تفسير الفاتحة مثالاً على تدبر القرآن
آخر نسخة
وبذيلها كتاب الطوفي
الحمد لله رب العالمين؛ الرحمن الرحيم مالك يوم الدين؛ وصلى الله على النذير المبين محمد وعلى آله وصحبه الغر الميامين أجمعين؛ وبعد.
فإن أعظم الكتب كتاب الله تبارك وتعالى؛ وإن أعظم سورة في ذلك الكتاب هي سورة الفاتحة؛ وقد تدبر العلماء هذه السورة فاستخرجوا بذلك التدبر خزائن من العلم لا تنفد واكتشفوا به أسراراً عظيمة ليس لمنتهاها حد، وأبانوا عن فوائد جليلة أكثر من أن تُعَد؛ ولقد رأيت أن أذكر هنا أهم ما وفقت إلى الوقوف عليه من ذلك.
وإني لما نظرت في كلام أكثر المفسرين والمتدبرين ، على هذه السورة العظيمة : وجدتهم لا يكادون يأتون في هذا الباب بزيادة ذات بال على ما ذكره الإمام ابن القيم في تفسير الفاتحة في صدر كتابه (مدارج السالكين بشرح منازل السائرين بين إياك نعبد وإياك نستعين) وما ذكره من الكلام على بعض أسرارها في (بدائع الفوائد)؛ فرأيت أن أهذب كلامه في هذين الكتابين بحسب ما يقتضيه التقريب والتيسير ، ثم أضيف إلى ذلك أهم ما وصلت إليه من فوائد أخرى لم يذكرها هو فيهما؛ ثم أرتب ذلك كله بطريقة تُسَهِّل تناولَه وتكمّل تناسبه؛ وكما يلي:
الفصل الأول
في ذكر الخصائص العامة لسورة الفاتحة
هذه السورة العظيمة تسمى – كما هو مشهور - فاتحة الكتاب، لأنها أول سوره وعنوان مقاصده.
وتسمى أيضاً أم القرآن لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن)، وإنما سماها بذلك لاشتمالها على أمهات المعاني التي في القرآن.
وتسمى أيضاً سورة المثاني لأنها تثنى في كل صلاة.(1/1)
هذه السورة فيها تقسيم حكيم بديع، ففي حديث أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة؛ أي الفاتحة؛ بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال الرحمن الرحيم قال الله تعالى أثنى علي عبدي و إذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي و إذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فاذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فالابتداء بقوله الحمد لله دليل على أن التسمية ليست من الفاتحة.
الفاتحة بالنسبة للقرآن كالخطبة أو المقدمة بالنسبة للكتاب؛ والقرآن شرح لها؛ ومعلوم أنه كلما كان صاحب الكتاب أعلم وأبلغ كان تلخيصه لمقاصد كتابه في مقدمته أكمل؛ هذا بالنسبة لكلام المخلوقين الذين علَّمهم الله تبارك وتعالى من النطق والبيان بحسب حاجتهم وأهليتهم؛ فكيف إذا كان الكتاب كتاب الله رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، ما ظنك بشأن السورة التي هي فاتحته وأم مقاصده؟
وقع في الفاتحة تلخيص لأعظم المقاصد؛ واشتملت على إثبات كل العقائد؛ فقد اشتملت على أمهات المطالب العالية أتم اشتمال وتضمنتها أكمل تضمن؛ فاشتملت على التعريف بالمعبود تبارك وتعالى بثلاثة أسماء مرجع الأسماء الحسنى والصفات العليا إليها ومدارها عليها، وهي الله والرب الرحمن وبنيت السورة على الإلهية والربوبية والرحمة؛ وتضمنت الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال، وتضمنت إشارات إلى منازل السائرين ومقامات العارفين؛ بل من تدبر هذه السورة تدبراً لائقاً بها وكان من أهل العلم والفطنة والتحقيق علم أن كل آية فيها تشتمل على إثبات توحيد الله والنبوة واليوم الآخر والإيمان بالقدر؛ ويأتي بيان بعض ذلك في مواضعه.(1/2)
فيها بلاغة عظيمة في مسائل كثيرة متعلقة بالتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والجمع والإفراد، والتكرار وعدمه، واستعمال الجملة الاسمية بدل الفعلية، والحذف؛ وانتقاء الألفاظ دون مرادفاتها، وابتناء المعاني على بعضها، وغير ذلك؛ ويأتي تفصيل ذلك فانتظره.
كل شيء مذكور في سورة الفاتحة فدليله حاضر في الكون المشاهد ومذكور في الفاتحة نفسها قبله أو بعده؛ فكون الحمد كله لله دليله أنه رب العالمين؛ و(الرحمن الرحيم) دليلها ربوبيته العامة لكل شيء؛ وكونه مالك يوم الدين وجود الظلم في الدنيا ولا بد من يوم يحاسب فيه الخلائق؛ هذا تمثيل والتفصيل يأتي في موضعه.
معاني هذه السورة مرتبة ترتيباً عظيماً بليغاً دالاً على كمال الحكمة؛ ويأتي بعض تفصيل ذلك في موضعه المناسب له.
وفي الجملة فإن هذه السورة لا يقوم غيرها مقامها ولا يسد مسدها ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها؛ وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين (إياك نعبد وإياك نستعين)، وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل: أنزل الله مئة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن؛ وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن؛ وجمع معاني القرآن في المفصل؛ وجمع معاني المفصل في الفاتحة؛ ومعاني الفاتحة في (إياك نعبد وإياك نستعين) وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده نصفين فنصفهما له تعالى وهو إياك نعبد ونصفهما لعبده وهو إياك نستعين؛ وسيأتي سر هذا ومعناه إن شاء الله في موضعه.
الفصل الثاني
في بيان وجه البلاغة في تخصيص ألفاظ ومعاني الفاتحة بالذكر دون غيرها(1/3)
ما ذكره الله تعالى من المعاني في هذه السورة العظيمة هو أفضل وأولى ما يذكر في موضعه؛ فقد ذكر تعالى الحمد وهو أكمل أنواع العبادة، وذكر اسمه (الله) وهو أعظم الأسماء وأشملها لمعاني الأسماء الأخرى؛ وذكر ربوبيته للعالمين وهي أعظم أدلة قدرته وعلمه وكماله واستحقاقه للإفراد بالعبودية؛ وذكر رحمته وهي أقوى متعلق للعبد وأكثر شيء يحتاجه بل يضطر إليه؛ وذكر ملكه ليوم الدين وهو أعظم الأيام وملك ذلك اليوم أكبر أمثلة ربوبيته الشاملة الكاملة، وقال (إياك نعبد وإياك نستعين) وهما أعظم حقوق الله وأكبر حظوظ العبد؛ وقال (اهدنا الصراط المستقيم) وهو أعظم الأدعية؛ وقال (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم أفضل الناس؛ وقال (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) وهما أكثر الفرق ابتعاداً عن الدين الحق وانحرافاً عنه ومعاداة له.
***
الله مالك كل الأيام؛ وخص يوم الدين بإضافة الملك إليه لخطورته وعظمه ولأنه ختام الأيام وثمرتها ولأنه يظهر فيه ملك الله كاملاً.
***
وإذا كان يوم الدين ظرفاً كما هو المعروف فالمعنى واضح كما تقدم؛ وإن كان مفعولاً ففي ذلك معان قد يظهر لأول وهلة أنها زائدة على ذلك المعنى؛ ولكن المعنيين متساويان عند التحقيق وهو ملك الله تعالى لكل شيء ملكية تامة قاهرة ظاهرة.
***
في تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم؛ وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر، فكل الخلق في نعمه؛ وهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟
***
خص النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر اليهود والنصارى بياناً لعظم تأثير هاتين الأمتين في العالم من جهة، ولكثرة من تشبه بهما من المسلمين من جهة أخرى.
***
وفي ما يظهر من تخصيص صفة الرحمة بالذكر بقوله تعالى (الرحمن الرحيم) عقب ذكر الحمد والربوبية، دون سائر الصفات الأخرى معان جليلة تظهر عند التدبر والتفكر؛ ولبيان بعض ذلك أقول:(1/4)
هذا الأمر، أعني التخصيص المذكور، قد يتبادر إلى الذهن والحقيقة أن الله تعالى لم يخص هذه الصفة بالذكر دون غيرها بل ذكر صفة الهداية بقوله (اهدنا) وصفة الغضب بقوله (المغضوب عليهم) وصفة الإضلال بقوله (ولا الضالين)، وذكر قبل ذلك صفة الربوبية وهي شاملة لمعاني صفات كثيرة كالخلق والقدرة والتدبير والرزق والعلم والحكمة وغيرها؛ ولكن صرح بصفتي الرحمن والرحيم وقدمهما على كل ما سوى الحمد والربوبية؛ وفي هذا التصريح والتقديم معان عديدة حكيمة.
الأول: بيان أن من أهم مظاهر ربوبيته رحمته بالخلق.
الثاني: أن رحمته سبقت غضبه.
الثالث: أن خلقه للخلق رحمة لهم ولكن منهم من لم يقبل تلك الرحمة ولم ينتفع بها فصار مؤهلاً للعقوبة بدل الرحمة.
الرابع: أن هذا الرب العظيم أفعاله تتردد بين العدل والرحمة، فبربوبيته عدل بين مخلوقاته وحكمها بعدله وبرحمته رحم من رحمهم منهم.
الخامس: في ذكر هاتين الصفتين ثناء على الله تعالى وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم (فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي؛ وإذا قال: الرحمن الرحيم قال الله تعالى: أثنى علي عبدي) والثناء معناه تكرير الحمد وهنا وقع ثناء مع شيء من تفصيل.
السادس: في ذكر هذين الاسمين ذكر لحظ العبيد من الملك المعبود وهو الرحمة العظيمة.
السابع: في ذكر الربوبيتة ما يثير خوف العبد وفي ذكر الرحمة ما يثير رجاءه؛ وكلاهما أي الربوبية والرحمة يؤدي إلى الحب؛ فهو محبوب لكماله وأنه رب العالمين، ومحبوب لرحمته فالقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
الفصل الثالث
في بيان معاني مفردات الفاتحة
الحمد شكر؛ والحمد وإن كان بالقول أو الكتابة فإن أصله في القلب، ويظهر أثره على البدن.
***
الرب: السيد والمالك والمعبود والمصلح والمدبر، وهو اسم فاعل حذفت ألفه، كما قيل: بار وبر.(1/5)
والتربية نوعان دينية ودنيوية؛ وكذلك النعمة، والنعمة الحقيقية هي نعمة الهداية ولذلك وصف بها المهتدين وسلبها عمن خالفهم.
***
(العالمين) جمع عالم والعالم لا مفرد له كالأنام؛ واشتقاقه من العلم أو العلامة والمختار أنه كل مخلوق.
***
(مالك) تقال لمن تتأت منه الطاعة وغيره، باستحقاق؛ وأما (ملك) فللأول فقط.
***
اليوم هنا زمان يمتد إلى أن ينقضي الحساب فيستقر كل فيما قدر له من جنة أو نار.
***
(الدين) الجزاء والقضاء والطاعة والعادة والملة. ويوم الدين هو يوم الجزاء أو اليوم الحق للدين.
***
(إياك نعبد) أي نخصك بالعبادة فنعبدك وحدك لا نعبد أحداً سواك.
***
العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع؛ فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له حتى تكون محبا خاضعا ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوباً لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) [43/87] وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) [39/38] (قل لمن الأرض ومن فيها) [22/84-89] إلى قوله (سيقولون لله قل فأنى تسحرون)، ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.(1/6)
والعبادة غاية الحب في غاية الخوف في غاية الذل؛ وكيف لا يشعر بالذل من يستحضر عظمة مالك كل شيء؟ أو بالخوف من يستحضر شدة وعظمة يوم الدين والحساب؛ وكيف لا يشعر بالحب من يسمع صفات الله تعالى؛ ولا سيما الرحمن الرحيم المنبني عليهما الإحسان؛ وكذلك سائر صفات الكمال؛ والمحبوب إنما يحب لكمال ذاته أو صفاته أو أفعاله، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
والله تعالى جعل العبودية وصف أكمل خلقه وأقربهم إليه فقال: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً) [172] وقال: (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) [7/206] وهذا يبين أن الوقف التام في قوله في سورة الأنبياء (وله من في السماوات والأرض) [21/19] ههنا ثم يبتدىء (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) فهما جملتان تامتان مستقلتان أي إن له من في السماوات ومن في الأرض عبيداً وملكاً ثم استأنف جملة أخرى فقال: (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) يعني أن الملائكة الذين عنده لا يستكبرون عن عبادته يعني لا يأنفون عنها ولا يتعاظمون ولا يستحسرون فيعيون وينقطعون يقال: حسر واستحسر، أي إذا تعب وأعيا بل عبادتهم وتسبيحهم كالنفس لبني آدم.(1/7)
فالأول وصف لعبيد ربوبيته؛ والثاني وصف لعبيد إلهيته؛ وقال تعالى [25/63-77] (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً) إلى آخر السورة؛ وقال: [76/6] (عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا)؛ وقال [38/17] (واذكر عبدنا داود) وقال: [38/41] (واذكر عبدنا أيوب) وقال: [38/45] (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب)، وقال عن سليمان [38/30] (نعم العبد إنه أواب)، وقال عن المسيح [43/59] (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) فجعل غايته العبودية لا الإلهية كما يقول أعداؤه النصارى، ووصف أكرم خلقه عليه وأعلاهم عنده منزلة بالعبودية في أشرف مقاماته فقال تعالى: [2/25] (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) وقال تبارك وتعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده)، وقال: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) فذكره بالعبودية في مقام إنزال الكتاب عليه وفي مقام التحدي بأن يأتوا بمثله وقال (وأنه لما قام عبدالله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) فذكره بالعبودية في مقام الدعوة إليه وقال (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا) فذكره بالعبودية في مقام الإسراء؛ وفي الصحيح عنه أنه قال: لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله؛ وفي الحديث أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد؛ وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: قرأت في التوراة صفة محمد محمد رسول الله عبدي ورسولي سميته المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب بالأسواق ولا يجزى بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر.(1/8)
وجعل الله سبحانه البشارة المطلقة لعباده فقال تعالى فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وجعل الأمن المطلق لهم فقال تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) وعزل الشيطان عن سلطانه عليهم خاصة وجعل سلطانه على من تولاه وأشرك به فقال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) وقال: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) وجعل النبي إحسان العبودية أعلى مراتب الدين وهو الإحسان فقال في حديث جبريل وقد سأله عن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
والله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته الجامعة لكمال محبته مع الخضوع له والانقياد لأمره؛ فأصل العبادة محبة الله بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله فلا يحب معه سواه وإنما يحب لأجله وفيه كما يجب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه فمحبتنا لهم من تمام محبته وليست محبة معه كمحبة من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحبه.
وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علما عليها وشاهدا لمن ادعاها فقال تعالى: [3 31] (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله وشرطا لمحبة الله لهم ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم فيستحيل إذا ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.(1/9)
ودل على أن متابعة الرسول هي حب الله ورسوله وطاعة أمره ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله قال الله تعالى: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) [9: 24]؛ فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه أو معاملة أحدهم على معاملة الله فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وإن قاله بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه.
وكذلك من قدم حكم أحد على حكم الله ورسوله فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد أو حكمه أو طاعته أو مرضاته ظنا منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقا أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
وقال صاحب (مشكلات القرآن وتفسير سورة الفاتحة) (ص45-47):(1/10)
(ما هي العبادة؟ يقولون: هي الطاعة مع غاية الخضوع؛ وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل، وتجليه للأفهام واضحاً لا يقبل التأويل؛ فكثيراً ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها بل يكتفون أحياناً بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها؛ ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة، فإن فيها إجمالاً وتساهلاً.
وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى كخضع وخنع وأطاع وذل نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي (عبد) ويحل محلها ويقع موقعها؛ ولذلك قالوا : إن لفظ (العباد) مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ (العبيد) تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى (الرق) وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه؛ يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلواً حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة؛ ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، فضلاً عن سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئاً من هذا الخضوع عبادة، فما هي العبادة إذاً؟
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها.(1/11)
وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه؛ فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال انه عبده وإن قبّل مواطئ أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء بكرمه المحدود؛ الله إلا بالنسبة للذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصراً وأكرمهم جوهراً وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأرباباً وعبدوهم عبادة حقيقية.
للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها.
ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي قلنا انه منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنساناً---).
***
الاستعانة الصادقة معناها التوكل وهي تجمع أصلين الثقة بالله والاعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لاستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
وهذان الأصلان الواردان هنا أي في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ أي التوكل والعبادة، قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع قرن بينهما فيها هذا أحدها.
الثاني: قول شعيب (11/88) (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
الثالث: قوله تعالى [10/123] (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه).
الرابع: قوله تعالى حكاية عن المؤمنين [60/4] (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير).(1/12)
الخامس: قوله تعالى [73/8-9] (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا).
السادس: قوله تعالى [43/10] (قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب).
فهذه ستة مواضع يجمع فيها بين الأصلين وهما (إياك نعبد وإياك نستعين).
فالتوكل: حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس؛ وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينة به وثقة به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه؛ فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مليان بهما فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه بهما فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد قال الله تعالى [65/3] (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي كافيه؛ والحسب: الكافي، والكفاية تكون بحسب العبودية قال تعالى (أليس الله بكاف عبده).
الفصل الرابع
في بيان اشتقاق الصراط
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/254-255) في الإجابة على سؤال هذا لفظه (ما معنى الصراط ومن أي شيء اشتقاقه ولم جاء على وزن فعال ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن الكريم بهذا اللفظ، وفي سورة (الأحقاف) ذكر بلفظ الطريق فقال: (يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) [الأحقاف 30])؟
(المشهور [أي في اشتقاق الصراط] أنه من صرطت الشيء أصرطه إذا بلعته بلعاً سهلاً فسمي الطريق صراطاً لأنه يسترط المارة فيه.
والصراط ما جمع خمسة أوصاف: أن يكون طريقاً مستقيماً سهلاً مسلوكاً واسعاً موصلاً إلى المقصود.
فلا تسمي العرب الطريق المعوج صراطاً ولا الصعب المشتق ولا المسدود غير الموصول؛ ومن تأمل موارد الصراط في لسانهم واستعمالهم تبين له ذلك قال جرير:(1/13)
أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم
وبنوا الصراط على زنة فِعال لأنه مشتمل على سالكه اشتمال الحلق على الشيء المسروط وهذا الوزن كثير في المشتمِلات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء والغطاء والفراش والكتاب إلى سائر الباب، [و]يأتي لثلاثة معان:
أحدها: المصدر كالقتال والضراب.
والثاني: المفعول نحو الكتاب والبناء والغراس.
والثالث: أنه يقصد به قصد الآلة التي يحصل بها الفعل ويقع بها كالخمار والغطاء والسداد لما يخمر به ويغطى ويسد به؛ فهذا آلة محضة والمفعول هو الشيء المخمر والمغطى والمسدود.
ومن هذا القسم الثالث إله بمعنى مألوه؛ وأما ذكره له بلفظ الطريق في سورة الأحقاف خاصة فهذا حكاية الله تعالى لكلام مؤمني الجن أنهم قالوا لقومهم: (إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) [الأحقاف 30] وتعبيرهم عنه ههنا بالطريق فيه نكتة بديعة وهي أنهم قدموا قبله ذكر موسى وأن الكتاب الذي سمعوه مصدقاً لما بين يديه من كتاب موسى وغيره فكان فيه كالنبأ عن رسول الله في قوله لقومه (ما كنت بدعاً من الرسل) أي لم أكن أول رسول بعث إلى أهل الأرض بل قد تقدمت رسل من الله إلى الأمم، وإنما بعثت مصدقاً لهم بمثل ما بعثوا به من التوحيد والإيمان، فقال مؤمنو الجن: (إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) أي إلى سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله وإنه ليس ببدع، كما قال في أول السورة نفسها؛ فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ الطريق لأنه فعيل بمعنى مفعول أي مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبلُ، فحقيق على من صدق رسل الله وآمن بهم أن يؤمن به ويصدقه؛ فذكر الطريق ههنا إذاً أولى لأنه أدخل في باب الدعوة والتنبيه على تعين اتّباعه والله أعلم؛ ثم رأيت هذا المعنى بعينه قد ذكره السهيلي فوافق فيه الخاطر الخاطر).
الفصل الخامس(1/14)
في بيان معنى قوله تعالى (الحمد لله)
(الحمد لله) تتضمن أقسام التوحيد الثلاثة؛ وهي:
توحيد الربوبية، ومعناه أن الله هو خالق كل شيء ومربيه ومدبر أمره وهو قادر عليه.
وتوحيد الألوهية، ومعناه أن الله هو وحده المستحق للطاعة والعبادة والذل والخضوع والخوف والرجاء وسائر معاني أو أنواع العبادة؛ ولذلك وجب أن يفرد بذلك.
وتوحيد الأسماء والصفات، ومعناه أن نصف الله تعالى بكل كمال لائق به فنصفه بكل ما وصف به نفسه في كتابه أو حديث نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، من غير فلسفة ولا تشبيه.
وأما وجه تضمن قوله تعالى (الحمد لله) لهذه الأقسام الثلاثة فمن وجهين:
الوجه الأول:
إن الألف واللام في كلمة (الحمد) دالة في قول كثير من العلماء على استغراق الحمد بكل أنواعه وأفراده أي ان الحمد كله لله وليس أحد محموداً على الحقيقة إلا الله؛ ومن له الحمد كله فلا بد أن يكون على كل شيء قدير، وأنه خالق كل شيء، وإلا لما استحق الحمد كله، وهذا معنى توحيد الربوبية.
ومن كان بهذا الوصف فالعقل يقضي بوجوب عبادته بل وبوجوب أن يفرد وحده بالعبادة لأنه المستحق لها دون سواه، وهو معنى توحيد الألوهية.
ومن جهة أخرى فإن الحمد إذا اطرد في الزيادة والمبالغة فإنه ينتهي إلى العبادة، وهذا هو أيضاً توحيد العبادة أي الألوهية.
وأما توحيد الأسماء والصفات فإثبات الحمد إثباتٌ له؛ وإنما حمْد الله معناه وصفه بكل كمال مطلق، أي بكل وصف وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أدرك العقل معنى كون ذلك الوصف كمالاً أو لم يدركه؛ وهذا هو توحيد الأسماء والصفات.
الوجه الثاني:(1/15)
من معنى كلمة (الله) فإن من معانيها الإله المعبود، وفي الحقيقة لا يستحق أن يكون إلهاً إلا من استحق أن يفرد بالألوهية ولم يشاركه فيها أحد؛ وهذا هو معنى توحيد الألوهية، ومن كان كذلك فلا شك أنه متصف بكل كمال مطلق لائق بالإله المعبود وحده وهذا هو حقيقة توحيد الأسماء والصفات؛ ومن هو مستحق للعبادة دون كل ما سواه فلا شك أنه قادر على كل ما سواه وأن العالمين محتاجون إليه وأنهم قائمون به وأنه قيوم السماوات والأرض وهذا هو معنى توحيد الربوبية.
الفصل السادس
في بيان معنى قوله تعالى (رب العالمين)
كما أن قوله تعالى (الحمد لله) فيه إثبات أقسام التوحيد الثلاثة كما تقدم؛ أو فيه - في الأقل - تمهيد لإثبات ذلك؛ فإن قوله تعالى (رب العالمين) فيه ذلك المعنى أيضاً؛ فـ(الحمد لله) إثبات لأقسام التوحيد الثلاثة من جهة المعرفة بصفات الخالق، و (رب العالمين) فيه إثبات لتلك الأقسام أيضاً ولكن من جهة المعرفة بصفات المخلوقين أي العالمين.
فلما كان كل فرد من أفراد العالمين مربوباً أي مخلوقاً مدبراً مقهوراً؛ والعالمون هم كل ما عدا الله تبارك وتعالى، فمعنى ذلك أن كل مخلوق هو في غاية الضرورة والفاقة إلى موجده ومنشئه ومدبر أمره ورازقه، وأن كل عاقل من المخلوقات يشعر لولا انطماس الفطرة وذهاب نور العقل بمثل هذه الفاقة ويشعر بضرورة تعظيم مولاه أقصى درجات التعظيم والخوف منه آخر درجات الخوف والحب له أشد الحب وذلك هو معنى العبادة أي توحيد العبودية؛ وقد غرس الله في فطرة الإنسان من شدة الشعور بضرورته إلى ربه وخالقه ومالكه ما يؤيد العقل الصريح المقتضي لذلك عند أدنى تأمل؛ ثم أرسل الله الرسل وأنزل الله الكتب للتذكير بذلك رحمة منه للطائعين وقطعاً منه لحجة المعاندين.(1/16)
وأما توحيد الأسماء والصفات فهذه اللفظة (رب العالمين) دالة على أصل هذا القسم من التوحيد؛ فإن من كان رباً للعالمين فلا شك أنه متصف بالقدرة المطلقة والعلم المحيط والرحمة الواسعة والإرادة الحكيمة وبكل كمال مطلق متعلق بمعنى خلق وتدبير العالمين على كثرتهم وسعتهم واختلاف أحوالهم؛ وهذا هو معنى توحيد الأسماء والصفات.
وأما توحيد الربوبية فكلمة (رب العالمين) نص في إثباته، كما هو واضح لكل أحد.
الفصل السابع
في معنى قوله (الرحمن الرحيم)
أثبت تعالى بقوله (الحمد لله) أصول أقسام التوحيد الثلاثة؛ ثم أثبت كل قسم بكلمة أو جملة تكاد تختص به، فأثبت الربوبية بكلمة (رب العالمين) كما تقدم، والألوهية بآية (إياك نعبد) كما سيأتي؛ والأسماء والصفات بكلمة (الرحمن الرحيم) كما تقدم.
الفصل الثامن
في معنى قوله تعالى (مالك يوم الدين)
تضمنت الفاتحة إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق وكون حكمه بالعدل، فإنما يظلم من نقص ملكه وضعف؛ وكل ذلك تحت قوله (مالك يوم الدين).
الفصل التاسع
في ترتيب عبارات الفاتحة بعد الحمد
أي ترتيب المعاني في الفاتحة
معاني الفاتحة متناسبة ومتقابلة وبعضها مبتنٍ على بعض ومتعلق به أوثق وأشد أنواع التعلق؛ فكل معنى في الفاتحة مرتبط بما بعده وما قبله ودال عليه، أو مستدل عليه به؛ وفيما يلي بيان أمثلة من ذلك:
***(1/17)
المثال الأول: قوله تعالى (رب العالمين) ذكر قبله مقتضاه وهو التفرد بالحمد المطلق؛ وذكر بعده ما ينبني عليه وهو ما يبين مصير العالمين؛ وأن ما هو واقع منهم من خير وظلم لا بد من المجازاة عليه، لأنه ليس من المعقول أن يخلقهم سدى ربهم الذي له الحمد أي المتصف بصفات الكمال، فإن الكمال ينفي ذلك، وينفي وقوع ما نشاهده من تظالم بين المخلوقات من غير أن يكون قصاص في يوم من الأيام؛ هذا فضلاً عن الظلم الأكبر الذي هو الشرك وعدم إفراد رب العالمين بالعبودية والطاعة.
***
المثال الثاني: ابتدأت السورة بالحمد لأنه في الحقيقة أنسب ما يبتدأ به؛ فليس في الكلام كلام أصدق ولا أعظم ولا أهم ولا أشمل ولا أنسب في مثل هذا المقام وهو افتتاح كتاب الله، بل وكل كلام ذي بال، من الحمد لله؛ ولذلك أدلة كثيرة؛ منها أن الحمد إذا انفرد عن بقية الأذكار شمل كل معانيها؛ فمثلاً إذا اجتمع التسبيح والتحميد والتوحيد والتكبير فثم تدرج؛ فالتسبيح تنزيه عن النقص وكل ما لا يليق بالله تبارك وتعالى؛ والتحميد إثبات لصفات الكمال المطلق؛ والتوحيد فيه توكيد لتنزيهه عن النقص وإثبات لتفرده بصفات الكمال المطلق بحيث يستحق أن يعبد وحده، بل كل ما سواه يجب أن يخضع له ويعبده لأنه ناقص عن منزلته محتاج إلى تدبيره ومعونته بل هو الذي أوجده؛ والتكبير إقرار من العبد بأنه مهما عظم الله وكبره وأثنى عليه فالله أكبر من ذلك؛ فلا يعلم عظمة الله على الحقيقة إلا هو تبارك وتعالى؛ وهذا كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.(1/18)
فإن قيل: السورة لم تفتتح بالتكبير وقد ذكرت أنه أعلى رتبة؟ قلت: العلو المذكور مقيد بالاجتماع مع الأذكار الأخرى كما تقدم؛ وأما عند الانفراد فالتحميد هو الأكمل الأشمل لأن الحمد هو إثبات صفات الكمال المطلق ومنها الوحدانية في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات؛ ومن الكمال المطلق انتفاء النقص وهو معنى التسبيح؛ ومن مقتضى إثبات الكمال المطلق ثبوت صفات عظمة وكمال أكبر مما تدركه عقول البشر، وهو معنى التكبير.
وثم جواب آخر وهو أن القائل (الحمد لله) في هذا الموضع هو الله تبارك وتعالى، وكلمة الحمد لله في كلام الله لا شيء من الكلام المجمل أكبر وأشمل وأعلى منها؛ لأنه تعالى كما أثنى على نفسه، وذلك بخلاف كلمة (الحمد لله) إذا قالها الناس ابتداء من غير تلاوة لما في القرآن.
وعلى كل حال فليس معنى ما تقدم التفضيل المطلق لهذا الذكر أعني (الله أكبر) على الآخر أي (الحمد لله) بل المفاضلة بينهما تتأثر بالمقام والأسباب والأحوال والمقاصد ونحو ذلك.
***
المثال الثالث: قوله تعالى (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، هذه الآيات الثلاث تتضمن الإيمان بالله وباليوم الآخر؛ وهما المعنيان اللذان يكثر اقترانهما في القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
***
المثال الثالث: (الحمد لله) تعني أن الله تعالى محمود في ذاته؛ و (رب العالمين) عقب (الحمد لله) تعني أن الله تعالى محمود في ربوبيته أي في أفعاله وصفاته المتعلقة بأفعاله؛ و(الرحمن الرحيم) بعد ذلك تعني أنه تعالى محمود في صفاته، وفي أفعاله الدالة على رحمته؛ أي هو محمود في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته.(1/19)
ففي ذكر هذه الأسماء بعد الحمد وإيقاع الحمد على مضمونها ومقتضاها ما يدل على أنه محمود في إلهيته محمود في ربوبيته محمود في رحمانيته محمود في ملكه وأنه إله محمود ورب محمود ورحمان محمود وملك محمود فله بذلك جميع أقسام الكمال: كمال من هذا الاسم بمفرده وكمال من الآخر بمفرده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
مثال ذلك قوله تعالى (والله غني حميد) (والله عليم حكيم) (والله قدير والله غفور رحيم)؛ فالغنى صفة كمال والحمد صفة كمال واقتران غناه بحمده كمال أيضاً.
وعلمه كمال وحكمته كمال؛ واقتران العلم بالحكمة كمال أيضاً.
وقدرته كمال ومعفرته كمال واقتران القدرة بالمغفرة كمال؛ وكذلك العفو بعد القدرة [4: 14] (إن الله كان عفواً قديراً).(1/20)
واقتران العلم بالحلم [4: 11] (والله عليم حليم)؛ وحملة العرش أربعة اثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فما كل من قدر عفا ولا كل من عفا يعفو عن قدرة ولا كل من علم يكون حليماً ولا كل حليم عالم فما قرن شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى قدرة ومن ملك إلى حمد ومن عزة إلى رحمة؛ [26: 9] (وإن ربك لهو العزيز الرحيم)؛ ومن ههنا كان قول المسيح عليه السلام [5: 121] (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) أحسن من أن يقول: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم)؛ أي إن غفرت لهم كان مصدر مغفرتك عن عزة وهي كمال القدرة وعن حكمة وهي كمال العلم؛ فمن غفر عن عجز وجهل بجرم الجاني لا يكون قادراً حكيماً عليماً بل لا يكون ذلك إلا عجزاً فأنت لا تغفر إلا عن قدرة تامة وعلم تام وحكمة تضع بها الأشياء مواضعها؛ فهذا أحسن من ذكر الغفور الرحيم في هذا الموضع الدال ذكره على التعريض بطلب المغفرة في غير حينها وقد فاتت؛ فإنه لو قال: (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم) كان في هذا من الاستعطاف والتعريض بطلب المغفرة لمن لا يستحقها ما ينره عنه منصب المسيح عليه السلام لا سيما والموقف موقف عظمة وجلال وموقف انتقام ممن جعل لله ولداً واتخذه إلها من دونه فذكر العزة والحكمة فيه أليق من ذكر الرحمة والمغفرة.
وهذا بخلاف قول الخليل عليه السلام [14: 35-36] (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم)؛ ولم يقل: (فإنك عزيز حكيم)، لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء أي إن تغفر لهم وترحمهم، بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد ومن المعصية إلى الطاعة كما في الحديث (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).(1/21)
وفي هذا أظهر الدلالة على أن أسماء الرب تعالى مشتقة من أوصاف ومعان قامت به؛ وأن كل اسم يناسب ما ذكر معه واقترن به من فعله وأمره؛ والله الموفق للصواب.
***
المثال الرابع: إياك نعبد مبنى على الإلهية وإياك نستعين على الربوبية وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم بصفة الرحمة.
***
المثال الخامس: ذكر الهداية والنعمة ثم قابلها بالغضب والضلال؛ والهداية هنا هدايتان:
الأولى: ضد فساد القصد، وهو الموجب للغضب؛ وهي هداية التوفيق والإلهام.
والثانية: ضد فساد العلم، وهو الموجب للضلال؛ وهي هداية البيان والعلم.
***
المثال السادس: الرحمن الرحيم ترغيب جاء متوسطاً بين ترهيبين، وهو كونه رب العالمين وكونه مالك يوم الدين فنواصيهم في قبضته ومصيرهم إليه.
***
المثال السابع: كلمة (رب العالمين) تربي في النفوس المهابة؛ و (الرحمن الرحيم) تربي في النفوس (الأمل) فينبسط أمل العفو في العبد إن زل؛ وكل من العبارتين تقوي عند المرء شدة الحاجة إلى سؤاله لأنه على كل شيء قدير وبيده كل شيء وهو رحيم؛ وكلاهما أيضاً تؤدي إلى الخوف كما تؤدي إلى الرجاء؛ فيخاف أن يهلكه ويخاف أن لا يرحمه؛ وإن كان الرب بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعراً بعلة الإصلاح.
***
المثال الثامن: معنى سياق هذه الأوصاف الواردة في الفاتحة من أولها إلى آخرها هو أن المتصف بها مستحق للحمد؛ ولذلك ذكره تعالى في الفاتحة بل افتتحها به.
المثال الثامن: في قوله تعالى (مالك يوم الدين) بعد ذكر كونه رباً للعالمين بيان لكونه تعالى ليس رباً للعالمين في الدنيا فقط بل هو ربهم في الدنيا والآخرة.
***
المثال التاسع: في قوله تعالى (إياك نعبد) إلى آخر السورة: أربع مسائل بنيت على أربع؛ فـ(إياك نعبد) على ذكر الله؛ و(إياك نستعين) على ذكر الربوبية؛ و(اهدنا) على ذكر الرحمة و(صراط الذين أنعمت عليهم) على ذكر يوم الدين.
***(1/22)
المثال العاشر: قابل تعالى بين الهداية والنعمة والغضب والضلال؛ فذكر المغضوب عليهم والضالين في مقابلة المهتدين المنعم عليهم؛ وهذا كثير في القرآن: يقرن بين الضلال والشقاء وبين الهدى والفلاح.
فالثاني كقوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) وقوله تعالى (أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) [2/4].
والأول كقوله تعالى (إن المجرمين في ضلال وسعر) [54/47] وقوله تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) [2/7].
وقد جمع سبحانه بين الأمور الأربعة في قوله (فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) [20/123]؛ فهذا الهدى والسعادة؛ ثم قال: (ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) [20/124]؛ فذكر الضلال والشقاء؛ فالهدى والسعادة متلازمان؛ والضلال والشقاء متلازمان؛ والهداية ضدها الضلال والنعمة ضدها الغضب أو النقمة التي هي من لوازم الغضب.
وتأمل ارتباط الخلق والأمر بهذه الأسماء الثلاثة وهي الله والرب والرحمن كيف نشأ عنها الخلق والأمر والثواب والعقاب وكيف جمعت الخلق وفرقتهم فلها الجمع ولها الفرق، فاسم الرب له الجمع الجامع لجميع المخلوقات فهو رب كل شيء وخالقه والقادر عليه لا يخرج شيء عن ربوبيته وكل من في السموات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره فاجتمعوا بصفة الربوبية وافترقوا بصفة الإلهية فألهه وحده السعداء وأقروا له طوعا بأنه الله الذي لا إله إلا هو الذي لا تنبغي العبادة والتوكل والرجاء والخوف والحب والإنابة والإخبات والخشية والتذلل والخضوع إلا له.
وهنا افترق الناس وصاروا فريقين فريقاً مشركين في السعير وفريقاً موحدين في الجنة، فالإلهية هي التي فرقتهم كما أن الربوبية هي التي جمعتهم.
فالدين والشرع والأمر والنهي مظهره وقيامه من صفة الإلهية.(1/23)
والخلق والإيجاد والتدبير والفعل من صفة الربوبية.
والجزاء بالثواب والعقاب والجنة والنار من صفة الملك وهو ملك يوم الدين.
فأمرهم بإلهيته.
وأعانهم ووفقهم وهداهم وأضلهم بربوبيته.
وأثابهم وعاقبهم بملكه وعدله.
وكل واحدة من هذه الأمور لا تنفك عن الأخرى.
وأما الرحمة فهي التعلق والسبب الذي بين الله وبين عباده.
فالتأليه منهم له.
والربوبية منه لهم.
والرحمة سبب واصل بينه وبين عباده بها أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وبها هداهم وبها أسكنهم دار ثوابه وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم فبينهم وبينه سبب العبودية وبينه وبينهم سبب الرحمة.
***
المثال الحادي عشر: اقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشه برحمته فـ(الرحمن على العرش استوى) مطابق لقوله (رب العالمين الرحمن الرحيم) فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها يقابل شمول الرحمة وسعتها، فوسع كل شيء برحمته وربوبيته؛ مع أن في كونه رباً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء، كما صرح بذلك قوله (الرحمن على العرش استوى) والعرش أعلى المخلوقات وأكبرها.
***
المثال الثاني عشر: جمع تعالى بين العبادة والاستعانة فإن العبادة لا تحصل إلا بالعون؛ وقدم الإقرار باستحقاق العبودية لله وحده على الدعاء بالعون، لأنه من باب تقديم الوسائل على المسائل؛ وبهذه المناسبة فإن في قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) ثلاث أوجه من البلاغة:
الأول: تقديم الوسيلة على الحاجة، فقدم العبادة على الاستعانة وهو من باب تقديم الوسائل بين يدي المطالب؛ كما تقدم.
الثاني: تقديم حق المعبود على حظ العبد.
الثالث: إفراد الله بالعبودية.
***
المثال الثالث عشر: قدم المفعول (إياك) للتخصيص والاعتناء والتهمم؛ فقول العبد (إياك نعبد) معناه نخصك بالعبادة؛ وفيه أيضاً أنه قدم ذكر معبود على ذكر نفسه.
ولبيان حكمة تقديم إياك نعبد على إياك نستعين على وجه أكثر تفصيلاً يقال:(1/24)
تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها والاستعانة وسيلة إليها
ولأن إياك نعبد متعلق بألوهيته واسمه الله وإياك نستعين متعلق بربوبيته واسمه الرب فقدم إياك نعبد على إياك نستعين كما قدم اسم الله على الرب في أول السورة.
ولأن (إياك نعبد) قسم الرب فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به؛ و(إياك نستعين) قسم العبد فكان من الشطر الذي له وهو اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر السورة.
ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة من غير عكس فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ولا ينعكس لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته فكانت العبادة أكمل وأتم ولهذا كانت قسم الرب ولأن الاستعانة جزء من العبادة من غير عكس ولأن الاستعانة طلب منه والعبادة طلب له ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص.
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك والاستعانة طلب العون على العبادة وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته، ولأن العبادة شكر نعمته عليك والله يحب أن يشكر والإعانة فعله بك وتوفيقه لك فإذا التزمت عبوديته ودخلت تحت رقها أعانك عليها فكان التزامها والدخول تحت رقها سببا لنيل الإعانة وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.(1/25)
والعبودية محفوفة بإعانتين إعانة قبلها على التزامها والقيام بها وإعانة بعدها على عبودية أخرى وهكذا أبدا حتى يقضي العبد نحببه ولأن إياك نعبد له وإياك نستعين به وماله مقدم على ما به لأن ماله متعلق بمحبته ورضاه وما به متعلق بمشيئته وما تعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمجرد مشيئته فإن الكون كله متعلق بمشيئته والملائكة والشياطين والمؤمنون والكفار والطاعات والمعاصي والمتعلق بمحبته طاعاتهم وإيمانهم فالكفار أهل مشيئته والمؤمنون أهل محبته ولهذا لا يستقر في النار شيء لله أبدا وكل ما فيها فإنه به تعالى وبمشيئته فهذه الأسرار يتبين بها حكمة تقديم (إياك نعبد) على (إياك نستعين).
***
وأما تقديم المعبود والمستعان على الفعلين ففيه أدبهم مع الله بتقديم اسمه على فعلهم وفيه الاهتمام وشدة العناية به وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصر فهو في قوة لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك والحاكم في ذلك ذوق العربية والفقه فيها واستقراء موارد استعمال ذلك مقدما وسيبويه نص على الاهتمام ولم ينف غيره.
ولأنه يقبح من القائل أن يعتق عشرة أعبد مثلا ثم يقول لأحدهم: إياك أعتقت؛ ومن سمعه أنكر ذلك عليه وقال وغيره أيضا أعتقت ولولا فهم الاختصاص لما قبح هذا الكلام ولا حسن إنكاره.
وتأمل قوله تعالى (وإياي فارهبون) [2: 40 ] (وإياي فاتقون) [2/41] كيف تجده في قوة لا ترهبوا غيري لا تتقوا سواي وكذلك (إياك نعبد وإياك نستعين) هو في قوة لا نعبد غيرك ولا نستعين بسواك وكل ذي ذوق سليم يفهم هذا الاختصاص من علة السياق.
ولا عبرة بجدل من قل فهمه وفتح عليه باب الشك والتشكيك فهؤلاء هم آفة العلوم وبلية الأذهان والفهوم مع أن في ضمير إياك من الإشارة إلى نفس الذات والحقيقة ما ليس في الضمير المتصل ففي إياك قصدت وأحببت من الدلالة على معنى حقيقتك وذاتك قصدي ما ليس في قولك قصدتك وأحببتك وإياك أعني فيه معنى نفسك وذاتك وحقيقتك أعني.(1/26)
ومن ههنا قال من قال من النحاة : إن (إيّا) اسم ظاهر مضاف إلى الضمير المتصل ولم يرد عليه برد شاف(1).
وبني (إياك نعبد) على أربع قواعد التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب وعمل القلب الجوارح.
فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع فأصحاب إياك نعبد حقا هم أصحابها فقول القلب هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله
وقول اللسان الإخبار عنه بذلك والدعوة إليه والذب عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له والقيام بذكره وتبليغ أوامره؛ وعمل القلب كالمحبة له والتوكل عليه والإنابة إليه والخوف منه والرجاء له وإخلاص الدين له والصبر على أوامره وعن نواهيه وعلى أقداره والرضا به وعنه والموالاة فيه والمعاداة فيه والذل له والخضوع والإخبات إليه والطمأنينة به وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها أفرض من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح كالصلاة والجهاد ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ومساعدة العاجز والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك.
فـ(إياك نعبد) التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها و (إياك نستعين) طلب للإعانة عليها والتوفيق لها و (اهدنا الصراط المستقيم) متضمن للتعريف بالأمرين على التفصيل وإلهام القيام بهما وسلوك طريق السالكين إلى الله بها.
__________
(1) قال ابن القيم عقب ما تقدم: (ولولا أنا في شأن وراء هذا لأشبعنا الكلام في هذه المسألة وذكرنا مذاهب النحاة فيها ونصرنا الراجح ولعلنا أن نعطف على ذلك بعون الله).(1/27)
و (إياك نعبد وإياك نستعين) عليها مدار دعوة الرسل؛ فجميع الرسل إنما دعوا إلى إياك نعبد وإياك نستعين فإنهم كلهم دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم فقال نوح لقومه (اعبدوا لله مالكم من إله غيره) [7: 59] وكذلك قال هود وصالح وشعيب [7 65 73 85] وإبراهيم قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) [16: 36] وقال: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) [21: 25] وقال تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) [23: 51-52].
***
المثال الرابع عشر: قدم ذكر الاستعاذة من الغضب على الاستعاذة من الضلال وهو أنسب لأمور منها هذه الأمور التالية:
الأول: أن الغضب مؤداه الانتقام وهو يقابل الانعام؛ فناسب أن يذكر عقبه.
الثاني: أن العقوبة على الغضب أكثر، قال سفيان الثوري: يغفر للجاهل سبعين مرة قبل أن يغفر للعالم.
الثالث: أن أسباب الغضب، أي المعاصي الواقعة بسبب فساد القصد والإرادة، أكثر وقوعاً في الناس.
الرابع: أن المغضوب عليهم وهم اليهود متقدمون بالزمان، على الضالين عليهم وهم النصارى، فقدم ذكر هؤلاء على هؤلاء.
الخامس: أنهم كانوا هم الذين يلون النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتابين فإنهم كانوا جيرانه في المدينة والنصارى كانت ديارهم نائية عنه ولهذا تجد خطاب اليهود والكلام معهم في القرآن الكريم أكثر من خطاب النصارى كما في سورة البقرة والمائدة وآل عمران وغيرها من السور.
السادس: أن اليهود أغلظ كفرا من النصارى ولهذا كان الغضب أخص بهم واللعنة والعقوبة فإن كفرهم عن عناد وبغي كما تقدم فالتحذير من سبيلهم والبعد منها أحق وأهم بالتقديم وليس عقوبة من جهل كعقوبة من علم.(1/28)
السابع: وهو أحسنها أنه تقدم ذكر المنعم عليهم والغضب ضد الإنعام والسورة هي السبع المثاني التي يذكر فيها الشيء ومقابله فذكر المغضوب عليهم مع المنعم عليهم فيه من الإزدواج والمقابلة ما ليس في تقديم الضالين فقولك الناس منعم عليه ومغضوب عليه فكن من المنعم عليهم أحسن من قولك منعم عليه وضال فصل اسم المفعول في المغضوب واسم الفاعل في الضال.
الفصل العاشر
في بيان نوع الهداية المسؤولة
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد 2/272): في بيان نوع الهداية المسؤولة في الفاتحة: (اعلم أن أنواع الهداية أربعة:
أحدها الهداية العامة المشتركة بين الخلق المذكورة في قوله تعالى (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) [طه 50] أي أعطى كل شيء صورته التي لا يشتبه فيها بغيره وأعطى كل عضو شكله وهيئته وأعطى كل موجود خلقه المختص به ثم هداه إلى ما خلقه له من الأعمال----.
النوع الثاني: هداية البيان والدلالة والتعريف لنجدي الخير والشر وطريقي النجاة والهلاك وهذه الهداية لا تستلزم الهدى التام فإنها سبب وشرط لا موجب ولهذا ينبغي الهدى معها كقوله تعالى (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) [فصلت 17] أي بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا ومنها قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى 52].
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للإهتداء فلا يتخلف عنها وهي المذكورة في قوله (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) [فاطر 8] وفي قوله (إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل) [النحل 37] وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم (من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له)(1) وفي قوله تعالى (إنك لا تهدي من أحببت) [القصص 56] فنفى عنه هذه الهداية وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).
__________
(1) رواه مسلم وأحمد والبيهقي.(1/29)
النوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنار إذا سيق أهلهما إليهما قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) [يونس 9] وقال أهل الجنة فيها: (الحمد لله الذي هدانا لهذا) [الأعراف 43] وقال تعالى عن أهل النار: (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) [الصافات 22-23].
إذا عرف هذا فالهداية المسئولة في قوله ([اهدنا] الصراط المستقيم) إنما تتناول المرتبة الثانية والثالثة خاصة؛ فهي طلب التعريف والبيان والإرشاد والتوفيق والإلهام. [طلب التعريف والبيان والتوفيق] [كذا؟؟!!].
الضلال سلوك سبيل غير القصد، ضل عن الطريق: سلك غير جادتها؛ والضلال: الهلاك والحيرة والغفلة.
الفصل الحادي عشر
في بيان حقيقة الصراط المستقيم
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد 2/276) مجيباً على سؤال نصه: (ما حقيقة الصراط المستقيم الذي يتصوره العبد وقت سؤاله)؟
(نذكر فيه قولاً وجيزاً فإن الناس قد تنوعت عباراتهم فيه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته شيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده على ألسن رسله وجعله موصلا لعباده إليه ولا طريق لهم إليه سواه بل الطرق كلها مسدودة إلا هذا وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحداً في عبوديته ولا يشرك برسوله أحداً في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبته وحسن معاملته وهذا كله مضمون شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فأي شيء فسر به الصراط فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك وعقده أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع إلا معمور بحبه ولا تكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته الأول يحصل بالتحقيق بشهادة أن لا إله إلا الله.(1/30)
والثاني يحصل بالتحقيق بشهادة أن محمداً رسول الله وهذا هو الهادي ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل له وهو معرفة ما بعث الله به رسله والقيام به فقل ما شئت من العبارات التي هذا أحسنها وقطب رحاها وهي معنى قول من قال: علوم وأعمال ظاهرة وباطنة مستفادة من مشكاة النبوة؛ ومعنى قول من قال: متابعة رسول الله ظاهراً وباطناً علماً وعملاً؛ ومعنى قول من قال: الإقرار لله بالوحدانية والاستقامة على أمره.
وأما ما عدا هذا من الأقوال كقول من قال: الصلوات الخمس؛ وقول من قال: حب أبي بكر وعمر؛ وقول من قال: هو أركان الإسلام الخمس التي بني عليها، فكل هذه الأقوال تمثيل وتنويع لا تفسير مطابق له بل هي جزء من أجزائه وحقيقته الجامعة ما تقدم؛ والله أعلم.
الفصل الثاني عشر
في بيان خصائص الصراط المستقيم والفرق بينه وبين الطريق
لا تكون الطريق صراطاً حتى تتضمن خمسة أمور الاستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود.
ولا يخفى تضمن الصراط المستقيم لهذه الأمور الخمسة فوصفه بالاستقامة يتضمن قربه لأن الخط المستقيم هو أقرب خط فاصل بين نقطتين وكلما تعوج طال وبعد واستقامته تتضمن إيصاله إلى المقصود ونصبه لجميع من يمر عليه يستلزم سعته وإضافته إلى المنعم عليهم ووصفه بمخالفة صراط أهل الغضب والضلال يستلزم تعينه طريقاً.
فالصراط المستقيم هو الأسرع وهو الذي ليس فيه شيء من باطل ولا اعوجاج.
الفصل الرابع عشر
في بيان بعض الحكمة في إضافة الصراط
الصراط تارة يضاف إلى الله إذ هو الذي شرعه ونصبه كقوله تعالى [6/153] (وأن هذا صراطي مستقيماً؛ وقوله [42/153] (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله).
وتارة يضاف إلى العباد كما في الفاتحة لكونهم أهل سلوكه وهو المنسوب لهم وهم المارون عليه.
الفصل الخامس عشر
في بيان معنىتفسير الصراط المستقيم بعد إبهامه(1)
__________
(1) التفسير لا ينافي الإجمال، ولكن الذي ينافيه التفصيل.(1/31)
(صراط الذين----): بدل عن الصراط المستقيم إذ فيه بعض إبهام فاستقامته قد لا تدرك بالعقل.
وبين ابن القيم رحمه الله فائدة البدل في الدعاء مع أن الداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الاسم الأول فقال في بدائع الفوائد (2/250 وما بعدها):
(لقد وردت الآية في معرض التعليم للعباد، والدعاء حق الداعي أن يستشعر عند دعائها ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به إذ الدعاء مخ العبادة والمخ لا يكون إلا في عظم والعظم في لحم ودم فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء؛ فمن ثم جاء لفظ الطلب للهداية والرغبة فيها مشوبا بالخبر تصريحاً من الداعي بمعتقده وتوسلاً منه بذلك الاعتقاد الصحيح إلى ربه فكأنه متوسل إليه بإيمانه واعتقاده أن صراط الحق هو الصراط المستقيم وأنه صراط الذين اختصهم بنعمته وحباهم بكرامته؛ فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم) والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضاً والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه فلذلك أبدل وبين لهم ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان ففي ضمن هذا الدعاء المهم الإخبار بفائدتين جليلتين:
إحداهما: فائدة الخبر.
والفائدة الثانية: فائدة لازم الخبر.
فأما فائدة الخبر فهي الإخبار عنه بالاستقامة وأنه الصراط المستقيم الذي نصبه لأهل نعمته وكرامته.
وأما فائدة لازم الخبر فإقرار الداعي بذلك وتصديقه وتوسله بهذا الإقرار إلى ربه.
فهذه أربع فوائد:(1/32)
الدعاء بالهداية إليه، والخبر عنه بذلك، والإقرار والتصديق لشأنه، والتوسل إلى المدعو إليه بهذا التصديق؛ وفيه فائدة خامسة وهي أن الداعي إنما أمر بذلك لحاجته إليه وأن سعادته وفلاحه لا تتم إلا به فهو مأمور بتدبر ما يطلب وتصور معناه فذكر له من أوصافه ما إذا تصور في خلده وقام بقلبه كان أشد طلباً له وأعظم رغبة فيه وأحرص على دوام الطلب والسؤال له فتأمل هذه النكت البديعة).
الفصل السادس عشر
في بيان الحكمة في التعبير بقوله تعالى (صراط الذين أنعمت عليهم) دون (صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)
بين ابن القيم في بدائع الفوائد (2/255-256) وجه الحكمة في إضافة الصراط الموصول المبهم في قوله تعالى (الذين أنعمت عليهم) ولم يذكرهم بخصوصهم فيقول: صراط النبيين والصديقين؛ فعدل إلى لفظ المبهم دون المفسر؛ فقال:
(فيه ثلاث فوائد:
إحداها: إحضار العلم وإشعار الذهن عند سماع هذا فإن استحقاق كونهم من المنعم عليهم هو بهدايتهم إلى هذا الصراط، فبه صاروا من أهل النعمة؛ وهذا كما يعلق الحكم بالصلة دون الاسم الجامد، لما فيه من الإنعام باستحقاق ما علق عليها من الحكم بها، وهذا كقوله تعالى (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم) [البقرة 274]؛ (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون)؛ (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم) [الأحقاف 13].
وهذا الباب مطرد فالإتيان بالاسم موصولاً [أدل] على هذا المعنى من ذكر الاسم الخاص.
الفائدة الثانية: إشارة إلى أن نفي [كذا] التقليد عن القلب واستشعار العلم بأن من هدى إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه فالسائل مستشعر سؤاله الهداية وطلب الإنعام من الله عليه؛ والفرق بين هذا الوجه والذي قبله: أن الأول يتضمن الإخبار بأن أهل النعمة هم أهل الهداية إليه؛ والثاني يتضمن الطلب والإرادة وأن تكون منه.(1/33)
الفائدة الثالثة: أن الآية عامة في جميع طبقات المنعم عليهم ولو أتى باسم خاص لكان لم يكن فيه سؤال الهداية إلى صراط جميع المنعم عليهم فكان في الإتيان بالاسم العام من الفائدة أن المسئول الهدى إلى جميع تفاصيل الطريق التي سلكها كل من أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وهذا أجل مطلوب وأعظم مسئول ولو عرف الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيراه وقرنه بأنفاسه، فإنه لم يدع شيئاً من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه.
ولما كان بهذه المثابة فرضه الله على جميع عباده فرضاً متكرراً في اليوم والليلة لا يقوم غيره مقامه؛ ومن ثم يعلم تعين الفاتحة في الصلاة وأنها ليس منها عوض يقوم مقامها).
الفصل السابع عشر
توحيد صراط أهل الحق وجمع طرق أهل الغضب والضلال
وحد الصراط لأنه واحد؛ فذكره مفرداً معرفاً تعريفين تعريفاً باللام وتعريفاً بالإضافة وذلك يفيد تعيينه واختصاصه وأنه صراط واحد؛ وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها.
وأما طرق أهل الغضب والضلال فإنه سبحانه يجمعها ويفردها كقوله (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [6: 153] فوحد لفظ الصراط وسبيله؛ وجمع السبل المخالفة له؛ وقال ابن مسعود: خط لنا رسول الله خطا وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره وقال: هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسله وأنزل به كتبه لا يصل إليه أحد إلا من هذه الطريق؛ ولو أتى الناس من كل طريق واستفتحوا من كل باب فالطرق عليهم مسدودة والأبواب عليهم مغلقة إلا من هذا الطريق الواحد فإنه متصل بالله موصل إلى الله قال الله تعالى: (هذا صراط علي مستقيم) [15: 14].(1/34)
قال تعالى :(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم:1) .
استعير في الآية الكريمة الظلمات للضلال بجامع عدم الاهتداء في كل منها .. واستعير النور بجامع الاهتداء في كل منها؛ وهذا المسلك الأدبي يسميه علماء البلاغة "الاستعارة التصريحة الأصلية".
هذه الاستعارة الفردية تجعل الهدى والضلال يستحيلان نوراً وظلمة . إنها تبرز المعاني المعقولة الخفية في صورة محسوسة، حية متحركة كأن العين تراها واليد تلمسها .
تأمل كلمة " الظلمات " إنها تصور لك بظلامها الضلال ليلاً دامساً يطمس معالم الطريق أمام الضلال فلا يهتدي إلى الحق ثم تأمل الدقة القرآنية في جمع " الظلمات " أنه يصور لك إلى أي مدى ينبهم الطريق أمام الضلال فلا يهتدون إلى الحق وسط هذا الظلام المتراكم .
ثم تأمل كلمة " النور " أنها بنورها تصور لك الهداية مصباحاً منيراً ينير جوانب العقل والقلب ويوضح معالم الطريق أمام المهتدي فيصل في سهولة ويسر إلى الحق فينتفع به فيطمئن قلبه وتسكن نفسه ويحظى بالسعادة في دنياه وأخراه .
قال ابن القيم (1/118) بعد كلام ذكره بعد الذي تقدم نقله عنه:(1/35)
(ومن هذا الباب ذكر الرياح في القرآن جمعا ومفردة فحيث كانت في سياق الرحمة أتت مجموعة وحيث وقعت في سياق العذاب أتت مفردة وسر ذلك أن رياح الرحمة مختلفة الصفات والمهاب والمنافع وإذا هاجت منها ريح أنشأ لها مما يقابلها ما يكسر سورتها ويصدم حدتها فينشأ من بينهما ريح لطيفة تنفع الحيوان والنبات فكل ريح منها في مقابلها ما يعدلها ويرد سَورتها، فكانت في الرحمة ريحاً؛ وأما في العذاب فإنها تأتي من وجه واحد وحمام واحد لا يقوم لها شيء ولا يعارضها غيرها حتى تنتهي إلى حيث أمرت لا يرد سورتها ولا يكسر شرتها فتمتثل ما أمرت به وتصيب ما أرسلت إليه ولهذا وصف سبحانه الريح التي أرسلها على عاد بأنها عقيم فقال: (أرسلنا عليهم الريح العقيم) [الذاريات 41] وهي التي لا تلقح ولا خير فيها والتي تعقم ما مرت عليه.
ثم تأمل كيف اطرد هذا إلا في قوله في سورة يونس (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم(1) بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف) [يونس 22] فذكر ريح الرحمة الطيبة بلفظ الإفراد لأن تمام الرحمة هناك إنما تحصل بوحدة الريح لا باختلافها فإن السفينة لا تسير إلا بريح واحدة من وجه واحد سيرها، فإذا اختلفت عليها الرياح وتصادمت وتقابلت فهو سبب الهلاك فالمطلوب هناك ريح واحدة لا رياح.
وأكد هذا المعنى بوصفها بالطيب دفعاً لتوهم أن تكون ريحاً عاصفة بل هي مما يفرح بها لطيبها).
وقال ابن القيم في نهاية ذلك الفصل وقد ذكر فيه مسائل مهمة من أسرار التعبير القرآني:
__________
(1) هذا الالتفات لعل معناه أن جريان السفينة بالناس بريح طيبة تكون في الغالب سبباً في غفلتهم عن ذكر الله ودعائه وفي نسيان ضرورتهم إلى عونه وتوفيقه وفي غيبتهم عن ذلك كله فخاطبهم خطاب الغائبين، وهذا من بلاغة الالتفات.(1/36)
(فلينزه الفطن بصيرته في هذه الرياض المونقة المعجبة التي ترقص القلوب لها فرحاً ويتغذى بها عن الطعام والشراب والحمد لله الفتاح العليم؛ فمثل هذا الفصل يعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر فإنه يشرف بك على أسرار عجائب تجتنيها من كلام الله والله الموفق للصواب).
المثال التاسع:
قال ابن القيم عقب ما تقدم:
(ومما يدخل في هذا الباب جمع الظلمات وإفراد النور وجمع سبل الباطل وإفراد سبل الحق وجمع الشمائل وإفراد اليمين.
(أما الأول فكقوله (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) [الأنعام 1].
وأما الثاني فكقوله (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام 153].
وأما الثالث فكقوله (يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل) [النحل 48].
والجواب عنها يخرج من مشكاة واحدة.
وسر ذلك والله أعلم أن طريق الحق واحد وهو على الواحد الأحد كما قال تعالى (هذا صراط علي مستقيم) [الحجر 41] قال مجاهد: الحق طريقه على الله ويرجع إليه كما يقال: طريقك علي؛ ونظيره قوله (وعلى الله قصد السبيل) [النحل 9] في أصح القولين، أي السبيل: القصد الذي يوصل إلى الله وهي طريق عليه.
قال الشاعر:
فهن المنايا أي واد سلكنه عليها طريقي أو علي طريقها
وقد قررت هذا المعنى وبينت شواهده من القرآن وسر كون الصراط المستقيم على الله وكونه تعالى على الصراط المستقيم كما في قول هود (إن ربي على صراط مستقيم) [هود 56] في كتاب التحفة المكية.
والمقصود أن طريق الحق واحد إذ مرده إلى الله الملك الحق وطرق الباطل متشعبة متعددة فإنها لا ترجع إلى شيء موجود ولا غاية لها يوصل إليها بل هي بمنزلة بنيات الطريق؛ وطريق الحق بمنزلة الطريق الموصل إلى المقصود فهي وإن تنوعت فأصلها طريق واحد.(1/37)
ولما كانت الظلمة بمنزلة طرق الباطل والنور بمنزلة طريق الحق فقد أفرد النور وجمعت الظلمات؛ وعلى هذا جاء قوله (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) [البقرة 257]، فوحد ولي الذين آمنوا وهو الله الواحد الأحد وجمع الذين كفروا لتعددهم وكثرتهم وجمع الظلمات وهي طرق الضلال والغي لكثرتها واختلافها ووحد النور وهو دينه الحق وطريقه المستقيم الذي لا طريق إليه سواه.
وقال العلامة أبو الحسن الندوي في (المدخل إلى الدراسات القرآنية) (ص31) في معرض كلامه على آيات إخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور: (وهنا لا بد من لفتة ووقفة قصيرة عند التعبير القرآني المحكم البليغ الذي يذكر (النور) دائماً مفرداً واحداً، ويذكر الظلمة (الظلمات) جمعاً وتكثيراً، لأنه متى فقد الإنسان نور الوحي – الذي لا يتعدد أصله – تعددت عليه الظلمات وتنوعت وتداعت من كل صوب وحدب حتي لا يحصي لها عدداً، ويواجه على كل شِعْب من شعاب الحياة وكل درب من دروبها ظلاماً فوق ظلام.
ولو وضعنا (نور الدين القيم) في جانب ونحيناه عن حياتنا، فهل يبقى في هذه الدنيا الواسعة إلا ظلمات متراكمة وحجب من الظلام كثيفة؟ وهل يبقى غير التيه والضلال في طريق الوصول إلى الله؟ وغير الطقوس والتقاليد في الديانات؟ وغير الحمق والجهل والخرافة في الاعتقادات؟ وغير الأوهام والأحلام في التصورات؟ وغير القياس والرأي والظن والتخمين في العلوم والصناعات؟ وغير الجور والعسف في الاجتماع والمعاملات؟ وغير التجارب والاختبارات في القانون والسياسات؟ وغير البغي والسطو والطغيان في الدول والحكومات؟ هل يبقى غير ذلك؟ كلا، إنها: (ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها) [النور 40].(1/38)
إنه ليس في ظلمات هذه الحياة الكثيفة الحالكة منارة نور، إلا (نور الله) الذي أضاء به السماوات والأرض؛ (الله نور السماوات والأرض) [النور 35].
لقد كان تعبير القرآن لأجل ذلك عن النور بالفرد، وعن الظلمات بالجمع، فمن لم يحظ بهذا النور فلا نور له، (ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) [النور 40]). انتهى كلامه وقد قال في هامشه ما نصه: (والنور ليست من الكلمات التي لا تجمع فهو يجمع على أنوار، كما توجد هناك ألفاظ أخرى بمعناه، ولا يصح القول بأن جمعه غير بليغ، فإذاً يبقى بعد استعمال القرآن إياه من شك في بلاغته؟ ولكن القرآن يهدف بإفراد النور وجمع الظلمات إلى حقيقة أخرى مهمة، ويلفت إليها الانتباه لعلهم يتفكرون).
الفصل الثامن عشر
في بيان أوجه تكرار ذكر الصراط
جرى ذكر الصراط المسؤول مرتين بخلاف غيره؛ وهذا كحديث النيات؛ والبدل على الصحيح على نية تكرار العامل؛ فكأنهم كرروا طلب الهداية مرتين.
الفصل العشرون
تعريف الصراط باللام وعدم تنكيره
ذكر الصراط المستقيم مفرداً معرفاً تعريفين تعريفاً باللام وتعريفاُ بالإضافة؛ وذلك يفيد تعينه واختصاصه وأنه صراط واحد.
وذكر ابن القيم مسألتين:
إحداهما: ما فائدة البدل في الدعاء والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان والبدل القصد به بيان الاسم الأول؟
الثانية: ما فائدة تعريف الصراط المستقيم باللام وهلا أخبر عنه بمجرد اللفظ دونها كما قال: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى 52].
فقال في (بدائع الفوائد) (2/251-254):(1/39)
(وأما المسألة الثانية، وهي تعريف الصراط باللام اعلم أن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى أن قولك: جالس فقيهاً أو عالماً، ليس كقولك جالس الفقيه أو العالم ولا قولك أكلت طيباً كقولك أكلت الطيب؛ ألا ترى إلى قوله [صلى الله عليه وسلم] (أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق) ثم قال: (ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق)(1) فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة وأدخلها على اسم الرب تعالى ووعده وكلامه.
فإذا عرفت هذا فلو قال: اهدنا صراطاً مستقيماً، لكان الداعي إنما يطلب الهداية إلى صراط ما مستقيم على الإطلاق، وليس المراد ذلك بل المراد الهداية إلى الصراط المعين الذي نصبه الله تعالى لأهل نعمته وجعله طريقاً إلى رضوانه وجنته وهو دينه الذي لا دين له سواه فالمطلوب أمر معين في الخارج والذهن، لا شيء مطلق منكر؛ واللام هنا للعهد العلمي الذهني، وهو أنه طلب الهداية إلى سر معهود قد قام في القلوب معرفته والتصديق به وتميزه عن سائر طرق الضلال فلم يكن بد من التعريف.
فإن قيل: لم جاء منكراً في قوله لنبيه (ويهديك صراطاً مستقيماً) [الفتح 2] وقوله تعالى (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى 52] وقوله تعالى (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) [الأنعام 87] وقوله تعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) [الأنعام 161]؟
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(1/40)
فالجواب عن هذه المواضع بجواب واحد، وهو أنها ليست في مقام الدعاء والطلب، وإنما هي في مقام الإخبار من الله تعالى عن هدايته إلى صراط مستقيم وهداية رسوله إليه، ولم يكن للمخاطبين عهد به ولم يكن معروفاً لهم فلم يجيء معرفاً بلام العهد المشيرة إلى معروف في ذهن المخاطب قائم في خلده ولا تقدمه في اللفظ معهود تكون اللام معروفة إليه، وإنما تأتي لام العهد في أحد هذين الموضعين: أعني أن يكون لها معهود ذهني أو ذكر لفظي وإذ لا واحد منهما في هذه المواضع فالتنكير هو الأصل؛ وهذا بخلاف قوله (اهدنا الصراط المستقيم) فإنه لما تقرر عند المخاطبين أن لله صراطاً مستقيماً هدي إليه أنبياءه ورسله وكان المخاطب سبحانه المسئول منه هدايته عالماً به دخلت اللام عليه فقال: (اهدنا الصراط المستقيم) وقال السهيلي: إن قوله تعالى (ويهديك صراطا مستقيما) نزلت في صلح الحديبية وكان المسلمون قد كرهوا ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه وكان الله تعالى عما يقولون ورسوله أعلم فأنزل الله على رسوله هذه الآية فلم يرد صراطا مستقيما في الدين وإنما أراد صراطا في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تبارك وتعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم أي تهدي من الكفر والضلال إلى صراط مستقيم؛ ولو قال في هذا الموطن إلى الصراط المستقيم لجعل للكفر وللضلال حظاً من الاستقامة إذ الألف واللام تنبيء أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصلة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر أو ما قرب به في الوهم ولا يكون أحق به إلا أن يكون في الآخر طرف منه.
وغير خاف ما في هذين الجوابين من الضعف والوهن.
أما قوله أن المراد بقوله ويهديك صراطاً مستقيماً في الحرب والمكيدة فهضم لهذا الفضل العظيم والحظ الجزيل الذي امتن الله به على رسوله [صلى الله عليه وسلم] وأخبر النبي أن هذه الآية أحب إليه من الدنيا وما فيها ومتى سمى الله الحرب والمكيدة صراطاً مستقيماً.(1/41)
وهل فسر هذه الآية أحد من السلف أو الخلف بذلك بل الصراط المستقيم ما جعله الله عليه من الهدى ودين الحق الذي أمره أن يخبر بأن الله تعالى هداه إليه في قوله (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) ثم فسره بقوله تعالى (ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) [الأنعام 161] ونصب ديناً هنا على البدل من الجار والمجرور، أي هداني ديناً قيماً، أفَتراه يمكنه ههنا أن يقول: إن [المراد] الحرب والمكيدة؟! فهذا جواب فاسد جداً.
وتأمل ما جمع الله سبحانه لرسوله في آية الفتح من أنواع العطايا وذلك خمسة أشياء:
أحدها: الفتح المبين.
والثاني: مغفرة ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
والثالث: هدايته الصراط المستقيم.
والرابع: إتمام نعمته عليه.
والخامس: إعطاء النصر العزيز.
وجمع سبحانه له بين الهدى والنصر لأن هذين الأصلين بهما كمال السعادة والفلاح فإن الهدى هو العلم بالله تعالى ودينه والعمل بمرضاته وطاعته فهو العلم النافع والعمل الصالح والنصر والقدرة التامة على تنفيذ دينه؛ فالحجة والبيان والسيف والسنان؛ فهو النصر بالحجة واليد وقهر القلوب المخالفين له بالحجة وقهر أبدانهم باليد.
وهو سبحانه كثيراً ما يجمع بين هذين الأصلين(1) إذ بهما تمام الدعوة وظهور دينه على الدين كله كقوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) [التوبة 33] في موضعين في سورة براءة وفي سورة الصف؛ وقال تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) [الحديد 25] فهذا الهدى ثم قال: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) فهذا النصر فذكر الكتاب الهادي والحديد الناصر.
__________
(1) موضوع الجمع أو القرن بين أصلين متناسبين أو متكاملين أو متفرعين عن اصل واحد أو مؤدين إلى أمر واحد متكررة في القرآن العظيم كثيراً؛ وقد عني ببيان طائفة من أفرادها الإمام ابن القيم في كتبه وهي تستحق أن تفرد في مصنف مختص بها.(1/42)
وقال تعالى: (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) [آل عمران 1-4] فذكر إنزال الكتاب الهادي والفرقان وهو النصر الذي يفرق بين الحق والباطل.
وسر اقتران النصر بالهدى أن كلاً منهما يحصل به الفرقان بين الحق والباطل؛ ولهذا سمى تعالى ما ينصر به عباده المؤمنين فرقاناً كما قال تعالى: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يون التقى الجمعان) [الأنفال 41] فذكر الأصلين ما أنزله على رسوله يوم الفرقان وهو يوم بدر وهو اليوم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل بنصر رسوله ودينه وإذلال أعدائه وخزيهم.
ومن هذا قوله تعالى (ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين) [الأنبياء 48] فالفرقان نصره له على فرعون وقومه، والضياء والذكر التوراة؛ هذا هو معنى الآية ولم يصب من قال: إن الواو زائدة وإن ضياء منصوب على الحال كما بينا فساده في (الأمالي المكية)؛ فبين أن آية الفتح تضمنت الأصلين الهدى والنصر وأنه لا يصح فيها غير ذلك البتة.
وأما جوابه الثاني عن قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) بأنه لو عرف لجعل للكفر والضلال حظاً من الاستقامة فما أدري من أين جاء له هذا الفهم مع ذهنه الثاقب وفهمه البديع رحمه الله تعالى؟! وما هي إلا كبوة جواد ونبوة صارم، أفترى قوله تعالى (وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصراط المستقيم) [الصافات 117-118] يفهم منه أن لغيره حظاً من الاستقامة وما ثم غيره إلا طرق الضلال؛ وإنما الصراط المستقيم واحد وهو ما هدى الله تعالى إليه أنبياءه ورسله أجمعين وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم.(1/43)
وكذلك تعريفه في سورة الفاتحة هل يقال أنه يفهم منه أن لغيره حظاً من الاستقامة بل يقال تعريفه ينبيء أن لا يكون لغيره حظ من الاستقامة فإن التعريف في قوة الحصر فكأنه قيل الذي لا صراط مستقيم سواه وفهم هذا الاختصاص من اللفظ أقوى من فهم المشاركة فتأمله هنا وفي نظائره).
الفصل الحادي والعشرون
أبلغية (اهدنا الصراط المستقيم) هنا على (اهدنا إلى الصراط المستقيم)
ذكر ابن القيم مسألة هي (لم قال اهدنا الصراط المستقيم، فعدى الفعل بنفسه ولم يعده بإلى كما قال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وقال تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) [الأنعام 87]؟ ثم أجاب عليها في (بدائع الفوائد 2/258-259) فقال:
(جوابها أن فعل الهداية يتعدى بنفسه تارة وبحرف إلى تارة وباللام تارة والثلاثة في القرآن.
فمن المعدى بنفسه هذه الآية، وقوله (ويهديك صراطاً مستقيماً).
ومن المعدى بـ(إلى) قوله (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)، وقوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم).
ومن المعدى باللام قوله في قول أهل الجنة (الحمد لله الذي هدانا لهذا) [الأعراف 43]؛ وقوله تعالى (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) [الإسراء 9].
والفروق لهذه المواضع تدق جداً عن أفهام العلماء، ولكن نذكر قاعدة تشير إلى الفرق وهي أن الفعل المعدى بالحروف المتعددة لا بد أن لا يكون له مع كل حرف معنى زائد على معنى الحرف الآخر، وهذا بحسب اختلاف معاني الحروف.
فإن ظهر اختلاف الحرفين ظهر الفرق، نحو رغبت عنه ورغبت فيه؛ وعدلت إليه وعدلت عنه؛ وملت إليه و[ملت] عنه؛ وسعيت إليه وسعيت به.
وأن تفاوت معنى الأدوات عسر الفرق، نحو قصدت إليه وقصدت له؛ وهديته إلى كذا وهديته لكذا؛ وظاهرية النحاة يجعلون أحد الحرفين بمعنى الآخر.(1/44)
وأما فقهاء أهل العربية فلا يرتضون هذه الطريقة بل يجعلون للفعل معنى مع الحرف ومعنى مع غيره فينظرون إلى الحرف وما يستدعي من الأفعال فيشربون الفعل المتعدى به معناه.
هذه طريقة إمام الصناعة سيبويه رحمه الله تعالى وطريقة حذاق أصحابه يضمنون الفعل معنى الفعل لا يقيمون الحرف مقام الحرف؛ وهذه قاعدة شريفة جليلة المقدار تستدعي فطنة ولطافة في الذهن.
وهذا نحو قوله تعالى (عيناً يشرب بها عباد الله) [الإنسان 6] فإنهم يضمنون يشرب معنى يروي فيعدونه بالباء التي تطلبها، فيكون في ذلك دليل على الفعلين؛ أحدهما بالتصريح به والثاني بالتضمن والإشارة إليه بالحرف الذي يقتضيه مع غاية الإختصار؛ وهذا من بديع اللغة ومحاسنها وكمالها.
ومنه قوله في السحاب: شربن بماء البحر حتى روين، ثم ترفعن وصعدن.
وهذا أحسن من أن يقال: يشرب منها، فإنه لا دلالة فيه على الري، وأن يقال: يروى بها، لأنه لا يدل على الشرب بصريحه، بل باللزوم، فإذا قال: يشرب بها دل على الشرب بصريحه وعلى الري بخلاف الباء(1) فتأمله.
ومن هذا قوله تعالى (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه) [الحج 25]، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضمن معنى يهمّ فيه بكذا، وهو أبلغ من الإرادة، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة.
وهذا باب واسع لو تتبعناه لطال الكلام فيه؛ ويكفي المثالان المذكوران.
فإذا عرفت هذا ففعل الهداية متى عدي بإلى تضمن الإيصال إلى الغاية المطلوبة فأتى بحرف الغاية ومتى عدي باللام تضمن التخصيص بالشيء المطلوب فأتى باللام الدالة على الاختصاص والتعيين؛ فإذا قلت هديته لكذا فهم معنى ذكرته له وجعلته له وهيأته ونحو هذا؛ وإذا تعدى بنفسه تضمن المعنى الجامع لذلك كله وهو التعر[يـ]ـف والبيان والإلهام.
__________
(1) لعل صواب العبارة (بحرف الباء).(1/45)
فالقائل إذا قال اهدنا الصراط المسقيم هو طالب من الله أن يعرفه إياه ويبينه له ويلهمه إياه ويقدره عليه فيجعل في قلبه علمه وإرادته والقدرة عليه فجرد الفعل من الحرف وأتى به مجرداً معدى بنفسه ليتضمن هذه المراتب كلها.
ولو عدي بحرف تعين معناه وتخصص بحسب معنى الحرف فتأمله فإنه من دقائق اللغة وأسرارها).
الفصل الثاني والعشرون
في معنى إعادة كلمة (إياك)
قال تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) ولم تكن الآية (إياك نعبد ونستعين) وهذه أخصر ولذلك معنى عظيم فإن في إعادة إياك مرة أخرى دلالة على تعلق هذه الأمور بكل واحد من الفعلين ففي إعادة الضمير من قوة الإقتضاء لذلك ما ليس في حذفه فإذا قلت لملك مثلاً: إياك أحب وإياك أخاف كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والإهتمام بذكره ما ليس في قولك إياك أحب وأخاف.
الفصل الثالث والعشرون
في بيان من هم الذين أنعم الله عليهم؟
فسر المنعم عليهم بأقوال أولاها: الأنبياء ومن ذكر معهم في قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيمًا).
وقال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/259-260) بياناً لجواب سؤال مفاده: (إن قوله تعالى (الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم) يقتضي أن نعمته مختصة بالأولين دون المغضوب عليهم ولا الضالين؛ وهذا حجة لمن ذهب إلى أنه لا نعمة له على كافر فهل هذا استدلال صحيح أم لا؟):
(هذه مسألة اختلف الناس فيها وطال الحجاج من الطرفين وهي أنه هل لله على الكافر نعمة أم لا؟(1/46)
فمن ناف محتج بهذه وبقوله (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) [النساء 69] فخص هؤلاء بالإنعام فدل على أن غيرهم غير منعم عليه؛ وبقوله لعباده المؤمنين (ولأتم نعمتي عليكم) [البقرة 150] وبأن الإنعام ينافي الانتقام والعقوبة، فأي نعمة على من خلق للعذاب الأبدي؟
ومن مثبت محتج بقوله (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) [إبراهيم 34] وقوله لليهود (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) [البقرة 40] وهذا خطاب لهم في حال كفرهم وبقوله في سورة النحل التي عدد فيها نعمه المشتركة على عباده من أولها إلى قوله (كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون) [النحل 81-83]؛ وهذا نص صريح لا يحتمل صرفاً واحتجوا بأن البر والفاجر والمؤمن والكافر كلهم يعيش في نعمة الله، وكل أحد مقر لله تعالى بأنه إنما يعيش في نعمته؛ وهذا معلوم بالاضطرار عند جميع أصناف بني آدم إلا من كابر وجحد حق الله تعالى وكفر بنعمته.
وفصل الخطاب في المسألة: أن النعمة المطلقة مختصة بأهل الإيمان لا يشركهم فيها سواهم.
ومطلق النعمة عام للخليقة كلهم برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم.
فالنعمة المطلقة التامة هي المتصلة بسعادة الأبد وبالنعيم المقيم، فهذه غير مشتركة.
ومطلق النعمة عام مشترك.
فإذا أراد النافي سلب النعمة المطلقة [عن الكافر أصاب](1)؛ وإن أراد [المثبت] إثبات مطلق النعمة أصاب.
وبهذا تتفق الأدلة ويزول النزاع؛ ويتبين أن كل واحد من الفريقين معه خطأ وصواب؛ والله الموفق للصواب.
__________
(1) ما بين الحاصرتين كان في الأصل (للكافر أخطأ) وأصلحتها بما يقتضيه السياق، ويصح أيضاً إبقاء العبارة على ما هي عليه بعد إبدال (النعمة المطلقة) بـ(مطلق النعمة).(1/47)
وأما قوله تعالى (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) فإنما يذكرهم بنعمته على آبائهم ولهذا يعددها واحدة واحدة بأن أنجاهم من آل فرعون وأن فرق بهم البحر وأن وعد موسى أربعين ليلة فضلوا بعده ثم تاب عليهم وعفا عنهم وبأن ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى؛ إلى غير ذلك من نعمه التي يعددها عليهم.
وإنما كانت لأسلافهم وآبائهم فأمرهم أن يذكروها ليدْعوهم ذكرهم لها إلى طاعته والإيمان برسله والتحذير من عقوبته بما عاقب به من لم يؤمن برسوله ولم ينقد لدينه وطاعته وكانت نعمته على آبائهم نعمة منه عليهم تستدعي منهم شكراً فكيف تجعلون مكان الشكر عليها كفركم برسولي وتكذيبكم له ومعاداتكم إياه؛ وهذا لا يدل على أن نعمته المطلقة التامة حاصلة لهم في حال كفرهم والله أعلم).
الفصل الرابع والعشرون
في بيان بعض فوائد ذكر المنعم عليهم
لما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه، مريداً لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية العزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرق وعلة الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم الذين أنعم الله عليهم---) ليعلم الطالب للهداية وسلوك الصراط أن رفيقه فيه أولئك الناس فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه فإنهم هم الأقلون قدراً وإن كانوا الأكثرين عدداً.
وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت (اللهم اهدني فيمن هديت) أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقاً لهم ومعهم.(1/48)
لما كان طالب الصراط المستقيم طالب أمر أكثر الناس ناكبون عنه مريداً لسلوك طريق مرافقه فيها في غاية القلة والعزة والنفوس مجبولة على وحشة التفرد وعلى الأنس بالرفيق نبه الله سبحانه على الرفيق في هذه الطريق وأنهم هم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فأضاف الصراط إلى الرفيق السالكين له وهم الذين أنهم الله عليهم ليزول عن الطالب للهداية وسلوك الصراط وحشة تفرده عن أهل زمانه وبنى جنسه وليعلم أن رفيقه في هذا الصراط هم الذين أنعم الله عليهم فلا يكترث بمخالفة الناكبين عنه له فإنهم هم الأقلون قدراً وإن كانوا الأكثرين عدداً كما قال بعض السلف عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين وكلما استوحشت في تفردك فانظر إلى الرفيق السابق واحرص على اللحاق بهم وغض الطرف عمن سواهم فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإذا صاحوا بك في طريق سيرك فلا تلتفت إليهم فإنك متى التفت إليهم أخذوك وعاقوك؛ قال ابن القيم:
(وقد ضربت لذلك مثلين فليكونا منك على بال:
المثل الأول رجل خرج من بيته إلى الصلاة لا يريد غيرها فعرض له في طريقه شيطان من شياطين الإنس فألقى عليه كلاما يؤذيه فوقف ورد عليه وتماسكا فربما كان شيطان الإنس أقوى منه فقهره ومنعه عن الوصول إلى المسجد حتى فاتته الصلاة وربما كان الرجل أقوى من شيطان الإنس ولكن اشتغل بمهاوشته عن الصف الأول وكمال إدراك الجماعة فإن التفت إليه أطمعه في نفسه وربما فترت عزيمته فإن كان له معرفة وعلم زاد في السعي والجمز بقدر التفاته أو أكثر فإن أعرض عنه واشتغل بما هو بصدده وخاف فوت الصلاة أو الوقت لم يبلغ عدوه منه ما شاء.
المثل الثاني: الظبي أشد سعياً من الكلب ولكنه إذا أحس به التفت إليه فيضعف سعيه فيدركه الكلب فيأخذه.(1/49)
والقصد أن في ذكر هذا الرفيق ما يزيل وحشة التفرد ويحث على السير والتشمير للحاق بهم؛ وهذه إحدى الفوائد في دعاء القنوت اللهم اهدني فيمن هديت أي أدخلني في هذه الزمرة واجعلني رفيقا لهم ومعهم.
والفائدة الثانية: أنه توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية أي قد أنعمت بالهداية على من هديت وكان ذلك نعمة منك فاجعل لي نصيبا من هذه النعمة واجعلني واحدا من هؤلاء المنعم عليهم فهو توسل إلى الله بإحسانه.
والفائدة الثالثة: كما يقول السائل للكريم: تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم وعلمني في جملة من علمته وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
(الذين أنعمت عليهم) تهيج البحث عن المشهود لهم بالإنعام ليتم التعرف عليهم والسير على سبيلهم والتعاون معهم إن أمكن (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). وقد بينهم الله تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين---).
وفيها استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك؛ فمن إنعامك إجابة سؤالنا. ومن عادة المساكين أن يتوسلوا بقولهم (أعطنا كما أعطيت فلاناً وفلاناً) فههنا توسل إلى الله بنعمه وإحسانه إلى من أنعم عليهم بالهداية كما يقول السائل للكريم: تصدق علي في جملة من تصدقت عليهم وعلمني في جملة من علمته، وأحسن إلي في جملة من شملته بإحسانك.
وفيها الحب في الله والبغض في الله.
وفيها تأنيس ودفع للغربة.
الفصل الخامس والعشرون
من هم المغضوب عليهم ومن هم الضالون؟
وما هو سبب تسميتهم بذلك؟(1/50)
المغضوب عليهم اليهود لأنهم كفروا عن علم وعناد؛ والنصارى ضالون أي كفروا جهلاً؛ قال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/265-269) في بيان وجه التقسيم والاختصاص الوارد في الحديث الذي رواه الترمذي والإمام أحمد وابن أبي حاتم في تفسير المغضوب عليهم بأنهم اليهود والنصارى بأنهم الضالون؛ وكل من الطائفتين ضال مغضوب عليه؟! فإن وصفي الغصب والضلال متلازمان؟
(الجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال، وكل ضال مغضوب عليه، لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها، وأن ذلك هو الوصف الغالب عليها؛ وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال؛ فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع.
أما اليهود فقال تعالى في حقهم: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين) [البقرة 90].
وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال:
أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم والبغي عليه ومحاربته فاستحقوا بكفرهم غضباً وبالبغي والصد عنه غضباً آخر.
ونظيره قوله تعالى (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب) فالعذاب الأول بكفرهم والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله.
القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء؛ والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح.
القول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.(1/51)
والصحيح في الآية أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد بل المراد غضب بعد غضب بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد ومعاداتهم لرسل الله إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضباً على حدته؛ وهذا كما في قوله (فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين) [الملك 3-4] أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط.
وقصد التعدد في قوله (فباءوا بغضب على غضب) أظهر، ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضباً وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضباً آخر، وقتلهم إياهم يستدعي غضباً آخر، وتكذبيهم المسيح وطلبهم قتله ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضباً وتكذبيهم النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي غضباً؛ ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضباً؛ وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضباً فهم الأمة الغضبية أعاذنا الله من غضبه فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى.
وقال تعالى في شأنهم: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت) [المائدة 60] فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ؛ وهو أشد ما يكون من الغضب؛ وقال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون) [المائدة 78-80].(1/52)
وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل) [المائدة 77] فهذا خطاب للنصارى لأنه في سياق خطابه معهم بقوله (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) إلى قوله (وضلوا عن سواء السبيل) [المائدة 72-77] فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولاً ثم أضلوا كثيراً وهم أتباعهم فهذا قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم فلما بعث النبي ازدادوا ضلالا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به فتضاعف الضلال في حقهم؛ هذا قول طائفة منهم الزمخشري وغيره وهو ضعيف؛ فإن هذا كله وصف لأسلافهم الذين هم لهم تبع فوصفهم بثلاث صفات:
إحداها: أنهم قد ضلوا من قبلهم.
والثانية: أضلوا أتباعهم.
والثالثة: أنهم ضلوا عن سواء السبيل.
فهذه صفات لأسلافهم الذين نهي هؤلاء عن اتباع أهوائهم؛ فلا يصح أن يكون وصفاً للموجودين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم هم المنهيون أنفسهم لا المنهي عنهم؛ فتأمله.
وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالاً بعد ضلال لفرط جهلهم بالحق وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالاً فيه فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده ويعبد من لا ينبغي أن يعبده وقد يصيب مقصوداً حقاً لكن يضل في طريق طلبة والسبيل الموصلة إليه.
فالأول ضلال في الغاية.
والثاني ضلال في الوسيلة.
ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله.(1/53)
وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه وزعموا أن إلههم بشر يأكل ويشرب ويبكي وأنه قتل وصلب وصفع فهذا ضلال في نفس المقصود حيث لم يظفروا به وضلوا عن السبيل الموصلة إليه فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه وأضلوا كثيراً فكانوا أدخل في الضلال من اليهود فوصفوا بأخص الوصفين.
والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام [لعلها به الإسلام] فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق، فإنهم كانوا يعرفون أن محمداً رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء؛ ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق.
فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة؛ ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها.
فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غير عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالاً محضاً؛ وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوباً عليهم ضالين.
ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق والبغي يمنعه من إرادته: كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى كل وقت أن يهديه الصراط المستقيم تعريفاً وبياناً وإرشاداً وإلهاماً وتوفيقاً وإعانة؛ فيعلمه ويعرفه ثم يجعله مريداً له قاصداً لاتباعه فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم الذين عدلوا عنه على عمد وعلم والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال.(1/54)
كان السلف يقولون: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى؛ وهذا كما قالوا: فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود من تحريف الكلم عن مواضعه وكتمان ما أنزل الله إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم وتلبيس الحق بالباطل فهذا شبهه باليهود ظاهر.
وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه لا بما بعث به رسوله وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الإتحاد فشبهه بالنصارى ظاهر.
فعلى المسلم أن يبعد من هذين الشبهين غاية البعد؛ ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس، لأن غاية ما يقدَّر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد؛ فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب).
الفصل السادس والعشرون
في بيان خصائص الطوائف الثلاث
كل من الطوائف الثلاث صفتها ثابتة لها حال وجودها على هذه الأرض وقبل ذلك وبعده.
الفصل السابع والعشرون
في بيان معنى الدعاء بصيغة الجمع (اهدنا)
(اهدنا) فيه سؤال الهداية للجميع وفيه إشارة إلى حرص المؤمن على الدعوة؛ وقال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/275) في إجابته عن سؤال هو (ما فائدة الإتيان بضمير الجمع في اهدنا والداعي يسأل ربه لنفسه في الصلاة وخارجها ولا يليق به ضمير الجمع ولهذا يقول رب اغفر لي وارحمني وتب علي):(1/55)
(فقد قال بعض الناس في جوابه إن كل عضو من أعضاء العبد وكل حاسة ظاهرة وباطنة مفتقرة إلى هداية خاصة به فأتى بصيغة الجمع تنزيلا لكل عضو من أعضائه منزلة المسترشد الطالب لهداه وعرضت هذا الجواب على شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه فاستضعفه جداً؛ وهو كما قال فإن الإنسان اسم للجملة لا لكل جزء من أجزائه وعضو من أعضائه والقائل إذا قال اغفر لي وارحمني واجبرني وأصلحني واهدني سائل من الله ما يحصل لجملته ظاهره وباطنه فلا يحتاج أن يستشعر لكل عضو مسألة تخصه يفرد لها لفظه.
فالصواب أن يقال: هذا مطابق لقوله (إياك نعبد وإياك نستعين)؛ والإتيان بضمير الجمع في الموضعين أحسن وأفخم فإن المقام مقام عبودية وافتقار إلى الرب تعالى وإقرار بالفاقة إلى عبوديته واستعانته وهدايته فأتى به بصيغة ضمير الجمع أي نحن معاشر عبيدك مقرون لك بالعبودية.
وهذا كما يقول العبد للملك المعظم شأنه نحن عبيدك ومماليكك وتحت طاعتك ولا نخالف أمرك فيكون هذا أحسن وأعظم موقعا عند الملك من أن يقول: أنا عبدك ومملوكك ولهذا لو قال: أنا وحدي مملوكك استدعى مقته؛ فإذا قال: أنا وكل من في البلد مماليكك وعبيدك وجند لك كان أعظم وأفخم لأن ذلك يتضمن أن عبيدك كثير جدا وأنا واحد منهم وكلنا مشتركون في عبوديتك والاستعانة بك وطلب الهداية منك فقد تضمن ذلك من الثناء على الرب بسعة مجده وكثرة عبيده وكثرة سائليه الهداية ما لا يتضمنه لفظ الإفراد فتأمله.
وإذا تأملت أدعية القرآن رأيت عامتها على هذا النمط نحو ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ونحو دعاء آخر البقرة وآخر آل عمران وأولها وهو أكثر أدعية القرآن الكريم).
الفصل الثامن والعشرون
في بيان معنى الجمع في كلمة (نعبد) والفرق بينها وبين (أعبد) في هذا المقام(1/56)
الفاعل في (نعبد) هو ضمير جماعة المتكلمين والقارئ واحد؛ وقد تقدم في الفصل السابق بعض ما يدخل في هذا الفصل؛ وهنا ألخص ما تقدم وأضيف إليه ما يتممه؛ فالحاصل أن في ذلك أنواع من البلاغة:
الأول: أن المراد: أعبدك أنا ومن يعبدك من أخوتي المؤمنين ممن تقدمت عبادته أو ستأتي؛ ففيه مزيد من التعظيم لله.
الثاني: في هذا التعبير تواضع من العبد وذل واعتراف بالتقصير؛ فهو يرى أنه ليس أهلاً لعبادة الله ويرى عبادته قاصرة ضعيفة فيتكثر بعبادة إخوته من المؤمنين.
الثالث: يشير هذا التعبير إلى أن العبد عابد لله تعالى على طريقة غيره من أهل العبادة المرضية؛ فهو لا يشذ عنهم بما لا يجوز ولا يتفرد بما لا يقبل من عبادة مبتدعة ونحوها.
الرابع: يحتمل - ولكن على بعد - أن يكون في هذا التعبير شيء من التعظيم للنفس، ولكنه تعظيم مقصود منضبط، يراد به تعظيم شأن العبادة ومن ثم تعظيم الله تبارك وتعالى؛ فكأن العبد يقول: أنا مع اعتدادي بنفسي وعدم ذلي لأحد وعدم خضوعي لغيري من الناس ولكني ذليل بين يدك ضعيف أمام قدرتك أخلص لك العبادة وأستعين بك فيها وفي كل شؤوني.
وهذا جمع بخلاف (وأشهد أن لا إله إلا الله) في الشهادتين والتشهد وخطبة الحاجة وغيرهما؛ فإن العبد لا يشهد في هذه الأمور الخطيرة إلا عن نفسه.
الفصل التاسع والعشرون
في بيان معنى الالتفات الواقع في نظم الفاتحة
وقع في الفاتحة التفات من صيغة الغيبة إلى صيغة الخطاب وذلك عند قوله تعالى (إياك نعبد)؛ فقوله تعالى (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) أسلوبها الغَيبة، و (إياك نعبد) إلى آخر السورة أسلوبها الخطاب؛ فالغيبة للتعظيم والذل والجهل؛ والخطاب للخوف واللجأ والحب؛ وللالتفات هنا معنيان:(1/57)
الأول: أن القارئ أو السامع لما ذكر عظمة الله تعالى فذكر أنه مستحق للحمد كله وأنه رب العالمين وأنه رحمن رحيم وأنه مالك أعظم وأخطر يوم وهو يوم الدين فعندئذ يفترض أن يقوم في قلبه من حب الله وخوفه ورجائه وتعظيمه والذل له ونحو ذلك من معاني العبادة قدر لا يثبت أن يلجأ إلى الله مباشرة فيخاطبه مخاطبة من كأنه يراه فيقول مقراً له بتلك المعاني المعبر عن مجموعها بالعبادة: (إياك نعبد) ثم يتم أسئلته من الله تبارك وتعالى على نفس الصيغة.
الثاني: أن القارئ كأنه لم يكن على تمام التهيؤ والاستحقاق لمخاطبة الله تبارك وتعالى فيخبر عنه ويثني عليه بصيغة الغيبة فكأنه عنده مع الانشغال بذكر الله نوع انشغال بتصور إجمالي للعالمين وللحمد ولغير ذلك؛ ولكن بعد ذلك الحمد والتمجيد والثناء صار العبد أهلاً لمخاطبة الله تبارك وتعالى فكأن الله تعالى أقبل عليه فخاطبه؛ والله أعلم.
الفصل الثلاثون
الأدب في الدعاء والحكمة والبلاغة فيه
ورد في الفاتحة سؤال الهداية بطريقة الإجمال، وذلك من جهتين: من جهة إحالة المعنى إلى معنى الصراط المستقيم، ومن جهة عدم تفسير الصراط بأكثر من كونه صراط الذين أنعم الله عليهم؛ وفي هذا الأسلوب أدب عظيم.
فقد فوض أمر تفاصيل الصراط إلى الله لأنه به أعلم وهو من باب التأدب مع الله.
لما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب ونيله أشرف المواهب علم الله عباده كيفية سؤاله وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم توسل إليه بأسمائه وصفاته وتوسل إليه بعبوديته وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء ويؤيدهما الوسيلتان المذكورتان في حديثي الاسم الأعظم اللذين رواهما ابن حبان في صحيحه والإمام أحمد والترمذي:(1/58)
أحدهما: حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو ويقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى قال: الترمذي حديث صحيح ؛ فهذا توسل إلى الله بتوحيده وشهادة الداعي له بالوحدانية وثبوت صفاته المدلول عليها باسم الصمد وهو كما قال ابن عباس: العالم الذي كمل علمه القادر الذي كملت قدرته وفي رواية عنه هو السيد الذي قد كمل فيه جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل : هو السيد الذي انتهى سؤدده ؛ وقال سعيد بن جبير: هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وأقواله وبنفي التشبيه والتمثيل عنه بقوله ولم يكن له كفوا أحد وهذه ترجمة عقيدة أهل السنة والتوسل بالإيمان بذلك والشهادة به هو الاسم الأعظم.
والثاني: حديث أنس أن رسول الله سمع رجلا يدعو اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم فقال لقد سأل الله باسمه الأعظم فهذا توسل إليه بأسمائه وصفاته.
وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة.(1/59)
ونظير هذا دعاء النبي الذي كان يدعو به إذا قام يصلي من الليل رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق والساعة حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت أنت إلهي لا إله إلا أنت فذكر التوسل إليه بحمده والثناء عليه وبعبوديته له ثم سأله المغفرة.
طلب الهداية ثم طلب الدرجات العالية منها ولكن بأدب وبطريقة الاجمال ومن غير اعتداء في الدعاء فلم يقل مثلاً: اهدنا كهداية النبيين.
لم يطلبوا النعمة ابتداء وإنما طلبوا الاستقامة، ولكنهم عرضوا بالنعمة تعريضاً، فلم يقولوا أنعم علينا ولا قالوا: صراط الذين هديتهم، وفيه أيضاً إشارة إلى أن الهداية من الإنعام بل هي أكبره بل لا يكاد غيرها يذكر معها وهذا من أكمل الأدب ومن أدلة المعرفة العالية بالله تبارك وتعالى.
الفصل الحادي والثلاثون
هل سؤال الهداية من باب تحصيل الحاصل؟
دعاء المسلم في الفاتحة بقوله (اهدنا) ليس تحصيل حاصل؛ وأيضاً ليس معناها أن المرء لا يدري هل هو مهتد أو لا؟ ولكن هو طلب استمرار الهداية الحاصلة كالتوحيد وسؤال الهداية عند كل مسألة تحدث صغيرة أو كبيرة متعلقة باللسان أو بالقلب أو بالجوارح؛ وقد يشعر هذا أن الأصل السائر في الناس الضلال واشتباه الطرق عليهم في كل مسألة؛ ولهذا يسأل المرء ربه الهداية؛ ثم إن كل هداية فثم هداية أقوم منها وأكمل؛ ولا ينافي ما تقدم أن الأصل الأول في الناس الفطرة.(1/60)
كل مؤمن مأمور بهذا الدعاء أمراً لازماً لا يقوم غيره مقامه ولا بد منه؛ وهذا إنما نسأله في الصلاة بعد هدايته فما وجه السؤال لأمر حاصل وكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ أي كيف يطلب التعريف والبيان وهو حاصل له وكذلك الإلهام والتوفيق؟
أجاب ابن القيم على هذا السؤال في (بدائع الفوائد 2/274-275) فقال:
(قلنا لقد أجيب عنها بأن المراد التثبيت ودوام الهداية واعلم أن العبد لا يحصل له الهدى التام المطلوب إلا بعد سبعة أمور هو محتاج إليها حاجة لا غنى له عنها.
الأمر الأول: معرفته في جميع ما يأتيه ويذره بكونه محبوبا للرب تعالى مرضيا له فيؤثره وكونه مغضوبا له مسخوطا عليه فيجتنبه فإن نقص من هذا العلم والمعرفة شيء نقص من الهداية التامة بحسبه.
الأمر الثاني: أن يكون مريد الجميع ما يحب الله منه أن يفعله عازما عليه ومريدا لترك جميع ما نهى الله عازما على تركه بعد خطوره بالبال مفصلا وعازما على تركه من حيث الجملة مجملا فإن نقص من إرادته لذلك شيء نقص من الهدى التام بحسب ما نقص من الإرادة.
الأمر الثالث: أن يكون قائما به فعلا وتركا فإن نقص من فعله شيء نقص من هداه بحسبه.
فهذه ثلاثة هي أصول في الهداية ويتبعها ثلاثة هي من تمامها وكمالها:
أحدها: أمور هدي إليها جملة ولم يهتد إلى تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل فيها.
الثاني: أمرو هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها لتكمل له هدايتها.
الثالث: الأمور التي هدي إليها تفصيلاً من جميع وجوهها فهو محتاج إلى الاستمرار إلى [لعلها على] الهداية والدوام عليها فهذه أصول تتعلق بما يعزم على فعله وتركه.(1/61)
الأمر السابع(1): يتعلق بالماضي وهو أمور وقعت منه على غير جهة الاستقامة فهو محتاج إلى تداركها بالتوبة منها وتبديلها بغيرها وإذا كان كذلك فإنما يقال: كيف يسأل الهداية وهي موجودة له ثم يجاب عن ذلك بأن المراد التثبيت والدوام عليها.
إذا كانت هذه المراتب حاصلة له بالفعل فحينئذ يكون سؤاله الهداية سؤال تثبيت ودوام فأما إذا كان ما يجهله أضعاف ما يعلمه، وما لا يريده من رشده أكثر مما يريده، ولا سبيل له إلى فعله إلا بأن يخلق الله فاعلية فيه فالمسئول هو أصل الهداية على الدوام تعليماً وتوفيقاً وخلقاً للإرادة فيه وإقداراً له وخلقاً للفاعلية وتثبيتاً له على ذلك؛ فعلم أنه ليس أعظم ضرورة منه إلى سؤال الهداية أصلها وتفصيلها علماً وعملاً، والتثبيت عليها والدوام إلى الممات.
وسر ذلك أن العبد مفتقر إلى الهداية في كل نفس في جميع ما يأتيه ويذره أصلاً وتفصيلاً وتثبيتاً ومفتقر إلى مزيد العلم بالهدى على الدوام فليس له أنفع ولا هو إلى شيء أحوج من سؤال الهداية فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم وأن يثبت قلوبنا على دينه).
الفصل الثاني والثلاثون
دلالات العبارات ومقتضياتها ولوازمها وإشاراتها
ثبوت صفة الرحمة يقتضي ثبوت صفة العدل والعلم.
***
(اهدنا) في فاتحة الكتاب دليل على أن الكتاب كتاب هداية؛ وهو يهدي للتي هي أقوم لاكتمال دعوته وتناسبها وكمال علم الله.
***
(غير ----) فيه استعاذة من أمراض الشهوات وهي الناشئة عن فساد القصد والإرادة ومن أمراض الشبهات وهي الناشئة عن فساد العلم والارادة؛ وفيه براءة من الكفار وبغض لهم في الله.
***
الاستعاذة من صراط المغضوب عليهم استعاذة من الغضب والاستعاذة من صراط الضالين استعاذة من أسباب الضلال.
***
(رب العالمين) تقتضي الحمد والشكر والخوف والرجاء والإيمان بالقدر والنبوات واليوم الآخر.
***
__________
(1) أي سابع الأمور الستة المتقدمة؛ أعني الثلاثة الأصول والثلاثة المتممة.(1/62)
في قوله تعالى (رب العالمين) تأكيد لاستحقاقه كل الحمد من جهة، فكل خير ونعمة في العالمين فمن عنده؛ وكل خلق وإبداع فهو راجع إليه؛ وفيه تأكيد لانفراده بالحمد من جهة أخرى؛ فلا يحمد على الحقيقة مربوب أي مخلوق يدبره خالقه؛ وإن حمد أحياناً فهو على المجاز من جهة وهو حمد مقيد يناسب المخلوق من جهة أخرى؛ قال تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله)؛ ثم إنه لا ينبغي أن يحمد عند التحقيق إلا من حمده الله أي رضي عنه الله وكان مطيعاً لله حامداً له.
الفصل الثالث والثلاثون
الإطلاق في السورة
لم يقيد الإنعام ليعم جميع المنعم به على سبيل البدل؛ وليكون التوسل بنعم عظيمة مستمرة. وكذلك لأن النعم لا تحصى (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار).
وكذلك وقع الإطلاق في كلمة (رب) والتربية شاملة للتربية الدينية والدنيوية.
الفصل الرابع والثلاثون
الاسمية والفعلية في السورة
الأسماء تفيد الدوام والشمول: الحمد، الرب، الرحمن، الرحيم، مالك، أنعمت، المغضوب عليهم، الضالين.
الأفعال تفيد التأثر والإقرار والملاحظة وإثبات الأمر وذكر منشئه: نعبد، نستعين، أنعمت، آمين.
الفصل الخامس والثلاثون
في بيان معنىالإسناد أو إضافة النعمة إلى الله تعالى وحذف فاعل الغضب
ولذلك وجوه:(1/63)
منها: أن النعمة هي الخير والفضل، والغضب من باب الانتقام والعدل؛ والرحمة تغلب الغضب فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما؛ وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) [72/10]؛ ومنه قول الخضر في شأن الجدار واليتيمين (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما) [18/ 82]؛ وقال في خرق السفينة: (فأردت أن أعيبها) [18/79]؛ ثم قال بعد ذلك: (وما فعلته عن أمري)؛ وتأمل قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) [2/187] وقوله (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [5/3]؛ وقوله (حرمت عليكم أمهاتكم) [4/23] ؛ثم قال: (وأحل لكم ما رواء ذلكم) [4/24].
وفي تخصيصه لأهل الصراط المستقيم بالنعمة ما دل على أن النعمة المطلقة هي الموجبة للفلاح الدائم؛ وأما مطلق النعمة فعلى المؤمن والكافر؛ فكل الخلق في نعمه؛ وهذا فصل النزاع في مسألة هل لله على الكافر من نعمة أم لا؟ فالنعمة المطلقة لأهل الإيمان؛ ومطلق النعمة تكون للمؤمن والكافر، كما قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) [14/34]؛ والنعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان والرب تعالى إحسانه على البر والفاجر والمؤمن والكافر؛ وأما الإحسان المطلق (فللذين اتقوا والذين هم محسنون).
الوجه الثاني: أن الله سبحانه هو المنفرد بالنعم (وما بكم من نعمة فمن الله) [16/53]، فأضيف إليه ما هو منفرد به وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقاً ومجرى للنعمة، وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه فكان في لفظة (المغضوب عليهم) بموافقة أوليائه له من الدلالة على تفرده بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده هو المنفرد بها ما ليس في لفظة المنعم عليهم.(1/64)
الوجه الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر[ه، وفي ذكر] فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه؛ فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت: هذا الذي أكرمه السلطان وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كان أبلغ في الثناء والتعظيم من قولك هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
نسب الإنعام إلى الله وبنى الغضب لما لم يسم فاعله لأربعة أمور:
الأول: أن الخير ينسب إلى الله والشر لا ينسب إليه تأدباً؛ والشر في مفعولات الله لا في أفعاله؛ بل هذه كلها حق وحكمة؛ وفي الحديث (لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك).
إن الله تبارك وتعالى أقواله كلها صدق ورشد وهدى وعدل وحكمة (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً) [6/115]، وأفعاله كلها مصالح وحكم ورحمة وعدل وخير فالشر لا يدخل في أفعاله ولا أقواله ألبتة لخروج الشر عن الصراط المستقيم فكيف يدخل في أفعال من هو على الصراط المستقيم أو أقواله وإنما يدخل في أفعال من خرج عنه وفي أقواله.(1/65)
وفي دعائه عليه الصلاة والسلام (لبيك وسعديك والخير كله بيديك والشر ليس إليك)؛ ولا يلتفت إلى تفسير من فسره بقوله والشر لا يتقرب به إليك أو لا يصعد إليك؛ فإن المعنى أجل من ذلك وأكبر وأعظم قدراً، فإن من أسماؤه كلها حسنى وأوصافه كلها كمال وأفعاله كلها حكم وأقواله كلها صدق وعدل يستحيل دخول الشر في أسمائه أو أوصافه أو أفعاله أو أقواله؛ فطابق بين هذا المعنى وبين قوله (إن ربي على صراط مستقيم)؛ وتأمل كيف ذكر هذا عقيب قوله (إني توكلت على الله ربي وربكم) [11/56]؛ أي هو ربي فلا يسلمني ولا يضيعني وهو ربكم فلا يسلطكم علي ولا يمكنكم مني؛ فإن نواصيكم بيده لا تفعلون شيئاً بدون مشيئته فإن ناصية كل دابة بيده لا يمكنها أن تتحرك إلا بإذنه فهو المتصرف فيها ومع هذا فهو في تصرفه فيها وتحريكه لها ونفوذ قضائه وقدره فيها على صراط مستقيم لا يفعل ما يفعل من ذلك إلا بحكمة وعدل ومصلحة ولو سلطكم علي فله من الحكمة في ذلك ماله الحمد عليه لأنه تسليط من هو على صراط مستقيم لا يظلم ولا يفعل شيئا عبثا بغير حكمة.
فهكذا تكون المعرفة بالله لا معرفة القدرية المجوسية والقدرية الجبرية نفاة الحكم والمصالح والتعليل والله الموفق سبحانه.
الثاني: أن الإنعام من الله وحده بخلاف الغضب؛ فذكر فاعل النعمة وحذف فاعل الغضب لأن المنعم هو الله وحده فأضيف إليه ما هو متفرد به، وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقاً ومجرى للنعمة؛ وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى؛ فإن ملائكته ورسله وأولياؤه يغضبون لغضبه؛ وحتى بعض مخلوقاته غير المكلفة قد تغضب عليهم أحياناً إذ قد يجعل الله لها فهماً كما في حديث قول الحجر للمسلم يا مسلم ورائي يهودي فاقتله؛ وكذلك النار في الآخرة.(1/66)
الثالث: أن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ورفع قدره ما ليس في حذفه ؛ فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره؛ فقلت: هذا الذي أكرمه الملك وخلع عليه وشرفه وأعطاه كان أعلى في حقه وأظهر لمنزلته من أن تقول: هذا الذي أكرم وخلع عليه وشرف وأعطي.
الرابع: أن من تركه الله وشيطانه فهو ضال؛ وأما الهداية فلا تحصل إلا بفعل الله تبارك وتعالى؛ فأصل النعمة من الله وأصل الضلال هم سببه والغضب حالة فرعية؛ ففي السياق احتباك.
وقال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/256-258) في الجواب عن هاتين المسألتين (ما الحكمة في التعبير عنهم بلفظ الذين مع صلتها دون أن يقال المنعم عليهم وهو أخصر كما قال المغضوب عليهم وما الفرق)؟ و (لم فرق بين المنعم عليهم والمغضوب عليهم فقال في أهل النعمة: الذين أنعمت، وفي أهل الغضب: المغضوب، بحذف الفاعل) بعد أن ذكر أن جواب المسألتين واحد، وأن فيه فوائد عديدة:
إحداها: أن هذا جاء على الطريقة المعهودة في القرآن الكريم وهي أن أفعال الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى فيذكر فاعلها منسوبة إليه ولا يبنى الفعل معها للمفعول، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف وبنى الفعل معها للمفعول أدباً في الخطاب، وإضافة؟؟ إلى الله تعالى أشرف قسمي أفعاله؛ فمنه هذه الآية فإنه ذكر النعمة فأضافها إليه ولم يحذف فاعلها ولما ذكر الغضب حذف الفاعل وبنى الفعل للمفعول فقال: (المغضوب عليهم) وقال في الإحسان (الذين أنعمت عليهم).
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه (الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين) [الشعراء 78-80] فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله تعالى؛ ولما جاء إلى ذكر المرض قال: (وإذا مرضت ولم يقل أمرضني وقال فهو يشفين).(1/67)
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً) [الجن 10] فنسبوا إرادة الرشد إلى الرب وحذفوا فاعل إرادة الشر وبنوا الفعل للمفعول.
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة (فأردت أن أعيبها) فأضاف العيب إلى نفسه؛ وقال في الغلامين (فأراد ربك أن يبلغا أشدهما) [الكهف 82].
ومنه قوله تعالى (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) [البقرة 187] فحذف الفاعل وبناه للمفعول، وقال: (وأحل الله البيع وحرم الربا)(1) [البقرة 275] لأن في ذكر الرفث ما يحسن منه [لعلها معه] أن لا يقترن بالتصريح بالفاعل؛ ومنه (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) [المائدة 3] وقوله (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً) [الأنعام 151] إلى آخرها.
ومنه وهو ألطف من هذا وأدق معنى قوله (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم) [النساء 33] إلى آخرها؛ ثم قال (وأحل لكم ما وراء ذلكم) [النساء 24].
وتأمل قوله (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) [النساء 16] كيف صرح بفاعل التحريم في هذا الموضع وقال في حق المؤمنين (حرمت عليكم الميتة والدم).
الفائدة الثانية: أن الإنعام بالهداية يستوجب شكر المنعم بها وأصل الشكر ذكر المنعم والعمل بطاعته، وكان من شكره إبراز الضمير المتضمن لذكره تعالى الذي هو أساس الشكر، وكان في قوله (أنعمتَ عليهم) من ذكره وإضافة النعمة إليه ما ليس في ذكر المنعم عليهم لو قاله؛ فضمن هذا اللفظ الأصلين، وهما الشكر والذكر المذكوران في قوله (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) [البقرة 152].
__________
(1) وإذا حرم الله ما فيه مضرة أو لا تقبله الفطرة نسب التحريم إلى نفسه إلا أن يكون في السياق ما يقتضي خلاف ذلك، أعني ما يرجح البناء للمفعول.(1/68)
الفائدة الثالثة: أن النعمة بالهداية إلى الصراط لله وحده وهو المنعم بالهداية دون أن يشرك أحد في نعمته فاقتضى اختصاصه بها أن يضاف إليه بوصف الإفراد فيقال: (أنعمت عليهم) أي أنت وحدك المنعم المحسن المتفضل بهذه النعمة؛ وأما الغضب فإن الله سبحانه غضب على من لم يكن من أهل الهداية إلى هذا الصراط وأمر عباده المؤمنين بمعاداتهم وذلك يستلزم غضبهم عليهم موافقة لغضب ربهم عليهم فموافقته تعالى تقتضي أن يغضب على من غضب عليه ويرضى عمن رضي عنه فيغضب لغضبه ويرضى لرضاه وهذا حقيقة العبودية واليهود قد غضب الله عليهم فحقيق بالمؤمنين الغضب عليهم، فحذف فاعل الغضب وقال (المغضوب عليهم) لما كان للمؤمنين نصيب من غضب الله عليهم، بخلاف الإنعام فإنه لله وحده؛ فتأمل هذه النكت البديعة.
الفائدة الرابعة: أن المغضوب عليهم في مقام الإعراض عنهم وترك الالتفات [إليهم]، والإشارة إلى نفس الصفة التي لهم والاقتصار عليها، وأما أهل النعمة فهم في مقام الإشارة إليهم وتعيينهم والإشادة بذكرهم؛ وإذا ثبت هذا فالألف واللام في المغضوب وإن كانتا بمعنى الذين فليست مثل الذين في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات المسمى فإن قولك الذين فعلوا معناه القوم الذين فعلوا وقولك الضاربون والمضروبون ليس فيه ما في قولك الذين ضربوا أو ضُربوا؛ فتأمل ذلك.
فالذين أنعمت عليهم إشارة إلى تعريفهم بأعيانهم وقصد ذواتهم بخلاف المغضوب عليهم فالمقصود التحذير من صفتهم والإعراض عنهم وعدم الالتفات إليهم والمعول عليه من الأجوبة ما تقدم.
الفصل السادس والثلاثون
الفرق بين أسلوب طلب الهداية وأسلوب الاستعاذة من طريقة مخالفيها
كانت صلة (الذين) فعلاً ماضياً (أنعمت) لأن المقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليهم، وفيه أيضاً فضل الأوائل؛ وصلة أل اسماً ليشمل سائر الأزمان.
الإنعام واحد فكان فعله ماضياً، والغضب أنواع قد يتجدد غيرها.(1/69)
(الذين أنعمت) أبلغ من (المنعم عليهم) من جهة ذكر لفظة (الذين) الدالة على الذات، فذكره محبوب لأنفس المؤمنين ومصاحبة ذاتهم مطلوبة.
الفصل السابع والثلاثون
في بيان ما وقع في نظم الفاتحة من الاحتباك
ذكر تعالى من كل فرقة حالها وسبب تلك الحال ونهايتها؛ ولكن صرح في كل فرقة بأولى خصائصها؛ فصرح في حق المنعم عليهم بذكر حالهم وهو الهداية والاستقامة، وذكر من المغضوب عليهم مآلهم وهو الغضب ولوازمه، وذكر من الضالين سبب إنحرافهم وهو ضلالهم؛ وهي ثلاثة مقامات متتالية ففي السياق احتباك.
وتأمل أيضاً سراً بديعاً في ذكر السبب والجزاء للطوائف الثلاثة بأوجز لفظ وأخصره فإن الإنعام عليهم يتضمن إنعامه بالهداية التي هي العلم النافع والعمل الصالح وهي الهدى ودين الحق ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء فهذا تمام النعمة ولفظ (أنعمت عليهم) يتضمن الأمرين.
وذكر غضبه على المغضوب عليهم يتضمن أيضاً أمرين الجزاء بالغضب الذي موجبه غاية العذاب والهوان والسبب الذي استحقوا به غضبه سبحانه فإنه أرحم وأرأف من أن يغضب بلا جناية منهم ولا ضلال فكأن الغضب عليهم مستلزم لضلالهم وذكر الضالين مستلزم لغضبه عليهم وعقابه لهم فإن من ضل استحق العقوبة التي هي موجب ضلاله وغضب الله عليه.
فاستلزم وصف كل واحد من الطوائف الثلاث للسبب والجزاء أبين استلزام واقتضاه أكمل اقتضاء في غاية الإيجاز والبيان والفصاحة مع ذكر الفاعل في أهل السعادة وحذفة في أهل الغضب وإسناد الفعل إلى السبب في أهل الضلال.(1/70)
كل طائفة من الطوائف الثلاث لها وصف حالي وسبب له وعاقبة مبتنية عليه؛ ولقد وصف الله تعالى كل طائفة بأليق أوصافها وأولاها بها؛ فأولى أوصاف اليهود ومن لف لفهم أنهم مغضوب عليهم، ولا شك أنهم قد غضب الله عليهم فكتب عليهم الضلال وقدر لهم الغضب قبل أن يخلقوا وهم في الدنيا مغضوب عليهم ولكن أظهر أحوالهم الغضبية يوم القيامة عند الجزاء؛ وكذلك الضالون كتب عليهم الضلال قبل أن يخلقهم ثم هم ضالون في حياتهم الدنيا ودلائل ضلالهم فيها ظاهرة جداً وكذلك يضلون طريق الجنة في الآخرة؛ وكذلك أهل الهداية والاستقامة من الله عليهم بتقدير الهداية ثم هم مهتدون في الدنيا منعم عليهم بنعمة الهداية وبآثارها وبركاتها وهي أعظم نعمة ثم إنهم سينعم الله عليهم برحمته بأعظم نعمة وسعادة وهي رؤيته تبارك وتعالى وإدخالهم جنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للمتقين.
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/270) في جواب هذا المسألة (لِمَ أتى في أهل الغضب بصيغة مفعول المأخوذة من فعل ولم يأت في أهل الضلال بذلك فيقال المضلين بل أتى فيهم بصيغة فاعل المأخوذة من فعل؟): (جوابها ظاهر فإن أهل الغضب من غضب الله عليهم وأصابهم غضبه فهم مغضوب عليهم وأما أهل الضلال فإنهم هم الذين ضلوا وآثروا الضلال واكتسبوه ولهذا استحقوا العقوبة عليه ولا يليق أن يقال ولا المضلين مبنيا للمفعول لما في رائحته من إقامة عذرهم وأنهم لم يكتسبوا الضلال من أنفسهم بل فعل فيهم.(1/71)
ولا حجة في هذا للقدرية فإنا نقول: إنهم هم الذين ضلوا وإن كان الله أضلهم بل فيه رد على الجبرية الذين لا ينسبون إلى العبد فعلا إلا على جهة المجاز لا الحقيقة فتضمنت الآية الرد عليهم كما تضمن قوله اهدنا الصراط المستقيم الرد على القدرية ففي الآية إبطال قول الطائفتين والشهادة لأهل الحق أنهم هم المصيبون وهم المثبتون للقدر توحيدا وخلقا والقدرة لإضافة أفعال العباد إليهم عملا وكسبا وهو متعلق الأمر والعمل كما أن الأول متعلق الخلق والقدرة فاقتضت الآية إثبات الشرع والقدر والمعاد والنبوة فإن النعمة والغضب هو ثوابه وعقابه فالمنعم عليهم رسله وأتباعهم ليس إلا وهدى أتباعهم إنما يكون على أيديهم فاقتضى إثبات النبوة بأقرب طريق وأبينهما وأدلها على عموم الحاجة وشدة الضرورة إليها وأنه لا سبيل للعبد أن يكون من المنعم عليهم إلا بهداية الله له ولا تنال هذه الهداية إلا على أيدي الرسل وأن هذه الهداية لها ثمرة وهي النعمة التامة المطلقة في دار النعيم ولخلافها ثمرة وهي الغضب المقتضي للشفاء الأبدي فتأمل كيف اشتملت هذه الآية مع وجازتها واختصارها على أهم مطالب الدين وأجلها والله الهادي إلى سواء السبيل وهو أعلم فصل زيادة لا بين المعطوف والمعطوف عليه.
الفصل الثامن والثلاثون
في كون الجزاء في الفاتحة من جنس العمل
لينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القذة بالقذة جزاء وفاقاً (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).
الفصل التاسع والثلاثون
في إثبات الفاتحة للمعاد
تضمنت الفاتحة إثبات المعاد وجزاء العباد بأعمالهم حسنها وسيئها وتفرد الرب تعالى بالحكم إذ ذاك بين الخلائق وكون حكمه بالعدل وكل هذا تحت قوله مالك يوم الدين.
الفصل الأربعون
في إثبات الفاتحة للنبوة
تضمنت الفاتحة إثبات النبوات من جهات عديدة:(1/72)
أحدها: كونه رب العالمين فلا يليق به أن يترك عباده سدى هملا لا يعرفهم ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وما يضرهم فيهما؛ فهذا هضم للربوبية ونسبة الرب تعالى إلى ما لا يليق به وما قدره حق قدره من نسبه إليه.
الثاني: أخذها من اسم الله وهو المألوه المعبود ولا سبيل للعباد إلى معرفة عبادته إلا من طريق رسله.
الموضع الثالث: من اسمه الرحمن فإن رحمته تمنع إهمال عباده وعدم تعريفهم ما ينالون به غاية كما لهم فمن أعطى اسم الرحمن حقه عرف أنه متضمن لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وأخراج الحب فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظ البهائم والدواب وأدرك منه أولو الألباب أمراً وراء ذلك.
الموضع الرابع: من ذكر يوم الدين فإنه اليوم الذي يدين الله العباد فيه بأعمالهم فيثيبهم على الخيرات ويعاقبهم على المعاصي والسيئات وما كان الله ليعذب أحدا قبل إقامة الحجة عليه والحجة إنما قامت برسله وكتبه وبهم استحق الثواب والعقاب وبهم قام سوق يوم الدين وسيق الأبرار إلى النعيم والفجار إلى الجحيم.
الموضع الخامس: من قوله (إياك نعبد) فإن ما يعبد به الرب تعالى لا يكون إلا على ما يحبه ويرضاه وعبادته وهي شكره وحبه وخشيته فطرى ومعقول للعقول السليمة لكن طريق التعبد وما يعبد به لا سبيل إلى معرفته إلا برسله وبيانهم وفي هذا بيان أن إرسال الرسل أمر مستقر في العقول يستحيل تعطيل العالم عنه كما يستحيل تعطيله عن الصانع فمن أنكر الرسول فقد أنكر المرسل ولم يؤمن به ولهذا جعل الله سبحانه الكفر برسله كفرا به.(1/73)
الموضع السادس: من قوله (اهدنا الصراط المستقيم) فالهداية هي البيان والدلالة ثم التوفيق والإلهام وهو بعد البيان والدلالة ولا سبيل إلى البيان والدلالة إلا من جهة الرسل فإذا حصل البيان والدلالة والتعريف ترتب عليه هداية التوفيق وجعل الإيمان في القلب وتحبيبه إليه وتزيينه في القلب وجعله مؤثراً له راضياً به راغباً فيه.
وهما هدايتان مستقلتان لا يحصل الفلاح إلا بهما وهما متضمنتان تعريف ما لم نعلمه من الحق تفصيلاً وإجمالاً وإلهامنا له وجعلنا مريدين لاتِّباعه ظاهراً وباطناً ثم خلق القدرة لنا على القيام بموجب الهدى بالقول والعمل والعزم ثم إدامة ذلك لنا وتثبيتنا عليه إلى الوفاة.
ومن هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة وبطلان قول من يقول إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم وما لا نريد فعله تهاونا وكسلا مثل ما نريده
أو أكثر منه أو دونه وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر ونحن محتاجون إلى الهداية التامة فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام.(1/74)
وللهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة وهو الصرط الموصل إليها فمن هدى في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه هدى هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كشد الركاب ومنهم من يسعى سعيا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يحبو حبوا ومنهم المخدوش المسلم ومنهم المكردس في النار فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة جزاء وفاقاً، هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك (وما ربك بظلام للعبيد) فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر.
الموضع السابع: من معرفة نفس المسئول وهو الصراط المستقيم ولا تكون الطريق صراطاً حتى تتضمن خمسة أمور: الاستقامة والإيصال إلى المقصود والقرب وسعته للمارين عليه وتعينه طريقا للمقصود.
الموضع الثامن: من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال.
فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة لأن العبد إما أن يكون عالما بالحق أو جاهلاً به والعالم بالحق إما أن يكون عاملاً بموجبه أو مخالفا له فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح؛ (قد أفلح من زكاها) [91/9].(1/75)
والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه والجاهل بالحق هو الضال والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل فكل منهما ضال مغضوب عليه ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به.
ومن ههنا كان اليهود أحق به وهو متغلظ في حقهم كقوله تعالى في حقهم: (بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب) [2/90]؛ وقال تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة من عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل) [5/60].
والجاهل بالحق أحق باسم الضلال ومن هنا وصفت النصارى به في قوله تعالى (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) [5/77]؛ فالأولى في سياق الخطاب مع اليهود والثانية في سياقه مع النصارى.
وفي الترمذي وصحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون).
ففي ذكر المنعم عليهم وهم من عرف الحق واتبعه والمغضوب عيهم وهم من عرفه واتبع هواه والضالين وهم من جهله ما يستلزم ثبوت الرسالة والنبوة لأن انقسام الناس إلى ذلك هو الواقع المشهود وهذه القسمة إنما أوجبها ثبوت الرسالة.
فصل في بيان تضمنها الرد على منكري النبوات
وذلك من وجوه:(1/76)
أحدها: إثبات حمده التام فإنه يقتضي كمال حكمته وأن لا يخلق خلقه عبثا ولا يتركهم سدى لا يؤمرون ولا ينهون ولذلك نزه الله نفسه عن هذا في غير موضع من كتابه وأخبر أن من أنكر الرسالة والنبوة وأن يكون ما أنزل على بشر من شيء فإنه ما عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه ولا قدره حق قدره بل نسبه إلى ما لا يليق به ويأباه حمده ومجده؛ فمن أعطى الحمد حقه علما ومعرفة وبصيرة استنبط منه أشهد أن محمدا رسول الله كما يستنبط منه أشهد أن لا إله إلا الله وعلم قطعا أن تعطيل النبوات في منافاته للحمد كتعطيل صفات الكمال وكإثبات الشركاء والأنداد.
الثاني: إلهيته وكونه إلها فإن ذلك مستلزم لكونه معبودا مطاعا ولا سبيل إلى معرفة ما يعبد به ويطاع إلا من جهة رسله.
الثالث: كونه رباً، فإن الربوبية تقتضي أمر العباد ونهيهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته هذا حقيقة الربوبية وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة.
الرابع: كونه رحمانا رحيما فإن من كمال رحمته أن يعرف عباده نفسه وصفاته ويدلهم على ما يقربهم إليه ويباعدهم منه ويثيبهم على طاعته ويجزيهم بالحسنى وذلك لا يتم إلا بالرسالة والنبوة فكانت رحمته مقتضية لها.
الخامس: ملكه فإن الملك يقتضي التصرف بالقول كما أن الملك يقضي التصرف بالفعل فالملك هو المتصرف بأمره وقوله فتنفذ أوامره ومراسيمه حيث شاء والمالك هو المتصرف في ملكه بفعله والله له الملك وله الملك فهو المتصرف في خلقه بالقول والفعل
وتصرفه بقوله نوعان تصرف بكلماته الكونية وتصرف بكلماته الدينية وكمال الملك بهما؛ فإرسال الرسل موجب كمال ملكه وسلطانه وهذا هو الملك المعقول في فطر الناس وعقولهم فكل ملك لا تكون له رسل يبثهم في أقطار مملكته فليس بملك.
وبهذه الطريق يعلم وجود ملائكته وأن الإيمان بهم من لوازم الإيمان بملكه فإنهم رسل الله في خلقه وأمره.(1/77)
السادس: ثبوت يوم الدين وهو يوم الجزاء الذي يدين الله فيه العباد بأعمالهم خيرا وشرا وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الرسالة والنبوة وقيام الحجة التي بسببها يدان المطيع والعاصي.
السابع: كونه معبودا فإنه لا يعبد إلا بما يحبه ويرضاه ولا سبيل للخلق إلى معرفة ما يحبه ويرضاه إلا من جهة رسله فإنكار رسله إنكار لكونه معبودا.
الثامن: كونه هاديا إلى الصراط المستقيم وهو معرفة الحق والعمل به وهو أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب فإن الخط المستقيم هو أقرب خط موصل بين نقطتين وذلك لا يعلم إلا من جهة الرسل فتوقفه على الرسل ضروري أعظم من توقف الطريق الحسى على سلامة الحواس.
التاسع: كونه منعما على أهل الهداية إلى الصراط المستقيم فإن إنعامه عليهم إنما تم بإرسال الرسل إليهم وجعلهم قابلين الرسالة مستجيبين لدعوته وبذلك ذكرهم منته عليهم وإنعامه في كتابه.
العاشر: انقسام خلقه إلى : منعم عليهم ومغضوب عليهم وضالين ؛ فإن هذا الانقسام ضروري بحسب انقسامهم في معرفة الحق والعمل به إلى عالم به عامل بموجبه ، وهم أهل النعمة ، وعالم به معاند له ، وهم أهل الغضب ، وجاهل به وهم الضالون .
هذا الانقسام إنما نشأ بعد إرسال الرسل فلولا الرسل لكانوا أمة واحدة فانقسامهم إلى هذه الأقسام مستحيل بدون الرسالة ؛ وهذا الانقسام ضروري بحسب الواقع فالرسالة ضرورية وقد تبين لك بهذه الطريق والتي قبلها بيان تضمنها للرد على من أنكر المعاد الجسماني وقيامة الأبدان وعرفت اقتضاءها ضرورة لثبوت الثواب والعقاب والأمر والنهي وهو الحق الذي خلقت به وله السماوات والأرض والدنيا والآخرة وهو مقتضى الخلق والأمر ونفيه نفي لهما.
الفصل الحادي والأربعون
في بيان اشتمال هذه السورة على أنواع التوحيد الثلاثة التي اتفقت عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم
التوحيد نوعان نوع في العلم والاعتقاد ونوع في الإرادة والقصد ويسمى
الأول التوحيد العلمي.(1/78)
والثاني التوحيد القصدي الإرادي.
لتعلق الأول بالأخبار والمعرفة والثاني بالقصد والإرادة.
وهذا الثاني أيضاً نوعان: توحيد في الربوبية وتوحيد في الإلهية؛ فهذه ثلاثة أنواع.
فأما توحيد العلم فمداره على إثبات صفات الكمال وعلى نفي التشبيه والمثال والتنزيه عن العيوب والنقائص وقد دل على هذا شيئان مجمل ومفصل.
أما المجمل فإثبات الحمد له سبحانه.
وأما المفصل فذكر صفة الإلهية والربوبية والرحمة والملك وعلى هذه الأربع مدار الأسماء والصفات.
فأما تضمن الحمد لذلك فإن الحمد يتضمن مدح المحمود بصفات كماله ونعوت جلاله مع محبته والرضا عنه والخضوع له فلا يكون حامدا من جحد صفات المحمود ولا من أعرض عن محبته والخضوع له وكلما كانت صفات كمال المحمود أكثر كان حمده أكمل وكلما نقص من صفات كماله نقص من حمده بحسبها ولهذا كان الحمد لله حمدا لا يحصيه سواه لكمال صفاته وكثرتها ولأجل هذا لا يحصى أحد من خلقه ثناء عليه لما له من صفات الكمال ونعوت الجلال التي لا يحصيها سواه ولهذا ذم الله تعالى آلهة الكفار وعابها بسلب أوصاف الكمال عنها فعابها بأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا تهدي ولا تنفع ولا تضر وهذه صفة إله الجهمية التي عاب بها الأصنام نسبوها إليه تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيراً.
وهذا أمر معلوم بالفطر والعقول السليمة والكتب السماوية أن فاقد صفات الكمال لا يكون إلها ولا مدبرا ولا ربا بل هو مذموم معيب ناقص ليس له الحمد لا في الأولى ولا في الآخرة وإنما الحمد في الأولى والآخرة لمن له صفات الكمال ونعوت الجلال التي لأجلها استحق الحمد ولهذا سمى السلف كتبهم التي صنفوها في السنة وإثبات صفات الرب وعلوه على خلقه وكلامه وتكليمه توحيدا لأن نفي ذلك وإنكاره والكفر به إنكار للصانع وجحد له وإنما توحيده إثبات صفات كماله وتنزيهه عن التشبيه والنقائص.(1/79)
والمحمود لا يحمد على العدم والسكوت ألبتة إلا إذا كانت سلب عيوب ونقائص تتضمن إثبات أضدادها من الكمالات الثبوتية وإلا فالسلب المحض لا حمد فيه ولا مدح ولا كمال؛ وكذلك حمده لنفسه على عدم اتخاذ الولد المتضمن لكمال صمديته وغناه وملكه وتعبيد كل شيء له فاتخاذ الولد ينافي ذلك كما قال تعالى: (قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السموات وما في الأرض) [10 67].
وحمد نفسه على عدم الشريك المتضمن تفرده بالربوبية والإلهية وتوحده بصفات الكمال التي لا يوصف بها غيره فيكون شريكا له فلو عدمها لكان كل موجود أكمل منه لأن الموجود أكمل من المعدوم ولهذا لا يحمد نفسه سبحانه بعدم إلا إذا كان متضمناً لثبوت كمال كما حمد نفسه بكونه لا يموت لتضمنه كمال حياته وحمد نفسه بكونه لا تأخذه سنة ولا نوم لتضمن ذلك كمال قيوميته وحمد نفسه بأنه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر لكمال علمه وإحاطته وحمد نفسه بأنه لا يظلم أحداً لكمال عدله وإحسانه وحمد نفسه بأنه لا تدركه الأبصار لكمال عظمته يرى ولا يدرك كما أنه يعلم ولا يحاط به علما فمجرد نفي الرؤية ليس بكمال لأن العدم لا يرى فليس في كون الشيء لا يرى كمال ألبتة وإنما الكمال في كونه لا يحاط به رؤية ولا إدراكاً لعظمته في نفسه وتعاليه عن إدراك المخلوق له وكذلك حمد نفسه بعدم الغفلة والنسيان لكمال علمه.
فكل سلب في القرآن حمد الله به نفسه فلمضادته لثبوت ضده ولتضمنه كمال ثبوت ضده فعلمت أن حقيقة الحمد تابعة لثبوت أوصاف الكمال وأن نفيها نفي لحمده ونفي الحمد مستلزم لثبوت ضده.
فهذه دلالة الحمد على توحيد الأسماء والصفات.
الفصل الثاني والأربعون
في بيان دلالة الأسماء الخمسة على توحيد الأسماء والصفات
أما دلالة الأسماء الخمسة عليها وهي الله والرب والرحمن والرحيم والملك فمبني على أصلين:(1/80)
أحدهما: أن أسماء الرب تبارك وتعالى دالة على صفات كماله فهي مشتقة من الصفات فهي أسماء وهي أوصاف وبذلك كانت حسنى إذ لو كانت ألفاظاً لا معاني فيها لم تكن حسنى ولا كانت دالة على مدح ولا كمال ولساغ وقوع أسماء الانتقام والغضب في مقام الرحمة والإحسان وبالعكس فيقال اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت المنتقم واللهم أعطني فإنك أنت الضار المانع ونحو ذلك.
ونفي معاني أسمائه الحسنى من أعظم الإلحاد فيها قال تعالى [7/170] (وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون).
ولأنها لو لم تدل على معان وأوصاف لم يجز أن يخبر عنها بمصادرها ويوصف بها لكن الله أخبر عن نفسه بمصادرها وأثبتها لنفسه وأثبتها له رسوله كقوله تعالى (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [51: 58] فعلم أن القوي من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة وكذلك قوله (فلله العزة جميعاً) [35: 10]؛ فالعزيز من له العزة فلولا ثبوت القوة والعزة له لم يسم قوياً ولا عزيزاً وكذلك قوله (أنزله بعلمه) [4: 166] (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) [11: 14] (ولا يحيطون بشيء من علمه) [2: 255].
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)؛ فأثبت المصدر الذي اشتق منه اسمه البصير.
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات).
وفي الصحيح حديث الاستخارة (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك) فهو قادر بقدرة.(1/81)
وقال تعالى لموسى: (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) [7: 144] فهو متكلم بكلام؛ وهو العظيم الذي له العظمة كما في الصحيح عنه: (يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي)؛ وهو الحكيم الذي له الحكم (فالحكم لله العلي الكبير) [40: 12]؛ وأجمع المسلمون أنه لو حلف بحياة الله أو سمعه أو بصره أو قوته أو عزته أو عظمته انعقدت يمينه وكانت مكفرة لأن هذه صفات كماله التي اشتقت منها أسماؤه.
وأيضاً لو لم تكن أسماؤه مشتملة على معان وصفات لم يسغ أن يخبر عنه بأفعالها فلا يقال يسمع ويرى ويعلم ويقدر ويريد فإن ثبوت أحكام الصفات فرع ثبوتها فإذا انتقى أصل الصفة استحال ثبوت حكمها.
وأيضاً فلو لم تسكن أسماؤه ذوات معان وأوصاف لكانت جامدة كالأعلام المحضة التي لم توضع لمسماها باعتبار معنى قام به فكانت كلها سواء ولم يكن فرق بين مدلولاتها وهذا مكابرة صريحة وبهت بين فإن من جعل معنى اسم القدير هو معنى اسم السميع البصير ومعنى اسم التواب هو معنى اسم المنتقم ومعنى اسم المعطي هو معنى اسم المانع فقد كابر العقل واللغة والفطرة.
فنفي معاني أسمائه من أعظم الإلحاد فيها والإلحاد فيها أنواع هذا أحدها.
الثاني: تسمية الأوثان بها كما يسمونها آلهة ؛ وقال ابن عباس ومجاهد : عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه ، فسموا بها أوثانهم ، فزادوا ونقصوا ؛ فاشتقوا اللات من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان.
وروي عن ابن عباس: (يلحدون في أسمائه): يكذبون عليه؛ وهذا تفسير بالمعنى.
وحقيقة الإلحاد فيها: العدول بها عن الصواب فيها وإدخال ما ليس من معانيها فيها وإخراج حقائق معانيها عنها هذا حقيقة الإلحاد ومن فعل ذلك فقد كذب على الله ففسر ابن عباس الإلحاد بالكذب أو هو غاية الملحد في أسمائه تعالى فإنه إذا أدخل في معانيها ما ليس منها وخرج بها عن حقائقها أو بعضها فقد عدل بها عن الصواب والحق وهو حقيقة الإلحاد.(1/82)
فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها؛ وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات.
الأصل الثاني: أن الاسم من أسمائه تبارك وتعالى كما يدل على الذات والصفة التي اشتق منها بالمطابقة فإنه يدل عليه دلالتين أخريين بالتضمن واللزوم فيدل على الصفة بمفردها بالتضمن وكذلك على الذات المجردة عن الصفة ويدل على الصفة الأخرى باللزوم فإن اسم السميع يدل على ذات الرب وسمعه بالمطابقة وعلى الذات وحدها وعلى السمع وحده بالتضمن ويدل على اسم الحي وصفة الحياة بالالتزام وكذلك سائر أسمائه وصفاته ولكن يتفاوت الناس في معرفة اللزوم وعدمه ومن ههنا يقع اختلافهم في كثير من الأسماء والصفات والأحكام ؛ فإن من علم أن الفعل الاختياري لازم للحياة وأن السمع والبصر لازم للحياة الكاملة وأن سائر الكمال من لوازم الحياة الكاملة أثبت من أسماء الرب وصفاته وأفعاله ما ينكره من لم يعرف لزوم ذلك ولا عرف حقيقة الحياة ولوازمها وكذلك سائر صفاته.
فإن اسم العظيم له لوازم ينكرها من لم يعرف عظمة الله ولوازمها وكذلك اسم العلي واسم الحكيم وسائر أسمائه فإن من لوازم اسم العلي العلو المطلق بكل اعتبار فله العلو المطلق من جميع الوجوه علو القدر وعلو القهر وعلو الذات فمن جحد علو الذات فقد جحد لوازم اسمه العلي.(1/83)
وكذلك اسمه الظاهر من لوازمه أن لا يكون فوقه شيء كما في (الصحيح) عن النبي وأنت الظاهر فليس فوقك شيء بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه الظاهر ولا يصح أن يكون الظاهر هو من له فوقية القدر فقط كما يقال الذهب فوق الفضة والجوهر فوق الزجاج لأن هذه الفوقية تتعلق بالظهور بل قد يكون المفوق أظهر من الفائق فيها ولا يصح أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط وإن كان سبحانه ظاهراً بالقهر والغلبة لمقابلة الاسم الباطن وهو الذي ليس دونه شيء كما قابل الأول الذي ليس قبله شيء ب الآخر الذي ليس بعده شيء.
وكذلك اسم الحكيم من لوازمه ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه الأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه فإنكار ذلك إنكار لهذا الاسم ولوازمه وكذلك سائر أسمائه الحسنى.
فصل: إذا تقرر هذان الأصلان فاسم الله دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا بالدلالات الثلاث فإنه دال على إلهيته المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له مع نفي أضدادها عنه.
وصفات الإلهية هي صفات الكمال المنزهة عن التشبيه والمثال وعن العيوب والنقائص ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى) [7: 180] ويقال: الرحمن والرحيم والقدوس والسلام والعزيز والحكيم من أسماء الله؛ ولا يقال الله من أسماء الرحمن ولا من أسماء العزيز ونحو ذلك.(1/84)
فعلم أن اسمه الله مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها بالإجمال والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم الله واسم الله دال على كونه مألوها معبودا تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا إليه في الحوائج والنوائب وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته المتضمنين لكمال الملك والحمد وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي ولا سميع ولا بصير ولا قادر ولا متكلم ولا فعال لما يريد ولا حكيم في أفعاله وصفات الجلال والجمال أخص باسم الله.
الفصل الثالث والأربعون
في بيان بعض لوازم الألفاظ
صفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب.
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم الرحمن وكرر إيذانا بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته.(1/85)
فالرحمن الذي الرحمة وصفه والرحيم الراحم لعباده ولهذا يقول تعالى: (وكان بالمؤمنين رحيما) [33: 43] (إنه بهم رءوف رحيم) [9: 117]؛ ولم يجيء رحمان بعباده ولا رحمان بالمؤمنين مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن فعلان من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه الموصوف به ألا ترى أنهم يقولون غضبان للممتليء غضبا وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملىء بذلك فبناء فعلان للسعة والشمول ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيراً كقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى) (ثم استوى على العرش الرحمن) [26: 59]؛ فاستوى على عرشه باسم الرحمن لأن العرش محيط بالمخلوقات قد وسعها والرحمة محيطة بالخلق واسعة لهم كما قال تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء) [7: 156] فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات فلذلك وسعت رحمته كل شيء؛ وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده موضوع على العرش إن رحمتي تغلب غضبي) وفي لفظ: فهو عنده على العرش.
فتأمل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة ووضعه عنده على العرش وطابق بين ذلك وبين قوله الرحمن على العرش استوى وقوله (ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا) [25: 156] ينفتح لك باب عظيم من معرفة الرب تبارك وتعالى إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم.
وصفات العدل والقبض والبسط والخفض والرفع والعطاء والمنع والإعزاز والإذلال والقهر والحكم ونحوها أخص باسم الملك وخصه بيوم الدين وهو الجزاء بالعدل لتفرده بالحكم فيه وحده ولأنه اليوم الحق وما قبله كساعة ولأنه الغاية وأيام الدنيا مراحل إليه.
الفصل الرابع والأربعون
في بيان اشتماله الفاتحة على شفاء القلوب
اشتملت الفاتحة على الشفاءين شفاء القلوب وشفاء الأبدان؛ فأما شفاء القلوب فقد اشتملت عليه أتم اشتمال وأكمله؛ فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين فساد العلم وفساد القصد.(1/86)
ويترتب عليهما داءان قاتلان وهما الضلال والغضب فالضلال نتيجة فساد العلم والغضب نتيجة فساد القصد وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها فهداية الصراط المستقيم تتضمن الشفاء من مرض الضلال ولذلك كان سؤال هذه الهداية أفرض دعاء على كل عبد وأوجبه عليه كل يوم وليلة في كل صلاة لشدة ضرورته وفاقته إلى الهداية المطلوبة ولا يقوم غير هذا السؤال مقامه.
والتحقيق ب إياك نعبد وإياك نستعين علما ومعرفة وعملا وحالا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسداً.
وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم رواءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل.
وكذلك من طلب الغاية العليا والمطلب الأسمى ولكن لم يتوسل إليه بالوسيلة الموصلة له إليه بل توسل إليه بوسيلة ظنها موصلة إليه وهي من أعظم القواطع عنه فحاله أيضا كحال هذا وكلاهما فاسد القصد ولا شفاء من هذا المرض إلا بدواء إياك نعبد وإياك نستعين؛ فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء عبودية الله لا غيره بأمره وشرعه لا بالهوى ولا بآراء الرجال وأوضاعهم ورسومهم وأفكارهم بالاستعانة على عبوديته به لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء إياك نعبد وإياك نستعين فإذا ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض واستعملها المريض حصل بها الشفاء التام وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها أو اثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد وهما الرياء والكبر فدواء الرياء بـ(إياك نعبد) ودواء الكبر بـ(إياك نستعين).(1/87)
وكثيرا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: (إياك نعبد) تدفع الرياء، و(إياك نستعين) تدفع الكبرياء.
فإذا عوفي من مرض الرياء بـ(إياك نعبد) ومن مرض الكبرياء والعجب بـ(إياك نستعين) ومن مرض الضلال والجهل بـ(اهدنا الصراط المستقيم) عوفي من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية وتمت عليه النعمة وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه والضالين وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه.
وحق لسورة تشتمل على هذين الشفاءين أن يستشفى بها من كل مرض ولهذا لما اشتملت على هذا الشفاء الذي هو أعظم الشفاءين كان حصدك الشفاء الأدنى بها أولى كما سنبينه فلا شيء أشفى للقلوب التي عقلت عن الله وكلامه وفهمت عنه فهما خاصاً اختصها به من معاني هذه السورة.
وسنبين إن شاء الله تعالى تضمنها للرد على جميع أهل البدع بأوضح البيان وأحسن الطرق.
الفصل الخامس والأربعون
في بيان اشتمال الفاتحة على شفاء الأبدان
وأما تضمنها لشفاء للأبدان فنذكر منه ما جاءت به السنة وما شهدت به قواعد الطب ودلت عليه التجربة.
فأما ما دلت عليه السنة ففي الصحيح من حديث أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري أن ناساً من أصحاب النبي مروا بحي من العرب فلم يقروهم ولم يضيفوهم فلدغ سيد الحي فأتوهم فقالوا هل عندكم من رقية أو هل فيكم من راق فقالوا: نعم ولكنكم لم تقرونا فلا نفعل حتى تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم على ذلك قطيعاً من الغنم فجعل رجل منا يقرأ عليه بفاتحة الكتاب فقام كأن لم يكن به قلبة فقلنا: لا تعجلوا حتى نأتي النبي فأتيناه فذكرنا له ذلك فقال ما يدريك أنها رقية كلوا واضربوا لي معكم بسهم.
فقد تضمن هذا الحديث حصول شفاء هذا اللديغ بقراءة الفاتحة عليه فأغنته عن الدواء وربما بلغت من شفائه مالم يبلغه الدواء.(1/88)
هذا مع كون المحل غير قابل إما لكون هؤلاء الحي غير مسلمين أو أهل بخل ولؤم فكيف إذا كان المحل قابلا.
فصل وأما شهادة قواعد الطب بذلك فاعلم----).
وأما شهادة التجارب بذلك فهي أكثر من أن تذكر وذلك في كل زمان وقد جربت أنا من ذلك في نفسي وفي غيري أمورا عجيبة ولا سيما مدة المقام بمكة فإنه كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني وذلك في أثناء الطواف وغيره فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط جربت ذلك مرارا عديدة وكنت آخذ قدحا من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحة مرارا فأشربه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثله في الدواء والأمر أعظم من ذلك ولكن بحسب قوة الإيمان وصحة اليقين والله المستعان.
الفصل السادس والأربعون
في بيان اشتمال الفاتحة على الرد على جميع المبطلين من أهل الملل والنحل والرد على أهل البدع والضلال من هذه الأمة
وهذا يعلم بطريقين: مجمل ومفصل:
أما المجمل فهو أن الصراط المستقيم متضمن معرفة الحق وإيثاره وتقديمه على غيره ومحبته والانقياد له والدعوة إليه وجهاد أعدائه بحسب الإمكان.
والحق هو ما كان عليه رسول الله وأصحابه وما جاء به علما وعملا في باب صفات الرب سبحانه وأسمائه وتوحيده وأمره ونهيه ووعده ووعيده وفي حقائق الإيمان التي هي منازل السائرين إلى الله تعالى وكل ذلك مسلم إلى رسول الله دون آراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم واصطلاحاتهم.
فكل علم أو عمل أو حقيقة أو حال أو مقام خرج من مشكاة نبوته وعليه السكة المحمدية بحيث يكون من ضرب المدينة فهو من الصراط المستقيم وما لم يكن كذلك فهو من صراط أهل الغضب والضلال فما ثم خروج عن هذه الطرق الثلاث:
طريق الرسول وما جاء به.
وطريق أهل الغضب وهي طريق من عرف الحق وعانده.
وطريق أهل الضلال وهي طريق من أضله الله عنه.(1/89)
ولهذا قال عبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم : الصراط المستقيم هو الإسلام ؛ وقال عبدالله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : هو القرآن ؛ وفيه حديث مرفوع في (الترمذي) وغيره ؛ وقال سهل بن عبدالله : طريق السنة والجماعة ، وقال بكر بن عبدالله المزني : طريق رسول الله.
ولا ريب أن ما كان عليه رسول الله وأصحابه علما وعملا وهو معرفة الحق وتقديمه وإيثاره على غيره فهو الصراط المستقيم.
وكل هذه الأقوال المتقدمة دالة عليه جامعة له فبهذا الطريق المجمل يعلم أن كل ما خالفه فباطل وهو من صراط الأمتين الأمة الغضبية وأمة أهل الضلال.
وأما المفصل فبمعرفة المذاهب الباطلة واشتمال كلمات الفاتحة على إبطالها.
الفصل السابع والأربعون
في اشتمال الفاتحة الرد على المنكرين لوجود الخالق العظيم
الناس قسمان مقر بالحق تعالى وجاحد له فتضمنت الفاتحة إثبات الخالق تعالى والرد على من جحده بإثبات ربوبيته تعالى للعالمين.
وتأمل حال العالم كله علويه وسفليه بجميع أجزائه تجده شاهدا بإثبات صانعه وفاطره ومليكه فإنكار صانعه وجحده في العقول والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده لا فرق بينهما بل دلالة الخالق على المخلوق والفعال على الفعل والصانع على أحوال المصنوع عند العقول الزكية المشرقة العلوية والفطر الصحيحة أظهر من العكس.
فالعارفون أرباب البصائر يستدلون بالله على أفعاله وصنعه إذا استدل الناس بصنعه وأفعاله عليه ولا ريب أنهما طريقان صحيحان كل منهما حق والقرآن مشتمل عليهما.
فأما الاستدلال بالصنعة فكثير.
وأما الاستدلال بالصانع فله شأن وهو الذي أشارت إليه الرسل بقولهم لأممهم (أفي الله شك) [14: 10] أي أيشك في الله حتى يطلب إقامة الدليل على وجوده وأي دليل أصح وأظهر من هذا المدلول فكيف يستدل على الأظهر بالأخفى؟! ثم نبهوا على الدليل بقولهم فاطر السماوات والأرض.(1/90)
قال ابن القيم: وسمعت شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية قدس الله روحه يقول: كيف يطلب الدليل على من هو دليل على كل شيء؟! وكان كثيراً ما يتمثل بهذا البيت:
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
ومعلوم أن وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار ومن لم ير ذلك في عقله وفطرته فليتهمها.
وإذا بطل قول هؤلاء بطل قول أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود وأنه ما ثم وجود قديم خالق ووجود حادث مخلوق بل وجود هذا العالم هو عين وجود الله وهو حقيقة وجود هذا العالم.
الفصل الثامن والأربعون
في بيان تضمن الفاتحة الرد على المشركين في الربوبية
المثبتون للخالق تعالى نوعان أهل توحيد وأهل إشراك وأهل الإشراك نوعان:
أحدهما: أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته.
الثاني: أهل الإشراك به في إلهيته.
أما أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته، كالمجوس ومن ضاهاهم من القدرية فإنهم يثبتون مع الله خالقا آخر وإن لم يقولوا إنه مكافىء له والقدرية المجوسية تثبت مع الله خالقين للأفعال ليس أفعالهم مقدورة لله ولا مخلوقة لهم وهي صادرة بغير مشيئته ولا قدرة له عليها ولا هو الذي جعل أربابها فاعلين لها بل هم الذين جعلوا أنفسهم شائين مريدين فاعلين؛ فربوبية العالم الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوال هؤلاء كلهم لأنها تقتضي ربوبيته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
مع أن في عموم حمده ما يقتضي حمده على طاعات خلقه إذ هو المعين عليها والموفق لها وهو الذي شاءها منهم كما قال في غير موضع من كتابه: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) [76: 30]؛ فهو محمود على أن شاءها لهم وجعلهم فاعليها بقدرته ومشيئته فهو المحمود عليها في الحقيقة وعندهم أنهم هم المحمودون عليها ولهم الحمد على فعلها.(1/91)
وفي قوله (وإياك نستعين) رد ظاهر عليهم إذ استعانتهم به إنما تكون عن شيء هو بيده وتحت قدرته ومشيئته فكيف يستعين من بيده الفعل وهو موجده إن شاء أوجده وإن شاء لم يوجده بمن ليس ذلك الفعل بيده ولا هو داخل تحت قدرته ولا مشيئته.
وفي قوله (إهدنا الصراط المستقيم) أيضاً رد عليهم؛ فإن الهداية المطلقة التامة هي المستلزمة لحصول الإهتداء ولولا أنها بيده تعالى دونهم لما سألوه إياها وهي المتضمنة للإرشاد والبيان والتوفيق والإقدار وجعلهم مهتدين وليس مطلوبهم مجرد البيان والدلالة كما ظنته القدرية لأن هذا القدر وحده لا يوجب الهدى ولا ينجي من الردى وهو حاصل لغيرهم من الكفار الذين استحبوا العمى على الهدى واشتروا الضلالة بالهدى.
الفصل التاسع والأربعون
أهل الإشراك به في إلهيته
وهم المقرون بأنه وحده رب كل شيء ومليكه وخالقه وأنه ربهم ورب آبائهم الأولين ورب السموات السبع ورب العرش العظيم وهم مع هذا يعبدون غيره ويعدلون به سواه في المحبة والطاعة والتعظيم وهم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهؤلاء لم يوفوا إياك نعبد حقه وإن كان لهم نصيب من نعبدك لكن ليس لهم نصيب من إياك نعبد المتضمن معنى لا نعبد إلا إياك حبا وخوفا ورجاء وطاعة وتعظيما ف إياك نعبد تحقيق لهذا التوحيد وإبطال للشرك في الإلهية كما أن إياك نستعين تحقيق لتوحيد الربوبية وإبطال للشرك به فيها وكذلك قوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإنهم أهل التوحيد وهم أهل تحقيق إياك نعبد وإياك نستعين وأهل الإشراك هم أهل الغضب والضلال.
تضمنها الرد على الجهمية معطلة الصفات وذلك من وجوه:(1/92)
أحدها من قوله الحمد لله فإن إثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله ونعوت جلاله إذ من عدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق وغايته أنه محمود من وجه دون وجه ولا يكون محمودا بكل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبها.
وكذلك في إثبات صفة الرحمة له ما يتضمن إثبات الصفات التي تستلزم من الحياة والإرادة والقدرة والسمع والبصر وغيرها.
وكذلك صفة الربوبية تستلزم جميع صفات الفعل وصفة الإلهية تسلتزم جميع أوصاف الكمال ذاتاً وأفعالاً ، كما تقدم بيانه.
فكونه محموداً إلهاً رباً رحماناً رحيماً ملكاً معبوداً مستعاناً هادياً منعماً يرضى ويغضب، مع نفي قيام الصفات به: جمع بين النقيضين، وهو من أمحل المحال.
وهذه الطريق تتضمن إثبات الصفات الخبرية من وجهين:
أحدهما: أنها من لوازم كماله المطلق فإن استواءه على عرشه من لوازم علوه ونزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا في نصف الليل الثاني من لوازم رحمته وربوبيته وهكذا سائر الصفات الخبرية
الوجه الثاني: أن السمع ورد بها ثناء على الله ومدحاً له وتعرفاً منه إلى عباده بها فجحدها وتحريفها عما دلت عليه وعما أريد بها مناقض لما جاءت به فلك أن تستدل بطريق السمع على أنها كمال وأن تستدل بالعقل كما تقدم.
الفصل الخمسون
في بيان تضمن الفاتحة الرد على الجبرية
تضمت الفاتحة الرد على الجبرية وذلك من وجوه:(1/93)
أحدها: من إثبات عموم حمده سبحانه فإنه يقتضي أن لا يعاقب عبيده على مالا قدرة لهم عليه ولا هو من فعلهم بل هو بمنزلة ألوانهم وطولهم وقصرهم بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة وهو المعاقب لهم عليها فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء وينفيه أعظم النفي فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة فهي أفعالهم لا أفعاله وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات.
الوجه الثاني: إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك إذ لا يمكن اجتماع هذين الأمرين قط أن يكون رحماناً رحيماً ويعاقب العبد على مالا قدرة له عليه ولا هو من فعله بل يكلفه ما لا يطيقه ولا له عليه قدرة ألبتة ثم يعاقبه عليه وهل هذا إلا ضد الرحمة ونقض لها وإبطال وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة.
الوجه الثالث: إثبات العبادة والاستعانة لهم ونسبتها إليهم بقولهم نعبد ونستعين وهي نسبة حقيقية لا مجازية والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة التي هي من أفعال عبيده بل العبد حقيقة هو العابد المستعين والله هو المعبود المستعان به.
الفصل الحادي والخمسون
في بيان تضمنها للرد على القائلين بالموجب بالذات دون الاختيار والمشيئة وبيان أنه سبحانه فاعل مختار
وذلك من وجوه:
أحدها من إثبات حمده إذ كيف يحمد على ما ليس مختارا لوجوده ولا هو بمشيئته وفعله وهل يصح حمد الماء على آثاره وموجباته أو النار والحديد وغيرها في عقل أو فطرة وإنما يحمد الفاعل المختار بقدرته ومشيئته على أفعاله الحميدة هذا الذي ليس يصح في العقول والفطر سواه فخلافه خارج عن الفطرة والعقل وهو لا ينكر خروجه عن الشرائع والنبوات بل يتبجح بذلك ويعده فخراً.(1/94)
الثاني: إثبات ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره وتدبيره وقدرته وليس يصح في عقل ولا فطرة ربوبية الشمس لضوئها والماء لتبريده وللنبات الحاصل به ولا ربوبية شيء أبدا لما لا قدرة له عليه ألبتة وهل هذا إلا تصريح بجحد الربوبية.
فالقوم كنوا للأغمار وصرحوا لأولي الأفهام.
الثالث: إثبات ملكه وحصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل ولا مشيئة غير معقول بل كل مملوك له مشيئة واختيار وفعل أتم من هذا الملك وأكمل (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون) [16: 17].
الرابع: من كونه مستعانا فإن الاستعانة بمن لا اختيار له ولا مشيئة ولا قدرة محال.
الخامس: من كونه مسئولا أن يهدي عباده فسؤال من لا اختيار له محال وكذلك من كونه منعما.
الفصل الثاني والخمسون
في بيان تضمنها للرد على منكري تعلق علمه تعالى بالجزئيات
وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئا من العالم وأحواله وتفاصيله ولا عدد الأفلاك ولا عدد النجوم ولا من يطيعه ممن يعصيه ولا من يدعوه ممن لا يدعوه.
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلها وأن يكون ربا فلا بد للإله المعبود والرب المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه فإن ملكا لا يعرف أحدا من رعيته ألبتة ولا شيئا من أحوال مملكته ألبتة ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعاناً.
السادس: كونه مسئولاً أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هادياً.
الثامن: كونه منعماً.
التاسع: كونه غضباناً على من خالفه.
العاشر: كونه مجازياً يدين الناس بأعمالهم يوم الدين فنفي علمه بالجزيئات مبطل لذلك كله.
الفصل الثالث والخمسون
في بيان تضمنها للرد على من قال بقدم العالم
وذلك من وجوه:(1/95)
أحدها: إثبات حمده فإنه يقتضي ثبوت أفعاله لا سيما وعامة مواد الحمد في القرآن أو كلها إنما هي على الأفعال وكذلك هو ههنا فإنه حمد نفسه على ربوبيته المتضمنة لأفعاله الاختيارية ومن المستحيل مقارنة الفعل لفاعله هذا ممتنع في كل عقل سليم وفطرة مستقيمة فالفعل متأخر عن فاعله بالضرورة وأيضا فإنه متعلق الإرادة والتأثير والقدرة ولا يكون متعلقها قديماً ألبتة.
الثاني: إثبات ربوبيته للعالمين وتقريرما ذكرناه والعالم كل ما سواه فثبت أن كل ما سواه مربوب والمربوب مخلوق بالضرورة وكل مخلوق حادث بعد أن لم يكن فإذا ربوبيته تعالى لكل ما سواه تستلزم تقدمه عليه وحدوث المربوب ولا يتصور أن يكون العالم قديما وهو مربوب أبدا فإن القديم مستغن بأزليته عن فاعل له وكل مربوب فهو فقير بالذات فلا شيء من المربوب بغنى ولا قديم.
الثالث: إثبات توحيده فإنه يقتضي عدم مشاركة شيء من العالم له في خصائص الربوبية والقدرة من خصائص الربوبية فالتوحيد ينفى ثبوته لغيره ضرورة كما ينفى ثبوت الربوبية والإلهية لغيره.
الفصل الرابع والخمسون
في بيان تضمنها للرد على الرافضة
وذلك من قوله (اهدنا الصراط المستقيم) إلى آخرها؛ ووجه تضمنه إبطال قولهم أنه سبحانه قسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
منعم عليهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه ومغضوب عليهم وهم الذين عرفوا الحق ورفضوه وضالون وهم الذين جهلوه فأخطأوه؛ فكل من كان أعرف للحق وأتبع له كان أولى بالصراط المستقيم.
ولا ريب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم هم أولى بهذه الصفة من الروافض فإنه من المحال أن يكون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى الله عنهم جهلوا الحق وعرفه الروافض ، أو رفضوه وتمسك به الروافض.(1/96)
ولا ريب أن المنعم عليهم هم أتباعه والمغضوب عليهم هم الخارجون عن أتباعه وأتبع الأمة له وأطوعهم أصحابه وأهل بيته وأتبع الصحابة له السمع والبصر أبو بكر وعمر وأشد الأمة مخالفة له هم الرافضة فخلافهم له معلوم عند جميع فرق الأمة ولهذا يبغضون السنة وأهلها ويعادونها ويعادون أهلها فهم أعداء سنته وأهل بيته وأتباعه من بنيهم أكمل ميراثا بل هم ورثته حقا
فقد تبين أن الصراط المستقيم طريق أصحابه وأتباعه وطريق أهل الغضب والضلال طريق الرافضة.
وبهذه الطريق بعينها يرد على الخوارج فإن معاداتهم الصحابة معروفة.
الفصل الخامس والخمسون
في بيان أقسام الناس في العبادة والاستعانة
الناس في هذين الأصلين، وهما العبادة والاستعانة: أربعة أقسام:
أجلها وأفضلها: أهل العبادة والاستعانة بالله عليها فعبادة الله غاية مرادهم وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ولهذا كان من أفضل ما يسأل الرب تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته وهو الذي علمه النبي لحبه معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: يا معاذ والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا وعلى دفع ما يضاده وعلى تكميله وتيسير أسبابه فتأملها؛ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ثم رأيته في الفاتحة في (إياك نعبد وإياك نستعين).(1/97)
ومقابل هؤلاء القسم الثاني: وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة ولا استعانة بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته لا على مرضاة ربه وحقوقه فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض يسأله أولياؤه وأعداؤه ويمد هؤلاء وهؤلاء وأبغض خلقه عدوه إبليس ومع هذا فقد سأله حاجة فأعطاه إياها ومتعه بها ولكن لما لم تكن عونا له على مرضاته كانت زيادة له في شقوته وبعده عن الله وطرده عنه وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ولم يكن عونا على طاعته كان مبعدا له عن مرضاته قاطعا له عنه ولا بد.
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة السائل عليه بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه وشقوته ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له فيمنعه حماية وصيانة وحفظا لا بخلا وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ويعامله بلطفه فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ويراه يقضي حوائج غيره فيسيء ظنه بربه وهذا حشو قلبه ولا يشعر به والمعصوم من عصمه الله والإنسان على نفسه بصيرة وعلامة هذا حمله على الأقدار وعتابه الباطن لها كما قيل:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
فوالله لو كشف عن حاصله وسره لرأي هناك معاتبة القدر واتهامه وأنه قد كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ولكن ما حيلتي والأمر ليس إلي والعاقل خصم نفسه والجاهل خصم أقدار ربه.
فاحذر كل الحذر أن تسأله شيئاً معيناً خيرته وعاقبته مغيبة عنك وإذا لم تجد من سؤاله بدا فعلقه على شرط علمه تعالى فيه الخيرة وقدم بين يدي سؤالك الاستخارة ولا تكن استخارة باللسان بلا معرفة بل استخارة من لا علم له بمصالحه ولا قدرة له عليها ولا اهتداء له إلى تفاصيلها ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا بل إن وكل إلى نفسه هلك كل الهلاك وانفرط عليه أمره.(1/98)
وإذا أعطاك ما أعطاك بلا سؤال تسأله أن يجعله عونا لك على طاعته وبلاغا إلى مرضاته ولا يجعله قاطعا لك عنه ولا مبعدا عن مرضاته ولا تظن أن عطاءه كل ما أعطى لكرامة عبده عليه ولا منعه كل ما يمنعه لهوان عبده عليه ولكن عطاؤه ومنعه ابتلاء وامتحان يمتحن بهما عباده قال الله تعالى 89 25 و16 فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا أي ليس كل من أعطيته ونعمته وخولته فقد أكرمته وما ذاك لكرامته علي ولكنه ابتلاء علي وامتحان له أيشكرني فأعطيه فوق ذلك أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه علي ولكنه ابتلاء وامتحان مني له أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط فيكون حظه السخط.
فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام وأن الفقر إهانة فقال لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي ولم أبتله بالفقر لهوانه علي فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته ويقتر على المؤمن لا لإهانته إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته فله الحمد على هذا وعلى هذا وهو الغني الحميد؛ فعادت سعادة الدنيا والآخرة إلى (إياك نعبد وإياك نستعين).
القسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة وهؤلاء نوعان:
أحدهما: القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق وإرسال الرسل وتمكينه من الفعل فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر.(1/99)
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر وتلاشيها في ضمنه وقيامها به وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له بل كالعدم الذي لا وجود له وأن القدر كالروح المحرك لها والمعول على المحرك الأول، فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ومن السبب إلى المسبب ومن الآلة إلى الفاعل فضعفت عزائمهم وقصرت هممهم فقل نصيبهم من إياك نستعين ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف.
فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير بحسب استعانتهم وتوكلهم ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه وكان مأمورا بإزالته لأزاله
القسم الرابع: وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضر وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولم يدر مع ما يحبه ويرضاه فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه وطلبها منه وأنزلها به فقضيت له وأسعف بها سواء كانت أموالا أو رياسة أو جاها عند الخلق أو أحوالا من كشف وتأثير وقوة وتمكين ولكن لا عاقبة له فإنها من جنس الملك الظاهر والأموال لا تستلزم الإسلام فضلا عن الولاية والقرب من الله فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر والمؤمن والكافر فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ورضاه عنه وأنه من أوليائه المقربين فهو من أجهل الجاهلين وأبعدهم عن معرفة الله ومعرفة دينه والتمييز بين ما يحبه ويرضاه ويكرهه ويسخطه فالحال من الدنيا فهو كالملك والمال إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته وتنفيذ أوامره ألحقه بالملوك العادلين البررة وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله وملحق له بالملوك الظلمة والأغنياء الفجرة.
الفصل السادس والخمسون
كيف يتحقق العبد بهذين الأصلين(1/100)
إذا عرف هذا فلا يكون العبد متحققا بـ(إياك نعبد) إلا بأصلين عظيمين:
أحدهما: متابعة الرسول.
والثاني: الإخلاص للمعبود.
فهذا تحقيق إياك نعبد.
والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضا إلى أربعة أقسام:
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة.
وهم أهل إياك نعبد حقيقة فأعمالهم كلها لله وأقوالهم لله وعطاؤهم لله ومنعهم لله وحبهم لله وبغضهم لله فمعاملتهم ظاهرا وباطنا لوجه الله وحده لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورا ولا ابتغاء الجاه عندهم ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ولا هربا من ذمهم بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع منهم لا يكون من عارف بهم ألبتة بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم؛ وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله ولما يحبه ويرضاه وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه وهو الذي بلا عباده بالموت والحياة لأجله قال الله تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملا) [67: 2]؛ قال الفضيل بن عياض: العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه؛ قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ما كان لله؛ والصواب ما كان على السنة؛ وهذا هو المذكور في قوله تعالى (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) [18: 110] وفي قوله (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) [4: 125] فلا يقبل الله(1/101)
من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه على متابعة أمره وما عدا ذلك فهو مردود على عامله يرد عليه أحوج ما هو إليه هباء منثورا وفي الصحيح من حديث عائشة عن النبي كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ح وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء والأهواء.
الضرب الثاني: من لا إخلاص له ولا متابعة فليس عمله موافقا لشرع، وليس هو خالصا للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ولهم أوفر نصيب من قوله (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم) [3: 188]؛ يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص.
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم فإنهم يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإخلاص والعلم فهم أهل الغضب والضلال
الضرب الثالث: من هو مخلص في أعماله لكنها على غير متابعة الأمر، كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر وكل من عبد الله بغير أمره واعتقد عبادته هذه قربة إلى الله فهذا حاله كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة وأمثال ذلك.(1/102)
الضرب الرابع: من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله، كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقال ويقرأ القرآن ليقال فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها لكنها غير صالحة فلا تقبل (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) [98: 5] فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر والإخلاص له في العبادة وهم أهل (إياك نعبد وإياك نستعين).
الفصل السابع والخمسون
في بيان أفضل العبادة
إن أفضل العبادة العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته فأفضل العبادات في وقت الجهاد الجهاد وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن؛ والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.
والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.
والأفضل في وقت استرشاد الطالب وتعليم الجاهل الإقبال على تعليمه والاشتغال به.
والأفضل في أوقات الأذان ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه والمبادرة إليها في أول الوقت والخروج إلى الجامع وإن بعد كان أفضل.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال الاشتغال بمساعدته وإغاثة لهفته وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك.
والأفضل في وقت قراءة القرآن جمعية القلب والهمة على تدبره وتفهمه حتى كأن الله تعالى يخاطبك به فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المضعف عن ذلك.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة الإكثار من التعبد لا سيما التكبير والتهليل والتحميد فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.(1/103)
والأفضل في العشر الأخير من رمضان لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته عيادته وحضور جنازته وتشييعه وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم دون الهرب منهم فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه.
والأفضل خلطتهم في الخير فهي خير من اعتزالهم فيه واعتزالهم في الشر فهو أفضل من خلطتهم فيه فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله فخلطتهم حينئذ أفضل من اعتزالهم فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.(1/104)
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته فهو يعبد الله على وجه واحد وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت، فمدار تعبده عليها فهو لا يزال متنقلا في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره فإن رأيت العلماء رأيته معهم وإن رأيت العباد رأيته معهم وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم فهذا هو العبد المطلق الذي لم تملكه الرسوم ولم تقيده القيود ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات بل هو على مراد ربه ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه فهذا هو المتحقق بإياك نعبد وإياك نستعين حقاً ، القائم بهما صدقاً ، ملبسه ما تهيأ ومأكله ما تيسر واشتغاله بما أمر الله به في كل وقت بوقته ومجلسه حيث انتهى به المكان ووجده خاليا لا تملكه إشارة ولا يتعبده قيد ولا يستولي عليه رسم حر مجرد دائر مع الأمر حيث دار يدين بدين الآمر أنى توجهت ركائبه ويدور معه حيث استقلت مضاربه يأنس به كل محق ويستوحش منه كل مبطل كالغيث حيث وقع نفع وكالنخلة لا يسقط ورقها وكلها منفعة حتى شوكها وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله والغضب إذا انتهكت محارم الله فهو لله وبالله ومع الله قد صحب الله بلا خلق وصحب الناس بلا نفس بل إذا كان مع الله عزل الخلائق عن البين وتخلى عنهم وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها فواهاً له ما أغربه بين الناس وما أشد وحشته منهم وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه والله المستعان وعيه التكلان .(1/105)
الفصل الثامن والخمسون
في بيان لزوم إياك نعبد لكل عبد إلى الموت
قال تعالى (إياك نعبد) فلم يقيد ذلك بوقت معين ومعنى ذلك أن العبادة مطلوبة من العبد إلى أن يموت كما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) وقال أهل النار: (وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) واليقين ههنا هو الموت بإجماع أهل التفسير.
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد فهو زنديق كافر بالله وبرسوله وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله والانسلاخ من دينه بل كلما تمكن العبد في منازل العبودية كانت عبوديته أعظم والواجب عليه منها أكبر وأكثر من الواجب على من دونه ولهذا كان الواجب على رسول الله بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم والواجب على أولى العزم أعظم من الواجب على من دونهم والواجب على أولى العلم أعظم من الواجب على من دونهم وكل أحد بحسب مرتبته
الفصل التاسع والخمسون
في بيان مراتب إياك نعبد علماً وعملاً
للعبودية مراتب بحسب العلم والعمل.
فأما مراتبها العلمية فمرتبتان:
إحداهما: العلم بالله والثانية العلم بدينه.
فأما العلم به سبحانه فخمس مراتب:
العلم بذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وتنزيهه عما لا يليق به.
والعلم بدينه مرتبتان: إحداهما دينه الأمري الشرعي وهو الصراط المستقيم الموصل إليه.
والثانية: دينه الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه وقد دخل في هذا العلم العلم بملائكته وكتبه ورسله.
وأما مراتبها العلمية فمرتبتان مرتبة لأصحاب اليمين ومرتبة للسابقين المقربين فأما مرتبة أصحاب اليمين فأداء الواجبات وترك المحرمات مع ارتكاب المباحات وبعض المكروهات وترك بعض المستحبات(1/106)
وأما مرتبة المقربين فالقيام بالواجبات والمندوبات وترك المحرمات والمكروهات زاهدين فيما لا ينفعهم في معادهم متورعين عما يخافون ضرره، وخاصتهم قد انقلبت المباحات في حقهم طاعات وقربات بالنية؛ فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين بل كل أعمالهم راجحة ومن دونهم يترك المباحات مشتغلا عنها بالعبادات وهؤلاء يأتونها طاعات وقربات ولأهل هاتين المرتبتين درجات لا يحصيها إلا الله.
الفصل الستون
في بيان مدار رحى العبودية
رحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية؛ وبيانها:
أن العبودية منقسمة على القلب اللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه.
والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
فواجب القلب منه متفق على وجوبه ومختلف فيه.
فالمتفق على وجوبه كالإخلاص والتوكل والمحبة والصبر والإنابة والخوف والرجاء والتصديق الجازم والنية في العبادة وهذه قدر زائد على الإخلاص فإن الإخلاص هو إفراد المعبود عن غيره.
ونية العبادة لها مرتبتان:
إحداهما تمييز العبادة عن العادة.
والثانية تمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض.
والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق والفرق بينه وبين الإخلاص أن للعبد مطلوبا وطلبا فالإخلاص توحيد مطلوبه والصدق توحيد طلبه.
فالإخلاص أن لا يكون المطلوب منقسما والصدق أن لا يكون الطلب منقسما فالصدق بذل الجهد، والإخلاص إفراد المطلوب.
واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق وهو مرتبة أصحاب اليمين وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين.(1/107)
وكذلك الصبر واجب باتفاق الأمة قال الإمام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن أو بضعا وتسعين وله طرفان أيضا واجب مستحق وكمال مستحب.
والمقصود أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته.
وأما المحرمات التي عليه فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق وهي نوعان كفر ومعصية فالكفر كالشك والنفاق والشرك وتوابعها.
والمعصية نوعان كبائر وصغائر فالكبائر كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها؛ فوظيفة إياك نعبد على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولا بد وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.(1/108)
ومن الصغائر أيضا شهوة المحرمات وتمنيها وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهي فشهوة الكفر والشرك كفر وشهوة البدعة فسق وشهوة الكبائر معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها استحق عقوبة الفاعل لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه فنزله منزلة القاتل لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.
الفصل الحادي والستون
في تدبر النظم في قوله تعالى (غير المغضوب عليهم)
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/262 وما بعدها)
العاشرة: كيف جرت غير صفةً على الموصوف [أي مع كونه معرفة] وهي لا تتعرف بالإضافة وليس المحل محل عطف بيان إذ بابه [أي باب عطف البيان] الإعلام، ولا محل لذلك [أي للإعلام هنا]، إذ المقصود في باب البدل هو الثاني والأول توطئة؛ وفي باب الصفات المقصود الأول والثاني بيان؛ وهذا شأن هذا الموضع فإن المقصود ذكر المنعم عليهم ووصفهم بمغايرتهم معنى الغضب والضلال.
(فيه ثلاثة أوجه:
أحدها أن (غير) هنا بدل لا صفة وبدل النكرة من المعرفة جائز وهذا فاسد من وجوه ثلاثة:
أحدها أن باب البدل المقصود فيه الثاني والأول توطئة له ومهاد أمامه وهو المقصود بالذكر؛ فقوله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) [آل عمران 97] المقصود هو أهل الاستطاعة خاصة؛ وذكر الناس قبلهم توطئة وقولك أعجبني زيد علمه إنما وقع الإعجاب على علمه وذكرت صاحبه توطئة لذكره.(1/109)
وكذا قوله (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) [البقرة 217] المقصود إنما هو السؤال عن القتال في الشهر الحرام لا عن نفس الشهر، وهذا ظاهر جداً في بدل البعض وبدل الاشتمال؛ ويراعى في بدل الكل من الكل، ولهذا سمي بدلاً، إيذاناً بأنه المقصود.
فقوله (لنسفعن بالناصية) ناصية كاذبة خاطئة، المقصود: لنسفعن بالناصية الكاذبة الخاطئة؛ وذكر المبدل منه توطئة لها.
وإذا عرف هذا فالمقصود هنا ذكر المنعم عليهم وإضافة الصراط إليهم؛ ومن تمام هذا المقصود وتكميله الإخبار بمغايرتهم للمغضوب عليهم فجاء ذكر غير المغضوب مكملاً لهذا المعنى ومتمماً ومحققاً، لأن أصحاب الصراط المسئول هدايته هم أهل النعمة فكونهم غير مغضوب عليهم وصف محقق؛ وفائدته فائدة الوصف المبين للموصوف المكمل له وهذا واضح.
الوجه الثاني: أن البدل يجري مجرى توكيد المبدل وتكريره وتثنيته؛ ولهذا كان في تقدير تكرار العامل، وهو المقصود بالذكر كما تقدم فهو الأول بعينه ذاتاً ووصفاً؛ وإنما ذكر بوصف آخر مقصود بالذكر كقوله (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم)، ولهذا يحسن الاقتصار عليه دون الأول، ولا يكون مخلاً بالكلام؛ ألا ترى أنك لو قلت في غير القرآن: لله حج البيت على من استطاع إليه السبيل، لكان كاملاً مستقيماً لا خلل فيه؛ ولو قلت في دعائك: رب اهدني صراط من أنعمت عليه من عبادك لكان مستقيماً، وإذا كان كذلك فلو قدر الاقتصار على (غير) وما في حيزها لاختل الكلام وذهب معظم المقصود منه، إذ المقصود إضافة الصراط إلى الذين أنعم الله عليهم لا إضافته إلى غير المغضوب عليهم بل أتى بلفظ غير زيادة في وصفهم والثناء عليهم؛ فتأمله.(1/110)
الوجه الثالث: أن (غير) لا يعقل ورودها بدلاً وإنما ترد استثناء أو صفة أو حالاً؛ وسر ذلك أنها لم توضع مستقلة بنفسها بل لا تكون إلا تابعة لغيرها ولهذا قلما يقال جاءني غير زيد ومررت بغير عمرو والبدل لا بد أن يكون مستقلاً بنفسه كما تبين أنه المقصود.
ونكتة الفرق أنك في باب البدل قاصد إلى الثاني متوجه إليه قد جعلت الأول سلماً ومرقاة إليه فهو موضع قصدك ومحط إرادتك؛ وفي باب الصفة بخلاف ذلك إنما أنت قاصد الموصوف موضح له بصفته؛ فاجعل هذه النكتة معياراً على باب البدل والوصف ثم زن بها غير المغضوب عليهم هل يصح أن يكون بدلاً أو وصفاً.
الجواب الثاني: أن غير ههنا صح جريانه صفة على المعرفة لأنها موصولة والموصول مبهم غير معين ففيه رائحة من النكرة لإبهامه فإنه غير دال على معين فصلح وصفه بـ(غير) لقربه من النكرة؛ وهذا جواب صاحب (الكشاف).
فإن قلت: كيف صح أن يقع غير صفة للمعرفة وهو لا يتعرف وإن أضيف إلى المعارف؟ قلت: الذين أنعمت عليهم لا توقيت فيه فهو كقوله
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
ومعنى قوله لا توقيت فيه: أي لا تعيين لواحد من واحد كما تعين المعرفة بل هو مطلق في الجنس فجرى مجرى النكرة واستشهاده بالبيت معناه أن الفعل نكرة وهو يسبني وقد أوقعه صفة للئيم المعرفة باللام لكونه غير معين فهو في قوة النكرة فجاز أن ينعت بالنكرة وكأنه قال على لئيم يسبني وهذا استدلال ضعيف فإن قوله يسبني حال منه لا وصف والعامل فيه فعل المرور المعني أمر على اللئيم ساباً لي أي أمر عليه في هذه الحال فأتجاوزه ولا أحتفل بسبه.(1/111)
الجواب الثالث، وهو الصحيح: أن غير ههنا قد تعرفت بالإضافة فإن المانع لها من تعريفها شدة إبهامها أو عمومها في كل مغاير للمذكور فلا يحصل بها تعيين ولهذا تجري صفة على النكرة فتقول: رجل غيرك يقول كذا ويفعل كذا، فتجري صفة للنكرة مع إضافتها إلى المعرفة؛ ومعلوم أن هذا الإبهام يزول لوقوعها بين متضادين يذكر أحدهما ثم تضيفها إلى الثاني فيتعين بالإضافة ويزول الإبهام الذي يمنع تعريفها بالإضافة كما قال
نحن بنو عمرو الهجان الأزهر النسب المعروف غير المنكر
أفلا تراه أجرى غير المنكر صفة على النسب كما أجرى عليه المعرف لأنهما صفتان معينتان فلا إبهام في غير لأن مقابلها المعروف وهو معرفة وضده المنكر متميز متعين كتعين المعرف أعني تعين الجنس.
وهكذا قوله صراط الذين أنعمت عليهم فالمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم فإذا كان الأول معرفة كانت غير معرفة لإضافتها إلى محصل متميز غير مبهم فاكتسب منه التعريف.
وينبغي أن تتفطن ههنا لنكتة لطيفة في (غير) تكشف لك حقيقة أمرها فأين تكون معرفة وأين تكون نكرة وهي أن (غيراً) هي نفس ما تكون تابعة له وضد ما هي مضافة إليه فهي واقعة على متبوعها وقوع الاسم المرادف على مرادفه فإن المعرف هو تفسير غير المنكر والمنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم.
هذا حقيقة اللفظة فإذا كان متبوعها نكرة لم تكن إلا نكرة وإن أضيفت كما إذا قلت رجل غيرك فعل كذا وكذا وإذا كان متبوعها معرفة لم تكن إلا معرفة كما إذا قيل المحسن غير المسيء محبوب معظم عند الناس والبر غير الفاجر مهيب والعادل غير الظالم مجاب الدعوة فهذا لا تكون فيه غير إلا معرفة ومن ادعى فيها التنكير هنا غلط وقال ما لا دليل عليه إذ لا إبهام فيها بحال فتأمله.(1/112)
فإن قلت عدم تعريفها بالإضافة له سبب آخر وهي أنها بمعنى مغاير اسم فاعل من غاير كمثل بمعنى مماثل وشبه بمعنى مشابه وأسماء الفاعلين لا تعرف بالإضافة وكذا ما ناب عنها قلت اسم الفاعل إنما لا يتعرف بالإضافة إذا أضيف إلى معموله لأن الإضافة في تقدير الانفصال ، نحو هذا ضارب زيد غدا وليست غير بعاملة فيما بعدها عمل اسم الفاعل في المفعول حتى يقال : الإضافة في تقدير الانفصال ، بل إضافتها إضافة محضة كإضافة غيرها من النكرات.
ألا ترى أن قولك غيرك بمنزلة قولك سواك ولا فرق بينهما والله أعلم فصل إخراج صراط مخرج البدل).
ثم أجاب ابن القيم (2/265) عن سؤال هذا معناه: (ما فائدة إخراج الكلام في قوله (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) مخرج البدل مع أن الأول [في أسلوب البدل] في نية الطرح؛ ولكن الصراط المستقيم مقصود [بـ]ـالإخبار عنه بذلك وليس في نية الطرح فكيف جاء صراط الذين أنعمت عليهم بدلاً منه وما فائدة البدل هنا)؟ بقوله:
(الجواب أن قولهم (الأول في البدل في نية الطرح) كلام لا يصح أن يؤخذ على إطلاقه؛ بل البدل نوعان:
نوع يكون الأول فيه في نية الطرح وهو بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال لأن المقصود هو الثاني لا الأول وقد تقدم.
ونوع لا ينوي فيه طرح الأول وهو بدل الكل من الكل بل يكون الثاني بمنزلة التذكير والتوكيد وتقوية النسبة مع ما تعطيه النسبة الإسنادية إليه من الفائدة المتجددة الزائدة على الأول فيكون فائدة البدل التوكيد والإشعار بحصول وصف المبدل للمبدل منه.(1/113)
فإنه لما قال (اهدنا الصراط المستقيم) فكأن الذهن طلب المعرفة ما إذا كان هذا الصراط مختصاً بنا أم سلكه غيرنا ممن هداه الله فقال: (صراط الذين أنعمت عليهم)؛ وهذا كما إذا دللت رجلاً على طريق لا يعرفها وأردت توكيد الدلالة وتحريضه على لزومها وأن لا يفارقها فأنت تقول: هذه الطريق الموصلة إلى مقصودك، ثم تزيد ذلك عنده توكيداً وتقوية فتقول: وهي الطريق التي سلكها الناس والمسافرون وأهل النجاة؛ أفلا ترى كيف أفاد وصفك لها بأنها طريق السالكين الناجين قدراً زائداً على وصفك لها بأنها طريق موصلة وقريبة سهلة مستقيمة فإن النفوس مجبولة على التأسي والمتابعة فإذا ذكر لها من تتأسى به في سلوكها أنست واقتحمتها فتأمله).
الفصل الثاني والستون
في بيان أفضلية استعمال (غير) في قوله تعالى (غير المغضوب) على (لا)
قال ابن القيم في (بدائع الفوائد) (2/261-262) جواباً على هذا السؤال: (لم وصفهم بلفظ (غير) وهلا قال تعالى (لا المغضوب عليهم) كما قال و ([لا] الضالين)؛ وهذا كما تقول: مررت بزيد لا عمرو وبالعاقل لا الأحمق)؟
(لا ريب أن (لا) يعطف بها بعد الإيجاب كما تقول: جاءني زيد لا عمرو، وجاءني العالم لا الجاهل؛ وأما غير فهي تابع لما قبلها، وهي صفة ليس إلا، كما سيأتي.
وإخراج الكلام هنا مخرج الصفة أحسن من إخراجه مخرج العطف، وهذا إنما يعلم إذا عرف فرق ما بين العطف في هذا الموضع والوصف؛ فنقول: لو أخرج الكلام مخرج العطف وقيل (صراط الذين أنعمت عليهم لا المغضوب عليهم) لم يكن في العطف بها أكثر من نفي إضافة الصراط إلى المغضوب عليهم كما هو مقتضى العطف فإنك إذا قلت: جاءني العالم لا الجاهل لم يكن في العطف أكثر من نفي المجيء عن الجاهل وإثباته للعالم؛ وأما الإتيان بلفظ غير فهي صفة لما قبلها فأفاد الكلام معها وصفهم بشيئين:
أحدهما: أنهم منعم عليهم.
والثاني: أنهم غير مغضوب عليهم.(1/114)
فأفاد ما يفيد العطف مع زيادة الثناء عليهم ومدحهم فإنه يتضمن صفتين ثبوتية وهي كونهم منعماً عليهم، وصفة سلبية وهي كونهم غير مستحقين لوصف الغضب وأنهم مغايرون لأهله.
ولهذا لما أريد بها هذا المعنى جرت [غير] صفةً على المنعم عليهم، ولم تكن صفة منصوبة على الاستثناء، لأنه يزول منها معنى الوصفية المقصود.
وفيها فائدة أخرى وهي أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى ادعوا أنهم هم المنعم عليهم دون أهل الإسلام فكأنه قيل لهم: المنعم عليهم غيركم لا أنتم، وقيل للمسلمين: المغضوب عليهم غيركم لا أنتم؛ فالإتيان بلفظة غير في هذا السياق أحسن وأدل على إثبات المغايرة المطلوبة؛ فتأمله.
وتأمل كيف قال (المغضوب عليهم ولا الضالين) ولم يقل: اليهود والنصارى، مع أنهم هم الموصوفون بذلك تجريداً لوصفهم بالغضب والضلال الذي به غايروا المنعم عليهم، ولم يكونوا منهم بسبيل، لأن الإنعام المطلق ينافي الغضب والضلال، فلا يثبت لمغضوب عليه ولا ضال، فتبارك من أودع كلامه من الأسرار ما يشهد بأنه تنزيل من حكيم حميد).
الفصل الثالث والستون
في بيان أفضلية استعمال (لا) في قوله تعالى (ولا الضالين) على (غير)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد (2/271-272) في جوابه على هذا السؤال (ما فائدة العطف بـ(لا) هنا ولو قيل: المغضوب عليهم والضالين، لم يختل الكلام وكان أوجز؟):
(في ذلك أربع فوائد:
أحدها: أن ذكرها تأكيد للنفي الذي تضمنه (غير)، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف عليها بـ(لا) مع الواو فهو في قوة لا المغضوب عليهم ولا الضالين أو غير المغضوب عليهم وغير الضالين.
الفائدة الثانية: أن المراد المغايرة الواقعة بين النوعين وبين كل نوع بمفرده فلو لم يذكر (لا) وقيل: (غير المغضوب عليهم والضالين): أوهم أن المراد ما غاير المجموع المركب من النوعين، لا ما غاير كل نوع بمفرده؛ فإذا قيل: (ولا الضالين) كان صريحاً في أن المراد صراط غير هؤلاء وغير هؤلاء.(1/115)
وبيان ذلك أنك إذا قلت: ما قام زيد وعمرو فإنما نفيت القيام عنهما ولا يلزم من ذلك نفيه عن كل واحد منهما بمفرده.
الفائدة الثالثة: رفع توهم أن الضالين وصف للمغضوب عليهم وأنهما صنف واحد وصفوا بالغضب والضلال ودخل العطف بينهما كما يدخل في عطف الصفات بعضها على بعض نحو قوله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون) [المؤمنون 1-3] إلى آخرها؛ فإن هذه صفات المؤمنين؛ ومثل قوله (سبح اسم ربك الأعلى الذين خلق فسوى والذي قدر فهدى) [الأعلى 1-3] ونظائره، فلما دخلت (لا) علم أنهما صنفان متغايران مقصودان بالذكر.
وكانت (لا) أولى بهذا المعنى من (غير) لوجوه:
أحدها: أنها أقل حروفاً.
الثاني: التفادي من تكرار اللفظ.
الثالث: الثقل الحاصل بالنطق بـ(غير) مرتين من غير فصل إلا بكلمة مفردة، ولا ريب أنه ثقيل على اللسان.
الرابع: أن (لا) إنما يعطف بها بعد النفي، فالإتيان بها مؤذن بنفي الغضب عن أصحاب الصراط المستقيم كما نفى عنهم الضلال، و(غير) وإن أفهمت هذا فـ(لا) أدخل في النفي منها.
تم الكتاب ولله الحمد والمنة في رمضان من عام 1425 للهجرة
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1/116)