فَإذا هُوَ باللَّيْلِ كَمَا هُوَ ، فَيُخَالِطُهُ الْخَوْفُ ، ثُمَّ يَعُودُ وَجِلاً خَائِفاً إلَى مُصَلاَّهُ ، فَيُصَلِّي مِثْلَ ورْدِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى الصُّبْحَ ؛ فَيَشْتَدُّ بهِ الْخَوْفُ.
فَيَجْتَمِعُ الْمُتَهَجِّدُونَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي فِي مَسَاجِدِهِمْ ، وَيَجْأَرُونَ إلَى اللهِ تَعَالَى بالْبُكَاءِ والتَّضَرُّعِ. فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى جِبْرِيْلَ عليه السلام إلَى الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَيَقُولُ لَهُمَا : إنَّ اللهَ يأْمُرُكُمَا أنْ تَرْجِعَا إلَى مَغَاربكُمَا فَتَطْلُعَا مِنْهُ ، فإنَّهُ لاَ ضَوْءَ لَكُمَا عِنْدَنَا وَلاَ نُورَ ، فَيَبْكِيَانِ عِنْدَ ذلِكَ وَجَلاً مِنَ اللهِ بُكَاءً يَسْمَعُهُ أهْلُ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَأهْلُ سُرَادُقَاتِ الْعَرْشِ ، ثُمَّ يَبْكِي مَنْ فِيْهِمَا مِنَ الَْخَلاَئِقَ مِنْ خَوْفِ الْمَوْتِ وَالْقِيَامَةِ.
فَبَيْنَمَا الْمُتَهَجِّدُونَ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ وَالْغَافِلُونَ فِي غَفَلاَتِهِمْ ؛ إذا بالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ قَدْ طَلَعَتَا مِنَ الْمَغْرِب أسْوَدَانِ لاَ ضَوْءَ لِلشَّمْسِ وَلاَ نُورَ لِلْقَمَرِ كَصِفَتِهِمَا فِي كُسُوفِهِمَا ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } [القيامة : 9] ، فَيَرْتَفِعَانِ كَذلِكَ مِثْلَ الْبَعِيْرَيْنِ يُنَازعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِبَاقاً ، فَيَتََصَارَخُ أهْلُ الدُّنْيَا حِيْنَئِذٍ وَيَبْكُونَ.
فَأَمَّا الصَّالِحُونَ فَيَنْفَعُهُمْ بُكَاؤُهُمْ ، وَيُكْتَبُ لَهُمْ عِبَادَةً ، وَأمَّا الْفَاسِقُونَ فَلاَ يَنْفَعُهُمْ بُكَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ ، وَيُكْتَبُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً وَنَدَامَةً. فَإذَا بَلَغَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ سُرَّةَ السَّمَاءِ وَمُنْتَصَفَهَا ، جَاءَ جِبْرِيْلُ فَأَخَذ بقُرُونِهِمَا فَرَدَّهُمَا إلَى الْمَغْرِب ؛ فَيَغْرُبَانِ فِي بَاب التَّوْبَةِ ".
فَقَالَ عُمَرُ : بأَبي وَأُمِّي أنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ ؛ مَا بَابُ التَّوْبَةِ ؟ قَالَ : " يَا عُمَرُ ؛ خَلَقَ اللهُ بَاباً لِلتَّوْبَةِ خَلْفَ الْمَغْرِب ؛ لَهُ مِصْرَاعَانِ مِنْ ذهَبٍ ؛ مَا بَيْنَ المِصْرَاعِ إلَى الْمِصْرَاعِ أرْبَعُونَ سَنَةً لِلرَّاكِب ، فَذلِكَ الْبَابُ مَفْتُوحٌ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ خَلْقَهُ إلَى صَبيْحَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنْ مَغْرِبهِمَا ، فَإذا غَرَبَا فِي ذلِكَ الْبَابِ رُدَّ الْمِصْرَاعَانِ وَالْتَأَمَ مَا بَيْنَهُمَا ، فَيَصِيْرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا صَدْعٌ. فَإذا أُغْلِقَ بَابُ التَّوْبَةِ لَمْ يُقْبَلْ لِلْعَبْدِ تَوْبَةٌ بَعْدَ ذلِكَ ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ حَسَنَةٌ يَعْمَلُهَا إلاَّ مَنْ كَانَ قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِناً ، فَإنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا كَانَ يَجْرِي قَبْلَ ذلِكَ الْيَوْمِ ".
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } ؛ قرأ حمزةُ والكسائيُّ : (فَارَقُوا) بالألفِ ؛ أي خَرَجُوا من دينِهم وتركوهُ ؛ وهي قراءةُ عَلِيٍّ رضي الله عنه. وقرأ الباقونَ (فَرَّقُوا) بالتَّشديدِ بغيرِ ألفٍ ؛ وهي قراءةُ ابنِ مسعُودٍ وابنِ عَبَّاس وأُبَيّ بنِ كعبٍ ؛ أي جعلُوا دينَ الله فِرَقاً يتهوَّدُ قوم ، ويَتَنَصَّرُ قومٌ ، يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فِرَقاً مختلفةً.
وقال مجاهدُ : (أرَادَ بهِمْ الْيَهُودَ) فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُمَالِئُونَ الْمُشْرِكِيْنَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ. وقال قتادةُ : (هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؛ فَإنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضاً). وعن أبي هريرةَ أنه قال : (هُمْ أَهْلُ الْبدَعِ وَالضَّلاَلَةِ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ ، فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُكَفِّرُ بَعْضاً بالْجَهَالَةِ).
قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَكَانُواْ شِيَعاً } ؛ أي فِرَقاً مختلفةً ، والشِّيَعُ : جمع الشِّيْعَةِ ؛ وهي الفِرْقَةُ التي يَتْبَعُ بعضُها بعضاً ؛ يقال : شَايَعَهُ على الأمرِ ؛ إذا اتَّبَعَهُ ، وَقِيْلَ : أصلُ الشِّيَعِ الظُّهُورُ ؛ يقال : شَاعَ الحديثُ يَشِيْعُ ، إذا ظَهَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ؛ أي لَسْتَ مِن مذاهبهم الباطلة في شيءٍ ؛ أي أنتَ بَرِيْءٌ من جميعِ ذلك ، { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ } ؛ أي مصيرُهم ومُنْقَلَبُهُمْ إلى اللهِ ، { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم } ؛ ثم يجزيهم في الآخرةِ ، { بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ؛ أي بما كانوا يعملونَ في الدُّنيا ، فَيَنْدَمُ الْمُبْطِلُ ، ويَفْرَحُ الْمُحِقُّ.
(0/0)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } ؛ أي مَن جاءَ بِخصْلَةٍ من الطاعاتِ فله عَشْرُ حسناتٍ ، { وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } ؛ أي مَن جاءَ بخصْلَةٍ من المعصيةِ فلا يُجزى إلاَّ مثلَها ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ؛ بالزيادةِ على مقدار ما يستحقُّون من العقاب ، وإنَّما قالَ ذلك لأنَّ الفضلَ بالنِّعَمِ جائزٌ ، والابتداءُ بالعقاب لا يجوزُ. وقرأ الحسنُ وسعيدُ بن جبير ويعقوبُ : (فَلَهُ عَشْرٌ) بالتنوينِ (أمْثَالُهَا) بالرَّفِعِ على معنى : فَلَهُ حسناتٌ عشرٌ أمثالُها.
وقد تكلَّمَ أهلُ العلمِ بالحسنات العَشْرِ التي وَعَدَ اللهُ في هذه الآية ؛ فقالَ بعضُهم : المرادُ بها التحديدُ بالعشرةِ. وقال بعضُهم : المرادُ بها التضعيفُ دونَ التَّحديدِ بالعشرة ؛ كما يقولُ القائل : لإِنْ أسديتَ إلَيَّ معروفاً لأَكَافِئَنَّكَ بعشرةِ أمثالهِ.
ثُمَّ اختلفُوا ؛ فقالَ بعضُهم : هو كُلُّهُ بفضلٍ وثَوَابٍ غير ذلكَ ؛ كأنهُ قال تعالى : مَنْ جَاءَ بالْحَسَنَةِ فلهُ عشرُ حسناتٍ من النِّعَمِ والسُّرورةِ زيادةً على ثواب حَسَنَتِهِ. قالُوا : ولا يجوزُ أن تُسَاوَى منْزلةُ التفضيل بمَنْزِلَةَ الثواب ؛ لأن الثوابَ لا بُدَّ أن يُقَارِنَهُ التعظيمُ والإجلالُ.
وقال بعضُهم : هذه الحسناتُ العَشْرُ تفضُّلٌ من اللهِ تعالى ؛ قالوا : ويجوزُ أن يَتَفَضَّلَ على مَن لا يعملُ مِثْلَ ثواب العامل ابتذالاً منه ؛ وتفضل في فعله على مَن لا يستحق عليه شيء.
وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أنَّهُ " إذا حَسُنَ إسْلاَمُ أحَدِكُمْ ؛ فَكُلُّ حَسَنَّةٍ يَعْمَلُهَا يُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا ؛ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ؛ إلَى مَا شَاءَ اللهُ. وَكُلّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا ؛ يُكْتَبُ لَهُ مِثْلُهَا إلَى أنْ يَلْقَى الله تَعَالَى "
وعن خُرَيْمِ بنِ فَاتِكٍ قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " الأَعْمَالُ سِتَّةٌ : مُوجِبَتَانِ ؛ وَمِثْلٌ بِمثْلٍ ؛ وَحَسَنَّةٌ بحَسَنَةٍ ؛ وَحَسَنَةٌ بعْشَرٍ ؛ وَحَسَنَّةٌ بسَبْعِمِائَةٍ. فَأَمَّا الْمُوجِبَتَانِ ؛ فَهُوَ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنَّةَ ، ومَنْ مَاتَ وَهُوَ مُشْرِكٌ باللهِ دَخَلَ النَّارَ. وَأمَّا مِثْلٌ بمِثْلٍ ؛ فَمَنْ عِمِلَ سَيِّئَةً ؛ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ بمِثْلِهَا. وَأمَّا حَسَنَةٌ بحَسَنَةٍ ؛ فَمَنْ هَمَّ بحَسَنَةٍ حَتَّى يُشْعِرَ بهَا نَفْسَهُ وَيَعْلَمُهَا اللهُ مِنْ قَلْبهِ ؛ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ. وَأمَّا حَسَنَةٌ بعَشْرٍ ؛ فَمَنْ عَمِلَ حَسَنَةً فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا. وَأمَّا حَسَنَةٌ بسَبْعِمِائَةٍ ؛ فَالنَّفَقَةُ فِي سَبيْلِ اللهِ "
(0/0)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؛ أي قل لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّنِي وَفَّقَنِي ربي وأرشدَنِي إلى دين الحقِّ الذي أدعُو الْخَلْقَ إليه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { دِيناً قِيَماً } ؛ أي دِيْناً هو غايةٌ في الاستقامة.
قرأ أهلُ الكوفةِ والشَّام : (قِيَماً) بكسرِ القاف وفتحِ الياء مخفَّفاً ؛ فمعناهُ : المصدرُ ؛ كالصِّغَرِ والكِبَرِ ، ولم يقلْ : قَوْماً ؛ لأنه مِن قولك : قَامَ يَقُومُ قِيَاماً وقِيَماً. وقرأ الباقونَ بالتشديد. وتصديقُ التشديدِ : { ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ }[التوبة : 36]{ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ }[البينة : 5]. والقيِّمُ : الْمُسْتَقِيْمُ. واختلفَ النُّحَاةُ في نصبهِ ؛ فقال الأخفشُ : (هَدَانِي دِيْناً قَيِّماً). وَقِيْلَ : عرَّفَني ديناً. وَقِيْلَ : أعْنِي ديناً. وَقِيْلَ : انتصَبَ على الإغرءِ ؛ أي الْتَزِمُوا ديناً واتَّبعوا ديناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } ؛ أي دينَ إبراهيم ؛ وهو بدلٌ من قوله (دِيْناً). وقولهُ (حَنِيْفاً) أي مَائلاً عن الشِّركِ وجميع الأديانِ الباطلة مَيْلاً لا رجوعَ فيه ، وهو نَصْبٌ على الحال ؛ كأنه قال : عَرَّفَنِي دينَ إبراهيم في حالِ حَنِيْفِيَّتِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، أي ما كانَ إبراهيمُ عليه السلام على دينِ المشركين. إنَّما أضافَ هذا الدينَ إلى إبراهيم ؛ لأن إبراهيمَ كان مُعَظََّماً في عُيُونِ العرب ، وفي قلوب سائرِ أهل الأديَان ؛ إذ أهلُ كلِّ دينٍ يزعمون أنَّهم يُبَجِّلُونَ دينَ إبراهيم عليه السلام.
(0/0)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ : إنَّ صلاتِي بعدَ الصَّلواتِ الخمسِ المفروضة ، { وَنُسُكِي } أي طَاعَتِي ، وأصلُ النُّسُكِ : كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بهِ إلَى اللهِ تَعَالَى ، ومنه قولُهم لِلْعَابدِ : نَاسِكٌ. وقال ابنُ جبير : (مَعْنَاهُ : { وَنُسُكِي } فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ للهِ رَب الْعَالِميْنَ). ويقالُ : أراد بالصلاةِ صلاةَ العِيْدِ ، وبالنُّسْكِ الأضْحِيَةَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي وَحَيَاتِي ومَوتِي للهِ رب الخلائقِ كلِّهم. وإنَّما أضافَ الْمَحْيَا والْمَمَاتَ إلى الله وإن لم يكن ذلكَ مِمَّا يُتقَرَّبُ به إليهِ ؛ لأن الغرضَ بالآية التَّبَرُّئَ إلى اللهِ تعالى من كلِّ حَوْلٍ وقُوَّةٍ والإقرارَ له بالعبوديَّة. وَقِيْلَ : المرادُ بذلك أنَّ الله تعالى هو الْمُخْتَصُّ بأن يُحْييهِ ويُميتَهُ ؛ لا شريكَ له في ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذالِكَ أُمِرْتُ } ؛ أي أمَرَنِي بذلك ، { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } ؛ أي أوَّلُ مَنِ استقامَ على الإيْمان من أهلِ هذا الزمان. قرأ أهلُ المدينة : (وَمَحْيَايْ) بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحِها كَيْلاً يجتمعَ سَاكِنَانِ. وقرأ السلميُّ : (وَنُسْكِي) بإسكانِ السِّين.
وعن أنس رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ؛ " أنَّهُ قَرَّبَ كَبْشاً أمْلَحَ أقْرَنَ ؛ فَقَالَ : " لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ إنَّ صَلاَتِي وَنُسْكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَب الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ " الآيةُ ، ثمَّ ذَبَحَ فَقَالَ : " شَعْرُهُ وَصُوفُهُ فِدَاءٌ لِشَعْرِي مِنَ النَّار ، وَجِلْدُهُ فِدَاءٌ لِِجِلْدِي مِنَ النَّارِ ، وَعُرُوقُهُ فِدَاءٌ لِعُرُوقِي مِنَ النَّار " فَقَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ ؛ هَنِيْئاً مَرِيْئاً ؛ هَذا لَكَ خَاصَّةً ؟ فَقَالَ : " لاَ ؛ بَلْ لأُمَّتِي عَامَّةً إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، أخْبَرَنِي بذلِكَ جِبْرِيلُ عليه السلام عَنْ رَبِي عَزَّ وَجَلَّ " ".
(0/0)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } ؛ أي قُلْ يا مُحَمَّد : أغَيْرَ اللهِ أطْلُبُ إلَهاً لِي ولكم { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } أي هو مَالِِكِي ومالِكُكم ومالكُ كلِّ شيء ؛ فكيف أطلبُ النفعَ من مَرْبُوبٍ مثلي ومثلكُم ، وأدَعُ سؤالَ ربي يَملكني ويَمْلككم ؛ فهل يجوزُ هذا ؟ وهل يحسنُ هذا ؟ لا بُدَّ أن يكون جوابهُ : لاَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } ؛ أي لا تعملُ كلُّ نفسٍ طاعةً ولا معصيةً إلاَّ عَلَيْهَا. قال أهلُ الإِشارةِ : ولا تكسبُ كلُّ نفسٍ من خيرٍ أو شَرٍّ إلاَّ عليها ، أما الشَّرُّ فهو مأخوذٌ به ، وأمَّا الخيرُ فهو مطلوبٌ منه صِحَّةٌ قصدهِ. وخُلُوِّهِ من الرِّياءِ والعُجْب والافتخار به.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ؛ أي ما تحملُ حاملةٌ ثُقْلَ أخرى ، والمعنى : لا يحملُ أحداً ذنبَ غيرهِ ، بل كلُّ نفسٍ مأخوذةٌ بجُرْمِهَا وعقوبةِ إثْمِهَا. والوِزْرُ في اللغة : هُوَ الثِّقْلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } ، أي مصيرُكم ومُنْقَلَبُكُمْ ، { فَيُنَبِّئُكُمْ } ، أي فيجزِيكم ؛ { بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ؛ في دار الدُّنيا.
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ } ؛ أي جعلكم يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ خَلَفاً في الأرض ، والْخَلاَئِفُ : جمعُ الْخَلِيْفَةِ ، وكلُّ قَرْنٍ خَلِيْفَةٌ للقرنِ الذين كانوا قبلَهم في الأرضِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } ؛ أي فَضَّلَ بعضَكم في المالِ والمعاشِ والجَاهِ ؛ تقديرهُ : إلى دَرَجَاتٍ ، ثم حُذفَ (إلى) وانتصبَ (دَرَجَاتٍ). ويقالُ : إنَّ الدرجاتِ مفعولٌ عن تقدير : وَرَفَعَكُمْ درجاتٍ ، كما يقال : كَسَوْتُ فلاناً ثوباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } ؛ أي لِيَخْتَبرَكُمْ فيما أعطاكُم ؛ يختبرُ الغنِيُّ بالفقيرِ ؛ والفقيرَ بالغنيِّ ، فيظهرُ للناس شُكْرُ الشاكرين وصَبْرُ الصابرين. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي إذا عَاقَبَ فإنهُ سريعُ العقاب مع أنه مَوْصُوفُ بالْحُلْمِ والإمهالِ ؛ لأنَّ كلَّ ما هو آتٍ قريبٌ. وَقِيْلَ : أراد بقوله : { سَرِيعُ الْعِقَابِ } سريعَ الحساب. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ } أي غَفُورٌ لِمن تاب من الذنوب ، { رَّحِيمٌ } بمن ماتَ على التوبة. وقال عطاءُ : (سَرِيْعُ الْعِقَاب لأَعْدَائِهِ ، غَفُورٌ رَحِيْمٌ لأَوْلِيَائِهِ). واللهُ أعلمُ.
(0/0)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } ؛ قال ابنُ عَبَّاس : في قوله : { المص } : (مَعْنَاهُ : أنَا اللهُ أعْلَمُ وأَفصِّلُ). وَقِيٍْلَ : اللاَّمُ افتتاح اسْمهِ : لَطِيْفٌ ؛ والميمُ افتتاح اسْمِهِ : مَجِيْدٌ وَمَالِكٌ ؛ والصادُ افتتاح اسْمِه : صَمَدٌ وصَادِقُ الوَعْدِ وصَانِعُ الْمَصْنُوعَاتِ.
وَقِيْلَ : هي حرفُ اسمِ الله الأعظم. وَقِيْلَ : هي حروفٌ تحوي معانٍ كثيرة. وموضعهُ رَفْعٌ بالابتداء ، و { كِتَابٌ } خبرُه ؛ كأنه قالَ : المص حروفُ كتابٍ أُنزِلَ إلَيْكَ. وَقِيْلَ : { كِتَابٌ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ ؛ أي هَذا كتابٌ. وَقِيْلُ : رُفِعَ على التقديم والتأخير ؛ يعني : أُنزِلَ إلَيْكَ كِتَابٌ ؛ وهو القُرْآنُ.
قَوْلُهُ : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أي فلا يَقَعْ في نفسِكَ شَكٍّ منه ؛ خاطبَ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم وعنَى به الْخَلْقَ كلَّهم ؛ أي لا تَرْتَابُوا وتَشُكُّوا. ويقال : الْحَرَجُ : الضِّيقُ ؛ أي لا يَضِيْقُ صدرُكَ من تأديَة ما أُرْسِلْتَ به ، ولا تَخَافَنَّ من إبلاغِ الرِّسالة ، فإنكَ في أمَانِ اللهِ ؛ واللهُ يعصِمُكَ من الناسِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِتُنذِرَ } أي أُنْزِلَ إليكَ لِتُخَوِّفَ { بِهِ } بالقُرْآنِ أهلَ مكة. { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي وليكونَ عِظَةَّ لِمن اتَّبَعَكَ.
(0/0)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ؛ أي اعملوا بمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبكُمْ. وحقيقةُ اتِّبَاعِ القُرْآنِ تصرفُ الناسِ تصريفَ القُرْآن لَهم وتدبُّرهم بتدبيرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي لا تَتَّخِذُوا من دونهِ أوْثاناً ، ولا تَتَوَلَّوا أحداً إلا لِوَجْهِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ، أي قليلاً ما تَتَّعِظُونَ.
(0/0)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } أي وكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أهْلَكْنَا أهلَها بأنواعِ العذاب فَجَاءَهَا بَأْسُنَا لَيْلاً. وسَمَّى الليلَ بَيَاتاً ؛ لأنه بَيَاتٌ فيه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } أي وقتَ الظَّهيرةِ ؛ يعني نَهَاراً في وقتُ القَائِلَةِ. و { قَآئِلُونَ } : نَائِمُونَ وقتَ الْهَاجِرَةِ.
وإنَّما خصَّ هذين الوقتين بنُزولِ العذاب ؛ لأنَّهما من أوقاتِ الرَّاحة. وَقِيْلَ : من أوقاتِ الغَفْلَةِ. ومجيءُ العذاب في حالِ الراحة أغلظُ وأشدُّ ؛ أهلكَ اللهُ قوم شُعَيْبٍ في نِصْفِ النهار ، وفي حَرٍّ شديدٍ وهم قَائِلُونَ. وفائدةُ هذه الآية : التهديدُ والوعيد على معنى : إنْ لَمْ تَتَّعِظُوا أتَاكُمُ العذابُ ليلاً أو نَهَاراً كما أتَى الأوَّلين الذين لم يَتَّعِظُوا.
ثم أخبَرَ جَلَّ ذِكْرُهُ عن حال مَن أتاهم العذابُ فقال عَزَّ وَجَلَّ : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ؛ معناهُ : لم يكن قولُهم ودعاؤُهم حين جاءَهم عذابُنا إلا الاعترافَ بالظلم والشِّركِ ؛ أي اعْتَبرُوا بهم ؛ فكما لم ينفعهُم تضرُّعهم عند رؤيةِ البَأْسِ ؛ كذلك لا ينفعُكم إذا جاءكم العذابُ تضرُّعُكم.
قال سِيْبَوَيْهِ : (إنَّ الدَّعْوَى تَصْلُحُ فِي مَعْنَى الدُّعَاءِ ، وَيَجُوزُ أنْ يُقَالَ : اللَّهُمَّ أشْرِكْنَا فِي صَالِحِ دَعْوَى الْمُسْلِمِيْنَ وَدُعَاءِ الْمُسْلمِينَ). فإن قِيْلَ : إنَّ الهلاكَ يكون بعد البأسِ ؛ فكيفَ قال : { أَهْلَكْنَاهُمْ }[الكهف : 59]{ أَهْلَكْنَاهَآ }[الأنبياء : 6] { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا } ؟ قِيْلَ : إنَّهما يَقَعَانِ معاً كما يقالُ : أعطيتَني فأحسنتَ. ويجوزُ أن يكون التقديرُ : أهْلَكْنَاهَا في حُكْمِنَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا.
(0/0)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } إخبار عن حالهم يوم القيامة. ودخول الفاء أوِّلَ في هذه الآية لتقريب ما بين الْهَلاك وسؤال يوم القيامة. والمعنى : فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ : هل بلَّغَتكُم الرسلُ الرسالَةَ ؟ وماذا أجبتُموهم ؟ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ : هل بَلَّغْتُمْ قَومَكم ما أُرسلتُم به ؟ وماذا أجابُوكم؟
(0/0)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } ؛ أي لَنَجْزِيَنَّهُمْ بما عملوا بعِلْمٍ منَّا ؛ معناهُ : إنَّا لَنَسْأَلُهُمْ لِنَعْلَمَ أنَّ ما نسألُهم لإقامةِ الحجَّة عليهم. قَوْلُهُ : { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } معناهُ : إنَّا كُنَّا عالِمين بكلِّ شيءٍ من تبليغِ الرِّسالةِ وجواب الأُمَمِ.
(0/0)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ } ؛ أي وَزْنُ الأعمالِ يومَ القيامة الحقُّ ؛ لا يُنْقَصُ من إحسان مُحْسِنٍ ؛ ولا يُزَادُ على إساءَةِ مُسِيْءٍ. وقال مجاهدُ : (مَعْنَاهُ : وَالْقَضَاءُ يَوْمَئِذٍ الْعَدْلُ).
قولهُ : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ؛ أي مَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيِّئاتِه فأولئكَ همُ الظَّافِرُون بالمرادِ ، { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ على حسناتهِ ، { فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُم } عَمَواْ حَظَّ أنفسِهم ، { بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ } ؛ أي بما كانوا بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَجْحَدُونَ. فَالْخُسْرَانُ : ذهَابُ رَأسِ الْمَالِ ؛ ورأسُ مالِ الإنسان نفسُه ؛ فإذا هَلَكَ بسوءِ عمله فقد خَسِرَ نفسَه.
وقد تكلَّموا في ذِكْرِ الموازينِ يومَ القيامة ؛ قال ابنُ عبَّاس : (تُوزَنُ الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ فِي مِيْزَانٍ لَهُ لِسَانٌ وَكَفَّتَان تُوضَعُ فِيْهِ أعْمَالُهُمْ ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنَ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ ؛ فَتَثْقُلُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ ؛ فَيُوضَعُ عَمَلُهُ فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ مَنَازِلهِ ؛ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إلْحَقْ بعَمَلِكَ ؛ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَعْرِفُهَا بَعمَلِه.
وَأمَّا الْكَافِرُ ؛ فَيُؤْتَى بعَمَلِهِ فِي أقْبَحِ صُورَةٍ ؛ فَيُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيْزَانِ ؛ فَيَخِفُّ - وَالْبَاطِلُ خَفِيْفٌ - ثُمَّ يُرْفَعُ فَيُوضَعُ فِي النَّارِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إلْحَقْ بَعَمِلكَ ؛ فَيَلْحَقُ فَيَأْتِي مَنَازِلَهُ فِي النَّار).
وَقِيْلَ : إنَّ المرادَ بالعملِ في هذا الخبرِ أنَّ الله يجعلُ للحسناتِ صورةً حسَنةً ؛ وللسيِّئاتِ صورةً قبيحةً ، إلاَّ أن عَيْنَ الأعمالِ تُوزَنُ ؛ لأنَّ الأعمال أعراضٌ مُنْقَضِيَةٌ لا تُعَادُ. وقال ابنُ عمر : (يُؤْتَى بصُحُفِ الطَّاعَاتِ وَصُحُفِ الْمَعَاصِي ، فُتُوزَنُ الصُّحُفْ).
وعن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ : " يُؤْتَى بالْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْمِيْزَانِ ، ثُمَّ يُؤْتَى بتِسْعَةٍ وَتِسْعِيْنَ سِجِلاً ؛ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَدَّ الْبَصَرِ ؛ فِيْهَا خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ ؛ فَتُوضَعُ فِي كَفَّةِ الْمِيزَانِ ، ثُمَّ تُخْرَجُ بطَاقَةً مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ بمِقْدَار أنْمُلَةٍ ؛ فِيْهَا شَهَادَةُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ فَتُوضَعُ فِي الْكَفَّةِ الأُخْرَى. فَيَقُولُ الْعَبْدُ : يا رَب ؛ مَا تَزِنُ هَذِهِ الْبطَاقَةُ مَعَ هَذِه الصَّحَائِفِ؟! فَيَأْمُرُ اللهُ أنْ تُوضَعَ ؛ فإذا وُضِعَتْ فِي الْكَفَّةِ طَاشَتِ الصُّحُفُ وَرَجَحَتِ الْبطَاقَةُ "
وقول بعضُهم : يُوزَنُ الإنسانُ ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " يُؤْتَى بالرَّجُلِ الأَكُولِ الشَّرُوب الْعَظِيْمِ فَيُوزَنُ ؛ فَلاَ يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ؛ إقْرَأوا إنْ شِئْتُمْ : { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } " [الكهف : 105].
وأما ذِكْرُ الموازينِ بلفظ الجماعة ؛ فلأنَّ الميزانَ يشتملُ على الكفَّتين والخيوطِ والشاهدين. فإن قِيْلَ : ما الحكمةُ في وزنِ الأعمال ، واللهُ قادرٌ عالِمٌ بمقدار كلِّ شيء قبلَ خَلْقِهِ إيَّاهُ وبعدَه ؟ قِيْلَ : لإقامةِ الحجَّة عليهم ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[الجاثية : 29] فأخبرَ بنسخِ الأعمال وإثباتِها مع عِلْمِهِ بها لِما ذكرنا. وَقِيْلَ : الحكمةُ فيه تعريفِ الله العبادَ ما لَهم عندهُ من جزاءٍ على الخير والشرِّ. وَقِيْلَ : جعلهُ الله علامةً للسعادة والشقاوَةِ. وَقِيْلَ : لامتحانِ الله عبادَهُ بالإيْمان به في الدُّنيا.
(0/0)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } ؛ أي مَكَّنَّاكُمْ بالتمليكِ والإِقرار ودفع الموانع ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِي الأرضِ مَعَايشَ ؛ وهو ما تَعِيْشُونَ به من الرِّزْقِ ؛ وهو ما يخرجُ من الأرضِ من الحبُوب والأشجار والثَّمار. وَقٍيْلَ : معنى (الْمَعَايشَ) : التواصل إلى ما يُعَاشُ به مِن الحراثة والتجارة ، وأنواعِ الْحِرَفِ والزراعات. قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ؛ أي شُكْرُكُمْ فيما صُنِعَ إليكم قليلٌ. وَقِيْلَ : معنى قوله : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } أي تَعِيشُونَ بها أيَّامَ حياتِك من الْمَآكِلِ والمشارب.
(0/0)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } ؛ أي خَلَقْنَا آدمَ الذي هو أصلُ خِلْقَتِكُمْ ، ثم صوَّرناهُ إنساناً ، { ثُمَّ قُلْنَا } ؛ من بعدِ خَلْقِهِ من الترابٍ وتصويرهِ ؛ { لِلْمَلائِكَةِ } ؛ الذين كانوا في الأرضِ مع إبليسَ : { اسْجُدُواْ لأَدَمَ } ؛ سجدةَ تَحِيَّةٍ ؛ { فَسَجَدُواْ } ؛ المأمورونَ ؛ { إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ } ؛ لآدمَ.
وَقِيْلَ : معنى الآيةِ : ولقد خلقناكُم في بطونِ أُمَّهاتِكم نُطَفاً ؛ ثم علقاً ؛ ثم مُضَغاً ؛ ثم عِظَاماً ؛ ثم لَحْماً ، ثم صوَّرناكُم : الحسَنَ والذميمَ ؛ والطويلَ والقصيرَ ، وصوَّرنا لكُم عُضْواً من العينِ والأنْفِ والأُذُنِ واليَدِ والرِّجْلِ وأشباهِ ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ } قال الأخفشُ : ((ثُمَّ) هَا هُنَا فِي مَعْنَى الْوَاوِ) أيْ وقُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ الآنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى للملائكةِ : { اسْجُدُواْ لأَدَمَ } قَبْلَ خَلْقِنَا وَتَصْوِيْرِنَا.
وأنكرَ الخليلُ وسيبويه أن تكونَ (ثُمَّ) بمعنى (الواو) ، ولكن تكونُ للتراخِي. ويجوزُ أن يكونَ معنى (ثُمَّ) ها هنا التَّراخِي من حيثُ الإخبارُ دون تَرَادُفِ الحالِ.
(0/0)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } ؛ ليسَ هذا الجوابُ عمَّا سَألَهُ تعالى من جهةِ اللفظ ؛ لأن هذا الجوابَ جوابُ : أيُّكما خَيْرٌ ؟ إلاَّ أن هذا جوابٌ من جهةِ المعنى ، فإن معناهُ : إنَّما مَنَعَنِي من السجودِ إلا أنِّي كنتُ أفضلَ منه.
وكان هذا القولُ من اللَّعِيْنِ تَجْهِيْلاً منهُ بخَالِقِهِ ؛ كأن قال : إنَّكَ فضَّلْتَ الظُّلْمَةَ على النُّور وليسَ ذلكَ من الحكمةِ. فأعلَمَ اللهُ تعالى أنهُ صَاغِرٌ بهذا القولِ ، وليس الأمرُ على ما قاله الْمَلْعُونُ ؛ لأنهُ رأى أنَّ جوهرَ النار أفضلُ من جوهرِ الطِّينِ في المنفعةِ ، وليس كذلكَ لأن عَامَّة الثِّمَار والحبوب والفواكه من الطِّينِ ، وكذلك الملابسُ كلُّها لا تخرجُ إلا من الطِّين ، وعمارةُ الأرضِ من الطين ، وهو موضعُ القَرَار عليهِ لا استغناءَ عنهُ في حالٍ من الأحوال. وأما النَّارُ فهي لِلْخَرَاب ، وإنْ كان فيها بعضُ المنافعِ.
وقال ابنُ عبَّاس : (أوَّلُ مَنْ قَاسَ فَأْخْطَأَ الْقِيَاسَ إبْلِيْسُ لَعَنَهُ اللهُ ، فَمَنْ قَاسَ الدِّيْنَ بتَبَعٍ مِنْ رَأيهِ قَرَنَهُ اللهُ مَعَ إبْلِيْسَ). وكان قياسُ إبليسَ أنه قال : النارُ خيرٌ وأفضلُ وأصفَى وأنورَ من الطِّين. وقال ابنُ سيرينَ : (أوَّلُ مَنْ قَاسَ إبْلِيْسُ ، وَمَا عُبدتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ إلاَّ بالْمَقَاييْسِ).
وَقَدْ أخْطَأَ عَدُوٌّ اللهِ حِيْنَ فَضَّلَ النَّارَ عَلَى الطِّيْنِ ، بَلِ الطِّيْنُ أفْضَلُ مِنَ النَّارِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ؛ أحْسَنُهَا : إنَّ جَوْهَرَ الطِّيْنَ السُّكُونُ وَالْوَقَارُ وَالْحَيَاءُ وَالصَّبْرُ وَالْحُلْمُ ، وَذلِكَ هُوَ الدَّاعِي لآدَمَ بَعْدَ السَّعَادَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إلَى التَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ ، فأَوْرَثَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالاجْتِبَاءَ والْهِدَايَةَ وَالتَّوْبَةَ. وَمِنْ جَوْهَرِ النَّار الْخِفَّةُ والطَّيْشُ وَالحِدَّةُ وَالارْتِفَاعُ وَالا ضْطِرَابُ ، وَذلِكَ هُوَ الدَّاعِي لإِبْلِيْسَ بَعْدَ الشَّقَاوَةِ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ إلَى الاسْتِكْبَار وَالإصْرَار ، فأَوْرَثَهُ الْعَذابَ وَالْهَلاَكَ وَاللَّعْنَةَ وَالشَّقَاءَ.
وَالثَّانِي : أنَّ الطِّينَ سَبَبٌ لِجَمْعِ الأَشْيَاءِ ، وَالنَّارُ سَبَبٌ لِتَفَرُّقِهَا. وَالثَّالِثُ : أنَّ الْخَبَرَ نَاطِقٌ بَأَنَّ تُرَابَ الْجَنَّةِ مِسْكٌ أذفَرُ ، وَلَمْ يَنْطِقِ الْخَبَرُ أنَّ فِي الجَنَّةِ نَاراً وَفِي النَّار تراباً. وَالرَّابعُ : أنَّ النَّارَ سَبَبُ عَذاب الله تَعَالَى لأَعْدَائِهِ ، وَلَيْسَ التُّرَابُ لِلْعَذاب. وَالْخَامِسُ : أنَّ التُّرَابَ مُسْتَغْنٍ عَنِ النَّارِ ، وَالنَّارُ تَخْرُجُ إلَى الْمَكَانِ وَمَكَانُهَا التُّرَابُ).
(0/0)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا } ؛ أي من الجنَّةِ. وَقِيْلَ : من السَّماءِ إلى الأرضِ ، فإنَّ السَّماءَ ليس بموضعٍ للمتكبرينَ. وَقِيْلَ : معناهُ : فَاهْبطْ من الأرضِ ؛ أي اخْرُجْ منها وَالْحَقْ بَجَزَائِرِ البحار ، فإنَّما تسلط بهِ في الجزائرِ فلا تدخلُ الأرضَ إلا كهيئةِ السَّارقِ عليه أطمار يروعُ فيها ، حتى يخرجَ من الأرضِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا } ؛ أي ليسَ لكَ أن تَتَعَظَّمَ في الأرضِ على بَنِي آدمَ ، { فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } ؛ أي مِن الأذِلاَّءِ. والصَّّغَارُ هُوَ الذُّلُّ.
(0/0)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } ؛ أي قال إبليسُ حين خَشِيَ أن يُعَاجِلَهُ اللهُ بالعقوبة : أمْهِلْنِي وأخِّرْ جزائي إلى يومِ يُبْعَثُونَ مِن قبورهم ؛ وهيَ النفخَةُ الأخيرةُ عندَ قيامِ السَّاعةِ. أرادَ الخبيثُ أن لا يذوقَ الموتَ. { قَالَ } ؛ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } ؛ أي المؤخَّرين المؤجَّلين إلى يومِ الوقت المعلوم ؛ وهي النفخةُ الأُولى عند موتِ الْخَلْقِ كلِّهم.
وهذا ليسَ بإجابةٍ إلى ما سأَلَ ؛ لأنه سَأَلَ اللهَ الإمهالَ إلى النفخةِ الثانية ، فأبَى اللهُ أن يُعْطِيَهُ ذلكَ ، { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ }[الحجر : 37-38] يعني إلى النفخةِ الأُولى يَموتُ حينئذٍ أهلُ السَّمواتِ والأَرضِ ، ويَموتُ إبليسُ معهم. وبين النفخةِ الأُولى والثانيةِ أربعينَ سنةً.
واختلفُوا في أنَّ اللهَ تعالى هل يُجِيْبُ دعوةَ الكافرِ أم لا ؟ قال بعضُهم : لا يجيبُ ؛ لأنَّ إجابةَ الدُّعَاءِ تكون تَعْظِيماً للدَّاعِي ؛ ولِهذا يرجُو الإنسانُ أنه مُجَابُ الدَّعوةِ ، ولا يُحْسَنُ مِن اللهِ تعالى أن يُعْلِمَ أحداً مدَّةَ حياتهِ لِمَا في ذلك من الإغراءِ بالمعَاصِي. كيفَ يجوزُ ، يُجِيْبَ اللهُ تعالى إبليسَ إلى مَا سألَ ، ولم يكن سُؤَالُهُ على جهةِ التَّضَرُّعِ والْخُشُوعِ والرَّغبةِ إلى اللهِ ، وإنَّما سألَ لِيُغْوِي الناسَ ويُضِلَّهُمْ. وقال بعضُهم : يجوزُ إجابةُ دعاءِ الكافر استدراجاً واسْتِضْلاَلاً لهُ ولغيرهِ ، ولا تكونُ إجابةُ الكافرِ تعظيماً له بحَالٍ أبَداً.
(0/0)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَِى : { قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي } ؛ أي فَبمَا أضْلَلْْتَنِي عنِ الْهُدَى ، { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } ؛ أي لأَرْصُدَنَّ علَى طريقِ بَنِي آدمَ ، وأصُدَّهُمْ عن دِيْنِكَ المستقيم. وقال الحسنُ : (مَعْنَى : (أغْوَيْتَنِي) لَعَنْتَنِي). وَقِيْلَ : (أغْوَيْتَنِي) خَيَّبْتَنِي ، وقد يكونُ الغِوَى بمعنى الْخَيْبَةِ. وَقِيْلَ : (أغْوَيْتَنِي) أي أهْلَكتَنِي.
(0/0)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : أنَّ إبْلِيْسَ قَالَ : لآتِيَنَّهُمْ مِنْ قِبَلِ آخِرَتِهِمْ ؛ فَلأُخْبرَنَّهُمْ أنَّهُ لاَ جَنَّةَ وَلاَ نَارَ ، وَلاَ بَعْثَ وَلاَ حِسَابَ). { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } ؛ أي مِنْ قِبَلِ دُنياهم ؛ فَلآمُرَنَّهُمْ بجَمْعِ المالِ مخافةَ الفقرِ وأن لا يؤدوا حقَّهُ ، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } ؛ أي مِنْ قِبَلِ دِينهم فَأُبَيِّنَ لَهم ضَلالَتهُم ، وإنْ كانُوا على هُدًى شَبَّهْتُهُ عليهم حتى أُخرِِجَهم منهُ ، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } ؛ أي مِنْ قِبَلِ اللَّذاتِ والشَّهواتِ فأُزَيِّنُهَا لَهم ، { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ؛ لِنِعْمَتِكَ.
وقال السُّدِّيُّ : (مَعْنَى : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أرَادَ الدُّنْيَا أُغْوِيْهِمْ إلَيْهَا ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } فمِنَ الآخِرَةِ أشَكِّكُهُمْ فِيْهَا وأبعِدُها عَلَيْهِم ، { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } قَالَ : الْحَقُّ أُشَكِّكُهُمْ فِيْهِ ، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } قالَ : الْبَاطِلُ أُخْفِيْهِ عَلَيْهِمْ وأُرَغِّبُهُمْ فِيْهِ).
وَقِيْلَ : أرادَ بقولِه { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من جهةِ الحسنات أغْفَلَهُمْ عنها ، { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } يعني من جهةِ السيِّئات ، فإنَّ الحسناتِ تُضَاف إلى اليمينِ ، والسيِّئاتِ تُضافُ إلى الشمالِ. وَقِيلَ : معنى الايةِ : ثم لأَحْتَالَنَّ في إغوائِهم من كلِّ وجهٍ. قال قتادةُ : (أتَاكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، غَيْرَ أنَّهُ لاَ يَسْتَطِيْعُ أنْ يَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَحْمَةِ رَبكَ ، إنَّمَا تَأْتِيْكَ الرَّحْمَةُ مِنْ فَوْقِكَ).
وقال شقيقُ بنُ إبراهيمَ : (مَا مِنْ صَبَاحٍ إلاَّ قَعَدَ لِي الشَّيْطَانُ عَلَى أرْبَعَةِ مَرَاصِدَ : مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ ، وَمِنْ خَلْفِي ، وَعَنْ يَمِيْنِي ، وَعَنْ شِمَالِي. أمَّا مَا بَيْنَ يَدَيَّ ؛ فيَقُولُ لِي : لاَ تَحْزَنْ فإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيْمٌ ، فَأَقُولُ : ذلِكَ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى.
وَأمَّا مِنْ خَلْفِي ؛ فَيُخَوِّفُنِي الضَّيْعَةَ عَلَى ذُرِّيَّتِي وَمَنْ خَلْفِي ، فَأَقُولُ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللهِ رزْقُهَا. وأمَّا مِنْ قِبَلَ يَمِيْنِي ؛ فَيَأْتِيَنِي مِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ ، فَأَقُولُ : وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. وأمَّا مِنْ قِبَلِ شِمَالِي ؛ فَيَأْتِيَنِي مِنَ اللَّذاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، فأَقُولُ : وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ).
وإنَّما ذكر (مِنْ) في قولهِ : { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } وذكرَ (عَنْ) في قولهِ : { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } لأن القدَّامَ والخلفَ يكونُ لابتداءِ الغاية ، والغايةُ تذكرُ بحرفِ (مِنْ). وأمَّا جهةُ اليمينِ والشمال فإنَّها تكون للانحرافِ ، فذكرَها بـ (عَنْ).
فإن قِيْلَ : مِنْ أينَ عَلِمَ إبليسُ أنه لا يكونُ أكثرُهم شاكرينَ ؛ أي أكْثَرُ الناسِ شاكرينَ ؟ قِيْلَ : إنَّهُ ظَنَّ بهم ظَنّاً ، فوافقَ ظَنُّهُ مَظْنُونَهُ ، كما قالَ : تعالَى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ }[سبأ : 20]. وإنَّما ظَنَّ ذلكَ ؛ لأنه لَمَّا تَمَكَّنَ من اسْتِزْلاَلِ آدمَ وحوَّاء ؛ عَلِمَ أنَّ أولادَهما أضعفُ منهما ، فيكون تَمَكُّنُهُ منهم أكثرُ.
(0/0)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } ؛ أي أُخْرُجْ من الجنَّةِ. وَقِيْلَ : من السَّمَاءِ ، { مَذْءُوماً } أي مَذْؤُماً مَعِيباً ، والذأمُ والذِّيْمُ : شَدَّةُ الْعَيْب ، يقال : ذامَتِ الرَّجُلَ ذوْمَةٌ وَذأْمَةٌ ؛ إذا عِبْتُهُ وَذِمْتُهُ. قولهُ : { مَّدْحُوراً } أي مُبعداً من الخيرِ والرحمة. والدَّحْرُ : الدَّفْعُ على وجهِ الْهَوَانِ وَالذُلِّ.
وقال ابنُ عبَّاسٍ : (مَذْءُومًا) مَمْقُوتاً. وقال مجتهدُ : (مَذْءَومًا) صَاغِراً. وقال أبُو العاليةِ : (مَذْءُومًا) أي مُزْدَراً. وقال عطاءُ : (مَدْءُومًا) أيْ مَلْعُوناً. وقال الكسائيُّ : (الْمَذْمُومُ : الْمَقْبُوحُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ واللاَّمُ في قولهِ : (لَمَنْ) لام القَسَمِ دخَلتْ على لفظِ الشَّرطِ والجزاء بمعنى التأكيدِ والمبالغَةِ ؛ كأنهُ قال تَعَالَى : مَنْ تَبعَكَ لأَُبَالغَِنَّ في تعذيبهِ عذاباً شَديداً ، كذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } أي مِنكَ ومن دُرِّيَّتِكَ ومن كفَّار ذُرِيَّةِ آدمَ عليه السلام.
(0/0)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ } ؛ أي اسْكُنْ أنتَ وزوجَتُكَ الجنَّةَ ؛ لأن الإضافةَ إليه دليلٌ على ذلكَ ، وحذفُ التاءِ أحسنُ ؛ لِما فيه من الإيجاز من غيرِ إخلالٍ بالمعنى. وأمَّّا الجنَّةُ التي أسْكَنَهُمَا اللهُ فيها ؛ فهي جَنَّةُ الْخُلْدِ في أكثرِ أقوال أهلِ العلم ، بخلاف ما يقولهُ بعضُهم : إنَّهَا كَانَتْ بُسْتاناً في السَّماءِ غيرَ جنَّةِ الْخُلْدِ. وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى عَرَّفَ الجنَّةَ بالألفِ واللام على جهةِ التَّشريفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا } ؛ أي مِن أيِّ شيءٍ شِئْتُمَا مُوسِعاً عليكُما ، { وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } ؛ يجوزُ أن يكونَ منصوباً ؛ لأنَّهُ جوابُ النَّهِيِ ، ويجوزُ أن يكون مَجْزُوماً عَطْفاً على النَّهيِ ، ومعناهُ : فتكونا من الضَّارِّيْنَ أنفُسَكما.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } ؛ أي زَيَّنَ لَهم الشيطانُ الأكلَ من الشجرةِ ؛ لِيُظْهِرَ لَهما ما سُتِرَ من عَوْراتِهما. وَالْوَسْوَسَةُ : إلْقَاءُ الْمَعْنَى إلَى النَّفْسِ بصَوْتٍ خَفِيٍّ. والفرقُ بينَ وَسْوَسَ لهُ وَوَسْوَسَ إليهِ : أنَّ معنى وَسْوَسَ لَهُ : أوْهَمَهُ ، ومعنى وَسْوَسَ إليهِ : ألْقَى إلَيْهِ.
وإنَّما سُميت العورةُ سَوْأةً ، لأنه يَسُوءُ الإِنسانَ انكِشَافُها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } قرأ بعضُهم : (مَلِكَيْنِ) بكسرِ اللاَّم ، ومعناهُ : إلاَّ أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ تَعْلَمَانِ الخيرَ والشَرَّ ، وإن لم تكونَا ملَكين تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ لا تَموتان.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } ؛ أي لا تَموتان فَتَفْنَيَانِ أبَداً ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ ياآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ }[طه : 120] أي على شَجَرَةٍ مَن أكلَ منها لَمْ يَمُتْ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى }[طه : 120] أي جديدٌ لا يَفْنَى. وعلى قراءةِ مَنْ قرأ (مَلِكَيْنِ) بكسرِ اللاَّمِ استدلالاً لهُ بقولهِ تعالى : { هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى }[طه : 120].
قِيْلَ : كيفَ أوهَمَهُما أنَّهما إذا أكَلاَ من تلكَ الشجرةِ تغيَّرت صورتُهما إلى صورةِ الْمَلَكِ ، أو يزدادُ في حياتِهما ؟ قِيْلَ : أوْهَمَهُمَا أنَّ من حكمةِ الله أن مَن أكَلَ منها صارَ مَلَكاً أو ليزيدَ حياتَهُ. وقِيْلَ : إنَّهُ لم يُطْمِعْهُمَا في أن تصيرَ صورتُهما كصورةِ الْمَلَكِ ، وإنَّما أطْمَعْهُمَا في أن تصيرَ مَنْزِلَتُهُمَا مَنْزِلَةَ الْمَلَكِ في العُلُوِّ والرِّفْعَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } ؛ أي حَلَفَ لَهُمَا إنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فيما أقولُ. وإنَّما قال : { وَقَاسَمَهُمَآ } على لفظ المُفَاعَلَةِ ؛ لأنهُ قَابَلَهُمَا بالحلفِ ، وهذا كما يقالُ : عَاقَبْتُ اللِّصَّ ؛ ونَاوَلْتُ الرَّجُلَ.
قال قتادةُ : (حَلَفَ لَهُمَا حَتَّى خَدَعَهُمَا ، وَقَدْ يُخْدَعُ الْمُؤْمِنُ باللهِ تَعَالَى ، وَقَالَ لَهُمَا : إنِّي خُلِقْتُ قَبْلَكُمَا ، وَأَنَا أعْلَمُ مِنْكُمَا ، فَاتَّبعَانِي أُرْشِدْكُمَا). وكان بعضُ العلماءِ يقولُ : (مَنْ خَادَعَنَا باللهِ خَدَعَنَا). وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم :
(0/0)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَابَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً } ؛ أي أنْزَلَ اللهُ المطرَ مِن السَّمَاءِ فكانتِ الْكِسْوَةُ منهُ ، يعني أنَّ لِبَاسَهُمْ من نباتِ الأرض من القُطْنُ والكِتَّانِ. وهو ماءُ السَّماء ، وما يكونُ من الكسوةِ من أصوافِ الأغنام ، فَقِوَامُ الأنعام أيضَاً من نباتِ ماء السَّماء ، كذا قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (وقوله : { يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ } قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرِيشاً } يَعْنِي مَالاً) هكذا قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ والضحَّاك والسُّدِّيُّ.
ويقالُ : تَرَيَّشَ الرَّجُلُ ؛ إذ تَمَوَّل. وقال ابنُ زيدٍ : (الرِّيْشُ : الْجَمَالُ). وقرأ عثمانُ بنُ عفَّانٍ والحسنُ وقتادة : (وَريَاشاَ) بالألفِ وهو جَمْعُ ريْشٍ ، مثلُ ذئبٍ وذِئَابٍ. وقال الأخفشُ : (الرِّيَاشُ : الْخِصْبُ وَالْمَعَاشُ). وَقِيْلَ : معنى الرِّيْشِ : ما يُتَأَنَّثُ بهِ في البيتِ من متاعهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ؛ قال قتادةُ والسُّدِّيُّ : (هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ) ، { ذلِكَ خَيْرٌ } ؛ لأنَّهُ يَقِي مِن العذاب والعقاب ، كأنَّهُ قالَ : لِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ من الثياب ؛ لأنَّ الفاجرَ وإنْ كان حَسَنَ الثياب فهو بَادِي العورةِ. قال الشاعرُ : إنِّي كَأَنِّي أَرَى مَنْ لاَ حَيَاءَ لَهُ وَلاَ أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ عُرْيَانَاوقال ابنُ جُريجٍ : (لِبَاسُ التَّقْوَى هُوَ الإيْمَانُ). وقال مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ : (هَوَ الْحَيَاءُ). وَقِيْلَ : هو السَّمْتُ الْحَسَنُ بالوجهِ. وقال وهب : (الإيْمَانُ عَرْيَانٌ ؛ وَلِبَاسُهُ التَّقْوَى ؛ وَرْيشُهُ الْحَيَاءُ ؛ وَمَالُهُ الْفِقْهُ ؛ وَثَمَرَتُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ). وَقِيْلُ : لباسُ التقوَى ما يُلْبَسُ من الثِّياب للتَّضَرُّعِ والتَّخَشُّعِ مثلَ الصُّوفِ والثِّياب الْخَشِنَةِ ، وهو خيرٌ من لباسِ الْكِبْرِ.
قرأ أهلُ المدينةِ والشَّام والكسائيُّ : (وَلِبَاسَ) بالنصب عطفاً على قوله : (لِبَاساً). وقرأ الباقون بالرَّفعِ على الابتداءِ ؛ وخبَرهُ (خَيْرٌ). وجعلوا (ذلِكَ) صِلَةً في الكلامِ ، ولذلك قرأ ابنُ مسعود وأُبَىُّ بنُ كعبٍ : (وَلِبَاسُ التَّقْوَى خَيْرٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } ؛ معناه : أنَّ إنزالَ اللِّباسِ من دلائلِ الله على إثباتِ وحدانيَّتهِ ونِعَمِهِ ، { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ، أي لكي يَتَّعَظُونَ فيعرفُوا أنَّ ذلك كلُّهُ مِن اللهِ تعالَى.
(0/0)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ } ؛ أي لا يَضُرَّنَّكُمْ الشيطانُ بالدعاءِ إلى الغَيِّ والمعصيةِ كما اسْتَزَلَّ أبَوَيْكُمْ آدمَ وحوَّاءَ من الجنَّةِ { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } ، فَتَسَبَّبَ في نَزْعِ لباسهما لِحملهما على المعصيةِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ } ؛ أي لِيُظْهِرَ لَهما عوارتِهما أنَّ ذلك يُغِيْظُهُمَا ، وإنَّما أضافَ الإخراجَ من الجنَّةِ إلى الشيطانِ ؛ لأن ذلكَ كان بوَسْوَسَتِهِ وإغوائِه.
واختلفُوا في لباسِهما في الجنَّةِ ؛ فقال بعضُهم : كان مِن لِبَاسِ الْجَنَّةِ ، عن ابنِ عبَّاس : (أنَّ لِبَاسَهُمَا كَانَ مِنْ الظُّفُرِ ؛ أيْ كَانَ يُشْبهُ الظُّفْرَ ، فَإنَّهُ كَانَ مَخْلُوقاً عَلَيْهِمَا خِلْقَةَ الظُّفُرِ). وقال وهبٌ : (كَانَ لِبَاسُهُمَا مِنَ النُّور). ومعنى قولهِ : { لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ } أي كونُوا على حَذرٍ من ذلكَ ، فإنه عَدُوٌّ لكم. وهذا اللفظُ أبلغُ من أنْ تقولَ : لا تَقْبَلُوا فتنة الشيطانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } ؛ أي إنَّ الشيطانَ وَنَسْلَهُ يَرَوْنَكُمْ وأنتم لا ترونَهم ، وإنَّما قالَ هكذا ؛ لأنَّا إذا لَمْ نَرَاهُمْ لم نعرِفْ قصدَهم بالكيدِ والإغْوَاء حتى نكونَ على حَذرٍ في نَجدَةِ نفوسِنا من وَسَاوِسِهِ.
وفي هذا بيانٌ أنَّ أحَداً من البَشَرِ لاَ يَرَى الْجِنَّ ، بخلافِ ما يقولُ بعضُهم : إنَّ منَّا مَن يراهُم. وإنَّما لا يراهُمُ البشرُ ؛ لأنَّهم أجْسَامٌ رقيقةٌ تحتاجُ في رؤيتِكَ إلى أفضلِ شُعاعٍ ، واللهُ تعالى لم يُعْطِنَا من الشُّعَاعِ قَدْرَ ما يُمكننا أن نراهم ، وأمَّا هم فإنَّهم يَرَوننَا ؛ لأنَّهم يرى بعضُهم بعضاً مع أنَّهم أجسامٌ رقيقةٌ ، فلأَنْ يرونَا ونحنُ أجسامٌ كثيفة أوْلَى.
وذهب بعضُ الناسِ إلى أنه يجوزُ أن يراهم البشرُ ، بأنْ يكشِفُوا أجسامَهم ، وقال : وهم مُمَكَّنُونَ من ذلك. وَقِيْلَ : إنَّ هذا لا يصلحُ ؛ لأنه لو أمكنَهم أن يَكْشِِفُوا أجسامَ أنفسِهم أمكنَهم أن يكشِفُوا أجسامَ غيرِهم. وقال مالكُ بن دينارٍ : (إنَّ عَدُوّاً يَرَاكَ وَلاَ تَرَاهُ لَشدِيْدُ الْمُؤْنَةِ إلاَّ مَنْ عَصَمَ اللهُ).
وَقِيْلَ : هو زيَّن لآدم فسكن له ، ويجرِي من ابن آدم مَجْرَى الدَّمِ ، وأنتَ لا تُقَاومُهُ إلا بعون اللهِ ، والشيطانُ يراكَ وأنتَ لا تراهُ ، وهو لا يَنْساكَ وأنتَ تنساهُ. وفيه يقولُ بعضهم : وَلاَ أرَاهُ حَيْثُمَا يَرَانِي وَعِنْدَمَا أنْسَاهُ لاَ يَنْسَانِيفَيُبْدِي إنْ لَمْ يَكُنْ سَبَانِي كَمَا سَبَى آدَمَ مِنْ جِنَانِوقال ذُو النون : (إنْ هُوَ يَرَاكَ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَاهُ ، فَإنَّ اللهَ يَرَاهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَرَى اللهَ ، فَاسْتَعِنْ باللهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ كَيْدَ الشَّيْطََانِ كَانَ ضَعِيْفاً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي جعلناهم قُرَنَاءَ للذينَ لا يؤمنونَ بالله.
(0/0)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا } ؛ معناهُ : أنَّ كُفَّارَ مَكَّة كانوا إذا فَعَلُوا معصيةً يَعْظُمُ قُبْحُهَا نَحْوَ طوافِهم بالبيتِ عُرَاةً ، وتحريْمِهم ما أحلَّ اللهُ تعالى من البَحِيْرَةِ والسَّائِبَةِ ، قَالُوا : وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَائَنَا وأسلافَنا ، { وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } : أي بهذه الأشياءِ ، { قُلْ } ؛ لَهم يا مُحَمَّد : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ } ؛ أي لا يأمُرنا بالمعاصِي ، { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } استفهامٌ بمعنى الإنكار على جهة إلزامِ الْحُجَّةِ ؛ لأنَّهم إنْ قالوا : نقولُ على اللهِ ما لَمْ نَعْلَمْ ، فَضَحُوا أنفسَهم ، وإنْ قالوا : لا نقولُ على الله مَا لا نعلمُ ، لَزِمَتْهُمْ الحُجَّةُ ؛ لأنَّهم لم يكن لَهم حُجَّةٌ على ما قالُوا.
(0/0)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } ؛ أي بالعدل والصَّواب ، وقال ابنُ عبَّاس : (لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) ، وقال الضَّحاكُ : (بالتَّوْحِيْدِ). { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ؛ قال مجاهدُ والسُّدِّيُّ : (أيْ تَوَجَّهُوا إلَى الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ أدَاءً عِنْدَ كُلَّ مَسْجِدٍ) ، وقال الكلبيُّ : (مَعْنَاهُ : إذا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ وَأنْتُمْ فِي مَسْجِدٍ ، فَصَلُّوا فِيْهِ وَلاَ يَقُولَنَّ أحَدُكمْ : أُصَلِّي فِي مَسْجِدِي ، وَإذا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فَلْيَأْتِ أيَّ مَسْجِدٍ شَاءَ ، وَلْيُصَلِّ فِيْهِ).
وهذه الآية تدلُّ على وُجُوب فعلِ الصَّلاةِ المكتوبة في الجماعةِ ، وقد رُويَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنهُ قَالَ : " مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يُجِبْهُ ، فَلاَ صَلاَةَ لَهُ " وقال صلى الله عليه وسلم : " لَقَدْ هَمَمْتُ أنْ آمُرَ رَجُلاً يُصَلِّي بالنَّاسِ ، ثُمَّ أنْظُرُ إلَى قَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } ، أي مُخْلِصِيْنَ لهُ الطاعةَ والعبادةَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } ؛ أي خَلَقَكُمْ حين خَلَقَكُمْ مؤمناً وكافراً ؛ وشَقِيّاً وسَعِيداً ، فكما خلقَكم فكذلك تعودون إليه يومَ القيامةِ ، { فَرِيقاً هَدَى } ؛ وهم المؤمنونَ ، { وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ } ؛ وهم أهلُ الكفرِ ، وهذا قولُ ابنِ عبَّاس ، كما قالَ تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ }[التغابن : 2] ثم يعيدُهم يومَ القيامةِ كما بدأ خَلْقَهُمْ مؤمناً وكافراً ، فَيَبْعَثُ المؤمنَ مؤمناً ؛ والكافرَ كافراً.
وقال الحسنُ ومجاهدُ : (مَعْنَاهُ : كَمَا بَدَأْكُمْ فَخَلَقَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَم تَكُونُوا شَيْئاً ، كَذلِكَ تَعُودُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أحْيَاءً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ أي إنَّ أهْلَ الضَّلالةِ اتَّخذُوا الشياطينَ أولياءَ بطاعتِهم فيما دَعَوهُم إليه ، { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } ؛ أي يَظُنُّونَ أنَّهم على الْهُدَى.
(0/0)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } ذلك أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يطُوفُونَ بالبيتِ عُرَاةً ويقولون : لاَ نطوفُ في الثياب التي أذْنَبْنَا فيها ودَنَّسْنَاهَا بالذنوب ، فكانتِ المرأةُ منهم تَطُوفُ بالبيتِ عَرْيَانَةً باللَّيْلِ ، إلا أنَّهَا كانت تَتَّخِذُ سُيُوراً مُقَطَّعَةً تُشَدُّ في حِقْوَيْهَا ، فكانت السُّيُورُ لا تسترُها سِتْراً تامّاً.
قال المفسِّرون : كانت بنُو عامرٍ في الجاهليَّة يفعلونَ ذلك ، كان رجالُهم يطوفون عراةً بالنَّهار ، ونساؤُهم ليلاً. وحُكِيَ أنَّ امرأةً كانت تطوفُ عريانةً وهي تقولُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أُحِلُّهُوكانوا إذا قَدِمُوا منهُ طََرَحَ أحدُهم ثيابَه في رجلهِ ، فإن طافَ وهي عليه ضُرِبَ وانْتُزِعَتْ منهُ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ : { يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } يعني الثِّيَابَ. وقال مجاهدُ : (يَعْنِي : مَا يُوَارِي عَوْرَتُكُمْ وَلَوْ عَبَاءَةً).
وقال الكلبيُّ : (كَانَتْ بَنُو عَامِرٍ لاَ يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعَامِ إلاَّ قُوْتاً ، وَلاَ يَأْكُلُونَ دَسِماً فِي أيَّامِ حَجَّهِمْ ، يُعَظِّمُونَ بذلِكَ حَجَّهُمْ. وَكَانَتْ قُرَيْشُ وَكِنَانَةُ يَفْعَلُونَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، نَحْنُ أحَقُّ أنْ نَفْعَلَ ذلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ }. { وَلاَ تُسْرِفُواْ } ؛ أي الْبَسُوا ثيابَكم عندَ كلِّ مسجدٍ ، وكُلُوا اللَّحْمَ والدَّسِمَ ، واشربُوا من ألبانِ السَّوائبِ والبَحَائِرِ ، { وَلاَ تُسْرِفُواْ } أي لا تُجَاوِزُوا تحريْمَ ما أحلَّ اللهُ لكم.
والإِسْرَافُ : مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ؛ فتارةً تكون مجاوزةُ الحلالِ إلى الحرام ؛ وتارةً تكونُ مجاوزةُ الحدِّ في الإنفاقِ ؛ وتارةً تكونُ بأنْ يأكلَ الإنسانُ فوقَ الشَّبَعِ فيؤدِّي به ذلكَ إلى الضَّرر.
ويروى : أنَّ هَارُونَ الرَّشِيْدَ كان له طبيبٌ نصرانِيٌّ حاذقٌ ، فقال لعليِّ بن الحسين ابن واقدٍ : ألَيْسَ في كتابكم من علمِ الطب شيءٌ ؟ والعلمُ عِلمان : علمُ الأديانِ وعلمُ الأبدانِ ، فقالَ لهُ : إنَّ اللهَ تعالى قد جَمَعَ الطبَّ كلُّه بنصفِ آيةٍ من كتابنا. وقال : ومَا هِي ؟ قال : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ }. وفقال النصرانِيُّ : هل يُؤْثَرُ عن رسولِكم شيءٌ من الطب ؟ قال : نَعَمْ ؛ جمعَ رسولُنا صلى الله عليه وسلم الطبَّ في ألفاظٍ يسيرة. قال : وما هيَ ؟ قال : قَوْلُهُ : " الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ ، وَالْحِمْيَةُ رَأسُ كُلِّ دَوَاءٍ ، وَعَوِّدُواْ كُلَّ جِسْمٍ مَا اعْتَادَ " فقال النصرانِي : ما تركَ كتابُكم ولا نبيُّكم لجالينوسَ طِبّاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ؛ أي لا يرضَى عملَهم ، ولا يُثْنِي عليهم : فلما نَزَلَتْ هذه الآيةُ طََافَ المسلمونَ في ثيابهم ، وأكلُوا اللَّحمَ والدسمَ ، فعيَّرهُم المشركون بذلكَ ، فأنزلَ اللهُ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } أي قُلْ لَهم يَا مُحَمَّدُ : مَن حَرَّمَ الثيابَ التي يَتَزَيَّنُ بها الناسُ ، ومَنْ حَرَمَّ المستلذاتِ من الرِّزْق ؟ ويقالُ : أرادَ بالطيِّباتِ : الحلالَ من الرَِّزْقِ ، وفي قَوْلِهِ تَعَالَى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أمرٌ للإنسانِ أن يَلْبَسَ أحسنَ ثيابهِ في الأعيادِ والْجُمَعِ.
(0/0)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
(0/0)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } تخويفٌ ووعيدٌ من اللهِ تعالى لَهم ، معناهُ : ولكلِّ أهلِ دينٍ مُهْلَةٌ ؛ ولكلِّ وقتٍ مؤقَّت ، فإذا انْقَضَتْ مُهْلَتُهُمْ فلا يستأخِرون من بعدِ الأجلِ ساعةً ولا يستقدمونَ في الأجلِ. وليسَ ذكرُ السَّاعةِ في الآية على وجه التحديدِ ، فإِنَّهم لا يستأْخرونَ ولا يستقدمون ساعةً ولا أقلَّ من ساعةٍ ، ولكن ذًكِرَتِ السَّاعةُ لأنَّها أقلُّ أسْمَاءِ الأوقات بين الناسِ.
فإنْ قِيْلَ : لِمَ قال : { يَسْتَأْخِرُونَ } ولم يَقُلْ : يَتَأَخَّرُونَ ؟ قِيْلَ : معناهُ : لا يطلبونَ التَّأَخُّرَ عن ذلكَ لأجلِ اليَأْسِ عنهُ. وقرأ ابنُ سيرينَ : (فَإذَا جَاءَ آجَالُهُمْ).
(0/0)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَابَنِي ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي } ؛ معناهُ : يَا بَنِي آدَمَ إمَّا أن يأتيكم رُسُلٌ من جِنْسَكُمْ يقرأونَ عليكم ويَعْرِضُونَ عَلَيْكُمْ كِتَابي وكَلامِي ، { فَمَنِ اتَّقَى } ، اللهَ وأطاعَ الرسولَ ، { وَأَصْلَحَ } ؛ العملَ ، { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } ؛ حين يخافُ أهلُ النار ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ؛ على ما خَلَّفُوا في الدُّنيا.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى. وَقِيْلَ : معناهُ : وتكبَّروا عن الإيْمانِ بمُحَمَّد صلى الله عليه وسلم والقُرْآنِ.
(0/0)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ } ؛ أي حَظُّهُمْ مما قضَى اللهُ عليهم في الكتاب ؛ وهو سوادُ الوجوهِ وزُرْقَةُ الأعيُنِ ؛ كما قال تعالَى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ }[الزمر : 60].
وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : مَا كُتِبَ لُهُمْ مِنَ الْعَذَاب). وقال مجاهدُ : (مَا سَبَقَ مِنَ الشَّقَاوَةِ). وقال الربيعُ : (يَعْنِي يَنَالُهُمْ مَا كُتِبَ لَهُمْ مِنَ الأَرْزَاقِ وَالأَعْمَال). فَإذا فَرَغَتْ وَفَنِيَتْ ؛ { جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } أي يَقْبضُونَ أرْوَاحَهُمْ ؛ يَعْنِي مَلَكَ الْمَوْتِ وَأَعْوَانَهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ؛ يعني إذا جاءَتْهم ملائكةُ العذاب يذيقونَهم عذاباً في الآخرةِ كما قالَ تعالى : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ }[إبراهيم : 17]. { قَالُواْ } ؛ أي فتقولُ لَهم الملائكةُ - وهم خَزَنَةُ جهنَّم : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } ؛ يعنونَ الأصنامَ. يقولون لَهم ذلك تَوْبيْخاً وتَنْكِيْراً وحسرةً عليهم ، { قَالُواْ } ؛ فيقولُ الكفَّارُ عندَ ذلك : { ضَلُّواْ عَنَّا } ؛ أي ذهَبَ الأصنامُ عَنَّا. فلم يَقْدِرُوا لنا على نَفْعٍ ولا دفع ضُرٍّ ، { وَشَهِدُواْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } ؛ أي أقَرُّوا على أنفُسِهم ، { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } ؛ في الدُّنيا. قال مقاتلُ : (يَشْهَدُونَ عَلَى أنْفُسِهِمْ بَعْدَمَا شَهِدَتْ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِحُ بمَا كَتَمَتِ الأَلْسُنُ).
(0/0)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِّن الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ } ؛ معناه : قَالَ اللهُ لَهم : ادْخُلُوا النارَ مع أُمَمٍ قَدْ خلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّار.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } ؛ في الدِّينِ والْمِلَّةِ. ولم يَقُلْ : أخَاهَا ؛ لأنه عَنَى بها الأمَمَ والجماعةَ ؛ فَلَعَنَتِ المشركونَ المشركين ؛ واليهودُ اليهودَ ؛ والنصارىَ النصارى ؛ والْمَجُوسُ الْمَجوسَ ، ويَلْعَنُ الأتباعُ القادةَ ويقولون : لَعَنَكُمُ اللهُ أنتم عَزَّرْتُمُونَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً } ؛ أي تَلاَحَقُوا واجتمعوا في النَّار.
قرأ الأعمشُ : (حَتَّى إذا تَدَرَكُوا فِيْهَا). وقرأ النخعيُّ : (حَتَّى إذا ادَّرَّكُوا فِيْهَا) بتشديدِ الدَّال من غير ألفٍ. والمعنى : حَتَّى إذا اجتمعُوا في النَّار القادةُ والأتباعُ ؛ { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } ؛ أي قالَتْ أُخرَى الأممِ الْمُكَذَّبَةِ لأوَّلِ الأمَمِ { رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ } ؛ الْمُقَدَّمُونَ ؛ { أَضَلُّونَا } ؛ عن الْهُدَى بإلقاءِ الشُّبهة علَيْنَا ؛ { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ } ؛ أي زدْهُمْ في عذابهم ، واجعل عذابَهم مُضَاعفاً مِمَّا علينَا ، { قَالَ } ؛ اللهُ تعالى : { لِكُلٍّ ضِعْفٌ } ؛ أي لكلٍّ من الأَوَّلين والآخرين ضِعْفٌ من العذاب ، { وَلَـاكِن لاَّ تَعْلَمُونَ } ؛ أنتُم شِدَّة ما عليهِم.
ومَنْ قرأ (وَلَكِنْ لاَ يَعْلَمُونَ) بالياء ؛ فمعناهُ : لا يعلمُ كلُّ فريقٍ منهم مقدارَ عذاب الفريق الآخرِ. وقال مقاتلُ : (مَعْنَاهُ : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } أي { أُخْرَاهُمْ } دُخُولاً النَّارَ الأَتْبَاعُ { لأُولاَهُمْ } وَهُمْ الْقَادَةُ). وقال السُّدِّيُّ : (أُخْرَاهُمْ الَّذِينَ أتَوا فِي آخِرِ الزَّمَانِ ، لأوْلاَهُمْ يَعْنِي الَّذِينَ شَرَّعُوا لَهُمْ ذلِكَ الدِّيْنَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } أي قالت أوَّلُ الأُممِ لآخر الأمَمِ ، والمتبوعون للتابعين : لم يكُنْ لكم علينا فََضْلٌ في شيءٍ حتى تطلبُوا من اللهِ أن يزيدَ في عذابنا ويُنْقِصَ من عذابكم ، وأنتم كفرتُم كما كفَرْنا ، ونحنُ وأنتم في الكُفْرِ سواءٌ ، وكذا نكونُ في العذاب سواءٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } ؛ يجوزُ أن يكون هذا من قَوْلِ الأوَّلِينَ للآخرين ، ويجوزُ أن يكونَ قال اللهُ لَهم ذلكَ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ ʉلسَّمَآءِ } ؛ أي الذينَ جَحَدُوا بآياتِنا وتَعَظَّمُوا عن الإِيْمانِ بها ؛ لا تفتحُ لأرواحِهم أبوابُ السَّماءِ إذا مَاتُوا هَوَاناً ، وتفتحُ للمؤمنينَ كرامةً لَهم. وَقِيْلَ : معناه : لا تفتحُ لأعمالِهم أبوابُ السَّماءِ ؛ لأنَّها خَبيْثَةٌ ، بل يَهْوِي بعملهم إلى الأرضِ السَّابعةِ ، وتُرْقَمُ في الصَّخْرةِ التي تحتَ الأرضين كما قالَ اللهُ تَعَالَى : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }[المطففين : 7-9].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ } قراءةُ الأكثرينَ بالتَّاء المشدَّدة راجعةٌ إلى جماعةِ الأَبْوَاب. وقرأ بعضُهم بالياءِ والتخفيف ؛ لأن تأنيثَ الأبواب ليس بحقيقيٍّ.
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } ؛ أي لا يدخلون الْجَنَّةَ أبَداً كما لا يدخلُ البعيرُ في خُرْمِ الإبرةِ. وهذا تَمثيلٌ في الدَّلالةِ على يَأْسِ الكفَّار من دخولِهم الجنَّة. والعربُ إذا أرادت تأكيدَ النَّفْيِ عَلَّقَتْهُ بما يستحيلُ كونُه ، كما قالَ الشاعرُ : إذا شابَ الْغُرَابُ أتَيْتُ أهْلِي وَصَارَ الْقَارُ كاللَّبَنِ الْحَلِيبوالْخِيَاطُ وَالْمَخِيْطُ بمعنى واحدٍ. وعن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه (أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَمَلِ ؛ فَقَالَ : هُوَ زَوْجُ النَّاقَةِ ؛ كَأَنَّهُ اسْتَجْهَلَ مَنْ سَأَلَهُ وَتَعَجَّبَ مِنْهُ). وفي قراءة ابنِ عبَّاس : (حَتَّى يَلِجَ الْجُمَّلُ) بضمِّ الجيمِ وتشديد الميم ، وهو حَبْلٌ يسمى القَلْسُ. وقال عكرمةُ : (هُوَ الْحَبْلُ الَّذِي يُصْعَدُ بهِ النَّخْلُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ } ؛ أي هكذا يُجزَون.
(0/0)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } ؛ أي لَهم فراٌ من النار يضطجِعُونَ ويقعدُونَ وفوقَهم غَوَائِلُ ؛ أي غَاشِيَةٌ من فوق غَاشِيَةٍ ، كما قالَ تعالى في موضعٍ آخرَ : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ }[الزمر : 16]. وقال صلى الله عليه وسلم : " يَلْبَسُ الْكَافِرُ لَوَحَيْنِ مِنَ النَّار فِي قَبْرِهِ ، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ "
و { غَوَاشٍ } : وأصلُ غَوَاشٍ : غَوَاشِيُ بإثْبَاتِ الْيَاءِ مَعَ الضَّمَّةِ ، فحذفَتِ الضَّمَّةُ والياءُ استثقالاً ، وأدخلَ الثقل ذهابَ حركَتها ويائهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ } ؛ يعني الكفارين.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } ؛ أي إنَّ الذين آمَنُوا باللهِ ورسُولهِ ، وعمِلُوا الطاعاتِ بمقدورهم وبوِسْعِهِمْ. { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي طاقَتَها وقدرتَها ، { أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ؛ باقونَ دائمون.
(0/0)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } ؛ أي نَزَعْنَا ما في قلوبهم من غِشٍّ وحَسَدِ وَعَدَاءِ بعضِهم على بعضٍ في الدُّنيا ، وألْقَيْنَا في قلوبهم التَّوَادُدَ في الآخرةِ حتى لا يَحْسُدُ بعضُ أهلِ الجنَّة بعضاً أعلى درجةً منه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَا } ؛ أي مِن تحتِ شجرِهم وغُرَفَهِم الأنْهَارُ في حال نزعنا ما في قلوبهم ؛ تكونُ (تجري) في موضعِ الحال.
قال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَطَلْحَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّار بْنِ يَاسِرٍ وسَلْمَانَ وأبي ذرٍّ ، يَنْزِعُ اللهُ فِي الآخِرَةِ مَا كَانَ فِي قُلُوبهِمْ مِنْ غِشٍّ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي الْعَدَاوَةِ وَالثِّقَلِ الَّذِي كَانَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، وَالأَمْرُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيْهِ ، فَيَدْخُلونَ إخْوَاناً مُتَقَابليْنَ).
قال : (فَأَوَّلُ مَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ تُعْرَضُ لَهُمْ عَيْنَانَ تَجْرِيَانِ ، فَيَشْرَبُونَ مِنْ أحَدِ الْعَيْنَيْنِ ، فَيَذْهَبُ الْهَمُّ مِنْ غِلٍّ ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْعَيْنَ الأُخْرَى ، فَيَغْتَسِلُونَ فِيْهَا فَتُشْرِقُ ألْوَانُهُمْ ، وَتُصْقَلُ وُجُوهُهُمْ ، وَيَلْبَسُونَ بَهَاءَ النُّورِ ، وَيُطَيِّبُ اللهُ رِيْحَهُمْ بهِ).
{ وَقَالُواْ } ؛ فعندَ ذلك يقولون : { الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـاذَا } ؛ أي أرشِدْنا إلى ما صِرْنَا به رَبُّنَا واغتسلنَا من العَيْنَيْنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } ؛ قرأ ابنُ عامرٍ : (مَا كُنَّا) بغير واو. وقرأ الباقون بالواوِ : (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ إلَى هَذا الذي أكْرَمَنَا اللهُ به لولاَ أنَّ اللهَ هدَانا إليهِ) وقال صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ أهْلِ النَّارِ يَرَى مَنْزِلَهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ : لَوْلاَ هَدَانَا اللهُ ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةٌ. وَكُلُّ أهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَنْزلَهُ فِي النَّار فَيَقُولُون : لَوْلاَ أنَّ اللهَ هَدَانَا "
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } ؛ شهاةٌ منهم بإرسالهِ للحقِّ إليهم ؛ أي جَاءُوا بالصِّدْقِ ؛ فصدَّقناهُم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؛ معناه : نادَتْهم الملائكةُ : أنَّ هذه الجنَّةُ التي وُعِدْتُمُوهَا في الدُّنيا بأعمالِكم. وَقِيْلَ : معنى { أُورِثْتُمُوهَا } أنْزِلْتُمُوهَا. وفي الخبرِ : أنه يقالُ لَهم يومَ القيامةِ : جُوزُّوا الصِّرَاطَ بعَفْوِي ؛ وادخلوُا الجنَّةَ برحمتِي لا بأعمالِكُم.
(0/0)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ } ؛ وذلكَ حين يستقرُّ أهلُ الجنَّة في الجنَّةِ ، وأهلُ النَّار في النار ؛ ينادي أصحابُ الجنَّةِ أصحابَ النار : أنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا َوَعَدَنَا رَبُّنَا من الثَّواب والكرامة حَقّاً ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب حَقًّا ؟ قَالُوا نَعَمْ ، فاعترفُوا في وقتٍ لا ينفعُهم الاعترافُ. وفي (نَعَمْ) قراءتانِ ؛ قراءةُ الكسائيِّ : (نَعِمْ) بكسرِ العين في القُرْآنِ ، وقرأ الباقون بالفتحِ ؛ وهما لُغتان.
وإنَّما سألَ أهلُ الجنةِ أهلَ النار ؛ لأنَّ الكفارَ كانوا يكذِّبون المؤمنين فيما يَدْعُونَ لأنفسِهم من الثواب ولَهم من العقاب ، فَلِذا سألَهم المسلمونَ تَبْكِيْتاً لَهم ، ليكونَ ذلك حَسْرَةً للكفارين وسُرُوراً للمؤمنينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } ؛ رُوِيَ في الخبر : " أنَّ مُنَادِياً يُنَادِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّار ؛ يَسْمَعُهُ الْخَلاَئِقُ كُلُّهُمْ : أنَّ رَحْمَةَ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُحْسِنِيْنَ ، وَأنَّ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الظَّالمِيْنَ " أي على الكافِرين. وقرأ بعضُهم : (أنَّ لَعْنَةَ اللهِ) بالتشديد وَنصْب اللَِّعْنَة.
(0/0)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي عن الدِّيْنِ الذي هو طريقُ اللهِ إلى جَنَّتِهِ ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } ؛ أي يطلبونَ لَها غَيْراً أو زَيْفاً بإلقاءِ الشُّبهة التي يُلْبسُونَ بها على النَّاسِ ، { وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } ؛ أي هم جَاحِدُونَ بالبعثِ بعدَ الموتِ.
(0/0)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } ؛ أي بين الجنَّةِ والنار سُورٌ يحجبُ بينَ الفريقين ، كما قالَ تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }[الحديد : 13]. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ } ؛ أي وعلى أعَالِي السُّور بابٌ ؛ يقال : أعالِي عُرْفٍ وجَمْعُهُ أعْرَافٌ ؛ ومنه عُرْفُ الدِّيك ؛ وعُرْفُ الأضراسِِ.
والأعْرَافُ : سُورٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ؛ سُمِّي أعرافاً لأن أصحابَهُ ، { يَعْرِفُونَ } ؛ الناسَ ؛ { كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } ؛ يعرفونَ أهلَ الجنَّةِ ببياضِ وجوههم ؛ وأهلَ النَّار بسوادِ الوجوهِ.
قال عبدُاللهِ بنُ عبَّاس : (أصحابُ الأعْرَافِ : قَوْمٌ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ ، فَحَالَتْ حَسَنَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّار ، وَحَالَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ فَاضِلَةٌ يَدْخُلُونَ بهَا الْجَنَّةَ ، وَلاَ سِيِّئاتٌ فَاضِلَةٌ يَدْخُلُونَ بهَا النَّارَ ، فَوَقَفُواْ عَلَى السُّورِ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّار يَعْرِفُونَ الْكُلَّ بسِيْمَاهُمْ. فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ عَرَفُوهُ ببيَاضِ وَجْهِهِ أغَرّ مُحَجَّلاً مِنْ أثَرِ الْوُضُوءِ ؛ ضَاحِكاً مُسْتَبْشِراً. وَمَنْ دَخَلَ النَّارَ عَرَفُوهُ بسَوَادِ وَجْهِهِ وَزُرْقَةِ عَيْنَيْهِ).
وعن أبي مَجْلِِزٍ رَحِمَهُ اللهُ أنه قال : (هُمْ المَلاَئِكَةُ). فبلغَ ذلك مجاهدَ فقال : (كَذبَ أبُو مَجْلِزٍ ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ }. فبلغَ ذلك أبا مجْلِزٍ ؛ فقال : (هُمُ الْمَلاَئِكَةُ ، وَالْمَلاَئِكَةُ ذُكُورٌ لَيْسَ بإنَاثٍ ؛ صُوَرُهُمْ صُوَرُ الرِّجَالِ).
وَقِيْلَ : قومٌ استوت حسناتُهم وسيِّئاتُهم ، فَوُقِفُوا هناكَ حتى يقضيَ اللهُ فيهم ما يشاءُ ، ثم يدخلونَ الجنَّةَ بفضلِ رحمتهِ ؛ وهم آخرُ مَن يدخلُ الجنة قد عَرَفُوا أهلَ الجنَّة وأهلَ النار. فإذا أراد الله أن يُعَافِيَهُمْ انطلقَ بهم إلى نَهْرٍ يقال لَهُ : نَهْرُ الْحَيَاةِ ؛ كَأَفْتَاتِ الذهَبِ ؛ مُكَلَّلٌ باللُّؤلؤِ ؛ تُرابُهُ الْمِسْكُ. فَيُلْقَوا فيه حتى تُصْبحَ ألوانُهم في نحورهم شامةً بيضاءَ يُعْرَفُونَ بها ، ثم يُؤْتَى بهم فيدخلونَ الجنَّة ، يُسَمَّوْنَ مساكينَ أهلِ الجنَّةِ.
" وسأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ أصْحَابُ الأَعْرَافِ ؟ قَالَ : " هُمْ رجَالٌ غَزَوا فِي سَبيْلِ اللهِ عُصَاةٌ لآبَائِهِمْ ؛ فقُتِلُوا فَأُعْتِقُوا مِنَ النَّارِ يقَتْلِهِمْ فِي سَبيْلِ اللهِ ، وَحُبسُوا عَنِ الْجَنَّةِ بمَعْصِيَتِهِمْ آبَاءَهُمْ ، فَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ". ورويَ عنِ ابنِ عبَّاس أيضاً أنه قالَ : (هُمْ أوْلاَدُ الزِّنَا). وعن مجاهدٍ : (أنَّهُمْ قَوْمٌ رَضِيَ عَنْهُمْ آباؤُهُمْ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ ، أوْ أُمَّهَاتُهُمْ دَونَ آبَائِهِمْ ، فَيُحْبَسُونَ فِي الأَعْرَافِ إلَى أنْ يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ خَلْقِهِ ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } ؛ معناهُ : أنَّ أصحابَ الأعرافِ إذا نَظَرُوا إلى أصحاب الجنَّةِ قالوا لَهم : سَلامٌ عَلَيْكُمْ ، فيردُّ أهلُ الجنَّةِ عليهم السَّلامَ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَمْ يَدْخُلُوهَا } أي لا يدخلُ أصحابُ الأعراف الجنَّةَ وهم يطمعونَ في دخولِها ، بأنْ يغفرَ اللهُ لَهم سيِّئاتِهم ويُدْخلَهم الجنَّةَ بحسناتِهم. وما جعلَ اللهُ الطمعَ في قلوبهم إلاَّ لكرامةٍ يزيدُهم بها.
(0/0)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ معناهُ : وإذا نظرَ أصحابُ الأعرافِ إلى أصحاب النَّار ، دَعَوا اللهَ تعالى واستعاذُوا من النَّار وقالوا : رَبَّنَا لا تَجْعَلَنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في النَّار ؛ أي يَدْعُونَ بذلكَ خَوْفاً مِن اللهِ لأجل معاصِيهم.
(0/0)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَآ أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ أصْحَابَ الأَعْرَافِ يُنَادُونَ الْكِبَارَ مِنَ الْكُفَّار الَّذِينَ كَانُوا عُظَمَاءً فِي الْكُفْرِ كَالْوَلِيْدِ بْنِ الْمُغِيْرَةِ وَأبِي جَهْلٍ وَسَائِرِ رُؤَسَائِهِمْ). يَعْرِفُونَهُمْ بسِيمَاهُمْ يُنَادُونَهُمْ وَهُمْ عَلَى السُّور : يَا وَلِيْدَ ابْنَ الْمُغِيْرَةِ! يَا أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ! يَا فُلاَنَ ابْنِ فُلاَنٍ ؛ مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ ، وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبرُونَ ؛ أي تَتَعَظَّمُونَ عنِ الإيْمأن باللهِ عَزَّوَجَلَّ.
ثم ينظرونَ إلى الجنَّةِ ؛ فَيَرَوْنَ فيها الضعفاءَ والمساكين مِمَّنْ كان يَسْتَهْزِئُ بهم كفارُ مكَّةَ ؛ مثل صُهَيْبٍ وَخَبَّاب وَعَمَّار وسَلْمَانَ وبلاَلٍ وأشبهاهِهم ، فينادَون : { أَهَـؤُلاءِ } ؛ الضعفاءُ هُمُ ، { الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ } ؛ أي حَلَفْتُمْ أيُّها المشركون وأنتُم في الدُّنيا ، { لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } ؛ يا من أقْسَمْتُمْ لا يدخلهم اللهُ الجنَّةَ. قال ابنُ عبَّاس : (فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لأَصْحَاب الأَعْرَافِ : { ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } ).
فإنْ قِيْلَ : كيفَ يصحُّ هذا التأويلُ في الحجاب بينَ الجنَّةِ والنار ؛ ومعلومٌ أنَّ الجنةَ في السَّماءِ والنار في الأرضِ ؟ قِيْلَ : لَمْ يُبَيِّنِ اللهُ حالَ الحجاب بالمذكور في الآية ، ولا قَدْرَ المسافةِ ، فلاَ يَمتنعُ أن يكون بينَ الجنَّةِ والنار وإنْ بَعْدَتِ المسافةُ.
وقرأ بعضُهم : (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْثِرُونَ) بالثَّاءِ ؛ أي تجمعونَ المالَ الكثيرَ. وقال مقاتلُ في تفسيرِ هذه الآية : (إذا قَالَ أصْحَابُ الأعْرَافِ لأَصْحَاب النَّار : مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ. قَالَ لَهُمْ أصْحَابُ النَّار : وَأنْتُمْ مَا أغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ ، وَأقْسَمُوا لَتَدْخُلُنَّ النَّارَ مَعَنَا).
فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى ، أوْ تَقُولُ الْمَلاَئِكَةُ لأَهْلِ النَّار : أهَؤُلاءِ الَّذِينَ أقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمْ اللهُ برَحْمَةٍ ؛ أي لا يصيبُهم برحمتهِ. ثم يقالُ لأصحاب الأعرافِ : ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أنْتُمْ تَحْزَنُونَ.
(0/0)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا سَكَنَ أهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ؛ وَسَكَنَ أهْلُ النَّار النَّارَ ؛ وَحُرِمَ أهلُ النَّار الْمَاءَ وَالثِّمَارَ مَعَ مَا هُمْ فِيْهِ مِنْ ألْوَانِ الْعَذاب ، نَادَوا أصْحَابَ الْجَنَّةِ : أنِ اسْقَونَا شَيْئاً مِنَ المَاءِ ، وَالثِّمَارَ مَعَ مَا هُمْ فِيْهِ مِنْ ألْوَانِ الْعَذاب ، نَادَوا أصْحَابَ الْجَنَّةِ : أنِ اسْقُونَا شَيْئاً مِنَ الْمَاءِ ، أوْ صُبُّوا وَأفْرِغُوا عَلَيْنَا ، وَأطْعِمُونَا شَيْئاً مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ مِنْ ثِمَار الْجَنَّةِ). فيجيبُهم أهلُ الجنَّةِ : { قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ، أي شرابُ الجنَّة وثِمَارُها. وإنَّما جُعلَ شرابُ الكافرين الحميمَ الذي يُصْهَرُ بهِ ما في بطونِهم والجلود ، وطعامُهم الضَّرِيْعَ وَالزَّقُّومَ.
وَقِيْلَ : إنَّ أهلَ النار ينادونَ أهلَ الجنَّةِ بعد أن يستغيثُوا فَيُغَاثُوا بمَاءٍ كَالْمُهْلِ ، ثم يستغيثُوا بالطعامِ فيغاثوا بالزَّقُّومِ والضَّرِيْعِ ، فيُقْبلُونَ على الصَّبْرِ فلا يُغِني عنهم ، فيقولون : سَوَاءً علينا أَجَزِعْنَا أمْ صَبَرْنَا ، ثم ينادون حينئذٍ أهلَ الجنة : يا أهلَ الجنَّةِ! يا أهلَ السَّعادةِ! منكُم الآباءُ والأمَّهاتُ ؛ والأبناء والأخواتُ ؛ والجيرانُ والمعارف والأصدقاءُ ، أفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ حتى تُطْفِئُوا حَرَّ ما نَجِدُ من العطشِ ، أو مِمَّا رَزَقَكُمْ اللهُ من الطعامِ فَنَأْكُلُهُ لعلَّهُ يطفئُ عنَّا الجوعَ. فلا يُؤذنُ لأهلِ الجنَّةِ في الجواب مقدارَ أربعينَ سنةٍ ، ثم يُؤذنُ لَهم في جوابهم ؛ فيقولونَ : إنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ، يَعْنونَ الماءَ والطعامَ.
وفي الآية بيانُ أنَّ الإِنسانَ لا يستغني عن الطعامِ والشراب وإن كان في العذاب ، قال أبُو الجوزَائِيِّ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ : أيُّ الصَّدَقَةِ أفْضلُ ؟ قَالَ : (الْمَاءُ ، أرَأَيْتَ أهْلَ النَّار لَمَّا اسْتَغَاثُوا بأَهْلِ الْجَنَّةِ قَالُوا ؟ : أفِيضُوا عَلَْيْنَا مِنَ الْمَاءِ).
(0/0)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاوةُ الدُّنْيَا } ؛ أولُ الآية نَعْتٌ للكفارينَ ؛ ومعناهُ : أنَّهم اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوَ أنفُسِهم ؛ لاَهِيْنَ لاَعِبيْنَ. ويقالُ : هم الذين اخْتَارُوا في دِيْنِهم الباطلَ واللَّعِبَ والفرحَ والْهُزْئَ ، (وَغَرَّتُهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) أي غَرَّهُمْ ما أصابوهُ من زينةِ الدُّنِيا مع ما كانوا فيه من طُولِ الأمَلِ ، وكذلك كانوا يَسْتَهْزِئُونَ بالمسلمينَ ، كما رُوِيَ في الخبر : أنَّ أبا جَهْلٍ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَسْتَهْزِءُ بهِ : أن أطعِمْنِي من عِنَب جَنَّتِكَ أو شيئاً من الفواكهِ! فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : (قل إنَّ اللهَ حَرَّمْهُمَا عَلَى الْكَافِرينَ).
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { فَالْيَوْمَ نَنسَـاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا } ؛ { فَالْيَوْمَ } أي يومَ القيامةِ معناهُ : اليومَ نترُكهم كما تَرَكُوا العملَ للقاءِ يَوْمِهِمْ هَذا. ويقال : معنى قولهِ : { نَنسَـاهُمْ } نَتْرُكُهُمْ ، { كَمَا نَسُواْ } أي كما أعْرَضُوا عن العملِ للقاءِ يومِهم هذا اعراضَ الناسي للشيء. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } في موضعِ الجرِّ عَطْفٌ على (مَا نَسُوا) ؛ المعنى : وَبجَحْدِهِمْ بآياتِنَا الدالَّةِ على التوحيدِ { نَنسَـاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَـاذَا }.
(0/0)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } ؛ أي لقد أتَيْنَاهُمْ بالقُرْآنِ الذي أتينَا به آيةً بعد آيةٍ ؛ وسورةً بعد سورةٍ عَلَى عِلْمٍ منَّا بأن ذلكَ أقربُ لِلتَّدَبُّرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { هُدًى وَرَحْمَةً } ؛ في موضعِ نَصْبٍ على تقديرٍ : هَادِياً وذا رَحْمَةٍ ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ أي يُصَدِّقُونَ أنهُ مِن عندِ الله.
(0/0)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ } ؛ معناه : ما ينظرُ أهلُ مكَّة إلا عاقبةَ ما وَعَدَهم اللهُ به في القُرْآنِ أنه كائنٌ ، منه ما يكونُ في الدُّنيا ؛ ومنهُ ما يكونُ في الآخرةِ. ويقالُ معناه : هل يَنْظُرُونَ إلى ما يَؤُولُ إليه أمرُهم من البعثِ والعذاب وورُودِ النَّار.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي يوم يأتِي عاقبةُ ما وُعِدُوا فيه ؛ وهو يومُ القيامةِ ، يَقُولُ الَّذِينَ كفرُوا وتَرَكُوا العملَ له في دار الدُّنيا : قدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَنا بالصِّدْق في أمرِ البعثِ بعدَ الموتِ فكذبناهُم ، { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ } ؛ أي يقولونَ هذا القولَ حين يَرَوْنَ الشُّفعاءِ يشفعونَ للمؤمنين ، فيقال لَهم : ليسَ لكم شَفِيْعٌ ، فيقولون : هل نُرَدُّ إلى الدُّنيا فنُصدِّقَ الرسلَ ، ونعملَ الأعمالَ الصالحة ؟ فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ }. وجوابُ الاستفهامِ بالفاءِ يكونُ نَصْباً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ خَسِرُواْ أَنْفُسَهُمْ } ؛ أي غَبَنُوا حَظَّ أنفُسِهم من الجنَّةِ ، فَوَرَثَهُمْ المؤمنونَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ؛ أي بَطَلَ عنهم فلم يَنْفَعْهُمْ وذهبَ عنهُم آلِهتُهم ؛ وهي التي كانوا يَفْتَرُونَ بها على الله تعالى أنَّها شفعاؤهم. ويقالُ : معناه : وَضَلَّ عَنْهُمْ حينئذٍ افْتِرَاؤُهُمْ على اللهِ تعالَى.
(0/0)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } ؛ وذلكَ : أنَّ اللهَ تعَالى لَمَّا عيَّرَ المشركينَ بعبادةِ الأصنامِ بقوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ }[الأعراف : 53] سَأَلُوا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا مُحَمَّدُ ؛ مَنْ رَبُّكَ الذي تدعُونا إليه ؟ فأرادُوا بذلك أن يَجْحَدُوا معنى في أسمائهِ ، وفي شيء من أفعاله فأنزلَ اللهُ تعالى هذه الآيةِ ، فتحيَّروا وعجَزُوا عن الجواب.
ومعنى الآية : أنَّ خالِقَكم ورازقَكُم هو اللهُ الذي ابتدأ خَلْقَ السَّمَواتِ والأَرض لا على مثالٍ سابق ؛ فَوَحِّدُوهُ يا أهلَ مكَّةَ واعبدوهُ وأطيعوهُ ؛ ودعُوا هذه الأصنامَ ؛ فإنَّها لم تَخْلُقْ سَماءً ولا أرضاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } قال ابنُ عَبَّاس : (أوَّلُهَا الأحَدُ وَآخِرُهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ). قال الحسنُ : (هِيَ سِتَّةِ أيَّامٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا). ويقالُ : في سِتَّةِ ساعاتٍ من ستة أيَّامٍ من أوَّل أيَّامِ الدُّنيا. ولو شاءَ لَخَلَقَهَا في أسرعِ من اللَّحظةِ ، ولكنه عَلَّمَ عبادَهُ التَّأَنِّي والرِّفْقَ والتدبيرَ والتثبُّتَ في الأمور.
ٌَقَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ؛ اختلفَ المفسِّرون في ذلكَ ؛ قال بعضُهم : يطلقُ الاستواءُ كما نَطَقَ به القُرْآنُ ولا يكيِّفُ ، كما أثْبَتَ اللهُ ولا نُكَيِّفُهُ. وهذا القولُ مَحْكِيٌّ عن مالكِ بنِ أنسٍ ، فإنه سُئِلَ عن معنى هذه الآية ؛ فقال : (الاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالإيْمَانُ بهِ وَاجِبٌ ، وَالْجُحُودُ بهِ كُفْرٌ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بدْعَةٌ).
وقال بعضهُمْ : معنى (اسْتَوَى) : اسْتَوْلَى ، كما يقال : اسْتَواءَ الأميرُ على بلدِ كذا ؛ أي اسْتَوْلَى عليهِ واحتوَى وأحرزه ، ولا يرادُ بذلكَ الجلوسُ. قال الشاعرُ : قَدِ اسْتَوَى بشْرُ عَلَى الْعِرَاق مِنْ غَيْر سَيْفٍ ودَم مِهْرَاقأراد بذلكَ بشْرَ بْنَ مَرْوَانٍ ، واستواءَهُ على العراقِ : لا الْمَلِكَ.
وقال بعضُهم : لفظ الاستواءِ في الآيةِ كنايةٌ عن نَفَاذِ الأمْرِ وعِظَمِ القُدْرَةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : ثُمَّ أقبلَ على خَلْقِ العرشِ وعَمَدَ إلى خَلْقِهِ ، وكذلكَ{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ }[فصلت : 11] أي عَمَدَ إلى خَلْقِ السَّماءِ.
فإن قِيْلَ : ما معنى دخول (ثُمَّ) في قولهِ تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ، و(ثُمَّ) تكون للحَادِثِ ، واستيلاءُ اللهِ تعالى واقتدارهُ ومُلكه للأشياءِ ثابتٌ فيما لَمْ يَزَلْ ولاَ يزالُ ؟ قِيْلَ : معناه : ثُمَّ رَفَعَ العرشَ فوقَ السَّمواتِ واستولَى عليهِ. وإنَّما أدخلَ (ثُمّ) مُتَّصِلةً في اللفظ بالاستواءِ ؛ لأن الدلالة قد دَلَّتْ من جهةِ العقل على أنَّ اقتدارَهُ على الأمور ثابتٌ فيما لم يزل. وهذا مثلُ قولهِ تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ }[محمد : 31] أي حتى يُجَاهِدَ الْمُجَاهِدُونَ منكم ونحنُ عَالِمونَ بهم.
ويقال : معنى (ثُمَّ) هنا بمعنى الواو على طريق الجمع والعطف دون التَّراخِي ، فإنَّ خَلْقَ العرشِ والاستيلاء عليه كان قَبْلَ خَلْق السَّمواتِ والأَرضِ. وقد وردَ في الخبر : " أنَّ أوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ الْقَلَمُ ، ثُمَّ اللَّوْحُ ، فأَمَرَ اللهُ الْقَلَمَ أنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ خَلَقَ الْعَرِْشَ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ "
(0/0)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ؛ أي ادْعُوهُ علانيةً وسِرّاً ، فإنَّ التَّضَرُّعَ من الضَّرَاعَةِ وهي إظهارُ شدَّة الحاجةِ. ويقالُ : معنى التَّضَرُّعِ : التَّمَلُّقُ والتَّخَشُّعُ والْمَيْلُ في الجهادِ ، يقال : ضَرَعَ يَضْرَعُ ضَرْعاً إذا مالَ بإِصْبعَيْهِ يَميناً وشِمالاً خَوْفاً وذُلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَخُفْيَةً } أي أدعُوا بالخضوعِ في السِّرِّ ودونَ العلانيةِ فكأنَّ اللهَ تعالى أمرَ في الدعاءِ أن يُجْمَعَ بَيْنَ أن يُخْفِيْهِ وبين أن يَفْعَلَهُ في غايةِ الْخُضُوعِ والانقطاعِ إليه ؛ لإنَّ ذلكَ أبعدُ من الرِّياءِ.
وهذا القولُ أصحُّ من الأوَّلِ لقولهِ صلى الله عليه وسلم : " خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ " وعن الحسنِ أنه قالَ : (كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي الدُّعَاءِ فَلا تَسْمَعُ إلاَّ هَمْساً).
وعنْ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ : " كَانَ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لا يَرُدُّهَما حَتَّى يَمْسَحَ بهِمَا وَجْهَهُ " وعن أبي موسَى الأشعريِّ رضي الله عنه قال : " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ ، فأَشْرَفُوا عَلَى وَادٍ ، فَجَعلَ النَّاسُ يُكَبُرونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيَرْفَعُونَ أصْوَاتَهُمْ ، فَقَالَ : " إنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أصَمَ وَلاَ غَائِباً ، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيْعاً قَرِيْباً ؛ وَإنَّهُ مَعَكُمْ ". وقال الله عَزَّ وَجَلَّ في مَدْحِ العبدِ الصَّالحِ ورضيَ دُعَاءَهُ : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً }[مريم : 3].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } ؛ أي لا يحبُّ المتجاوِزينَ في الدُّعاءِ. وفي الخبرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " إيَّاكُمْ وَالاعْتِدَاءَ فِي الدُّعَاءِ ، فَإنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِيْنَ " واختلفُوا في الاعتداءِ في الدُّعاءِ ؛ قال بعضُهم : هو أن يَدْعُو باللَّعْنِ وَالْخِزْيِ ، فيقولُ : لَعَنَ اللهُ فُلاَناً ؛ أخزَى الله فلاناً. أو يَدْعوا بما لا يحلُّ فيجاوزُ حدَّ العبودَّيةِ. وقال بعضُهم : هو أن يَسْأَلَ لنفسهِ منازلَ الأنبياء ، أو يسألَ اللهَ شيئاً مِن حكمتهِ أنه يفعلهُ في الدُّعاء. وَقِيْلَ : هو أن يقولَ : أسْأَلُكَ بحقِّ جبريلَِ وبحقِّ الأنبياءِ أن تُعْطِيَنِي كذا. وَقِيْلَ : هو أن يَدْعُو بالصِّياحِ. وَقِيْلَ : هو أن يعملَ عملَ الفُجَّار ويسألَ مسألة الأبرارِ.
(0/0)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } ؛ أي لاَ تُفْسِدُوا فيها بالشِّرْكِ والمعصيَةِ بعدَ إصلاحِ اللهِ إيَّاها ببعثِ الرُّسُلِ إليها ، فأمَرُوا فيها بالحلالِ ونَهَوا عن الحرام ، فَتَصْلُحُ الأرضُ بالطَّاعَةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تَعْصُوا في الأرضِ فيُمْسِكَ اللهُ المطرَ عنها ، ويهلكَ الحرثَ بمعاصيكُم. وَقِيْلَ : معناهُ : لا تَجورُوا في الأرضِ فتخرِّبوها ؛ لأنَّ الأرضَ قامت بالعدل ، وقد أصلحَها اللهُ بالنِّعمةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً } ؛ أي وَاعْبُدُهُ خائفينَ من عذابهِ ؛ طامعينَ في رحمتهِ وثوابه. وقال الربيعُ : { خَوْفاً وَطَمَعاً } أي رَغَباً وَرَهَباً. وقال ابنُ جريج : (خَوْفُ الْعَدْلِ وَطَمَعُ الْفَضْلِ). وقال عطيَّةُ : (خَوْفاً مِنَ النِّيْرَانِ وَطَمَعاً فِي الْجِنَانِ). وقال ذُو النون المصريُّ : (خَوْفاً مِنَ الْفِرَاقِ وَطَمَعاً فِي التَّلاَقِ).
قََوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } ؛ معناهُ : إنَّ إنْعَامَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحٍْسِنينَ. ويقالُ : إنَّ الْمُحْسِنَ مَن أخلصَ حسناتِهِ من الإساءةِ. وإنَّما قال : (قريبٌ) ولم يقل : قريبةٌ ؛ لأنَّ الرحمةَ والعَفْوَ والغفرانَ في معنىً واحدٍ ، وما لم يكن فيه تأنيث حقيقيٌّ كنتَ بالخيار ، إن شئتَ ذكَّرْتَهُ وإن شئتَ أنَّثْتَهُ.
وقال ابنُ جبيرٍ : (الرَّحْمَةُ هُنَا الثَّوَابُ. وقال الأخفشُ : (هِيَ الْمَطَرُ). فيكون القريبُ نعتاً للمعنى دون اللفظِ كقوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ }[النساء : 8] ولم يقل : مِنْهَا ؛ لأنُ أرادَ بالقسمةِ الميراثَ والمالَ ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ }[يوسف : 76] ، والصَّاعُ مُذكَّرٌ إلاَّ أنه أرادَ به السرقة والسِّقايةَ. وقال الكسائيُّ : (أرَادَ إنَّ إتْيَانَ رحْمَةِ اللهِ قَرِيْبٌ ، كقولهِ : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً }[الأحزاب : 63] ؛ أي لَعَلَّ إتْيَانَهَا قَرِيْبٌ).
(0/0)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } ؛ قرأ عاصم (بُشْراً) بالباءِ المضمومةَ والشِّين الَمَجْزُومَةِ ؛ يعني أنه يَنْشُرُ بالمطرِ ، يدلُّ عليه قَوْلَهُ : { الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ }[الروم : 46]. وقرأ (بُشُراً) بضمِّ الباءِ والشِّين على جمعِ (بُشُر) ؛ مثل نُذُرٍ ونَذِيْرٍ. وقرأ ابنُ عامرٍ : (نُشُراً) بالنون المضمُومة وإشكال الشِّينِ. وقرا حمزةُ والكسائيُّ : (نَشْراً) بالنونِ المفتوحة ، وحزمِ الشِّين على التخفيفِ. وقرأ مسروقٌ : (نَشَراً) بفتحتين ؛ أراد مَنْشُوراً. وقرا نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو : (نُشُراً) بالنون المضمومة وضَمِّ الشِّين.
وقرأ بعضُهم : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيْحَ) بلفظ الوِحْدَانِ. واختارَ أبو عُبيد لفظَ الجماعةِ ، وكان يقولُ : (كُلُّ مَأ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الرِّيَاحِ ذكَرٌ فَهُوَ لِلرَّحْمَةِ ، وَمَا كانَ مِنْ ذِكْرِ الرِّيَاحِ أنْثَى فَهُوَ لِلْعَذابِ). و احتجَّ بمَا رويَ عن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنهُ كان يقولُ إذا هبَّتْ ريْحٌ : " اللَّهُمَ اجْعَلْهَا ريَاحاً ، وَلاَ تَجْعَلْهَا ريْحاً ".
والنَّّشْرُ : جمع النَّشُور ؛ وَهِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَهُبُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ فَتُثِيرُ السَّحَابَ كَصَبُورٍ وَصَبْرٍ. ومن قرأ (نُشْراً) بضمَّةٍ واحدةٍ فللتخفيفن كما يقالُ : رُسُلٌ ورُسْلٌ. ومن قرأ (نَشْراً) بنصب النون على معنى نَنْشُرُ السَّحابَ نَشْراً. والنَّشْرُ خِلاَفُ الطَّيِّ كَنَشْرِ الثَّوْب بَعْدَ طَيِّهِ ، قال الفرَّاءُ : (النَّشْرُ مِنَ الرِّيَاحِ : الطَّيْبَةُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تُنْشئُ السَّحَابَ). ومن قرا (بُشْراً) بالباءِ والضمِّ ؛ فهو جمعُ بَشِيْرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي قُدَّامَ الْمَطَرِ ، وَقَوْلُهٌُ تَعَالَى : { حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } ؛ أي سُقْنَا السَّحابَ بأمرِ اللهِ إلى أرضٍ ليس فيها نباتٌ ، قال ابنُ عبَّاس : (يُرْسِلُ اللهُ الرِّيَاحَ فَتَحْمِلُ السَّحَابَ ، فَتَمُرُّ بهِ كَمَا يَمُرُّ الرَّجُلُ النَّاقَةَ وَالشَّاةَ حَتَّى تُدِرَّ ثُمَّ تُمْطِرَ ، فَيَخْرُجُ بالْمَطَرِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } أو لأَحْيَا بلداً مَيِّتاً لا نباتَ فيه. وَقِيْلَ : لا تُمطر السَّماءُ حتى يُرْسِلَ اللهُ أربعةَ أرياحٍ : فَالصَّبَا تُهَيِّجُهُ ، والشِّمَالُ تَجْمَعُهُ ، والجنوبُ تَذْرُّوهُ ، والدُّبُورُ تَصْرِفُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ } ؛ أي بالسَّحَاب ، وَقِيْلَ : بالبلدِ المِّيتِ الذي لا ماءَ فيه ولا كَلأَ ، يَنْزِلُ اللهُ به المطرَ ، { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ } ؛ أي فيخرجُ به ألْوَانَ ؛ { كَذالِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى } ؛ أي مِثْلَ ذلكَ الإخراجِ الذي ذكرناهُ في إحياءِ الأرض الميِّتة ، كَذلِكَ نُخْرجُ الْمَوْتَى من قُبُورهِمْ يومَ القيامةِ ، { لَعَلَّكُمْ } بما ينالُكم ، { تَذَكَّرُونَ } ؛ أي تَستَدِلُّونَ على توحيدِ الله وأنهُ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُور.
وقال ابنُ عبَّاس وأبُو هُرِيْرةَ : (إذا مَاتَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي النَّفْخَةِ الأُوْلَى ، مُطِرَتِ السَّمَاءُ أرْبَعِينَ يَوْماً قَبْلَ النَّفْخَةِ الأَخِيْرَةِ مِثْلَ مَنِيِّ الرِّجَألِ ، فَيَنْبتُونَ مِنْ قُبُورهِمْ مِنْ ذلِكَ الْمَطَرِ كَمَا يَنْبتُونَ فِي بُطُون أمَّهَاتِهِمْ ، وَكَمَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ مِنَ الْمَاءِ ، حَتَّى إذا اسْتُكْمِلَتْ أجْسَادُهُمْ نُفِخَ فِيْهَا الرُّوحَ ، ثُمَّ يُلْقِي عَلَيْهِمْ نوْمَةً فَيَنَامُونَ فِي قُبُورهِمْ ، فَإذا نُفِخَ فِي الصُّور النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ - وَهِيَ نَفْخَةُ الْبُوقِ - جَلَسُوا وَخَرَجُوا مِنْ قُبُورهِمْ ، وَهُمْ يَجِدُونَ طَعْمَ النَّوْمِ فِي رُؤُسِهِمْ ، كَمَا يَجِدُ النَّائِمُ إذا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَقُولُونَ : يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا. فَيُنَادِيْهِمْ : هَذا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمَرْسَلُونَ).
(0/0)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } ؛ يعني : إنَّ المكانَ الزَّاكِي من الأرضِ يخرجُ رَيْعُهُ بلا كَدٍّ ولا عناءٍ ولا مَشَقَّةٍ فينتفعُ بهِ ؛ { وَالَّذِي خَبُثَ } ؛ ترابهُ ؛ وهي الأرضُ السَّبْخَةُ ، { لاَ يَخْرُجُ } ؛ رَيْعُهَا ؛ { إِلاَّ نَكِداً } ؛ أي في كَدٍّ وعناءٍ. قال ابنُ عبَّاس : (هَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، فَإ ، َّ الْمُؤْمِنَ يَسْمَعُ الَمْوْعِظَةَ فَيَنْتَفِعُ بهَا ، وَيَنْفَعُهُ الْقُرْآنُ كَمَا يَنْفَعُ الْمَطَرُ الْبَلَدَ الطَّيِّبَ ، وَالْكَافِرُ لاَ يَسْمَعُ الْمَوْعِظَةَ وَلاَ يَعْمَلُ عَمَلاً مِنَ الطَّاعَةِ إلاَّ شَيْئاً يَسيْراً).
والنَّكِدُ في اللُّغَةِ : هُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي لاَ يُنْتَفَعُ بهِ. وَقِيْلَ : معنى قولهِ تعالى : { لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } أي عَسِيراً قليلاً بعناءٍ ومشقَّةٍ. وقرأ أبو جعفرٍ : (نَكَداً) بفتحِ الكافِ ؛ أي بالنَّكَدِ. وَقِيْلَ : هي لغةٌ في نَكَدٍ ، ويقرأ (نَكْد) بإسكانِها لغةٌ إيضاً ويقال : رجلٌ (نَكْداً) ؛ إذا كان عَسِراً مُمْتَنِعاً من إعطاءِ الحقِّ على وجه الْبُخْلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذالِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } ؛ أي كَمَا صَرَّفْنَا لكم آيةً في إثرِ آيةٍ ؛ هكذا نُبَيِّنُ الآياتِ ، { لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ } ؛ نِعَمَ الله تعالى ويعتبرونَ بآياتِه وأمثالهِ.
(0/0)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ } ؛ وهو نوحُ بن لَمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدْريْسُ. وكان نوحٌ نَجَّاراً بعثَهُ الله إلى قومهِ وهو ابنُ خمسين سنةً ، { فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ } ؛ أي وَحِّدُوهُ وأطيعوهُ ، ولا تعبدُوا معه غيرَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ } ؛ قرأ أبو جعفرٍ ويحيى بن وثَّابٍ والأعمشُ والكسائيُّ : (غَيْرِهِ) بالخفضِ نَعْتاً للإِله. وقرأ الباقون بالرفع على معنى : ما لكُمْ إلَهٌ غيرهُ. وَقِيْلَ : على نِيَّةِ التقديمِ وإن كان مؤخَّراً في اللظ ؛ تقديرهُ : مالكم غيرُ اللهِ من الهٍ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، معناهُ إنِّي أخَافُ عَلَيْكُمْ إنْ لم تُؤْمِنوا عَذابَ يَوْمِ القيامةِ. وقد يذكرُ الخوفُ ويراد به اليقينُ.
(0/0)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؛ أي قالَ الأشرافُ والرُّؤساءُ من قومهِ : إنَّا لَنَرَاكَ يا نوحُ فِي ذهابٍ من الحقِّ بيِّنٍ لنا لمخالفِتكَ.
(0/0)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـالَةٌ } ؛ أي ليس بي ذهابٌ عن الحقِّ فيما أدعُوكم إليهِ ، { وَلَاكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ } ، أي ولكِنْ أرسلَني ربُّ العالمين الذي يَمْلُكُ كلَّ شيءٍ. وإنَّما لم يقل : ليست بي ضلا لةٌ ؛ لأنَّ معنى الضلالةِ الضَّلالُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } ؛ أي أؤَدِّي إليكم ما حَمَّلَنِي اللهُ من الرِّسالةِ ، وإنَّما قال : { رِسَالاَتِ } لأن الرسالةَ تتضمَّنُ أشياءَ كثيرةً من الأمرِ والنَّهي ؛ والتَّرغيب والتَّرهيب ؛ والوَعْدِ والوعيدِ ، فَذُكِرَ تارةً بلفظٍ يدلُّ على الفعل ؛ وتارةً بلفظٍ يدلُّ على الوِحْدَانِ.
قرأ أبُو عمرٍو : (وَأَبْلِغُكُمْ) بالتخفيف في جميعِ القُرْآنِ كقولهِ تعالى : { أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي }[الأعراف : 79] ، و{ لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ }[الجن : 28]. وقرأ الباقونَ مشدَّداً كما قَالَ اللهُ تَعَالى : { يَـاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }[المائدة : 67].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنصَحُ لَكُمْ } أي أنْصَحُ لكم فيما أدعُوكم إليه وأحدِّرُكم منه. والنُّصْحُ : إخْرَاجُ الْغِشِّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، يقالُ : نَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ ؛ وَشَكَرْتُهُ وَِشَكَرْتُ لَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلمُ إنْ لم تَتُوبُوا من الشِّركِ أتاكم العذابُ.
(0/0)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنْكُمْ } الألِفُ في أوَّل هذه الآية ألِفُ استفهامٍ ، دخلَ على واو العطف على جهةِ الإنكار ، فَبَقِيَتِ الواوُ مفتوحةً كما كانت. ومعناها : أوَعَجِبْتُمْ أنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبكُمْ على آدَمِيٍّ منكم مِثْلِكُمْ تعرفونَ نَسَبَهُ فيكم ، { لِيُنذِرَكُمْ } ؛ أي لِيُعْلِمَكُمْ بموضعٍ الْمَخافَةِ ، { وَلِتَتَّقُواْ } ؛ الشِّرْكَ والمعاصي ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ؛ أي ولكي تُطِيْعُوا فتُرحَمُوا.
(0/0)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } ؛ أي فَكَذبُوا نوحاً فأنْجَيْنَاهُ من الطُّوفَانِ والمؤمنينَ الذين كانوا معهُ في السَّفينةِ ، وكانوا نَحْواً من ثمانين إنساناً - كذا قال الكَلبيُّ - أربعينَ رَجُلاً وأربعينَ أمرأةً. وَقِيلَ : سَامُ وَحَامُ وَيَافِثُ وَأزْوَاجُهُمْ ، وستّةُ أناسٍ غيرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } ؛ أي بدَلائِلنَا وآياتنا كمَا ؛ { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } ؛ أي قَدْ عَمَوْا عنِ الحقِّ والإِيْمانِ. وواحدُ الـ (عَمِينَ) : عَمِ ؛ وهو الذي قد عَمِيَ عن الحقِّ. وَقِيْلَ : معناه : أنَّهم كانوا قَوْماً جَاهِلِيْنَ لأمرِ الله. وَقِيْلَ (كُفَّاراً). وَقِيْلَ : عَمِينَ عن نُزُولِ الغَرَقِ بهم.
(0/0)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } ؛ أي وَأرْسَلْنَا إلى عَادٍ ؛ وهم قومٌ من أهل اليَمَنِ ، وكان اسمُ مَلِكِهِم عَاداً ، فنُسبوا إليه ، وهو عَادُ بنُ عَوَصِ بْنِ إرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نَوحٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَخَاهُمْ هُوداً } أي أخُوهُمْ في النَّسَب لا في الدِّيْنِ ، وهو هُوَدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَبَاحِ بْنِ الْجَارُودِ بْنِ عَوَص بْنِ إرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَقِيْلَ : هو هودُ بن شالخ بن أرفخشد بن سَامَ بن نُوحٍ. وإنَّما أرسلَ اللهُ إليهم منهم ؛ لأنَّهم لَهُ أفْهَمُ وَإليه أسْكَنُ. { قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؛ الآية ظاهرةُ المعنى.
(0/0)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ } ؛ أي قالَ الأشرافُ والرُّؤساءُ الذين كَفَرُوا منهم : إنَّا لَنَرَاكَ فِي جَهَالَةٍ. والسَّفَاهَة في اللغة : خِفَّةُ الْحُلْم وَالرَّأيِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ؛ يعني إنَّهم كَذبُوهُ في دعوَى الرسالةِ ونزول العذاب بهم ، { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } ؛ أي لبسَ بي جهالةٌ ، { وَلَاكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ إليكم فيما يَأْمُرُكم به من عبادتهِ وتوحيده. وفي الآيةِ موضعُ أدَبٍ لِخُلُقٍ وَتَعَلُّمٍ مِنَ اللهِ حُسْنُ جَوَاب السُّفَهَاءِ ؛ لأنَّ هُوداً عليه السلام اقْتَصَرَ عَلَى دَفْعِ مَا نَسَبُوهُ إلَيْهِ بنَفْيِ مَا قَالُوهُ فَقَطْ ، وَلَمْ يُقَابلْهُمْ بشَيْءٍ مِنَ الْكَلاَمِ الْقَبيْحِ ، وكذلكَ فَعَلَهُ نُوحُ عليه السلام ؛ فقال : لَيْسَ بي ضَلاَلَةٌ.
(0/0)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } ؛ على التوبةِ. وقولهِ { نَاصِحٌ } أي أدعوكم إلى التَّوبةِ ، وقد كنتُ فيكم قَبْلَ اليومِ أمِيْناً ، فكيفَ تَتَّهِمُونَنِي اليومَ.
(0/0)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } ؛ قد تقدَّم تفسيرُه. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } ؛ أي وَاذْكُرُوا هذه النِّعمةَ العظيمةَ بأن أوْرَثَكُمُ الأرضَ بعدَ هلاكِ قوم نُوحٍ.
والْخُلَفَاءُ : جَمْعُ الْخَلِيْفَةِ على غيرِ لفظ الوِحْدَانِ ؛ لأن لَفْظَهُ يقتضي أن يُجمعَ على خَلاَئِفَ كما يقالُ : صَحِيْفَةٌ وَصَحَائِفُ إلاَّ أنه مثل ظَرِيْفٌ وظُرَفَاءُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً } ؛ أي فضيلةً في الطُّولِ ، قال ابنُ عبَّاس : (أطْوَلُهُمْ مِائَةُ ذِرَاعٍ ، وأَقْصَرُهُمْ سُتُّونَ ذِرَاعاً). وقال وَهَبُ : (كَانَ رَأسُ أحَدِهِمْ كَالْقُبَّةِ الْعَظِيْمةِ ، وَكَانَ عَيْنُ أحَدِهِمْ يُفَرِّخُ فِيْهَا السِّبَاعُ وَكَذلِكَ مَنَاخِرُهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ } ؛ أي نِعَمَ اللهِ عليكم واعملوا بما تقتضيهِ نِعَمُهُ ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ؛ أي لِتَظْفَرُوا بالنَّجاةِ والبقاء.
(0/0)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } ؛ أي قالوا : يَا هُودُ ؛ أتَأْمُرُنَا أن نَعْبُدَ رَبّّاً واحداً ، ونَتْرُكَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا من الآلِهَةِ ، فقال لَهم : إنْ لم تفعلُوا ما آمرُكم به أتاكمُ العذابُ ، قالوا : { إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ أي تُخوِّفًُنَا من العذاب ، { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } ؛ أنَّكَ رسولٌ من عندِ الله.
(0/0)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } ؛ أي قد وَجَبَ عليكم من رَبكُمْ عذابٌ وسَخَطٌ وَالرِّجْسُ وَالرِّجْزُ بمعنى واحدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَآءٍ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ } ؛ أي تُخَاصِمُونَنِي في آلِهَتكُم وأنتم صنعتُموها بأيديكم ، { مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } ؛ أي في عبادتِها ، { فَانْتَظِرُواْ } ؛ حُصولَ العذاب بكم ، { إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُنْتَظِرِينَ } ؛ أنْ يُهْلِكَكُمُ اللهُ بعذابٍ مِن عندهِ.
(0/0)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
قولهُ عَزَّ وَجَلَّ : { فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } ؛ أي خَلَّصْنَاهُ من العذاب والذينَ معه بنِعْمَةٍ منَّا عليهم ؛ وأمَرْناهُم بالخروجِ من بَيْنَ الكُفَّار قبلَ إنزالِ العذاب عليهم ؛ { وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي اسْتَأْصَلْنَاهُمْ بالريِّحِ الْعَقِيْمِ ، فما بَقِيَ منهم أحدٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } أي ما أهْلَكَهُمُ اللهُ إلاَّ وكان في عِلْمِهِ أنهُ لو لم يُهْلِكْهُمْ ما كانوا مؤمنينَ.
فصلٌ : وكانت قصة عاد وإهلاكهم على ما ذكره السُّدِّيُّ وغيره من المفسرين : (أنَّ عَاداً كانَ مساكنُهم اليمنَ ، وكان مساكنُهم الأسَاف ؛ وهي رمالٌ يقال لَها : رَمْلُ عَالِجٍ وَدَهْمَانَ وَنِيْرَانَ ، ما بين عُمَانَ إلى حَضْرَمَوْتَ ، وكانوا قد فَشَوا في الأرضضِ. وقَهَرُوا أهلَها بقوَّتِهم التي أعطاهُم اللهُ إيَّاها ، وكانوا يعدبونَ الأوثانَ.
فَبَعَثَ اللهُ إليهم هُوداً نَبيّاً عليه السلام مِن أوسَطِهم في النَّسَب ، وأفضَلِهم في الْحَسَب ، فأمَرَهم أن يُوَحِّدُوا اللهَ ولا يعبدُوا غيرَهُ ، وأن يَكُفُّوا عن ظُلْمِ الناسِ ، فَأَبُوا عليهِ وكَذبُوهُ وقالوا : مَنْ أشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟! وتَجَبَّروا في الأرضِ وبَطَشُوا بَطْشَةَ الجبَّارينَ ، فلما فَعَلُوا ذلك أمْسَكَ اللهُ عنهمُ الْمَطَرَ ثلاَثَ سنين حتى جَهِدَهُمْ ذلك.
وكان الناسُ في ذلكَ الزَّمَانِ إذا أنْزِلَ بهم بَلاَاءٌ وَجَهَدٌ مَضَوا إلى البيتِ الحرام بمَكَّةَ مُسْلِمُهُمْ وكافِرُهم وسألُوا الله الْفَرَجَ ، وكلُّ الناس مُسْلِمُهُمْ وكافِرُهم مُعَظّماً لِمَكَّةَ حَرَسَهَا اللهُ ، عَارفاً بحُرْمَتِهَا. وكان أهلُ مكَّةَ يومئذ الْعَمَالِيْقَ ، أبوهُم عِمْلِيْقُ بْنُ لاَودِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ ، وكان رئيسُ العماليقِ يومئذٍ بمكة رَجُلاً يقال لهُ : مُعَاويَةُ بْنُ بَكْرٍ ، وكانت أمُّهُ من عَادٍ.
فلمَّا قُحِطَ المطرُ من عَادٍ وجَهِدُوا ؛ قالوا : جَهِّزُوا منكم وَفْداً إلى مَكَّةَ يَسْتَسْقِي ، فَبَعَثُوا قِيلَ بن عنز ، ولُقَيمَ بن عزال في سبعينَ رَجُلاً ، فلما قَدِمُوا مكةَ نزلوا على مُعَاويَةَ بنِ بكرٍ وهو في خارج مكَّةَ ، فأنزلَهم وأكرمَهم ، وكانوُا أخوالَهُ وأصهارَهُ ، فأقامُوا عندَهُ شَهْراً يشربونَ الْخَمْرَ وتغنِّيهم الْجَرَادَتَانِ ؛ وهما قَينَتان لمعاويةَ.
فلما رأى طُولُ مقامِهم وقد بعثَهُم قومُهم يتَغَوَّثُونَ من البَلاَءِ الذي أصابهم ؛ شُقَّ ذلك عليهِ فقال : إخْوَاني وأصْهَاري وهؤلاءِ مقيمونَ عندِي وهم ضَيْفِي ، واللهِ لا أدري ما أصنعُ بهم ، أسْتَحِي أن آمُرَهم بالخروجِ إلى حاجحتهم ، فَيَظُنُّونَ أن ذلك لضيق مكانِهم عنده ، وقد هَلَكَ قومُهم من وارئهم جَهْداً وعَطَشاً ، فَشَكا ذلكَ إلى قِينَتَيْهِ الجرادتين ؟ فقالتَا : قُلْ شِعْراً لِنُغَّنِّيْهِمْ بهِ لا يدرونَ مَن قالَهُ ، لعلَّ ذلك يُخْرِجُهم. فقالَ : معاويةُ : ألا يا قِيْلَ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنَمْ لَعَلَّ اللهَ يَسْقِيْنَا غَمَامَافَيَسْقِي أرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً قَدْ أمْسوا لاَ يَبينُونَ الْكَلاَمَامِنْ الْعَطَشِ الشَّدِيْدِ فَلَيْسَ نَرْجُو بهِ الشِّيْخَ الْكَبيْرَ وَلاَ الْغُلاَمَاوَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمْ بخَيْرٍ فَقَدْ أمْسَتْ نِسَاؤُهُمْ أيَامَىوأَنْتُمْ هَا هُنَا فِيْمَا اشْتَهَيْتُمْ نَهَارَكُمْ وَلَيْلَكُمْ التَّمَامَافَقُبحَ وََفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ وَلاَ لُقُوا التِّحِيَّةَ والسَّلاَمَا
(0/0)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ } ؛ أي وأرسلنَا إلَى ثَمُودَ أخَاهُمْ صَالِحاً في النَّسَب. وثََمُودُ : اسْمٌ لِلْقَبِيْلَةِ ؛ سُمُّوا بهذا الاسمِ لأنَّهم كانوا على عَيْنٍِ قليلةِ الماء ، وموضعُهم بالْحِجْرِ بين الشَّامِ والمدينَةِ ، والثَّمْدُ : الماءُ القليلُ. وثَمُودُ في كتاب الله مصروفٌ وغيرُ مصروفٍ ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ }[هود : 68] فَصَرَفَ الأوَّل دونَ الثانِي ، فمَن صَرَفَهُ جعلَهُ اسْماً للحَيِّ ؛ فيكونُ مُذكَّراً سُمِّيَ به مذكَّرٌ ، ومَن لم يَصْرِفْهُ جعله اسْماً للقبيلةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي دلالةٌ فاصِلَةٌ بينَ الحقِّ والباطلِ من ربكم. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { هَـاذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } ؛ إشارةٌ إلى نَاقَةٍ بعَيْنِها. قال ابنُ عبَّاس : (أتَاهُمْ صَالِحُ عليه السلام بنَاقَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ الْمَلْسَاءَ بمَسْأَلَتِهِمْ ، فَتَحَرَّكَتِ الصَّخْرَةُ بدُعَائِهِ ، فَانْصَدَعَتْ عَنْ نَاقَةٍ عَشْرَاءَ ، فَلَمْ يُؤْمِنُواْ). وفي بعضِ الرِّواياتِ : أخرجَ اللهُ من الصخرةِ ناقةً ، خَلْفَهَا سَقْبُهَا الَّذِي وَلَدَتْهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَكُمْ آيَةً } أي علامةٌ لِنُبُوَّتِي ، فتعتبرُوا وتوحِّدُوا ربَّكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ } ؛ أي دعُوها تَرْتَعُ في أرضِ الْحِجْرِ من العُشْب ، { وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } ؛ أي بقَتْلٍ أو ضَرْبٍ أو مكروهٍ ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ؛ أي مؤْلِمٍ إنْ فعلتُم ذلك.
(0/0)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ } أي وَاذْكُرُوا إذِ استخلفَكم في الأرضِ من بعدِ هلاك عَادٍ ، { وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً } ؛ أي وَأَنْزَلَكُمْ في الأرضِ الْحِجْرَ تَبْنُونَ في سُهولها قصوراً في العَيصِ ، { وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً } ؛ في طُولِ الشِّتَاءِ. وَقِيْلَ : إنَّهم لِطُولِ أعمارِهم كانوا يحتاجون أن يَنْحِتُوا مِن الجبال ؛ لأن السُّقُوفَ والأبنيةََ كانت تَبْلَى قبل فَنَاءِ أعمارِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاذْكُرُواْ آلآءَ اللَّهِ } ؛ أي احفظُوا نِعَمَ اللهِ عليكم ، { وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ؛ أي ولا تَعْمَلُوا في الأرضِ بالمعاصي والدُّعَاءِ إلى غيرِ عبادةِ الله تعالى.
(0/0)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ } ؛ أي قال الأشرافُ الرُّؤساءُ منهم الذينَ تَعَظَّمُوا عن الإيْمان به { لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ } لِلَّذينَ اسْتُضْعِفُوا مِنَ المؤمنين : أتعْلَمُونَ أنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ إليكم مِنْ رَبِهِ؟
وفي هذا ذمٌّ للكفارينَ من وجهين ؛ أحدُهما : الاسْتِكْبَارُ ؛ وهو رفعُ النَّفْسِ فوقَ قَدْرِهَا وجُحُودُ الحقِّ. و الآخرُ : أنَّهم اسَْضْعَفُوا مَن كان يَجِبُ أنْ يُعَظِّمُوهُ وَيُبَجِّلُوهُ. وفي ؛ { قَالُواْ } ؛ أي قَوْلُ قومِ صالحٍ : { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } ؛ مَدْحٌ لَهم حيث ثَبَتُوا على الحقِّ ، وأظهروهُ مع ضَعْفِهِمْ من مقاومةِ الكفَّار.
(0/0)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ؛ أي قال رؤساؤُهم الذين تعَظَّمُوا عن الإيْمان بصالحٍ عليه السلام : إنَّا بالَّذِي صَدَّقْتُمْ بهِ من رسالتهِ جَاحِدُونَ.
(0/0)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } ؛ معناه : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ التي جعل الله لَهم آيةً ودلالةً على نُبُوَّةِ نَبيِّهِمْ ، وقد كان صالحُ عليه السلام قال لَهم : (هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أرْضِ اللهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بسُوءٍ). وإنَّما أضافَها إلى اللهِ على التَّخْصِيْصِ والتَّّفْصِيْلِ ، كما يقالُ : بَيْتُ اللهِ.
وَقِيْلَ : أُضيفت إلى اللهِ بأنَّها كانت بالتَّكْوِيْنِ من غير اجتماعِ ذكَرٍ وأُنْثَى ولم تَكُنْ في صُلْبٍ ولا رَحِمٍ ، ولم لِلْخَلْقِ فيها سَعْيٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى : (آيَةً) نُصِبَ على الحال. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ } أي تَجَاوَزُوا الْحَدَّ في الكفرِ والفساد. { وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } ؛ بهِ من العذاب على قَتْلِ النَّاقَةِ ، { إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }.
(0/0)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ؛ أي أخذتْهم الزَّلْزَلَةُ ثُمَّ صَيْحَةُ جِبْرِيْلَ عليه السلام كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ }[فصلت : 17]. والصَّاعِقَةُ : هِيَ الاحْتِرَاقُ ؛ أي احْتَرَقُوا ، { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ؛ أي مَيْتِيْنَ قد هَمَدُوا رَمَاداً جُثُوماً. والْجُثُومُ : الْبُرُوكُ عَلَى الرُّكَب. وَقِيْلَ : معنى الصَّيْحةِ والصاعقةِ واحدٌ ، فإن الصاعقةَ اسمٌ لما يُصْعَقُونَ بهِ ؛ أي يَموتُونَ.
(0/0)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } ؛ معناه : فأعرضَ صالحُ عنهم حين عَقَرُوا الناقَةَ ، وعرفَ أنَّ العذابَ يأتيهم وقال : يَا قَوْمِ لَقَدْ أبْلَغْتُكُمْ رسَالَةَ رَبي وَنَصَحْتُ لَكُمْ في أداءِ الرِّسالةِ إليكُم ، { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ } ؛ أي مَنْ يَنْصَحُ لَكُمْ.
قال ابنُ عبَّاس : (فَخَرَجَ صَالِحُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ ؛ وَهُمْ مِائَةٌ وَعَشْرَةٌ ؛ حَـَّى إذا فَصَلَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَهُوَ يَبْكِي ، الْتَفَتَ خَلْفَهُ فَرَأى الدُّخَانَ سَاطِعاً ، فَعَرَفَ أنَّ الْقَوْمَ قَدْ هَلَكُواْ ، وَكَانَ عَدَدُهُمْ ألْفاً وَخَمْسَمِائَةٍ. فَلَمَّا هَلَكُوا رَجَعَ صَالِحُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ ، فَسَكَنُوا دِيَارَهُمْ حَتَّى تَوَالَدُوا وَمَاتُوا فِيْهَا).
فإن قِيْلَ : قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ } عطفٌ على قوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }[الأعراف : 78] ؛ فكيف تكونُ الصَّيْحَةُ بعد هلاكِهم ؟ قِيْلَ : إنَّ الفاءَ في قوله : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ } للتَّعْقِيْب والإخبار لا لِتَرَادُفِ الحالِ ، وهذا راجعٌ إلى حالِ عَقْرِهِمْ الناقةَ ، لكنَّ الله ساقَ القِصَّةَ في أمرِهم إلى آخرها ، ثم عَطَفَ على ذلكَ ما فعلَهُ صالِحُ للكشفِ عن عُذْرهِ في مسألةِ إنزال العذاب بهم بعدَ كَثْرَةِ نُصْحِهِ لَهم وإصرارهم على فعلهم. وجوابُ إخوانهِ لا يَمْنعُ أنَّ صالِحاً قالَ هذا القولَ بعد هلاكِ القومِ لِيَعْتَبرَ بذلكَ مَن كانَ معهُ من المؤمنينَ.
فَصْلٌ : وقصَّتُهم ما حكاهُ السُّدِّيُّ وغيرهُ : (أنَّ عاداً لَمَّا هلكت عَمَّرَتْ ثَمُودُ بعدَها ، واستُخْلِفُوا في الأرضِ ، فَنَزلُوا فيها وكَثُرُوا ، وكانوا في سَعَةٍ من عيشِهم ، فَعَتَوا على اللهِ ، وأفسَدُوا في الأرضِ وعَبَدُوا غيرَ اللهِ ، فبعثَ اللهُ إليهم صالِحاً من أوْسَطِهِمْ نَسَبً ، فدعاهُم إلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حتى شَمَطَ وَكَبرَ ولا يَتْبَعُهُ منهم إلا قليلٌ مستضعفونَ.
فلما ألَحَّ عليهم في الدُّعاء والتَّخويفِ سألوه أنْ يُرِيَهُمْ آيةً تكونُ مِصْدَاقاً لقولهِ ، فقال لَهم : أيُّ آيةٍ تريدون ؟ فأشارُوا له إلى صخرةٍ منفردة من ناحية الْحِجْرِ ، وقالوا لهُ : أخْرِجْ لنا من هذه الصَّخْرةِ ناقةً جَوْفَاءَ عَشْرَاءَ ، فإنْ فَعَلْتَ آمَنَّا بكَ وصدَّقناكَ.
فأخذ عليهم صالِحُ عليه السلام المواثيقَ ، فَفَعَلُوا ، فصلَّى رَكعتين ودَعَا رَبَّهُ ، فَتَمَخَّضَتِ الصخرةُ تَمَخُّضَ النَّتُوجِ بولدِها ، ثم تَحَرَّكَتْ وانصدعَتْ عن ناقةِ عَشْرَاءَ جَوْفَاءَ ، كما وَصَفُوا وهم ينظرون ، ثم نَتَجَتْ سقياءَ مِثْلَهَا في الْعِظَمِ ، فلمَّا خرجت الناقةُ قال لَهم صالِحُ : هذه ناقةٌ لها شِرْبٌ ولكم شِرْبٌ يَوْمٍ معلومٍ.
فمكثَتِ الناقةُ ومعها سَقبُها في أرضِ ثمود ترعَى الشَّجَرَ وتشربُ الماءَ ، فكانت تَرِدُ الماءَ غِبّاً ، فإذا كان يومُها وضعت رأسَها في بئرٍ يقال لها بئْرُ النَّاقَةِ ، فما ترفعُها حتى قد شَرِبَتْ كلَّ ما فيها ، لا تدعُ قطرةً واحدة ، ثم ترفعُ رأسَها فَتَنْفَشِجُ كما تَنْفَحِجُ لَهم ، فيحلبونَ ما شاءُوا من لَبَنِهَا ، فيشربون ويدَّخِرُون ، ويَمْلأُونَ آنِيَتَهُمْ كلَّها ، ثم تصدرُ من على الفَجِّ الذي وردت منه ؛ لأنَّها لا تعد أن تصدرَ من ماءٍ تردُ لضيقة.
(0/0)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } ؛ معناه : وأرْسَلْنَا لُوطاً إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ : أتَأْتُونَ السَّيِّئَةَ ؛ وهي إتيانُ الذُّكُور في الأدْبَار. والفَاحِشَةُ : السَّيِّئَةُ الْعَظِيْمَةُ الْقُبْحِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ } أي لم يفعَلْها أحدُ قبلَكم.
قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا : (أوَّلُ مَا عَمِلُوا عَمَلَهُمُ الْخَبيْثَ أنْ خَصِبَتْ بلاَدُهُمْ فَانْتَجَعَهَا أهْلُ الْبُلْدَانِ ، فَتَمثَّلَ لَهُمْ إبْلِيْسُ فِي صُورَةِ شَابٍّ ، ثُمَّ دَعَا إلَى دُبُرِهِ فَنُكِحَ ، فَعَبثُوا بذلِكَ الْعَمَلِ زَمَاناً ، فلَمَّا كَثُرَ فِيْهِمْ عَجَّتِ الأَرْضُ إلَى رَبهَا ، فَسَمِعَتِ السَّمَاءُ فَعَجَّتْ إلَى رَبهَا ، فَسَمِعَ الْعَرْشُ فَعَجَّ إلَى رَبِهِ ، فَأَمَرَ اللهُ السَّمَاءَ أنْ تَحصِبَهُمْ ، وَالأَرْضَ أنْ تَخْسِفَ بهِمْ).
(0/0)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ } ؛ أي إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ في أدبارهم شَهْوَةً ، وتتركون إتْيَانَ النِّسَاءِ التي أبَاحَ اللهٌُ لكم ، { بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } ؛ أي مُـتَجَاوِزُونَ عن الحلالِ إلى الحرام.
(0/0)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ } أي مَا كَانَ جَوَابُهم إذ قَالُوا لَهم ذلك ، إلا أنْ قَالُوا ؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ : أخْرِجُوا لُوطاً ومَن آمَنَ معهُ مِنْ بلدِكم ، { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي يَتَنَزَّهُونَ عن فِعْلِنَا وثُقَذِّرُونَنَا. والعربُ تُسَمِّي المدينةَ قريةً.
(0/0)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ } ؛ أي خَلَّصْنَاهُ وابْنَتَيْهِ زعوراء وريئياء. وأهلُ الرَّجُلِ : هم الْمُخْتَصُونَ به اختصاصَ القرابةِ ، وقَوْلُهُ : { إِلاَّ امْرَأَتَهُ } أي إلاَّ زَوْجتَهُ كانت على دينِهم ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } ؛ أي مِن الباقينَ في الْغَبْرَاءِ ؛ غَبَرَتْ فِيْمَنْ غَبَرَ. ومعناهُ : بقيت في العذاب ولم تذهَبْ معهُ ، فهلكَتْ مع القومِ فيمَن هلكُوا.
(0/0)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (أُمْطِرَتِ الْحِجَارَةُ عَلَى مُسَافِرِهِمْ وَعَلَى الَّذِيْنَ لَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ بالْمَدِينَةِ حَتَّى هَلَكُواْ ، فَأَمَّا الْمَدِيْنَةُ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَالِيَهَا سَافِلَهَا). ويقالُ : أُمْطِرُوا أوَّلاً بالحجارةِ ، ثم خُسِفَتْ بهم الأرضُ.
وأما الأَلِفُ في قولهِ : { وَأَمْطَرْنَا } ؛ قال بعضُهم : يقالُ لكلِّ شيءٍ من العذاب : أمْطَرَتْ بالألفِ ؛ وللرَّحمةِ : مَطَرَتْ. وقالَ بعضُهم : أمْطَرَتْ وَمَطَرَتْ بمعنى واحدٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي فَانْظُرْ مَن معَكَ في آخرِ أمرِ الكفارين المكذِّبين كيفَ فَعَلْنَا بهم.
(0/0)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـاهٍ غَيْرُهُ } ؛ معناهُ : ولقد أرسلنا إلَى مَدْيَنَ أخَاهُمْ شُعَيْباً. قال الضَّحاك : (كَانَ شُعَيْبٌ أفْضَلَهُمْ نَسَباً ؛ وَأصْدَقَهُمْ حَدِيْثاً ؛ وَأحْسَنَهُمْ وَجْهاً) يقال : إنهُ بَكَى من خِشْيَةِ اللهِ حتى ذهبَ بصرهُ وصار أعمَى. وأما مَدْيَنَ ؛ فإنه مَدْيَنُ بنُ إبراهيمَ خليلُ اللهِ ، تزوَّجَ رئْيَاءَ بنتِ لُوطٍ ؛ فولدَتْ لهُ وكَثُرَ نسلهُ ، فصارَت مَدْيَنَ مدينتُهم أو قبيلتُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي برهانٌ ودلالة من ربكم على نُبُوَّتِي ، { فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ } ، أي أدُّوا حقوقَ الناسِ بالمكيال والميزانِ على التَّمامِ ، { وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ } ؛ أي ولاَ تَنْقُصُوا شيئاً من حُقُوقِهِمْ ، { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } أي لا تَعْلُوا فيه بالمعاصِي بعدَ إصلاحِ الله إيَّاهُا بالْمَحَاسِنِ.
وَقِيْلَ : معناهُ : لا تَظْلِمُوا الناسَ في الأرضِ بعدَ أنْ مَنَّ اللهُ فيها بالعَدْلِ ، { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ أي إيفاءُ الحقوقِ وتركُ الفسادِ في الأرضِ خيرٌ لكم ، { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ؛ أي مُصَدِّقِيْنَ باللهِ ورسُولهِ. وقد كانَ لشعيبٍ عليه السلام آيةٌ تَدُلُّ على نُبُوَّتِهِ ، كما قالَ تعالى : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } إلا أنَّها لم تُذْكَرْ في القُرْآنِ كما أنَّ أكثرَ معجزاتِ نَبيِّنَا صلى الله عليه وسلم " لَيْسَتْ " مذكورةً في القُرْآنِ.
(0/0)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ } ؛ أي لاَ تَقْعُدُوا على طريقٍ تُخَوِّفُونَ وتَصْرِفُونَ عن دينِ اللهِ وطاعته مَنْ آمَنَ باللهِ ، وذلك أنُّهم كانوا يُخَوِّفُونَ بالقَتْلِ كلَّ من قصدَ شُعَيْباً بالإيْمان به. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } ؛ أي تطلبونَ بها غَيْراً وزَيْغاً وعُدُولاً عنِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } ؛ أي احفظُوا نِعَمَ اللهِ عليكم إذْ كُنتُمْ قَلِيلاً في العَدَدِ { فَكَثَّرَكُمْ } فَكَثَّرَ عددكم ، ويقال : معنى { فَكَثَّرَكُمْ } : جعلكم أغنياءَ ذوِي قدرةٍ بعد أن كنتم ضعفاءَ فقراءَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ؛ أي تَفَكَّرُوا كيفَ كان آخرُ أمرِ مَن كان قبلَكم من الكفَّار في إهلاكِ اللهِ تعالى لَهم ، وإنزالِ العذاب بهم ، فَتَحْذرُوا من سلوكِ مسالِكهم.
(0/0)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } ؛ معناه : وَإنْ كَانَ جماعة مِنْكُمْ صدَّقُوا بالَّذِي أُرْسِلْتُ بهِ ، وجماعة لَمْ يصدِّقُوا ، { فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } ؛ أي حتَّى يقضيَ اللهُ بين المؤمنينَ والكافرين ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } ؛ وهو أعْدَلُ القَاضِيْنَ ؛ سيجزِي كلَّ واحدٍ من الفريقين ما يَسْتَحِقُّهُ على عملهِ في الدنيا والآخرة. فقضَى اللهُ بهلاكِ قوم شعُيبٍ.
(0/0)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } ؛ أي قَلَ الَّذِينَ تَعَظَّمُوا عن الإيْمانِ به : لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أوْ لترجعنَّ إلى دِيننا ، ولا ندعُكم في أرضِنا على مُخالفتِنا. { قَالَ } ؛ شُعَيْبُ : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } ؛ معناه : أتُعُِيْدُنَنَا في ملَّتِكم وتجبرُونَنا على ذلك وإنْ كرِهْنا.
فإن قِيْلَ : كيفَ قالُوا لشعيبٍ : { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } وشعيبُ عليه السلام لم يكن في مِلَّتِهمٍ قَطْ ؛ لأنَّ الأنبيَاءَ عَلَيْهمُ السَّلاَمُ لا يجوزُ عليهم الكفرُ في حالٍ من الأحوال ؟ قِيْلَ : يجوزُ أن يكون المرادُ بهذا الخطاب قومهُ الذين كانوا على ملَّتهم ؛ فأَدخَلوهُ معهم في الخطاب. ويحتملُ أنَّهم توهَّمُوا أنَّ شُعيباً كان على ملَّتهم ؛ لأنَّهم لم يَرَوا منهُ المخالفةَ لَهم إلاَّ في وقتِ ما دعاهُم إلى نُبُوَّتِهِ.
(0/0)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا } ؛ أي قَدِ اختلَقْنَا عَلَى اللهِ الكَذِبَ فيما دعوناكم إليه إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إذْ خلَّصَنا اللهُ مِنْهَا بالدلالة على بطلانِها وتبيين الحقِّ لنا وقبولنا لهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّنَا } ؛ قال بعضُهم : معناهُ : ما نعودُ فيها إلاَّ أن يكون في عِلْمِ اللهِ ومشيئته أن نعودَ فيها.
وقال بعضُهم : معناهُ : إلاَّ أن يشاءَ اللهُ أن نُكْرَهَ عليها بالقتلِ ، فَنُظْهِرُ كلمةَ الكفرِ مع طمأنينة القلب بالإيْمان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } ؛ أي أحاطَ رَبُّنَا بكلِّ شيءٍ عِلْمُهُ ، فهو يعلمُ ما هو أصلحُ لنا فيتعبَّدُنا به ، وهو يعلمُ بأنَّا هل نَدخلُ في مِلَّتِكُمْ أو لا ندخلُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } ؛ أي به وَثِقْنَا في الانتصارِ عليكُم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } ؛ أي اقضِ بينَنا وبينهم بما يدلُّ على أنَّا على الحقِّ وهم على الباطلِ ، { وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } ؛ والفَاتِحُ هنا : الْحَاكِمُ بلُغة أهلِ عُمَان ؛ يسمَّى فاتِحاً ؛ لأنه يفتحُ المشكلاتِ ويَفْصِلُ الأمورَ. ويجوز أن يكون معنى الفَتْحِ : أظْهِرْ أمْرَنا بإهلاكِ العدُوِّ حتى ينفتِحَ ما بينَنا وبينهم ؛ أي يظهرُ ويكشفُ.
(0/0)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } ؛ معناه : قَالَ الأشراف الَّذِينَ كَذبُوا شعيباً : لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا فيما دعاكُم إليه إنَّكُمْ إذًا بمَنْزِلَةِ مَن ذهَبَ رأسُ مالهِ لإفنائِكم العُمْرَ في تَرْكِ الشَّهواتِ ، فتكونون مُغْبُونِِيْنَ جاهلينَ.
(0/0)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
قَوْلُهَ تَعَالَى : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ؛ أي الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدةُ. وقال ابنُ عبَّاسٍ : (رَجَفَتْ بهِمُ الأَرْضُ وَأَصَابَهُمْ حَرٌّ شَدِيْدٌ ، وَرُفِعَتْ لَهْمْ سَحَابَةٌ ، فَخَرَجُواْ إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الرَّوْحَ مِنْهَا ، فَلَمَّا كَانُوا تَحْتَهَا سَالَتْ عَلَيْهِمْ بالْعَذاب وَمَعَهُ صَيْحَةُ جِبْرِيْلَ عليه السلام. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ؛ أي بقُرْب دارِهم تحتَ الظُّلَّةِ كما قالَ تعالى : { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }[الشعراء : 189] وَقًوْلُهُ تَعَالَى : { جَاثِمِينَ } أي مَيِّتِيْنَ على وُجُوهِهِم ورُكَبهم. وروي : أنَّهم احترقُوا تحتَ السَّحابةِ ، فصاروا مَيِّتِيْنَ بمنْزلةِ الرَّمَادِ الْجَاثِمِ أجْسَامٍ مُلْقَاةٍ عَلَى الأَرْضِ.
قال ابنُ عبَّاس : (فَـتَحَ اللهُ عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ جَهَنَّمَ ، فأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ حَرّاً شَدِيْداً ، فَأَخَذ بأَنْفَاسِهِمْ فَدَخلُوا جَوْفَ الْبُيُوتِ ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَاءٌ وَلاَ ظِلٌّ ، فَأَنْضَجَهُمُ الْحَرُّ ، فَبَعَثَ اللهُ سَحَابَةً فِيْهَا ريْحٌ طَيِّبَةٌ. فَوَجَدُوا بَرْدَ الرِّيْحِ وَطِيْبَها وَظِلِّ السَّحَابَةِ ، فَتَنَادُواْ : عَلَيْكُمْ بهَا ؛ فَخَرَجُوا نَحْوَهَا ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَحْتَهَا رجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ ؛ ألْهَبَهَا اللهُ نَاراً عَلَيْهمْ ، وَرَجَفَتْ بهمُ الأَرْضُ ؛ فَأُحْرِقُوا كَمَا يَحْتَرِقُ الْجَرَادُ الْمَقْتُولُ وَصَارُوا رَمَاداً ، وَهُوَ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ).
(0/0)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } ؛ يقولُ اللهُ تعالى : الَّذِينَ كَذبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَنْزِلُوا في دارهم. ويقالُ معنى { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } كأنْ لَم يقيموا فيها مقامَ المستغنِي. ويقالُ : معناه : كأن لم يَعِيْشُوا ولم يكونُوا. قال الأصمَعِيُّ : (الْمَغْنَى : الْمَنْزِلُ ؛ وَالمَنَازلُ الَّتِي كَانُوا فِيْهَا ، يُقَالُ : غَنَيْنَا بمَكَانِ كَذَا ؛ أيْ نَزَلْنَا فِيْهِ).
وَقًوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ } ؛ فيه بيانُ أنَّ الْخُسْرَانَ حَلَّ بهم دونَ المؤمنين ، وإنَّما أعادَ ذكرَ { الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً } للتَّغليظِ عليهِم.
(0/0)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؛ معناهُ : فلمَّا رأى العذابَ مُقْبلاً عليهم أعْرَضَ عَنْهُمْ بعدَ الإيَاسِ منهُم ، وخَرَجَ من بين أظْهُرِهِمْ. وقولهُ : { فَكَيْفَ ءَاسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } أي كيف يَشْتَدُّ جَزَعِي على قَوْمٍ كافرين حَلَّ بهم العذابُ باستحقاقِهم لهُ بعد أن نصحتُهم فلم يقبَلُوا. والأسَىَ : الْحُزْنُ ؛ وَالأَسَى : الصَّبْرُ.
(0/0)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } ؛ أي وَمَا أرْسَلْنَا فِي مدينةٍ مِنْ رسولٍ فكذبوا إلاَّ عَاقَبْنا أهْلَهَا بالْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ. فالبَأْسَاءُ : مَا نَزَلَ بهِمْ مِنَ الشِّدَّةِ فِي نُفُوسِهِمْ ، والضَّرَّاءُ : مَا نَزَلَ فِيْهِمْ مِنَ الضَّرَرِ فِي أمْوَالِهِمْ. وَقِيْلَ على عَكْسِ هذا ، وَقِيْلَ : الْبَأْسَاءُ : الْبُؤْسُ وَالشِّدَّةُ وَضِيْقُ الْعَيْشِ ، والضَّرَّاءُ : الْفَقْرُ وَالْجُوعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي لكي يَتَضَرَّعُوا ويَتُوبُوا.
(0/0)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْاْ } ؛ أي ثم حَوَّلْنَا مكانَ الشِّدَّةِ والكَرْب العاقبةَ والخِصْبَ والسَّعَةَ حتى كَثُرُوا وكثُرت أموالُهم ومعاشُهم. وإنَّما سُمِّيت الشَّدَّةُ سيئةً ؛ لأنَّها تسوءُ الإنسانَ ؛ كما الإحسانُ حسنةً ؛ لأنه يحسنُ أثَرُهُ على الإنسانِ ، وإلاَّ فالسيِّئَةُ هي الفِعْلَةُ القبيحةُ ، واللهُ تعالى لا يفعلُ القبيحَ.
وقال الحسنُ : (عَفَوا) أي سَمِنُوا ؛ وَأرَادَ بهِ السِّمَنَ فِي الْمَالِ لاَ فِي تَعْظِيْمِ الْجِسْمِ). وقال قتادةُ : (حَتَّى عَفَوا) حَتَّى أشِرُواْ وَبَطِرُوا وَلَمْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ). وأصلهُ من الكَثْرَةِ ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " احْفُوا الشَّوَاربَ وأَعْفُوا اللِّحْيَةَ " قال الشاعرُ : عَفَوا مِنْ بَعْدِ إْقلاَلٍ وَكَانُوا زَمَاناً لَيْسَ عِنْدَهُمْ بَعِيْرٌوقال ابنُ عبَّاس : (حَـتَّى عَفَوا) أي جَمُواْ. وقال ابنُ زيدٍ : (حَتَّى كَبرُوا كَمَا يَكْبُرُ النَّبَاتُ وَالرِّيْشُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ } ؛ أي قالوا : هكذا عادةُ الزَّمانِ ؛ أي يسِيءُ تارةً ويحسنُ أخرى ، وهكذا كانت عادتهُ مع آبائِنا. فَثَبَتُوا على دينِهم ولم يقيلوا عنهُ ، فاثبتوا أنتم على دِينكم ولا تُقِيْلُوا عنهُ يقولُ الله تعالى : { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } ؛ أي أخذْنَاهم بالعذاب فَجَأَةً ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي من حيثُ لا يشعرون بالعذاب. والمعنَى : أخذناهُم بالعذاب وهم في أمْنٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بنُزولهِ.
(0/0)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ } ؛ معناهُ : لَوْ أنَّ أهْلَ الْقُرَى الذين أهلكناهُم بتكذيبهم الرسُلَ قالُوا : آمنَّا باللهِ وبالرُّسُلِ وَاتَّقَوْا الشِّرْكَ والمعاصي لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ نَامِيَةً مِنَ السَّمَاءِ وهي المطرُ ؛ وَمنْ الأَرْضِ وهي النباتُ والثِّمارُ ، { وَلَـاكِن كَذَّبُواْ } ؛ الرسلَ ؛ { فَأَخَذْنَاهُمْ } ؛ بالعذاب ؛ { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ؛ من المعاصِي.
وفي الآيةِ دلالةٌ أنَّ الكفايةَ والسِّعَةَ في الرِّزْقِ من سعادةِ الْمَرْءِ ؛ أي إذا كان شَاكِراً. والمرادُ بقولهِ : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ }[الزخرف : 33] الكثرةُ التي تكون وبالاً على مَن لا يشكرُ اللهَ تعالى.
(0/0)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } معناه : أفَأَمِنَ أهْلُ الْقُرَى الْمُكَذِّبَةِ لكَ يا مُحَمَّدُ أنْ يَنْزِلَ بهم عذابُنا ليلاً وَهُمْ نَائِمُونَ في فُرشِهِمْ ومنازلِهم ، لا يشعرونَ بالعذاب لغفلتِهم.
(0/0)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } معناه : أوَأمِنَ أهْلُ الْقُرَى الْمُكَذِّبَةِ لكَ أنْ يَأْتِيَهُمْ عذابُنا نَهاراً وَهُمْ مشغولونَ بلَهْوِهِمْ ولَعِبهمْ. والضُّحَى : صَدْرُ النَّهَار عِنْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ.
(0/0)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ } ؛ معناه : أبَعْدَ هذا كلِّه أمِنُوا عذابَ اللهِ لَهم من حيثُ لا يعلمونَ. وإنَّما سُمِّي العذابُ مَكْراً على جهةِ الاتِّساعِ والمَجَازِ ؛ لأن الْمَكْرَ يَنْزِلُ بالممكورِ مِنْ الْمَاكِرِ من حيثُ لا يشعرُ ، وأما الْمَكْرُ الذي هو الاحتيالُ للإظهارِ بخلاف الإضمار ؛ فذلك لا يجوزُ على اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }.
فإن قِيْلَ : أليسَ الأنبياءُ قد أمِنُوا عذابَ اللهِ وليسوا مِن القوم الخاسرينَ ؟ قِيْلَ : معنى الآيةِ : لا يَأْمَنُ عذابَ اللهِ من المذْنبين. والأنبياءُ صَلَواتُ اللهِ عليهمِ لا يَأْمَنُونَ عذابَ الله على المعصيةِ ؛ ولِهذا لا يَعْصُونَ بأنفسِهم.
(0/0)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَآ أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } ؛ قرأ قتادةُ : (أوَلَمْ نَهْدِ) بالنُّونِ على التعظيمِ ، ومعنَى الآية : أوَلَمْ يُبَيِّنِ اللهُ لِلَّذِينَ يخلفون في الأرضِ مِنْ بَعْدِ أهْلِهَا الذين أهلَكَهم اللهُ بتكذيبهم الرُّسُلَ. وَقَوْلَهُ تَعَالَى : { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي أوَلَمْ نُبَيِّنْ لَهم مَشِيْئَتَنَا أصبنَاهُم بعقاب ذنوبهم ، كما أخذنَا مَن كان قبلَهم بذنوبهم.
وَقَوْلُهَ تَعَالَى : { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } ؛ أي نَخْتِمُ عليها عقوبةً لَهم ، وليس هو عَطْفاً على (أصَبْنَاهُمْ) لأنه لو عُطِفَ عليهِ لقال : وَلَطَبَعْنَا ؛ لأنَّ قولَهُ : (أصَبْنَاهُمْ) على لفظِ الماضي ، وكان معنى (وَنَطْبَعُ) : وَنَحْنُ نَطْبَعُ. ومعنى الْخَتْم على قلوبهم : بأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ على جِهَةِ الذمِّ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ؛ أي لا يَقْبَلُونَ الوعظَ.
(0/0)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا } ؛ أي تِلْكَ الْقُرَى التي أهلكْنَا أهلَها بجُحودِهم لآياتِ الله نَقُصُّ عَلَيْكَ يا مُحَمَّد في القُرْآنِ مِنْ أخبارِها كيفَ أُهْلِكَتْ ؛ لِمَا في ذلك من العِبْرَةِ لمن تَدَبَّرَ حالَهم. { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ } ؛ أي بالْحُجَجِ والبراهين القاطعةِ التي لو اعْتَبَرُوا بها لاهْتَدُوا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } ؛ قال مجاهدُ (مَعْنَاهُ : فَمَا أهْلَكْنَاهُمْ إلاَّ وَقَدْ كَانَ مَعْلُومُنَا أنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ أبَداً). وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا لِعُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ فِي الْبَاطِل) ، { بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ } ؛ أي على قلوب الكافرين بكَ.
ومعنى الآيةِ : { تِلْكَ الْقُرَى } أي هَذِهِ القُرَى التي ذكَرْتُ لَكَ يا مُحَمَّدُ أمرَها وأمرَ أهلِها ، يعني قُرَى قومِ نُوحٍ وعَادٍ وثَمُودَ ، وقومِ لُوطٍ وشُعَيبٍ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ } قال أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : (مَعْنَاهُ : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا عِنْدَ مَجِيْئٍ الرُّسُلِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ أنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ).
(0/0)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ } ؛ أي مَا وَجَدْنَا لأكثرِ المهلَكين من وَفَاءٍ فيما أُمِرُوا به. تقولُ العربُ : فلانٌ لا عَهْدَ لهُ ؛ أي لا وَفَاءَ لهُ بالعهدِ. وهذا العهدُ المذكورُ في الآية يجوز ما أوْدَعَ اللهُ العقولَ من شُكْرِ النِّعمةِ ؛ والقيامُ بحقِّ الْمُنْعِمِ ؛ ووجوب طاعة الْمُحْسِنِ. ويجوزُ أن يكون ما أُخِذ عليهم على ألْسِنَةِ الرُّسُلِ من هذه الأمورِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } ؛ أي إنَّا وجَدْنَا أكثرَهم ناقضِينَ للعهدِ ؛ تاركينَ لِما أُمِرُوا به مِن الحلالِ والحرام. وأمَّا دخولُ (أنْ) واللام في مثلِ هذا ، فعلى وجهِ التَّأكيدِ كما يقالُ : إنْ ظَنَنْتُ زَيْداً لَقَائِماً ، وتريدُ بذلك تأكيدَ الظَّنِّ.
(0/0)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
قَوْلٌُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ فَظَلَمُواْ بِهَا } ؛ معناهُ : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بعَدِ أولِئَكَ الرُّسُلِ الذين سَبَقَ ذكرُهم مُوسَى بدلائلنا وحُجَجِنَا من العَصَا واليدِ والطَّمْسِ وغير ذلك إلَى فِرْعَوْنَ وأشرافِ قومه. ويعني بالرُّسُلِ الذين بُعِثَ موسى مِن بعدِهم : نُوحاً ؛ وهُوداً ؛ وصَالِحاً ؛ ولُوطاً ؛ وشُعَيباً.
واسم (فِرْعَوْنَ) أعجميٌّ لا ينصرفُ ؛ اجتمعَ فيه العِجْمَةُ والتَّعْرِيْفُ ، وكانوا يُسَمُّونَ كلَّ مَن مَلَكَ مِصْرَ بهذا الاسمِ ؛ واسْمُه : الوليدُ بنُ مصعبٍ ، وكان من الْقِبْطِ ، وعَمَّرَ أكثرَ من أربعمائةِ سنة. قَوْلُهُ تَعَالى : { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي جَحَدُوا بالآياتِ. وسَماهُ ظُلْماً لأنَّهم جعلوا بَدَلَ وُجُوب الإيْمان بها الكُفْرَ ، وذلك من أبْيَنِ الظُّلْمِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } ؛ أي فانظر كيف صارَ آخرُ أمرِ المفسِدِينَ في العقاب. قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ طُولُ عَصَا مُوسَى عَشْرَةَ أذرُعٍ عَلَى طُولِهِ ، فَكَانَتْ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ ، وََكَانَ يَضْرِبُ بهَا الأَرْضَ فَيَخْرُجُ بهَا النَّبَاتُ ، وَيُلْقِيْهَا فَإذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ، ويَضْرِبُ بَها الْحَجَرَ فَيَتَفَجَّرُ ، وَضَرَبَ بها بَابَ فِرْعَوْنَ فَفَزِِعَ مِنْهَا ؛ فَشَابَ رَأْسُهُ ؛ فَاسْتَحْيَا فَخَضَّبَ بالسَّوَادِ ، وَأوَّلُ مَنْ خَضَّبَ بالسَّوَادِ فِرْعَوْنُ).
(0/0)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } وذلك أنَّ موسَى دخل على فرعونَ ومعهُ أخوهُ هارونُ ، بعثَهُما اللهُ إليه بالرِّسالةِ ، فقال موسَى : يَا فِرْعَوْنُ! إنِّي رَسُولٌ مِنْ رَب الْعَالَمِينَ. فقالَ لهُ فرعون : كَذبْتَ! فقال موسَى : { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } ؛ أي جَدِيْرٌ بأنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ. وقرأ نافع : (عَلَيَّ) بالتشديد ؛ أي وَاجِبٌ عَلَيَّ أنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إلآَّ الْحَقَّ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } ؛ أي برهانٍ وحُجَّةٍ من ربكم ، { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ؛ أي فَأَطْلِقْ بَنِي إسرائيلَ ، ولا تَسْتَعْبدْهُمْ لأحْمِلَهُمْ إلى الأرضِ المقدَّسَةِ. وكان فرعونُ وقومه الْقِبْطُ يُكَلِّفُونَ بَنِي إسرائيلَ الأعمالَ الشَّاقَّةَ ، مثل حَمْلِ الطِّينِ والْمَاءِ وبناءِ الْمَنَازلِ وأشباهِ ذلكَ.
(0/0)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
وقَوْلُهُ تعَالَى : { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ } ، معناه : قال فرعونُ : إنْ كنتَ جئتَ بعلامةٍ لنبوَّتك ، { فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ؛ في أنَّكَ رسولُ اللهِ ؛ { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } ؛ أي ثُعْبَانٌ بَيِّنٌ لا لَبْسَ فيهِ ولا تشبيهَ على أحَدٍ أنه ثعبانٌ.
فَالثُّعْبَانُ : الْحَيَّةُ الصَّفْرَاءُ الذكَرُ الأَشْعَرُ أعْظَمُ الْحَيَّاتِ ؛ لَهَا عُرْفٌ كَعُرْفِ الْفَرَسِ ، روي أنَّها : مَلأَتْ دَارَ فرعونَ ، ثم فَتَحَتْ فَاهَا وأخذت قُبَّةَ فرعونَ بين فَكَّيْهَا ، وتضرَّعَ فرعونُ إلى موسى ، وهَرَبَ الناسُ واستغاثُوا بموسَى ، فأخذها موسى فإذا هي عَصَا بيدهِ كما كانت.
قال ابنُ عبَّاس والسُّدِّيُ : (لَمَّا فَغَرَتْ فَاهَا كَانَ بَيْنَ لِحْيَيْهَا ثَمَانُونَ ذِرَاعاً ، وضَعَتْ لِحْيَهَا الأَسْفَلَ فِي الأَرْضِ ، وَلِحْيَهَا الأَعْلَى عَلَى سُورِ الْقَصْرِ ، ثُمَّ تَوَجَّهَتْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ لِتَأْخُذهُ ، فَوَثَبَ مِنْ سَرِيْرِهِ وَهَرَبَ ، وَهَرَبَ النَّاسُ وَانْهَزَمُوا ، وَكَانُوا خَمْسَةً وَعِِشْرِيْنَ ألْفاً.
فَصَاحَ فِرْعَوْنُ : يَا مُوسَى! خُذْهَا وَأَنَا أُوْمِنُ برَبكَ ، وَأُرْسِلُ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيْلَ. فَأَخَذهَا ؛ فَعَادَتْ عَصاً كَمَا كَانَتْ. فَقَاَل لُهُ فِرْعَوْنُ : هَلْ مَعَكَ آيَةٌ أُخْرَى ؟ قَالَ : نَعَمْ ؛ { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } ؛ أي فأدْخَلَ يدَهُ في جيبهِ ؛ ثم نَزَعَهَا فَإِذا هِيَ بَيْضَاءُ لَهَا شعاعٌ يَغْلِبُ نورَ الشَّمْسِ.
(0/0)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } ؛ أي قال الأشرافُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : إنَّ هَذا لَسَاحِرٌ حَاذِقٌ بالسِّحْرِ { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } ؛ أي قال الأشرافُ : يريدُ موسَى أن يَسْتَمِيْلَ قلوبَ بني إسرائيلَ إلى نفسهِ ، ويَتَقَوَّى بهم فيقتُلُكم ويخرِجُكم من بلادِكم ، { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } أي تُشِيْرُونَ في أمرهِ. كأنَّهم خاطبُوا فرعونَ ، ويجوزُ أن يكون قولهُ : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ } من مَقَالَةِ فرعونَ لقومهِ ، ويعني بقولهِ : { مِّنْ أَرْضِكُمْ } أرضَ مِصْرَ. وكانَ بين اليَوْمِ الذي دَخَلَ يوسُفَ فيه مِصْرَ وبينَ اليوم الذي دخلَها موسَى فيه رَسُولاً أربعُمائَةِ عَامٍ.
(0/0)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ } ؛ أي قالُوا لفرعونَ : احْبسْهُ وأخاهُ إلى آخرِ أمرِهما ، ولا تعجَلْ بقتلِهما ؛ فتكونَ عَجَلَتُكَ حُجَّةً عليكَ ، { وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } ؛ أي ابْعَثْ الشُّرْطَ في الْمَدَائِنِ التي حولَكَ يحشُرونَ السَّحَرَةَ إليكَ.
والسِّحْرُ في اللُّغةِ : لُطْفُ الْحِيْلَةِ فِي إظْهَار الأُعْجُوبَةِ ، وأصلُ ذلك مِنْ خَفَاءِ الأَمْرِ ، ومن ذلك سُمِّي آخر الليلِ سَحَراً لِخَفَاءِ الشَّخْصِ بفَيْءِ ظُلْمَتِهِ ، والسَّحَرُ : الرئةُ ؛ سُميت بذلك لِخَفَاءِ أمْرِِهَا بانْتِفَاخِهَا تَارَةً وَضُمُورِهَا أُخْرَى.
(0/0)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانُوا سَبْعِينَ سَاحِراً غَيْرَ رَئِيْسِهِمْ ، وَكَانَ اللَّذانِ يُعَلِّمَانِهِمْ مَجُوسِيَّيْنِ مِنْ أهْلِ نِيْنَوَى). وقال مُحمد بنُ إسحق : (كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ ألْفَ سَاحِرٍ ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَبْلٌ وَعَصَا). وقال كعبُ : (كَانُوا عِشْرِيْنَ ألْفاً). وقال ابنُ المنكدر : (كَانُوا ثَمَانِيْنَ ألْفاً). وقال مقاتلُ : (كَانَ رَئِيْسُ السَّحَرَةِ شَمْعُونَ).
{ وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ } ؛ فلما اجتمَعُوا ، { قَالْواْ } ؛ لفرعونَ : { إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ } ؛ أي جُعْلاً ومَالاً ؛ { قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } ؛ عندي في الْمَنْزِلَةِ. قال الكلبيُّ : (أيْ أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَآخِرُ مَنْ يَخْرُجُ).
(0/0)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } أي قالَتِ السَّحَرَةِ : يَا مُوسَى! إمَّا أنْ تُلْقِيَ ما معكَ من العصَا ، وَإمَّا أنْ نلقيَ نحنُ ما مَعَنَا من العِصِيِّ والحبالِ قبلَكَ. { قَالَ أَلْقَوْاْ } ؛ ما معكم من الحبال والعصِيِّ ، { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ } ؛ ذلكَ ؛ { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } ؛ أي أخذُوا بها أعْيُنُ النَّاسِ ، واسْتَدْعَوا رَهْبَتَهُمْ حتى رَهِبَهُمُ الناسُ ، { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } ؛ في أعْيُنِ النَّاسِ.
وكانوا قد جعلوا فيها الزِّئْبَقَ بعدَ أن صوَّرُوها بصورةِ الْحَيَّاتِ ، فَلَمَّا أوقَفُوها في الشَّمْسِ اضطربت باضطراب ما فيه من الزِّئْبَقِ ؛ لأنه لا يَسْتَقِرُّ ؛ ومتَى يزدادُ مُكْثُهُ في الشمسٍ زادَتْ حركتهُ ، وخُيِّلَ إلى موسَى أنَّ حبالَهم وعصيِّهُم حَيَّاتٌ كما كانت عصَا مُوسى عليه السلام.
فإن قِيْلَ : كيف يجوزُ مِن موسَى عليه السلام أن يأمرَهم بالإلْقَاءِ ؛ وكان إلقاؤُهم إرادةً منهم مُغَالَبَةَ موسى ؛ وذلك كُفْرٌ ؛ ولا يجوزُ على الأنبياءِ أن يأمرُوا بالكفرِ ؟ قِيْلَ : معناهُ : ألقُوا إنْ كنتم مُحِقِّيْنَ على زعمِكم. ويجوزُ أن يكون أمَرَهُم بالإلقاءِ لتأكيدِ مُعْجِزَتِهِ.
(0/0)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } ؛ من يَدِكَ ؛ فألقَاهَا ؛ { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } ؛ أي تَلْتَقِمُ وتَبْتَلِعُ ما كانوا يكذِّبونَ أنَّها حَيَّاتٌ. والإِفْكُ : الكَذِبُ. وقُرِئ : (تَلْقَفْ) بجزمِ اللاَّمِ خفيفة. وقرأ سعيدُ بن جبيرٍ : (تَلْقَمُ).
قال ابن عبَّاس : (لَمَّا كَثُرَتْ حَيَّاتُهُمْ جَعَلَتْ عَصَا مُوسَى تَزْدَادُ عِظَماً حَتَّى سَدَّتِ الأُفُقَ ، ثُمَّ فَتَحَتَ فَاهَا فَابْتَلَعَتْ جَمِيعَ مَا ألْقُوا مِنْ حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمْ ، ثُمَّ هَوَتْ بذَنَبهَا فَعَلَّقَتُهُ بَرأسِ قُبَّةِ فِرْعَوْنَ وَهُوَ فِيْهَا ، وَفَتَحَتْ فَاهَا لِتَبْتَلِعَهُ ، فَصَرَخَ إلَى مُوسَى ، فَأَخَذَهَا فَإذا هِيَ عَصَا كَمَا كَانَتْ.
وَنَظَرَ السَّحَرَةُ فإذا حبالُهم وعصيُّهم قد ذهَبَتْ ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ أي ظَهَرَ الحقُّ وَبَطَل ما كانوا يعملون من السِّحْرِ ، وقال النَّضِرُ بن شُمَيْلٍ : (فَوَقَعَ الْحَقُّ) أي صدَعَهُمْ وأفْزَعَهُمْ ، { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ } ؛ أي رجعُوا ذلِيْلَيْنَ.
(0/0)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } ؛ قال الأخفشُ : (مِنْ شِدَّةِ سُرْعَةِ سُجُودِهِمْ ؛ كَأَنَّهُمْ أُلْقُوا ، وَقَدْ كَانُوا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ سُعَدَاءَ شُهَدَاءَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؛ فقال لَهم فرعونُ : إيَّايَ تَعْنُونَ ؟ قالُوا : { رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } ؛ فَبُهِتَ فِرْعَوْنُ ونَدِمَ على ما نالَهم ، فظهرَ للنَّاسِ إنَّهم آمَنُوا باللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
(0/0)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } ؛ أي قال لَهم فرعون : أصَدَّقْتُمْ برَب مُوسَى وهارون قَبْلَ أنْ آذنَ لَكُمْ في الأيْمانِ ، { إِنَّ هَـاذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } ؛ أي إنَّ هذا الشيءٌ وَاطَأْتُمُوهُ عليه حين يدَّعى النُّبُوَّةَ ، ثم تظهرونَ مخالفتَه في ابتداءِ الأمرِ ، حتى إذا غَلَبَكُمْ أظهرتُم موافقتَهُ بعدَ ذلكَ. أرادَ فرعونُ بهذا القول أن يُمَوِّهَ على الناسِ ؛ ليصرفَ وجوهَهُم إلى نفسهِ ، ثم قال لِلسَّحَرَةِ : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ؛ ماذا يَنْزِلُ بكم من النَّكَالِ.
(0/0)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ } ؛ أي لأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكُمْ اليمنى وأَرْجُلَكُمْ اليسرى مِنْ خِلافٍ ، { ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ على شاطىء نَهر مِصْرَ على جُذُوعِ النَّخْلِ حتى تَموتُوا من الجوعِ والعطَشِ والألَمِ.
(0/0)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } ؛ أي فقالَتْ السَّحَرَةُ : إنَّا لا نُبالِي مِنء فِعْلِكَ وعقوبتِكَ ، فإنَّ مَرْجِعَنَا إلى اللهِ يومَ القيامةِ ، فإن الحياةَ وإن طالَتْ ؛ فإنَّها تُخْتَمُ بالمماتِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } ؛ أي قالَـِ السَّحَرَةِ : ما تعيبُ علينَا ولا تنكرُ علينا إلا لأنَّا صَدَّقْنَا بعلاماتِ توحيدِ رَبنَا ؛ لَمَّا ظَهَرَ لنا أنَّ ذلكَ حقٌّ مِن اللهِ.
ثُم ألْهِمُوا الدُّعاءَ فقالُوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي أصْببْ عَلَيْنَا صَبْراً وأنزِلْهُ علينا ؛ وَوَفَّقَنَا على الثَّباتِ على الإيْمانِ إلى وقتِ الوَفَاةِ. قال ابنُ عبَّاس : (فَأَخَذ فَِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ فَقَطَّعَهُمْ ، ثُمَّ صَلَبَهُمْ عَلَى شَاطِئِ نْيْلِ مِصْرَ ، وَخَلَّى سَبيْلَ مُوسَى وَهَارُونَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمَا).
(0/0)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ } ؛ من القِبْطِ : { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي أتَتْرُكُهُمْ ليغيِّرُوا عليك دينَك في أرضِ مِصْرَ ويدعُو الناس إلى مُخَالَفَتِكَ ؛ فينتقضَ بذلك أمرُكَ ومِلكُكَ ؛ { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } ؛ أي يَدَعَكَ ولا يعبدَكَ ؛ ويدعَ أصنامَكَ التي أمَرْتَ بعبادتِها.
قال الحسنُ : (كَأنَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْبُدُ النَّاسَ وَيَعْبُدُ الأَصْنَامَ بِنَفْسِه). وقالَ السُّدِّيُّ : (كَانَ يَعْبُدُ هُوَ مَا اسْتَحْسٍَنَ مِنَ الْبَقَرِ ، وَمِنْهُ أخَذ السَّامِرِيُّ عِبَادَةَ الْبَقَرِ).
وَقٍيْلَ : كان فرعونُ قد صَنعَ أصناماً صِغَاراً ، وأمرَ قومَه بعبادتِها ، وقالَ : أنا رَبُّ هذهِ الأصْنَامِ الأعْلَى ، وهم أربَابُكم.
وقرأ الحسن : (وَمَا تَنقَمُ) بفتحِ القَافِ لُغتانِ ، قال الضَّحاكُ : (مَعْنَاهُ : وَمَا تَطْغَى عَلَيْنَا). وقال عطاءُ : (مَا لَنَا عِنْدَكَ مِنْ ذنْبٍ تُعَذِّبُنَا عَلَيْهِ إلاَّ أنْ آمَنَّا بآيَاتِ رَبنَا). وقرأ الحسنُ : (وَيَذرُكَ) بالرَّفعِ عطفاً على (أتَذرُ). وقرأ ابنُ مسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ والضحَّاك : (وَآلِهَتُكَ) أي عبادَتُك ، فلا يعبدُك.
وَقِيْلَ : أرادَ بالآلِهَةِ الشَّمٍْسُ ، وكان فرعونُ وقومُه يعبدونَها. وقال ابنُ عبَّاس : (كَأنَ لِفَرْعَوْنَ بَقَرَةٌ يَعْبُدُهَا ، وَكَانُوا إذا رَأوْا بَقَرَةً حَسْنَاءَ أمَرَهُمْ أنْ يَعْبُدُوهَا ، فَكَذلِكَ أخْرَجَ لَهُمُ السَّامِريُّ عِجْلاً). ورُويَ : أنه قِيْلَ للحسَنِ : هَلْ كَانَ فِرْعَوْنُ يَعْبُدُ شَيْئاً ؟ قَالَ : (نَعَمْ ؛ كَانَ يَعْبُد تَيْساً).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ } ؛ أي قال فرعونُ : سنعودُ إلى قَتْلِ ابنائِهِم واستخدام نسائِهم عقوبةً لهُ كما كُنَّا نفعلُ وقتَ ولادِ مُوسَى. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } ؛ أي مُسْتَعْلُونَ عليهم بالقُوَّةِ.
فَشَكَتْ بَنُو إسرائيلَ إلى موسَى فـ ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ } أي استيعنُوا باللهِ على دفعِ بلاء فرعونَ عنكم ، واصبرُوا على دِينكم ، { إِنَّ الأَرْضَ } ؛ التي أنتُمْ فيها ؛ { للَّهِ يُورِثُهَا } ؛ أي يُسْكِنُهَا ، { مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ؛ فيورثُكم هذه الأرضَ بعد إهلاكِ فرعون وقومهِ ، { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } ؛ أي آخرُ الأمرِ للذين يَتَّقُونَ اللهَ. وَقِيْلَ : أرادَ بالعاقبةِ الجنةَ في الآخرة. وَقِيْلَ : النصرَ والظَّفْرَ. وَقِيْلَ : السعادة والشهادةَ.
(0/0)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ فِرْعَوْنَ عَادَ إلَى قَتْلِ أبْنَائِهِمْ ، وَزَأدَ فِي إتْعَابهِمْ فِي الْعَمَلِ ، إذْ كَانَ يَسْتَعْمِلُهُمْ قَبْلَ مَجِيْءِ مُوسَى بضَرْب اللَّبنِ وَالْبنَاءِ ، فَلَمَّا أتَاهُمْ مُوسَى غَضِبَ وَكَلَّفَهُمْ أيْضاً أشَدَّ مِنْ ذلِكَ).
قال وهبُ : (جَعَلَهُمْ أصْنَافاً فِي خِدْمَتِهِ : قَوْمٌ يَحْمِلُونَ السَّوَاري مِنَ الْجِبَالِ ؛ وَقَدْ قُرِحَتْ أعْنَاقُهُمْ وعَوَانِقُهُمْ وَدَبَرَتْ ظُهُورُهْم مِنْ ثِقَلِ ذلِكَ ، وَقَوْمٌ قَدْ جُرِحُوا مِنْ ثِقْلِ الْحِجَارَةِ وَالطِّيْنِ لِلْبنَاءِ ، وَقَوْمٌ يَبْنُونَ الطِّيْنَ وَيَطْبخُونَ الآجُرَّ ، وَقَوْمٌ نَجَّارُونَ ، وَقَوْمٌ حَدَّادُونَ. وَأمَّا الضُّعَفَاءُ الَّذِيْنَ لاَ يُطِيْقُونَ الْعَمَلَ ؛ فَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الْخَرَاجَ يُؤَدُّونَهُ كُلَّ يَوْمٍ ، فَمَنْ خَرَجَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ أنْ يُؤَدِّيَ غُلَّتْ يَمِيْنُهُ إلَى عُنْقِهِ. وَأمَّا النِّسَاءُ فَيَغْزِلْنَ الْكِتَّانَ وَيَنْسِجْنَهُ).
فلما شَكَوا إلى موسى (قًَالُوا : أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) ، { قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ } ؛ يعني فرعونَ وقومه ، { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ } ؛ أي ويجعلَ لكم سَكَناً في أرضِ مصرَ مِن بعدهم. و(عَسَى) كلمةُ إطماعٍ وما أطمعَ اللهُ فيه فهو واجبٌ ؛ لأن الكريمَ إذا أطمعَ وإذا وَعَدَ وفَّى ، فيصيرُ كأنهُ أوْجَبَهُ على نفسهِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ } { فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ؛ أي فَيَرَى عملَكم كيف تشكرون صُنْعَهُ ، كأنهُ قال : وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ ؛ لكي تعملوا بطاعةِ الله.
(0/0)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } ؛ أي أخذْنَا قومَ فرعون وأهلِ دِينه بالجوعِ عاماً بعد عامٍ إلى تسعةِ أعوام. وآلُ الرَّجُلِ : خَاصَّتُهُ الَّذِيْنَ يَؤُولُ أمْرُهُ إلَيْهِمْ ؛ وَأمْرُهُمْ إلَيْهِ. والسُّنُونُ في كلام العرب : الْجَدْبُ ؛ يقال : مَسَّتْهُمُ السُّنُونُ ؛ أيِ الْجَدْبُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ } ، أي زيادةٍ في القَحْطِ ؛ لأن الثمارَ قوتُ الناس وغذاؤهم ، { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ؛ أي لكي يَتَّعِظُوا فَيُؤْمِنُوا ، فلم يتَّعظوا. وَقِيْلَ : أراد بقولهِ : { وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ } الغَلاَءَ.
(0/0)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
َقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـاذِهِ } ؛ أي إذا جاءَهم الْخَصْبُ والخيرُ قالوا : نحنُ أهلٌ لِهذه الحسنةِ وأحقُّ بها ، فمِنْ عادةِ بلادِنا أنَّها تأتِي بالسَّعة والْخَصْب. ولَم يَرَوا لك مَنّاً وتفضُّلا ًمن اللهِ ؛ { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ؛ جُدُوبَةٌ وقحطٌ وبلاء وشدَّةٌ ؛ { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } ؛ أي يَتَشَاءَمُوا بموسى وأصحابهِ ؛ فقالوا : أصابنا هذا البلاءُ من شُؤْمِ هؤلاء. والطَّيْرَةُ في اللغة : الشَّأمَةُ كما روي " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ الطَّيْرَةَ "
والأصلُ في هذا : أن العربَ كانوا يتفاءلون با لطَّير ؛ فإن جاءَهم طائرٌ من جهة اليمينِ وهو السَّانحُ ؛ تَبَرَّكُوا به ، وإن جاءهم من جهة الشَّمال وهو البَارحُ يتشاءَموا به ، ثُم كَثُرَ قولُهم في الطيرِ حتى استعلموهُ في كلِّ ما تشاءموا به. ومعنى الآيةِ : { يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ } أي تشَاءَمُوا بهم وقالوا : ما أصابنا بلاءٌ حتى رأينَاكُم.
وقرأ طلحة (تطَيَّرُوا) بالتاءِ وتخفيف الطَّاء على الفعل الماضي ، قال سعيدُ بن جبير : (كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ أرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ ، فَعَاشَ ثَلاَثَمِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَرَى مَكْرُوهاً ، وَلَوْ رَأى فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ جُوعَ يَوْمٍ ، أوْ حُمَّى يَوْمٍ ، أوْ وَجَعَ سَاعَةٍ لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبيَّةَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ } ؛ معناه : الذي أصابَهم من الخصب والجدب والخير والشرِّ كلُّ ذلك من عند اللهِ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أنهُ أصابَهم من عند الله. وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ : ألاَ إنَّمَا مُصَابُهُمْ عِنْدَ اللهِ). وقال ابنُ جُريجٍ : (الأَمْرُ كُلُّهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ).
وَقِيْلَ : معناهُ : ألاَ إنَّما الشؤمُ الذي يلحَقُكم هو الذي وُعدوا به في الآخرةِ لا ما نالَهم من الدُّنيا ، فإن القحطَ الذي هم فيه قليلٌ في جنبِ عقوبةِ الآخرة. وقرأ الحسنُ : (ألاَ إنَّمَا طَيْرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) بغيرِ الألف ، والمعنى واحدٌ.
(0/0)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
قًوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } ؛ قال الخليلُ : (أصْلُ (مَهْمَا) : مَأْمَا ، أُبْدِلَتِ الأَلِفُ الأُوْلَى هَآء لِتَخْفِيْفِ اللَّفْظِ). وقال بعضُهم : معنى (مَهْ) : أُكْفُفْ. ثُم قال : (مَا تَأْتِنَا بهِ) بمعنى الشرطِ ؛ أي ما تأتنا به من علامةٍ يا موسى { لِّتَسْحَرَنَا بِهَا } أي لِتُوهِمَنَا أنَّها الحقُّ ، { فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } أي بمصدقِّّين بالرسالةِ.
وكانُ موُسَى عليه السلام رجُلاً حديداً ، فدعَا عليهم ؛ فأرسلَ عليهم الطوفانَ كما قال عَزَّ وَجَلَّ : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ } ؛ اختلفوا في الطُّوفَا ، ِ ما هو ؟ قال الضَّحاك : (الغَرَقُ). وقال عطاءُ ومجاهد : (الْمَوْتُ الْغَالِبُ الشَّائِعُ). وقال وهبُ : (الطُّوفَانُ : هُوَ الطَّاعُونُ بلُغَةِ أهْلِ الْيَمَنِ). وقال أبو قُلابة : (هُوَ الْجُدَريُّ ؛ وَهُمْ أوَّلُ مَنْ عُذِّبوا بهِ ، وَبَقيَ فِي النَّاسِ إلَى الآنَ). وقال الأخفشُ : (هُوَ السَّيْلُ الشَّدِيْدُ). وقال مقاتلُ : (هُوَ الْمَاءُ طَغَى فَوْقَ حُرُوثِهِمْ).
وقال بعضُهم : هو كثرةُ المطرِ والريح. الأظهرُ ما قالَهُ ابنُ عبَّاس : (أنَّهُ الْمَطَرُ الدَّائِمُ ، أرْسَلَ اللهُ الْمَطَرَ عَلَيْهِمْ لَيْلاً وَنَهَاراً مِنَ السَّبْتِ إلَى السَّبْتِ ، حَتَّى خَرَبَتْ أبْنِيَتُهُمْ ، وَكَادَ أنْ يَصِيْرَ الْمَطَرُ بَحْراً ، فَخَافُوا الْغَرَقَ).
قال ابنُ عبَّاس وسعيدُ بن جبير وقَتادةُ : (لَمَّا آمنتِ السَّحَرَةُ واغْتُلِبَ فرعونُ ، وأبَى هو وقومهُ إلا الإقامةَ على الكفرِ والتَّمادي في الشرِّ ، أخذهم اللهُ بالسِّنين ، ونقصٍ من الثمراتِ ، فلما عالَجهم موسى بالآياتِ الأربع : العَصَا ؛ واليدِ ؛ والسِّنين ؛ ونقصٍ من الثَّمراتِ ، دعَا فقالَ : يَا رَب! إنَّ عَبْدَكَ فرعونَ علاَ في الأرضِ وبغَى وعَتَى ، وإن قومَهُ قد نقضوا عهدكَ وأخلفوا وعدكَ ، ربي فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلُها لَهم نقمةً ولقومي عِظَةً ولِمن بعدهم من الأمم عبرةً.
فبعثَ الله عليهم الطوفانَ ؛ وهو الماءُ أرسله عليهم من السَّماء حتى كادوا يهلَكُون ، وبيوتُ بني إسرائيلَ وبيوتُ القِبْطِ مشبكةٌ مختلطة بعضُهأ ببعضٍ ، فامتلأت بيوتُ القِبْطِ ماءً حتى قاموا في الماءِ إلى تراقيهم مَن جَلَسَ منهم غَرِقَ ، ولَم يدخلْ بيوتَ بني إسرائيل من الماءِ قطرة واحدة ، فأقامَ ذلك عليهم سبعةَ أيَّام.
فقالوا : يا مُوسَى! أُدْعُ لنا ربَّكَ يكشف عنا المطرَ ، فنؤمنَ بك ونُرْسِلَ معك بني إسرائيل. فدعا رَبَّهُ فكشفَ عنهم ذلك ، وأرسلَ الريح فجفَّفت الأرض ، وخرجَ من النباتِ شيءٌ لم يَرَوْا مثله ، فقالوا : هذا الذي كُنَّا نَتَمَنَّاهُ ، ومَا كان هذا الماءُ إلا نعمةً علينا وخصباً. فلا واللهِ لا نؤمنُ بكَ يا موسى ، ولا نرسلُ معكَ بني إسرائيل.
فَنَقَضُوا العهدَ ، وعَصَوا ربَّهم واقاموا على كفرهم شهراً ، فعبثَ اللهُ عليهم الجرادَ ، وغَشِىَ مصرَ منه أمرٌ عظيم حالَ بينهم وبين الماءِ وغَطَّى الشمسَ ؛ ووقعَ على الأرضِ بعضُه على بعضٍ ذراعاً ، فأَكَلَ جميعَ ما ينبتُ في الأرض ؛ وأكلَ الأشجارَ ؛ حتى أكلَ الأبوابَ وسُُقُوفَ البيوتِ والخشب والثياب والأمتعةَ ؛ حتى مساميرَ الحديدِ ، ولَمْ يدخل بيوتَ بني إسرائيل منه شيءٌ ، فعجَّلُوا إلى موسى و ؛ { وَقَالُواْ } : يا أيُّها الساحر! ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بَما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إٍسْرَائِيلَ ، وأرادوا بالساحرِ العالِم يُعَظِّمُونَهُ.
(0/0)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يامُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } ؛ معناه : وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ العذابُ الذي تقدَّم ذِكرُهُ من الطُّوفان وغيره. وقال عكرمةُ : (الرِّجْزُ : الدَّمُ ؛ لأَنَّهُ نَغَّصَ عَيْشَهُمْ). وقال ابنُ جُبير : (هُوَ الطَّاعُونُ).
وَذلِكَ أنَّ مُوسَى أرَى قومَهُ وبني إسرائيل من بعد ما جاءَ قومَ فرعون بالآيات الخمسِ : الطوفانُ وغيره ، فلم يؤمِنُوا ولَم يرسلوا معهُ بني إسرائيل ، فأرسلَ عليهم الطاعونَ ، فَهَلَكَ منهم سبعونَ ألفاً ، فقال فرعونُ عند ذلك : (يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بمَا عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما تقدمَ به إليك أنه يجيبُ دعاءَك إذا دعوته كما أجابَ دعاءك في إنزالِ هذه الآيات ، { لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ } ؛ أي هذا الطاعونَ. وقرأ سعيد بين جبير ومجاهدُ : (الرُّجْزَ) وهما لغتان كالعَصُو والعُصْوِ. قَوْلُهُ تَعَالىَ : { لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ } ؛ أي لنصدِّقَنَّكَ ، { وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } ؛ أي لَنُطْلِقَنَّهُمْ من التسخيرِ والأعمال الشاقَّة.
(0/0)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ } ؛ أي العذابَ ، { إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ } ؛ وهو الوقتُ الذي عَلِمَ اللهُ من حالِهم أن صلاحَ غيرِهم مقالهم إلى ذلك الوقت ؛ يعني وقتَ الغرق ، وقولهُ تعالى : { إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } يعني ينكثونَ العهدَ.
(0/0)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ وذلكَ أن الله تعالَى أمَرَ موسى أن يَخْرُجَ ببني إسرائيلَ ، فاستعارَ نسوةُ بني إسرائيلَ من نساءِ آل فرعون حُلِيَّهُمْ ، وقُلْنَ : إن لنا خروجاً إلى عيدٍ. فخرجَ موسَى ببني إسرائيل في أوَّلِ الليل ، وهم ستمائة ألفٍ من رجلٍ وامرأة وصبيٍّ ، فبلغَ الخبرُ فرعونَ ، فرَكِبَ ومعه ألفَا ألفٍ ومائتا ألفٍ ، فأدرَكَهم فرعنُ حين طلعتِ الشمسُ ، وانتهى موسى إلى البحرِ ، فضربَ البحرَ ؛ فانفلقَ اثنا عشر طريقاً ، وكانت بنو إسرائيلَ اثنا عشر سِبْطاً ، فعَبَرَ كلُّ سِبْطٍ طريقاً.
فأقبلَ فرعونُ ومَن معهُ ، فدخلوا بعدَهم من حيثُ دخلوا ، فلما صارُوا جميعاً في البحرِ ، أمرَ الله البحرَ فالتطمَ عليهم فغَرِقُوا ، فقالَ بنو إسرائيلَ لِموسى أنْ يُرِيَهُمْ فرعونَ ، فدعا رَبَّهُ فلفظَهُم البحرُ ولَفَظَ فرعونَ ، فنظروا إليه وإلَى مَنْ معهُ ، فلا يقبلُ الماءُ غريقاً بعد ذلك أبداً ، ورجعَ موسى ببنِي إسرائيلَ ، فسكنوا الأرضَ أرضَ مصر.
ومعنى قوله : { فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ } أي في البحرِ بلسان العبرانيَّة. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي بتكذيبهم الآياتِ التِّسْعِ التي أتاهم بها موسى : اليدُ ؛ والعصا ؛ والسُّنونُ ؛ ونقصُ الثمرات ؛ والطوفان ؛ والجرادُ ؛ والقمل ؛ والضفادع ؛ والدمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } ؛ أي عاقبناهم بتعرُّضِهم لأسباب الغفلة.
(0/0)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ } التي كانُوا فيها ، { وَمَغَارِبَهَا } ؛ معناه : أوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يستضعفونَهم القِبْطُ ؛ وهم بنو إسرائيل مَشَارقَ الأَرْضِ التي كانوا فيها وَمَغَارَبَها. وقِيْلَ : أراد بهذه الأرضِ الأرضَ المقدسة : الأردنَّ وفلسطينَ ، { الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } ؛ باركَ الله فيها بكثرةِ المياه والأشجار والثِّمار ، قال ابنُ عبَّاس : (إنَّ الْمِيَاهَ كُلَّهَا تَخْرُجُ كُلَّهَا تَخْرُجُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ الَّتِي ببَيْتِ الْمَقْدِسِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ } ؛ أي وتَمَّتْ عِدَّةُ ربكَ ؛ يعني قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأَرْضِ }[القصص : 5] وقوله : { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ }[الأعراف : 129]. قال ابنُ عبَّاس : (فَأَهْلَكَ اللهُ فِرْعُوْنَ وَقَوْمَهُ ، وأورَثَهُمْ أرْضَ مِصْرَ وَالشَّامَ). وقولهُ : { بِمَا صَبَرُواْ } ؛ أي بصبرِهم على دِينهم أن يرجعوا إلى دِين فرعون.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } ؛ من المكائدِ ، وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } ؛ أي وما كانوا يَبْنُونَ مِن البيوت والقصور والكروم والشَّجْر ، ويستخدمون بني إسرائيلَ في بنائِها ورَفْعِهَا. قرأ ابنُ عامرٍ وأبو بكر : (يَعْرُِشُونَ) بضمِّ الراء ، وهما لُغتان فصيحتانِ.
(0/0)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ } ؛ أي أمرناهم بمجاوزَتِهِ ويسَّرناهُ عليهم حين خلفوا البحرَ وراءهم على سلامةٍ ، وذلك من أعظمِ نِعَمِ اللهِ تعالَى ، { فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ } ؛ أي يعبدون ويُوَاظِبُونَ على عبادةِ أصنام لَهم ؛ وهو أهلُ الرّقةِ ؛ أُنَاسٌ كفروا بعدَ إبراهيم ، مَرَّتْ بهم بنو إسرائيل وهم قعودٌ حولَ أصنامِهم ، { قَالُواْ يامُوسَى اجْعَلْ لَّنَآ إِلَـاهاً } ؛ نعبدهُ ، { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ؛ يعبدونَها.
وفي هذا بيانُ غايةِ جَهْلِهِمْ وعِنادِهم ، فإن اللهَ خَلَّصَهُمْ من عدوِّهم ونَجَّاهم من الغرقِ ، وقالوا هذا القولَ حين رأوا هؤلاء القومَ يعبدون الأصنامَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ } ؛ لَهم موسى : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } ؛ صفاتَ اللهِ وما يجوزُ عليه وما لا يجوز ؛ أي لا يعرفون أن الذي يُتَّخَذُ إلَهاً هو خالقُ الأجسام. ثُمَّ بَيَّنَ أن هؤلاء سيهلكون ويُهلَكُ ما يعبدونه فقال : قَالَ اللهُ تَعَالَى : { إِنَّ هَـاؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } ؛ أي مُهْلَكٌ ما هم فيه ؛ { وَبَاطِلٌ } ؛ وضَلاَلٌ ؛ { مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، والتَّبَارُ : هو الهلاكُ.
(0/0)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـاهاً } ؛ أي قالَ لَهم : أسِوَى اللهِ أطلبُ لكم رَبّاً تعبدونَهُ ، { وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } ، عالَمي زمَانِكم من القِبْطِ وغيرِهم بعدَ ما كُنتم مستعبدِين إذِلاَّء.
(0/0)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي يُوَلُّونَكُمْ سُوءَ العذاب { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ } ؛ أي يَذبَحونَهم ، { وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } ؛ أي يَستَبْقُونَهُمْ للاستخدامِ ، { وَفِي ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } ؛ قرأ حمزةُ والكسائي : (يَعْكِفُونَ) بكسرِ الكاف والباقون بضَمِّها وهما لُغتان. وقرأ أهلُ الشَّام (وَإذْ أنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ). وقرا الباقونَ على التكثيرِ (أنْجَيْنَاكُمْ). وقوله تعالى : { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ } قرأ نافعُ بالتخفيفِ ، وقرأ الباقونَ بالتشديدِ على التَّكثيرِ.
(0/0)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } ؛ قال مجاهدُ : (كَانَ اللهُ وَعَدَ مُوسَى أنْ يُعْطِيَهُ التَّوْرَاةَ لِثَلاَثِينَ لَيْلَةً ؛ يَعْنِي ذا الْقَعْدَةِ وَعَشْراً مِن ذِي الْحِجَّةِ ، كَأنَّهُ قَالَ شَهْراً وَعَشْرَةً أيَّامٍ).
وقال بعضُهم : أمَرَ اللهُ موسى إلى موضعٍ بَيَّنَهُ له أن يعبدَهُ في ذلك الموضعِ ثَلاثينَ يوماً ، يصُومُ النهارَ ويقومُ الليلَ ؛ ليَنزل عليه التوراةُ ، فلمَّا صامَ ثلاثين أنْكَرَ خُلُوفَ فَمِهِ ، فاسْتَاكَ بعُودِ خَرْنُوبٍ ، فقالتِ الملائكةُ : كنا نستنشقُ منك رائحةَ الْمِسْكِ فأَفسَدْتَهُ بالسِّواك ، فأَمَرَهُ اللهُ أنْ يصومَ عشراً بعد ذلكَ الْخُلُوفِ ، فذلك قولهُ { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ }. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } ؛ أي تَمَّ الوقتُ الذي أمَرَ اللهُ بالعبادة فيهِ أربعينَ ليلةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } ؛ أي قالَ مُوسَى لهارون قَبْلَ انطلاقهِ إلى الجبلِ الذي أُمر بالعبادةِ فيه : قُمْ مَقَامِي فِي قَوْمِي ، { وَأَصْلِحْ } ؛ فيما بينهم ، { وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } منهم ، ولا ترضَ بعملِهم ، وذلك أنَّ موسى كان يشاهدُ كثرةَ خلافِهم حالاً بعد حالٍ ، فأوصاهُ في أمرهم. ومن قرأ (هَارُونُ) بالرفعِ فمعناهُ : قال هارونُ.
(0/0)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } ؛ أي لَمَّا انتهَى موسى إلى المكانِ الذي وقَّتْنَا له ، وأمرناهُ بالسَّير إليه وهو مَدْيَنُ ، وقولهُ تعالى : { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } أي كَلَّمَهُ من غيرِ تَرْجُمان ولا سفيرٍ ، كما كَلَّمَ الأنبياءَ على ألْسِنَةِ الملائكةِ.
فلما نَاجَاهُ رَبُّهُ استحلَى كلامَهُ ، واشتاقَ إلى رُؤية رَبِهِ وطَمِعَ فيها ، فـ { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ } ؛ أي اعطِني أنظُرْ إليك ، { قَالَ لَن تَرَانِي } ؛ ولستَ تطيقُ النظرَ إلَيَّ في الدُّنيا ، فمَن نظرَ إلَيَّ ماتَ ، فقال : إني سمعتُ كلامَكَ واشتقتُ إلى رُؤيتِكَ ، ولأَنْ أنْظُرْ إليك ثم أموتُ أحَبُّ إلَيَّ مِن أن أعيشَ ولا أراكَ ، فقال اللهُ تعَالى : { وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ } ؛ أي إلى أعظمِ جَبَلٍ لِمَدْيَنَ وهو جبلُ زُبَيْر ، { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } ؛ أي ظهرَ له من نورهِ ما شاءَ ، ويقالُ ألقَى عليه نُوراً من الأنوار ، { جَعَلَهُ دَكّاً } ؛ أي كَسَّرَهُ جِبالاً صِغَاراً ، تقطَّعَ الجبلُ من هيبةِ الله عَزَّ وجَلَّ ، فصارَ ثَماني فِرَقٍ ، أربعُ قِطَعٍ منه وقعنَ بمكَّة : ثورٌ وثُبَيْرٌ وحِرَاءُ وَغَارُ ثَوْرٍ ، وأربعُ قِطَعٍ وقَعن بالمدينةِ : أُحُدُ وَرَوْقُ وَرَضْوَى وَالْمِهْرَاسُ.
وقولهُ تعالى : { وَخَرَّ موسَى صَعِقاً } ؛ أي سَقَطَ مَغْشِيّاً عليه ، { فَلَمَّآ أَفَاقَ } مِن غَشْيَتِهِ ، { قَالَ سُبْحَانَكَ } ؛ أي تَنْزِيهاً لكَ مِن قَولِي ومِن كلِّ سُوءٍ ، { تُبْتُ إِلَيْكَ } ؛ مِن مسأَلَتِي للرُّؤية ، { وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } من أهلِ هذا الزَّمان إنك لا تُرى في الدُّنيا.
وقال الحسنُ : (قَالَ اللهُ لِمُوسَى : أعْرِضُ رُؤيَتِي عَلَى الْجَبَلِ ، فَإنْ لَمْ يَحْمِلْهَا مَعَ عِظَمِهِ وَبَقَائِهِ عَلَى مَرِّ الزَّمَانِ ، فَأَنْتَ أيْضاً لاَ تَحْمِلُهَا). قال : (مَعْنَى قَوْلِهِ { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } أيْ أوْحَى رَبُّهُ). قَالَ : (وَمَا رَأى مُوسَى رَبَّهُ قَطْ ، وَلَكِنْ أوْحَى اللهُ إلَى الْجَبَلِ هَلْ تُطِيقُ رُؤيَتِي ، فَسَاخَ الْجَبْلُ وَمُوسَى يَنْظُرُ).
وَقِيْلَ : إنَّ اللهَ تعالى أبرزَ من العرشِ مقداراً الظُّفُرِ فَتَدَكُدَكَ الجبلُ ؛ لأن أجسامَ الدُّنيا لا تحتملُ آياتَ القيامة والأجسامَ العُلويَّة ، إذ من حُكم الدُّنيا أن تفنَى بآياتِ القيامةِ ، فلا تحتَلُها الدُّنيا.
وقرأ بعضُهم (دَكَّاءَ) بالهمزِ والمدِّ ؛ أي طَارَ أعلى الجبلِ وبقِيَ أسفلهُ دَكّاً ، والدَّكَأُ واحدُ الدَّكَوَاتِ ؛ وهي رَوابي الأرضِ التي تكونُ ناشزةً لا تبلغُ أن تكون جَبلاً ، ونَاقَةٌ دَكَّاء إذا لم يكن لها سَنَامٌ. ويحتملُ أن يكون معنى الدَّكِّ دَقُّ الجبلِ على الأرضِ ، يقال دَكْدَكْتُ الشيءَ اذا دَقْقْتُهُ. وقرأ عاصمُ (دَكّاً) هَهُنا بالقصرِ والتنوينِ ، والتي في الكهفِ بالمدِّ من غير تنوينٍ ، ومدُّهُما حمزةُ والكسائيُّ والباقين مقصورَين مُنَوَّنَينِ.
وَقِيْلَ : لَمَّا سألَ موسى رَبَِّهُ أرسلَ اللهُ الضبابَ والصواعقَ والظُّلمة والرعدَ والبرقَ ، فأحاطت بالجبلِ الذي عليه موسَى وأمرَ اللهُ ملائكته يعرِضُوا على موسَى ، فقالَ لَهم : اهبطُوا إلى عبدِي موسى الذي أرادَ أنْ يَرانِي ، فهَبَطُوا عليه في يدِ كلِّ مَلَكٍ منهم مثلُ النَّخلةِ الطويلةِ ناراً شديدةَ الضوءِ أشدُّ ضوءاً من الشمسِ ، ولبَاسُهم كلَهَب النار ، كلُّهم يقولون بشدَّة أصواتِهم : سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْعِزَّةِ أبَداً لاَ يَمُوتُ ، وفي رأْسِ كلِّ منهم أربعةُ أوْجُهٍ.
(0/0)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ يامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } ؛ أي قال اللهُ : يا موسَى إنِّي اتخذتُكَ صفوةً برسالَتِي التي أرسلنَا إليك وبكلامِي معكَ من غير وحيٍ ، { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } ؛ أي اعْمَلْ بما علَّمتُكَ من التوراةِ ، { وَكُنْ مِّنَ الشَّاكِرِينَ } ؛ لِمَا أعطيتُك وأكرمتُكَ.
(0/0)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي تسعةِ ألوَاحٍ من الزُّبرجَدِ الأخضرِ ، وَقِيْلَ : من الياقوتِ الأحمر أعطاها اللهُ موسَى وفيها التوراةُ كنَقْشِ الخاتَم ، طولُ كلِّ لوحِ عشرةُ أذرُعٍ.
وقولهُ تعالى : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } يعني من أُمُورِ الدِّين ، وقولهُ تعالى : { مَّوْعِظَةً } ؛ يعني ما يدعُو إلى الطاعةِ ، وزَجْرٍ عن المعصيةِ بالوعدِ والوعيدِ وأخبار الأُمَم الماضين. وقولهُ تعالى : { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ } ؛ معناهُ : لكلِّ أمرٍ من أُمور الدِّين من الحلالِ والحرامِ والأمر والنَّهي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } ؛ أي اعْمَلْ بها بجِدٍّ في طاعةِ اللهِ ومواظبةٍ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } ؛ أي أمُرْ قومَك يعملوا بأحسنِ ما بُيِّنَ لهم فيها ؛ أي أُمِرُوا بالخيرِ ونُهوا عن الشرِّ ، وعرَفُوا ما لهم في ذلك ، فمُرْهُمْ يأخذُوا بالأحسنِ. ويقالُ : مُرْهُمْ يأخذُوا بالفرائضِ والنوافلِ دون المباحِ الذي لا حَمْدَ فيه ولا ثوابَ. وَقِيْلَ : معناهُ : (يأْخُذُوا) بالناسخِ والمنسوخ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } ؛ أي سوفَ أُريكُمْ جهنَّم في الآخرةِ هي دارُ الخارجين عن طاعةِ الله ، ويقالُ : أرادَ به ما مَرُّوا عليه في سَفَرِهم من منازِلِ عادٍ وثَمود والقُرونِ الذين أهْلِكُوا بالتكذيب.
وقال قتادةُ : (مَعْنَاهُ سَأُدْخِلُكُمُ النَّارَ وَأُرِيكُمْ مَنَازلَ الْكَافِرِينَ). وَقِيْلَ : معناهُ سأُريكُم دارَ فرعون وقومِهِ وهي مصرُ.
(0/0)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ؛ أي سأجعلُ جزاءَ المتكبرين الذين لا يُؤمنون بالمعجزةِ الإضْلاَلَ عن الْهُدَى ، وعن معرفةِ ما أودعَ اللهُ في الكتاب يقرؤونَهُ ولا يفهمون ما أرادَ اللهُ به.
وَقِيْلَ : معناهُ : سأَصرِفُهم عن الاعتراضِ على آيَاتِي بالإبطالِ ، وَقِيْلَ : معناه : سأَصرِفُ عن نَيلِ ما في آياتِي من العزِّ والكرامةِ ، ويعني بالذين يتكبَّرون في الأرضِ بغيرِ الحقِّ هم الذي يَرَونَ أنَّهم أفضلُ الخلقِ ، وأنَّ لهم ما ليسَ لغيرِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } ؛ معناه : وإن يَرَوا كلَّ آيةٍ تدلُّ على وحدانيَّة اللهِ ونُبوَّة الأنبياءِ لا يصدِّقوا بها ، { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ } ؛ أي سبيلَ الإِسلامِ ، { لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } دِيناً لأنفسهم ، يعني هؤلاء المتكبرين. وقرأ حمزةُ ومجاهد والأعمش والكسائيُ بالفتحِ الاستقامة في الدِّين ، والرُّشد بضمِّ الراءِ الاصلاحُ. وقرأ أبو عبدِالرحمن : (وَإنْ يَرَواْ سَبيلَ الرَّشَادِ) بالألفِ. وقرأ مالكُ بن دينار : (وَإنْ يُرَواْ) بضمِّ الياء.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ يحتملُ أن يكون ذلكَ موضعَ الرفعِ على معنى أمَرَهم ذلك ، ويحتملُ أن يكون نَصباً على معنى فعل اللهُ ذلك بهم بتكذيبهم بآياتنا ، قال مقاتلُ : (أرَادَ بقَوْلِهِ بآيَاتِنَا التِّسع) كأنه ذهبَ إلى أنه هذا كلُّه خطابُ موسَى. قال الكلبيُّ : (مَعْنَى { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ) وذهبَ إلى أنَّ قولَهُ : { سَأَصْرِفُ } خطابٌ لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } ؛ أي عنها لاَهِينَ سَاهِينَ ، لا يتفكَّرون فيها ولا يتَّعظُونَ بها.
(0/0)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخِرَةِ } ؛ أي بالبعثِ بعد الموت ، { حَبِطَتْ } ؛ بَطُلَتْ ، { أَعْمَالُهُمْ } ؛ التي عَمِلُوها على جهةِ البرِّ ، { هَلْ يُجْزَوْنَ } ؛ في الآخرةِ ، { إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ في الدُّنيا.
(0/0)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذِلكَ أنَّ مُوسَى كَانَ وَعَدَ قَوْمُهُ بالانْطِلاَقِ إلَى الْجَبَلِ ثَلاَثِينَ يْوماً ، فَلَمَّا تَأَخَّرَ رُجُوعُهُ قالَ لَهُمُ السَّامِريُّ - وَكَانَ رَجُلاً مُطَاعاً - : إنَّكُمْ اتَّخَذْتُمُ الْحُلِيَّ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَعَاقَبَكُمُ اللهُ بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ ، وَمَنَعَ مُوسَى عَنْكُمْ ، فَاجْمَعُواْ حَتَّى أُحْرِقَهَا ؛ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَرُدَّ عَلَيْنَا مُوسَى.
فَجَمَعُواْ الْحُلِيَّ ، وَكَانَ السَّامِرِيُّ صَائِغاً ، فَجَعَلَ الْحُِلِيَّ فِي النَّار وَاتَّخَذ مِنْهُ عِجْلاً وَنَفَخَ فِيْهِ التُّرَابَ الَّذِي كَأنَ أخَذهُ مِنْ أُثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ ، وَكَانَ ذلِكَ الْفَرَسُ فَرَسَ الْحَيَاةِ ، مَا وََضعَ حَافِرَهُ فِي مَوْضِعٍ إلاَّ اخْضَرَّ ، فَلَمَّا نَفَخَ فِيْهِ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ التُّرَاب صَارَ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ ، فَعَبَدُوهُ وَزَفُّوا حَوْلَهُ).
وَقِيْلَ : إن السامريَّ حين صاغَ العجلَ جعل فيه خُروقاً تجرِي فيها الريحُ ، فكان يسمعُ من تلك الخروقِ شِبْهُ الْخُوَار ، فأوْهَمَ بني إسرائيلَ أنه حيٌّ يَخُورُ.
قال الزجَّاجُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ : { جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } أيْ جُثَّةٌ لاَ تَعْقِلُ ، لَيْسَ لَهُ رُوحٌ وَلاَ عَقْلٌ وَلاَ كَلاَمٌ إنَّمَا لَهُ خُوَارٌ فَقَطْ). وأما إضافةُ الْخُوَار إلى العجلِ في الآيةِ فهو كما يقالُ : صوتُ الحجرِ ، صوتُ الطِّشْتِ وأمَّا الْحُلِيُّ فهو جمعُ الْحِلْيَةِ وهو ما يُتزيَّنُ به من ذهبٍ وفضَّة. وقال عليٌّ رضي الله عنه : (لَهُ جُؤَارٌ) بالجيمِ والهمزِ وهو الصوتُ.
وقولهُ تعالى : (حَلْيهِمْ) قرأ يعقوبُ بفتحِ الحاء وجزمِ اللام ، وقرأ حمزةُ والكسائي (حِليِّهِمْ) بكسرِ الحاء واللامِ وتشديد الياء أتبعا الحاءَ كسرةَ اللامِ ، وقرأ الباقون بضمِّ الحاء وكسرِ اللام وتشديد الياءِ وهما لُغتَان.
قَوْلُهُ تَعَالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } ؛ معناهُ : ألَم ينظرُوا إلى العجلِ لا يُكلِّمُهم بما يُجرِي عليهم نَفعاً ويدفعُ عنهم ضُرّاً ، ولا يُرشِدُهم طريقاً إلى خيرٍ ليأتوهُ ولا الى شرٍّ لينتَهُوا عنه ، ولو كان إلَهاً لهدَاهُم ؛ لأنَّ الإلهَ لا يُهمِلُ عبادَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } ؛ يجوزُ أن يكون معناهُ : لا يُرشِدُهم الطريقَ الذي يتَّخذونَهُ ، ويجوزُ أن يكون ابتداءً على معنى : عَبَدُوهُ وكانوا بعبادتِهم إياهُ ظالمين.
(0/0)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ } ؛ أي نَدِمُوا على عبادتِهم العجلَ ، ورأوا أنَّهم قد ضَلُّوا عن الحقِّ ، { قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } ؛ عملنا ؛ { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ؛ بالعقوبةِ. قال الزجاج : (يُقَالُ لِلنَّادِمِ علََى مَا فَعَلَ الْمُتَحَسِّرِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنْهُ : قَدْ سُقِطَ فُلاَنٌ فِي يَدِهِ. وَأسْقِطَ بمَعْنَى سَقَطَ النَّدَمُ فِي أيْدِيهِمْ).
(0/0)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } ؛ أي رجعَ مُوسَى من الجبل إلى قومهِ شديدَ الغضب حَزِيناً ، { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي } ؛ فَعَلْتُمْ خَلْفِي في غَيبَتِي بعبادةِ العجل ، { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } ؛ معناهُ : أسْتَبْطَأْتُمْ وعدَ ربكم الذي وعدَ في أربعين ليلةٍ ، { وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ } ؛ مِن يده التي كانت فيها التوراةُ وألقاها من يدهِ ، { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (أخَذ رَأسَهُ بيَدِهِ الْيُمْنَى وَلِحْيَتَهُ بيَدِهِ الْيُسْرَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي } ؛ أي قَهَرُونِي واستذلُّونِي وهَمُّوا بقتلِي ، وكان هارون أخاهُ لأبيهِ وأُمِّهِ ولكنَّهُ قال (يَا ابْنَ أُمَّ) لِتَرَفُّقِهِ عليه ، وعلى هذه طريقةُ العرب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ } ؛ لا تُفَرِّحْهُمْ عليَّ ولا تظُنَّ أنِّي رضيتُ بفعلِ القوم الظالمين ، { وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ؛ فلا تجعَلني مع عَبَدَةِ العجلِ في الغضب عليَّ ، وكان هارونُ أكبرَ من موسى بثلاثِ سنين ، وأحبَّ إلى بني إسرائيلَ من موسى.
قرأ ابنُ عبَّاس والكوفيُّون إلاَّ حفصاً (يَا ابْنَ أُمِّ) بكسرِ الميم هُنا ، وفي طه فحَذفُوا ياءَ الإضافةِ ؛ لأنَّ مَبْنَى النداءِ على الحذفِ ، وبقِيَتِ الكسرةُ على الميمِ دَليلاً على ياءِ الإضافةِ كقولهِ (يَا عِبَادِ ، وَيَا قَوْمِ) ، وقرأ ابنُ السُّمَيقِعِ (يَا ابْنَ أُمِّي) باثباتِ الياء ، وقرأ الباقون بفتحِ الميمِ على معنى يا ابنَ أُمَّاهُ.
وقولهُ تعالى : { اسْتَضْعَفُونِي } بعبادةِ العجلِ ، وقولُه تعالى : { فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَآءَ } ، قرأ مجاهدُ ومالكُ بن دينارٍ : (فَلاَ تَشْمَتْ) بفتح التاءِ والميم ، ورفعِ (الأَعْدَاءُ) ، والشَّماتَةُ هي سرورُ العدوِّ.
فإنْ قِيْلَ : لِمَ جازَ لموسى أن يُجرَّ برأسِ هارون ولحيتهِ ، والانبياءُ لا يجوز لأحدٍ أن يستخفَّ بهم ، وكان هارونُ نبيّاً ؟ قِيْلَ : إنَّ هذا كان منهُ على جهةِ العِتَاب لا على جهةِ الْهَوَانِ. وَقِيْلَ : لأنه أجراهُ مجرَى نفسهِ من حيث أنَّهما كاناَ في النبوَّةِ والأُخوَّةِ كالنفسِ الواحدة ، وقد يقبضُ الإنسانُ عند الغَيْظِ على لحيةِ نفسه ، ويعُضُّ إبْهامَيْهِ وشَفَتيه ، كما رُوي (أنَّ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَتَلَ شَاربَهُ).
إلاَّ أنَّ هارونَ خافَ أن يتوهَّم جُهَّالُ بني إسرئيل أنَّ موسى غضبانٌ عليه كغَضَبهِ على مَن عَبَدَ العجلَ ، فقالَ : { ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي... } الآية. وَقِيْلَ : إنَّ موسى فَعَلَ هذا بهارون في حالةِ الغضب التي لا يملكُ الإنسانُ فيها نفسَهُ ، وكان ذلك صغيرةً منه ، كما ألقَى الألواحَ لشدَّة الغضب ، وكان الواجبُ عليه أن يُعَظِّمَها.
(0/0)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي } ؛ ما كان منهُ من التقصير في ردِّ القوم عن عبادةِ العجل ، { وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } ؛ أي في جَنَّتِكَ ، { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } ؛ أي أرحَمُ بنا مِنَّا ، وأرحمُ بنا من أبنائِنا وأُمَّهاتنا.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين اتَّخذوا العجلَ إلَهاً سيصيبُهم عذابٌ من ربهم في الآخرةِ. والغضبُ من اللهِ : إرادةُ الانتقامِ على ما سَلَفَ. وقولهُ تعالى : { وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا } ؛ أرادَ به ما أُمِرُوا به من استسلامِهم للفعلِ بقُعودِهم ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } أي كما جَزَينا هؤلاءِ فكذلك نَجزِي الكاذبين على اللهِ.
(0/0)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ } قِيْلَ : أرادَ بالسَّيئات الشِّركَ وسائرَ المعاصي إذا تابَ صاحبُها عنها ، { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ } ؛ أي سَكَنَ عن موسى الغضبُ وزالت قوَّة غضبهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : سَكَتَ موسَى عنِ الغضب ، هذا من الْمَقْلُوب ، كما يقالُ : أدخلتُ قُلُنْسُوَةً في رأسِي ، يريدُ أدخلتُ رأسِي في قُلُنْسُوَةٍ. وقولُه تعالى : { أَخَذَ الأَلْوَاحَ } بعدَ ما كان ألقَاهَا وبعدَ ما تكسَّرت ، وذهَبَ منها ستَّة أسباعِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَفِي نُسْخَتِهَا } ؛ قال عطاءُ : (وَفِيمَا بَقِيَ مِنْهَا وَلَمْ يَذْهَبْ) ، ويقالُ : معناه : فيما نََسَخَهُ موسَى مما تكسَّرَ. وقولهُ تعالى : { هُدًى وَرَحْمَةٌ } ؛ أي بيانٌ من الضَّلالة ونجاةٌ ، { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } ؛ يخشَون اللهَ ويعملون بها.
(0/0)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } ؛ ومعناهُ : واختارَ موسى مِن قومهِ سبعين رجُلاً للوقتِ الذي وقَّتنا لهُ يصحَبُهم مع نفسهِ عند الخروجِ إلى الميقاتِ ، فيشهَدُوا عند قومِهم على سماعِ كلامِ الله ، فإنَّهم كانوا لا يُصدِّقون موسَى في أنَّ الله كَلَّمَهُ ، وكانوا اثنَى عشرَ سِبْطًا ، فاختارَ مُوسَى من كلِّ سبط ستَّةً ، وخلفَ منهم رجُلين ، وقال : إنَّما أُمِرتُ بسبعين فليَرجِعْ اثنانِ منكم ، ولَهما أجرُ مَنْ حَضَرَ ، فرجَعَ يُوشَعُ بن يُونَا وكالبُ بن يوقَنَّا ، وذهبَ موسى مع السبعين الى الجبلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ } ؛ أي الزَّلزَلَةُ الشديدةُ عند الجبلِ ، { قَالَ } ؛ موسَى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } ؛ أنْ حملتَهم إلى الميقاتِ ، وأهلَكتَني معهم بقتلِ القبطيِّ ، وظنَّ أن الرجفةَ إنَّما أخذتْهم بسبب عبادة بني إسرائيل العجلَ ، فقال : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ } ثم قال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } ؛ يعني ما عبادةُ العجلِ إلاَّ بَلِيَّتُكَ إذ صار الروحُ في العجلِ ، { تُضِلُّ بِهَا } ؛ بالفتنةِ ، { مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ }.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا } ؛ أي أنتَ ناصِرُنا وحافظُنا ومتولِّي أُمورنا فاغفِرْ لنا ذُنوبَنا وارحمنا ولا تعذِّبنا ، { وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ }.
وَقِِيْلَ : إنَّ موسى عليه السلام لَمَّا هلكَ السَّبعون ، جعلَ يبكِي ويقولُ : يا رب ماذا أقولُ لبَنِي إسرائِيلَ إذا رجعتُ إليهم ، وقد أهلكتَ خيارهم ؟ فَبَعَثَهم اللهُ كما قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ }[البقرة : 56] وقد تقدَّم تفسيرُ ذلك في البقرةِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـاذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً } ؛ يعني العلمَ والعبادةَ ، وقولهُ تعالى : { وَفِي الآخِرَةِ } ؛ أي واكُتبْ لنا في الآخرةِ حَسَنَةً وهي الجنَّةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } ؛ أي أنَبْنَا ورجَعنا بالتوبةِ ، يقالُ : هَادَ يَهُودُ ؛ إذا رجعَ ، ولَم يُؤخذ اسمُ اليهودِ مِن هذا وإنما أُخِذ من تَهَوَّدَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } ؛ مِن عبادي مِمَّن هو أهلٌ لذلك ، { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } ؛ يعني وسِعَتِ البرَّ والفاجرَ. قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَطَاوَلَ لَهَا إبْليسُ وَقَالَ : أنا شَيْءٌ مِنَ الأَشْيَاءِ ، فَأخْرَجَهُ اللهُ مِنْ ذلِكَ بقَوْلِهِ : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ) أي سَأُوجِبُها للَّذين يتَّقونَ الشِّركَ والمعاصي ، { وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ }.
فَقَالتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى : نَحْنُ نَتَّقِي وَنُؤْتِي الزَّكَاةَ وَنُؤْمِنُ بآيَاتِ رَبنَا ، فأَخْرَجَهُمُ اللهُ مِنَْهَا بقَوْلِهِ : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ } ؛ يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم سَمَّاهُ أُمِّيّاً لأنه لم يُحسنِ الكتابةَ ، قال الله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ }[العنكبوت : 48] ، وقال صلى الله عليه سلم : " إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا َنَكُتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ " قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ } ؛ يعني نَعْتَهُ وصفَتهُ وخاتَمه الذي بين كَتِفَيهِ ونعتَ أُمَّته وشريعتهِ.
(0/0)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
قَوْلُهَ عَزَّ وَجَلَّ : { قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ كُلُّ رَسُولٍ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ ، وَبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم إلَى قَوْمِهِ وَغِيْرِهِمْ) ومعنى الآية : قُلْ يا مُحَمَّدُ إنِّي رسولُ الله إليكم كافَّة أدعُوكم إلى طاعةِ اللهِ وتوحيدهِ واتَّبَاعِي فيما أدَّيتهُ إليكُم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ تعريفُ اللهِ الذي أرسلَهُ إليهم ، وقولهُ تعالى : { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ } ؛ أي لاَ شريكَ له في الإلَهيَّة ، ولا خالقَ ولا رازقَ غيرهُ ، { يُحْيِـي وَيُمِيتُ } ؛ أي يُحيي الخلقَ من النُّطْفة ، ويُمِيتُهم عندَ انقضاءِ آجَالِهم ، لا يقدرُ على ذلكَ أحدٌ سِوَاهُ, وَقِيْلَ : معناهُ : يُحيى الأمواتَ للبعثِ ، ويُمِيتُ الأحياءَ في الدُّنيا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ } ؛ أي صَدُّقُوا باللهِ ورسولهِ النبيِّ الأُمِّيِّ الذي لاَ يَكتُبُ ، فَيُؤْمَنُ من جهتهِ أنْ " لا " لا يقرأ الكتُبَ وينقُلَ إليهم أخبارَ الماضِينَ ، ولكن يَتَّبعُ ما يُوحَى إليه ، وقولُه تعالى : { الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } ؛ أي باللهِ وكُتُبُهِ. ومَن قرأ (وَكَلِمَتِهِ) فهو عِيسَى ، وقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ؛ ظاهرُ المعنى.
(0/0)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ } ؛ أي جماعة ؛ { يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } ؛ يدعون إلى الحق ، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ؛ وبهِ يَحكُمون وهم مُؤمِنُو أهلِ الكتاب عبدُاللهِ بن سلام وأصحابهُ.
ورُوي عن ابنِ عبَّاس : (أنَّهم قومٌ من بني إسرائيلَ قِبَلَ المشرقِ ، وخَلْفَ الصِّين عند المطلعِ أُخِذُوا من بيتِ المقدسِ ، فرُمِيَ بهم هناكَ متمَسِّكين بالتوراةِ مُشتَاقِينَ إلى الإسلامِ ، يعملون بفرائضِ الله ، بيُوتُهم مستويةٌ ، والأمانةُ فيهم فاشيةٌ ، قبُورهم عند أبوابهم ، لا تَبَاغُضَ بينهم ولا تَحَاسُدَ ولا حِلْفَ ولا خيانةَ ولا كذبَ ولا غشَّ ، يعمَلون بالحقِّ فيما بينهم بلا أميرٍ ولا قاضٍ ، مرَّ بهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسرِيَ به ، فعرضَ عليهم الإسلامَ فقَبلُوهُ).
وذكر مقاتلُ : (أنَّ بين الصِّين وبينَهم وادِياً جارياً من رملٍ ، فيمنعُ الناسَ من إتْيانِهم واخبارِهم ، إلاَّ أنَّا لا نسمعُ أخبارَهم إلاَّ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم أخْبَرَهُ بهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، واخبرهُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم ابنَ عبَّاس. وقال السديُّ : (هم قومٌ بينَكم وبينهم نَهْرٌ من شَهْدٍ).
قال ابن جُرِيج : (إنَّ بني إسرائيلَ لَمَّا قَتَلوا أنبياءَهم وكَفَرُوا ، تبَرَّأ هؤلاءِ القومُ منهم وسألوا أنْ يُفرِّقَ اللهُ بينهم وبينهم ، ففتحَ الله لهم نَفَقاً في الأرضِ ، فصَارُوا فيه سَنَةً ونصفاً حتى خرجُوا من وراءِ الصين ، فهم هناكَ مُسلمون يُصَلُّونَ إلى قِبْلَتنا).
وقال الكلبيُّ والربيع : (هم قومٌ خلفَ الصِّين على نَهر يجرِي على الرَّملِ سُمِّي نَهر أرْدَاف ، يُمطَرون باللَّيلِ ، يصبحُون بالنهارِ ويزرَعون ، لا يَصِلُ إليهم منَّا أحدٌ ولا منهم إلينا ، وهم على الحقِّ ، ذهبَ جبريلُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إليهِم ليلةَ أُسرِيَ به فكلَّمَهم.
فقال جبريلُ : هل تعرفون هذا الذي تُكلِّمونَهُ ؟ قالوا : لاَ ، قال : هذا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رسولُ اللهِ النبيُّ الأُمِّي ، فآمَنُوا به وقالوا : يا رسولَ اللهِ ؛ إنَّ موسَى أوصَانا فقالَ : مَن أدركَ منكُم مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فَلْيُقْرِؤْهُ منِّي السلامَ ، فردَّ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم على موسَى وعليهم السلامَ ، ثم أقرَأهم عَشْرَ سُوَرٍ من القرآنِ أُنْزلت بمكَّة ، ولم يكنُ يومئذٍ نزلت فريضةٌ غيرَ الصَّلاة والزكاةِ ، وأمَرَهم أنْ يُقيموا مكانَهم وأمرَهم أنْ يُجَمِّعُوا ويترُكوا السَّبتَ).
(0/0)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً } ؛ أي فُرِّقُوا بني إسرائيلَ اثنتَي عشرة فرقةً ، والسِّبْطُ في ولدِ اسحق كالقبيلةِ في ولدِ إسماعيلَ ، وإنَّما ذكرَ (اثْنَتَي عَشْرَةَ) على لفظِ التَّأنيثِ وإنْ كان السبطُ مذكَّراً ؛ لأن الأسباطَ هي الفِرَقُ والجماعاتُ.
فانْ قِيْلَ : كيف قالَ (أسْبَاطاً) بالجمعِ ولا يجمعُ ما بعدَ العشرةِ على لفظِ الجمع ، وإنَّما يقالُ : اثنَى عشرَ دِرهماً ولا يقالُ اثنى عشرَ درَاهم ؟ قِيْلَ : ذكرَ الزجَّاجُ : (أنَّ قَوْلَهُ (أسْبَاطاً) بدَلٌ لاَ يُمَيَّزُ ، كَأَنَّهُ قَالَ : قَطَّعْنَاهُمْ أسْبَاطاً اثْنَتَي عَشْرَةَ). وقرأ أبان بن تَغْلُبْ ابنِ زيد عن عاصم (وَقَطَعْنَاهُمْ) بالتخفيف.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ } ؛ أي أوحَينا إليه في التِّيهِ حين طلبَ قومهُ منه الماءَ ، { أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (كَانَ حَجَراً يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ عَلَى حِمَارٍ) وَلِهَذا عُرِّفَ بالألفِ واللامِ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً } ؛ الانْبجَاسُ : خروجُ الماءِ قَليلاً ، والانفجارُ خروجهُ واسعاً ، وإنما قالَ (فَانْبَجَسَتْ) ؛ لأن الماءَ كان يخرجُ من الحجرِ في الابتداء قليلاً ثم يتَّسِعُ فاجتمعَ فيه صفةُ الانبجاسِ والانفجار ، وإنما تفجَّرَ منه اثنتَا عشرةَ عَيناً ؛ لأنَّهم كانوا اثنتَي عشرةَ سِبْطاً ، وكان لا يخالطُ كلُّ سبطٍ السبطَ الآخر ، { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } ، كلُّ سبطٍ موضعَ شربهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ } أي ظَلَّلنَا عليهم بالنَّهار في التِّيه ليَقِيَهم حرَّ الشَّمسِ ، { وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } ؛ فالْمَنُّ الترنجبين ، والسَّلْوَى طائرٌ يشبهُ السَّمانِي ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي من خِلاَلِ ما رزقنَاكم من الْمَنِّ والسَّلوَى { وَمَا ظَلَمُونَا } ؛ أي وما ضَرُّونا بمخالفتِهم أمْرَنا وإعراضِهم عن شُكر النعمة ، { وَلَـاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } ؛ ولكن ضَرُّوا أنفسَهم.
(0/0)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَـاذِهِ الْقَرْيَةَ } ؛ أي قيلَ لهم وقتَ خرُوجِهم من التِّيهِ اسْكُنوا القريةَ أريحا ببيتِ المقدس ، { وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ } ؛ من نَعيمِها ، { وَقُولُواْ } ؛ مَسْأَلَتُنا ؛ { حِطَّةٌ } ؛ أي احْطُطْ عنَّا ذُنوبَنا ، { وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً } ؛ بابَ أريحا خاشِعين للهِ خاضِعين ، { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ } ؛ ما سَلَفَ من ذُنوبكم باستغفارِكم وخضُوعِكم.
وقرأ أهلُ المدينة (تُغْفَرْ) بالتاء مضمومةً ، وقرأ ابنُ عامر بتاء مضمومةٍ أخرى (خَطِيَّتُكُمْ). وقولهُ تعالى : { سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } ؛ أي الذين لا ذنبَ لهم في الدُّنيا نزيدُهم فَضلاً في الآخرةِ ثَواباً.
(0/0)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } ؛ أي غَيَّرَ الذين ظَلَمُوا أنفسَهم القولَ الذي أُمِرُوا به ، فقالوا إطة سِمْقَانا ؛ أي حنطةٌ حمراء ، ويقال قالوا : حِطَّة ، { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ } ؛ أي عذاباً أنْزَلَتُ بهم ناراً وأحرقَتهم ، { بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ } ؛ بتبديلِهم ما أُمِرُوا به.
(0/0)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } ؛ معناهُ : سَلْ يا مُحَمَّدُ يهودَ المدينةِ عن القريةِ التي كانت بقُرب البحرِ وهي مدينة إيله على ساحلِ البحر بين المدينةِ والشَّام ، وهذا سؤالُ توبيخٍ وتقريرٍ وتعريف لهم ، لا سؤالَ تعريفِ من قِبَلِهم ، وفي السؤالِ لهم بيانُ أنَّ يهود المدينةِ جَرَوا على عادةِ أسلافِهم في التمرُّدِ في المعصيةِ ، فكأنَّ اللهَ تعالى أمَرَ نَبيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يسألهم ما فعلَ اللهُ بأهلِ تلك القريةِ ، أليس قد جعلَهُم اللهُ قردةً بمخالَفَتِهم أمرَ اللهِ ، فما يُؤمِنَّكُمْ في تكذيب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من عذابِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } ؛ أي حيث يتجاوزُونَ الحدَّ بأخذِهم السَّمَكَ في يومِ السَّبتِ ، وقد أُمِرُوا أنْ لاَ يصطَادُوا فيه ويتفرَّغُوا للعبادةِ والطاعة. وقولهُ تعالى : { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } ؛ قال ابنُ عباس : (أيْ ظَاهِرَةً عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ). و قال الضحَّاكُ : (مُتَتَابعَةً مِثْلَ الْكِبَاشِ الْبيضِ السِّمَانِ يَوْمَئِذٍ أنْ تُصَادَ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } أي لا يكون يومُ السَّبت ، كانت الحيتانُ تغوصُ في الماءِ ولا تأتِيهم شُرَّعاً.
وقرأ أبو نُهيك : (إذْ يُعِدُّونَ فِي السَّبْتِ) بضمِّ الياء وكسرِ العين وتشديدِ الدال ؛ يُهَيِّؤُنَ الآلَةَ لأخذِهَا. وقرأ ابنُ السُّمَيقِعِ (فِي الأسْبَاتِ) على جمعِ السَّبتِ. وقرأ بعضُهم (إذ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ أسْبَاتِهِمْ شُرَّعاً) فجعلت طائفةٌ من أهلِ هذه المدينة يُلقُونَ الشَّبكةَ في الماءِ في يومِ السَّبت ، ويقولون حتى يقعُ فيها السَّمكُ ، ثم لا يُخرِجُونَ الشَّبكةَ من الماءِ إلاَّ يومَ الأحدِ ، وقالوا إنَّما نصطادُ في يومِ الأحدِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } ؛ أي كذلك نُشَدِّدُ عليهم في التَّكليفِ بعصيانِهم وفِسْقِهم.
ووقفَ بعضُ القُرَّاء على قولهِ : (كَذلِكَ) على معنى لا تأتِيهم في غيرِ يوم السَّبتِ كما تأتِيهم في يومِ السَّبت ، ثُم ابتدأ فقالَ { نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }. فإنْ قِيْلَ : كيفَ عرَّفَ اللهُ الحيتانَ الفَضْلَ من يومِ السَّبت وغيره من الأيَّام ؟ قِيْلَ : لا يمتنعُ أنَّ اللهَ عرَّفَها ذلك أو قوَّى دَوَاعِيَها ؛ أي إلى الشُّروعِ في يوم السَّبتِ معجزةً لنبيِّ ذلك الوقتِ وابتلاءً لأُولئك القومِ.
(0/0)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } ؛ في الآيةِ بيانُ أنه كان في هذه القريةِ فِرْقَةً يَعِظُونَ الْمُذِنِبينَ ، والمعنى : إذ قالت عُصبَةً من أهلِ تلك القريةِ للواعظين لِمَ تَعِظُونَ قَوماً اللهُ مُهلِكُهم في الدُّنيا أو مُعذَّبُهم عَذاباً شَديداً في الآخرةِ ؟ ولَمْ يقولوا هذا كَرَاهَةً للوعظِ ولا رضًى بالمعصيةِ منهم ، ولكن قالوا ذلك لِيَأْسِهم عن قَبولِ الوعظِ.
وقولهُ تعالى : { قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } ؛ أي قالتِ الفرقةُ والواعظةُ : موعظَتُنا إيَّاهم معذرةً إلى اللهِ أن نبتلى بذلك عُذراً عندَ الله. ومن قرأ (مَعْذِرَةً) بالنصب فعلَى معنى يعتذِرُون معذرةً. وقولهُ تعالى : { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ؛ أي ورجاءَ أن يتقوه ، فكأن الواعظين لم ييأسوا مِنْ قَبُولِهم الوعظ. وقيل : معناه : لعلهم يتقون صيدَ الحيتانِ.
(0/0)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } ؛ أي فلمَّا ترَكُوا ما وُعِظُوا به ، { أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُوءِ } ؛ أي خلَّصنا الذين يَنْهَوْنَ عن حبسِ السَّمك في الحظيرةِ يومَ السَّبتِ ، { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ؛ أي شديدٍ ، يقالُ بَئِسَ وبَيْسَ وَبَأْسَ إذا اشْتَدَّ ، وبَؤُسَ يَبْؤُسُ بُؤْساً إذا افْتَقَرَ. وقوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } ؛ أي بفِسقِهم.
ولَم يُذكَر في الآيةِ حالُ الفرقةِ الثالثة ، وقد رُوي عن ابنِ عبَّاس أنه قال : (كَانَ الْقَوْمُ ثَلاَثَ فِرَقٍ ، فَكَانَتِ الْفِرْقَةُ الْوُسْطَى تَعْمَلُ بالسُّوءِ ، وَالْفِرْقَةُ الْيُمْنَى تَنْهَى وَتُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللهِ ، وَكَانَتِ الأُخْرَى تَكُفُّ ألْسِنَتَهَا وَتُمْسِكُ أيْدِيَهَا. فَلَمَّا عَمِلَتِ الْوُسْطَى بذلِكَ زَمَاناً ، وَكَثُرَتْ أمْوَالُهُمْ ، وَلَمْ يُنْزَلْ بِهمْ عُقُوبَةٌ ، اسْتَبْشَرُواْ وَقَالُواْ مَا نَرَى السَّبْتَ إلاَّ قَدْ حَلَّ لَنَا وَذَهَبَتْ حُرْمَتُهُ ، وَكَانُوا نَحْواً مِنْ سَبْعِينَ ألْفاً ، وَكَانَتِ الْفِرْقَةُ النَّاهِيَةُ نَحْوَ اثْنَى عَشََرَ ألْفاً ، يَقُولُونَ لَهُمْ : لاَ تَعْدُوا ، وَلاَ تَأْمَنُوا مِنْ عَذاب اللهِ ، فَلَمْ يَتَّعِظُواْ فأَصْبَحُواْ وَقَدْ مَسَخَهُمُ اللهُ قَرَدَةً خَاسِئِينَ ، فَمَكَثُواْ كَذِلكَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِينَ ، ثُمَّ مَاتُواْ).
قال ابنُ عبَّاس : ((وَأنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ) وَلَيْتَ شِعْرِي مَا صَنَعَ اللهُ بالَّذِينَ لَمْ يَنْهُوا) ، وقال عكرمةُ : (بَلْ أهْلَكَهُمُ اللهُ أيْضاً وَمَا نَجَّا إلاَّ الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ ، وَهَلَكَ الْبَاقُونَ بظُلْمِهِمْ بالاسْتِحْلاَلِ وَتَرْكِ الأَمْرِ بالْمَعْرُوفِ). فقال ابنُ عبَّاس : (نَزَلَ وَاللهِ بالْمُدَاهِنِ مَا نَزَلَ بالْمُسْتَحِلِّ).
وقال الحسنُ : (نَجَتْ فِرْقَتَانِ ، وَهَلَكَتْ فِرْقَةٌ) وأنكرَ القولَ الذي ذُكر له عن ابنِ عبَّاس ، وقالَ : (مَا هَلَكَتْ إلاَّ فِرْقَةٌ ؛ لأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أبْلَغَ فِي الأَمْرِ بالْمَعْروفِ وَالْوَعْظِ مِنْ ذِكْرِ الْوَعِيدِ ، وَقَدْ ذكَرَتِ الْفِرْقةُ الثَّالِثَةُ الْوَعِيدَ فَقَالَتْ : لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَديداً) وقول الحسنِ أقربُ إلى ظاهرِ الآية.
(0/0)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ } ؛ أي أبَوا أن يرجِعُوا عن المعصيةِ ، والعَاتِي هو شديدُ الدُّخولِ في الفسادِ الْمُتَمَرِّدُ الذي لا يقبلُ الموعظةَ. وقولهُ تعالى : { قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } ؛ أي مَطْرُودِينَ مُبعَدِينَ عن كلِّ خيرٍ ، مِن قولهم : خَسَّأْتُ الْكَلْبَ إذا قلتُ له : اخْسَأْ على الطردِ له. قال ابنُ عبَّاس : (يَا لَهَا مِنْ أكْلَةٍ مَا أوْخَمَهَا أنْ مُسِخُواْ قِرَدَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الآخِرةِ النَّارُ).
وعن الضحَّاك قال : (ألْقَى اللهُ فِي فِكْرِ النَّاهِينَ حَتَّى بَاعُوا الدُّورَ وَالْمَسَاكِنَ ، وَخَرَجُواْ مِنَ الْقَرْيَةِ ، فَضَرَبُواْ الْخِيَامَ خَارِجاً مِنْهَا ، فَأَقْبَلَ الْعَذابُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ، فَبَدَأ الْمَسْخُ مِنَ الرَّأسِ حَتَّى صَارَتْ لَهُمْ أذْنَابٌ كَأَذْنَاب الْقِرَدَةِ ، فَكَانَ النَّاهُونَ لاَ يَرَوْنَ أحَداً يَخْرُجُ مِنَ الْقَرْيَةِ ، قَالُواْ : لَعَلَّ الْقَوْمَ قَدْ خُسِفُوأ أوْ رُمُواْ بحِجَارَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ، فَحَمَلُواْ رَجُلاً مِنْهُمْ عَلَى سُلَّمٍ فَأَشْرَفَ عَلَيْهِمْ ، فَإذا هُمْ قِرَدَةٌ لَهُمْ أذْنَابٌ ، فَصَاحَ فَقَالَ : إنَّ الْقَوْمَ قَدْ صَارُوا قِرَدَةً ، فَكَسَرُواْ الْبَابَ ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ مَنَازلَهُمْ فَإذا هُمْ يَبْكُونَ وَيَضْرِبُونَ بالأَذْنَاب ، يُعْرَفُ الرَّجُلُ مِنَ الْمِرْأَةِ ، فَقَالُوا لَهُمْ : ألَمْ نَنْهَكُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ ؟ فَأَشَارُواْ برُؤُوسِهِمْ : بَلَى ؛ وَدُمُوعُهُمْ تَسِيلُ عَلَى خُدُودِهِمْ).
قال أنسُ بن مالكٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّهُ سُئِلَ : هَلْ فِي أُمَّتِكَ خَسْفٌ ؟ قَالَ : " نَعَمْ " قِيلَ : وَمَتَى ذلِكَ يَا رَسُولِ اللهِ ؟ قَالَ : " إذا لَبسُواْ الْحَرِيرَ ، وَاسْتَبَاحُواْ الزِّنَا ، وَشَرِبُواْ الْخُمُورَ ، وَطَفَّفُواْ الْمِكْيَالَ والْمِيزَانَ ، وَاتَّخَذُوا الْقَيْنَاتِ وَالْمَعَازِفَ ، وَضَرَبُواْ بالدُّفُوفِ ، وَاسْتَحَلُّوا الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ ".
وقال عكرمةُ : (جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَبْكِي وَالْمُصْحَفُ فِي حِجْرِهِ ، فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ : هَؤُلاَءِ الْوَرَقَات ، فَإذا هِيَ سُورَةُ الأَعْرَافِ ، فَقالَ : أَتَعْرِفُ إيلَةَ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قالَ : كَانَ بهَا حَيٌّ مِنَ الْيَهُودِ فِي زَمانِ دَاوُدَ ، حُرِّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدُ الْحِيتَانِ ، وَاخْتَارُواْ السَّبْتَ فَابْتُلُواْ فِيْهِ ، وَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ فِيْهِ الصَّيْدُ ، وَأُمِرُواْ بتَعْظِيمِهِ إنْ أطَاعُواْ أُجِرُواْ ، وَإنْ عَصَوا عُذِّبُواْ.
وَكَانَتِ الْحِيتَانُ تَأتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعاً بيْضاً سِمَاناً كَأَنَّهَا الْكِبَاشُ تَنْطَحُ ، وَيَوْمَ لاَ يَسْبتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ ، فَوَسْوَسَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ ، وَقَالَ : إنَّما نُهِيتُمْ عَنْ أخْذِهَا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَاتَّخَذُوا الْحِيَاضَ وَكَانُواْ يَسُوقُونَ إلَيْهَا الْحِيتَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَتَبْقَى فِيْهَا وَلاَ أخَذُوا وَِأكَلُواْ وَعَبَّوا وَكَثُرَ مَالُهُمْ ، فَلَعَنَهُمْ دَاوُدُ عليه السلام فأَصْبَحُواْ قِرَدَةً خَاسِئِِينَ). وقال قتادة : (صَارَ الشَّبَابُ قِرَدَةً ، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ }[الأعراف : 165] أي شَدِيدٍ وَجِيعٍ ، قرأ أهلُ المدينةِ بكسرِ الباء وجزمِ الياء من غيرِ همزٍ ، وقرأ ابنُ عامر كذلكَ إلا أنَّه بهمزة ، وقرأ عاصمُ في روايةِ أبي بكر بالفتحِ وجزم الياء وفتح الهمزة على وزنِ فَيْعَلٍ مثل صَيْقَلٍ ؛ وقرأ أهلُ البصرةِ (بَئِيسٍ) بفتحِ الباء وكسرِ الهمزة على وزن فعيلِ ، وقرأ الحسن (بيسٍ) بكسرِ الباء وفتح السِّين على (بيسَ الْعَذاب) ، وقرأ مجاهدُ (بَايسٍ) على وزن فاعِلٍ ، وقرأ أبو إياس بفتحِ الباء والياء من غير همزٍ ، وقرأ الباقون (بَئِيسٍ) على وزن فَعِيلٍ.
(0/0)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } ؛ معناهُ : وإذْ عَلِمَ ربُّك ، وقد يأتي تَفْعَّلَ بمعنى أفْعَلْ يقالُ : أوْعَدَنِي وتَوَعَّدَنِي ومعناهما واحدٌ ، وَقِيْلَ : معنى (تَأَذنَ) أقسمَ ربُّكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي ليبعثنَّ على مَن يبقَى منهم مِن الذين لا يُؤمنون مِن بعدِهم الجزيةَ والقتلَ فبَعَثَ اللهُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم وأُمَّته فوضَعُوا عليهم الجزيةَ إلى يومِ القيامة ، وفي هذه الآيةِ دلالةٌ على أنَّ اليهودَ لا تُرفع لهم رايةُ عزٍّ إلى يومِ القيامة. وقولهُ تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } ؛ يجوزُ أن يكون المرادُ به عقوبةَ الآخرةِ وكلُّ آتٍ قريبٌ ، ويجوزُ أنْ يكون المرادُ به أنه سريعُ العقاب لِمَن شاءَ أن يُعاقِبَهُ في الدُّنيا. وقولُه تعالى : { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؛ أي لِمَن تابَ عن الكُفرِ والمعاصي.
(0/0)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً } ؛ معناهُ : وفرَّقنَا اليهودَ في البلادِ تَفرِيقاً شَديداً استثنَى أمرَهم فليس لهم مكانٌ يجتَمعون فيه ، ولا يُمكِنُهم الْمُقَامُ في موضعِ إلاَّ على ذُلٍّ بالقتلِ والجزية.
قَوْلُهُ تَعَالىَ : { مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ } ؛ أرادَ بالصَّالِحين مُؤمِني أهلِ الكتاب ، وَقِيْلَ : أرادَ بهم وراءَ نَهرِ أرْدَاف ، بمعنى الذين وراءَ رملِ عالِج من قومِ مُوسَى الذين ذكَرْنا أنَّ النبِيَّ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ بهِ مرَّ بهم ، وقد ذكرنا في ما تقدَّم. وقوله تعالى : { وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ } أرادَ به الكفارَ منهم كأنَّهُ قال : ومنهمُ الصَّالِحون ومنهم سِوَى الصالحين. وَقِيْلَ : معناهُ : ومنهم دون ذلك هم رملِ عالِج يعني الذين هم في هذه البلادِ من اليهود.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } ؛ أي اختَبرنَاهم بالْخِصَب والجدب ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ، من الكُفرِ إلى الإيمان.
(0/0)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ } ؛ أي خَلَفَ مِن بعد هؤلاءِ الذين قطَّعناهم في الأرضِ ذرِّيةُ سُوءٍ ، وهم الذين أدرَكَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، قال ابنُ الأعرابي : (الْخَلَفُ بفَتْحِ اللاَّمِ الصَّالِحُ ، وبإسكانِ اللام الطَّالِحُ) ، قال لَبيدٌ : ذهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أكْنَافِهِمْ وَبَقِِيْتُ فِي خَلْفٍ كَجِلْدِ الأَجْرَبومنهُ قيلَ لرَدِّ الكلامِ خِلْفٌ ، ومنه المثلُ السائر (سَكَتَ ألْفاً وَنَطَقَ خَلْفاً) ، قال النَّضِرُ بنُ شُمَيلٍ : (الْخَلَفُ بِفَتْحِ اللاَّمِ وَإٍسْكَانِهَا فِي الْقَرْنِ السُّوءِ ، وَأَمَّا الْقَرْنُ الصَّالِحُ فَتَحْرِيكُهَا لاَ غَيْرَ ، قَالَ الشَّاعِرُ : إنَّا وَجْدَنَا خَلْفَنَا بئسَ الْخَلْفِ عَبْداً إذا مَا نَاءَ بالْحِمْلِ خَضَفْوقال محمَّد بن جرير : (أكْثَرُ مَا جَاءَ فِي الْمَدْحِ بفتحِ اللاَّمِ ، وَفِي الذمِ بِتَسْكِينِهَا ، وقد تُحرَّكُ في الذمِّ ويُسَكَّنُ في المدحِ. قال حسَّانٌ في المدحِ : لَنَا الْقَدَمُ الأُوْلَى إلَيْكَ وَخَلْفُنَا لأَوَّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابعُقال : (وَأحْسَبُهُ فِي الذمِّ مَأْخوذٌ مِنْ خَلْفِ اللَّبَنِ إذا حَمِضَ مِنْ طُولِ تَرْكِهِ فِي السِّقَاءِ حَتَّى يَفْسَدَ ، وَِِِِمِنْهُ قَوْلُهُم : خَلْفُ فَمِ الصَّائِمِ ؛ إذا تَغَيَّرَتْ ريحُهُ وَفَسَدَتْ ، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ الْفَاسَدَ مُشَبَّهٌ بهِ). والحاصلُ أنَّ كُلاً منهما يُستعملان في الشرِّ الخيرِ ، إلاَّ أنَّ أكثرَ الاستعمالِ في الخيرِ بالفتح.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَرِثُواْ الْكِتَابَ } أي التَّوراة ، والميراثُ ما صارَ للباقي من جهةِ البَادِي كأنه قال فخَلَفَ من بعدِ الهالِكين منهم خَلْفٌ وَرُثوُا الكتابَ. وقولهُ تعَالى : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـاذَا الأَدْنَى } ؛ يعني به أخْذُ الرَّشوةِ في الْحُكمِ ؛ لتغيِّر الحقَّ إلى الباطلِ. وقال بعضُهم : كانوا يحكِمُون بالحقِّ لكن بالرَّشوة ، وإنما سُمي متاعُ الدنيا عَرَضاً لقلَّة بقائهِ كأنه يعرضُ فيزول. قَالَ اللهُ تَعَالَى : { هَـاذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا }[الأحقاف : 24] أرادَ بذلك السَّحابَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } ؛ أي يقولون مع أخذِهم الرَّشوة أنه سيُغفَرُ لنا ذلك ، وما عمِلناهُ باللَّيل كُفِّرَ عنا بالنهار ، وما علمناهُ بالنهار كُفِّرَ عنا بالليلِ ، { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } ؛ معناهُ : وإنْ عرضَ لهم ذنبٌ آخر عَمِلُوهُ ، وفي هذا بيانُ أنَّهم كانوا يُصِرُّونَ على الذنب وأكلِ الحرام ، وكانوا يستَغفِرُونَ مع الإصرار ، فكيف يُغفَرُ لهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ } ؛ معناهُ : ألَمْ يُؤخذ عليهم الميثاقُ في التَّوراةِ ألاَ يقولوا على اللهِ إلا الصِّدقَ ، وكان في التوراةِ أنَّ مَن ارتكبَ ذنباً عظيماً لَمْ يُغفر له بالتوبةِ ، { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } ؛ فكانوا يدرسون ما في التَّوراةِ ، ويذكرون ما أُخذ عليهم من المواثيقِ ، يقولون مع إصرارِهم على الذُّنوب : سيُغفَرُ لنا.
وقال الحسنُ : (مَعْنَى الآيَةِ أنَّهُمْ كَانُواْ يَأْخُذُونَ الدُّنْيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حُرِّمَ عَلَيهِمْ وَيُمْنَعُونَ كُلَّ حَقٍّ ، وَيُنْفِقُونَ فِي كُلِّ سَرَفٍ ، وَيَتَمَنَّونَ مَعَ هَذِهِ الأَشْيَاءِ عَلَى اللهِ الأَمَانِيَّ ، وَيَقُولُونَ : سَيُغْفَرُ لَنَا ، وإنْ يأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ كَمَا أخَذُوأْ ، ألَمْ يَعْرِفُواْ فِي الْكِتَاب خِلاَفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ). وقرأ السلميُّ : (وَادَّارَسُوا فِيْهِ مِثْلَ ادَّارَكُواْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ؛ أي يتَّقونَ المعاصي والشِّرك وأكلِ الحرامِ ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؛ ما يَدرُسون في كتابهم ، وَقِيْلَ : أفلاَ يعقِلُونَ أن الإصرارَ على الذنب ليس من علامةِ المغفور لَهم.
(0/0)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
َقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ } ؛ معناهُ : والذين يعمَلون بما في كتاب الله ، قال مجاهدُ : (هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بالْكِتَاب الَّذِي جَاءَ بهِ مُوسَى ، لاَ يُحَرِّفُونَهُ وَلاَ يَكْتُمُونَهُ ، أحَلُّواْ حَلاَلَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ ، وَلاَ تَتَّخِذُونَهُ مَأْكَلَةً ، نَزَلَتْ فِي عَبْدِاللهِ بْنِ سَلاَمٍ وَأصْحَابهِ).
وقال عطاءُ (يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم). قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَأقَامُوا الصَّلاَةَ) أي عَمِلُوا الصالحاتِ ، إلاَّ أنَّهُ خَصَّ الصَّلاةَ بالذِّكرِ لِعظَمِ شأنِها ، وقولُه تعالى : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ } ؛ أي نُعطِيهِ أجرَهم في القولِ والعمل.
(0/0)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } ؛ معناهُ : واذكُرْ يا مُحَمَّدُ إذْ قَلَعْنَا الجبلَ من أصلهِ فجعلناهُ كالظُّلَّةِ فوقَ رأسِ بني إسرائيل ، وكلُّ شىء اقتلعتَهُ فقد نَتَقَْتَهُ ، ومنه نَتَقَتِ المرأةُ إذا أكثرَتِ الولَدَ ؛ أي اقتلَعَتْ ما رَحِمِهَا من ولدِها ، وامرأةُ مِنْتَاقٌ إذا كانت تكثرُ الولدَ.
وقال مجاهدُ : (نَتَقْنَا الْجَبَلَ ؛ أيْ قَطَعْنَا الْجَبَلَ). وقال الفرَّاءُ : (عَلَّقْنَا). وقال بعضُهم : أصلُ النُّتُوقِ وَالنَّتْقِ أنْ تقطعَ الشيءَ من موضعهِ فترمِي به ، وقال أبانُ بن ثعلبةَ : (سَمِعْتُ رَجُلاً مِنَ الْعَرَب يَقُولُ لِغُلاَمِهِ خُذِ الْجُوَالِقَ وَانْتُقْهُ ؛ أيْ نَكِّسْهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ }. قال عطاءٌ (كَأَنَّهُ سَقِيفَةٌ ، وَالظُّلَّةُ كُلُّ مَا أظَلَّكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } ؛ أي ظَنُّوا أنه ساقطٌ عليهم لارتفاعهِ فوقَهم ، وكان السببُ في رفعهِ فوقَهم أنه لَمَّا شقَّ عليهم ما كان في التوارةِ من المواثيقِ ، وخَافُوا أن لا يُمكِنَهم الوفاءُ به امتَنَعُوا عن التزامهِ ، فرفعَ اللهُ الجبلَ فوقَهم.
وقولهُ تعالى : { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ } ؛ أي وقُلنا لَهم خذُوا ما آتينَاكُم بقوَّة ، أي اعمَلُوا به بجِدٍّ ومواظبةٍ في طاعةٍ ، { وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أيْ ما في الكتاب الذي أعطينَاكُم من عِظَةٍ وجزاءٍ لكي تتَّقُوا المعاصيَ ، وكان دَكّاً حين أبَوا أنْ يَقْبَلُوا أحكامَ التَّوراة ويعمَلُوا بما فيها ، وكانت شريعةً ثَقيلةً فرفعَ اللهُ عليهم جَبَلاً على مقدارِ عسكَرِهم ، وَكانوا فَرْسَخاً في فَرْسَخٍ ، وَقِيْلَ لَهم : إنّ قَبلْتُمْ ما فيها وإلاَّ لَنُوقِعَنَّهُ عَلَيْكُمْ.
قال الحسنُ : (فَلَمَّا نَظَرُوا إلَى الْجَبَلِ ، خَرَّ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ سَاجِداً عَلَى حاجِبهِ الأَيْسَرِ ، وَنَظَرَ بعَيْنِِهِ الْيُمْنَى إلَى الْجََبَلِ خَوْفاً أنْ يَسْقُطَ عَلَيْهِمْ ، فَلِذلِكَ لَيْسَ فِي الأَرْضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ وَهُوَ يَسْجُدُ عَلَى حَاجِبهِ الأَيْسَرِ ، وَيَقُولُونَ : هَذِهِ السَّجْدَةُ الَّتِي رُفِعَتْ بهَا عَنَّا الْعُقُوبَةُ).
(0/0)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى } ؛ قال المفسِّرون : لَمَّا خلقَ الله آدمَ مَسَحَ ظهرَهُ ، وأخرجَ منه ذُرِّيَّتَهُ كلَّهم كهيئَةِ الذرِّ ، واختلفوا في موضعِ الميثاق ، فقال ابنُ عبَّاس : (هُوَ بَطْنُ نُعْمَانَ وَادٍ جَنْبَ عَرَفَةَ) ، وَقِيْلَ : هي أرضُ الهندِ ، وقال الكلبيُّ : (هُوَ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ).
وقال السديُّ : (أخْرَجَ اللهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَمْ يُهْبطْهُ إلَى الأَرْضِ ، فَأَخْرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ ذُرِّيَّتَهُ وَكُلُّ مَنْ هُوَ خَارجٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فأَخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُمْنَى ذُرَّيَّةُ صَغَاراً بيْضاً مِثْلَ اللُّؤلُؤِ ، فَقَالَ لَهُمْ : أُدْخُلُوا الْجَنَّةَ برَحْمَتِي ، وَأخْرَجَ مِنْ صَفْحَةِ ظَهْرِهِ الْيُسْرَى ذُرِّيَّةً سُوداً ، وَقَالَ لَهُمْ : أُدْخُلُواْ النَّارَ وَلاَ أُبَالِي).
فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ الْيَمِينِ }[الواقعة : 27] ، { فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَآ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ }[الواقعة : 8-9] ، وركَّب فيهم جميعَ العقُولِ حتى سَمِعُوا كلامَ اللهِ وفَهِمُوا خطابَهُ ، فقال لَهم : اعلَمُوا أنه لا إلَهَ غَيْري ، ولا ربَّ لكم سِوَايَ ، فلا تُشرِكُوا بي شيئاً ، وأنِّي مُرسِلٌ إليكم رسُلاً يذكِّرونكم عَهدِي وميثاقي ومنَزِّلٌ عليكم كِتَاباً فَتَكَلَّموا ألستُ بربكم ؟ فقالوا : بلَى ، شهِدْنا أنَّك ربُّنا وإلَهُنا لا ربَّ غيرُكَ. فأقَرُّوا كلُّهم طائعين ، وأخذ بذلك ميثاقَهُم وكتبَ آجالَهم وأرزاقَهم ومُصابَهم.
فنظرَ إليهم آدمُ عليه السلام فرأى فيهم الغنِيَّ والفقيرَ ، وحسَنَ الصُّورة وغير ذلك ، فقال : يا رب لو شِئْتَ سوَّيتَ بينهم ، قال : ونظرَ إلى الأنبياءِ بينهم يومئذ مثل السُّرُجِ ، فلما أخذ عليهم الميثاقَ ردَّهم إلى صُلب آدمَ ، فالناسُ محبوسون في أصلابٍ آبائهم حتى يخرجَ كلُّ من أخرجَهُ في ذلك الوقتِ ، وكلُّ مَن ثبتَ على الإسلامِ فهو على الفطرةِ الأُولى ، وكلُّ مَن جَحَدَ وكفَرَ ، فإنَّما تغيَّرَ عنها ، ومنه قولهُ صلى الله عليه وسلم : " كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يَهُوِّدَانِهِ وَيُنْصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ ، حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِراً وإمَّا كَفُوراً " فَلا تقومُ الساعة حتى يولدَ كلُّ مَن أخذ ميثاقهُ ، لا يزيد فيهم ولا ينقصُ منهم.
وتقديرُ الآية : وإذْ أخذ ربُّك من ظهورِ بني آدم ذرِّياتِهم ، ولَمْ يذكُرْ ظهرَ آدم ، وإنَّما أُخرِجُوا يومَ الميثاق من ظهرهِ ؛ لأنه أخرجَ ذرِّيةَ آدمَ بعضُهم من ظهرِ بعض على نحو ما يتولَّدُ الأبناءُ من الآباءِ ، فاستغنَى عن ذكرِ ظَهْرِ آدمَ بقولهِ : { مِن بَنِي ءَادَمَ } ؛ لأنه قد عُلِمَ أنَّهم كلُّهم بنوهُ ، وأُخرجُوا من ظهرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { شَهِدْنَآ } ؛ يجوزُ أن يكون هذا مِن قول الذينَ أُخِذ عليهم الميثاقُ. ثُم ابتدأ فقال تعالى : { شَهِدْنَآ } { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ } ؛ ويجوز أنْ يكون تَمامُ الكلامِ عند قوله : { بَلَى } ثم يقولُ الله تعالى : شَهِدنَا عليكم ، وأخَذْنَا الميثاقَ كَيْلاَ يقولُوا يومَ القيامةِ : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ } أي عن هذا الميثاقِ والإقرارِ.
(0/0)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ } ؛ أي ولِكَيلاَ تقولوا إنمَا أشركَ آباؤُنا من قبلُ ، وكنَّا ذرِّية من بعدِهم فاتَّبعنَاهُم ؛ لأنَّا قد جعلنا في عقولِكم ما يمكِّنُكم أنْ تعرِفُوا به صحَّةَ ما كان عليه آباؤُكم وفسادَهُ. وقولهُ تعالى : { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } ، أي آباؤُنا المشركون ، يقالُ لَهم : لا نُهلِكُكم بما فَعَلَ آباؤُكم ، وإنَّما نُهلِكُكم بما فعَلتُم أنتُمْ.
فإن قِيْلَ كيف يكون الميثاقُ حُجَّةً عليهم - أي على الكفَّار منهم - وهم لا يَذكُرونَ ذلك حين أخرَجَهم من صُلب آدمَ ؟ قِيْلَ : لَمَّا أرسَلَ اللهُ الرُّسلَ ، فأخبرُوهم بذلك الميثاقِ ، وصارَ قولُ الرُّسل حُجَّةً عليهم.
قوله : (ذُرِّيَّاتُهُمْ) قرأ أهلُ مكَّة وأهلُ الكوفةَ (ذُرِّيَّتَهُمْ) بغيرِ ألف ، وقرأ الباقون بالألف على الجمعِ ، وقولُه تعالى : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[الأعراف : 172] { أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ } قرأ أبو عمرٍو بالياء ، وقرأ الباقون بالتَّاء فيهما.
(0/0)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَكَذالِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } ؛ أي هكذا نُبَيِّنُ الآياتِ كما بيَّنَّاها في أمرِ الميثاق ، و { نُفَصِّلُ الآيَاتِ } ذِكْرُ آيةٍ بعدَ آيةٍ من الموعظة والمعصيَةِ والوعد والوعيدِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } ؛ أي لِكَي يَرْجِعُوا عن الكفرِ إلى الإيمان ، والمعنى : ليعلَمُوها مفصَّلةً ولعلَّهم يرجعون.
(0/0)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
وقولهُ تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } ؛ قال ابنُ عبَّاس وابنُ مسعودٍ : (نَزَلَتْ فِي بَلْعَمَ بْنِ بَاعُورَا) ، قال مجاهدُ : (وَيُقَالُ لَهُمْ : بَلْعَمُ بْنُ بَاعِر) ، وقال مقاتلُ : (وَيُقَالُ لَهُ أيْضاً : بَلْعَامُ ، وكان عابداً من عُبَّاد بني إسرائيلَ ، وكان في المدينةِ التي قصدَها موسى عليه السلام ، وكان أهلُ تلك المدينةِ كُفَّاراً ، وكان عندَهُ اسمُ الله الأعظم ، فسألَهُ ملِكُهم أن يدعوَ على مُوسَى بالاسمِ الأعظمِ ليدفعَهُ عن تلك المدينةِ ، فقال لَهم : دِينهُ ودِيني واحدٌ ، وهذا شيءٌ لا يكون ، فكيف ادعُو عليهِ وهو نبيُّ الله ، ومعه الملائكةُ والمؤمنون ، وأنا أعلمُ مِن الله ما أعلمُ ، وإني إنْ فعلتُ ذلك ذهبَتْ دُنياي وآخرَتِي ، فلم يزالُوا به يفتنونَهُ بالمالِ والهدايا حتى فَتَنُوهُ فَافْتَتَنَ.
فرَكِبَ أتَاناً له متوجِّهاً إلى جبلٍ ليدعُوَ عليه ، فما سارَ على الأتَانِ إلاَّ قليلاً فرَبَضَتْ فَنزل عنها ، فضربَها حتى كادَ يُهلِكُها ، فقامَتْ فرَكِبَها فرَبَضَتْ ، فضرَبَها فأنطقَها اللهُ تعالى ، فقالت : يا بَلْعَمُ ويحَكَ أين تذهبُ ؟ ألاَ ترَى إلى هؤلاءِ الملائكة أمَامِي تردُّني عن وجهي ؟ فكيف تريدُ أنْ تذهبَ لتدعوَ على نبيِّ الله عليه السلام وعلى المؤمنين ؟ فخلَّى سبيلَها ، وانطلقَ حتى أتى إلى الجبل وحين وصل إلى الجبلِ ، وجعل يدعُو فكان لا يدعُو بسُوءٍ إلاَّ صرفَ اللهُ لسانَهُ إلى موسَى ، فقال له قومهُ : يا بلعمُ! إنَّما أنتَ تدعو علينا وتدعُو لهم ؟ فقالَ : هذا واللهِ الذي أملِكهُ ، وأنطقَ اللهُ به لسانِي.
ثم امتدَّ لسانهُ حتى بلغَ صدرَهُ ، فقالَ لَهم : قد ذهبَ منِّي الآنَ الدُّنيا والآخرةَ فلم يَبْقَ إلا المكرُ والحيلة ، فسَأَمكُرُ لكم وأحتالُ ، حَلُّوا النساءَ وزيِّنُوهُنَّ وأعطوهن الطّيبَ ، وأرسلُوهنِ إلى العسكر ومُرُوهُنَّ لا تمنعُ امرأةٌ نفسَها من رجلٍ أرادَها ، فإنَّهم إنْ زَنى منهم رجلٌ واحد كُفِيتُمُوهُمْ ، ففعَلُوا.
فلما دخلَ النساءُ العسكرَ مرَّتِ امرأةٌ برجُلٍ من عُظماءِ بني إسرائيل ، فقامَ إليها فأخذها بيدهِ حين أعجبتْهُ بحُسنِها ، ثم أقبلَ بها إلى موسَى وقالَ له : إني لأَظُنُّكَ أنْ تقولَ هذه حرامٌ ؟ قالَ : نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْكَ لاَ تَقْرَبْهَا ، قال : فواللهِ لا نطيعُكَ في هذا! ثم دخلَ بها قُبَّتَهُ فوقعَ عليها ، فأرسلَ اللهُ على بني إسرائيل الطاعونَ في الوقتِ.
وكان فِنْحَاصُ بن العيزرا صاحبَ أمرِ مُوسَى ، وكان رجُلاً له بسطَةٌ في الْخَلْقِ وقوَةٌ في البطشِ ، وكان غائباً حين صنعَ ذلك الرجلُ بالمرأةِ ما صنعَ ، فجاء والطاعونُ يَحُوسُ في بني إسرائيلَ ، فأُخبرَ الخبرَ ، فأخذ حَرْبَتَهُ وكانت مِن حديدٍ كلُّها ، ثم دخلَ عليه القبَّة ، فوجدَهما متضاجِعَين فدَقَّهُما بحربتهِ حتى انتظَمَهما بها جميعاً ، فخرجَ بهما يحملُهما بالحربةِ رافعاً بهما إلى السَّماء ، والحربةُ قد أخذها بذراعهِ واعتمدَ بمِرفَقِهِ وأسندَ الحربةَ إلى لِحيته وجعلَ يقولُ : اللُّهُمَّ هكذا نفعلُ بمَن يعصِيكَ ، فرُفِعَ الطاعونُ من حينئذٍ عنهم فحُسِبَ مَن هَلَكَ من بني إسرائيلَ في ذلك الطاعون ، فوجدُوهم سَبعِينَ ألفاً في ساعَةٍ من نَهارٍ وهو ما بين أنْ زَنَى ذلك الرجلُ بها إلى أن قُتِلَ.
(0/0)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } ؛ أي بالآياتِ بأنْ نُمِيتَهُ على الْهُدَى ونَعْصِمَهُ عن الكُفرِ ونَحُولَ بينَهُ وبين المعصيةِ. وَقِيْلَ : معناهُ : لفَضَّلْنَاهُ وشرفناه ورفعناهُ منْزلةً بالآياتِ. قال مجاهدُ وعطاء : (مَعْنَاهُ : وَلَوْ شِئْنَا رَفَعْنَا عَنْهُ الْكُفْرَ بالآيَاتِ وَعَصَمْنَاهُ ، { وَلَـاكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ } ؛ أي ركَنَ إلى الأرضِ) ، وقال مجاهدُ : (سَكَنَ إلى الأَرْضِ) ، وقال مقاتلُ : (رَضِيَ بالدُّنْيَا) ، وَقِيْلَ : مَالَ إلى مسافلِ الأمُور ، وتَرَكَ معالِيَها.
وأصلُ الإخلادِ البقاءُ والإقامَةُ واللُّزومُ على الدوامِ ، كأنه قال : لَزِمَ الْمَيْلَ إلى الأرض ، ليُعجلَ الراحةَ واللَّذاتِ ، يقال : فلانٌ مُخَلَّدٌ ؛ أي بَطِيءُ الشَّيب. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } ؛ أي انْقَادَ لهواهُ ، فلم يرفعْهُ بالآياتِ ، قال عطاءُ : (أرَادَ الدُّنْيَا وَاتَّبَعَ شَيْطَانَهُ) ، وقال بعضُهم : (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) أي امرأتَهُ ؛ لأنَّها كانت حَمَلَتْهُ على الخيانةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } ؛ اللَّهْثُ : شِدَّةُ النَّفَسِ عند الإعياءِ ، وهو في الكلب طَبْعٌ ، فإنَّ كلَّ شيءٍ يَلْهَثُ من إعْيَاءٍ وعطشٍ ما خَلاَ الكلبَ ، فإنَّهُ يَلْهَثُ في الأحوال كلِّها ، فإنَّكَ إنْ طَرَدْتَهُ وزجرتَهُ يلهثُ ، وإن تَرَكْتَهُ يلهثُ ، فكذلك الكافرُ إنْ وَعَظْتَهُ وزَجرتَهُ لَمْ يتَّعِظْ ، وإنْ تركتَهُ لَمْ يَعْقِلْ ، وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ أنَّ الْكَافِرَ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ لَمْ يَحْمِلْهَا ، وَإنْ تُرِكَ عَنْهَا لَمْ يَهْتَدِ إلَيْهَا ، كَالْكَلْب إنْ كَانَ رَابضاً لَهَثَ ، وَإنْ طُرِدَ لَهَثَ).
وَقِيْلَ : هو المنافقُ لا يُنيبُ إلى الحقِّ دُعِيَ أم لَمْ يُدْعَ ، وُعِظ أو لَمْ يُوعَظْ ، كالكلب يلهثُ تُرِكَ أو طُرِدَ ، وكذلك الكافرُ إنْ وعظتَهُ فهو ضالٌّ ، وإنْ تركتَهُ فهو ضالٌّ كالكلب ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ }[الأعراف : 193].
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي ذلك صفةُ المكَذِّبين بآياتنا ، { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ } ؛ أي أقْصُصْ عليهم أخبارَ المنافقين ؛ ليعتبرُوا بهم فلا يَسلِكُوا مسالِكَهم. وقوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ؛ أي رجاءَ أن لا يتفَكَّروا.
(0/0)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
قَْوْلُهُ تَعَالَى : { سَآءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } ؛ أي بئْسَ الوصفُ وصفُ القومِ كذبُوا بآياتِنا ، وهذا السُّوء إنما يرجعُ إلى فعلِهم لا إلى نفسِ الْمَثَلِ ، كأنهُ قال : ساءَ فعلُهم الذي جلبَ إليهم الوصفَ القبيحَ ، فأمَّا المثَلُ من اللهِ فحكمةٌ وصواب ، و { مَثَلاً } منصوبٌ على التمييزِ ، أي ساءَ المَثَلُ مَثَلاً : قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } ؛ أي إنما يَصرِفُونَ أنفُسَهم لمعصيتِهم ، واللهُ تعالى لا تضرُّه معصيةٌ العاصِين ، ولا تنفعهُ طاعةُ المطيعين.
(0/0)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي } ؛ أي مَن يُوَفِّقْهُ اللهُ لدينهِ فهو المهتدي مِن الضَّلالةِ ، { وَمَن يُضْلِلْ } ؛ خَذَلَهُ عَنْ دِينه ، { فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ الْمَغْبُونُونَ بعقوبةِ الآخرةِ.
(0/0)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ } ؛ وقال ابنُ عباس : (مَعْنَاهُ : وَلَقَدْ خَلَقْنَا لِجَهَنَّمَ أهْلاً) ، { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا } ؛ الْخَيْرَ ، { وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } ؛ الْهْدَى ، { وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } ؛ الْحَقَّ ، { أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ } ؛ في المأْكَلِ والْمَشْرَب ، والذِّهنِ لا في الصُّوَرِ ، { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } ؛ لأنَّ الأنعامَ مطيعةٌ لله تعالى ، والكافرَ غيرُ مطيعٍ. وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } ؛ أي عن ما ينفعَهُم وعن ما يحِلُّ لهم في الآخرةِ.
وَقِيْلَ : إنَّ اللامَ في قوله : { لِجَهَنَّمَ } لامُ العاقبةِ ، يعني أنَّ عاقبَتهم إلى المصيرِ إلى جهَّنم ، وهذا كما قال تعالى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً }[القصص : 8] أي كان عاقبَتُهم أن صارَ لهم عدوّاً وإلاّ فهُم التقطوهُ ليكون لهم قُرَّةَ عَيْنٍ ، كما قال تعالى : { وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ }[القصص : 9] ، ويقال : لِدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لْلِخْرَابِ قال الشاعرُ : أمْوَالُنَا لِذوي الْمِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا وَدُورُنَا لِخَرَاب الدَّهْر نَبْنِيهَاوقال آخرُ : ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْمَوْتِ يُولَدُ وَلَسْتُ أرَى حَيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُوقال آخرُ : ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الْوَالِدَاتُ سِخَالَهَا كَمَا لِخَرَابِ الدَّهْر تُبْنَى الْمَسَاكِنُوعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ قال : " إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا ذرَأ لِجَهَنَّمَ مَا ذرَأ ، كَانَ وَلَدُ الزِّنَا مِمَّنْ ذرَأ لِجَهَنَّمَ "
(0/0)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } ؛ سببُ نزول هذه الآية : أن ((رجُلاً)) دعا اللهَ في صلاته ، ودعا الرحمن ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللهُ : أليس يزعمُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابهُ أنَّهم يعبدون رَبّاً واحداً ، فما بالُ هذا يعبدُ ربَّين اثنين؟! فأنْزَلَ اللهُ هذه الآيةَ.
ومعناها : وللهِ الصفاتُ العُلَى ؛ وهي : الرحمنُ ؛ والرحيمُ ؛ والعزيز ؛ والجبَّارُ ؛ والمؤمِنُ ؛ والمهيمِنُ ؛ والقدُّوس ؛ وأشباهُ ذلك من الصفاتِ التي معانيها (فَادْعُوهُ بهَا) أي بالأسماءِ الْحُسنَى ، لا ينبغِي أن يقولَ : يا سَخِيُّ ؛ يا جَلالُ ؛ يا رفيقُ ، ولكن ليَقُلْ : يا جَوَادُ يا سخِيُّ يا قوِيُّ يا رحيمُ كما وصفَ بها نَعْتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ } أي يُكذِّبون ، وقال قتادةُ : (يُشْرِكُونَ) ، وقال عطاءُ : (يُضَاهُونَ) وقال ابنُ عبَّاس : (إلْحَادُهُمْ فِي أسْمَاءِ اللهِ أنَّهمْ عَدَلُواْ بهَا عَمَّا هِيَ عَلَيْهِ ، فَسَمَّواْ بهَا أوْثَانَهُمْ وَزَادُُوا فِيْهَا وَنَقَصُواْ مِنْهَا ، واشْتَقُّوا اللاَّتَ مِنَ اللهِ ؛ وَالْعُزَّى مِنَ الْعَزِيزِ ؛ وَالْمَنَاةَ مِنَ الْمَنََّانِ).
قرأ الأعمشُ وحمزة (يَلْحَدُونَ) بفتح الياء والحاءِ هنا وفي النحلِ وفي حم ، وقرأ الباقون بضمِّ الياء وكسرِ الحاء وهما لُغتان فصِيحَتان. والإلحادُ : هو الْمَيْلُ عن القَصْدِ ، ورُوي عن الكسائيِّ أنه الذي في النحلِ بفتح الياءِ والحاء ، والذي في الأعراف وحم بالضمِّ ، وكان يفرِّقُ بين الإلحاد فيقولُ : (الإلْحَادُ : الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ ، وَاللُّحُودُ : الرُّكُونُ) ويزعمُ أن الذي في النحلِ بمعنى الرُّكون. قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؛ وعيدٌ لَهم على الكُفرِ والتكذيب.
(0/0)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا ذكَرَ اللهُ تَعَالَى{ وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ }[الأعراف : 159] قَالَ أُنَاسٌ مِنْ أًصْحَابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : ذَكَرَ اللهُ هَؤُلاءِ الرُّهْطَ بالْخَيْرِ الْجَسِيمِ ، وَإنْ آمَنُوا بكَ وَصَدَّقُوكَ جَعَلَ اللهُ لَهُمْ أجْرَانِ ، وَلَنَا أجْرٌ وَاحِدٌ ، وَنَحْنُ صَدَّقَنَا بالْكُتُب وَبالرُّسُلِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، لاَ يَخْلُوا الزَّمَانُ مِنْ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ عُلَمَاء أتْقِيَاء يَدْعُونَ النَّاسَ إلَى الْحَقِّ).
(0/0)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي الذين كَذبُوا بدَلائِلِنا سنَحُطُّهم إلى العذاب درجةً إلى أن يبلغُوا إلى العذاب ، وقال عطاءُ : (سَنُمَكِّنُ لَهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ). وقال الكلبيُّ : (نُزَيِّنُ لَهُمْ أعْمَالَهُمْ فَنُهْلِكُهُمْ). وقال الضحَّاك : (كُلَّمَا جَدَّدُواْ لَنَا مَعْصِيَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً). وقال الخليل : (سَنَطْوِي عُمْرَهُمْ فِي اغْتِرَارٍ مِنْهُمْ).
وقالَ أهلُ المعاني : الاستدراجُ : أن تندرجَ إلى الشيءِ في خِفْيَةٍ قَلِيلاً قَلِيلاً ، ولاَ يُتَابَعُ ولا يُجاهَر ، يقال : اسْتَدْرجْ فُلاناً حتى نعرفَ ما صنعَ ؛ أي لا تُجَاهِرْهُ ولا تُكثِرْ عليه السُّؤالَ دُفعةً واحدةً ، ولكن كَلِّمْهُ درجةً درجة وقليلاً قليلاً حتى نعرفَ حقيقة ما فَعَلَ. وَقِيْلَ : معنى قوله { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } سنُذِيقُهم مِن بأْسِنا قليلاً قليلاً.
(0/0)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } ؛ أي أمهِلُهم وأطِيلُ لَهم المدةَ ، فإنَّهم لا يفُوتُونَنِي ولا يَفُوتُنِي عذابُهم ولا يُعجِزُنَنِي عن تعذيبهم. وقوله : { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } إنَّ صُنعِي شديدٌ مُحكَم ، وأخْذِي قويٌّ شديد. والكَيْدُ : هو الإَصرارُ بالشَّيء من حيث لا يشعرُ به.
(0/0)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ } ؛ قال الحسنُ وقتادةَ : (وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعَدَ الصَّفَا ذاتَ لَيْلَةٍ يَدْعُو قُرَيْشاً إلَى عِبَادَةِ اللهِ قَبِيلَةً قبيلَةً وَفَخْذاً فَخْذاً : يَا بَنِي فُلاَنٍ ، يُحَذِّرُهُمْ بَأْسَ اللهِ وَعِقَابَهُ ، فَقَالَ الْمُشْركُونَ : إنَّ صَاحِبَكُمْ قَدْ جُنَّ ؛ بَاتَ لَيْلَهُ يُصَوِّتُ إلَى الصَّبَاحِ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ). ومعناها : أوَلَمْ يتفَكَّرُوا بقُلوبهم ليعلَمُوا ويَستَيقِنُوا ما بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من جُنُونٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } ؛ أي ما هو إلاَّ يعلمُ لموضعِ الْمَخَافَةِ ليُتَّقى ولموضعِ الأمنِ ليُبتَغَى. وقوله تعالى : { مُّبِينٌ } أي بَيِّنٌ أمْرُهُ ؛ فهلاَّ جالَسَهُ الكفارُ فيطلبوا حقيقةَ أمرهِ ، ويتفكَّروا في دلائلهِ ومُعجزاتهِ.
(0/0)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } معناهُ : أوَلَمْ ينظُرُوا في السَّموات والأرض طالِبينَ لِمَا يدُلُّهم على وحدانيِّة اللهِ تعالى ، وعلى صدقِ رسوله في ما دعاهم إليه. والْمَلَكُوتُ : هو الْمُلْكُ العظيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ } معناهُ : وما خلقَهُ اللهُ بعدَ السَّمواتِ والأرضِ ، فإن ذلك يدلُّ على وحدانيَّة اللهِ تعالى مثلَ ما تدلُّ السمواتُ والأرض. (مَا) بمعنى الَّذِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ } ؛ معناهُ : أوَلَم ينظرُوا في أنْ عسى أنْ يكون قد دَنَا هلاكُهم بعد قيام الحجَّة عليهم. وقولهُ تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؛ معناهُ : إنْ لم يُؤمِنوا بهذا القرآنِ مع وضُوحِ دَلالَتهِ فبأَيِّ حديثٍ بعدَهُ يؤمنون ، وليس بعدَهُ كتابٌ منَزَّل ولا نبيٌّ مرسلٌ.
(0/0)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قَوَْلُهُ تَعَالَى : { مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ } ؛ إليه ، وقولهُ تعالى : { وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } ؛ أي ونَدَعُهم في مُجاوزَتِهم الحدَّ في كُفرِهم يتجرَّأُون فلا يرجعون إلى الحقِّ ، ومَن قرأ (وَنَذرُهُمْ) بالنون وضمِّ الراء فهو على الاستئنافِ ، وتُقرأ (وَنَذرْهُمْ) بالجزمِ عطفاً على موضعِ الفاء ، والمعنى : مَن يُضْلِلِ اللهُ يذره في طُغيانِهِ عامِهاً.
(0/0)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } ؛ قال الحسنُ وقتادة : (سَأَلَتْ قُرَيْشُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : مَتَى السَّاعَةُ الَّتِي تُخَوِّفُنَا بهَا ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ) ، ومعناها : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } أي أوَانِ قِيَامِهَا ومتَى مَثْبَتُهَا ، يقال : رَسَي الشيءُ يَرْسُو إذا ثَبَتَ ، ومنه الجبالُ الرَّاسِيَاتُ ؛ أي الثابتاتُ ، والْمَرْسَى : مُسْتَقَرُّ الشَّيءِ الثقيلِ ، وقال ابنُ عبَّاس : (سأَلَتْ الْيَهُودُ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم فَقَالُواْ لَهُ : أخْبرْنَا عَنِ السَّاعَةِ إنْ كُنْتَ نَبيّاً فَإِنَّا نَعْلَمُ مَتَى هِيَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } ؛ أي عِلْمُ قيامِها عند اللهِ سبحانَهُ ، ما لي بها من علمٍ ، { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } أي لا يَكشِفُها ويُظهِرُها لحينِها إلاَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وقال مجاهدُ : (أيْ لاَ يَأْتِي بهَا إلاَّ هُوَ) ، وقال السديُّ : (لاَ يُرْسِلُهَا لِوَقْتِهَا إلاّ هُوَ). ووجهُ الامتناعِ عن الإجابةِ عن بيان وقتِها ، أنَّ العبادَ إذا لم يعرِفُوا وقتَ قيامِها كانوا على حذرٍ مِن ذلك ، فيكون ذلك أدعَى إلى الطاعةِ وأزجرُ عن المعصيةِ.
وقولهُ تعالى : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ؛ قال الحسنُ : (ثَقُلَ وَضِْعُهَا عَلَى أهْلِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مِنِ انْتِثَارِ النُّجُومِ وَتَكْويرِ الشَّمسِ وَتَسْييرِ الْجِبَالِ). وقال قتادةُ : (ثَقُلَتْ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تُطِقُهَا لِعِظَمِهَا). وقال السديُّ : (ثَقُلَ عِلْمُهَا عَلَى أهْلِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فَلَمْ يُطِيقُوا إدْرَاكَهَا وَكُلُّ شَيْءٍ خَفِيَ فَقَدْ ثَقُلَ ، وَلاَ يَعْلَمُ قِيَامَهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلاَ نَبيٌّ مُرْسَلٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } ؛ أي فُجْأَةً لا يعلمون وقتَ قيامِها ، فتقومُ والرجُ يسقِي ماشيتَهُ ، والرجلُ يُصلِحُ حوضَهُ ، والرجلُ يقيم سلعتَهُ في سُوقهِ ، والرجلُ يخفِضُ ميزانَهُ ويرفعهُ ، والرجل يهوِي بلُقمتهِ في فَمِهِ ، فما يدركُ أنْ يضعَها في فمهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } ؛ قال الضحَّاكُ ومجاهد : (مَعْنَاهُ كَأنَّكَ عَالِمٌ بهَا) ، وقال ابنُ عبَّاس : (هَذا عَلَى تَقْدِيمٍ وَتَأْخِيرٍ ، مَعنَاهُ : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } أي بَارٌّ لَطِيفٌ بهم من قوله : { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً }[مريم : 47] ، وَقِيْلَ : معناهُ كأنَّكَ فَرِحٌ بمسألتِهم إيَّاكَ ، وَقِيْلَ : معناهُ : كأنَّكَ حاكمٌ بها ، يقالُ : تَحَافَينَا إلى فلانٍ ؛ أي تخاصَمْنا إليه ، والْحَافِي هو الحاكم.
قَوْلُهُ تعَالَى : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ } ؛ الفائدةُ في إعادتِه ردُّ المعلومات كلّها إلى اللهِ ، فيكون التكرارُ على وجهِ التأكيد ، وَقِيْلَ : أرادَ بالأول علمَ وقتِها ، وبالثاني علمَ كُنْهِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } ؛ أنَّها كائنةٌ وان عِلمَها عندَ اللهِ ، وفي الآيةِ دلالةٌ على بُطلانِ قول مَن يدَّعي العلمَ بمدَّةِ الدُّنيا ، ويستدلُّ بما رُوي أنَّ الدنيا سبعةُ آلاف سنة ؛ لأنه لو كان كذلك كان قيامُ الساعةِ معلوماً ، وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ أنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيٍْنِ " وَأشَارَ إلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ، فمعناهُ تقريبُ الوقتِ لا تحديدهُ كما قال تعالى : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا }[محمد : 18] أي بَعْثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من أشراطِها.
(0/0)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ أهْلَ مَكَّةَ قَالُواْ : يَا مُحَمَّدُ ألاَ يُخْبرُكَ رَبُّكَ بالسِّعْرِ الرَّخِيصِ قَبْلَ أنْ يَغْلُوا فَنَشْتَرِيهِ وَنَرْبَحُ فِيْهِ ، وَبالأَرْضِ الَّتِي تُرِيدُ أنْ تُجْدِبَ فَنَرْتَحِلَ عَنْهَا إلَى مَا أخْصَبَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها : قُلْ يا مُحَمَّدُ لا أقدرُ على نفعٍ أجُرُّهُ إلى نفسِي ، ولا على ضُرٍّ أدفعهُ عن نفسِي إلا ما شاءَ اللهُ أنْ يُمَلِّكَني بالتمكينِ من ذلكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } ؛ أي لو كنتُ أعلمُ جُدوبَةَ الأرضِ وقحطَ المطرِ لادَّخرتُ من السَّنة المخصبَةِ للسَّنة الْجَدِبَةِ ، { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } ؛ الفقرُ. وَقِيْلَ : معناهُ : لو كنتُ أعلمُ متى أموتُ لبادرتُ بالأعمالِ الصالحة قبلَ اقتراب الأجَلِ ، فلم أشتغِلُ بغيرِها ولا بي جنونٌ ولا آفةٌ كما يقولون.
وَقِيْلَ : معناهُ : لو كنت أعلمُ متى السَّاعة لبادرتُ بالجواب عن سؤالِكم ، فإنَّ المبادرةَ إلى جةاب السائل تكون استكثاراً من الخيرِ وما مَسَّنِيَ التكذيبُ منكم. وقولهُ تعالى : { إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } ؛ أي ما أنا إلا مُعَلِّمٌ بموضعِ الْمَخَافَةِ ليُتَّقى ولموضعِ الأمن ليُختَارَ ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ بالبعثِ.
(0/0)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ؛ أي نفس آدمَ ، { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } ؛ أي خَلَقَ حَوَّاءَ من ضِلْعٍ من أضلاعهِ ، { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ؛ أي ليطمئِنَّ إليها ويستأنسَ بها ويأوِي إليها لقضاءِ حاجته منها ، { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } ؛ أي جَامَعَها ، { حَمَلَتْ } ؛ ماءَهُ ، { حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ } ؛ فاستمرَّت بذلكَ الماءِ ؛ أي قامت وقعَدَتْ كما كانت تفعلُ قبلُ وهي لا تدري أنه حَبَلٌ أم لا ، ولم تَكْتَرِثْ بحملِها ، يدلُّ عليه قراءةُ ابنِ عبَّاس : (فَاسْتَمَرَّتْ بهِ). وقال قتادةُ : (مَعْنَى { فَمَرَّتْ بِهِ } مخفَّفاً من الْمِرْيَةِ ؛ أي شكَّتْ أحمَلتْ أم لا.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } ؛ أي لَمَّا كَبرَ الولدُ في بطنِها وتحرَّكَ وصارت ذاتَ ثُقْلٍ بحملِها وشقَّ عليها القيامُ ، أتَاها إبليسُ في صورةِ رجُل ، فقالَ : يا حوَّاء ما هذا في بطنِكِ ؟ قالت : ما أدري ، قال : إنِّي أخافُ أن يكون بَهِيمةً ، وذلك أوَّلَ ما حَملت ، فقالت ذلك لآدمَ عليه السلام ، فلَم يزَالاَ في هَمٍّ من ذلك.
ثُم عادَ إبليسُ إليها فقالَ : يا حوَّاء أنَا مِن الله بمَنْزِلَةٍ! فإن دعوتُ اللهَ ربي إنساناً تُسَمِّيهِ بي ؟ قالت : نَعَمْ ، قال : فإنِّي أدعُو اللهَ ، وكانت هي وآدمُ يدعُوَان اللهَ ، { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } ؛ ولداً حَسَنَ الْخُلْقِ صحيحَ الجوارحِ مثلَنا ، { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } ؛ لكَ في هذه النعمةِ ، { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً } ؛ سَوِيّاً صحيحاً أتَاها إبليسُ فقال لها : عهدي! قالت : ما اسمك ؟ قالَ : الحرثُ ولو سَمَّى نفسَهُ فقال عزرائيلَ لعرفتهُ ، ولكنه تسمَّى بغيرِ اسمه فسمته : عبدُ الحرثِ ، ورَضِيَ آدمُ فعاشَ الولدُ أيَّاماً حتى ماتَ.
وهذا لا يصحُّ ؛ لأنَّ حَوْاء وإن لم تكن نَبيَّةً فهي زوجةُ نَبيٍّ ، وفي الآيةِ ما يدلُّ على ذلك ؛ لأن الله تعالى قال : { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } ؛ ومثلُ هذه القبائحِ لا يصحُّ إضافتُها إلى الأنبياءِ ، ولأنَّ الله تعالى قالَ : { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ؛ ولأن الواحدَ مِنَّا لو أتاهُ مَنْ يعبثهُ على أن يُسَمِّي ولدَهُ عبدَ شمسٍ أو عبدَ العُزَّى أو نحوَ هذا ، لَم يَقْبَلْ ذلك ، ولو أمكنَهُ أن يعاقبَهُ على ذلك فعلَ ، فكيف يجوزُ مثل هذا على آدمَ ؟ وقد رفعَ الله قَدْرَهُ بالنبوَّة.
وقال الحسنُ : (معناهُ : إنَّ اللهَ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ وجَعَلَهَا سَكَناً لَهُ ، وَكَذلِكَ حَالُ الْخَلْقِ مَعَ أزْوَاجِهِمْ ، كَأنَّهُ قَالَ : وَجَعَلَ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ زَوْجَهَا ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أخْرَى{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً }[الروم : 21].
قال الحسنُ : (انْقَضَتْ قِصَّةُ آدَمَ عِنْدَ قَوْلِهِ { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ثُمَّ أخْبَرَ اللهُ عَنْ بَعْضِ خَلْقِهِ أنَّهُ تَغَشَّى زَوْجَتَهُ فَحَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بهِ ، فَلَمَّا أثْقَلَهَا مَا فِي بَطْنِهَا دَعَوا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَشْكُرَنَّكَ ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ بعَمَلِهِمَا الَّذِي عَمِلاَهُ بأَنْ هَوَّدَاهُ أوْ نَصَّرَاهُ أوْ مَجَّسَاهُ ؛ أي عَلَّمَاهُ شَيْئاً مِنَ الأَدْيَانِ الْخَبيثَةِ الَّتِي يَدْعُو إلَيْهَا إبْلِيسُ ، وَلِهَذا أعْظَمَ اللهُ شَأْنَهُ فِي آخِرِ الآيَةِ فَقَالَ (فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَاد بالآيَةِ آدَمَ وحَوَّاءَ لَقَالَ : عَمَّا يُشْرِكَانِ).
(0/0)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً } ؛ معناه أيُشركون في العبادةِ ما لا يقدرُ على خلقِ شيءٍ يستحقُّ به العبادةَ ، لأن الخلقَ هو الذي يدلُّ على اللهِ ، واللهُ تعالى إنما يستحقًُّ العبادةَ على الخلقِ لخلقهِ أصُولَ النِّعم التي لا يقدرُ عليها أحدٌ سواهُ ، مثل الحياةِ والسَّمع والبصر والعقل ، فإذا لم تقدر الأصنامُ على خلقِ شيء لم تحسن عبادُتها. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ يُخْلَقُونَ } ؛ معناه : الأصنامُ مخلوقة منحوتةٌ ، وَقِيْلَ : أرادَ به الأصنامَ والعابدِينَ جميعاً.
(0/0)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } ؛ أي لا يستطيعُ الأصنام دفعَ ضُرٍّ عنهم ، ولا جلبَ نَفْعٍ إليهم ، { وَلآ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } ، ولا أن تنصُرَ نفسَها بأن تدفعَ عن نفسِها مَن أرادَها بسوءٍ. فإن قِيْلَ : كيف قال : ولا أنفُسَهم على لفظِ من يعقِلُ والأصنامُ مواتٌ ؟ قِيْلَ : لأن الكفارَ كانوا يصوِّرون منها على صورةِ مَنْ يعقِلُ ، ويُجرُونَها مجَرى من يعقلُ ، فأجرَى عليها لفظَ ما قدَّروا ما هم عليه.
(0/0)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
قَوْلُهُ عَزََّ وَجَلَّ : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } ؛ أي إن تدعُوا الأصنامَ إلى الهدى لَمْ تقبلِ الهدى ، فإنَّها لا تَهدي غيرَها ، ولا تَهتدِي بأنفُسِها وتردُّ جَواباً ، وإنْ دعت إلى الهدى { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } أم صَمْتُّمْ عنهم لا يتَّبعوكم.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ } ؛ أرادَ الأصنامَ مملوكةً مخلوقة أشباهُكم ، سَمَّاها عِبَاداً لأنَّهم صوَّرُوها على صورةِ الإنسان ، وقولهُ تعالى : { فَادْعُوهُمْ } ؛ ليس هو الدعاءَ الأوَّل ، ولكن أرادَ فادعُوهم في مهمَّاتكم عند الحاجةِ إلى كشفِ الأسوَاءِ عنكم.
وقوله تعالى : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } ؛ أي صيغتهُ صيغة أمرٍ ، ومعناه التعجيزٌ ؛ أي فَلْيَسْتَجِيبُوا لكم ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؛ في أنَّها آلهةً.
(0/0)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
قوله تعالى : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } ؛ معناهُ : إن معبودي ينصرُني ويدفعُ كيدَ الكائدين عنِّي ، ومعبودُكم لا يقدرُ على نصرِكم ، فإن قدرتُم أنتم على ضرٍّ فاجتمِعُوا أنتم مع الأصنامِ على كيدِ ولا تؤجِّلونِي.
وهذا لأنَّهم كانوا يخوِّفون النبيَّ صلى الله عليه وسلم بآلهتِهم ، عرَّفَ اللهُ الكفارَ بهذه الآية أنَّهم مفضَّلون على الأصنامِ ؛ لأن لهم جوارحَ يتصرَّفون بها وليس للأصنامِ ذلك ، فكيف يعبدُونَ مَنْ هم أفضلُ منهم؟! فالعجبُ من أنفسِهم عن اتِّباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع ما أيَّدَهُ اللهُ به من الآياتِ والمعجزات والدلائلِ الظاهرة ؛ لأنه بشرٌ مثلُهم ، ولم يأْنَفوا من عبادةِ حَجَرٍ لا قدرةَ له ولا تصرٌّف ، وهم أفضلُ منه في القدرة على التصرُّف.
(0/0)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ وَلِيِّـيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ } ؛ معناهُ : يتولَّى حِفظَهم ، ويكلِؤُنِي ويتولَّى أمرِي الذي أنعمَ عليَّ بإنزالِ القرآن ، { وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ؛ أي يتولَّى حِفظَهم ، لا يكِلُهم إلى غيرهِ ولا تضرُّهم عداوةُ مَن عاداهم.
(0/0)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
وقولهُ تعالى : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ؛ الآية قد تقدَّم تفسيرهُ.
(0/0)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ } ؛ أي كما أنَّها لا تَهدي غيرَها فلا تسمعُ الهدى ، { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } ؛ يا مُحَمَّدُ فاتحةٌ أعينُهم نحوَكم يعني الأصنامَ ينظرون إليك ، { وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ؛ وذلك أنَّهم كانوا يصوِّرُونَها فيجعلون لها أعيُناً وآذاناً وأرجُلاً ، فإذا نظرَ الناظرُ اليها خُيِّلَ إليه أنَّها تنظرُ إليه وهي لا تبصرُ ، أو كانوا يلطِّخُون أفواهَ الأصنامِ بالخلوف والعسَلِ ، وكانت الذبابُ يجتَمِعن عليها ، فلا تقدرُ على دفعِ الذُّباب عن أنفُسِها.
وقال بعضُهم : معناهُ : وتراهم كأنَّهم ينظُرون إليك كقوله تعالى : { وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى }[الحج : 2] أي كأنَّهم سُكَارى ، وقال مقاتلُ : (مَعْنَى قَوْلِهِ { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ } أي إنْ تَدْعُوا يَا مُحَمَّدُ أنْتَ وَالْمُؤْمِنُونَ كُفَّارَ مَكَّة إلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ ، { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } الْهُدَى).
(0/0)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس والسديُّ : (مَعْنَاهُ : خُذِ الْفَضْلَ مِنْ أمْوَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ }[البقرة : 219] وَهَذا إنَّمَا قَبْلَ فَرْضِ الزَّكَاةِ ، فَصَارَ مَنْسُوخاً بالزَّكَاةِ). وقال الحسنُ ومجاهد : (خُذِ الْعَفْوَ مِنْ أخْلاَقِ النَّاسِ فِي الْقَضَاءِ وَالاقْتِضَاءِ وَقَبُولِ عُذْرهِمْ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُمْ وَمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ).
وأصلُ العفوِ التركُ من قولهِ تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ }[البقرة : 178] أي تَركَ ، والعفوُ عن الذنب تركُ العقوبةِ. ويقالُ : معنى العفوِ الْمُسَاهَلَةُ في الأمور ، يقالُ : خُذْ ما أتاكَ عَفْواً ؛ أي سَهْلاً. وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقَالَ : حَتَّى أسْأَلَ ، فَذهَبَ جِبْرِيْلُ فَقَالَ : " يَا مُحَمَّدُ ؛ إنَّ اللهَ يَأْمُرُكَ أنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ ، وَتَعْفُوَ مَنْ ظَلَمَكَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } أي بالمعروفِ الذي تعرفُ العقلاء صِحَّتَهُ ، وقال عطاءُ : (يَعْنِي لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ). وقولهُ تعالى : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } أي عن أبي جهلٍ وأصحابهِ ، نَسَخَتْهَا آيةُ السَّيفِ. ومعنى الإعراضِ عنهم ؛ أي أعرِضْ عنهم بعدَ إقامة الحجَّة عليهم ، ووقوعِ الإيَاسِ عن قَبولهم ، ولا تُقَابلْهم بالسَّفَهِ ولا تُجَاوِبْهم استخفافاً بهم وصيانةً لقَدرِكَ ، فإنَّ مجاوبةَ السَّفيهِ تضعُ القدرَ.
(0/0)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } ؛ معناهُ : إمَّا يُغرِيَنَّكَ بالوسوسةِ عند الغضب فَالْتَجِئ إلى اللهِ واستَغِثْ بهِ ، { إِنَّهُ سَمِيعٌ } ؛ لدُعائِكَ ، { عَلِيمٌ } ؛ بكَ ، والنَّزْعُ هو الإزعاجُ بالحركةِ إلى الشَّرِّ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ } ؛ معناهُ : إنَّ الذين اتَّقَوا الشِّركَ والمعاصي إذا مسَّهُم وسوسةٌ من الشيطان بإلقاء خواطرِ الشَّرِّ عليهم ، فَرَغُوا إلى تذكُّر ما أوضحَ اللهُ من الحجَّة ، { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } ؛ عواقبَ أمُورهم ، يرجِعون من الهوَى إلى الْهُدَى.
قرأ النخعِيُّ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو والكسائي (طَيْفٌ) ، وقرأ الباقون (طَايفٌ) وهما لُغتان وَقِيْلَ : الطائفُ ما يطوفُ حولَ الشيءِ ، والطَّيْفُ : الوسوسةُ والْخَطْرَةُ ، وَقِيْلَ : الطائفُ ما طافَ به من الوسوسةِ ، والطَّيفُ اللَّمْزُ والْمَسُّ. وقرأ سعيدُ بن جبير (طَيِّفٌ) بالتشديد ، وقال الكلبيُّ : (طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَان : ذنْبٌ) ، وقال مجاهدُ : (الْغَضَبُ) ، وعن مجاهد : (هُوَ الرَّجُلُ يَهُمُّ بالذنْب فَيَذْكُرُ اللهَ فَيَدَعُهُ) ، وقال السديُّ : (مَعَْنَأهُ : إذا أذْنَبُواْ تَابُوا).
(0/0)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } ؛ أي وإخْوَانُ المشركين وهم الشياطينُ يدعُونَهم إلى المعاصِي والجهلِ ، يقال لكلِّ كافرٍ أخٌ من الشيَّاطين يَمُدُّهُ في الغَيِّ. وقرأ نافعُ (يُمِدُّونَهُمْ) بضمِّ الياء وكسرِِ الميم هما لُغتان. قَوْلُهُ تَعَالَى : { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ؛ أي لا يُقصِرُ إخوانُ المشركين من الوسوسةِ ؛ لأنَّهم إذا علِمُوا قَبُولَهم لقولِهم زادُوا في إغوائِهم ، وزادَ الكفارُ في طاعتِهم لَهم ، فلا يقصِرُون كما يقصِرُ المتَّقون.
وَقِِيْلَ : معنى قولِه تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } يعني إخوان الشَّياطين وهم الضُّلاَّلُ يَمُدُّونَ المشركين في الغَيِّ. وقرأ الجحدريُّ (يُمَادُّونَهُمْ) ، وقرأ عيسى (ثُمَّ لاَ يَقْصُرُونَ) بفتح الياء وضم الصاد.
(0/0)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا } ؛ معناهُ : وإذا لَمْ تأتِهم يا مُحَمَّدُ بالآيةِ التي سألوكَهَا تَعَنُّتاً قالُوا : هلاَّ طلَبْتَها من اللهِ فتأتِيَنا بها. وَقِيْلَ : معناهُ : هلاَّ أتيتَ بها من تِلقَاءِ نفسِكَ ؟ قال الحسنُ : (كَانُوا إذا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ كَذبُوا بهَا ، وَإذا أبْطَأَتْ عَلَيْهِمْ الْتَمَسُوهَا).
وقولهُ تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَـاذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ } ؛ أي قُل لَهم : ليستِ الآياتُ إلَيَّ ، ولكنَّ الله يُوحِي بها عَلَيَّ ما يعلمُ من المصلحةِ ، وليس لي أنْ أسألَهُ إنزَالَها إلاَّ إذا أذِنَ لِي في سُؤالِها. هذا القرآنُ بَصَائِرُ من ربكم ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً } ؛ أي حُجَجٌ من ربكم وهُدًى من الضَّلالةِ ونجاةً من العذاب ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ؛ يُصَدِّقُونَ أنه مِن اللهِ.
(0/0)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } قال ابنُ عبَّاس وابنُ مسعود وأبو هُريرة وسعيدُ بن جُبير وسعيد بن المسيِّب والزهريُّ : (إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الصَّلاَةِ). عن أبي العاليَةِ الرباحيِّ قال : (كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّى ، قَرَأ أصْحَابَهُ خَلْفَهُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ) ، وقال بعضُهم : المرادُ بالآيةِ وقتَ نُزولِ القرآنِ ، أمَرَهُم اللهُ بالاستماعِ والإنصَاتِ.
وقال الزجَّاجُ : (يُحتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنَى الاسْتِمَاعِ الْعَمَلُ بمَا فِيْهِ) ، وعن ابنِ عبَّاس قال : (كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلاَةِ وَيَأْمُرُونَ بحَوَائِجِهِمْ ، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فَيَقُولُ لَهُ : كَمْ صَلَّيْتُمْ ؟ فَيَقُولُ كَذا ، فَأَنزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). والقولُ الأوَّل أصحُّ وأقربُ إلى ظاهرِ الآية ؛ لأنه ليس في الآيةِ تخصيصُ زَمانٍ دون زمان ، ولا يجبُ على القومِ الإنصَاتُ لقراءةِ مَنْ يقرأ في غيرِ الصَّلاةِ.
(0/0)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } ؛ يجوزُ أن يكون الخطابُ في هذه الآيةِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، والمرادُ به جميعُ الخلقِ ، ويجوزَ أن يكون المعنى : واذْكُرْ ربَّكَ أيُّها المستمعُ للقرآنِ إذا تُلِيَ عليكَ.
وقولهُ تعالى : { فِي نَفْسِكَ } يعني التفكُّرَ في النفسِ والتعرُّضَ لنِعَمِ اللهِ مع العلمِ بأنه لا يقدرُ عليها أحدٌ سواهُ ، وأنه متى شاءَ سَلَبَها منه. والمراد بقوله : { وَدُونَ الْجَهْرِ } المتكلِّم بذكرِ الله على وجهِ الخِيفَةِ بالتضرُّع إليه والمخافَةِ منه ، ولأن أفضلَ الدُّعاء ما كان خَفِيّاً على إخلاصِ وخضوعٍ لا يشوبهُ رياءٌ وسُمعَةٌ. وقولهُ تعالى { فِي نَفْسِكَ } إشارة إلى الإخلاصِ.
وَقِيْلَ : المرادُ بقوله : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } الذكرُ بالكلامِ الخفيِّ وبقوله : { وَدُونَ الْجَهْرِ } إظهار الكلامِ بالصَّوت العالِي. وقال ابنُ عباس : (مَعْنَى { وَاذْكُر رَّبَّكَ } يعني القراءةَ في الصَّلاة { تَضَرُّعاً } أي جَهْراً { وَخِيفَةً } أي سِرّاً { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } أيْ دُونَ رَفْعِ الصَّوتِ فِي خَفْضٍ وسُكُونٍ سَمِّعْ مَنْ خَلْفَكَ الْقُرآنَ).
وقال أهلُ المعاني : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } أي اتَّعِظْ بالقرآن واعتبرْ بآياته ، واذكُر ربَّكَ في ما يأمُركَ بالطاعةِ { تَضَرُّعاً } أي تَواضُعاً وتخشُّعاً { وَخِيفَةً } أي خِيفَةً من عقابهِ. وقال مجاهدُ : (أمَرَ أنْ يُذْكَرَ فِي الصُّّدُور ، وَأمَرَ بالتَّضَرُّعِ وَالاسْتِكَانَةِ ، وَيُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَالنِّدَاءُ وَالصِّيَاحُ فِي الدُّعَاءِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } أي صلاةَ الغدَاةِ والمغرب والعشاء ، والأصيلُ في اللغة : ما بين العصر إلى اللَّيل ، وجمعهُ أُصُلٌ ، ثم آصَالٌ جَمْعُ الجمعِ ، ثم أصَائِلٌ. وَقِيْلَ : يعني { بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } : البكرَ والعِشَاةَ. وقولهُ تعالى : { وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الْغَافِلِينَ } ؛ زيادةُ تحريضٍ على ذكرِ الله عَزَّ وَجَلَّ ؛ كَي لا يَغفلَ الإنسانُ عن ذلك في أوقاتِ العبادة.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ } معناهُ : أن الملائكةَ المقرَّبين الذين أكرَمَهم اللهُ لا يتعَظَّمون عن طاعتهِ إن استكبرتُم أنتم فَهُمْ أفضلُ منكم ، وهم الملائكةُ لا يستكبرون عن عبادتهِ وينَزِّهُونَهُ عن ما لا يليقُ به ، { وَلَهُ يَسْجُدُونَ } ؛ أي يُصَلَّونَ فيَخِرُّونَ له سُجَّداً في صلاتِهم. وقوله تعالى : { عِندَ رَبِّكَ } يريدُ قُربَهم من الفضلِ والرَّحمةِ لا من حيث المكانُ والمسافة.
وعن معاذِ بن جبلٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كَانَ جِبْرِيْلُ عليه السلام إذا أقْبَلَ بشَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فِيْهِ سُجُودٌ قَرَأ ثُمَّ يَخِرُّ سَاجِداً وَيَأْمُرُنِي بذلِكَ ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ وَاجِبٌ عَلَيْكَ وَعَلَى أمَّتِكَ " وعن إبراهيمَ قال : (مَنْ قَرَأ آخِرَ الأعْرَافِ إنْ شَاءَ ركعَ وإنْ شَاءَ سَجَدَ). وعن أُبَّي بن كعبٍ عن رسولِ للهِ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الأعْرَافِ جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ سِتْراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَكَانَ آدَمُ شَفِيعاً لَهُ "
(0/0)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ } ؛ أي عن الغَنَائِم ، { قُلِ الأَنفَالُ } ؛ الغنائمُ ؛ { للَّهِ وَالرَّسُولِ } ؛ الإضافةُ للغنائمِ إلى اللهِ على جهة التشريفِ ، والإضافةُ إلى الرسولِ لأنه كان بيانُ حُكمِها وتدبيرها إليه ؛ لأن الغنائمَ كانت كلُّها لهُ كما قال صلى الله عليه وسلم في وبَرَةٍ أخَذهَا سِنَامَ بَعِيرٍ مِنَ الْفَيْءِ : " وَاللهِ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ فَيْئِكُمْ إلاَّ الْخُمْسُ ، وَالْخُمْسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ ".
وَقِيْلَ : لِما سألوه عن الغنائمِ ؛ لأنَّها كانت حرَاماً على مَن قبلهم ، كما قال عليه السلام : " لَمْ تُحَلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ سُودِ الرُّؤُوسِ قَبْلَكُمْ ، كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتَأْكُلُهَا " وإنما سُميت الغنائمُ أنْفَالاً ؛ لأن الأنفالَ جمعُ النَّفْلِ ، والنفلُ الزِّيَادَةُ ، والأنفالُ مما زادَهُ الله هذه الأُمة من الحلالِ ، والنافلةُ من الصَّلاةِ ما زادَ على الفرضِ ، ويقال لولدِ الولد : نافلةٌ ؛ لأنه زيادةٌ على الولدِ.
وعن ابنِ عبَّاس في سبب نُزول هذه الآيةِ : (أنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَغَّبَ أصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ : " مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً فَلَهُ كَذا ، وَمَنْ جَاءَ بأَسيرٍ فَلَهُ كَذا " فَلَمَّا هَزَمَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ سَارَعَ الشَّبَابُ ، وأَقْبَلُواْ بالأُسَارَى ، وَأَقَامَ الشُّيُوخُ عِنْدَ الرَّايَاتِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَخَافَةَ أنْ يَغْتَالَهُ أحَدٌ مَنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَوَقَعَ الاخْتِلاَفُ بَيْنَهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ ، فَقَالَ الَّذِينَ ثَبَتُواْ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قِيَامُنَا أفْضَلُ مِنْ ذهَابهِمْ ، فَلَوْ أعْطَيْتَهُمْ مَا وَعَدْتَهُمْ لَمْ يَبْقَ لَنَا وَلاَ لِعَامَّةِ أصْحَابكَ شَيْءٌ. وقَالَ الآخَرُونَ : نَحْنُ قَتَلْنَا وَأَسْرْنَا. وَكَانَ ذلِكَ مُرَاجَعَةً بَيْنَهُمْ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لاَ يَقُولُ شَيْئاً ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعناها يسألونَك عن الأنفال لِمَن هي ، ويجوز أن يكون (عن) صِلَةً في الكلامِ ، والمعنى يَسألونَكَ الأنفالَ التي وعدتَهم يومَ بدرٍ ، قلِ الأنفالُ للهِ والرسولِ ليس لكم فيها شيءٌ. قال عُبادة بن الصَّامت : (لَمَّا اخْتَلَفْنَا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَسَاءَتْ أخْلاَقُنَا ، نَزَعَهَا اللهُ مِنْ أيْدِينَا وَجَعَلَهَا إلَى رَسُولِهِ وَقَسْمَهَا بَيْنَنَا عَلَى سواءٍ). وَقِيٍْلَ : إنَّ التَّنْفِيلَ المذكورَ في هذه الآيةِ لروايةٍ غَلَطٍ وقعَ من الرَّاوي ؛ لأنه لا يجوزُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم خَلْفُ الوَعْدِ واسترجاعُ ما جعلَهُ لأحدٍ منهم ، والصحيحُ : أنَّهم اختلَفُوا في الغنائمِ من غير تَنْفِيلٍ كان من رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ؛ أي اتَّقُوا مَعاصِيَهُ واحذروا مخالفةَ أمرهِ وأمرَ رسولهِ ، (وَأصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي كونوا مُجتَمعين على ما يأمرُكم به اللهُ ورسولهُ ، { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ في الغنائمِ وغيرِها ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، كما تَزعمونَ.
(0/0)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } ؛ معناهُ : إنَّ صِفَتَهم إذا ذُكر اللهُ عندَهم فَزِعَتْ قلوبُهم عند الموعظةِ. والوَجَلُ : هو الخوفُ مع شدَّة الْحُزْنِ ، والمعنى ليس المؤمنُ الذي يخالِفُ اللهَ ورسولَهُ (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُهُ } ؛ أي قُرِئت عليهم آياتهُ بالأمرِ والنَّهي ، { زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } ، يقيناً وبصيرةً بالفرائضِ مع تصدِيقهم باللهِ { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ؛ أي يُفَوِّضُونَ أمُورَهم إلى اللهِ لا يَثِقُونَ بغيرهِ.
ثُمَّ زادَ في نعتِ المؤمنينَ فقال : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ } ؛ أي يُقيمونَها بوضُوئِها ورُكوعِها وسُجودِها في مواقيتها ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } ؛ أعطَيناهُم من الأموال ، { يُنفِقُونَ } ، في طاعةِ اللهِ ، وإنَّما خصَّ اللهُ الصلاةَ والزكاةَ ؛ لعِظَمِ شأنِهما وتأكيدِ أمرِهِمَا.
(0/0)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { أُوْلـائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } ؛ أي أهلُ هذه الصِّفة الذين تقدَّم ذِكرُهم الذين استحَقُّوا هذه الصفةَ صِدْقاً ، { لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ } ؛ أي لَهم فضائلُ ومنازل في الرِّفعةِ في الآخرةِ على قدر أعمالِهم ، { وَمَغْفِرَةٌ } ؛ لذُنوبهم ؛ { وَرِزْقٌ } ؛ وثوابٌ حَسَنٌ ، { كَرِيمٌ } ؛ في الجنَّة.
(0/0)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } ؛ وذلك " أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَلَغَهُ أنَّ عِيرَ قُريشٍ أقبلَتْ من الشَّام ، وفيهم أبو سُفيان ومَخْرَمَةُ بنُ نَوفَل في أربعينَ رجُلاً من قريش تُجَّاراً ، فقالَ عليه السلام لأصحابهِ : " هَذِهِ عِيْرُ قُرَيْشٍ قَدْ أقْبَلَتْ ، فَاخْرُجُواْ إلَيْهَا ، فَلَعَلَّ اللهَ أنْ يَنْفِلُكُمُوهَا فَتَنْتَفِعُواْ بهَا عَلَى عَدُوِّكُمْ ". فيُعِدُوا على نواضِحِهم ومعهم فارسان لا غيرَ ؛ أحدُهما الزُّبير والآخر المقدادُ ، فخَرجُوا بغيرِ قوَّة ولا سلاحٍ ، وهم ثلاثُمائة وثلاثة عشرة رجلاً لا يَرَونَ أنه يكون قتالٌ.
فبلغَ ذلك أبو سُفيان ، فأرسلَ من الطريقِ ضَمْضَمَ بنِ عمرٍو والغفاري يخبرُ أهلَ مكَّة أن مُحَمَّداً قد اعترضَ لِعيرِكم فأدْرِكُوها. فَنَزِلَ جبريلُ عليه السلام على رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فأخبرَهُ بنَفَرِ المشركين يُريدون عِيرَهم ، وقالَ : (يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ يَعِدُكَ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، إمَّا الْعِيرُ وَإمَّا الْعَسْكَرُ) فأخبرَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمينَ فَسُرُّوا بذلكَ وأعجبَهم ، فاستشارَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين عرفَ أنَّهم لا يُخالِفونَهُ ، فقالوا لهُ : (وَاللهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أنْ نَخُوضَ الْبَحْرَ لَخُضْنَاهُ) ثم أخبرَهم أن في المشركين كَثْرَةً فشُقَّ على بعضِهم وقالوا : ألاَ كُنْتَ أخْبَرْتَنَا أنَّهُ يَكونُ قِتَالٌ ، فَنُخْرِجَ سِلاَحَنا وَقُوَّتَنَا ، إنَّمَا خَرَجْنَا في ثِيَابنَا نُرِيدُ الْعِيْرَ. فَنزلَ اللهُ هذه الآيةَ وهم بالرَّوحاءِ.
ومعناها : امْضِ على وجهِكَ من الرَّوحَاء (كَمَا أخْرَجَكَ رَبُكَ مِنْ بَيْتِكَ) أي من المدينة (بالْحَقِّ) أي الأمرِ الواجب ، { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } ؛ يعني كراهةَ الطبعِ للمشقَة لا كراهةَ الحقِّ ، وَقِيْلَ معناهُ : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } ؛ متَكَرِّهِينَ له كما أخرجكَ ربُّك من بيتِكَ مع تكرُّهِكَ له ، ومعنى يُجَادِلُونَكَ أي يُخاصِمُونَكَ بقولِهم : هلاَّ أعْلمتَنا القتالَ حتى كنا نستعدَّ له ، { بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ } ؛ أي بعد ما ظهرَ لهم أنكَ لا تصنعُ إ لا ما أمرَكَ ربُّكَ قَوْلُهُ تعَالَى : { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } ؛ أي هُم بما عليهم من شدَّة المشقَّةِ لقلَّتِ عددِهم وعُدَّتِهم ، وكثرةِ عدُوِّهم كأنَّما يُسَاقُونَ إلى الموتِ ، { وَهُمْ يَنظُرُونَ } ؛ إلى أسباب الموتِ.
(0/0)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } ؛ إمَّا العِيرُ وإما العسكَرُ أنَّها لكم ، { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } ؛ وتَمَنَّونَ أن تكون لكم العيرُ دون العسكرِ ، لأن العسكرَ ذاتُ شوكةٍ وهي السلاحُ ، { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } ؛ أي يُظهِرَ الإِسلامَ بوعدهِ الذي أنزلَ في الفُرقَانِ ، ويقالُ : بأمرهِ لكم بالقتال ، { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } ؛ أي يُظهِرَكُمْ على ذاتِ الشَّوكة فتستَأْصِلُوهم ، { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } ؛ بإهلاكٍ ، { وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ } ؛ مُشركُو مكَّة.
(0/0)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } ؛ معناهُ : إذ تَسْتَغِيثُونَ أيُّها المسلمون ربَّكم حين رأيتُم قلَّة عددِكم وكثرةَ عدوِّكم ، فلم يكن لكم مَفْزَعٌ إلا الدعاءُ لله وطلبُ المعونةِ منه { فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } أي أجابَكم ، والاستجابةُ التَّعطِيَةُ على موافقةِ المسألةِ.
وقولهُ تعالى : { أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال ابنٌُ عبَّاس : (كَانَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مَلَكٌ فَكَانَ جُمْلَتُهُمْ ألْفَيْنِ). يقالُ : رَدَفْتُ الرَّجُلَ ؛ إذال ركبتُ خلفَهُ ، وَأردَفْتُهُ إذا أركبتَهُ خلفَكَ. وقال عكرمةُ وقتادة والضحَّاك : (مَعْنَاهُ : بأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُتَتَابعِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً) ، وقد يجوزُ أن يقالَ : أرْدَفْتُ الرَّجُلَ إذا جاءَ بعدَهُ ، وكذلك رَدَفَهُ. وأما قراءةُ نافع (مُرْدَفِينَ) بفتحِ الدالِ فمعناه : أرْدَفَهُمُ اللهُ بالمؤمنين ، ويقال : أرْدَفْتُهُ وَرَدَفْتُهُ بمعنى تَبعْتُهُ ، قال الشاعرُ : إذا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُرَيَّا ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَاأي جاءَت بعدَها ؛ لأن الجوزاءَ تطلعُ بعدَ الثُريا.
فنَزَل جبريلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْمَنَةِ ، ونزلَ مِيكَائِيلُ في خَمسمائةِ مَلَكٍ على الْمَيْسَرَةِ في صُورَةِ الرِّجالِ عليهم ثيابٌ بيضٌ وعمائمُ بيضٌ.
(0/0)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
قَوْلُهُ تََعَالَى : { وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى } ؛ أي ما جعلَ اللهُ إمدادَ الملائكةِ إلا بشارةً بالنصرِ للمؤمنين ، وَقِيْلَ : معناهُ : ما جعلَ الله إخبارَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بإمدادِ الملائكة إلا بُشرى بالنصرِ.
وقولهُ تعالى : { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ؛ أي ولتَسْكُنَ قلوبُكم في الحرب فلا تخافون من عدوِّكم. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ } ؛ أي ليس النَّصرُ بقلَّة العددِ ولا بكثرتهِ ولا من قِبَلِ الملائكةِ ، ولكن النصرَ من عندِ الله ، { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } ؛ بالنَّقمةِ ممن عصَى ، { حَكِيمٌ } ، في أفعالهِ.
وقد اختلفُوا هل قاتلَتِ الملائكةُ يومَ بدرٍ مع المؤمنين أم لاَ ؟ قال بعضُهم : لَم يُقاتِلوا ولكنَّ اللهَ أيَّدَ المؤمنين ليُشجِّع بهم قلوبَهم ، ويُلقِي بهم الرُّعبَ في قلوب الكافرين ، ولو بعثَهم اللهُ بالْمُحارَبَةِ لكان يكفِي مَلَكٌ واحدٌ ، فإنَّ جبريلَ أهْلَكَ برِيشَةٍ واحدة سَبْعاً من قُرى قومِ لُوط ، وأهلكَ بصيحةٍ واحدة جميعَ بلادِ ثَمود. وهذا القولُ أقربُ إلى ظاهرِ الآية.
وقال بعضُهم : إنَّ الملائكةَ قاتَلَتْ ذلك اليوم ؛ لأنه رُوي أن أبَا جَهْلٍ قال لابنِ مسعود : مِنْ أيْنَ كَانَ ذلِكَ الضَّرْبُ الَّذِي كُنَّا نَسْمعُ ولاَ نَرَى شَخْصاً ؟ فَقَالَ لَهُ : (مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أبُو جَهْلٍ : هُمْ غَلَبُونَا لاَ أنْتُمْ!
(0/0)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } ؛ قال جماعةٌ من المفسِّرين : " وذلكَ أنَّهُ لَمَّا أمرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمسيرِ إلى الكفَّار ، سارَ بمن معَهُ حتى إذا كان قَرِيباً من بدرٍ لَقِيَ رجُلين في الطريقِ ، فسألَهما : " هَلْ مَرَّتْ بكُمَا الْعِيرُ ؟ " قالا : نَعَمْ مرَّت بنا لَيلاً ، وكان بين يدَي رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عشرةٌ من المسلمين ، فأخَذُوا الرَّجُلِين ، وكان أحدُهما عبدَ العبَّاس بنِ عبدِ المطلب يقال له أبُو رافعٍ ، والآخرُ عَبداً لعُقبة بن أبي مُعِيطٍ يقالُ له أسلمَ كانَا يسقِيَانِ الماءَ ، فجاؤُا بهما إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، واستخلَى بأبي رافعٍ ودفعَ أسلمَ إلى أصحابهِ يسألونَهُ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم لأبي رافعٍ : " مَنْ خَرَجَ مِنْ أهْلِ مَكَّةَ ؟ " فقالَ : ما بَقِيَ أحدٌ إلا وقد خرجَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أتَتْ مَكَّةَ الْيَوْمَ بأفْلاَذِ كَبدِهَا " ثمَّ قَالَ : " هَلْ رَجَعَ مِنْهُمْ أحَدٌ ؟ " قال : نَعَمْ ؛ أُبَيُّ بنُ شَرِيفٍ في ثلاثِمائة من بني زُهرة ، وكان خرجَ لمكان العِيرِ ، فلما أقبَلت العِيرُ رجعَ ، فسمَّاه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الأخْنَسَ حين خَنَسَ بقومهِ ، ثُم أقبلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على أصحابهِ وهم يَسألُونَ أسلمَ ، وكان يقولُ لَهم : خرجَ فلانٌ وفلان ، وأبُو بكرٍ رضي الله عنه يضربهُ بالعصَا ويقولُ له : كذبتَ بخبرِ الناسِ ، فقالَ صلى الله عليه وسلم : " إنْ صَدَقَكُمْ ضَرَبْتُمُوهُ ، وَإنْ كَذبَكُمْ تَرَكْتُمُوهُ " فعَلمُوا أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قد عرفَ أمرَهم ".
فسَاروا حتى نزَلُوا بدراً بجانب الوادِي على غيرِ ماءٍ ، ونزلَ المشركون على جانبهِ الأقصَى على الماءِ ، والوادِي بينَهما فبَاتُوا ليلَتَهم تلك ، فألقَى اللهُ على المسلمين النَّومَ فنَامُوا ، ثم استيقَظُوا وقد أجْنَبُوا وليس معهم ماءٌ ، فأتَاهُم الشيطانُ فوَسْوَسَ إليهم وقالَ : لهم تزعُمون أنَّكم على دينِ الله وأنتم مُجنِبُونَ تُصَلُّونَ على الجنَابَةِ ، والمشرِكُون على الماءِ.
فأمطَر اللهُ الوادي وكان ذا رَمْلٍ تغيبُ فيه الأقدامُ ، فاشتدَّ الرملُ وتلبَّدت بذلك أرضُهم وأوْحَلَ أرضَ عدوِّهم ، وبنَى المسلمون في مكانِهم حِياضاً واغْتسَلُوا من الجنابةِ وشرِبُوا وسَقَوا دوابَّهم وتَهيَّأُوا للقتالِ ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ } أي واذكرُوا إذ يُلقِي اللهُ عليكم النُّعاسَ ، والنُّعاسُ : أولُ النَّومِ قبل أن يثقلَ. وقولهُ تعالى : { أَمَنَةً مِّنْهُ } أي أمْناً من اللهِ منهم بوعدِ النَّصرِ أمْناً حتى غَشِيَهم النعاسُ في حالِ الاستعداد للقتال. قال ابنُ عبَّاس : (النُّعَاسُ عِنْدَ الْقِتَالِ أمْنٌ مِنَ اللهِ ، وَفِي الصَّلاَةِ مِنَ الشِّيْطَانِ).
قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو (يَغْشَاكُمُ) واحتجَّا بقولهِ تعالى : { يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ }[آل عمران : 154] فجعل الفعلَ للنُّعاس.
(0/0)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ } ؛ إذ يُلهِمُ ربُّكَ الملائكةَ النازِلين من السَّماء { أَنِّي مَعَكُمْ } بالنصرِ للمسلمين ، { فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ بالتَّنبيهِ والإِخْطَارِ بالبَال ، ويقالُ : بَشِّرُوهم بالنصرِ ، وَقِيْلَ : أرُوهم أنفُسَكُم مَدَداً لَهم فإذا عايَنُوكم ثَبَتُوا. والوحيُ : إلقاءُ المعنى الى النَّفسِ من وجهٍ خَفِيٍّ.
وعنِ ابن عبَّاس أنه قال : (سَوَّى أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم صُفُوفَهُمْ ، وَقَدَّمُواْ رَايَاتِهِمْ فَوَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بعِيرٍ لَهُ يَدْعُو اللهَ وَيَسْتَغِيثُ ، فَهبَطَ جِبْرِيْلُ عليه السلام فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْمَنَتِهِمْ ومِيكَائِيلُ فِي خَمْسِمِائَةٍ عَلَى مَيْسَرَتِهِمْ ، فَكَانَ الْمَلَكُ يَأْتِي الرَّجُلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَيَقُولُ لَهُ : دَنَوْتُ مِنْ عَسْكَرِ الْمُشْرِكِينَ فِسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ : واللهِ لإِنْ حَمَلُواْ عَلَيْنَا لاَ نَثْبتُ لَهُمْ أبَداً.
وَألْقَى اللهُ فِي قُلُوب الْكَفَرَةِ الرُّعْبَ بَعْدَ قِيَامِهِمْ لِلصَّفِّ ، فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ : يَا مُحَمَّدُ أخْرِجْ إِلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ نُقَاتِلُهُمْ. فَقَامَ إِلَيْهِمْ بَنُو عَفْرَاءَ مِنَ الأنْصَارِ : عُوذ وَمِعْوَذ وَمَعَاذاً أُمُّهُمْ عَفْرَاءُ وَأبُوهُمُ الْحَارِثُ ، فَمَشَواْ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ : ارْجِعُواْ وَأرْسِلُوا إلَيْنَا أكِفَّاءَنَا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ ، فَخَرَجَ إلَيْهمْ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، قَالَ عَلِيٌّ : فَمَشَيْتُ إلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَمَشَى إلَيَّ ، فَضَرَبْتُهُ بالسَّيْفِ أطَرْتُ يَدَهُ ، ثُمَّ بَرَكْتُ عَلَيْهِ فَقَتَلْتُهُ ، فَقَامَ شَيْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَاخْتَلَفَا بضَرْبَتَينِ ، ثُمَّ ضَرَبَ عُبَيْدَةُ ضَرْبَةً أخْرَى فَقَطَعَ سَاقَ شَيْبَةَ ، ثُمَّ قَامَ حَمْزَةُ إلَى عُبَيْدَةَ بن ربيعة فَقَالَ : أنا أسدُ اللهِ وَأسَدُ رَسُولِهِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ. فَقَامَ أبُو جَهْلٍ فِي أصْحَابِهِ يُحَرِّضُهُمْ وَيَقُولُ : لاَ يَهُولَنَّكُمْ مَا لَقِيَ هَؤُلاَءٍ ، فإِنَّهُمْ عَجِلُواْ وَاسْتَحْمَقُوا ، ثُمَّ حَمَلَ هُوَ بنَفْسِهِ ، ثُمَّ حَمَلَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ عَلَى قُرَيْشٍ فَهَزَمُوهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } ؛ أي سأقذفُ في قلوبهم المخافَة منكم. علَّمَ اللهُ المسلمين كيف يضرِبُونَهم ، فقال عَزَّ وَجَلَّ : { فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ } ؛ معناهُ على الأعنَاقِ ، وقال عطيَّة والضحاكُ : (مَعْنَاهُ فَاضْرِبُواْ الأَعْنَاقَ) ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرِّقَابِ }[محمد : 4] ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنِّي لَمْ أُبْعَثُ لأعَذِّبَ بعَذاب اللهِ تعَالَى ، إنَّمَا بُعِثْتُ بضَرْب الرِّقََاب وَشَدِّ الْوَثَاقِ) ".
وقال بعضُهم (فَوْقَ) بمعنى (عَلَى) ، أي فَاضرِبُوا على الأعناقِ ، وقال عكرمةُ : (مَعْنَاهُ فَاضْربُوا الرُّؤُوسَ). وقال ابن عبَّاس : (فَاضْرِبُواْ الأعْنَاقَ فَمَا فَوْقَهَا) يعني الرُّؤُوسَ والأعناقَ ، نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ }[النساء : 11] أي اثنَتين فما فوقَهما ، وإنما أمرَ الله تعالى بضرب الرِّقاب والأعنَاقِ ؛ لأنَّ أعلى جلدةِ العُنقِ هو الْمَقْتَلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ؛ قال عطيَّة : (يَعْنِي كُلَّ مِفْصَلٍ) ، وقال ابنُ عَبَّاس والضحاكُ : (يَعْنِي الأَطْرَافَ).
وقال بعضُهم معنى قولهِ تعالى : { فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ } الصَّنَادِيدُ ، وقولهِ تعالى : { وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني السَّفَلَةَ. إلا أنَّ الأوَّل أصحُّ. وَقِيْلَ : معناه : واضرِبُوا منهم كلَّ عُضوٍ أمكَنَكم ، وليس عليكم تَوَقِّي عضوٍ دون عضو.
وعن أبي سعيد الفاراني أنه كان يقولُ : (أرَادَ اللهُ أنْ لاَ تَتَلَطَّخَ سُيُوفُ الْمُسْلِمِينَ بفَرَثِ الْكُفَّارِ ، فَأَمَرَهُمْ أنْ يَضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَيَضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ). والبَنَانُ في اللغة : هو الأصابعُ وغيرُها من الأعضاءِ التي بها يكون قِوَامُ الإنسانِ صوناً لمكانه وحياته ، مأخوذٌ من قولهم : أبْنَنَ الرجلُ بالمقامِ إذا أقامَ بهِ.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ أي ذلك الضَّربُ والقتلُ بأنَّهم شَاقُّوا أولياءَ الله ورسولَهُ ، والمشاقَّةُ أن يصيرَ أحدُ العدُوَّين في شِقٍّ والآخرُ في شِقٍّ آخر ، كما أن الْمُجَادَلَةَ أن يصيرَ أحدُهما في حدٍّ غيرِ حدِّ الآخرِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ في ومَن يخالِفْ أولياء اللهِ ، { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، لهُ.
وأما إظهارُ التضعيفِ في موضع الجزمِ في قوله { يُشَاقِقِ } فهو لغةُ أهلِ الحجاز ، وغيرُهم يُدغِمُ أحدَ الحرفين في الآخر لاجتماعِهما من جنسٍ واحد ، كما قال تعالى في سورة الحشرِ{ يُشَآقِّ اللَّهَ }[الآية : 4] بقافٍ واحدة.
(0/0)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
وقولهُ تعالى : { ذالِكُمْ فَذُوقُوهُ } ؛ معناهُ : إن الذي ذكرتُ لكم أيُّها الكفار من العذاب العاجِل في الدُّنيا فَذُوقُوهُ. ثم بيَّن جلَّ ذِكرهُ أن القتلَ في الدُّنيا لا يصيرُ كفارةً لهم ، وأنَّ الله سيعاقِبُهم في الآخرة بقوله : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } ، وإنما قال تعالى في عذاب الدُّنيا { فَذُوقُوهُ } ؛ لأن الذوقَ يتناولُ اليسيرَ من الشيءِ ، وكلُّ ما يلقَى الكفارُ من ضربٍ أو قتل في الدُّنيا فهو قليلٌ من العذاب يُعَجِّلُ لهم ، ومُعظَمُ عَذابهم يؤخَّرُ إلى يومِ القيامة.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } في فتحِ (أنَّ) وجهان أحدُهما : لأنَّها في موضعِ الرفع تقديرهُ ذلِكُمْ قَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. والثاني : لأنَّها في موضع النصب ؛ تقديرهُ : ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَاعْلَمُوا أنَّ للكَافِرِينَ. وَقِيْلَ : واعلَمُوا بأنَّ للكافرين ، فلما حَذفَ الباءَ نُصب.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ } ؛ خطابٌ من اللهِ للمسلمين حين التَقَوا بالعدوِّ يومَ بدرِ ، معناهُ : إذا لقيتُم الذين كفَرُوا مُزَاحَفَةً مستعدِّين لحربهم ، فلا تنهَزِمُوا حتى تُدبروا. والزحفُ في اللغة : هو الدُّنُّو قَلِيلاً قليلاً ، والزحفُ التَّدَانِي ، يقال : زاحفتُ القومَ إذا ثَبَتُّ لهم ، فكأنَّهُ قال تعالى : إذا واقَعتمُوهم للقتالِ فَاثبُتوا لَهم. والتَّولِيَةُ : جعلُ الشيءِ يَلِي غيرَهُ وهو مُتَعَدِّ إلى مَفعُولَين ، وَوَلَّى دُبُرَهُ إذا جعلَهُ إليه.
(0/0)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } ؛ أي ومَن يجعل ظَهْرَهُ إليهم وقتَ القتالِ ، { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } ؛ إلا أنْ ينحرفَ ليُقاتِلَ في موضعٍ يراهُ أصلحَ في باب الْمُحَارَبَةِ ، وليطلبَ غَرَّةً يطمعُ فيها من العدوِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } ؛ أي إلا أنْ يقصدَ الانضمامَ إلى جماعةٍ يَمنعونَهُ من العدوِّ ، يعني إذا كَثُرَ العدوُّ للمؤمنين فيه يلجأون ، فيحارِبون العدوَّ بعد ذلك معهم ؛ كان لهم تركُ القتالِ عند ذلك ، ومن ولاَّهُم الدُّبُرَ على سبيلِ الانْهِزامِ من غيرِ هذين الوجهَين ، { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّ } ، فقدِ احتملَ غَضَباً من اللهِ ، { وَمَأْوَاهُ } ؛ في الآخرةِ { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ، صارَ إليه.
والتَّحَرُّفُ في اللغة : هو الزَّوَالُ من جهةِ الاستواءِ ، والتَّحَيُّزُ : طلبُ حَيِّزٍ يَكْمُنُ فيه.
واختلفَ العلماءُ هل الوعيدُ في هذه الآيةِ مقصورٌ على حرب بدرٍ أم هو عامٌ في جميعِ الأوقات ؟ قال بعضهم : إنه خاصٌّ في حرب بدر ؛ لأنه لم يكن يومئذٍ للمسلمين فيه سِواهُم ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حاضِراً في ذلك الحرب ، وكان النصرُ موعوداً إليه يومئذٍ ومع حضُورهِ ، وكان لا يعدُّ غيرهُ فئةً ، وكان المنهزِمُ عن القتالِ يومئذ غيرَ متحيِّزٍ إلى فئةٍ ، فأما اليومَ المنهزمُ عن الحرب يكون مُتَحيِّزاً إلى فئَةٍ أعظمَ من الْمُحاربين من المسلمين. وقال بعضُهم : إنه عامٌّ في جميعِ الأوقات ، ولا يجوزُ الانْهزَامُ عن قتالِ المشركين مع قوَّة القتال ، وإلى هذا ذهبَ ابنُ عباس ، وذكرَ محمَّد بنُ الحسنِ في السِّيَرِ الكبير (أنَّ الْجَيْشَ إذا بَلَغُوا اثْنَى عَشَرَ ألْفاً فَلَيْسَ لَهُمْ أنْ يَفِرُّواْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَإنْ كَثُرَ الْعَدُوُّ). واحتَجَّ بما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ : " خَيْرُ الأَصْحَاب أرْبَعَةٌ ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أرْبَعُمِائَةٍ ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أرْبَعَةُ آلاَفٍ ، وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ مِنْ قِلَّةٍ ".
(0/0)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } ؛ معناهُ : لَم تقتلُوهم يومَ بدرٍ بأنفُسِكم ، ولكنَّ الله قَتَلَهم بالملائكةِ. وأضافَ اللهُ قتْلَهم إلى نفسهِ ؛ لأن السببَ في قتلِهم كان من الله تعالى ، فإنهُ هو الذي أيَّدَ المؤمنين بالملائكةِ حتى شجَّعَ قُلوبَهم ، وأنزلَ المطرَ حتى ثبَّتَ به الأقدامَ ، وألقَى في قلوب المشركين الرُّعب حتى انْهَزمُوا. وَقِيْلَ : كان المسلمون يقولُون قتَلَنَا فُلاناً وفلاناً. فأرادَ اللهُ تعالى أنْ لا يُعجَبُوا بأنفُسِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَى } ؛ معناهُ : رُوي " أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه : " نَاوِلْنِي كَفّاً مِنْ تُرَاب الْوَادِي " فَنَاوَلَهُ قَبْضَةً ، فَاسْتَقْبَلَ بَها وُجُوهَ الْمُشْرِكِينَ فَرَمَاهُمْ وَقَالَ : " شَاهَتِ الْوُجُوهُ وَقَبُحَتْ " فَمَلأَ اللهُ أعْيُنَهُمْ بهَا ، فَلَمْ يَبْقَ فِيهِمْ أحَدٌ إلاَّ وَقَدْ شُغِلَ بعَيْنِهِ ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فَهَزَمُوهُمْ ". فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أعلمَ الله أن كفّاً من التُّراب لا يملأُ عُيونَ ذلك الجيشِ برَميَةِ بَشَرٍ ؛ لأنه تعالى توَلَّى إيصالَ ذلك إلى أبصارِهم من الموضعِ الذي كان فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى أصابَ عَيْنَ كلَّ واحدٍ منهم قِسْطٌ من ذلك التُّراب.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً } ؛ أي وليُنْعِمَ على المؤمنين بالنَّصرِ والغنيمةِ والأُسَارى نعمةً حسنةً. وقوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، أي سميعٌ لدُعائِكم ، عليمٌ بأفعالِكُم وضمائرِكم.
(0/0)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ذالِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } ؛ أي ذلِكُم الذي ذكرتُ من القتلِ والرَّميِ والإبلاءِ الحسَنِ ، { وَأَنَّ اللَّهَ } أي واعلَمُوا أنَّ اللهُ وفي فَتْحِ (أنَّ) من الوجُوهِ مثلُ ما في قوله : { وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ }[الأنفال : 14] وقد بيَّناهُ. وقوله تعالى : { مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } أي مُضْعِفُ كيدِهم. قرأ أهل الكوفة إلاَّ حفصاً وابن يعقوب وابن عامِر (مُوهِنُ) بالتخفيف ، (كَيْدَ) بالنصب ، وقرأ الحسنُ والأعمش وحفصٌ (مُوهِنُ كَيْدِ) مخففاً مضافاً بالخبرِ طَلباً للخفَّة كقوله : { مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ }[القمر : 27]{ كَاشِفُو الْعَذَابِ }[الدخان : 15].
(0/0)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } ؛ هذا خطابٌ للكافرين ، وذلكَ أنَّ أبَا جَهْلٍ قالَ يومَ بدرِ قبلَ القتالِ لَهم : اللَّهُمَّ انصُرْ أعزَّ الْجُندَين وأكرَمَ الفئَتين وخيرَ الدِّينَين ، اللُّهُمَّ أيُّنا اقطعُ للرحمٍ وأفسدُ للجماعةِ فَأَحِنْهُ اليومَ. فاستجابَ الله دعاءَهُ على نفسهِ ، فأتاهُ بالفتحِ فضربَهُ إبنا عَفراء عوفُ ومعاذ وأجهزَ عليه ابنُ مسعود.
وقال السديُّ والكلبي : (كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُواْ إلَى بَدْرٍ ، تَعَلَّقواْ بأِسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَقَالُواْ : اللَّهُمَّ انْصُرْ أعْلَى الْجُنْدَيْنِ وَأهْدَى الْفِئَتَينِ وَأكْرَمَ الْحِزْبَينِ وَأفْضَلَ الدِّينَيْنِ ، اللَّهُمَّ أيُّ الْفِئَتَينِ أحَبُّ إلَيْكَ فَانْصُرْهُمْ ، اللُّهُمَّ اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِه الآيَةَ ، إنْ تَسْتَنْصِرُواْ فَقَدْ جَاءََكُمُ النَّصْرُ ، فَنُصِرَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم). وقال عكرمةُ : (قَالَ الْمُشْرِكُونَ : اللُّهُمَّ لاَ نَعْرِفُ مَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ ، فَافْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بالْحَقِّ. فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الْفَتْحُ } أيْ إنْ تَسْتَحْكِمُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْحُكْمُ ، وَإنْ تَسْتَقْضُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْقَضَاءُ).
وقولهُ تعالى : { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } ؛ أي وإن تَنتَهُوا عن الشِّرك والمعاصي فهو خيرٌ ، { وَإِن تَعُودُواْ } ؛ إلى القتالِ ؛ { نَعُدْ } ؛ بأنْ نأمُرَ المسلمين بجهادِكم وننصُرهم عليكم. وقال بعضُهم : هذه الآيَةُ خطابٌ للمؤمنين ؛ أي اسْتَنْصِرُوا الله وَاسْأَلُوهُ الفتحَ فقد جاءكم الفتحُ والنصر ، وإنْ تنتَهُوا عن فعلِكم في الأُسارى والفداءِ يومَ بدرٍ فهو خيرٌ لكم ، وإنْ تعودُوا إلى فعلِكم بالأُسارى نَعُدْ إلى الإنكار عليكم ، { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً } ؛ أي وإنْ سُلب عنكم النصرُ حتى لا تُغنِي عنكم جماعتُكم شيئاً ، { وَلَوْ كَثُرَتْ } ؛ في العددِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ قرأ نافعٌ وابن عامر بخفض (إنَّ) وبفتحِ (أنَّ) بمعنى ولأَن الله ، وَقِيْلَ : عطفٌ على قولهِ{ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ }[الأنفال : 18] ، وَقِيْلَ : على معنى وَاعْلَمُوا أنَّ الله ، وقرأ الباقون (وإنَّ اللهَ) بالكسرِ على الابتداء ، واختارَهُ أبو عُبيد وأبو حاتم ؛ لأن قراءةَ عبد الله : (وَإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بالنصرِ والمعونة.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ورسولَهُ في أمرِ الغَنيمة وغيرِها ، ولا تَوَلَّوا عن أمرِ الله ، وأنتم تسمعون ما أنزلَ اللهُ تعالى ، وقال الحسنُ : (مَعْنَاهُ وَأنْتُمْ تَسْمَعُونَ الْحُجَّةَ فِي وُجُوب طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ).
وأما تخصيصُ المؤمنين بالأمرِ لهم بالطَّاعة وإن كانت هذه الطاعةُ واجبةً على غير المؤمنين كوجوبها على المؤمنين ، فلأحَدِ مَعنيين : إما إجلالاً لهم ورَفعاً لقدرهم فيدخلُ غيرُهم في الخطاب على جهة التَّبَعِ لهم ، وإما لأنه لم يَعْتَدَّ بغيرِ المؤمنين ؛ لإعراضهم عما وجبَ عليهم.
(0/0)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ؛ أي لا تكونوا كالذينَ قالوا سَمِعنَا على جهةِ القَبُولِ ، وهم لا يسمعون للقبولِ ، وإنما سَمعُوا به للردِّ والإعراضِ عنه ، ويقالُ : معناه : ولا تَكونوا كالَّذين قَالوا قَبلْنَا وهم لا يَقبَلون ، ومنه قولُه (سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) أي قَبلَ اللهُ حَمْدَ مَن حَمَدُه. واختلَفُوا فيمَن نزلت هذه الآيةُ ، قال ابنُ جُرَيج : (نَزَلتْ فِي الْمُنَافِقِينَ) وقال الحسنُ : (فِي أهْلِ الْكِتَاب). ويقالُ : في مُشرِكي العرب.
(0/0)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } ؛ معناهُ : أن شرَّ الخليقَةِ على وجهِ الأرضِ الكفَّارُ الذين لا يسمعونَ الْهُدَى ، ولا يتكلَّمُون بالخيرِ ، ولا يتدبَّرون القرآنَ. وسَمَّاهم صُمّاً بُكْماً ؛ لأنَّهم لم ينتفِعُوا بما سَمعوا من دلائلِ اللهِ تعالى ، قال الأخفشُ : (كُلُّ مُحْتَاجٍ إلَى غَذاءٍ فَهُوَ دَابَّةٌ). ومعنى الآيةِ : إن شرَّ ما دبَّ على وجهِ الأرض من خلقِ الله تعالى الصمُّ البُكْمُ عن الحقِّ ، فهُم لا يسمعونَهُ ولا يعقلونه. وَقِيْلَ : صُمُّ القُلوب وعُميُها ، قَالَ اللهُ تَعَالَى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }[الحج : 46].
(0/0)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } ؛ أي لو عَلِمَ اللهُ فيهم أنَّهم يصلُحون بما نوردُه عليهم من الحجَّة بآياتهِ لأَسْمَعَهُمْ إيَّاها. وَقِيْلَ : لأَسْمَعَهُمْ جوابَ كلِّ ما سألوهُ عنه ، { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ } ؛ ولو بيَّن لهم كلَّ ما يختلجُ في أنفُسِهم لتوَلَّوا عن الهدى ، { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } ، لمعاندَتِهم.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؛ معناهُ : أجِيبُوا اللهَ والرسولَ. وقِيْلَ : معنى الإجابة طلبُ الموافقةِ للدَّاعي على وجهِ الطاعة. وَقِيْلَ : الجمعُ بين الاستجابةِ لله وللرسولِ ؛ أي استجِيبُوا للهِ بسَرائِركم وللرسولِ بظوَاهرِكم.
وقولهُ تعالى : { إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي إذا دعَاكُم إلى العلمِ الذي يُحييكم في أمرِ الدِّين. وَقِيْلَ : معناهُ : إذا دعاكم إلى الجهادِ الذي يُحيي أمرَكم. وَقِيْلَ : إذا دعاكم إلى ما يكون سَبَباً للحياةِ الدَّائمة في نعيمِ الآخرة ؛ لأنه إذا حصلَ الامتثالُ بأمرِ الله ورسولهِ ، حصلت هذه الحياةُ الدائمة ، وإن لم يحصِلِ الامتثالُ أدَّى ذلك إلى العقاب الذي يتمنَّى معه الموتَ. قال القتيبي : (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } يَعْنِي الشَّهَادَةَ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الشُّهَدَاءِ{ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }[آل عمران : 169]). واللامُ في قولهِ (لِمَا) بمعنى (إلى).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } ؛ فيه ثلاثةُ أقوالٍ ؛ أحدُها : أن معناهُ : يَحُولُ بين المرءِ وأمَلهِ بالموتِ أو غيره من الآفَاتِ ، فبادِرُوا إلى الطاعاتِ قبلَ الحيلولَةِ ، ودَعُوا التسويفَ فإنَّ الأجلَ يَحُولُ دون الأملِ. وقال مجاهدُ : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبهِ لاَ يَتْرُكُهُ يَفْهَمُ وَلاَ يَعْقِلُ).
والثاني : أن معناهُ : أنَّ الله تعالى أقربُ إلى ذي القلب مِن قلبه ، فإنَّ الذي يَحُولُ بين الشَّيء وغيرهِ أقربُ إلى ذلك الشيءِ من غيره ، كما قالَ تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }[ق : 16] ، وفي هذا تحذيرٌ شديد.
والثالث أن معناهُ : أن اللهَ يُقَلِّبُ القلوبَ من حالٍ إلى حالِ كما جاء في الدُّعاء : " يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوب ". وقال ابنُ جبير : (يَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ أنْ يُؤْمِنَ ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ أنْ يَكْفُرَ). وقال ابنُ عبَّاس والضحاك : (يَحُولُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَمَعْصِيَتِهِ ، ويَحُولُ بَيْنَ الْكَافِرِ وَطَاعَتِهِ). وقال السديُّ : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يُؤْمِنَ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَكْفُرَ إلاَّ بإذنِهِ).
قرأ الحسنُ : (يَحُولُ بَيْنَ الْمَرِّ) بتشديدِ الراء من غير همزٍ ، وقرأ الزهريُّ بضمِّ الميمِ والهمزة وهي لغاتٌ صحيحة.
وقولهُ تعالى : { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ؛ عطفٌ على قولهِ : { أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ }. معناهُ : واعلَمُوا أنَّ مَحْشَرَكُمْ في الآخرةِ إلى اللهِ ، فيَجزِي كلَّ عاملٍ بما عَمِلَ ، إنْ كان خَيراً فخيرٌ ، وإنْ كان شرّاً فشَرٌّ.
وَقِيْلَ : في آخرِ الآية تأويلُ الآيةِ ؛ أي الذي يَحُولُ بين المرءِ وقلبهِ قادرٌ على أن يُبَدِّلَ خوفَكم أمْناً ، وأمْنَ عدُوِّكم خَوفاً ، فيجعلَ القويَّ ضعيفاً والضعيفَ قوياً ، والعزيزَ ذليلاً والذليلَ عَزِيزاً ، والشُّجاعَ جَباناً ، الجبانَ شُجاعاً ، يفعلُ ما يشاء وما يريدُ فأجيبُوا الرسولَ في الجهادِ ولا تخافُوا ضعفَكم.
(0/0)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ؛ نزلَت في عُثمانَ وعليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، أخبرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالفتنةِ التي تكون تُسَببها أنَّها ستكون بعدَك يلقاها أصحابُكَ تصيبُ الظالِمَ والمظلومَ ، ولا تكون بالظَّلَمَةِ وحدَهم خاصَّة ولكنَّها عامة ، وأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابَهُ ، فكانَ بعد وفاةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من الفِتَنِ بسبب عليٍّ وعُثمان ما لا يخفَى على أحدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لاَّ تُصِيبَنَّ } جوابُ الأمر بلفظ النَّهي ، كما يقالُ : أنْزَلْ مِنَ الدَّابة لا تَطْرَحْكَ أو لا تطرَحنَّكَ ، معناهُ : أنْ تَنْزِلَ عنها لا تطرحَنَّك ، فاذا أثبَتَّ النونَ الخفيفةَ والثقيلة كان آكدَ للكلامِ ، ومنهُ قوله تعالى : { ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ }[النمل : 18].
والمرادُ بالفتنةِ القتلُ الذي رَكِبَ الناسَ فيه بالظُّلم ، وكان أمرُ الله أمراً باتِّقاء تركِ الإنكارِ على أهلِ المعاصي واتِّقاء الاختلاطِ بأهلِ المعصية ، قال ابنُ عبَّاس : (أمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ لاَ يقِرُّوا الْمُنْكَرَ بَيْنَ أظْهُرِهِمْ ، فَيَعُمُّهُمُ اللهُ بالْعَذاب).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ تحذيرُ شدَّة العقوبةِ لِمَن أهَاجَ الفتنَ ، قال صلى الله عليه وسلم : " الْفِتْنَةُ رَاتِعَةٌ فِي بلاَدِ اللهِ وَاضِعَةٌ خِطَامَهَا ، فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَهَاجَهَا " وفي بعضِ الأخبار : " الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللهُ مَنْ أَيْقَظَهَا ".
(0/0)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ } ؛ نَزلت في الْمُهاجرِين خاصَّة ؛ أي احفَظُوا معشرَ المهاجرين إذ أنتم قليلونَ في العدَّة مقهُورون في أرضِ مكَّة ، { تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ } ؛ أي يَخْتَلِسَكُمْ ويذهبَ بكم أهلُ مكَّة ، { فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ؛ فآواكم إلى المدينَة وأعانَكم يومَ بدرٍ بالملائكةِ ، ورزَقَكُم الحلالَ من الغنائمِ ؛ لكي تشكُرُوا اللهَ وتعرِفُوا ذلك منه فتطعيوهُ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ؛ نزلَت في أبي لُبَابَةَ بن عبدِ المنذر ، " فإنَّ بني قُريظةَ قالُوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ابْعَثْ لَنَا خَلِيفََةً مِنْ خُلَفَائِكَ نَنْزِلْ عَلَى حُكْمِهِ ، فأبَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يَنْزِلُوا إلاَّ على حُكم سعدِ بنْ مُعَاذ ، وكانوا يقولونَ : أرسِلْ إلينا أبَا لُبابة ، وَكَأنَ عيالهُ وولدهُ وأهله عندَهم ، فَبَعَثَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقالوا : يا أبَا لُبابة أنَنزِلُ على حُكم سعدِ بن معاذ ، فأشارَ بيدهِ إلى حَلْقِهِ ؛ أي إنَّهُ الذبْحُ فَلاَ تَفْعَلُوا ، ولَمْ يتكلَّم بلسانهِ ، فأنزلَ اللهُ هذه الآية ، قال أبو لُبابة : (فَمَأ زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى عَلِمْتُ أنِّي خُنْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ). فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ } كما فَعَلَ أبُو لُبابة.
فلما نزلت هذه الآيةُ شدَّ أبُو لُبابَةَ نفسَهُ على سَاريَةٍ من سَوَاري المسجدِ ، وقالَ (لاَ أذُوقُ طَعَاماً وَلاَ شَرَاباً حَتَّى أمُوتَ ، أوْ يَتُوبَ اللهُ عَلَيَّ) فمكثَ سبعةَ أيَّام لا يذوقُ فيها طعاماً ولا شَراباً حتى خَرَّ مَغشِيّاً عليهِ ، ثم تَابَ اللهُ عليه ، فجاءَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَحَلَّهُ بيدهِ ، فقال أبو لُبابة : (تَمَامُ تَوْبَتِي أنْ أهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أصَبْتُ فِيْهَا الذنْبَ ، وَأنْ أتَخَلَّعَ مِنْ مَالِي) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " يُجْزِيكَ الثُّلْثُ أن تَتَصَدَّقَ بهِ ".
وقال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَى الآيَةِ : لا َتَخُونُوا اللهَ بتَرْكِ فَرَائِضِهِ ، وَالرَّسُولَ بتَرْكِ سُنَّتِهِ). { وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } أي ولا تَخُونُوا أمانَاتِكم ، انتصبَ على الظَّرفِ ؛ أي إنَّكم إن فَعَلْتُم ذلك فإنما خُنْتُمْ أمانَاتِكم عَطفاً.
ويقالُ : أرادَ بقولهِ : { لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ } الخيانَة من الغنائمِ التي هي عطيَّةُ اللهِ ، والخيانةُ للهِ فيها خيانةُ الرسولِ أيضاً ؛ لأنه هو القَيِّمُ بقِسْمَتِها ، وقولهُ : { وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } يحتملُ الخيانةَ في الغنائمِ أيضاً ؛ لأنَّهم كلُّهم مُشتَركون فيها ، فمَنِ استبدَّ بشيءٍ منها فقد خَانَ ، ويحتملُ الخيانةَ في أثْمَانِ بعضِ الناس بعضاً من حقُوقِ أنفسهم ، وقال الأخفشُ : (قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ } عَطْفًاً عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنَ النَّهْيِ ، تَقْدِيرُهُ : وَلاَ تَخُونُوا أمانَاتِكُمْ).
(0/0)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } ؛ معناهُ : أنَّ الإنسان ربَّما يتركُ الجهادَ ويخونُ في الأماناتِ لأجْلِ الأولادِ أو حِرْصاً على المالِ ، وقد رَوَينَا أنَّ لُبابة إنما حَمَلَهُ على ما فَعَلَ مالهُ وأهلُه وولدهُ الذين كانوا في بَنِي قرِيظةَ ، لأنه إنما ناصَحَهم لأجلِهم وخانَ المسلمين بسببهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ؛ أي ثوابٌ جَسِيمٌ في الآخرةِ لمن لَم يَعْصِ اللهَ لأجلِ المالِ والذرِّية.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ؛ أي إن تتَّقُوا اللهَ في الأماناتِ ، فتَمتَنِعوا من معاصيهِ بأداءِ فرائضه يجعَلْ لكم نُوراً في قلوبكم تُفرِّقون به بين الحقِّ والباطلِ. وَقِيْلَ : يجعل لكم فَتْحاً ونَصراً ، كما قال تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ }[الأنفال : 41] أرادَ به يومَ عزِّ المؤمنين وخُذلان الكافرين.
وَقِيْلَ : معناهُ يجعل لكم مَخْرَجاً ونَجاةً في الدُّنيا والآخرةِ. وقال الضحَّاك : (فُرْقَاناً : أيْ ثَبَاتاً). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي يَمحُ عنكم ذنُوبَكم ، ويستْرُ عليكم خطَايَاكم ولا يؤاخِذْكم بها ، { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ؛ أي عظيمُ الفضلِ على عباده أسْدَى لهم بالنِّعَم.
(0/0)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } ذكَّر اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم فعقب ما أنعم الله عليه من النصر والظفر يوم بدر وما كان من مكر المشركين في أمره بمكة فقال : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } أي اذكر تلك الحالة.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيشٍ اجْتَمَعُواْ فِي دَار النَّدْوَةِ يَمْكُرُونَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَيَحْتَالُونَ لَهُ ، مِنْهُمْ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبيعَةَ ؛ وَأَبُو جَهْلٍ ؛ وَأَبُو سُفْيَانَ ؛ وَالنَّضِِرُ بْنُ الْحَارثِ ؛ وَأبُو الْبُحْتُرِيِّ بْنُ هِشَامٍ ؛ وَنَبيهُ وَمُنَبهُ ؛ وَأُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَرَبيعَةُ بْنُ الأَسْودِ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ كَبيرٍ عَلَيْهِ ثِيَابُ أطْمَارٍ ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ فَقَالُواْ : مَا لَكَ يَا شَيْخُ دَخَلْتَ فِي خَلْوَتِنَا بغَيْرِ إذنِنَا؟! فَقَالَ : أنَا رَجُلٌ مِنْ أهْلِ نَجْدٍ قَدِمْتُ مَكَّةَ ، فَأَرَاكُمْ حَسَنَةً وَجُوهُكُمْ طَيِّبَةً رَوَائِحُكُمْ ، فَأَحْبَبْتُ أنْ أسْمَعَ حَدِيثَكُمْ فَأقْتَبِسَ مِنْكُمْ خَيْراً فَدَخَلْتُ ، وَإنْ كَرِهْتُمْ مَجْلِسِي خَرَجْتُ ، وَمَا جِئْتُكُمْ إلاَّ أنِّي سَمِعْتُ باجْتِمَاعِكُمْ فأَرَدْتُ أنْ أحْضُرَ مَعَكُمْ ، وَلَنْ تَعْدُمُوا مِنِّي رَأياً وَنُصْحاً. فَقَالُوا : هَذا رَجُلٌ لاَ بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُ.
فَتَكَلَّمُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَبَدأَ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ : أمَّا أنَا فَأَرَى أنْ تَأْخُذوا مُحَمَّداً ، فَتَجْعَلُوهُ فِي بَيْتٍ تَسُدُّونَ عَلَيْهِ بَابَهُ ؛ وَتَشُدُّونَ عَلَيْهِ وِثَاقَهُ ؛ وَتَجْعَلُونَ لَهُ كُوَّةً تُدْخِلُونَ عَلَيْهِ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ، فَيَكُونُ مَحْبُوساً عِنْدَكُمْ إلى أنْ يَمُوتَ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ فَتَحْبسُوهُ ، يُوشِكُ أنْ يُقَاتِلَكُمْ أهْلُ بَيْتِهِ وَيُفْسِدُواْ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ فَقَالُوا صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
ثُمَّ تَكَلَّمَ أبُو الْبَخْتَرِيِّ فَقَالَ : أرَى أنْ تَحْمِلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ فَتَشُدُّوا وثَاقَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تُخْرِجُوهُ مِنْ أرْضِكُمْ حَتَّى يَمُوتَ أوْ يَذْهَبَ حَيْثُ يَشَاءُ. فَقَالَ إبْلِيسُ : بئْسَ الرَّأيِ مَا رَأيْتَ! تَعْمَدُونَ إلَى رَجُلٍ لَهُ فِيكُمْ أهْلُ بَيْتٍ ، وَقَدْ سَمِعَ بهِ مَنْ حَوْلَكُمْ أفْسَدَ عَلَيْكُمْ جَمَاعَتَكُمْ وَمَعَهُ مِنْكُمْ طَائِفَةٌ ، فَتُخرِجُونَهُ إلَى غَيْرِكُمْ فَيَأْتِيهمْ فَيُفْسِدُ مِنْهُمْ أيْضاً جَمَاعَةً بمَا يَرَونَ مِنْ حَلاَوَةِ كَلاَمِهِ وَطَلاَقَةَ لِسَانِهِ ، وَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ وَتَسْتَمِعُ إلَى حُسْنِ حَدِيثِهِ ، ثُمَّ لَيَأْتِيَنَّكُمْ بهِمْ فَيُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَيَقْتُلَ أشْرَافَكُمْ. فَقَالُواْ : صَدَقَ واللهِ الشَّيْخُ.
فَتَكَلَّمَ أبُو جَهْلٍ فَقَالَ : أرَى أنْ تَجْتَمِعَ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ مِنْكُمْ رَجُلٌ يَأْخُذُونَ السُّيُوفَ ، فَيَضْرِبُونَهُ جَمِيعاً ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، فَإذا قَتَلْتُمُوهُ تَفَرَّقَ دَمَهُ فِي الْقَبَائِلِ كُلِّهَا ، فَلاَ يَدْرِي قَوْمُهُ مَنْ يأْخُذُونَ وَلاَ يَقُومُونَ عَلَى حَرْب قُرَيْشٍ كُلِّهَا ، وَإنَّمَا إذا رَأوا ذلِكَ قَبلُوا الدِّيَةَ ، فَتُؤَدِّي قُرَيْشُ دِيَتَهُ وَاسْتَرَحْنَا. فَقَالَ إبْلِيسُ : صَدَقَ واللهِ الشَّابُّ ، وَهُوَ أجْوَدُكُمْ رَأْياً ، الْقَوْلُ قَوْلُهُ لاَ أرَى غَيْرَهُ. فَتَفَرَّقُوا عَلَى ذلِكَ.
فَنَزَلَ جِبرِيلُ عليه السلام فأَخْبَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلِكَ ، وَأَمَرَهُ أنْ لاَ يَبيتَ فِي مَضْجَعِهِ الَّذِي كَانَ يَبيتُ فِيْهِ ، وَأَمَرَهُ بالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ) وَكَانَ مِنْ أمْرِ الْغَارِ مَا كَانَ ، فذلك قولهُ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ } أي ليَحبسُوكَ ، وهو ما قالَهُ عمرُو بن هشام.
(0/0)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـاذَا إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ } ؛ يعني النَّضرَ بن الحارثِ ، وذلك أنه كان يختلفُ تَاجِراً إلى فارسَ والحِيرَةِ ، فيسمعُ سَجَعَ أهلِها وذِكرَهم أخبارَ العَجَمِ وغيرِهم من الأُمَم ، ويَمُرُّ باليهودِ والنَّصارى فيرَاهُم يقرأُون التوراةَ والإنجيلَ ، فجاءَ مكَّةَ فوجدَ مُحَمَّداً يقرأُ القرآنَ ، فقالَ : (قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذا إنْ هَذا إلاَّ أسَاطيرُ الأَوَّلِينَ) أي أخبارُ الأُمَم الماضيةِ وأسماؤُهم. وكان النضرُ يقول : إن هذا الذي يحدِّثُكم به مُحَمَّد ما هو إلا مثلُ ما أحدِّثُكم به من أحاديثِ الأوَّلين ، وكان النضرُ كثيرَ الحديث عن الأممِ الخالية.
(0/0)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ؛ نزلَتْ في النَّضرِ بن الحارثِ أيضاً ، قال : لو شئتُ لقُلْتُ مثلَ هذا ، إنْ هذا إلاَّ أساطيرُ الأوَّلين في كُتبهم ، ثم قال : اللَّهُمَّ إن كان هذا الذي يقولهُ مُحَمَّدٌ هو الحقُّ من عندِكَ ، فأمطِرْ علينا حجارةً من السَّماء ، كما أمطَرْتَها على قومِ لُوطٍ ، أو ائْتِنَا ببعضِ ما عذبتَ به الأُمَمَ فيه ، فَنَزلَ{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ }[المعارج : 1-2] وكان النضرُ من بني عبدِ الدَّار.
ومعنى الآيةِ : واذكُرْ يا مُحَمَّدُ إذا قالُوا : اللَّهُمَّ... وأنتَ بين أظهُرِهم بمكَّة ، فلم يُعذِّبهم اللهُ حينئذٍ وَعذبَهم من بعدُ ، فأُسِرَ النضرُ يومَ بدرٍ وقُتِلَ صَبراً ، وكان الذي أسَرَهُ المقدادُ بن الأسودِ. وقولهُ تعالى : { هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ } عناداً وتوكيداً وصِلَةً في الكلامِ ، و { الْحَقَّ } نُصِبَ بخبرِ كان.
(0/0)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (قَالَ الحَارْثُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَوْفَل : يَا مُحَمَّدُ ، وَاللهِ إنَّكَ فِينَا لَصَادِقٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ ، وَلَكِنَّا مَتَى نُؤْمِنُ بكَ غَزَانَا الْعَرَبُ ، فَنَزَلَ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } ) أي مُقيماً بين أظهُرِهم ، ولَم تُعَذبْ أُمَّة قط ونبيُّها بين أظهُرِها حتى يخرجَ منها. { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ } أي وما كان اللهُ ليُسَلِّطَ عليهم عدُوَّهم { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } أي يُصَلُّونَ.
(0/0)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ؛ يعني عذابَ الآخرةِ ، وعن عبدِالرحمن بن أبزي قال : (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمَكَّةَ ، فَنَزَلَ{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }[الأنفال : 33] فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِينَةِ فَنَزلَ{ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال : 33] وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَقِيَّةٌ بمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُواْ ، وَكَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ اللهَ وَيُصَلُّونَ ، فَلَمَّا خَرَجَ كُفَّارُ مَكَّةَ إلَى حَرْب بَدْرٍ ، وَنَزَلَ قَوْلُهُ { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } أيْ يَمْنَعُونَ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ فَعَذَّبُهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَآءَهُ } ؛ أي ما كان الكفَّارُ أولياءَ المسجدِ الحرام ، قال الحسنُ : (وَذلِكَ أنَّهُمْ كَانُواْ يَقُولُونَ : نَحْنُ أوْلِيَاءُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَرَدَّ اللهُ ذلِكَ عَلَيْهِمْ). وَقِيْلَ : معناهُ : وما كانوا أولياءَ اللهِ. وقولهُ تعالى : { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ } ؛ أي مَا أولياءُ اللهِ ، وَقِيْلَ : ما أولياءُ المسجدِ الحارمِ إلا المتّقونَ الشِّركَ ، { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ } ؛ الكفار ، { لاَ يَعْلَمُونَ } ، ذلكَ.
(0/0)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } ؛ يعنِي : إنَّ تقرُّبَ المشركين إلى اللهِ كان بالصَّفِيرِ والتَّصفِيقِ ، كانوا يفعَلون ذلكَ عندَ البيتِ مكانَ الدُّعَاءِ والتَّسبيحِ. وَقِيْلَ : كَانُوا يأْتُون بأفعالِ الصَّلاةِ ، إلاَّ أنَّهم مع ذلكَ يُصَفِّرُونَ فيها ويُصَفِّقونَ.
وَالْمُكَاءُ : طائرٌ أبيض يكون في الحجاز يُصَفِّرُ يسمَّى باسم بصوته ، ويقالُ : مَكَا يَمْكُو إذا صَفَّرَ. وصَدَى تَصْدِيَةً إذا صَفَّقَ بيدهِ.
وقال مقاتلُ : (كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَامَ رَجُلاَنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلاَنِ عَنْ يَسَارِهِ ، فَيُصَفِّرُونَ كَمَا يُصَفِّرُ الْمُكَاءُ ، وَيُصَفِّقُونَ بأَيْدِيهِمْ ؛ لِيَخْلِطُواْ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقِرَاءَتَهُ ، وَكَانُواْ يَفْعَلُونَ كَذلِكَ بصَلاَةِ مَنْ آمَنَ بهِ ، فَقَتَلَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ). وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ؛ ويقالُ : أرادَ بهذا أنه يُقال لهم يومَ القيامةِ : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } وقال أبُو جَعفر : (سَأَلْتُ أبَا سَلَمَةَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } فَجَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِمَا صَفِيراً). وقال ابنُ عبَّاس : (كَانَتْ قُرَيْشُ يَطُوفُونَ بالْبَيْتِ عُرَاةً ، وَيُدْخِلُونَ أصَابعَهُمْ فِي أفْوَاهِهِمْ فَيُصَفِّرُونَ).
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ } ؛ نزلَت هذه الآيةُ في الْمُطْعِمينَ منهم يومَ بدرٍ ، وكانوا ثلاثةَ عشَرَ رجُلاً وهم : أبُو جَهلٍ وأخوهُ الحارثُ ؛ والنَّضرُ بن الحارثِ ؛ وأُبَيُّ بن خلَفٍ ؛ وزَمْعَةُ بنُ الأسوَدِ ؛ وعُتبة وشَيْبةُ ، كان لكلِّ واحدٍ منهم نوبَةُ يومٍ في الإطعامِ.
ومعنى الآية : إنَّ الذين كفَرُوا يُنفِقُونَ أموالَهم على عدَاوَةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليَصُدُّوا الناسَ عن دين اللهِ ، فيستقبحُ هذه الإنفاق منهم ، ثم يكون إنفاقُهم ندامةً عليهم يومَ القيامة ، يُهزَمُونَ ويُقتلون ببدرٍ لا تنفعُهم نفقتهم.
والْحَسْرَةُ : مأخوذةٌ من الكَشْفِ ، يقالُ : حَسَرَ رَأْسَهُ إذا كَشَفَهُ ، والْحَاسِرُ : كاشِفُ الرَّأسِ ، فيكونُ المعنى : ثم يَكْشِفُ لهم عن ذلكَ ما يكونَ حَسْرَةً علِيهم. قِيْلَ : كان يُطعِمُ كلُّ واحدٍ منهم كلَّ يومٍ عَشْرَ جُزُرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ؛ بيانُ أنَّ ذلك القتلَ والهزيمةَ لا يُكفِّران ذُنوبَهم ، وأنَّهم يُحشرون في الآخرةِ إلى جهنَّم للجزاءِ.
(0/0)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
وقولهُ تعالى : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } ؛ أي ليَمِيزَ اللهُ نفقةَ المؤمنين من نفقةِ الكافرين ، والعملَ السَّيِّءَ من العملِ الصَّالحِ. وقُرَئ (لِيُمَيِّزَ اللهُ) بالتشديد ، والمعنى : ليُمَيِّزَ اللهُ ذلك الحشرَ الخبيثَ من الطيِّب ؛ أي الكافرَ من المؤمنِ ، فيُنْزِلَ الْمُحِقَّ الجنانَ والكافرَ النِّيران.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } ؛ أي يجعلَ ما أنفقَهُ المشركون في معصيةِ الله بعضَهُ فوقَ بعضٍ ، فيجعلهُ رُكَاماً فيُكَوَّي بذلك جِبَاهُهم وجنُوبُهم في جهنَّم.
وَقِيْلَ : أرادَ بقولهِ { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } طَرْحَ بعضهِ على بعضٍ ، كما يفعلُ بالمتاعِ الخفيف تَحقِيراً له. وَقِيْلَ : معنى (فَيَرْكُمَهُ) أي يجمَعهُ حتى يصيرَ كالسَّحاب الْمَرْكُومِ وهو المجتَمِعُ الكثيفُ فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ. وقولهُ تعالى : { أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ أي هم الذين خَسِرُوا أنفُسَهم في الدُّنيا والآخرةِ ، وغُشَّتْ صفقَتُهم وخَسِرَتْ تجارَتُهم ؛ لأنَّهم اشتَرَوا بأموالِهم عذابَ اللهِ في الآخرةِ.
(0/0)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } ؛ أي قُل لأبي سُفيان وأصحابهِ إنْ ينتَهُوا عن الشِّرك وقتالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } أي ما قد مَضَى من ذُنوبهم قبلَ الإسلام ، { وَإِنْ يَعُودُواْ } ؛ لقتالِ مُحَمَّدٍ ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } ، في نصرِ الأنبياء والأولياءِ وهَلاكِ الكفَّار ، وإنَّ للكفارِ النارَ في الآخرة. وأنشدَ بعضُهم : يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إذا اعْتَرَفْ ثُمَّ انْتَهى عَمَّا أتَاهُ وَاقْتَرَفْلقولهِ { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ }.
(0/0)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؛ أي قاتِلُوا كفَّارَ مكَّة حتى لا يكون شِرْكٌ. وَقِيْلَ : حتى لا يكون كافِرٌ بغيرِ عهدٍ ؛ لأن الْفِتْنَةَ إنما تكون بأَنْ يُتْرَكَ الْكُفَّارُ بلاَ عَهْدٍ ، فإنَّ الْكَافِرَ بغَيْرِ عَهْدٍ يَكُونُ عَزيزاً فِي نَفْسِهِ يَدْعُو النَّاسَ إلَى دِينهِ. ويجوزُ أن يكون المرادُ بالفتنةِ كلَّ ما يؤدِّي إلى الفسادِ.
وقولهُ تعالى : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } ؛ أي وتكون الطاعةُ كلُّها للهِ ، فتجتمعُ الناسُ على دِين الإسلامِ. وقولهُ تعالى : { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ؛ أي فإن انتَهَوا عن الشِّركِ فإنَّ اللهَ يجازيهم جزاءَ البصِير بأعمالِهم. { وَإِن تَوَلَّوْاْ } ؛ أي أعرَضُوا عن طاعةِ اللهِ ، { فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَوْلاَكُمْ } ؛ أي نَاصِرُكم ، { نِعْمَ الْمَوْلَى } ؛ نِعْمَ الحافظِ والوَلِيِّ ، { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } ؛ مُنصِرُكم عليهم.
(0/0)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } ؛ حتى الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ ، قال ابنُ عَبَّاس : (كَانَ خُمُسُ الْغَنِيمَةِ يُقْسَمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَمْسَةِ أسْهُمٍ ، سَهْمٌ للهِ وَرَسُولِهِ ، وَوَاحِدٌ كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي فِيْهِ الْمُحْتَاجَ وَالضَّعِيفَ وَيَجْعَلُهُ فِي عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ السِّلاَحِ وَنَحْوِهِ ، وَسَهْمٌ لِذوِي قَرَابَةِ النِّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَسَهْمٌ لِيَتَامَى الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ، وَسَهْمٌ لِمَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ ، وَسَهْمٌ لابْنِ السَّبِيلِ. ثُمَّ قَسَمَهُ أبُو بَكْرٍ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَلَى ثَلاَثَةِ أسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبيلِ ، وَكَذلِكَ فَعَلَ عُمَرُ ثُمَّ عُثَْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ).
وبهذا أخذ أبو حَنيفة وأصحابهُ ؛ قالوا : إنَّ قولَهُ تعالى { للَّهِ خُمُسَهُ } لافتتاحِ الكلامِ باسمه تعالى على طريقِ التبرُّك ، لا لأنَّ للهِ نصيباً من الْخُمُسِ ، فإنَّ الدُّنيا والآخرة كلُّها لهُ سُبحانه ، وسهمُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَقَطَ بموتهِ ؛ لأن الأنبياءَ عليهمُ السَّلام لا يُورَثُونَ ، وبينَهم ذوِي القراباتِ كان جعل النبيِّ صلى الله عليه وسلم سهمَهُ في مَن شاءَ منهم ، ألاَ ترى أنه أعطَى بني هاشم وبنِي المطَّلب ، وأحرمَ بني نوفل وبني عبدِ شمس مع مساواتِها بني عبدِ المطلَّب في القُرْب ؛ لأن بني هاشم لم يفارقوهُ في جاهليَّة ولا إسلامٍ ، وإذا بَطَلَ هذان السَّهمان بعدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ورَجَعْنَا إلى السِّهام الثلاثةِ التي ذُكرت مَعَهُما ، فقُسِّمَ الخمُسُ على ثلاثةِ أسهُم ، ويدخلُ في استحقاقهِ فقراءُ بني هاشم دونَ أغنيائِهم بدلاً عمَّا حُرِمُوا من الصَّدقات ، وأربعةُ أخماسِ الغَنيمة للغَانِمين.
واليَتِيمُ من كلِّ جنسٍ من الحيوان الذي ماتَتْ أمُّهُ ، إلا من بَني آدمَ فإنه إذا ماتَ أبوهُ. والمسكينُ الذي أسْكَنَهُ الضعفُ عن النُّهوضِ لحاجتهِ. وابنُ السَّبيلِ المنطقعُ عن مالهِ.
وقال بعضُهم : يُقسَمُ الخمُس الآنَ على أربعةِ اسهُم ، فينفردُ سهم قرابةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقال الشافعيُّ : (يُقْسَمُ الْخُمُسُ الآن عَلَى خَمْسَةِ أسْهُمٍ ، سَهْمٌ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُصْرَفُ إلَى الأَهَمِّ فَالأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ) ، ومِن أصحابهِ مَن قالَ : يصرفُ إلى الخليفةِ ، وسهمُ قرابةِ ذوي النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأغنيائِهم وفُقَرائِهم ، وثلاثةُ أسهُمٍ لليتامَى والمساكين وابنِ السَّبيل.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } ؛ معناهُ : اقبَلُوا ما أُمِرتُم به في الغنيمةِ إن كُنتم صدَّقتُم بتوحيدِ الله ، وبما أنزَلنا على عبدِنا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وقولهُ تعالى : { يَوْمَ الْفُرْقَانِ } أي يومَ بدرٍ فُرِّقَ فيه بين الحقِّ والباطلِ بنصرِ المؤمنين وكَبْتِ الكافرين مع ضَعفِ المسلمين وقَتلِهم. وقولهُ تعالى : { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } أي يومَ جَمْعِ الكافرين والمؤمنين ، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ؛ من نصرِ المؤمنين وغير ذلك.
(0/0)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } ؛ أي اذكرُوا يا أصحابَ مُحَمَّدٍ إذ كُنتم بالعُدوَةِ الدُّنيا ، أي شَفِيرِ الوادِي الذي يَلِي المدينةَ ، يقالُ لشَفِيرِ الوادِي عَدْوَةٌ وَعِدْوَةٌ ، { وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى } يعني المشركينَ بالجانب الآخر من الوَادِي على شفير الأبعدِ من المدينةِ ، وهو الجانبُ الذي يَلي مكَّةَ. وقوله تعالى { وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي والقافلةُ الْمُقْبلَةُ من الشَّام التي كان أبو سُفيان فيها كانت أسفلَ منهم بثلاثةِ أميالٍ كانوا نَازِلين أسفلَ الوادي.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ } ؛ أي إنَّ اللهَ جَمَعَكم مع المشركين وأصحاب العِيرِ في ليلةٍ واحدة بمَنْزِلٍ واحدٍ ، ولو تَواعَدْتُم للاجتماعِ هناكَ لاختلَفْتُم في المعيادِ بالعوائقِ التي تعوقُ عن ذلك ، وبأنَّكم لو كُنتم تعلمون كثرةَ عددِ المشركين وقلَّةَ عَدَدِكم لم تَحضُروا في ذلك المكان للقتالِ. وقولهُ تعالى : { وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } ؛ أي ولكن قَدَّرَ اللهُ اجتماعَكم في ذلك المكانِ ليَقْضِيَ الله أمْراً كائناً لا محالةَ من إعزازِ المسلمين وإعلائهِ " الإسلام ". على سائرِ الأديان.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } ؛ أي ليَمُوتَ من ماتَ منهم بعد قيامِ الحجَّة عليهم ، { وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } ؛ ويعيشَ من عاشَ بعد قيامِ الحجَّة عليهم ، { وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ } ؛ بمقالَتِكم ، { عَلِيمٌ } ؛ بضمائرِكم ، يُجازيكم على قدرِ أعمَالِكم.
قرأ أهلُ مكَّة والبصرة (بالْعِدْوَةِ) بكسرِ العين ، وقرأ الباقون بضمِّها وهما لُغتان مشهورتان كالكِسْوَة والكُسْوَة والرِّشْوَة والرُّشْوَةِ ، وكذلك قَوْلُهُ تَعَالَى : { مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } قرأ نافعُ والبزي وخلَفٌ (حَييَ) بيائين مثل (حَييَ) على الأصلِ ، وقرأ الباقون بياءٍ واحدة مشدَّدة على الإدغامِ ، ومعنى { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ } أي ليَمُوتَ من ماتَ عن بيِّنة رآها وغيرةٍ عاينَها ، أو حجَّة قامت عليه ، وكذلكَ حَيوةُ من يحيَى لوعدهِ{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء : 15].
(0/0)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً } ؛ قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأى الْعَدُوَّ قَلِيلاً فِي الْمَنَامِ ، فَقَصَّ رُؤْيَاهُ عَلَى أصْحَابهِ ، فَلَمَّا الْتَقَواْ ببَدْرٍ قَلَّلَ اللهُ الْمُشْرِكِينَ فِي أعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ تَصْدِيقاً لِرُؤْيَا النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ، { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } ؛ أي لَجَبنْتُمْ وتأخَّرتُم عن الصَّفِّ ولاخْتَلَفْتُم في أمرِ الحرب ، والفَشَلُ هو ضَعْفٌ مع الوَجَلِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } التَّنازُعُ أنْ يحاولَ كلُّ واحدٍ من الاثنين أن يَنْزِعَ صاحبَهُ مما هو عليهِ ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ } ؛ أي سلَّمَكم من ذلك ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } ؛ أي بما في قُلوبكم ، عَلِمَ أنَّكم لو عَلِمْتُم كثرةَ عددِ المشركين لرَغِبتم في القتالِ.
(0/0)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قولُه : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى قلَّلَ المشركين في أعيُنِ المسلمين ليتجرَّأ المسلمون على قتالِهم ، وقلَّلَ المسلمين في أعيُن المشركين كَيْلاَ يَستَعِدَّ المشركون لِحَربهم كلَّ الاستعدادِ.
رُوي عن عبدِالله بن مسعود أنهُ قال : (قُلْتُ لِرَجُلٍ بجَنْبي : أتُرَاهُمْ تَسْعِينَ رَجُلاً ؟ قَالَ : هُمْ قَرِيبٌ مِنَ الْمِائَةِ ، فَلَمَّا أسَرْنَا رَجُلاً مِنْهُمْ سَأَلْنَاهُ عَنْ عَدَدِهِمْ ، قالَ : كُنَّا ألْفاً أوْ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ).
وقولهُ تعالى : { لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } قد تقدَّم تفسيرهُ ، والفائدةُ في إعادتهِ أنَّ المرادَ بالأوَّل إعلاءُ الإسلامِ على سائرِ الأديان ، وبالثاني قتلُ المشركين وأسُرهم يومَ بدر وكلاهما كان كائناً في علمِ الله.
(0/0)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } ؛ أي إذا لقِيتُم جماعةً من الكفَّارِ فاثبتُوا لقتالِهم ، واذكرُوا اللهَ كثيراً في الحرب بالدُّعاء والاستغفارِ ؛ لكي تُفلِحُوا بالظَّفرِ على الأعداءِ.
(0/0)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } ؛ أي أطِيعُوا اللهَ ورسولَهُ في الثَّباتِ على القتالِ ولا تختَلفُوا فيما بينكم في لقاءِ العدوِّ والتقدُّم إلى قتالِهم فتَجبُنُوا من عدوِّكم ، { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ؛ قال قتادةُ : (يَعْنِي ريحَ النَّصْرِ) الَّتِي يَبْعَثُهَا اللهُ مَعَ مَنْ يَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ عليه السلام : " نُصِرْتُ بالصَّبَا ".
وَقِِيْلَ : معناهُ : وتذهبَ دولَتكم وقوَّتُكم ، وقال مجاهد : (وَتَذْهَبَ نُصْرَتُكُمْ) ، وقال السديُّ : (جُرأتُكُمْ وَحِدَّتُكُمْ وَجَلَدُكُمْ). وقولهُ تعالى : { وَاصْبِرُواْ } ؛ أي اصبروا على قتالِ المشركين ولا توَلُّوهم الأدبارَ ، { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ، بالنصرِ والمعونة.
(0/0)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ النَّاسِ } أي قاتَلُوا لوجهِ الله ولا تكونُوا في خروجِكم إلى قتال المشركين كالْمُشرِكين الذين خرَجُوا من ديارهم إلى قتالِ المسلمين بَطَراً وهو الطُّغيان في النِّعمة وريَاءِ الناسِ ، والرِّياءُ : هو إظهارُ الجميلِ مع إبطَانِ القبيحِ. قَوْلُهُ تَعَالى : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } ؛ أي هُم مع بَطَرِهم وريَائِهم يَمنَعُونَ الناسَ عن دينِ الله.
قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ أنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكينَ قَالُوا لأَبي جَهْلٍ وَأصْحَابهِ قَبْلَ وُصُولِهمْ إلَى بَدْرٍ : ارْجِعُواْ إلَى مَكَّةَ فَقَدْ نَحَتِ الْعِيرُ ، قَالُواْ : لاَ حَتَّى تُنْحَرَ الْجَزُورُ وَتُشْرَبَ الْخُمُورُ وَتُغَنِّي الْقَيْنَاتُ ، حَتَّى تَسْمَعَ الْعَرَبُ بمَسِيرِنَا. فَنَزَلُواْ ببَدْرٍ وَمَعَهُمُ الْقَيْنَاتُ بالدُّفُوفِ وَيَتَغَنَّيْنَ بِهِجَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، فَسَقَاهُمْ كَأْسَ الْمَنَايَا مَكَانَ الْخُمُور ، وَنَاحَتْ عَلَيهِمُ النَّوَائِحُ مَكَانَ الْقَيْنَاتِ ، فَنَهَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أنْ يَكُونُواْ مِثْلَهُمْ ، وَأمَرَهُمْ بإخْلاَصِ النِّيَّةِ وَالصَّبْرِ فِي نَصْرِ دِينهِ وَمُؤَازَرَةِ نَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم).
(0/0)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } ؛ أي واذْكرُوا إذ زَيَّنَ لَهم الشيطانُ أعمالَهم يومَ بدرٍ ، وقالَِ : لاَ غَالِبَ لكم اليومَ مِن أحدٍ من الناس فمنَعْتُكُم وكثَّرْتُكم وإنِّي دافعٌ عنكم الشرَّ ، { فَلَمَّا تَرَآءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ } ؛ أي لَمَّا توافَقَتا رجعَ الشيطانُ القَهْقرَى على عَقِبَيهِ هَارباً خَوْفاً مما رأى ، { وَقَالَ } ؛ للمشركين : { إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا } ؛ أي الملائكةَ تَنْزِلُ من السَّماء وأنتم ، { لاَ تَرَوْنَ } ؛ وكان يعرفُ الملائكةَ ويعرفونَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { إِنَّي أَخَافُ اللَّهَ } ؛ أي أخافهُ أنْ يُصيبَني معَكم بعذابهِ ، { وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ لِمَنِ استحقَّهُ ، قال مقاتلُ : (كَذبَ عَدُوُّ اللهِ ، مَا كَانَ بهِ مِنْ خَوْفٍ مِنَ اللهِ ، فَإنَّ اللهَ قَدْ أنْظَرَهُ إلَى الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ، وَلَكِنَّهُ خَذلَهُمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ). ويقالُ : ظنَّ إبليسُ أن الوقتَ الذي أنظرَهُ الله قد حضرَ.
وعن ابنِ عبِّاس : (أنَّ أهْلَ مَكَّةَ لَمَّا وَجَدُواْ الْعِيرَ أرَادُوا الرُّجُوعَ ، فَتَمَثَّلَ لَهُمْ إبْلِيسُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ : سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْنَمِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، فَقَالَ : لاَ تَرْجِعُواْ حَتَّى تَسْتَأْصِلُوهُمْ ، فإِنَّكُمْ كَثيرٌ وَهُمْ قَلِيلٌ ، وَلاَ غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ ، وَإنِّي مُعِينٌ لَكُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، فلاَ تَمُرُّونَ بأحَدِ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ إلاَّ سَارَ مَعَكُمْ ، فَإنَّهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنِي.
فَسَارُواْ وَسَارَ إبْلِيسُ مَعَهُمْ ، وَلَمْ يَخْرُجْ أحَدُ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ مَا ضَمَمْتَ لَنَا ؟ فَيَقُولُ : مُرُونِي ، حَتَّى قِدِمُوا بَدْراً ، فَلَمَّا كَأنَ عِنْدَ الْقِتَالِ رَأى إبْليسُ جِبْرِيلَ فَنَكَصَ عَلَى عَقِبيْهِ رَاجِعاً ، وََقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : يَا سُرَاقَةُ أيْنَ تَذْهَبُ ؟ فَقَالَ : إنِّي أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ، فَقَالَ الْحَارثُ : وَمَا تَرَى إلاَّ جَعَاشِيشَ أهْلَ يَثْرِبَ ؟ - وَالْجُعْشُوشُ : الرَّجُلُ الْقَصِِيرُ - فَلَمَّا رَأى الْحَارثُ إبْلِيسَ يَنْطَلِقُ ، أهْوَى بهِ لِيَأْخُذهُ ، فَدَفَعَهُ إبْلِيسُ فَرَمَى بهِ ، ثمَّ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وقَالَ : - إني - أخَافُ اللهَ ، وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَاب.
فَلَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوا يَقُولُونَ : هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ ، فَبَلَغَ ذلِكَ سُرَاقَةُ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : بَلَغَنِي أنَّكُمْ تَقُولُونَ أنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ! وَالَّذِي نَحْلِفُ بهِ مَا بَلَغَنِي مَا تَقُولُونَ وَلاَ سَمِعْتُ بمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَنِي هَزِيْمَتُكُمْ ، فَجَعَلُواْ يَقُولُونَ لَهُ : أمَا أتَيْتَنَا يَوْمَ كَذا وَكَذا ؟ وَهُوَ يَقُولُ : لاَ ؛ وَالَّذي نَحْلُِ بهِ مَا كَانَ مِنْ ذا قَلِيلٍ وَلاَ كَثِيرٍ. فَلَمَّا أسْلَمُواْ عَرَفُوا أنَّهُ إنَّما كَانَ مِنَ الشَّيْطَانِ).
فإنْ قِيْلَ : كيفَ يجوزُ أن يتمكَّن إبليسُ مِنْ أن يخلعَ صورةَ نفسِهِ ويلبسَ صورةَ سُراقة ؟ ولو كان قادِراً على أن يجعلَ نَفسَهُ صورةَ إنسانٍ كان قادراً على أن يجعلَ غيرَهُ إنسَاناً ؟ قِيْلَ : إذا صَحَّتْ هذه الروايةُ ، فالجوابُ : أن اللهَ خَلَقَ إبليسَ في صُورةِ سُراقة ، واللهُ تعالى قادرٌ على خلقٍ إنسان في مثلِ صورة سُراقة ابتداءً ، فكان قادراً على أن يُصوِّر إبليسَ في مثل صورةِ سُراقة.
(0/0)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـاؤُلاءِ دِينُهُمْ } ؛ قرأ الحسنُ : (الَّذِي فِي قُلُوبهِمْ مَرَضٌ هُمُ الْمُشْرِكُونَ). وَقِيْلَ : هم أناسٌ كانوا قد تكلَّموا بكلمةِ الإيمان حين كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بمكَّة من دون علمٍ منهم بأمرِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فيكون معنى قولهِ : { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شَكٍّ ، وهم الذين لا عزيمةَ لهم في الكُفرِ ولا في الإسلامِ ، ولم يكونوا أعداءَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { غَرَّ هَـاؤُلاءِ دِينُهُمْ } قال ابنُ عباس : (لَمَّا نَفَرَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ مَكَّةَ إلَى بَدْرٍ وَلَمْ يُخْلِفُوا بمَكَّةَ أحَداً قَدِ احْتَلَمَ إلاَّ خَرَجُواْ بهِ ، وَأخْرَجُواْ مَعَهُمْ أُنَاساً كَانوُا قَدْ تَكَلَّمُوا بالإسْلاَمِ بمَكَّةَ ، فَلَمَّا الْتَقَواْ وَرَأوْا قِلَّةَ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ ، ارْتَابُوا وَنَافَقُواْ وَقَالُواْ لأَهْلِ مَكَّةَ : غَرَّ هَؤُلاَءِ دِينُهُمْ ، يَعْنُونَ الْمُسْلِمِينَ غَرَّهُمْ دِينُهُمْ حِينَ خَرَجُواْ مَعَ قِلَّتِهِمْ إلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ). فَقُتِلَ هَؤُلاَءِ مَعَ الْمُشْرِكينَ يَوْمَئِذٍ ، وَضَرَبَتِ الْمَلاَئِكَةُ وُجُوهَهُمْ وَأدْبَارَهُمْ ، كَمَا ذكَرَ اللهُ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ومَن يَثِقْ باللهِ في جميعِ أمُورهِ ، { فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } ؛ بنصرهِ على عدوِّهِ ولو كَثُرَ عددهُ ، { حَكِيمٌ } يضعُ الأمورَ مواضِعَها.
(0/0)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } ؛ أي لو ترَى يا مُحَمَّدُ حين يَقبضُ الملائكةُ أرواحَ الكفَّار ببَدْرٍ يضرِبُونَ على وجُوهِهم بالأعمِدَةِ ، وعلى أدبارِهم يقولون لَهم : { وَذُوقُواْ } ؛ بعدَ السَّيف في الدُّنيا ، { عَذَابَ الْحَرِيقِ } ؛ في الآخرةِ.
(0/0)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } ؛ أي ذلكَ العذابُ الذي عَايَنْتُمُوهُ بكُفرِكم وخِيانَتِكم ، والخيانةُ إذا أُضيفَت إلى الإنسان أكِّدت بذكر اليَدِ في العادةِ. وقولهُ تعالى : { وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } ؛ أي اعلَمُوا أنَّ الله لا يُعذِّبُ أحداً بجُرمِ أحَدٍ ولا يعذِّبُ أحداً بغيرِ ذنبٍ. وموضع (أنَّ) نصبٌ بنَزعِ الخافض عَطفاً على قولهِ { بِمَا قَدَّمَتْ } تقديرهُ : وبأن اللهَ ، وكان الحسنُ إذا قرأ هذه السُّورة قال : (طُوبَى لِجَيْشٍ قَائِدُهُمْ رَسُولُ اللهِ ، وَمُبَارِزُهُمْ أسَدُ اللهِ ، وَجِهَادُهُمْ طَاعَةُ اللهِ ، وَمَدَدُهُمْ مَلاَئِكَةُ اللهِ ، وَثَوَابُهُمْ رِضْوَانُ اللهِ).
(0/0)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ أي عَادَةِ هؤلاءِ في كُفرهم ، كعَادةِ آل فرعون والذين مِن قبلهم ، { كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ } ، التي أتَتَهْمُ بْها الرُّسُولُ ، { فَأَخَذَهُمُ } ؛ فعَاقَبَهم ، { اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ } ؛ في أخذِ الأعداء ، { شَدِيدُ الْعِقَابِ } ؛ لِمَن عصاهُ.
والدَّأبُ في اللغة : الْعَادَةُ ، يقالُ : فلانٌ يَدْأبُ في كذا ؛ أي يُدَاوِمُ عليه ويُتعِبُ نفسَهُ فيه. وآلُ الرَّجُلِ : الذين يَرجِعُونَ إليه بأَوْكَدِ الأسبَاب ، ولهذا يقالُ لقرابةِ الرجُل : آلُ الرَّجُلِ ولا يقالُ لأصحابهِ : آلُهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } قال ابنُ عبَّاس : (مَعْنَاهُ كَفِعْلِ آلِ فِرْعَوْنَ) ، وقال عطاء ومجاهدُ : (كَنِيَّتِهِمْ) ، وَقِيْلَ : كَمِثَالِهم ، والمعنى : أنَّ أهلَ بدرٍ من المشركين فَعَلُوا كفِعْلِ آل فرعون من الكُفر والتكذيب ، ففعلَ اللهُ بهم كما فعل بآلِ فرعون من الهلاكِ والعذاب.
(0/0)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ؛ أي لم يفعلِ اللهُ ذلك العقابَ بهم بأنَّ الله لَمْ يَكُ مُزيلاً نعمةً أنَعَمَها على قومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفُسِهم في الدِّين والنِّعَم إلى أحوالٍ لَم يَجُزْ لهم أن يغيِّروا إليها ، كما فعلَ أهلُ مكَّة بعد أنْ أطعَمَهم اللهُ من جُوعٍ وآمَنَهُم من خوفٍ ، وأرسلَ إليهم رَسُولاً منهم ، وأنزلَ إليهم كِتَاباً بلسانهِم. ثم إنَّهم غيَّروا هذه النِّعَم ولم يَشكرُوها ولا عرَفُوها من اللهِ ، فغَّيرَ اللهُ ما بهم وأهلَكَهم وعاقَبَهم ببدرٍ ، وُيدخِلُهم النارَ في الآخرةِ.
قال الكلبيُّ : (يَعْنِي بالآيَةِ أهْلَ مَكَّةَ ، بَعَثَ إلَيْهِمْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم ، فَغَيَّرُواْ نِعْمَةَ اللهِ ، وَتَغْييرُهَا كُفْرُهَا وَتَرْكُ شُكْرِهَا) ، وقال السديُّ : نِعْمَةُ اللهِ يَعْنِي مُحَمَّداً ، أنْعَمَ اللهُ بهِ عَلَى قُرَيْشٍ فَكَذبُوهُ وَكَفَرُواْ بهِ ، فَنَقَلَهُ اللهُ إلَى الأَنْصَارِ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ؛ أي سميعٌ لجميعِ المخلوقاتِ المسموعات ، عليمٌ لمعاناتكم.
(0/0)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } ؛ أي عادَتِهم في التكذيب بآيَاتِ اللهِ كعَادَةِ آلِ فرعون ، { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ؛ من الأُمَم الماضيةِ ، { كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ } ؛ التي جاءَتْ بها رُسُلهُم ، { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ } ؛ أي وأهلَكْنا ، { آلَ فِرْعَونَ } بالغَرقِ خاصَّة ، { وَكُلٌّ } ؛ هؤلاءِ ، { كَانُواْ ظَالِمِينَ } ؛ لأنفُسِهم ، مُستحقِّينَ العقوبةَ بسُوءِ أعمالهم.
فإن قِيْلَ : لِمَ كرَّرَ آلَ فرعون ؟ قِيْلَ : المرادُ بالأوَّل أن هؤلاءِ جازَاهُم اللهُ بالقتلِ والأَسْرِ ، كما جُوزِيَ أولئكَ بالغرقِ والهلاك ، والمرادُ بالثاني : أن صُنْعَ هؤلاءِ في النِّعم التي أنعمَ اللهُ عليهم كصُنعِ آلِ فرعون فيما أعطاهم اللهُ من الْمُلْكِ والعزِّ في الدُّنيا ، فلما غَيَّرَ كلُّ فريقٍ النعمَ غيَّر اللهُ سبحانه ما بهم.
(0/0)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ أي إن شرَّ ما يدبُّ على الأرضِ الذين جَحَدُوا بتوحيدِ الله ونبوَّةِ رسُلهِ ، مُصِرِّينَ على الكفرِ ، { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
(0/0)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } نزلَتْ في يَهودِ بني قُريظةَ ، عَاهَدَهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم على أنْ لا يضُرُّوا به ولا يُعِينُوا عليه عدُوّاً ، فَنَقَضُوا العهدَ وأعانوا أهلَ مكَّة بالسِّلاح على قتالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثُم قالوا : نَسِينَا وأخطَأْنا ، ثم عاهَدَهم مرَّة أُخرى ، فرَكِبَ كعبُ بن الأشرفِ إلى أهلِ مكَّة ، ووَاثَقَهُمْ على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقولهُ تعالى : { عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ } أي معَهُم ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } ؛ أي لا يخَافُونَ اللهَ في نقضِ العهد.
(0/0)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ؛ معناهُ : فإما تصادِفَهم في الحرب ، فافْعَلْ بهم فِعْلاً من القتلِ والعُقوبَةِ والتَّنكيلِ تعرفُ بهم مَن ورائَهم من أعدائِكَ. والتَّشْرِيدُ : التَّبْدِيدُ والتَّفْرِيقُ ، ويقالُ : معنى (شَرِّدْ بهِمْ) أي أسْمِعْ بهِمْ بلُغَةِ قُريش.
وقال ابنُ عبَّاس : (فَشَرِّدْ بهِمْ ، أيْ نَكِّلْ بهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ) ، وقال ابنُ جُبير : (أْنْذِرْ بهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ). وَقِيْلَ : اقتُلْهُم قَتْلاً ، وَقِيْلَ : أثْخِنْ فيهِمُ القتلَ حتى يخافَكَ غيرُهم من أهلِ مكَّة وأهلِ اليَمَنِ. وقال القُتَيبيُّ : (سَمِّعْ بهِمْ) وقرأ ابنُ مسعود (فَشَرِّذْ) بالذالِ المعجَّمة وهما واحدٌ. وقال قُطرب : (التَّشْرِيدُ بالدَّالِ : التَّنْكِيلُ ، وَالذالِ : التَّفْرِيقُ). قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي لكَي يعتَبروا فَلا يَنقضُوا العهدَ الذي بينَكَ وبينهم مخافةَ أن يحِلَّ بهم مثلَ ما حلَّ ببني قُريظة.
(0/0)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَآءٍ } ؛ أي إذا خِفْتَ من قومِ بينَكَ وبينَهم عهدٌ وخيانةٌ في ذلك العهدِ من غَدْرٍ بالمسلمين ، أي عَلِمْتَ أنَّهم يفعلون ذلك بالمسلمين خِفْيَةً من غيرِ أن يظهرَ نقضُ العهدِ ، فَانْبذِ العهدَ إليهم على سواءٍ منك ومنهم في العلمِ ، ولا تبدَأهم بالقتالِ من قبلِ أن تُعلِمَهُم إعْلاَماً بَيِّناً بأنَّكَ انقضتَ العهدَ.
والمعنى : إمَّا تعلَمَنَّ يا مُحَمَّدُ من قومٍ مُعاهِدين لكَ نَكْثَ عهدٍ ونقضَ عهدٍ يظهرُ لك من آثارِ الغدرِ والخيانة كما ظهرَ لكَ من بني قُريظة والنَّضِير ، فَانْبذْ إليهم ؛ أي فَاطْرَحْ إليهم عهدَهم على سواءٍ ؛ أي أخبرْهم وَأعْلِمْهُمْ قبلَ حَربكَ إياهم أنَّكَ فَسَخْتَ العهدَ بينَكَ وبينهم ، حتى تصيرَ أنتَ وهم على سواءٍ في العلم بأنَّكَ لهم محاربٌ ، فيأخذُوا للحرب أُهْبَتَهَا وَتَبْرَأ من الغدرِ. وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ } ؛ أي لا يرضَى عملَ الذين يَخُونُونَ بالبَدْأةِ بالقتالِ من غيرِ أعلامٍ بنقضِِ العهد.
(0/0)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } ؛ أي لا تَظُنَّنَّ يا مُحَمَّدُ أن مَن أفلتَ من الكفار من هذه الحرب قد سبقَ إلى الحياةِ. ويقالُ : لا تَحْسَبَنَّ يا مُحَمَّدُ أنَّ أعداءَك من الكفار المشركين ربما يقولُون لكَ بأنْ لا يُظفِرُكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بهم ، بلِ اللهُ تعالى يُظهِرُكَ عليهم ويُظفِرُكَ.
وقرأ أبو جعفرٍ وأبنُ عامرٍ وحمزةُ وحفص بالياءِ على معنى لا تَظُنَّنَّ هؤلاءِ المشركين إنَّ من ماتَ منهم فقد فاتَ من الله عَزَّ وَجَلَّ ، وأنَّ اللهَ لا يبعثهُ يومَ القيامةِ ولا يعاقبهُ. وقرأ أهلُ الشام : (أنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ) بالفتحِ ، وتكونُ (لاَ) صلةً تتقديرهُ : ولا تحسبَنَّ الذين كفَرُوا سَبَقُوا أنَّهم لا يُعجِزُونَ ؛ أي لا يَفُوتُونَ. وقيل معناهُ : لأَنَّهُمْ ، وقرأ عامَّة القُرَّاء بالكسرِ على الابتداء.
(0/0)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
وقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } ؛ أي أعِدُّوا للكفار ما استطعتُم من آلاَتِ الحرب. وعن ابنِ عبَّاس وعقبة بن عامرِ ؛ قَالَ : " قَرَأ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ } ثُمَّ قَالَ : " أَلاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، ألاَ إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، لَهْوُ الْمُؤْمِنِ فِي الْخَلاَءِ وَقَوَّتُهُ عِنْدَ اللِّقَاءِ " وَمَاتَ عُقْبَةُ فَاْوْصَى بتِسْعِينَ قَوْساً مَعَ كُلِّ قَوْسٍ سِهَامُهَا فِي سَبيلِ الله ، وَقَالَ عُقْبَةُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ لَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ الثَّلاَثَةَ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، صَانِعُهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ، وَالْمُهْدِي لَهُ ، وَالرَّامِي بهِ " وقالَ عليه السلام : " كُلُّ شَىءٍ يَلْهُوا بهِ الرَّجُلُ بَاطِلٌ ، إلاَّ رَمْيَةً بقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلاَعَبَتَهُ أْهْلَهُ ، فإنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } ؛ معناهُ : ارْتَبطُوا الخيلَ لَهم ولقتالِهم ؛ أي أعِدُّوا لَهم ذلك لتخويفِ عُدوِّ اللهِ وعدُوِّكم { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } أي مِن دون كُفَّار العرب وأهلِ الكتاب { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ } أي لا تَعرِفُونَهُمْ. قال ابنُ عبِّاس : (يَعْنِي كُفَّارَ الْجِنِّ) ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَقْرُبُ صَاحِبَ قَوْسٍ جِنِّيٌّ أبَداً ". ويقالُ : إن الجنَّ لا تدخلُ بيتاً فيه قوسٌ ولا سلاحٌ.
قال السديُّ : (أرَادَ بهِ أهْلَ فَارِسَ) ، وقال الحسنُ : (هُمُ الْمُنَافِقُونَ) ، وقال الضحَّاك : (هُمُ الشَّيَاطِينُ) ، ولا يمتنعُ أن يكةون الكلُّ مرادٌ بالآيةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ } ؛ أي ما تُنفقوا من شيءٍ في الجهادِ يوفَّ إليكم ثوابهُ ، { وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ؛ أي لا يُنقَصُ شيءٌ من حقِّكم.
(0/0)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ؛ معناهُ : فإنْ مالَتْ يهودُ بني قريظةَ إلى الصُّلح فمِلْ إليهم وصالِحْهم ، فكان هذا قبلَ نُزولِ براءةَ ، ثم نُسِخَ بقولهِ : { فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ }[التوبة : 5] وبقوله : { قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }[التوبة : 29].
والسِّلْمُ والسَّلْمُ بالخفضِ والنصب ، وإنما قال { فَاجْنَحْ لَهَا } لأن السَّلم والْمُسَالَمَةَ بمعنى واحدٍ ، فردَّ الكنايةَ إلى المعنى. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ؛ أي ثِقْ باللهِ تعالى إنْ نَقَضُوا العهدَ ، { إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ } ؛ بمقالَتِكم { الْعَلِيمُ } ؛ بما تفعلون.
(0/0)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } ؛ معناهُ : إنْ يُرِدِ الذين يطلبُون منكَ الصُّلح أنْ يخدَعُوكَ بإظهارِ الصُّلح لتَكُفَّ عنهم إلى أن يتَقَوَّوا بغيرِكَ ، فإنَّ اللهَ كافيكَ في حربهم وقتالِهم ، { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ } ؛ أي قَوَّاكَ يومَ بدرٍ بنصرهِ وقوَّاكَ بالمؤمنين ، وهم الأوسُ والخزرجُ.
(0/0)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
وقولُه تعالى : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ؛ أي جَمَعَهم على الْمَوَدَّةِ في الإِيمانِ ، وقولُه تعالى : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ؛ أي ما قَدَرْتَ على جمعِ قُلوبهم على الأَلْفَةِ ، { وَلَـاكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ } ؛ في سُلطانهِ لا يقدرُ أحدٌ أن يَغْلِبَهُ ويمنعَهُ عن مُرادهِ ، { حَكِيمٌ } ؛ يضعُ الأمورَ في موضعِها.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ } ؛ أي كافِيِكَ اللهُ ، { وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ نزلَتْ في البيداء في غَزوَةِ بدرٍ. وَقِيْلَ : لَمَّا أسلمَ عمرُ رضي الله عنه نزلَ { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }.
وقال بعضُ المفسِّرين : موضعُ (مَنْ) خفْضٌ عطفاً على الكافِ في قولهِ { حَسْبُكَ اللَّهُ } أي وحسبُ مَنِ اتَّبعَكَ. وقال بعضُهم : موضعهُ رفعٌ عطفاً على اسمِ الله ؛ أي حسبُكَ اللهُ ومَتبُوعُكَ مِن المؤمنين. قِيْلَ : إن هذه الآية قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } نزلَتْ في البيداءِ في غَزوةِ بدرٍ قبلَ القتالِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } ؛ أي رَغِّبْهُمْ في القتالِ ، والتَّحريضُ : الترغيبُ في الشيءِ بما يدعُو إليه نحوُ وعدِ الثواب على القتالِ والتنفيلُ عليه ، وقولهُ تعالى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ؛ هذا وعدٌ من اللهِ ؛ أي يُقَوِّي واحداً من المسلمين المنتَصِرين في الدِّين على عشرةٍ من الكفَّار ، ويقوِّي مائةً صابرةً محتسبة على ألْفٍ من الكفَّار.
وقولهُ تعالى : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ؛ أي ذلك النصرُ من اللهِ لكم على الكفَّار وخُذلانُهم بأنَّكم تفقهونَ أمرَ اللهِ وتصدِّقُونه فيما وعدَهُ من الثواب ، والكفارُ لا يفقهون ذلك ولا يصدِّقونه.
قال ابنُ عبَّاس : (لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أنْ يُقَاتِلَ الرَّجُلُ مِنْهُمُ الْعَشَرَةَ مِنَ الْكُفَّار ، وَالْمِائَةُ مِنْهُمْ الأَلْفَ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا أمَرَ اللهُ ، فَلَمَّا أمَرَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ بِقتالِ الْكُفَّارِ ببَدْرٍ وَكَانَ فَرَضَ الْقِتَالَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا ذكَرَ اللهُ فِي هَذِه الآيَةِ ، شُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :
قَوْلُهُ : { الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } ؛ أي الآنَ هَوَّنَ اللهُ عليكم القتالَ الذي فرضَهُ عليكم وسهَّلَ الأمرَ عليكُمْ لتَعرِفُوا فتَشكُروا ، وعَلِمَ فِي الأزلِ أن في الواحدِ منكم ضَعْفاً عن قتالِ العشرةِ ، والمائةِ عن قتالِ الألفِ). وَقِيْلَ : عَلِمَ أنَّ فيكم ضَعْفاً في النُّصرة في أمرِ الدِّين.
قرأ عاصمُ وحمزة وخلَف (ضَعْفاً) بفتح الضاد ، وقرأ الباقون بضَمِّها أي عَجْزاً عما فرضَ عليكم ، ومَن قرأ (ضَعفاً) فمعناه شيوخاً وضعافاً ، وقرأ أبو جعفر (ضُعَفَاءَ) بضمِّّ الضادِ وفتح العين والمدِّ وهمزة من غيرِ تنوينٍ على جمعِ ضَعيف مثل شُرَكاءَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } ؛ أمرَ اللهُ بأنَّ الواحدَ يثبتُ للاثنين وضَمِنَ له النصرَ عليهما. قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ } ؛ أي بأمرِ اللهِ ، { وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } ؛ أي مُعِينٌ لَهم ، قال ابنُ عبَّاس : (مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَينِ فَقَدْ فَرَّ ، وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ لَمْ يَفِرَّ). وهذا إذا كان للواحدِ المسلمِ من السِّلاح والقوَّة مثلَ ما لكلِّ واحدٍ من رجُلين من الكافرين كان فَارّاً ، فأما إذا لم يكن ، لم يَثبُتْ حُكم الفرارِ.
(0/0)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } أي يكون له أسْرَى من المشركين فيفاديهم أو يَمُنَّ عليهم ، ولكن السَّيفَ حتى يُمكِنَ في الأرضِ لا بد من القتال ، فيقتلُ منهم قَتْلاً ذرِيعاً ليَرتَدِعَ مَن وراءَهم. والإتخانُ في كلِّ شيء : شِدَّتُهُ ، يقالُ : أتُّخَنَهُ المرضُ إذا اشتدَّ قوتهُ عليه ، وكذلك أثْخَنَتْهُ الْجِرَاحُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } ؛ خطابٌ للذين أسرَعُوا في أخذِ الغنائِمِ وشَغَلُوا أنفُسَهم بذلك عن القتالِ ، وذلك أنَّهم لَمَّا كان يومُ بدرٍ تعجَّلَ ناسٌ من المسلمين فأصَابُوا من الغنائمِ ، ومعناه : تريدون بالقتالِ المالَ ، وسَمَّاهُ عَرَضاً لقِلَّةِ لُبْثِهِ. وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ } ؛ أي يريدُ منكم العملَ بما تستحقُّون به ثوابَ الآخرِةِ ، { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } ؛ أي مَنِيعٌ في سُلطَانهِ ، { حَكِيمٌ } ؛ في أمْرِهِ وقضائِه ، فاعمَلُوا ما أمَرَكم به.
(0/0)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ؛ أي لَولاَ حُكمٌ من اللهِ سبقَ في إباحةِ الغنائمِ لَمسَّكُم فيما استبَحتُم قبلَ الإثخانِ عذابٌ عظيم. وَقِيْلَ : لولا كتابٌ مِن الله سبقَ في أهلِ بدر أن يغفرَ اللهُ لَهم ما تقدَّم من ذُنوبهم وما تأخَّرَ. وَقِيْلَ : معناهُ : لولا حكمُ اللهِ في اللُّوحِ المحفوظِ وفي القرآنِ أنه لا يعذِّبُ قوماً حتى يُبيِّن لهم ما يتَّقون لأصابَتْكم عقوبةٌ عظيمة.
وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ في هذه الآيةِ : (وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا قَـتَلَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعِينَ وَأسَرُواْ سَبْعِينَ ، اسْتِشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أصْحَابَهُ فِي أمْرِ الأُسَارَى ، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ قَوْمُكَ ، فَإنْ تَقْتُلْهُمْ يَدْخُلُوا النَّارَ ، وَلَكِنْ فَادِهِمْ فَيَكُونَ الَّذِي تَأْخُذُ مِنْهُمْ قُوَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَعَلَّ اللهَ يَُقَلِّبُ قُلُوبَهُمْ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا أعْلَمُ قَوْماً كَانُوا أشَرَّ لِنَبيِّهِمْ مِنْهُمْ فَاقْتُلْهُمْ.
فَأَخَذ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وسلم برَأي أبي بَكْرٍ ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمَا مَثَلاً فَقالَ : " مَثَلُ أبي بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام حَيْثُ قَالَ : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [إبراهيم : 36] ، وَمَثَلُ عُمَرَ مَثَلُ نُوحٍ عليه السلام حَيْثُ قَالَ : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً } [نوح : 26] " ثمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفِدَاءَ عَلَى الأَسَارَى ".
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ{ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ... }[الأنفال : 67] إلى آخِرِ الآيَتَيْنِ ، " قَالَ عُمَرُ : فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ أبُو بَكْرٍ يَبْكِيَانِ ، فَقُلْتُ : مَا يُبْكِيكُمَا؟! حَتَّى الأَرْضُ إن وَجَدَتْ بُكَاءً لِبُكَائِكُمَا بَكَتْ مَعَكُمَا ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّمَا أبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أصْحَابُكَ مِنْ أخْذِ الْفِدَاءِ " ، ثُمَّ قَرَأَ عليه السلام { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } [الأنفال : 67] ".
وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قالَ : " لَمَّا جِيءَ بالأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم : " مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاَءِ ؟ " فَقَالَ أبُو بَكْرٍ : قَوْمُكَ وَأهْلُكَ اسْتَبقْهُمْ لَعَلَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ، وَخُذْ مِنْهُمْ فِدْيَةً تَكُونُ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ كَذبُوكَ وَأخْرَجُوكَ ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أعْنَاقَهُمْ ، وَمَكِّنْ عَلِيّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبْ عُنُقَهُ ، وَمَكِّنِّي مِنْ فُلاَنٍ - بسَبَبٍ لَهُ - فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ ، فإنَّ هَؤُلاَءِ أَئِمَةُ الْكُفْرِ. فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ أُنَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ أبي بَكْرٍ ، وَقَالُ نَاسٌ : نَأْخُذُ بقَوْلِ عُمَرَ ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللهَ لَيُلَيِّنُ قُلُوبَ رجَالٍ حَتَّى تَكُونَ ألْيَنَ مِنَ اللَّبَنِ ، وَإنَّ اللهَ لَيَشُدُّ قُلُوبَ رجَالٍ حتَّى تَكُونَ أشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ ، وَإنَّ مَثَلَكَ يَا أبَا بَكْرٍ مَثَلُ عِيسَى قَالَ : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة : 118] ، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ مُوسَى قَالَ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } [يونس : 88] ، ثُمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم لِلأُسَارَى : " أنْتُمُ الْيَوْمَ عَالَةً فَلاَ يَنْقَلِبَنَّ أحَدٌ إلاَّ بِفِدَاءٍ أوْ ضَرْب عُنُقٍ " ثمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } [الأنفال : 67] ".
(0/0)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } ؛ الفاءُ في أوَّل هذه الآيةِ للجزاء ، المعنى : أُحِلَّتْ لكم الغنائمُ فكُلوا. والطَّيِّبُ : الْمُسْـتَلَذُّ ، ويوصفُ الحلالُ بذلك على التشبيهِ ، فإنَّ المستلذ لا يكون فيه كراهيةٌ في الطَّبعِ ، وكذا الحلالُ ما لا يكون فيه كراهيةٌ في الدُّنيا.
وقولهُ تعالى : { وَاتَّقُواْ اللَّهَ } ؛ أي اخْشَوْهُ ولا تفعَلُوا شيئاً لَمْ تُؤمَرُوا به ولم يرَخَّصْ لكم ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } ؛ لَمَا فرَّطَ منكم { رَّحِيمٌ } ؛ بكم إذا لم يعذِّبكم فيما فعلتُم قبل الرُّخصةِ.
(0/0)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { ياأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال ابنُ عبَّاس : (وَذلِكَ " أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا وَضَعَ الْفِدَاءَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأُسَارَى أرْبَعِينَ أوْقِيَّةً مِنْ ذهَبٍ ، وَجَعَلَ عَلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ مِائَةَ أوْقِيَّةً ، قالَ الْعَبَّاسُ : أتَجْعَلُ عَلَيَّ مِائَةَ أوْقِيَّةٍ وَعَلَىَ عَدُوِّكَ سُهَيْلِِ بْنِ عَمْرٍو أرْبَعِينَ أوْقِيَّةً ؟ قال : " نَعَمْ ؛ لِقَطْعِكَ الرَّحِمَ وَلِظُلْمِكَ قَالَ : تَرَكْتَنِي وَاللهِ أسْأَلُ قُرَيْشاً مَا بَقِيتُ ، فَكَيْفَ تَتْرُكُ عَمَّكَ يَسْأَلُ النَّاسَ بكَفَّهِ؟!
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم : وَأيْنَ الذهَبُ الَّذِي أعْطَيْتَهُ أمَّ الْفَضْلِ عِنْدَ مَخْرَجِكَ ؟ فَقُلْتَ : إنْ حَدَثَ بي حَدَثٌ فِي وَجْهِي هَذا فَهُوَ لَكِ وَلِعَبْدِاللهِ وَقُُثَمِ وَلِلْفَضْلِ " قَالَ : وَمَا يُدْريكَ؟! قَالَ : " أخْبَرَنِي اللهُ بذلِكَ " فَقَالَ : أشْهَدُ أنَّكَ صَادِقٌ وَإنِّي لَمْ أعْلَمْ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ قَطُّ قَبْلَ الْيَوْمِ ، وَإنِّي دَفَعْتُ إلَيْهَا الذهَبَ وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ إلاَّ اللهُ ، وَأَنَا أشْهَدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَأنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَأَسْلَمَ وَأَمَرَ ابْنَ أخِيهِ أنْ يُسْلِمَ " ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).
ومعنَاها : يَا أيُّها النبيُّ قُلْ للعبَّاس وعقيل وغيرِهم من الأُسَارَى : إنْ يعلَمِ اللهُ في قلُوبكم رغبةً في الإيمان وإخْلاَصاً في النيَّة ، يُؤتِكُمْ خيراً مما أخذ منكم من الفديةِ. يجوزُ أن يكون المعنى : يَخْلِفُ عليكم في الدُّنيا ، ويجوز أن يكون : ويُجازيكُم في الآخرةِ.
وكان العباسُ أحدَ الثلاثة عشر الذين ضَمِنُوا طعامَ أهلِ بدر ، فخرجَ معهم بعشرين أوقِيَّةً من ذهبٍ ليُطعِمَ بها الناسَ ، ولم تبلُغْهُ نوبةُ الإطعامِ حتى أُسِرَ وأُخِذ وهي معه فأخذُوهَا منه ، " فلما وضعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على العبَّاسِ الفداءَ مِائَةَ أوقِيَّةِ قَالَ : (يَا مُحَمَّدُ احْتَسِبْ لِيَ بالْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً مِنْ فِدَائِي). فأَبَى وَقَالَ : " أمَّا شَيْءٌ خَرَجْتَ تَسْتَعِينُ بهِ عَلَيْنَا فَلاَ أتْرُكُهُ لَكَ ".
فَلَمَّا أسْلَمَ العباسُ كان إذا قرأ هذه الآية قال : (صَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ قَدْ أعْطَانِي خَيْراً مِمَّا أخَذ مِنِّي ، أبْدَلَنِي مَكَانَ الْعِشْرِينَ أوْقِيَّةً الَّتِي أُخِذتْ مِنِّي عِشْرِينَ مَمْلُوكاً ، كُلُّ مَمُْوكٍ يَضْرِبُ بعِشْرِينَ ألْفاً فِي التِّجَارَةِ ، وَأعْطَأنِي زَمْزَمَ مَا أُحِبُّ أنَّ لِي بهَا جَمِيعَ أمْوَالِ أهْلِ مَكَّةَ ، أنْجَزَ لِي أحَدَ الْوَعْدَينِ ، وَأنَا أرْجُو أنْ يُنْجِزَ لِيَ الْوَعْدَ الثَّانِي ، أنْتَظِرُ الْمَغْفِرَةَ مِنْ رَبي).
وعن العلاءِ بن الحضرميِّ رضي الله عنه أنَّهُ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبَحْرَيْنِ ثَمَانِينَ ألْفاً ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : (أعْطِنِي مِنْ هَذا الْمَالِ) فأَعْطَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَا أطَاقَ حَمْلَهُ ، فَجَعَلَ الْعَبَّاسُ يَقُولُ : (أمَّا إحْدَى اللَّتَيْنِ وُعَدَنَا اللهُ فَقَدْ أنْجَزَهَا ، فَلاَ نَدْري مَا يَصْنَعُ بالأخْرَى). يعني { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ }.
(0/0)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } معناهُ : وإنْ يُرِد الذين أطلَقْتَهم من الأُسارَى خِيَانَتَكَ بأن يُعِيدُوا حَرْباً لك وينصُروا عدُوَّكَ عليك ، فقد خَانُوا اللهَ من قَبْلُ بمخالفةِ ما أخذ عليهم من العهُودِ ، وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ عاهدَ الذين أطلقَهم على أن لا يُعِينُوا عليه فخَانُوه وخالَفُوا ، وقوله تعالى { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي فأمكنَكَ منهم يومَ بدرٍ ، وإنْ خانوكَ فَسَيُمَكِّنُكَ منهم ثانياً ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ } ؛ بكل شيءٍ ، { حَكِيمٌ } ؛ في كلِّ ما يفعلُ.
(0/0)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ؛ أي إن الذين آمَنوا بتوحيدِ الله وبمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم والقُرآنِ وهاجَرُوا من مكَّة إلى المدينةِ وجاهَدُوا العدوَّ بأموالِهم وأنفُسِهم في طاعةِ اللهِ.
ثُمَّ ذكرَ اللهُ الأنصارَ فقال : { وَالَّذِينَ آوَواْ } ؛ النبيَّ والمهاجرين معَهُ أعطَوهُم المأوَى وأنزَلُوهم ديارَهم ، { وَّنَصَرُواْ } ؛ أي أعَانُوهم بالسَّيْفِ على الكفَّارِ ، { أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ؛ أي أنصارُ بعضٍ في الدِّين والمواريثِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ } ؛ أي والذين صدَّقُوا من أهلِ مكَّة في ديارِهم ولَم يُهاجِرُوا إلى المدينةِ ، { مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } ؛ أي ليس بينَكُم وبينهم ميراثٌ ، { حَتَّى يُهَاجِرُواْ } ؛ وإطلاقُ لفظ الموالاةِ يقتضي التوارثَ في الجملةِ ، وإن كان بعضُ أسباب الموالاة أوكدَ من بعضٍ.
قال ابنُ عبَّاس : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَامَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامِ وَأُنَّاسٌ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالُواْ : يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ لاَ يَرِثُنَا إخْوَانُنَا وَهُمْ عَلَى دِينِنَا مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ لَمْ يُهَاجِرُوا ؟ فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أمْرٍ إن اسْتَعَانُونَا علَيْه ؟ فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى : { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ }.
معناهُ : وإن قاتَلَهم الكفارُ ليَردُّوهُم عنِ الإِسلامِ فانصرُوهم ، { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ } ؛ إلاَّ أن يقاتِلُوا قوماً ، { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } ؛ فاستنصرُوكم عليهم فلَم تقاتِلُوهم معهم ، بل عليهم أن يكُفُّوا عن طلب النُّصرة منكم لهم عليهم ؛ لأنه أمانٌ ، وأمانُ واحدٍ من المسلمين يلزمُ كافَّتهم ، فيجبُ الإصلاحُ بينهم على غيرِ وجه القتال. وقولهُ تعالى : { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، أي بصيرٌ بأعمالِكم ، يجازِيكم عليها.
قال ابنُ عبَّاس : فَمَكَثُواْ عَلَى هَذا مَا شَاءَ اللهُ إنْ يَمْكُثُواْ ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } ؛ أيْ أنْصَارُ بَعْضٍ فِي الدِّينِ ، وَبَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ. يعني أنَّ الكافرَ لا يرثُ المؤمنَ الذي لم يهاجِرْ ، بلِ الكافرُ يرثُ من الكافرِ ، والمؤمنُ يرِثُ المؤمنِ ، فصارت هذه الآيةُ ناسخةً للتي قبلَها.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي إلاَّ تفعلُوا ما أمَرتُكم به ولم تُورِثُّوا الأعرابيَّ الذي لَمْ يهاجِرْ من المهاجرِ ، ولم تجعلُوا وولايةَ الكافرِ للكافر وولايةَ المؤمن للمؤمنِ ، { تَكُنْ فِتْنَةٌ } أي بالْمَيْلِ إلى الضَّلالةِ وفسادٍ في الدِّين ، فإن الكفارَ بعضُهم أولياء بعضٍ.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـائِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } ؛ أي أولئكَ الذين حقَّقُوا إيمانَهم بالهجرةِ وإقامة الجهادِ في سبيلِ اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ : أُولئك الذين حقَّقَ اللهُ إيمانَهم بأن أثْنَى عليهم ومَدَحَهم في كتابهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ } ؛ لذُنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } في الجنَّة بأن يطُعِمَهم طَعاماً يصير كالْمِسْكِ رَشَحاً ولا يستحيلُ في أجوافِهم نَجْواً.
(0/0)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـائِكَ مِنكُمْ } معناهُ : والذين آمَنُوا من بعدِ المهاجرين السَّابقين ، وهاجَرُوا إلى المدينةِ وجاهَدُوا معَكم الكفارَ ، فأولئكَ منكم في الدِّن والنُّصرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } ؛ أي أن الأقاربَ بعضُهم أولَى ببعضٍ في الميراثِ من غيرِهم ، هاجَرُوا أو لم يُهاجِرُوا إذا كانوا مُسلِمِينَ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : { فِي كِتَابِ اللَّهِ } ؛ يجوزُ أنْ يكون المرادُ بالكتاب القُرْآن ، ويجوز أن يكون معناهُ في اللوحِ المحفوظ ، ويجوز أن يرادَ بالكتاب الْحُكْم ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى : { كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ }[المجادلة : 21] أي حَكَمَ اللهُ ، وقولهُ تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ؛ أي عليمٌ بكلِّ ما فَرَضَ من المواريثِ وغيرِ ذلك.
قال قتادةُ : (وَذلِكَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ ، وَكَانُواْ يَتَوَارَثُونِ بالإسْلاَمِ وَالهْجْرَةِ ، وَكَأنَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُهَاجِرُ ، وَكَانَ لاَ يَرِثُ أخَاهُ) ، فَنَسَخَ اللهُ ذلِكَ بقَوْلِهِ : { وَأْوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وَصَارَتِ الْوِرَاثَةُ بالْقَرَابَةِ كَمَا ذكَر َاللهُ فِي سُورَةِ النِّساءِ ، وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةُ ".
وعن أبَيِّ بن كعبٍ : قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ قَرَأ سُورَةَ الأَنْفَالِ وَالتَّوْبَةِ فأَنَا لَهُ شَفِيعٌ وَشَهِيدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ النِّفَاقِ ، وَأُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بعَدَدِ كُلِّ مُنَافِقٍ وَمُنَافِقَةٍ ، وَرُفِعَ لَهُ بهَا عَشْرُ دَرَجَاتٍ ".
(0/0)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } أي هذهِ مِن اللهِ ، فيكون رَفعاً على الابتداءِ ، ويجوزُ أن يكون (بَرَاءَةٌ) رَفعاً بالابتداءِ ، وخبرهُ : { إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُ }. والبراءةُ : رفعُ العِصمَةِ ، يقالُ : فلانٌ بريءٌ من فلانٍ ، وبرِىءَ اللهُ مِنَ المشرِكين. وإنما ذكرَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ من العهدِ ؛ لأنَّ المشركين كانوا ينقضُونَ العهدَ قبلَ الأجَلِ ، ويُضمِرُونَ الغدْرَ ، فأمرَ اللهُ بنَبْذِ العهدِ إليهم ، إما بخيانَةٍ مَستُورَةٍ ظهرت أمَارَتُهَا منهم ، وإما أن يكون شرطُ النبيِّ عليه السلام لنَقضِهم في العهدِ أنْ يُقِرَّهُم ما أقرَّهم اللهُ.
فأما تركُ البسملةِ في أوَّل هذه السُّورة ، فقد رُوي أنَّ أُبَيَّ بن كعبٍ سُئِلَ عن ذلكَ فقال : (لأنَّهَا نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ أوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ (بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وَلَمْ يَأْمُرْ فِي سُورَةِ الْبَرَاءَةِ بذَلِكَ ، فَضَمَّتْ إلَى الأَنفَالِ لِشَبَهِهَا بهَا) يعنِي أنَّ أمرَ العُهودِ مذكور في الأنفالِ ، وهذه السُّورة نزلَتْ بنقضِ العهُودِ. سُئل عليٌّ رضي الله عنه عن هذا فقالَ : (لأَنَّ هَذِهِ السُورَةَ نَزَلَتْ فِي السَّيْفِ ، وَلَيْسَ لِلسَّيْفِ أمَانٌ ، وَبسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنَ الأَمَانِ ، ولأَنَّ الْبَسْمَلَةَ رَحْمَةٌ ، وَالرَّحْمَةُ أمَانٌ ، وَهَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بالسَّيْفِ وَلاَ أمَانَ فِيْهِ).
(0/0)