ج 30 ، ص : 119
ثم أمر رسوله أن يتأنى عليهم ، ليرى أخذه تعالى لهم فقال :
(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي سر فى دعوتك ولا تستعجل عذابهم ، فإنا سنمهلهم ليزدادوا إثما ، حتى إذا أخذناهم لم يبق لهم من راحم.
ثم أكد طلب الإمهال وأقته بوقت قريب فقال :
(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إنا سنمهلهم قليلا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال.
وفى هذا بعث للطمأنينة إلى قلوب المؤمنين الذين كانوا يخشون صولة الكفار ويحذرون اعتداءاتهم التي لا حد لها ، وتخويف لهم من عاقبة إصرارهم على ما هم فيه من الكفر والمشاقّة للّه ورسوله وللمؤمنين.
ونحو الآية قوله : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » .
وصلّ ربنا على محمد وآله ، وقنا عذاب الجحيم.
مقاصد السورة
(1) إن كل نفس عليها حافظ.
(2) إقامة الأدلة على أن اللّه قادر على بعث الخلق كرة أخرى.
(3) إن القرآن منزل من عند اللّه وأن محمدا رسول اللّه.
(4) أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين.(30/119)
ج 30 ، ص : 120
سورة الأعلى
هى مكية وآياتها تسع عشرة ، نزلت بعد سورة التكوير.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى تلك خلق الإنسان ، وأشار إلى خلق النبات بقوله : « وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ » . وذكر هنا خلق الإنسان فى قوله :
« خَلَقَ فَسَوَّى » . وخلق النبات فى قوله : « أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى » وقصة النبات هنا أوضح وببسط أكثر ، وخلق الإنسان هناك أكثر تفصيلا.
أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى - وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا » .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
شرح المفردات
التسبيح : التنزيه ، خلق : أي خلق الكائنات ، فسوى : أي فسواها ووضع خلقها على نظام كامل ، لا تفاوت فيه ولا اضطراب ، قدّر : أي قدّر لكل حى ما يصلحه مدة بقائه ، فهدى : أي هداه وعرّفه وجه الانتفاع بما خلق له ، والمرعى :
كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة ، والغثاء : ما يقذف به السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات ، والأجوى : الذي يضرب لونه إلى السواد. قال ذو الرمة :
لمياء فى شفتيها حوّة لعس وفى اللّثات وفى أنيابها شنب(30/120)
ج 30 ، ص : 121
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به واسم اللّه ما يعرف به ، واللّه إنما يعرف بصفاته من نحو كونه عالما قادرا حكيما ، وهذا الاسم هو الذي يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو المراد بالوجه فى قوله : « وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ » وهو المذكور فى قوله : « وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها » أي علمه رسوم الأشياء وما تعرف به.
فاللّه يأمرنا بتسبيح هذا الاسم أي تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق به من شبه المخلوقات ، أو ظهوره فى واحد منها بعينه ، أو اتخاذه شريكا أو ولدا له ، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق الكائنات وهو الذي أوجدها وسوّاها ، وأنه هو الذي أخرج المرعى ثم جعله جافّا حتى لفظه السيل بجانب الوادي.
الإيضاح
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له ، ولا تطلق اسمه على غيره زاعما أنه يشاركه فى صفاته.
ثم وصف ذلك الاسم الأعلى فقال :
(1) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي الذي خلق الكائنات جميعا فسوى خلقها وجعلها منسقة محكمة ولم يأت بها متفاوتة غير ملتئمة ، دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبّر ، أحسن تدبيرها ، فأحكم أسرها.
(2) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ) أي والذي قدر كل واحد منها على ما يستحقه ، ويكون به استقرار شأنه فقدر السموات وما فيها من الكواكب ، وقدر الأرض وما فيها من المعادن ، وما يظهر على وجهها من النبات ، وما يعيش عليها من الحيوان(30/121)
ج 30 ، ص : 122
ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها ، وما هو أمسّ بحاجتها ، بما خلق فيها من الميول والإلهامات ، لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات.
(3) (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ) أي والذي أنبت النبات جميعه ، لترعاه الدوابّ والنّعم ، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحيّة.
(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى ) أي فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيما باليا كالغثاء يميل لونه إلى السواد ، فهو القادر على إنبات العشب ، وعلى تبديل حاله ، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة.
وقصارى ما سلف - إنا مأمورون أن نعرف اللّه جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره فى خلقه ، وألا ندخل فى هذه الصفات ما لا يليق به ، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء ، أو وصفوه بما به يشبه خلقه.
وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون تسبيح الذات ، ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها ، أما الذات فهى أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 8]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8)
شرح المفردات
سنقرئك : أي نجعلك قارئا للقرآن ، فلا تنسى : أي فلا تنساه بل تحفظه ، واليسرى : أعمال الخير التي تؤدى إلى اليسر.(30/122)
ج 30 ، ص : 123
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بتسبيح اسمه ، وعلّم أمته المأمورة بأمر اللّه له ، كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا ، ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه صلى اللّه عليه وسلم على حفظه ومن ثم وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه ، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته ، وأحكام شرائعه كما وعده بأنّ ما يقرئه إياه لا ينساه.
الإيضاح
(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ) أي سننزل عليك كتابا تقرؤه ، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك.
وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه ، فوعد بأنه لا ينساه.
ونحو الآية قوله : « وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ » وقوله : « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ »
.
وخلاصة ذلك - إنا سنشرح صدرك ، ونقوّى ذا كرتك ، حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة ، ثم لا تنساه بعدها أبدا.
ولما كان هذا الوعد على سبيل التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره جاء بالاستثناء فقال :
(إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ) أي فإن أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك.
قال الفرّاء : إنه ما شاء أن ينسى محمد صلى اللّه عليه وسلم شيئا ، إلا أن القصد من هذا الاستثناء بيان أنه لو أراد أن يصيّره ناسيا لقدر على ذلك كما جاء فى قوله :
« وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ » .(30/123)
ج 30 ، ص : 124
وإنا لنقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك.
وقصارى هذا - إن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه ، وأن عدم النسيان فضل من اللّه وإحسان لا من قوّته.
ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال :
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى ) أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك ، وأنه سيجعلك حافظا لما تقرأ فلا تنساه - عالم بالجهر والسر ، فلا يفوته شىء مما فى نفسك ، وهو مالك قلبك وعقلك ، وخافى سرك وجهرك ، ففى مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك وإن كان من خفيات روحك ، ولو شاء لسلبه ولن تستطيع دفعه ، لأنه ليس فى قدرتك أن تخفى عنه شيئا.
ولما كان فى الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام ، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله - أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة فى النفوس فقال :
(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى ) أي ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها ، ولا يصعب على العقول فهمها ، ورحم اللّه البوصيرى حيث يقول :
لم يمتحنّا بما تعيا العقول به حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم
وقد جعلت الآية الإنسان هو الميسّر للفعل ، وليس الفعل هو الميسر للإنسان ، من قبل أن الفعل لا يحصل إلا إذا وجدت العزيمة الصادقة ، والإرادة النافذة لإيجاده ، مع التوفيق لسلوك أقوم الطرق التي توصل إليه ، كما
جاء فى الحديث : « اعملوا ، فكل ميسّر لما خلق له » .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 9 الى 13]
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)(30/124)
ج 30 ، ص : 125
شرح المفردات
التذكر : أن يتنبه الإنسان إلى شىء كان قد علمه من قبل ثم غفل عنه ، ومن يخشى اللّه صنفان : مذعن معترف باللّه وببعثه للعباد للثواب والعقاب ، ومتردد فى ذلك ، الأشقى : هو المعاند المصرّ على الجحد والإنكار ، المتمكن من نفسه الكفر ، يصلى النار : أي يذوق حرها. والنار الكبرى هى أسفل دركات الجحيم ، لا يموت : أي فيستريح ولا يحيا : أي حياة طيبة فيسعد كما أشار إلى ذلك شاعرهم فقال :
ألا ما لنفس لا تموت فينقضى عناها ولا تحيا حياة لها طعم
المعنى الجملي
بعد أن وعد سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم وهو حفظ القرآن وعدم نسيانه - أمره بتذكيره عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم - وتنبيههم من غفلاتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير لهم ، وبين أن الذكرى لا تنجع إلا فى القلوب الخاشعة التي تخشى اللّه وتخاف عقابه. أما القلوب الجاحدة المعاندة فلا تجدى فيها الذكرى شيئا ، فهوّن على نفسك ، ولا يحزننّك جحدهم وعنادهم كما أشار إلى ذلك فى آية أخرى فقال : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
ثم ذكر أن أولئك الجحدة العصاة يكونون فى قعر جهنم لا هم يموتون ولا يسعدون بحياة طيبة.
الإيضاح
(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى ) أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك ، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية. فإن أصرّ المعاندون على عنادهم ولم يزدهم(30/125)
ج 30 ، ص : 126
وعظك إلا تماديا فى الجحود والإنكار « فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » حرصا على إيمانهم ، وحزنا على بقائهم على كفرهم ، وادع من تعلم أنه يجيبك ولا يحبهك ولا يؤذيك وإلى ذلك أشار بقوله :
(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى ) أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى اللّه ويخاف عقابه ، لأنه هو الذي يتأمل فى كل ما تذكره له ، فيتبين له وجه الصواب ، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعوّل عليه.
وفى التعبير بقوله (سَيَذَّكَّرُ) إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدّا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب ، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره - تقليد الآباء والأجداد فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته ، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجهم خطة آبائهم من قبل.
ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين فقال :
(وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ) أي ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا ، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى فى دركات جهنم كما قال : « إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ » إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوّى بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب ومن كان نقىّ الصحيفة ميمون النقيبة ، مطيعا لأمره ، مؤديا فرائضه منتهيا عن الفحشاء والمنكر.
وقصارى ما سلف - إن الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم أقسام ثلاثة :
(1) عارف صحتها ، موقن بصدقها ، لا يدور بخلده تردّد ولا شكّ ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه.
(2) متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان ، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها ، وهذا أدنى من سابقه.(30/126)
ج 30 ، ص : 127
(3) شقىّ معاند لا يلين قلبه للذكرى ، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولا ، وهو شر لأقسام الثلاثة ، وأبعدها من الخير.
ثم بيّن عاقبة هذا الأشقى ومآل أمره فقال :
(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى ) أي ومن شقى هذا الشقاء ، ولقى هذا العذاب بتلك النار - يخلد فيها ، ولا يقف عذابه عند غاية ، ولا يجد لآلامه نهاية ، فلا هو يموت فيستريح ، ولا يحيا الحياة الطيبة فيسعد بها.
ونحو الآية قوله : « لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها » .
والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده : لا هو حىّ فيرجى ، ولا ميت فينعى.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
شرح المفردات
أفلح : أي فاز ونجا من العقاب وتزكى : أي تطهر من دنس الرذائل ، ورأسها جحد الحق وقسوة القلب ، وذكر اسم ربه : أي ذكر فى قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال ، فصلى : أي فخشع وخضعت نفسه لأوامر بارئه ، تؤثرون :
أي تفضلون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر فى الدلائل التي تدل على وجود اللّه ووحدانيته وإرسال الرسل وعلى البعث والحساب - أتبعه بالوعد لم ن زكى نفسه(30/127)
ج 30 ، ص : 128
وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد - بالفوز بالفلاح والظفر بالسعادة فى دنياه وآخرته.
ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حبّ العاجلة ، وتفضيلها على الآجلة ، ولو فكروا قليلا لا ستبان لهم أن الخير كل الخير فى تفضيل الثانية على الأولى.
ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية فى كل الأديان واحدة ، فما فى القرآن هو ما فى صحف إبراهيم وموسى.
الإيضاح
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي قد أدرك الفلاح ، وظفر بالبغية من طهر نفسه ونقاها من أوضار الكفر ، وأزال عنها أدران الشرك والآثام.
ومن هذا تعلم أن تزكية النفس إنما تكون بالإيمان باللّه ونفى الشركاء ، والتصديق بكل ما جاء به رسوله صلى اللّه عليه وسلم مع صالح العمل.
(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي وأحضر فى قلبه صفات ربه من الجلال والكمال فخضع لجبروته وقهره. فإن المرء متى تذكر ربه العظيم وجل قلبه ، وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه ورهبة لجلاله ، كما قال فى آية أخرى : « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ » .
ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم ، ولم يأخذوا من العبادات إلا بصورها وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب اللّه عباده بقوله.
(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل ، لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه لكنتم تفضلون الآخرة على الدنيا ، كما يرشد إلى ذلك العقل ، ويهدى إليه الشرع ، فمتاع الآخرة دائم ونعيمها لا يزول ، ولا تنغيص فيه ولا منّ ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار ، وتحوط به الآلام ، فمن استعجل هذا النعيم ، واستحب زينة الدنيا(30/128)
ج 30 ، ص : 129
لا يكون مصدّقا بالآخرة ونعيمها ، أو يكون إيمانه إيمانا لا يجاوز طرف لسانه ، ولا يصل إلى قلبه ، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون.
ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت فى هذه الشريعة هى بعينها التي جاءت فى جميع الشرائع السماوية فقال :
(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى ) أي إن ما أوحى به إلى نبيه من أمر ونهى ووعد ووعيد هو بعينه ما جاء فى صحف إبراهيم وموسى ، فدين اللّه واحد ، وإنما تختلف صوره ، وتتعدد مظاهره ، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بإبراهيم أو بموسى فعليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه لم يأت إلا بما جاء فى صحفهم ، وإنما هو مذكّر أو محى لما مات من شرائعهم.
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ » وقوله جل شأنه : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى » .
وقصارى ذلك - أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين ، وداعيا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كرّ الغداة ومر العشىّ ، كما طمس معالمه اتباع الأهواء ، واقتفاء سنن الآباء والأجداد.
اللهم وفقنا لسلوك دينك الحق ، واهدنا إلى صراطك المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.(30/129)
ج 30 ، ص : 130
سورة الغاشية
هى مكية ، وآياتها ست وعشرون ، نزلت بعد سورة الذاريات.
ومناسبتها لما قبلها - أنه أشير فى السورة السابقة إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا ، وبسط الكلام فيها هنا.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
شرح المفردات
الغاشية : القيامة ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها ، خاشعة :
أي ذليلة : عاملة : أي وقع منها عمل فى الدنيا ، ناصبة : أي تعبة من قولهم نصب فلان بالكسر : أي تعب ، تصلى من قولهم صلى النار (بالكسر) أي قاسى حرها ، حامية :
أي متناهية فى الحرّ من قولهم حميت النار إذا اشتد حرها ، والعين : ينبوع الماء ، والآنية الشديدة الحر ، والضريع : شجر ذو شوك لائط بالأرض ، فإذا كان رطبا سمى بالشّبرق ، قال أبو ذؤيب الهذلي :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعا بان عنه النحائص
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي هل بلغك نبأ يوم القيامة وعلمت قصصه ، وإننا سنعلمك شأنه الخطير.(30/130)
ج 30 ، ص : 131
وهذا أسلوب من الكلام لا يراد منه حقيقة الاستفهام ، بلى يراد منه تعجيب السامع مما سيذكر بعد ، وتشويقه إلى استماعه ، وتوجيه فكره إلى أنه من الأحاديث التي من حقها أن تتناقلها الرواة ، ويحفظها الوعاة.
ثم فصل شأن أهل الموقف فى ذلك اليوم ، وذكر أن أهله فريقان : فريق الكفرة الفجرة. وفريق المؤمنين البررة ، وقد أشار إلى الأولين بقوله :
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي وجوه يومئذ يظهر عليها الخزي والهوان مما ترى وتشاهد من الهول.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ » وقوله : « وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ » .
والخشوع والذل وإن كان فى الحقيقة لأرباب الوجوه ، نسب إلى الوجوه لما كان أثره يظهر عليها.
ثم وصف الوجوه بصفات أخرى فقال :
(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي إن هؤلاء الكفار كانوا فى حياتهم الدنيا يعملون ويجتهدون فى أعمالهم ، لكن لم يتقبلها ربهم ، لأنهم لم يقدّموا عليها الإيمان باللّه ورسوله ، وهو الدعامة الأولى فى قبول العمل عنده ، ولأنهم لم يقصدوا بها وجهه تعالى ، ولأنهم كانوا يجتهدون فى مشاقة اللّه ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا.
والخلاصة - إن هؤلاء الكفار وقع منهم فى الدنيا عمل ، وأصابهم فيه تعب ونصب ، لكنهم لم يستفيدوا منه شيئا ، فآثار الخيبة وحبوط العمل بادية على وجوههم.
ثم ذكر جزاءها فى هذا اليوم فقال :
(تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي هذه الوجوه تقاسى حر النار وتعذب بها ، لأن أعمالها(30/131)
ج 30 ، ص : 132
فى الدنيا كانت خاسرة ، غلبها الشر ، وجانبها الخير ، وهذه النار الحامية لا نعرف كنهها ، ولكن علينا أن نؤمن بها ، وبأن حلفاء الباطل يصلونها.
(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي إن أهل النار إذا عطشوا فى تلك الدار وطلبوا ما يطفئ غتّهم ، جىء لهم بماء من ينبوع بلغ من الحرارة غايتها ، فهو لا يطفىء لهبا ، ولا ينقع غلّة.
وبعد أن ذكر شرابهم أردفه بوصف طعامهم فقال :
(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) أي إنهم إذا أحسوا بالجوع وطلبوا الطعام أتى لهم بالضريع وهو ذلك المرعى السوء الذي لا تعقد عليه السائمة شحما ولا لحما ، وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها ، والمراد بهذا كله أنه يؤتى لهم بردىء الطعام.
ثم وصف هذا الضريع بأنه لا يجدى ولا يفيد فقال :
(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي إن هذا الطعام لا يدفع جوعا ، ولا يفيد سمنا ، فليس له فائدة الطعام التي لأجلها يؤكل فى الدنيا ، وقد سمى اللّه ذلك الطعام بالضريع تشبيها له ، وإلا فذلك العالم ليس فيه نمو أبدان ولا تحلل مواد على النحو الذي يكون فى الدنيا ، بل هو عالم خلود وبقاء ، واللذائذ فيه لذائذ سعادة ، والآلام آلام شقاء ، فكل ما فى ذلك العالم إنما يقع بينه وبين ما فى عالمنا نوع مشابهة ، لا اتفاق ولا مجانسة.
وقد جاء فى سورة الحاقة فى طعام الكافرين : « وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ » وفى سورة الواقعة : « ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ » وفى سورة الدخان : « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » .
فهذا كله يدل على أن طعام النار شىء يوافق النشأة الآخرة ، عبر عنه بعبارات مختلفة ، ليصور فى أذهاننا بشاعته وخبثه ، لتنفر منه نفوسنا ، وتطلب كل وسيلة للفرار منه ، فتبتعد عن العقائد الفاسدة ، والأعمال الخاسرة.(30/132)
ج 30 ، ص : 133
[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 16]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
شرح المفردات
ناعمة : أي ذات بهجة وحسن ، عالية : أي فى المكان لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، واللاغية : اللغو والكذب والبهتان ، عين جارية :
أي ينبوع ماء جار ، والسرر : واحدها سرير وهو ما يجلس أو ينام عليه ، وأفضله ما كان مرفوعا عن الأرض ، والأكواب : واحدها كوب وهو ما لا عروة له من الكيزان ، موضوعة : أي معدة ومهيأة للشراب ، والنمارق : واحدها نمرقة (بضم النون وكسرها) وهى الوسادة قال :
كهول وشبّان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
والزرابيّ : واحدها زربىّ (بكسر الزاى) وزربية وهو البساط ، وأصل الزرابي أنواع النبات إذا احمرت واصفرت وفيها خضرة ، ويقال أزرب النبات إذا صار كذلك سموا بهذا البسط لشبهها به ، ومبثوثة : أي مفرقة فى المجالس بحيث يرى فى كل مجلس شىء منها كما يرى فى بيوت ذوى الثراء.
الإيضاح
بعد أن وفى الكفرة الفجرة حقهم من الوصف - وصف أهل الإخلاص والصدق لتقرّ أعينهم بما سيلقون من فضله فقال :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ووجوه يومئذ ذات نضرة وبهجة كما قال : « تَعْرِفُ(30/133)
ج 30 ، ص : 134
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ »
ولا تكون كذلك إلا إذا كانت منعمة فرحة بما لاقت جزاء سعيها فى الدنيا ورضى اللّه عنها ومن ثم قال :
(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي إنهم جميعا يسعون فى العمل للّه حين رأوا ثمرته وعاقبته الحسنى ، كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه الجميل ، ويظهر له منه عاقبة حميدة ، فيقول ما أحسن ما عملت ، ولقد وفقت إلى الصواب فيما فعلت.
وبعد أن وصف أهل الثواب وصف ديارهم بسبعة أوصاف فقال :
(1) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة ، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.
وقد يكون المراد منه العلوّ فى الدرجة ، لأن نعيم الجنة بعضه أرفع من بعض فالنعيم الذي يتمتع به السابقون من الأنبياء والشهداء والصالحين أعلى منزلة وأرفع قدرا مما يتمتع به الذين اتبعوهم بإحسان.
(ب) (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي إنها منزهة عن اللغو ، إذ أنها منزل جيران اللّه وأحبائه ، وقد نالوها بالجد والعمل لا باللغو ، ومنازل أهل الشرف فى الدنيا تكون مبرأة من اللغو والكذب والبهتان ، فكيف بأرفع المجالس فى جوار رب العالمين ، ومالك قلوب الخلق أجمعين.
(ح) (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي فى تلك الجنة ينبوع ماء جار ، والمياه الجارية من الينابيع تكون صافية ، وفى منظرها مسرة للنفوس ، وقرّة للعيون ، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال : « أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي » .
(د) (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي مرفوعة عالية إذا جلس عليها المؤمن رأى جميع ما أعطاه اللّه من النعيم ورأى من فى الجنة وفى ذلك من التشريف والتكريم ما لا خفاء فيه.(30/134)
ج 30 ، ص : 135
(ه) (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافات العيون كلما أرادوا الشرب وجدوها.
(و) (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي ووسائد مصفوف بعضها إلى جوانب بعض ، فإن شاءوا جلسوا عليها ، وإن أرادوا استندوا إليها ، وإن أحبوا أن يجلسوا على بعضها ويستندوا إلى بعض فعلوا.
(ز) (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي وبسط مبسوطة فى المجالس ، بحيث يرى فى كل مجلس من مجالسهم منها شىء ، كما يرى فى بيوت المترفين وذوى الثراء فى الدنيا.
وقد ذكر سبحانه كل ما سلف تصويرا لترف أهل الجنة تصويرا يقرّبه من عقولهم ، ويستطيعون به إدراكه وفهمه ، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر ويعلو فوق متناول الإدراك فالأشياء التي عدّدها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي فى هذه الحياة بأسمائها ، فأما حقائقها وذواتها فليست مثلها ولا قريبا منها ، كما أثر عن ابن عباس أنه قال : ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 17 الى 20]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
شرح المفردات
الإبل : واحدها بعير ولا واحد لها من لفظها كنساء وقوم ، ورفع السماء.
إمساك ما فوقنا من شموس وأقمار ونجوم ، ونصب الجبال : إقامتها أعلاما للسائرين ، وملجأ للحائرين ، وسطح الأرض : تمهيدها وتوطئتها للإقامة عليها والمشي فى مناكبها.(30/135)
ج 30 ، ص : 136
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه مجىء يوم القيامة ، وبين أن الناس حينئذ صنفان أشقياء وسعداء وأن الأشقياء يكونون فى غاية الذل والهوان ، وأن السعداء يكونون يومئذ مستبشرين بادية على وجوههم علائم المسرة - أعقب هذا بإقامة الحجة على الجاحدين المنكرين لذلك ، وتوجيه أنظارهم إلى آثار قدرته فيما بين أيديهم ، وما يقع تحت أبصارهم من سماء تظلّ ، وأرض تقلّ ، وإبل ينتفعون بها فى حلّهم وترحالهم ، ويأكلون من لحومها وألبانها ويلبسون من أوبارها ، وجبال تهديهم فى تلك الفيافي والقفار.
أخرج عبد بن حميد فى آخرين عن قتادة قال : لما نعت اللّه تعالى ما فى الجنة تعجب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآيات.
الإيضاح
(أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) أي أ ينكر هؤلاء المشركون ما ذكرنا من أمر البعث وما يتصل به من سعادة وشقاء ، ويستبعدون وقوعه ، ولا يتدبرون فى الإبل التي هى نصب أعينهم ، ويستعملونها فى كل حين ؟ ولو أنهم تدبروا فى خلقها لرأوا خلقا بديعا لا يشاكل خلق أكثر الحيوان ، فلها من عظم الجثة ، وشدة القوة ، وعظيم الصبر على الجوع والعطش ما لا يشاركها فيه حيوان آخر - إلى أنها تحتمل المشاقّ ، وتنهض بالأوقار ، وتقطع شاسع المسافات ، حتى لقبوها : سفينة الصحراء - قال شاعرهم :
ما فرّق الألا ف بعد اللّه إلا الإبل
وما غراب البين إلا ناقة أو جمل
إلى أنها تنقاد للصغير والكبير وتحمل أذاهما. قال العباس بن مرداس :
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير(30/136)
ج 30 ، ص : 137
وتكتفى فى المرعى بما تيسر لها من الشوك والشجر ، إلى أنها أعجب ما عندهم ، وهم واقفون على أحوالها ، عالمون بطباعها.
وجاء الكلام بطريق الاستفهام ، إنكارا عليهم ، وتوبيخا لهم على جحد أمر البعث.
(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي ألا يشاهدون السماء وقد رفعت رفعا سحيق المدى بغير عمد ؟
(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي وإلى الجبال كيف وضعت وضعا ثابتا لا ميدان فيه ولا اضطراب ، فيتسنى ارتقاؤها فى كل حين ، وتجعل أمارة للسالكين فى تلك الفيافي والقفار ، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها فى سقى النبات ورىّ الحيوان.
(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) ومهدت على ما يقتضيه صلاح أمور ساكنيها وانتفاعهم بما فى ظاهرها من المنافع وما فى باطنها من المعادن.
وقصارى ما سلف - إنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء وفكروا فيها ، لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم ، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير ، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وسوّاها وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة - قادر على أن يرجع الناس فى يوم يوفى فيه كل عامل جزاء عمله ، وأن ينشئ النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها ، فلا ينبغى أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيام سببا فى جحده وإنكاره.
وإنما خص هذه المخلوقات بالذكر ، لأن الناظر منهم يفكر فى أقرب الأشياء إليه ، فهو يرى بعيره الذي يمتطيه ، ثم إذا هو رفع رأسه فوق رأى السماء ، ثم إذا التفت يمنة أو يسرة رأى ما حواليه من الجبال فإذا مدّ ناظريه أمامه أو تحته رأى الأرض ، فالعربى يرى ذلك كل يوم ، ومن ثمّ أمره اللّه بالتدبر فيها.(30/137)
ج 30 ، ص : 138
[سورة الغاشية (88) : الآيات 21 الى 26]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
شرح المفردات
فذكر : أي عظ قومك وابعثهم على النظر فى ملكوت السموات والأرض ، بمسيطر : أي بمسلط تجبرهم على ما تريد ، إيابهم : أي رجوعهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دليل قدرته تعالى على بعث الأجساد ولفت أنظار الجاحدين إلى مظاهر قهره وغلبته لهذا العالم ، ثم وبخهم على إنكارهم وتماديهم فى باطلهم ، على وضوح الحجة وظهور البرهان ، أردف ذلك أمره صلى اللّه عليه وسلم أن يذكرهم بهذه الأدلة وأشباهها مما لا يبقى معه مجال للشك والتردد.
الإيضاح
(فَذَكِّرْ) بآياتى ، وعظهم بحججي ، وبلغهم رسالاتى ، وحذرهم أن يتركوا ذلك ، ثم بعدئذ لا تذهب نفسك عليهم حسرات إن لم يؤمنوا.
ثم علل الأمر بالتذكير فقال :
(إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي إنما بعثت للتذكير فحسب وليس من الواجب عليك أن يؤمنوا : فما عليك إلا التبشير والتحذير ، فإن آمنوا فقد اهتدوا إلى ما تسوق إليه الفطرة ، وإن أعرضوا فقد تحكمت فيهم الغفلات ، وتغلبت عليهم الشهوات ، واستولت على عقولهم الأهواء والجهالات.
ثم أكد الإنذار وقرره بقوله :(30/138)
ج 30 ، ص : 139
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لست عليهم بمسلط تجبرهم على ما تريد ، وتتعهد أحوالهم ، وتكتب أعمالهم ، فلم نؤت قوة الإكراه على ا لإيمان ، والإلجاء إلى ما تدعوهم إليه كما قال : « أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ؟ » وقال :
« وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » .
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي إنك وإن كنت داعيا وليس لك سلطان على ما فى نفوسهم ، فاللّه هو المسيطر عليهم ، وصاحب السلطان على سرائرهم فمن تول منهم وأعرض عن الذكرى ، وجحد الحق المعروض عليه فاللّه يعذبه العذاب الأكبر فى الآخرة وقد يضم إلى ذلك عذابا فى الدنيا من قتل أو سبى الذرية أو غنيمة للأموال ، إلى نحو أولئك من صنوف البلاء التي ينزلها بهم.
ثم أكد تعذيب اللّه لمن تولى وكفر فقال :
(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي لا مفرّ للمعرضين ، ولا خلاص لهم من الويل الذي أوعدوا به فإنهم راجعون إلينا ، وقد حق القول منا فى عقابهم وسنحاسبهم على ما كسبت أيديهم.
وفى هذا تسلية لقلب رسوله ، وإزالة أحزانه وآلامه ، لتكذيبهم إياه ، وإصرارهم على معاندته.
وصلى اللّه على محمد وآله البررة الكرام.
مقاصد هذه السورة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :
(1) وصف أهل الجنة ووصف أهل النار.
(2) ذكر عجائب الصنعة الإلهية.
(3) أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع.(30/139)
ج 30 ، ص : 140
سورة الفجر
هى مكية ، وآياتها ثلاثون ، نزلت بعد سورة الليل.
ومناسبتها لما قبلها.
(1) أنه ذكر فى تلك الوجوه الخاشعة والوجوه الناعمة ، وذكر فى هذه طوائف من المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وطوائف من الذين وجوههم ناعمة.
(2) أن القسم الذي فى أول السورة كالدليل على صحة ما تضمنته خاتمة السورة السابقة من الوعد والوعيد.
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
الإيضاح
(وَالْفَجْرِ) الفجر هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء ، وينفجر النور ، وقد أقسم ربنا به ، لما يحصل فيه من انقضاء الليل ، وظهور الضوء ، وما يترتب على ذلك من المنافع كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق ، وهو كقوله :
« وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ » وقوله : « وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ » .
(وَلَيالٍ عَشْرٍ) هى عشر ليال يتشابه حالها مع حال الفجر ، فيكون ضوء القمر فيها مطارد الظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة ، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى يسطع النهار ، ولا يزال الضوء منتشرا إلى الليل الذي بعده.(30/140)
ج 30 ، ص : 141
وضوء الأهلة فى عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام ، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه ، فيسدل على الكون حجبه ، وهذه الليالى العشر غير متعينة فى كل شهر فإن ضوء الهلال قد يظهر حتى تغلبه الظلمة فى أول ليلة من الشهر.
وقد يكون ضئيلا يغيب ضوؤه فى الشفق فلا يعدّ شيئا.
والخلاصة - إن الليالى العشر تارة تبتدئ من أول ليلة ، وأخرى من الليلة الثانية.
(وَ الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي والزوج والفرد من هذه الليالى فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد.
وبعد أن أقسم بضروب من الضياء أقسم بالليل مرادا منه الظلمة فقال :
(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي والليل إذا يمضى ويذهب ، وهو كقوله : « وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ » وقوله : « وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ » .
ونعمة اللّه على عباده بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما بحسب الأزمنة والفصول - مما لا يجحدها إلا مكابر ، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيها إلى أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم ، عالم بما فى ذلك من المصلحة لعباده.
انظر إلى ما فى إقبال الصبح من عميم النفع ، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل وينبه إلى استقبال العمل ، وكذلك تدرك ما فى الليالى المقمرة من فائدة ، فهى تستميل النفس إلى النّقلة ، وتيسر للناس النّجعة ، وبخاصة فى أيام الحر الشديد فى بلاد كبلاد العرب.
وكذا نعرف ما فى الظلام من منفعة ، فإن فيه تهدأ النفوس ، وتسكن الخواطر وتستقر الجنوب فى مضاجها ، لتستريح من عناء العمل ، وتستعين بالنوم على إعادة القوى ، وتختفى الناس من مطاردة اللصوص ، وللّه در المتنبي حيث يقول :
وكم لظلام الليل عندك من يد تخبّر أنّ المانوية تكذب(30/141)
ج 30 ، ص : 142
ثم قرر فخامة الأشياء التي أقسم بها قبل ، وكونها أهلا لأن تعظم فقال :
(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) العقل ، ويقولون : فلان ذو حجر : إذا كان قاهرا لنفسه ، ضابطا لها ، مضيّقا عليها.
والمراد أن من كان ذا لبّ وعقل يفطن إلى أن فى القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة ، وعجيب الصنعة ، الدالة على وحدانية صانعها - مقنعا أيّما مقنع ، وكفاية أعظم كفاية.
وجاء الكلام بصورة الاستفهام لتأكيد المقسم عليه وتقريره ، كما تقول لمن يحاجّك فى أمر ثم تقيم له الحجة الناصعة التي تثبت ما تدّعى : هل فيما ذكرت لك كفاية ، ومرادك أنى قد ذكرت لك أقوى الحجج وأبينها ، فلست تستطيع جحد ما قلت بعد هذا.
وجواب القسم محذوف يدل عليه قوله بعد : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ » الآية ، ويقدر بنحو قوله إن ناصية المكذبين بيدي ، ولئن أمهلتهم فلن أهملهم ، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم ، وقد ترك لتسترسل نفس القارئ فى تأمل ما مضى وما يتبع ليجد الجواب بينهما ، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن.
[سورة الفجر (89) : الآيات 6 الى 14]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
شرح المفردات
عاد : جيل من العرب البائدة يقولون إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ، ويلقب أيضا بإرم ، وذات العماد : أي سكان الخيام ، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضر موت.(30/142)
ج 30 ، ص : 143
وثمود : قبيلة من العرب البائدة كذلك وهى من ولد كاثر بن إرم بن سام ، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز ، جابوا الصخر : أي قطعوه ونحتوه ، بالواد : أي الوادي الذي كانوا يسكنون فيه ، وفرعون : هو حاكم مصر الذي كان فى عهد موسى عليه السلام ، والأوتاد : المبانى العظيمة الثابتة ، والطغيان : تجاوز القدر فى الظلم والعتوّ ، وصب : أي أفرغ وألقى ، وسوط عذاب : أي أنواعا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم ، والمرصاد : هو المكان الذي يقوم فيه الرصد ، والرصد من يرصد الأمور : أي يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر ، ويطلق أيضا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه.
المعنى الجملي
بعد أن أقسم سبحانه أنه سيعذب الكافرين جزاء كفرهم وإصرارهم على مخالفة أوامره - شرع يذكر بعض قصص الأمم السالفة ممن عاندوا اللّه ورسوله ولجوا فى طغيانهم فأوقع بهم شديد العذاب وأخذهم أخذ العزيز الجبار ، ليكون فى ذلك زجر لهؤلاء المكذبين. وتثبيت للمؤمنين الذين اتبعوا الرسول وناصروه ، وتطمين لقلوبهم بأن أعداءهم سيلقون ما يستحقون من الجزاء.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ؟ ) أي ألم تعلم أيها الإنسان ، كيف أهلك ربك عادا الأولى الذين كانوا أشد الناس أجساما وأطولهم قامة ، وأرفعهم مكانة ، والذين لم يخلق فى البلاد كلها مدينة كمدينتهم.
(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي وثمود الذين قطعوا الصخر ونحتوه وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة كما قال فى آية أخرى : « وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ » .(30/143)
ج 30 ، ص : 144
وفى هذا دليل على ما أنعم اللّه به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير.
(وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي وفرعون ذى المبانى العظيمة التي شادها هو ومن قبله من فراعنة مصر فى قديم الأزمان كالأهرام وغيرها وما أجمل التعبير عما تركه المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد ، فإن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة ، إذ يبتدئ البناء عريضا وينتهى بأدق مما بدأ.
ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف فقال :
(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم فى هضم حقوق الناس ، واغتروا بعظيم قدرتهم ، فكانوا سببا فى إفساد البلاد.
ذاك أن من اغتر بنفسه وتهاون بحقوق غيره واعتدى عليها ، وأخذ ما ليس له ولم يعط الذي عليه - يكون قد فكك شمل الجماعة وأفسد فى البلاد ، فيختل نظام العمران ، ويقف دولاب التعامل ، ويوجس كل امرئ خيفة من بنى جلدته ، ولا شك أن أمما هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار ، ومن ثم ذكر عاقبة أمرها فقال :
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فأنزل اللّه تعالى بهم ألوانا من البلاء ، وشديد العقاب.
وقد شبه سبحانه ما أوقعه بهم من صنوف العذاب ، وما صبّه عليهم من ضروب الهلاك - بالسوط ، من قبل أن السوط يضرب به فى العقوبات ، واللّه يوقع العذاب بالأمم عقوبة لها على ما يقع منها من أنواع التفريط فى أوامر دينه.
ثم ذكر العلة فى تعذيبه لهم فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي إن شأن ربك ألا يفوته من شئون عباده نقير(30/144)
ج 30 ، ص : 145
ولا قطمير ، ولا يهمل أمة تعدّت فى أعمالها حدود شرائعه القويمة ، بل يأخذها بذنوبها أخذ العزيز المقتدر ، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر ، لا يفرّط فيما رصد له.
وقد أجمل اللّه فى هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب ، وفصله فى غير موضع من كتابه الكريم ، فقال فى سورة الحاقة : « فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ » وقال : « وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً » .
والحكمة فى تكرار القصص فى القرآن الكريم ، وفى ذكر بعضها على طريق الإشارة فى بعض المواضع ، وبالتفصيل فى بعض آخر - أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى ، وتوحده فى ملكه ، وقهره لعباده حينا ، وترقيق قلوب المخاطبين حينا آخر ، وإنذار عباده وإعذارهم مرة ثالثة ، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز لا يكون لغيره.
وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه بأن اللّه سيمهل الكافرين ولا يهملهم ، وهو ليس بغافل عنهم ، وحينئذ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت ولم تترك سدى - كافية جدّ الكفاية لمن فكر وتدبر.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 16]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16)(30/145)
ج 30 ، ص : 146
شرح المفردات
ابتلاه : أي اختبره ببسط الرزق وإقتاره ، فأكرمه : أي صيره مكرما يرفل فى بحبوحة النعيم ، قدر عليه رزقه : أي صيره فقيرا مقترا عليه فى الرزق ، تقول قدرت عليه الشيء : أي ضيقته عليه ، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه كما قال : « وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ » .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه لا يفوته من شأن عباده شىء.
وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه - أردف ذلك ذكر شأن من شئون الإنسان ، وبين أنه لا يهتم إلا بأمور الدنيا وشهواتها ، فإذا أنعم اللّه عليه وأوسع له فى الرزق ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه وجنبه منازل العقوبة ، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهى ، ولا يبالى أ كان ما يصنع خيرا أم شرا ، فيطغى ويفسد فى الأرض ، وإذا ضيق عليه الرزق (وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص أو لتظهر قوة صبره ، فإن الفقر لا يزيد ذوى العزائم إلا شكرا) يقول ربى قد أهاننى ، ومن أهانه اللّه وصغرت قيمته لديه لم يكن له عناية بعمله ، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر ، أو يكافئه على ما يصنع من خير ، فلا شكره يكافأ بإحسان ، ولا كفره يجازى بعقوبة ، فينطلق يكسب عيشه بأى وسيلة عنّت له ، ولا تحجزه شريعة ، ولا يقف أمام قانون ، ويسلك سبيل الجبارين ، ويبخس الحقوق ، ويفسد نظم المجتمع ، ولا تزال أحوال الناس هكذا كما وصف اللّه فأرباب السلطان يظنون أنهم فى أمن من عقاب ربهم ولا يذكرونه إلا بألسنتهم ، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم ، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم ، لا يبالون ماذا يفعلون ؟(30/146)
ج 30 ، ص : 147
الإيضاح
(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي إن الإنسان إذا أنعم اللّه عليه وأوسع له فى الرزق - زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة - إكرام من اللّه له ، وخيّل إليه الوهم أن اللّه لا يؤاخذه غلى ما يفعل ، فيطغى ويفسد فى الأرض.
(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي وإن رأى أن رزقه لا يأتيه إلا بقدر ظن أن ذلك إهانة من اللّه له وإذلال لنفسه.
والإنسان فى الحالين مخطئ مرتكب أشنع وجوه الغفلة ، لأن إسباغ النعمة فى الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك ، ولو دل على هذا لما رأيت عاصيا موسعا عليه فى الرزق ، ولا شاهدت كافرا ينعم بصنوف النعم.
ولعل من حكمة اللّه فى بسط الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض آخر أن وجدان المال سبب للانغماس فى الشهوات ، وأنه قاطع عن الاتصال باللّه ، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة.
انظر إلى
قول النبي صلى اللّه عليه وسلم فيما كان يدعو به ربه من قوله : « اللهم أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين »
تدرك سر ذلك.
إلى أن من يمتحنهم اللّه بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن اللّه قد اصطفاهم على عباده ورفعهم فوق سائر خلقه ، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب ، ويسيروا فى طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية ، لا يرجعون إلى ربهم ، ولا يدركون أن ما عنده خير وأبقى.(30/147)
ج 30 ، ص : 148
[سورة الفجر (89) : الآيات 17 الى 20]
كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20)
شرح المفردات
ولا تحاضون : أي لا يأمر بعضكم بعضا ، والتراث : الميراث ، لمّا : أي شديدا ، جمّا : أي كثيرا قال :
إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا وأىّ عبد لك لا ألمّا
المعنى الجملي
بعد أن بين خطأ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه - أردف ذلك زجرهم عما يرتكبون من المنكرات ، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان ، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان ، وكانوا على الحال التي يرتقى إليها الإنسان - لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس ، فعنوا بإكرامه فإن الذي يفقد أباه معرّض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته ، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته ، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله ، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم ، ويشتدون فى أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية.
وصفوة القول - إن شرههم فى المال ، وقرمهم إلى اللذات ، وانصرافهم إلى التمتع بها ، ثم قسوة قلوبهم إلى ألا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشئون اليتامى من فساد أخلاقهم ، وتعطيل قواهم. وانتشار العدوى منهم إلى معاشريهم. فينتشر(30/148)
ج 30 ، ص : 149
الداء فى جسم الأمة - دليل على أن ما يزعمون من اعتقادهم بإله يأمرهم وينهاهم ، وأن لهم دينا يعظهم ، زعم باطل ، وإذا غشّوا أنفسهم وادّعوا أنهم يتذكرون الزواجر ، ويراعون الأوامر ، فذلك مقال تكذبه الفعال.
الإيضاح
(كَلَّا) أي لم أبتل الإنسان بالغنى لكرامته عندى ، ولم أبتله بالفقر لهوانه علىّ ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة ، فقد أوسّع على الكافر لا لكرامته ، وأضيّق على المؤمن لا لهوانه ، وإنما أكرم المرء بطاعته ، وأهينه بمعصيته ، وقد أوسع على المرء بالمال لأختبره أ يشكر أم يكفر ؟ وأضيق عليه لأختبره أ يصبر أم يضجر ؟
ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال فقال :
(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم تدل على تهالككم على المال ، فقد يكرمكم اللّه بالمال الكثير فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره والإحسان إليه وقد جاء فى الحديث الحث على ذلك ،
فلقد قال صلى اللّه عليه وسلم : « أحب البيوت بيت فيه يتيم مكرم »
وورد أيضا : « أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة »
وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.
قال مقاتل : أنزلت الآية فى قدامة بن مظعون وكان يتيما فى حجر أمية ابن خلف.
(وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث بعضكم بعضا على إطعامه وإصلاح شأنه ، وإذا لم تكرموا اليتيم ولم يوص بعضكم بعضا بإطعام المسكين فقد كذبت مزاعمكم فى أنكم قوم صالحون.
وإنما ذكر التحاضّ على الطعام ولم يكتف بالإطعام ، فيقول ولم تطعموا(30/149)
ج 30 ، ص : 150
المسكين - ليبين أن أفراد الأمة متكافلون ، وأنه يجب أن يوصى بعضهم بعضا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع التزام كلّ بفعل ما يأمر به أو ينهى عنه.
ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم ، وخلوّ قلبهم من الرحمة بالمسكين لم يكونا زهدا فى لذائذ الحياة وتخلصا من متاعبها ، وعكوفا على شئون أنفسهم ، بل جاء من محبتهم للمال فقال :
(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا) أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلا شديدا ، فتحولون بينه وبين من يستحقه ، وتجمعون بين نصيبكم منه ونصيب غيركم.
(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا ، ميراثا كان أو غيره.
وخلاصة ذلك - أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة ، لا نصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم ، ولكنكم تشاركونهم فيه ، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه ، ولا مدخل لكم فى تحصيله وجمعه ، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة لما ضريت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه ، من حلال أو من حرام.
فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح ، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمن.
[سورة الفجر (89) : الآيات 21 الى 26]
كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25)
وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)(30/150)
ج 30 ، ص : 151
شرح المفردات
الدكّ : حط المرتفع بالبسط والتسوية ومنه اندكّ سنام البعير إذا انغرس فى ظهره ، دكا دكا : أي دكا بعد دك : أي كرّر عليها الدك وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء ، صفا صفا : أي صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم فى الفضل ، وجىء يومئذ بجهنم : أي كشفت للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم ، وأنى له الذكرى ؟ أي ومن أين له فائدة التذكر وقد فات الأوان ، والوثاق : الشدّ والربط السلاسل والأغلال.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم أقوالهم وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم ، وأن الفقر إهانة لهم ، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا واستفراغ الجهد فى تحصيلها ، وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام - أردفه بيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء وامتلائها بحب المال والميل إلى الشهوات - زعم لا حقيقة له ، وإنما يتذكرون ربهم فى ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول. ويعوزهم الحول ، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال ، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها ، وانتهى إبّانها ، فإن الدار دار جزاء لا دار أعمال ، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين إلا الحسرة والندامة ، وقول قائلهم : « لَي ْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي »
ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره ، ومن الإهانة ما يحل عن التشبيه والتمثيل.
الإيضاح
(كَلَّا) زجر لهم وإنكار لأفوالهم وأفعالهم ، أي لا ينبغى أن يكون هذا شأنهم فى الحرص على الدنيا من حيث تتهيأ لهم سواء كانت من حلال أو حرام ، وكأنهم يتوهمون أن لا حساب ولا جزاء ، وسيأتى يوم يندمون فيه أشد الندم ،(30/151)
ج 30 ، ص : 152
ولكن لا تنفعهم الندامة ، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم فى التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال.
ثم بين ذلك اليوم ووصفه بأوصاف ثلاثة فقال :
(1) (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا دكت الأرض دكا بعد دك ، وتتابع عليها. ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء ، وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور.
(2) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي وتجلت لأهل الموقف السطوة الإلهية ، كما تتجلى أبّهة الملك للأعين إذا جاء الملك فى جيوشه ومواكبه ، وللّه المثل الأعلى.
(3) (وَجِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي وكشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم.
ونحو الآية قوله : « وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى » أي أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها ، وليس المراد أنها نقلت من مكانها إلى مكان آخر.
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي حينئذ تذهب الغفلة ، ويتذكر المرء ما كان قد فرّط فيه ، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالا ، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها.
ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة منها فقال :
(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى ) أي ومن أين لهذه الذكرى فائدة ، أو ترجع إليه بعائدة وقد فات الأوان ، وحمّ القضاء.
والخلاصة - إنه إذا حدثت هذه الأحداث انكشفت عن الإنسان الحجب ، ووضح له ما كان عليه ، وذهبت عنه الغفلة ، وإذ ذاك يتمنى أن يعود ليعمل صالحا ، ولكن أنى له ذلك ؟
ثم بين تذكره بقوله :
(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد عمل صالحا ينفعه فى حياته الأخروية التي هى الحياة الحقيقية.(30/152)
ج 30 ، ص : 153
ثم بين مآله وعاقبة أمره فقال :
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي فيومئذ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى فجحد نعمة اللّه عليه ، أو أفسده الفقر حتى عثا فى الأرض فسادا ، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان.
ولا يخفى ما فى ذلك من تقوية الذكرى لمن له قلب يذكر ، ووجدان يشعر.
[سورة الفجر (89) : الآيات 27 الى 30]
يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
شرح المفردات
المطمئنة. من الاطمئنان وهو الاستقرار والثبات ، إلى ربك : أي إلى ثوابه وموقف كرامته ، فى عبادى : أي فى زمرة عبادى المكرمين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال الإنسان الذي خلّى وطبعه ، فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته ، حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل ، ثم ذكر عاقبة أمره فى الآخرة - أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع وسمت نفسه إلى مراتب الكمال ، فاطمأن إلى معرفة خالقه ، واستعلى برغائبه إلى المطامع الروحية ، ورغب عن اللذات الجسمانية ، فكان فى الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه ، وفى الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره ، وبين أنه فى ذلك اليوم يكون بجوار ربه راضيا بعمله فى الدنيا ، مرضيا عنده ، يدخله فى زمرة الصالحين المكرمين من عباده.(30/153)
ج 30 ، ص : 154
الإيضاح
(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق ، فلا يخالجها شك ، ووقفت عند حدود الشرع ، فلا تزعزعها الشهوات ، ولا تضطرب بها الرغبات.
(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) أي ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك ، راضية عما عملت فى الدنيا ، مرضيا عنك ، إذ لم تكونى ساخطة لا فى الغنى ولا فى الفقر ، ولم تتجاوزى حدود الشرع فيما لك من حق وما عليك من واجب.
ثم ذكر جميل عاقبتها فقال :
(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي فادخلى فى زمرة عبادى المكرمين ، وانتظمى فى سلكهم ، وكونى فى جملتهم ، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة ، يشرق بعضها على بعض ، وكأنها تربّى فى هذه الدنيا بالآلام وتزين بالمعارف والعلوم ، حتى إذا فارقت الأبدان جعلت فى أماكن متقاربة ، بينها صفاء ومودة ، وحسن صلة ومحبة.
(وَادْخُلِي جَنَّتِي) فتمتعى فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة ، الراضية المرضية ، وأدخلنا فى جنتك مع المتقين ، من الأنبياء والشهداء والصالحين ، والحمد للّه رب العالمين.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة :
(1) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.
(2) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.(30/154)
ج 30 ، ص : 155
(3) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام اللّه له ، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.
(4) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.
(5) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا.
(6) كرامة النفوس الراضية المرضية ، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها.
سورة البلد
هى مكية ، وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة ق.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) أنه ذم فى الأولى من أحب المال وأكل التراث ولم يحضّ على طعام المسكين ، وذكر هنا الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة ، والإطعام فى يوم المسبغة.
(2) ذكر هناك حال النفس المطمئنة ، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان.
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
شرح المفردات
البلد : مكة ، حلّ : أي حالّ مقيم فيه ، ووالد وما ولد : أي وأىّ والد وأىّ مولود من الإنسان والحيوان والنبات ، والكبد : المشقة والتعب ، قال لبيد يرثى أخاه أربد :
يا عين هل رأيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم فى كبد(30/155)
ج 30 ، ص : 156
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدّم أن قلنا إن مثل هذا التعبير قسم مؤكد فى كلام العرب ، وقد أقسم ربنا بمكة التي شرفها فجعلها حرما آمنا ، وجعل فيها البيت الحرام مثابة للناس يرجعون إليه ويعاودون زيارته كلما دعاهم إليه الشوق ، وجعل فيه الكعبة قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وأمر بالتوجه إليها فى الصلوات التي تكرر كل يوم فقال : « وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » .
(وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت مقيم بهذا البلد حالّ فيه ، وكأنه سبحانه جعل من أسباب شرف مكة وعظمتها كونه صلى اللّه عليه وسلم مقيما فيه ، ولا شك أن الأمكنة تشرف بشرف ساكنيها ، والنازلين بها.
وأتى بهذه الجملة ليفيد أن مكة جليلة القدر فى كل حال حتى فى الحال التي لم يراع أهلها فى معاملتك تلك الحرمة التي خصها اللّه بها.
وفى هذا إيقاظ وتنبيه لهم من غفلتهم ، وتقريع على حط منزلة بلدهم.
(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي وكل والد وكل مولود من الإنسان وغيره.
وفى القسم بهذا لفت لأنظارنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد ، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع ، وإلى ما يعانيه كل من الوالد والمولود فى إبداء النشء ، وتبليغ الناشئ وإبلاغه حده من النمو المقدّر له.
انظر إلى البذرة فى أطوار نموها ، كم تعانى من اختلاف الأجواء ، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان ، وتستعد لأن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها ، وتزين الوجود بجمال منظرها.
وأمر الإنسان والحيوان فى ذلك أعجب وأعظم ، والتعب والعناء الذي يلاقيا كل منهما فى سبيل حفظ نوعه ، واستبقاء جمال الكون بوجوده أشد وأكبر.(30/156)
ج 30 ، ص : 157
ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد ، مبتدئة بالمشقة ، منتهية بها فهو لا يزال يقاسى من ضروبها ما يقاسى منذ نشأته فى بطن أمه إلى أن يصير رجلا ، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه ، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده ، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل ، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت ، ويلاقى فى قبره وفى آخرته من المشاقّ والمتاعب ، ما لا يقدر عليه إلا يتيسير اللّه سبحانه.
والسر فى التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق فى عناء - الرغبة فى تسلية رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه ، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاقّ ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان.
إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة فى أنفسهم ، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران ، وكأنه يقول لهم : لا تتمادوا فى غروركم ، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم ، فإن الإنسان لا يخلو من العناء فى تصريف شئونه وشئون ذويه ، ومهما عظمت منزلته ، وقويت شكيمته. فهو لا يستطيع الخلاص من مشاقّ الحياة.
وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد ، ليشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودا عظيما يكون إكليلا لمجد النوع الإنسانى وشرفه ، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد فى تربية ولده ، والمولود فى بلوغ الغاية فى سبيل نموه إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.(30/157)
ج 30 ، ص : 158
[سورة البلد (90) : الآيات 5 الى 10]
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
شرح المفردات
أيحسب : أي أ يظن ، أهلكت : أي أنفقت ، لبدا : أي كثيرا ، والنجد :
الطريق المرتفعة والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر.
المعنى الجملي
بعد ذكر أنه لا ينبغى للمفتونين بقوة أبدانهم ، المغرورين بواسع جاههم ، أن يتمادوا فى صلفهم وكبريائهم - شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية.
روى أن قوله : « أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ » ؟ نزل فى أبى الأشد أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان مغترا بقوته البدنية وأن قوله : « يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً » نزل فى الحرث بن نوفل وكان يقول : أهلكت مالا لبدا فى الكفارات منذ أطعت محمدا.
وسواء أ كانت هذه الآيات نزلت فى هؤلاء أم فى غيرهم فإن معناها عام كما علمت.
الإيضاح
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ ) أي أ يظن ذلك المغترّ بقوته ، المفتون بما أنعمنا به عليه - أنه مهما عظمت حاله ، وقوى سلطانه ، يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها(30/158)
ج 30 ، ص : 159
أحد ؟ ما أجهله إذا ظن ذلك ، فإن فى الوجود قوة جميع القوى هى المهيمنة على كل قوة ، والمسيطرة على كل قدرة ، وهى القوّة التي أبدعته ، والقدرة التي أنشأته.
ثم ذكر صنفا آخر من الأغنياء البخلاء المرائين فقال :
(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً) أي إنهم إذا طلب إليهم أن يعملوا عملا من أعمال البر قالوا : إننا ننفق الكثير من أموالنا فى المفاخر والمكارم ، ولم يعلموا أن المكرمة ما عدّه اللّه مكرمة ، والبرّ ما اعتبره اللّه برا ، فليس من البر إنفاقهم المال فى مشاقة اللّه ورسوله ، ولا إنفاقهم طائل الأموال فى الصدّ عن سبيل اللّه ، والكيد للذين آمنوا باللّه ورسوله.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أ يظن ذلك المغتر بماله ، المدعى أنه أنفقه فى سبيل الخير - أن اللّه لم يطلع على أفعاله ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق ؟ إنه لا ينبغى له أن يظن ذلك ، فإن البارئ له مطلع على قرارة نفسه ، عالم بخبيئات قلبه ، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، عليم بأنه لم ينفق شيئا من ماله فى سبيل الخير المشروع والبر المحمود ، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة ، أو لمشاقة اللّه ورسوله ، أو فى وجوه أخرى يظنها خيرا وهى خسران وضلال مبين.
وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم - شرع يذكر آثار قدرته الغالبة ، ليبين لهم أن هناك قوة لها من الآثار ما هم يشاهدون فقال :
(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فهو إذا أبصر شيئا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين ، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هى من عملنا.
(وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) فإذا أبان عما فى نفسه ، فإنما يبين بما وهبنا له من لدنا من تلك الجارحة التي يتكلم بها ، فإذا غرّه حديثه ، أو قوة حجته ، فليس فضل ذلك راجعا إليه ، وإنما الفضل لمن وهبه ذلك.(30/159)
ج 30 ، ص : 160
(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي وأودعنا فى فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر ، وجعلنا له من العقل والفكر ما يكون مذكرا ومنبها ، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير وأرشدناه إلى ما فى الشر من هنوات وعيوب ، ثم أقدرناه على أن يسلك أىّ الطريقين شاء ، بعد أن آتيناه قوة التمييز ، والقدرة على الاختيار والترجيح ، ليسلك الطريق التي أراد منهما.
فليكن نجد الخير أحبّ إلى أحدكم من نجد الشر فمن نازعته نفسه واتجهت إلى نجد الشر فليقمعها بالنظر فى آيات اللّه ، والتدبر فى دلائله ، ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوجّ يهوى بصاحبه إلى طريق الردى ، ويوقعه فى المهالك.
وإنما سماهما اللّه نجدين ، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار ، وإلى أن فى كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها.
وفى ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير ، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصّل إلى الغاية.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(30/160)
ج 30 ، ص : 161
شرح المفردات
اقتحم الشيء : دخل فيه بشدة ، والعقبة : الطريق الوعرة فى الجبل يصعب سلوكها ، والمراد بها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه ومن يسوّل له فعل الشر من شياطين الإنس والجن ، وفك الرقبة : عتقها أو المعاونة عليه ، والمسبغة : الجوع ، يقال سغب الرجل يسغب إذا جاع ، والمقربة : القرابة فى النسب ، تقول فلان من ذوى قرابتى ومن أهل مقربتى إذا كان قريبك نسبا ، والمتربة : الفقر ، تقول ترب الرجل إذا افتقر ، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب ، تواصوا بالصبر : أي نصح بعضهم بعضا به ، والميمنة : طريق النجاة والسعادة ، والمشأمة : طريق الشقاء ، مؤصدة : أي مطبقة عليهم من آصدت الباب ، أي أغلقته ، قال :
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ومن دونها أبواب صنعاء موصده
المعنى الجملي
بعد أن وبخ سبحانه هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة ، وحبّا فى الأحدوثة ، وأنّبهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلوّ بواطنهم من حسن النية ، وبين لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر ، والنفع والضر هو منه سبحانه ، وهو القادر على سلبه منهم - أردفه بيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم ، ويختاروا طريق الخير ، ويرجحوا سبيل السعادة ، فيفيضوا على الناس بشىء مما أفاض به عليهم ، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر ، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام ، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم لضعفهم وعجزهم ، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحى الإيمان ، صبورين على أذى الناس ، وعلى ما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدعوة إلى الحق ، رحماء بعباده ، مواسين لهم حين الشدائد.(30/161)
ج 30 ، ص : 162
هذه هى الطريق التي كان من حق العقل أن يرشد إليها ، لكن الإنسان قد خدعه غروره فلم يقتحم هذه العقبة ، ولم يسلك هذه السبيل القويمة ، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم.
الإيضاح
(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلا جاهد النفس والشيطان وعمل أعمال البر ، وقد ضرب اللّه العقبة مثلا لهذا الجهاد ، لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح ، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات ، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هى فعل الخيرات.
ثم فخم شأن العقبة وعظم أمرها فقال :
(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي وأىّ شىء أعلمك ما اقتحام العقبة ؟
ثم أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير منها :
(1) (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتق الرقبة أو الإعانة عليها ، وقد ورد فى الكتاب الكريم والسنة الترغيب فى العتق والحث عليه.
روى البراء بن عازب رضى اللّه عنه قال : « جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه دلّنى على عمل يدخلنى الجنة ، قال : عتق النسمة وفك الرقبة ، قال : يا رسول اللّه أو ليسا واحدا ؟ قال لا : عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها » .
والكلام بتقدير مضاف : أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ، فك رقبة ، لأن فك الرقبة ليس هو العقبة نفسها ، وإنما هو اقتحامها لأنه سبب موصل إلى مجاوزة العقبة والوصول إلى عالم الأنوار.
(2) (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أو إطعام يتيم من أقاربه فى أيام الجوع والعوز.(30/162)
ج 30 ، ص : 163
وفى هذا جمع بين حقين : حق اليتيم وحق القرابة.
(3) (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال لضعفه وعجزه.
(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي ثم كان مع اقتحامه العقبة من صادق الإيمان الذين يصبرون على الأذى وما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدفاع عن الحق ، ويرحمون عباد اللّه ويواسونهم ويساعدونهم حين البأساء.
وإنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المبارّ ، لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنا لم ينتفع بها ، ولم يكن له ثواب عليها ، إذ لا ينفع مع الكفر برّ.
ثم بيّن مآل فاعلى هذه المبرات فقال :
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أولئك الذين اقتحموا العقبة ففكوا الرقاب ، وأطعموا المساكين ، وواسوا ذوى القربى فى يوم المسغبة هم السعداء الممتعون بجنات النعيم ، وهم الذين عناهم اللّه بقوله : « وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ » .
ثم ذكر مقابل هؤلاء وهم الذين صدوا عن سبيل اللّه ، وتواصوا بالإثم وتواصوا بالعدوان ومعصية الرسول فقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي والذين جحدوا آياتنا الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل كالقرآن وغيره من الكتب السماوية هم أصحاب المشأمة ، أي أهل الشمال الذين وصفهم اللّه بقوله : « وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ(30/163)
ج 30 ، ص : 164
كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ »
.
(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي عليهم نار تطبق عليهم فلا يستطيعون الفكاك منها ولا الخلاص من عذابها. نجانا اللّه منها بمنه وكرمه ، وجعلنا من أصحاب الميمنة.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد :
(1) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب.
(2) اغترار الإنسان بقوته.
(3) نكران الن عم التي أنعم اللّه بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر (4) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
(5) كفران الآيات سبيل الشقاء.(30/164)
ج 30 ، ص : 165
سورة الشمس
هى مكية ، وآياتها خمس عشرة ، نزلت بعد سورة القدر.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، وأعاد ذكر الفريقين فى هذه السورة بقوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » .
(2) ختم السورة السالفة بشىء من أحوال الكفار فى الآخرة ، وختم هذه بشىء من أحوالهم فى الدنيا.
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
شرح المفردات
ضحى الشمس : ضوؤها ، تلاها : أي تبعها ، يقال تلا فلان فلانا يتلوه إذا تبعه ، وجلاها : أي كشف الشمس وأتمّ وضوحها ، يغشاها : أي يزيل ضوءها ويحجبه ، والسماء : كل ما ارتفع فوق رأسك ، والمراد به هذا الكون الذي فوقك وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجرى فى مجاريها ، بناها : أي رفعها ، وجعل كل(30/165)
ج 30 ، ص : 166
كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة تحيط بك ، وطحا الأرض بسطها وجعلها فراشا ، سوّاها : أي ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة ، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها ، ألهمها : عرّفها ومكّنها ، والفجور : ما يكون سببا فى الخسران والهلكة ، والتقوى : إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة ، أفلح : أي أصاب الفلاح ، وهو إدراك المطلوب ، وزكاها : أي طهرها من أدناس الذنوب ، وخاب :
أي خسر ، ودسّاها : أي أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي قال :
ودسست عمرا فى التراب فأصبحت حلائله منه أرامل ضيّعا
الإيضاح
(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أقسم سبحانه بالشمس نفسها غابت أو ظهرت ، لأنها خلق عظيم على قدرة مبدعها ، وأقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة فى كل حى ، فلولاها ما أبصرت حيّا ولا رأيت ناميا ، ولولاها ما وجد الضياء ولا انتشر النور ، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان فرّ منه السقم ، وولت جيوش الأمراض هاربة ، لأنها تفتك بها فتكا ذريعا.
(وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي والقمر إذا تلا الشمس فى الليالى البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضىء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر.
وهذا قسم بالضوء فى طور آخر ، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.
وقد يكون المراد - بتلاها أي تبعها فى كل وقت ، لأن نوره مستمد من نور الشمس فهو لذلك يتبعها ، وقد قال بهذا الفرّاء قديما وأثبته علماء الفلك حديثا.
(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي والنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها وأتمّ وضوحها ، إذ كلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أكمل وضوحا.(30/166)
ج 30 ، ص : 167
وأقسم بهذه المخلوقات ، للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء وإعظام أمر النعمة فيه ، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من آيات ربنا الكبرى ، ونعمة من نعمه العظمى.
وفى قوله : جلاها بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة ، والآية الباهرة.
وبعد أن أقسم بالضياء فى أطوار مختلفة أقسم بالليل فى حال واحدة فقال :
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي والليل إذا يغشى الشمس فيزيل ضوءها فى الليالى الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها ، لا مباشرة كما فى النهار ، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها ، وهى قليلة فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال فى الشهر.
وفى هذا إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكواكب العظيم فيذهب ضوءه ، ويحيل نور العالم ظلاما فهو على جليل نفعه وعظيم فائدته ، لا يتخذ إلها لأن الإله لا يحول ولا يزول ، ولا يعتريه تغير ولا أفول.
وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته.
وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام - أردفه ذكر صفات تدل على حدوثها فقال :
(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والسماء ومن قدّرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته.
وفى ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة ، وأن لها صانعا حكيما قد أحكم وضعها وأجاد تقديرها ، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها حتى يتماسك.
ولما كان الخطاب موجها إلى قوم لا يعرفون اللّه بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينظروا فى هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرا ، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى - عبر عن نفسه بلفظ (ما) التي هى الغاية فى الإبهام.(30/167)
ج 30 ، ص : 168
(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي والأرض والذي بسطها ومهدها للسكنى ، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان ، وبما فى باطنها من مختلف المعادن.
ونحو الآية قوله : « الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً » .
وقصارى ما سلف - إنه بعد أن أقسم سبحانه بالضياء والظلمة ، أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب ، وبالذي بناها وجعلها مصدرا للضياء ، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشا ومصدرا للظلمة ، فإنها هى التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر فيظهر فيه الظلام.
ثم أقسم بعد هذا بالنفس الإنسانية لما لها من شرف فى هذا الوجود فقال :
(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة ، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها ، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى.
ثم بين أثر هذه التسوية فقال :
(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى وعرفها حالهما ، بحيث تميز الرشد من الغىّ ، ويتبين لها الهدى من الضلال ، وجعل ذلك معروفا لأولى البصائر.
وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر ذكر ما تلقاه جزاء على كل منهما فقال :
(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي قد ربح وفاز من زكى نفسه ونمّاها حتى بلغت غاية ما هى مستعدة له من الكمال العقلي والعملي ، حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها.
(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي وخسر نفسه وأوقعها فى التهلكة من نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانبة البر والقربات ، فإن من سلك سبيل الشر ، وطاوع داعى(30/168)
ج 30 ، ص : 169
الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم ، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان ، واندرج فى عداد الحيوان.
ولا شك أنه لا خيبة أعظم ، ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله.
والمحلوف عليه الذي افتتحت به السورة - محذوف للعلم به من نظائره ، وكأنه قيل : « وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... » لينزلنّ بالمكذبين منكم مثل ما نزل بثمود إذ كذبت نبيّها فأصابها العذاب ، ودليل ذلك قوله بعد : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها » الآيات ، فإنها ترشد إلى أن اللّه يعاقب من يكذب رسله ، نحو ما سبق فى سورة البروج.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
شرح المفردات
الطّغوى والطغيان : مجاوزة الحد المعتاد ، انبعث : أي قام بعقر الناقة ، أشقاها :
أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف ، رسول اللّه : هو صالح عليه السلام ، ناقة اللّه ، أي احذروا التعرض لناقة اللّه ، وسقياها : أي شربها الذي اختصها به فى يومها ، فعقروها : أي فنحروها ، فدمدم : أي فأطبق عليهم العذاب ، يقال : دمدم عليه القبر : أي أطبقه عليه ، فسواها : أي فسوى القبيلة فى العقوبة فلم يفلت منها أحد ، عقباها : أي عاقبة الدمدمة وتبعتها.(30/169)
ج 30 ، ص : 170
المعنى الجملي
جرت عادة القرآن أن يذكر بعض أخبار الأمم السابقة وما كان منهم مع رسلهم وما قابلوه به من التكذيب والإيذاء ، ثم يذكر ما جرت به سنته سبحانه من الإيقاع بالمكذبين ، وأخذهم بظلمهم وبما عملوا مع أنبيائهم ، ليكون فى ذلك سلوة للرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه لم يلق إلا ما لقى إخوانه الأنبياء ، ولم يكابد من قومه إلا مثل ما كابدوا ، وليكون فى ذلك تخويف لأولئك المكذبين الذين يعاندون رسول اللّه ويلحفون فى تكذيبه ، بأنهم إذا استمروا على ذلك حاق بهم مثل ما حاق بالأمم السالفة ونالوا من الجزاء مثل ما نالوا.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي كذبت ثمود نبيّها صالحا بسبب طغيانها وبغيها.
ثم بين أمارة ذلك التكذيب فقال :
(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان انطلاق الأشقى لعقر الناقة والقوم راضون عنه علامة ظاهرة على تكذيبهم لنبيهم الذي جعلها دليل نبوته ، وبرهانا على صدق رسالته ، وأوعدهم إذا هم تعرضوا لها ، وسكوت قومه على ما يفعل دليل رضاهم عن فعله ، فكانوا مكذبين مثله.
ثم ذكر ما توعدهم به الرسول على فعلهم فقال :
(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها) أي فقال لهم صالح : احذروا ناقة اللّه التي جعلها آية نبوّتى ، واحذروا شربها الذي اختصّت به فى يومها ، فلا تؤذوها ولا تتعدوا عليها فى شربها ولا فى يوم شربها ، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم ، ولهم ولمواشيهم شرب يوم ، فكانوا يجدون فى أنفسهم حرجا لذلك ويتضررون منه ، فهمّوا بقتلها فحذّرهم أن يفعلوا ذلك ،(30/170)
ج 30 ، ص : 171
وخوّفهم عذاب اللّه وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل ، لكنهم كذبوه ولم يستمعوا لنصحه كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي إنهم لم يتورّعوا عن تكذيبه ، ولم يحجموا عن عقر الناقة ، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب.
وقد تقدم أن قلنا : إنهم لما رضوا بهذا الفعل نسب إليهم جميعا ، وكأنهم صنعوه معه.
ثم بين عاقبة عملهم وذكر ما يستحقونه من الجزاء فقال :
(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي فأطبق عليهم العذاب ، وأهلكهم هلاك استئصال ولم يبق منهم ديّارا ولا نافخ نار ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَسَوَّاها) أي فسوّى القبيلة فى العقوبة ولم يفلت منها أحد ، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم ، ذكرهم وأنثاهم : « وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ » .
وقد يكون المعنى - جعل الأرض فوقهم مستوية كأن لم تثر ، ودمّر مساكنها على ساكنيها.
(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي إن اللّه أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم ، لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق ، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
والمراد أنه بالغ فى عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية ، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ فى الفعل ، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل فإنه يبالغ فيه ليصل إلى ما يريد.
وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله بأنه سينزل بالمكذبين به مثل ما أنزل بثمود ، ولقد صدق اللّه وعده ، فأهلك من أهلك من أهل مكة فى وقعة(30/171)
ج 30 ، ص : 172
بدر بأيدى المؤمنين ، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى حتى لم يبق فى جزيرة العرب مكذّب ، ولو سارت الدعوة إلى الإسلام سيرتها فى عهد الصحابة لما بقي فى الأرض مكذب ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز ، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب.
(2) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب اللّه الذي هو له أهل.(30/172)
ج 30 ، ص : 173
سورة الليل
هى مكية ، وآياتها إحدى وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعلى.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم وخيبة المدسّين لها وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح وما تحصل فيه الخيبة ، فهى كالتفصيل لسابقتها.
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
شرح المفردات
يغشى : أي يغطى كل شىء فيواريه بظلامه ، تجلى : أي ظهر وانكشف بظهوره كل شىء ، وما خلق : أي والذي خلق ، وشتى : واحدها شتيت ، وهو المتباعد بعضه من بعض.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف ، فأقسم :
(1) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره ، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.
(2) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم ، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها.
(3) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة(30/173)
ج 30 ، ص : 174
التي تكوّنا منها واحدة ، والمحل الذي تكوّنا فيه واحد ، وفى ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة كما قال : « يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ » .
الإيضاح
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى ) أي قسما بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها فى ظلامه ، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم ، بما يشملهم من النوم والهدوء.
(وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى) بزوال ظلمة الليل ، فيتحرك الإنسان والحيوان ، طلبا لمعاشهما ، وبهذا يظهر وجه المصلحة فى اختلافهما ، إذا لو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش على الناس ، ولو كان كله نهارا لبطلت المصلحة ، فكان فى تعاقبهما آية بالغة يستدل بها على علم الصانع وحكمته ، اقرأ إن شئت قوله : « وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً » .
(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ) أي قسما بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد.
وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها ، إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى فى الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، فإن الأجزاء الأصلية فى المادة متساوية النسبة فيهما ، فحدوث هذا التخالف فى الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، حكيم فيما يصنع ويضع.
وقصارى ما سلف - إن بعض الماء يكون تارة سببا للحمل ، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح ، والأول يكون من بعضه الذكران ، ومن بعضه الإناث.
سبحانه ما أعظم قدرته ، وأجلّ حكمته ، لا إله إلا هو الفعال لما يريد.(30/174)
ج 30 ، ص : 175
ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة ، بعضها ضلال وعماية ، وبعضها هدى ونور ، وبعضها يستحق النعيم ، وبعضها يستحق العذاب الأليم كما قال : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ »
وقال : « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » .
[سورة الليل (92) : الآيات 5 الى 11]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11)
شرح المفردات
أعطى : أي بذل ماله ، واتقى : أي ابتعد عن الشر وإيصال الأذى إلى الناس ، بالحسنى : أي بالخصلة الحسنى التي هى أفضل من غيرها ، لليسرى : أي للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة بتمتعه بالنعيم ، استغنى : أي عدّ نفسه غنيا عما عند الناس بما لديه من مال ، فلا يجد فى قلبه راحة لضعفائهم ببذل المال والمعونة لهم ، بالحسنى :
أي بالفضيلة وبأنها ركن من أركان الاجتماع ، للعسرى : أي الخصلة التي تؤديه إلى العسر ، ويقال تردى فلان من الجبل إذا هوى من أعلاه وسقط إلى أسفله.
المعنى الجملي
بعد أن أشار إلى اختلاف أعمال الناس فى أنواعها وصفاتها ، والجزاء الذي يعود على فاعلها - أخذ يفصل هذا الاختلاف ، ويبين عاقبة كل عمل منها.(30/175)
ج 30 ، ص : 176
الإيضاح
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ) أي فأما من أعطى المال وأنفقه فى وجوه الخير ، سواء كان واجبا عليه أم لا كالصدقات والنوافل كفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم ، وابتعد عن كل ما لا ينبغى ، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس.
(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ) أي وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب ، ونحو ذلك مما هو مركوز فى طبيعة الإنسان ، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير.
ولا يكون تصديقا حقا ، ولا ينظر اللّه إليه إلا إذا صدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه وهو بذل المال ، واتقاء مفاسد الأعمال.
وكثير من الناس يظن نفسه مصدّقا بفضل الخير على الشر ولكن هذا التصديق يكون سرابا فى النفس ، خيّله الوهم ، لأنه لا يصدر عنه ما يليق به من الأثر ، فتراه قاسى القلب ، بعيدا عن الحق ، بخيلا فى الخير ، مسرفا فى الشر.
ثم ذكر جزاءه على ذلك فقال :
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ) أي فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما فى أصل الفطرة ، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير فى الأعمال ووزنها بنتائجها.
فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها سهل اللّه له ما هو مسوق إليه بأصل فطرته.
وفاعل الخير للخير يجد أريحيّة فى نفسه ، ويذوق لذة لا تعد لها لذة ، فتزيد فيه رغبته ، وتشتد لفعله عزيمته وهذا هو التيسير الإلهى الذي يوفق اللّه له الصالحين من عباده.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى ) أي وأما من أمسك ماله أو أنفقه فى شهواته ، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه ، وخدعته ثروته وجاهه ، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد ولا يحس(30/176)
ج 30 ، ص : 177
بأنه واحد من الناس يصيبه ما أصابهم من السوء.
(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى ) أي وكذب بأن اللّه يخلف على المنفقين فى سبيله ، فبخل بماله ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتّعه فى حاضره ولا يبالى بما عدا ذلك.
ويدخل فى المكذبين بالحسنى أولئك الذين يتكلمون بها تقليدا لغيرهم ، ولا يظهر أثرها فى أعمالهم.
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى ) أي ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث فيسهل اللّه له الخطة العسرى ، وهى الخطة التي يحط بها قدر نفسه ، وينزل بها إلى حضيض الآثام ويغمسها فى أوحال الخطيئة.
(وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وإذا يسرناه للعسرى فأى شىء يغنى عنه ماله الذي بخل به على الناس ولم ينفقه فى المصالح العامة ، وفيما يعود نفعه على الجماعة ، ولم يصحب منه شيئا إلى آخرته التي هى موضع حاجته وفقره كما قال : « وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ » .
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
شرح المفردات
تلظى : أصله تتلظى ، أي تتوقد وتلتهب ، يقال : تلظت النار تلظيا بمعنى التهبت التهابا ومنه سميت النار لظى ، يصلاها : أي يحترق بها ، كذب : أي كذب(30/177)
ج 30 ، ص : 178
الرسول فيما جاء به عن ربه ، وتولى : أي أعرض عن طاعة ربه ، وسيجنبها : أي يبعد عنها ويصير منها على جانب ، والأتقى : المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي : الشديد التحرز منهما ، يتزكى : أي يتطهر ، تجزى : أي تجازى وتكافأ ، ابتغاء وجه ربه :
أن طلب مثوبته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته ، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه اللّه إلى أعمال البر ، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان - أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا ، ووضح السبيل أمام كل سالك ، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد ، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية.
روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى اللّه عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان ، وكان مولى لعبد اللّه بن جدعان - جاء إلى الأصنام وسلح عليها ، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم ، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء ، وكان يقول وهم يعذبونه : أحد أحد وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يمر به وهو يعذب فيقول له : ينجيك أحد أحد ، ثم أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر رضى اللّه عنه بما يلقى بلال فى اللّه ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه ، فقال المشركون :
ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزل قوله :
« وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى » الآيات.
الإيضاح
(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) أي إنا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ثم بعثنا له الكملة من أفراده ، وهم الأنبياء وشرعنا لهم الأحكام(30/178)
ج 30 ، ص : 179
وبينا لهم العقائد تعليما وإرشادا ، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين : سبيل الخير والفلاح ، والسبيل المعوجّ فيتردّى فى الهاوية.
وقصارى ذلك - إن الإنسان خلق نوعا ممتازا عن سائر الحيوان بما أوتيه من العقل ، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
ثم زاد الأمر توكيدا فأبان عظيم قدرته فقال :
(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى ) أي وإنا لنحن المالكون لكل ما فى الدنيا وكل ما فى الآخرة ، فنهب ما نشاء لمن نريد ، ولا يضيرنا أن يترك بعض عبادنا الاعتداء بهدينا الذي بيّناه لهم ، ولا يزيد فى ملكنا اهتداء من اهتدى منهم ، لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم ، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما ربك بظلام للعبيد.
وإذا كان ملك الحياتين للّه كان هديه هو الذي يجب اتباعه فيهما ، لأن المالك لأمر عالم بوجوه التصرف فيه.
ثم بين سبيل الهداية الذي أوجبه على نفسه فقال :
(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى ، فأنذرناكم نارا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول صلى اللّه عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من الآيات ، وأعرض عن اتباع شرائعه ، وانصرف عن وجهة الحق ولم يعد إليها تائبا نادما.
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيبعد عنها المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي ، الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما له ببال.
ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه فقال :
(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي إن الأتقى هو الذي ينفق أمواله فى وجوه البر ، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه ، لا مريدا بذلك رياء ولا سمعة ولا طالبا مديح الناس له ، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل ، ولا يكون(30/179)
ج 30 ، ص : 180
لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها ، فاللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.
وقد أكد هذا بقوله :
(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى ) أي إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها ، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه.
ثم أكده مرة ثانية فقال :
(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) أي لكنه يفعل ذلك قاصدا رضا ربه طالبا مثوبته وحده ، تقول : فعلت كذا أبتغى وجه فلان ، أي لم يحملنى على الفعل إلا إجلاله وقصد مرضاته ، وخيفة الوقوع فيما يغضبه.
ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه فقال :
(وَلَسَوْفَ يَرْضى ) أي ولسوف يرضيه ربه فى الآخرة بثوابه وعظيم جزائه.
وفى قوله : (وَلَسَوْفَ) إيماء إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير ، ولا يكفى القليل من المال ، لأن يبلغ العبد منزلة الرضا الإلهى.
وقصارى ما سلف : إن الناس أصناف :
(1) الأبرار الذين منحهم اللّه من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(2) الذين يلون هؤلاء ، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانا فيقعون فى الذنب ، ثم يثوب إليهم رشدهم فيتوبون ويندمون ، وهذان القسمان يدخلان فى (الْأَتْقَى).
(3) من يخلط بين الخير والشر فيعتقد وحدانية اللّه ويقترف بعض السيئات ، ويصرّ عليها ولا يتوب منها ، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدّق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد.
يرشد إلى ذلك
قوله صلى اللّه عليه وسلم « لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن »
والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن(30/180)
ج 30 ، ص : 181
ذهن المخالف وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه فى النفس وتغلب عليها.
(4) الكافرون الجاحدون باللّه وبرسله وبما أنزل عليهم ، وهذان القسمان يشملهما (الْأَشْقَى) وقد أعدت النار لكل منهما ، إلا أن الفاسقين لا يخلدون فيها ، ويدخلها الكافرون وهم فيها خالدون.
اللهم ابعدنا عن هذه النار التي تتلظى ، وأدخلنا فسيح جناتك.
مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان :
(1) فريق يهيئه اللّه للخصلة اليسرى ، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها ، وصدقوا بما وعد اللّه من الإخلاف على من أنفقوا.
(2) فريق يهيئه اللّه للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة ، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات ، وأنكروا ما وعد اللّه به من ثواب الجنة.
(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما ، وإما نارا وعذابا أليما.(30/181)
ج 30 ، ص : 182
سورة الضحى
هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الفجر.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السابقة « وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى » ولما كان سيد الأتقين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عقب ذلك سبحانه بذكر نعمه عزّ وجل عليه.
[ سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)
شرح المفردات
الضحى : صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى أشعتها على هذا الكون ، وسجى : أي سكن والمراد سكن الأحياء فيه وانقطعوا عن الحركة ، ما ودعك ربك : أي ما تركك ، وما قلى : أي وما قلاك وما أبغضك ، والقلى : شدة الكره والبغض.
المعنى الجملي
أجمع الرواة على أن سبب نزول هذه السورة حدوث فترة فى نزول الوحى على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنه حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا إلى الجبال ليتردّى من شواهقها ، وأنه ما كان يمنعه إلا تمثل الملك له وإخباره إياه أنه رسول اللّه حقّا.
وإنما حزن لهذه الفترة خيفة أن يكون ذلك من غضب أو قلى من ربه له ، بعد أن ذاق حلاوة الاتصال به ، وشاهد من جمال الأنس بالوحى ما يثير لواعج(30/182)
ج 30 ، ص : 183
شوقه إلى التزوّد منه ، وقد كان يعلم أنه بشر ، لا فضل له على غيره إلا بهذا القرب الذي يعلو به على من عداه ، وقد كان صلى اللّه عليه وسلم شديد الحرص على تكميل نفسه وإعدادها لتحمل ما هى بسبيله من أعباء الرسالة.
لا جرم يكون حزنه لهذه الفترة شديدا ، وأن يتوجس منه خيفة ، ولا عجب أن يدعوه ذلك إلى التفكير فيما كان يفكر فيه ، وأن يهمّ بتنفيذه.
ومن ثم نزلت هذه السورة حاملة له أجمل البشرى ، ملقية فى نفسه الطمأنينة ، معدّدة ما أنعم اللّه به عليه ، وكأنه تعالى يقول لرسوله : إن من أنعم عليك بكذا وكذا لم يكن ليتركك ولا ينساك بعد أن هيأك لحمل أمانته ، وأعدّك للاضطلاع بأعباء رسالته ، فلا تحزن على ما كان من فترة الوحى عنك ، ولا يكن فى صدرك حرج منها ، فما ذلك إلا لتثبيت قلبك ، وتقوية نفسك على احتمال مشاقّها.
الإيضاح
(وَالضُّحى . وَاللَّيْلِ إِذا سَجى . ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى ) أقسم سبحانه لرسوله بآيتين عظيمتين من آياته فى الكون ضحى النهار وصدره والليل وظلامه - إنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وما تتوهم فى نفسك.
ثم ذكر له ما يثلج صدره ، وما فيه كمال الطمأنينة والبشرى فقال :
(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ) أي وإن أحوالك فى مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها ، وأن كل يوم ستزداد عزّ ، إلى عزّ ، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله ، وسأمنحك كل آن جلالا فوق جلالك ، ورفعة فوق رفعتك وكأنه يقول له لا تظنّن أنى كرهتك أو تركتك ، بل أنت عندى اليوم أشد تمكينا وأقرب اتصالا.
ولقد صدق اللّه وعده ، فما زال يسمو بنبيه ، ويرفع درجته يوما بعد يوم حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله ، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه ،(30/183)
ج 30 ، ص : 184
وجعل محبته من محبة اللّه ، واتباعه والاقتداء به سببا للفوز العظيم بنعيمه ، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعا ، ونشر دينه ، وبلّغ دعوته إلى أطراف المعمورة ، فأى فضل فوق ذلك الفضل ؟ وأي نعمة أضفى من هذه النعمة ؟ وأي إكرام فوق هذا الإكرام ؟ وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.
ثم زاده فى البشرى فقال :
(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ) أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه ، ويوالى عليك مننه ، ومنها توارد الوحى عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، وسيظهر دينك على الأديان كلها ، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شئون الناس جميعا.
[سورة الضحى (93) : الآيات 6 الى 11]
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) }
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
شرح المفردات
ضالا فهدى : أي غافلا عن الشرائع فهداك إلى مناهجها ، عائلا : أي فقيرا ، فلا تقهر : أي فلا تستذل ، فلا تنهر : أي فلا تزجر ، فحدّث : أي فأدّ الشكر لموليها
المعنى الجملي
بعد أن ذكر رضاه عن رسوله ، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه ، ويثلج قلبه - أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه ، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته ،(30/184)
ج 30 ، ص : 185
ثم نهاه عن أمرين : قهر اليتيم وزجر السائل ، لما لهما من أكبر الأثر فى التعاطف والتعاون فى المجتمع ، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة ، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها فى موضعها وأداء حقها.
الإيضاح
(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ) أي ألم تكن يتيما لا أب لك يعنى بتربيتك ، ويقوم بشئونك ، ويهتم بتنشئتك فما زال يحميك ويتعهدك برعايته ، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنسانى.
وقد عاش النبي صلى اللّه عليه وسلم يتيما ، إذ توفى أبوه وهو فى بطن أمه ، فلما ولد عطف اللّه عليه قلب جده عبد المطلب ، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفى والنبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ فى سن الثامنة ، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب ، فكان به حفيّا ، شديد العناية بأمره ، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع ، حتى أرسله اللّه رسولا ، فقام يؤازره وينصره ، ويدفع عنه أذى قريش حتى مات ، فاستطاعت قريش أن تنال منه ، وتجرّأ عليه سفهاؤهم ، وسلطوا عليه غلمانهم ، حتى اضطروه إلى الهجرة.
ولو تدبر المنصف فى رعاية اللّه له ، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته ، لوجد من ذلك العجب ، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق ، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه ، وكان فى خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية فى إضلاله لو أنه سار سيرتهم ، لكن عناية اللّه كانت ترعاه ، وتمنعه السير على نهجهم ، فكان الوفىّ الذي لا يمين ، والأمين الذي لا يخون ، والصّادق الذي لا يكذب ، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية.
(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ) أي ووجدك حائرا مضطربا فى أمرك ، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم ، فعبادتهم باطلة ، ومعتقداتهم فاسدة ، وكان(30/185)
ج 30 ، ص : 186
يفكر فى دين اليهودية ، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه ، إذ بدلوا دينهم ، وخالفوا ما كان عليه رسولهم ، فيبدو عليه الإعراض عنه ، ثم يفكر فى دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود ، فيرجع عن التفكير فيه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع.
وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه فى العرب أنفسهم من سخف فى العقائد ، وضعف فى البصائر ، باستيلاء الأوهام عليهم وفساد أعمالهم ، وشؤمها فى أحوالهم ، بتفرق الكلمة ، وتفانيهم فى سفك الدماء ، والإشراف على الهلاك باستبعاد الغرباء لهم وتحكمهم فيهم فالحبشة والفرس من جانب ، والرومان من جانب آخر.
فما العمل فى تقويم عقائدهم ، وتخليصهم من تحكم العادات فيهم ؟ وأىّ الطرق ينبغى أن يسلك فى إيقاظهم من سباتهم ؟
وقصارى ذلك ، إنه كان فى قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل ، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم ، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليسنت خيرا من حالهم لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه ، بل أنزل عليه الوحى ببين له أوضح السبل كما قال : « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ » .
(وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى ) أي إنك كنت فقيرا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية ، فأغناك بما أجراه لك من الريح فى التجارة ، وبما وهبته لك خديجة من مالها.
وخلاصة ما تقدم - إن من آواك فى يتمك ، وهداك من ضلالك ، وأغناك من فقرك ، لا يتركك فى مستقبل أمرك.
وبعد أن بين نعمه السابقة طالبه بشكر هذه النعم وأداء حقها فقال :(30/186)
ج 30 ، ص : 187
(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تقهر اليتيم ولا تستذله ، بل ارفع نفسه بالأدب ، وهذّبه بمكارم الأخلاق ، ليكون عضوا نافعا فى جماعتك ، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك.
ومن ذاق مرارة الضيق فى نفسه ، فما أجدره أن يستشعرها فى غيره ، وقد كان صلى اللّه عليه وسلم يتيما ، فباعد اللّه عنه ذل اليتيم فآواه ، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرا للّه على نعمته.
(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وأما المستجدى فلا تزجره ، ولكن تفضل عليه بشىء أو ردّه ردّا جميلا ، وقد يكون المراد من (السَّائِلَ) المسترشد وهو أيضا يطلب الرفق به وبيان ما أشكل عليه من الأمر.
(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي أوسع فى البذل على الفقراء بمالك ، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها ، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة فى حديثها ، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق فى شىء.
وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة فى قبض أيديهم عن البذل ، ولا تجدهم إلا شاكين من القلّ أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم اللّه من فضله ، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى اللّه عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفقراء ، عظيم الرأفة بهم ، واسع الإحسان إليهم ، وكان يتصدق بكل ما يدخل فى ملكه ويبيت طاويا.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الذي أوحيت إليه وأرضيته ، وشرحت صدره ، واجعلنا من الذين يقتفون آثاره ، ويتبعون سنته.(30/187)
ج 30 ، ص : 188
مقاصد السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد :
(1) أن اللّه ما قلا رسوله ولا تركه.
(2) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.
(3) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.
(4) طلب الشكر منه على هذه النعم.
سورة الشرح
هى مكية ، وآيها ثمان ، نزلت بعد سورة الضحى.
وهي شديدة الاتصال بما قبلها حتى روى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان : هما سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما فى الركعة الواحدة ، وما كانا يفضلان بينهما بالبسملة ، ولكن المتواتر كونهما سورتين وإن كانتا متصلتين معنى ، إذ فى كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها.
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) ال َّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
شرح المفردات
الشرح : البسط والتوسعة ، والعرب تطلق عظم الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس ، ويفخرون بذلك فى مدائحهم ، من قبل أن سعة(30/188)
ج 30 ، ص : 189
الصدر تعطى الأحشاء فسحة للنمو والراحة ، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرا لا يضيق ذرعا بأمر ، والوزر : الحمل الثقيل ، وأنقض : أي أثقل ، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض ، أي صوت خفى.
الإيضاح
(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي إنا شرحنا لك صدرك ، فأخرجناك من الحيرة التي كنت تضيق بها ذرعا ، بما كنت تلاقى من عناد قومك واستكبارهم عن اتباع الحق ، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم ، فهديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة ، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه.
وقصارى ذلك - إنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر ، وجعلناك راضى النفس ، مطمئنّ الخاطر ، واثقا من تأييد اللّه ونصره ، عالما كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك ، ولا يعين عليك عدوا.
(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلغها ، فجعلنا التبليغ عليك سهلا ، ونفسك به مطمئنة راضية ، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم ، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم ، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم ، والحدب على راحتهم ، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسى فى سبيل حياطتهم وتنشئتهم.
(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي وجعلناك عالى الشأن ، رفيع المنزلة ، عظيم القدر ، وأىّ منزلة أرفع من النبوة التي منحكها اللّه ؟ وأي ذكر أنبه من أن يكون لك فى كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك ، ويجتنبون نواهيك ، ويرون طاعتك مغنما ، ومعصيتك مغرما.
وهل من فخار بعد ذكرك فى كلمة الإيمان مع العلىّ الرحمن ؟ وأي ذكر أرفع(30/189)
ج 30 ، ص : 190
من ذكر من فرض اللّه على الناس الإقرار بنبوته ، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته ، شرطا فى دخول جنته.
هذا إلى أنه صلى اللّه عليه وسلم أنقذ أمما كثيرة من رقّ الأوهام ، وفساد الأحلام ، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة ، والإصابة فى معرفة الحق ، ومعرفة من يقصد بالعبادة ، فاتحدت كلمتهم فى الاعتقاد بإله واحد بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددا ، عبّاد أصنام وأوثان ، وشموس وأقمار ، لا يجدون إلى الهدى سبيلا ، ولا للوصول إلى الحق طريقا فأزاح عنهم تلك الغمّة ، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد.
[سورة الشرح (94) : الآيات 5 الى 8]
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
شرح المفردات
العسر : الفقر والضعف وجهالة الصديق وقوة العدو وإنكار الجميل ، فرغت :
أي من عمل : فانصب : أي اتعب.
المعنى الجملي
بعد أن أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، بعد استحكام الكرب ، وضيق الأمر - ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته فى خلقه ، من إحداث اليسر بعد العسر ، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة لقصد تقريرها فى النفوس وتمكينها فى القلوب.
الإيضاح
(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي فإن مع الضيق فرجا ، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجا إذا تدرّع المرء بالصبر وتوكل على ربه ، ولقد كان هذا حال النبي(30/190)
ج 30 ، ص : 191
صلى اللّه عليه وسلم فإنه قد ضاق به الأمر فى بادئ أمره قبل النبوة وبعدها إذ تألب عليه قومه ، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه ، ولم يقلل من حدّه ، بل صبر على مكروههم وألقى بنفسه فى غمرات الدعوة متوكلا على ربه ، محتسبا نفسه عنده ، راضيا بكل ما يجد فى هذا السبيل من أذى ، ولم تزل هذه حاله حتى قيض اللّه له أنصارا أشربت قلوبهم حبه ، وملئت نفوسهم بالرغبة الصادقة فى الدفاع عنه وعن دينه ، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية ، فاشتروا ما عند اللّه من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم ، ثم كان منهم من فوّض دعائم الأكاسرة ، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة.
وقصارى ذلك - إنه مهما اشتد العسر ، وكانت النفس حريصة على الخروج منه ، طالبة كشف شدته ، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر فى الخلاص منه ، معتصمة بالتوكل على ربها ، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات واعترضها من بلايا ومحن وفى هذا عبرة لرسوله صلى اللّه عليه وسلم بأنه سيبدّل حاله من الفقر إلى الغنى ، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان ، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك.
ثم أعاد الأسلوب للتوكيد فقال :
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إذا احتملت ذلك العزيمة الصادقة ، وعملت بكل ما أوتيت من قوة على التخلص منه ، وقابلت ما يقع من عسر بالصبر والأخذ بأسباب تفريجه ولم تستبطئ الفرج ، فيدعوها ذلك إلى التواني ، وفتور العزيمة.
وبعد أن بين نعمه على رسوله ووعده بتفريج كربه - طلب منه أن يقوم بشكر هذه النعم بالانقطاع لصالح العمل والاتكال عليه دون من عداه فقال :
(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فإذا فرغت من عمل فاتعب فى مزاولة عمل آخر ، فإنك ستجد فى المثابرة لذة تقرّبها عينك ويثلج لها صدرك.(30/191)
ج 30 ، ص : 192
وفى هذا حث له عليه الصلاة والسلام على المواظبة على العمل واستدامته.
(وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي ولا ترغب فى ثواب أعمالك وتثميرها ، إلا إلى ربك وحده ، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له ، والحمد للّه رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :
(1) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.
(2) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.
(3) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.
(4) التوكل عليه وحده ، والرغبة فيما عنده.(30/192)
ج 30 ، ص : 193
سورة التين
هى مكية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة البروج.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السورة السابقة حال أكمل خلق اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وذكر هنا حال النوع الإنسانى وما ينتهى إليه أمره ، وما أعد سبحانه لمن آمن يرسوله.
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
شرح المفردات
المراد بالتين كما قال الأستاذ الإمام هنا : عهد الإنسان الأول الذي كان يستظل فيه بورق التين حينما كان يسكن الجنة والمراد بالزيتون : عهد نوح عليه السلام وذريته حينما أرسل الطير فحمل إليه ورقة من شجر الزيتون ، فاستبشر وعلم بأن الطوفان انحسر عن الأرض ، وطور سينين : الجبل الذي كلم اللّه تعالى موسى عنده ، والبلد الأمين : مكة التي كرمها اللّه بالكعبة ، والتقويم : جعل الشيء على ما ينبغى أن يكون عليه فى التأليف والتعديل يقال قوّمه تقويما : واستقام الشيء وتقوّم :
إذا جاء وفق التقويم ، وممنون : أي مقطوع ، والدّين : الجزاء بعد البعث.(30/193)
ج 30 ، ص : 194
الإيضاح
(وَالتِّينِ) أي قسما بعصر آدم أبى البشر الأول ، وهو العهد الذي طفق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة.
(وَالزَّيْتُونِ) أي وقسما بعصر الزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك اللّه من أهلك بالطوفان ، ونجّى نوحا فى سفينته ، وبعد لأى ما جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر ، وعلم أن غضب اللّه قد سكن وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتعمر ويسكنها الناس ، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده وعمروا الأرض.
وقصارى ذلك - إن التين والزيتون يذكّران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول ، وعصر نوح أبى البشر الثاني.
(وَطُورِ سِينِينَ) وهو تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه ، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه ، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية ، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة ، ثم عرضت لها البدع ، فجاء عيسى مخلّصا لها مما أصابها ، ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف فى الدين ، حتى منّ اللّه على الناس بعهد النور المحمدي ، وإليه الإشارة بقوله :
(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) الذي شرفه اللّه بميلاد رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم وكرّمه بالبيت الحرام.
وخلاصة ما سلف - إن اللّه أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر ، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور.(30/194)
ج 30 ، ص : 195
ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي لقد خلقنا الإنسان فى أحسن صورة ، فجعلناه مديد القامة ، حسن البزّة ، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف ، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات ، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شىء.
لكن قد غفل عما ميّز به ، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات ، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ، ولا ترضى عنه الفطرة ، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأعرض عن النظر فيما ينفعه فى معاده ، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم ، « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .
وهذا ما أشار إليه بقوله :
(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إنه استشرى فيه الفساد ، وأمعن فى سبيل الضلالة ، ونسى فطرته وعاد إلى حيوانيته ، وتردّى فى هاوية الشرور والآثام ، إلا من عصمهم اللّه فظلوا على فطرتهم التي فطرهم عليها ، وهم من عناهم سبحانه بقوله :
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان ، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره ، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها ، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله.
وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية ، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم اللّه إلى الحق من كل أمة.
ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال :
(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ؟ ) أي فأىّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب(30/195)
ج 30 ، ص : 196
بالجزاء على أعمالك بعد أن تظاهرت لديك الأدلة على ذلك ، فإن الذي خلقك من نطفة ثم صيّرك بشرا سويّا - قادر على أن يبعثك ويحاسبك فى نشأة أخرى ، ومن شاهد ذلك وتدبره وأعمل فيه فكره ثم بقي على عناده ، فقد طمس على بصيرته وضل سواء السبيل.
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا ، ومن ثم وضع الجزاء لهذا النوع الإنسانى ، ليحفظ له منزلته من الكرامة التي أعدها له بأصل فطرته ، ثم انحدر منها إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تدبيره ، ولهذا أرسل له الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الشرائع ليبينوها له ويدعوه إليها رحمة به.
سبحانك ، ما أعدلك وأحكمك ، وأنت اللطيف الخبير ، وإليك المرجع والمصير.(30/196)
ج 30 ، ص : 197
سورة العلق
هى مكية ، وآياتها تسع عشرة ، وهى أول ما نزل من القرآن.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر هناك خلق الإنسان فى أحسن تقويم ، وذكر هنا خلق الإنسان من علق ، إلى أنه ذكر هنا من أحوال الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما سلف.
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
تقدمة تاريخية
جاء فى صحيح الأحاديث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يأتى غار حراء (حراء جبل بمكة) يتعبد فيه الليالى ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها ، حتى فجأه الوحى وهو فى الغار إذ جاءه الملك فقال له : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ ، قال :
فأخذه ثانية فغطّه حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله فقال : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ. قال فأخذه ثالثة فغطّه حتى بلغ منه الجهد فقال : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
قال الرواة : فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلونى زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع فأخبر خديجة الخبر ، ثم قال : قد خشيت على نفسى ، فقالت له : كلّا ، أبشر ، فو اللّه لا يخزيك اللّه أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق.(30/197)
ج 30 ، ص : 198
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى (ابن عم خديجة) وكان امرأ قد تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء اللّه أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمى ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخى ما ترى ؟
فأخبره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على عيسى ، ليتنى فيها جذعا ، ليتنى أكون حيّا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أو مخرجىّ هم ؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ، ثم لم ينشب أن توفّى ، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
ومن ذلك تعلم أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم ، وأول رحمة رحم اللّه بها عباده ، وأول خطاب وجّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
أما بقية السورة فهو متاخر النزول ، نزل بعد شيوع بعثته صلى اللّه عليه وسلم ، وبعد أن دعا قريشا إلى الإيمان به ، وآمن به قوم منهم ، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم ، ويحاولون ردهم عن تصديقه ، والإيمان بما جاء به من عند ربه.
الإيضاح
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي صر قارئا بقدرة اللّه الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا ، وقد جاءه الأمر الإلهى بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا ، وسينزل عليه كتابا يقرؤه ، وإن كان لا يكتبه.(30/198)
ج 30 ، ص : 199
وقصارى ذلك - إن الذي خلق الكائنات وأوجدها ، قادر أن يوجد فيك القراءة ، وإن لم يسبق لك تعلمها.
ثم بين كيفية الخلق فقال :
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق : الدم الجامد ، أي إن الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق ، وآتاه القدرة على التسلط على كل شىء مما فى هذا العالم الأرضى ، وجعله يسوده بعلمه ، ويسخره لخدمته ، قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبى صلى اللّه عليه وسلم قارئا وإن لم يسبق له تعلّم القراءة.
والخلاصة - إن من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا حيا ناطقا يسود المخلوقات الأرضية جميعها ، قادر أن يجعل محمدا صلى اللّه عليه وسلم قارئا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة.
(اقْرَأْ) أي افعل ما أمرت به من القراءة.
وكرر الأمر لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة وتكرار الأمر الإلهى يقوم مقام تكرار المقروء ، وبذلك تصير القراءة ملكة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، تدبر قوله تعالى : « سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى » .
ثم أزاح العذر الذي بينه صلى اللّه عليه وسلم لجبريل حين
قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ ،
أي إنى أمي لا أقرأ ولا أكتب فقال :
(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي وربك أكرم لكل من يرتجى منه الإعطاء ، فيسير عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه.
ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة فقال :
(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشّقّة ، كما أفهمهم بواسطة اللسان والقلم آلة جامدة لا حياة فيها وليس من شأنها الإفهام ، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان. أ فيصعب عليه أن يجعل منك قارئا مبيّنا ، وتاليا معلّما ، وأنت إنسان كامل ؟(30/199)
ج 30 ، ص : 200
وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق ، وأنه علمه بالقلم ليبين.
أحوال هذا الإنسان ، وأنه خلق من أحقر الأشياء ، وبلغ فى كماله الإنسانى أن صار عالما بحقائق الأشياء ، فكأنه قيل : تدبر أيها الإنسان تجد أنك قد انتقلت من أدنأ المراتب وأخسها ، إلى أعلى الدرجات وأرفعها ، ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شىء خلقه.
ثم زاد الأمر بيانا بتعداد نعمه فقال :
(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي إن من صدر أمره بأن يكون رسوله صلى اللّه عليه وسلم قارئا ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وممتاز به عن غيره من الحيوان ، وكان فى بدء أمره لا يعلم شيئا ، فهل من عجب أن يعلمك القراءة ، ويعلمك كثيرا من العلوم سواها ، ونفسك مستعدة لقبول ذلك.
وفى الآية دليل على فضل القراءة والكتابة والعلم.
ولعمرك لولا القلم ما حفظت العلوم ، ولا أحصيت الجيوش ، ولضاعت الديانات ، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل ، وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم ، ولما سجّل تاريخ السابقين : المسيئين منهم والمحسنين ، ولا كان علمهم نبراسا يهتدى به الخلف ، ويبنى عليه ما به ترقى الأمم ، وتتقدم المخترعات.
كما أن فيها دليلا على أن اللّه خلق الإنسان الحي الناطق مما لا حياة فيه ولا نطق ، ولا شكل ولا صورة ، وعلمه أفضل العلوم وهى الكتابة ، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئا ، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان!.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسان َ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(30/200)
ج 30 ، ص : 201
شرح المفردات
المراد بالإنسان : أي فرد من هذا النوع ، يطغى : أي يتكبر ويتمرد : استغنى :
أي صار ذا مال وأعوان يغنى بهما ، والرجعى والمرجع والرجوع : المصير والعودة ، أ رأيت : أي أخبرنى والمراد من الاستخبار إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها على نحو ما جاء فى قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ؟ » والسفع : الجذب بشدة والناصية : شعر الجبهة والمراد بذلك القهر والإذلال بأشد أنواع العذاب ، والنادي :
المكان الذي يجتمع فيه القوم ، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله قال زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
والزبانية : واحدهم زبنية (بكسر فسكون) وزبنى (بالكسر) ، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم اللّه على تعذيب العصاة من خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وعلامات الحكمة ، ودقة الصنع ، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل ألا يلتفت إليه ، أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي فى طغيان الإنسان وتكبر وتماديه ، وهو حبه للدنيا ، واشتغاله بها ، وجعلها أكبر همه ، وذلك يعمى قلبه ، ويجعله يغفل عن خالقه ، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم ، وقد كان ينبغى أن يكون حين الغنى والميسرة ، وكثرة الأعوان ، واتساع الجاه ، أشد حاجة إلى اللّه(30/201)
ج 30 ، ص : 202
منه فى حال الفقر والمسكنة ، لأنه فى حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه ، أما فى حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله.
ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل ؟ وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى ، وأنه يوجب على غيره طاعته ، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه.
أما ينبغى له أن يهتدى ويشتغل بأمر نفسه ؟ فمن كان ذا عقل ورأى وثروة وجاه وأعوان ، واختار الهدى ، وتخلق بأخلاق المصلحين ، كان ذلك خيرا له ، وأجدى.
وإنا لننكلنّ به نكالا شديدا فى العاجلة ، ونهيننّه يوم العرض والحساب ، وليدع أمثاله من المغرورين ، فإنهم لن يمنعوه ، ولن ينصروه ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلا وإبلاغا للناس ، مبتغيا بذلك القربى منه.
الإيضاح
(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) أي حقا إن أمر الإنسان لعجيب فإنه متى أحسّ من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه ، واستكبر عن الخشوع لربه ، وتطاول بأذى الناس ، وعدّ نفسه فوقهم جميعا ، وقد كان من حقه أن يكون وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون فى السراء والضراء.
ويحب الخير لهم كما يحب لنفسه.
روى البخاري : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا » .
و
روى عن علىّ فى نصيحته لابنه الحسن : أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها.
وقد حكم على الإنسان باعتبار الأعم الأغلب فى أفراده ، وإلا فإن الغنى والقوة فى أيدى الأتقياء من وسائل الخير ، وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية ،(30/202)
ج 30 ، ص : 203
لأنهم يستعملونهما فيما يرضى ربهم ، ويعود عليهم بالنفع فى دينهم ودنياهم.
ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته ، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية ، وليست نفسه بباقية ، وأن مرجع الأمر كله للّه فقال :
(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى )
أي إن المرجع إلى ربك وحده ، وهو مالك أمرك وما تملك ، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة ، وتظهر فى مظهر الذل ، وتحاسب على كل ما اجترحته فى حياتك الأولى ، قلّ أو كثر ، عظم أو حقر كما قال : « وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ » .
ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب فقال :
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى . عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرنى عن حال هذا الأحمق ، فإن أمره لعجب ، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد أن ينهى عبدا من عبيد اللّه عن صلاته ويعتقد أنه يجب عليه طاعته ، وهو ليس بخالق ولا رازق ، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه ، ويعرض عن طاعة الخالق الرازق.
وقد روى أن عليا كرم اللّه وجهه رأى قوما يصلون قبل صلاة العيد فقال :
ما رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم ؟ فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى : « أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى » .
(أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى . أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى ) أي أخبرنى عن حال ذلك الطاغية لو تخلق بأخلاق المصلحين ، ودعا إلى البر وتقوى اللّه ، أما كان ذلك خيرا له من الكفر به والنهى عن طاعته ، فإن ذلك يفوّت عليه أعلى المراتب ، ويجعله فى أحط الدركات وأدناها.(30/203)
ج 30 ، ص : 204
والخلاصة - أما كان الأفضل له أن يهتدى ويهدى غيره إلى خصال البر والخير ، وقد كانت هذه حال النبي صلى اللّه عليه وسلم فعمله كان إما فى إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما ، وإما فى إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها.
(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ) أي أنبئنى عن حال هذا الكافر ، إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة. وأمارات القدرة الباهرة ، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك ، ودعا الناس إلى مثل ذلك أفلا يخشى أن تحل به قارعة ، ويصيبه من عذاب اللّه ما لا قبل له باحتماله ؟ ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله ، وأنه حكيم لا يهمل عقابه ، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من جرم ؟
ولا يخفى ما فى هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين.
ثم زاد فى الزجر والوعيد فقال :
(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي لا يستمرنّ بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه ، قسما لئن لم ينته عن هذا الطغيان ، ويكفّ عن نهى المصلى عن صلاته لنأخذن بناصيته ولنذيقنه العذاب الأليم.
ألا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها ، مع أنها فى قبضة خالقها ، فهي تزعم ما لا حقيقة له ، وإنها لخاطئة ، لأنها طغت وتجاوزت حدها ، وعتت عن أمر ربها.
ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية ، والكاذب والمخطئ صاحبها ، من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء.
وقد أمر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوى النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به فقال :
(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي فليجمع أمثاله ممن ينتدى معهم ليمنع المصلين المخلصين ، ويؤذى أهل الحق الصالحين ، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط(30/204)
ج 30 ، ص : 205
ربه والتنكيل به ، وسندعو له من جنودنا كل قوىّ متين لا قبل له بمغالبته فيهلكه فى الدنيا ، أو يرديه فى النار فى الآخرة.
والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم اللّه على تعذيب العصاة من خلقه ، وسمّوا زبانية لأنهم يزبنون الكفار فى النار أي يدفعونهم ويسوقونهم إليها.
روى أن أبا جهل قال للنبى صلى اللّه عليه وسلم حين أغلظ له فى القول : يا محمد بمن تهددنى ؟ وإنى لأكبر هذا الوادي ناديا.
وروى أنه قال : لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه ، فبلغ ذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : لو فعل لأخذته الملائكة.
ثم بالغ فى زجر الكافر عن صلفه وكبريائه ، ونفى قدرته علي ما تهدد به فقال :
(كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي إنه لن يصل إلى زعمه وأن يدعو نادى قومه ، ولئن دعاهم لا ينفعونه ولا ينصرونه ، فإنه أذل وأحقر من أن يقاومك ، فلا تطعه إذا نهاك عن عبادة ربك كما قال : « فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ » وتوفر على عبادته بالفعل وإبلاغ الرسالة للناس ، وتقرّب بذلك إليه ، ولا تبتعد عنه بتركها ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وصلّ وسلم ربنا على من أمرته بالتقرب إليك ، ونهيته عن طاعة عدوك الصّلف المتكبر.
مقاصد هذه السورة
تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية :
(1) حكمة اللّه فى خلق الإنسان ، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.
(2) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم ، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض.
(3) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر.(30/205)
ج 30 ، ص : 206
سورة القدر
هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة عبس.
ومناسبتها لما قبلها - أن فى تلك أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق ، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله ، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان ، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم فى دينهم ودنياهم ، وأنه أنزله فى ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة.
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) }
شرح المفردات
القدر : العظمة والشرف ، من قولهم لفلان قدر عند فلان : أي منزلة وشرف ، تنزل الملائكة : أي تنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها اللّه لقبول تجليها ، وهى نفس النبي الكريم ، سلام : أي أمن من كل أذى وشر ، مطلع الفجر : أي وقت طلوعه.
تقدمة تبين ميقات هذه الليلة
أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلى اللّه عليه وسلم فى أربعة مواضع من كتابه الكريم ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.(30/206)
ج 30 ، ص : 207
(1) فى سورة القدر : « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » .
(2) فى سورة الدخان : « حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ».
(3) فى سورة البقرة : « شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ » .
(4) فى سورة الأنفال : « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
فآية القدر صريحة فى أن إنزال القرآن كان فى ليلة القدر ، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان فى ليلة مباركة ، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان فى شهر رمضان ، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان فى ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين فى غزوة بدر ، التي فرق اللّه فيها بين الحق والباطل ، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان ، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هى ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي إنا بدأنا ننزل الكتاب الكريم فى ليلة الشرف ، ثم أنزلناه بعد ذلك منجما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شىء منه ، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها ، أو عبرة(30/207)
ج 30 ، ص : 208
بما يقص فيه من قصص وزواجر ، ولا شك أن البشر كان فى حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم ، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى وأمر النشأة الآخرة ، لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يسنّوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين ، وحوادث الكون التي نراها رأى العين كفيلة بأن تبين وجه الحق فى ذلك ، فإن الناس من بدء الخليقة يبدئون ويعيدون. ويصححون ويراجعون فى قوانينهم الوضعية ، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمن أنها لا تكفى لهدى المجتمع والأخذ بيده إلى موضع الرشاد ، وتمنعه من الوقوع فى مهاوى الزلل ، ومن ثم قيل : لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحى يضع لهم مقابيس الأشياء وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها ، كما لا غنى له عن الاعتقاد فى قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك ، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها ا ه.
ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط به إلا هو فقال :
(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ؟ ) أي ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها ، ومنتهى علوّ قدرها.
وفى هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء ، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم.
ثم أوضح مقدار فضلها فقال :
(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر ، ويكون فيها وضع الحجر الأساسى لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم فى كل زمان ومكان ، هى خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها فى ظلام الشرك وضلال الوثنية ، حيارى لا يهتدون إلى غاية ، ولا يقفون عند حد.(30/208)
ج 30 ، ص : 209
وقد يكون التحديد بالألف جاريا على ما يستعملونه فى تخاطبهم من إرادة الكثرة منه ، لا إرادة العدد المعين ، كما جاء فى قوله : « يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ » .
واللّه تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل ، وله الحكمة البالغة.
وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدئ فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه صلى اللّه عليه وسلم حقب متتابعة وهم فى ضلال الوثنية.
وأىّ شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله صلى اللّه عليه وسلم رحمة بعباده ، يبشرهم وينذرهم ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة ، وجبروت الأكاسرة ، ويجمعهم بعد الفرقة ، ويلمّ شعثهم بعد الشتات.
فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم ، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي ، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة ، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم ، شكرا له على نعمه ، ورجاء مثوبته.
ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال :
(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره صلى اللّه عليه وسلم ، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى ، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم.
ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى ، لا نبحث عن كيفيته ، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره ، فما عرف العالم بعد علمه(30/209)
ج 30 ، ص : 210
المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى : « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » .
والخلاصة - إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها ، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك ، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها ، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه اللّه فى الأرض.
(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن ، وشهود ملائكة الرحمن ، ليلة كلها سلامة وأمن ، وكلها خير وبركة ، من مبدئها إلى نهايتها ففيها فرّج اللّه الكرب عن نبيه ، وفتح له سبل الهداية والإرشاد.
وصل وسلم ربّنا على محمد الذي أكرمته بإنزال الدستور الشامل لخير البشر إلى يوم القيامة.(30/210)
ج 30 ، ص : 211
سورة البينة
هى مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة الطلاق.
ووجه مناسبتها لما قبلها - أن قوله : « لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا » إلخ كالعلة لإنزال القرآن ، كأنه قيل : إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة.
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
شرح المفردات
أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، المشركون : عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم ، منفكين : أي مفارقين ما هم عليه ، والبينة : الحجة الواضحة ، والمراد(30/211)
ج 30 ، ص : 212
بها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والصحف : واحدها صحيفة : وهى ما يكتب فيه ، مطهرة : أي مبرأة من الزور والضلال ، والقيمة : المستقيمة التي لا عوج فيها لاشتمالها على الحق ، والبينة : الثابتة الدليل ، والإخلاص : أن يأتى بالعمل خالصا له تعالى ، لا يشرك به سواه ، الدين : العبادة ، وإخلاص الدين للّه : تنقيته من أدران الشرك ، حنفاء : واحدهم حنيف ، وهو فى الأصل المائل المنحرف والمراد به المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه للّه ، والبرية : الخليقة ، خشى اللّه : أي خاف عقابه.
المعنى الجملي
كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم ، إلا من عصم اللّه ، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم ، وأدخلوا فيها ما ليس منها ، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم ، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين ، وهى هادمة لأركانه ، وإما لإفحام خصومهم ، والرغبة فى الظفر بهم.
وقد توالت على ذلك الأزمان ، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق ، وطمست أنوار اليقين.
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها ، والخنوع لها ، وأصبح من العسير تحويلهم عنها ، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود ، وحينا آخر بين المشركين والنصارى ، وكان اليهود يقولون للمشركين : إن اللّه سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة ، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه ، وآزروه ، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك ، فلما بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم قام المشركون يناوئونه(30/212)
ج 30 ، ص : 213
ويرفعون راية العصيان فى وجهه ، وألّبوا الناس عليه ، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار اللّه بصائرهم ، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.
كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به ، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة ، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد ، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم ، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق ، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم ، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.
ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق ، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه - نزلت هذه السورة.
الإيضاح
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم ، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق ، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا ، حتى يأتيهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فيحدث مجيئه رجّة فيما رسخ من عقائدهم ، وتمكن من عاداتهم ، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم وليس بمستحسن أن يتبع ، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل ، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم.
ثم فسر البينة التي تعرّفهم وجه الحق فقال :
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي هذه البينة هى محمد صلى اللّه عليه وسلم يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس ، والتي(30/213)
ج 30 ، ص : 214
تنبعث منها أشعة الحق كما قال : « لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ » وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال « وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ » ، وقال : « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » .
وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قويم ، أو الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام اللّه ، والتي بها يتبين الحق من الباطل كما قال : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ » .
وقصارى ذلك - إن حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد محى الرسول تخالف حالهم قبلها ، فقد كانوا قبل مجيئه كفارا يتيهون فى عماية من الأهواء والجهالات ، فلما بعث آمن به قوم منهم ، فلم تبق حالهم كما كانت قبل ، إلى أنهم قبل بعثته صلى اللّه عليه وسلم كانوا جازمين بما هم عليه ، واثقين بصحته ، فلما بعث إليهم تغيرت حال جميعهم ، فمنهم من آمن به ، واعتقد أن ما كان فيه ضلال وباطل ، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددا فى صحة ما هو عليه ، أو هو واثق بعدم صحته ، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.
ثم سلّى رسوله صلى اللّه عليه وسلم عن تفرق القوم فى شأنه فقال :
(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات ، ولا يكوننّ فى صدرك حرج منهم ، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه ، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم ، وتفرقوا طرائق قددا حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند غيره بغيا وعدوانا وقولا بالتشهى والهوى ، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم ، فهم إن يجحدوا(30/214)
ج 30 ، ص : 215
ييّنتك فقد جحدوا بينة من قبلك ، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات اللّه بعد ما استيقنتها أنفسهم.
وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظنك بالمشركين وهم أعرق فى الجهالة وأسلس مقادة للهوى.
ثم أنّبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال ، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال فقال :
(وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم ، وما يجلب لهم سعادة فى معاشهم ومعادهم من إخلاص للّه فى السر والعلن ، وتخليص أعمالهم من الشرك به ، واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له كما قال : « ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وقال :
« ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » .
والمراد من إقامة الصلاة الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود ، ليعتاد الخضوع له ، وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عين لها فى الكتاب الكريم من المصارف.
(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي هذا الذي ذكر من إخلاص العبادة للخالق ، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، هو الدين الذي جاء فى الكتب القيمة.
وقصارى ما سلف - إن أهل الكتاب افترقوا فى أصول الدين وفروعه ، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا اللّه ويخلصوا له فى عقائدهم وأعمالهم ، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا ، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف.
وهذا ما نعاه اللّه من حال أهل الكتاب فى افتراقهم فى دينهم ، فما بالنا نحن المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعا ومحدثات ، وتفرقنا فيه شيعا ، أ فليس ما نحن فيه من ذلّ وهوان ، وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم ، والسير على الصراط المستقيم ؟ .(30/215)
ج 30 ، ص : 216
ثم بين جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي إن هؤلاء الذين دسّوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي ، وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، يجازيهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدا ، فيدخلهم نارا تلظى جزاء ما كسبت أيديهم ، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي ، وهدت إليه الفطرة.
ثم حكم عليهم بحكم آخر فقال :
(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخليقة على الإطلاق ، إذ منكر الحق بعد معرفته ، وقيام الدليل عليه منكر لعقله ، جالب لنفسه الدمار والوبال.
وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين ، أردفه جزاء المؤمنين المخبتين فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين سطع نور الدليل فى قلوبهم ، فاهتدوا به وصدقوا بما جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم وعملوا صالح الأعمال ، فبذلوا النفس فى سبيل اللّه وجهاد أعدائه ، وبذلوا نفيس المال فى أعمال البر ، وأحسنوا معاملة خلقه ، أولئك هم خير الخليقة ، لأنهم بمتابعة الهدى أدّوا حق العقل الذي شرفهم اللّه به ، وبعملهم للصالحات حفظوا الفضيلة التي جعلها اللّه قوام الوجود الإنسانى.
ثم بين ما سيلقون من جزاء عند ربهم فقال :
(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي هؤلاء يجازيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدا ، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا.
وعلينا أن نؤمن بالجنة ولا نبحث عن حقيقتها ، ولا أين موضعها ، ولا كيف نتمتع فيها ، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو ، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه.(30/216)
ج 30 ، ص : 217
ثم ذكر أسباب هذا الجزاء فقال :
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي إنهم حازوا رضا اللّه بالتزام حدود شريعته ، فحمدوا مغبة أعمالهم ، ونالوا ما يرضيهم فى دنياهم وآخرتهم.
(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه.
وفى ذلك تحذير من خشية غير اللّه ، وتنفير من إشراك غيره به فى جميع الأعمال كما أن فيه ترغيبا فى تذكر اللّه ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصا ، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفى فى نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء ، لأن الخشية لم تحلّ قلوبهم ، ولم تهذب نفوسهم.
نسأل اللّه أن يطهر قلوبنا ، وينير بصائرنا ، حتى لا نرهب سواه ، ولا نخشى إلا إياه ، والحمد للّه رب العالمين.
سورة الزلزلة
هى مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة النساء.
ووجه مناسبتها لما قبلها - أنه لما ذكر فيما سلف جزاء المؤمنين والكافرين ، بين هنا وقت ذلك الجزاء وعلاماته.
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)(30/217)
ج 30 ، ص : 218
شرح المفردات
الزلزلة : الحركة الشديدة مع اضطراب ، والأثقال : واحدها ثقل ، وهو فى الأصل متاع البيت كما قال : « وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ » والمراد هنا ما فى جوف الأرض من الدفائن كالموتى والكنوز ، وتقول أوحيت له وأوحيت إليه ووحي له ووحي إليه ، أي كلمه خفية أو ألهمه كما جاء فى قوله : « وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ » يصدر : أي يرجع ، فالوارد هو الآتي للماء ليشرب أو يستقى ، والصادر : هو الراجع عنه ، أشتاتا : واحدهم شتيت أي متفرقين متمايزين لا يسير محسنهم ومسيئهم فى طريق واحدة ، الذرة : النملة الصغيرة ، أو هى الهباء الذي يرى فى ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة ، ومثقال الذرة : وزنها ، وهو مثل فى الصغر.
سبب نزول هذه السورة
كان الكفار كثيرا ما يسألون عن يوم الحساب فيقولون « أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ » ويقولون : « مَتى هذَا الْوَعْدُ ؟ » وما أشبه ذلك ، فذكر لهم فى هذه السورة علامات ذلك فحسب ، ليعلموا أنه لا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم الذي يعرض الناس فيه على ربهم لعقاب المذنبين وثواب المؤمنين.
الإيضاح
(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا اضطربت الأرض وتحركت حركة شديدة ونحو الآية قوله : « إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا » ، وقوله : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ » .
وفى ذلك إيماء إلى شدة الحال يومئذ ، ولفت لأنظار الكافرين إلى أن يتدبروا(30/218)
ج 30 ، ص : 219
الأمر ويعتبروا ، وكان يقال لهم : إذا كان الجماد يضطرب لهول هذا اليوم ، فهل لكم أن تستيقظوا من غفلتكم ، وترجعوا عن عنادكم ؟ .
(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي وأخرجت الأرض ما فى جوفها من الكنوز والدفائن والأموات ، فإنها لشدة اضطرابها يثور باطنها ويقذف ما فيه.
ونحو الآية قوله : « وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ » .
ومثال هذا ما نراه فى حياتنا الدنيا من جبال النار الثائرة (البراكين) كما حدث فى إيطاليا سنة 1909 من ثوران بركان ويزوف وابتلاعه مدينة مسينا ولم يبق من أهلها ديّارا ولا نافخ نار.
(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها ؟ ) أي وقال من يكون من الناس مشاهدا لهذا الزلزال الذي يخالف أمثاله فى شدته ، ويحار العقل فى معرفة أسبابه ، ويصيبه الدّهش مما يرى ويبصر : ما لهذه الأرض ، وما الذي وقع لها مما لم يعهد له نظير من قبل ؟ كما جاء فى آية أخرى : « وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى »
.
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي فى ذلك الوقت وقت الزلزلة تحدثك الأرض أحاديثها ، والمراد أن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب ، وما لم يعهد له نظير من الخراب ، تعلم السائل وتفهمه أن ما يراه لم يكن لسبب من الأسباب التي وضعت لأمثاله مما نراه حين استقر نظام هذا الكون.
ثم بين سبب ما يرى فقال :
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي إن ما يكون للأرض يومئذ إنما هو بأمر إلهي خاص ، فيقول لها كونى خرابا كما قال لها حين بدء النشأة الأولى كونى أرضا ، وإنما سمى ذلك وحيا ، لأنه أتى على خلاف ما عهد منذ نشأة الأرض ، قاله الأستاذ الإمام.
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي يوم يقع الخراب العظيم لهذا العالم الأرضى ، ويظهر ذلك الكون الجديد كون الحياة الأخرى ، يصدر الناس متفرقين(30/219)
ج 30 ، ص : 220
متمايزين فلا يكون محسن فى طريق واحد مع مسىء ، ولا مطيع مع عاص ، ليريهم اللّه جزاء ما قدمت أيديهم ، ويجنوا ثمر ما غرسته أيمانهم.
ثم فصل ذلك بقوله :
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه ، ومن يعمل الشر ولو قليلا يجد جزاءه ، لا فرق بين المؤمن والكافر.
وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر فهم به خالدون فى الشقاء ، وما نطق من الآيات بحبوط أعمال الكافرين وأنها لا تنفعهم ، فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شىء ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى :
« وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ » . فقوله : « فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً » صريح فى أن المؤمن والكافر فى ذلك سواء. وأن كلا يوفّى يوم القيامة جزاءه ، وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه ، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإمام فى تفسير الآية.
مقاصد السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :
(1) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.
(2) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم.(30/220)
ج 30 ، ص : 221
سورة العاديات
هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة العصر.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها - أنه لما ذكر هناك الجزاء على الخير والشر أتبعه تعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ولا يستعدون لحياتهم الثانية ، بتعويد أنفسهم فعل الخير.
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
شرح المفردات
العاديات : واحدها عادية من العدو وهو الجري ، والضبح : صوت أنفاس الخيل حين الجري. قال عنترة :
والخيل تكدح حين تضبح فى حياض الموت ضبحا والموريات : واحدها مورية من الإيراء ، وهو إخراج النار ، تقول : أورى فلان إذا أخرج النار بزند ونحوه ، والقدح : الضرب لإخراج النار كضرب الزناد بالحجر ، والمغيرات : واحدها مغيرة من أغار على العدو إذا هجم عليه بغتة ليقتله أو يأسره ، أو يستلب ماله ، والإثارة : التهييج وتحريك الغبار ، والنقع : الغبار ، وسطن :(30/221)
ج 30 ، ص : 222
أو توسطن تقول وسطت القوم أسطهم وسطا : إذا صرت فى وسطهم ، والكنود :
الكفور ، يقال كند النعمة أي كفرها ولم يشكرها وأنشدوا :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعّد
وأصل الكنود الأرض التي لا تنبت شيئا ، شبه بها الإنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات ، لشهيد : أي لشاهد على كنوده وكفره بنعمة ربه ، والخير : المال كما جاء فى قوله : « إِنْ تَرَكَ خَيْراً » ، لشديد : أي لبخيل ، بعثر :
أي بعث وأثير ، وحصّل : أي أظهر محصلا مجموعا ، ما فى الصدور : أي ما في القلوب من العزائم والنوايا.
الإيضاح
(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أي قسما بالخيل التي تعدو وتجرى ويسمع لها حينئذ ضبح أي زفير شديد.
(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي والخيل التي تخرج النار بحوافرها ويتطاير منها الشرر أثناء الجري.
(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي والخيل التي تعدو لتهجم على العدو وقت الصباح ، لأخذه على غير أهبة واستعداد.
(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي فهيجن فى الصبح غبارا لشدة عدوهن.
(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فتوسطن جمعا من الأعداء ففرقنه وشتتن شمله.
أقسم سبحانه بالخيل التي لها هذه الصفات ، والتي تعمل تلك الأعمال ، ليعلى من شأنها فى نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل ، وليعنوا بتربيتها وتعويدها الكرّ والفرّ ، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها ليكون كل امرئ مسلم منهم عاملا ناصبا إذا جدّ الجد واضطرت الأمة إلى صد عدوّ أو بعثها باعث على كسر شوكته ، يرشد إلى ذلك قوله فى آية أخرى :(30/222)
ج 30 ، ص : 223
« وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ » .
وفى إقسام اللّه بها بوصف العاديات المغيرات الموريات - إشارة إلى أنه يجب أن تقنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة ، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء ، وخضد شوكتهم ، وصد عدوانهم.
وقصارى ذلك - إن للخيل فى عدوها فوائد لا يحصى عدّها ، فهى تصلح للطلب ، وتسعف فى الهرب ، وتساعد جد المساعدة فى النجاء ، والكر والفر على الأعداء وقطع شاسع المسافة فى الزمن القليل.
ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الأيمان الشريفة فقال :
(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي إن الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له إلا من عصمهم اللّه وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل ، وترك الرذائل ، ما ظهر منها وما بطن.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « الكنود الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده »
أي إنه لا يعطى شيئا مما أنعم اللّه به عليه ، ولا يرأف بعباده ، كما رأف به ، فهو كافر بنعمته ، مجانف لما يقضى به العقل والشرع.
وسر هذه الجبلّة - أن الإنسان يحصر همه فيما حضره ، وينسى ماضيه ، وما عسى أن يستقبله ، فإذا أنعم اللّه عليه بنعمة غرته غفلته ، وقسا قلبه ، وامتلأ جفوة على عباده.
(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإنه مع كنوده ، ولجاجته فى الطغيان ، وتماديه فى الإنكار والبهتان ، إذا خلّى ونفسه رجع إلى الحق ، وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على نعمه ، إلى أن أعماله كلها جحود لنعم اللّه ، فهى شهادة منه على كنوده ، شهادة بلسان الحال ، وهى أفصح من لسان المقال.(30/223)
ج 30 ، ص : 224
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره - لبخيل شديد فى بخله ، حريص متناه فى حرصه ، ممسك مبالغ فى إمساكه متشدد فيه ، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدّد
ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله :
(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ؟ . إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم اللّه عليه ، الجاحد لفضله وأياديه - أنه سبحانه عليم بما تنطوى عليه نفسه ، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصّل ما فى الصدور ويبعثر ما فى القبور ؟
وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم - بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم ، وهذا كثير فى الكلام ، تقول لشخص فى معرض التهديد : سأعرف لك عملك هذا مع أنك تعرفه الآن قطعا ، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة وهو مجازاته بما يستحق ، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى : « سَنَكْتُبُ ما قالُوا » مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلا ، فالمراد سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل ، واللّه أعلم.
سورة القارعة
هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة قريش.
ومناسبتها لما قبلها - أن آخر السابقة كان فى وصف يوم القيامة ، وهذه السورة يأسرها فى وصف ذلك اليوم ، وما يكون فيه من الأهوال.(30/224)
ج 30 ، ص : 225
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
الإيضاح
(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة كالحاقة والصاخّة والطامّة والغاشية وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها ، كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة ، قال تعالى : « وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ » أي حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها.
(مَا الْقارِعَةُ ؟ ) أي أىّ شىء هى القارعة ، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال ، التي تفزع منها النفوس ، وتدهش لها العقول يصعب تصوّرها ، ويتعذر إدراك حقيقتها.
ثم زاد أمرها تعظيما فقال :
(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) أي وأىّ شىء يعرّفك بها ، كأنه لا شىء يحيط بها فمهما تخيلت أمرها وحدست شأنها فهى أعظم من تقديرك.
ولما ذكر سبحانه أن إدراك حقيقتها مما لا سبيل إليه ، أخذ يعرف بزمانها الذي تكون فيه ، وما يحدث للناس حينئذ من الأهوال فقال :(30/225)
ج 30 ، ص : 226
(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الفراش : هو الحشرة التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلا ، وبها يضرب المثل فى الجهل بالعاقبة قال جرير :
إن الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى
والمبثوث : المفرق المنتشر ، تقول بثثت الشيء : أي فرقته.
أي إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم لا يدرون ماذا يفعلون ، ولا ماذا يراد بهم كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة.
بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى.
وجاء تشبيههم فى آية أخرى بالجراد المنتشر فى كثرتهم وتتابعهم فقال : « كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ » .
(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن (بكسر العين وسكون الهاء) الصوف ذو الألوان ، والمنفوش : الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح.
أي إن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش فلا تلبث أن تذهب وتتطاير ، فكيف يكون الإنسان حين حدوثها وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال.
وقد كثر فى القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال : « وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ » وقال : « وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا » وقال :
« وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار والثبات تؤثر فيها هذه القارعة ، فما بالك أيها المخلوق الضعيف الذي لا قوة له ؟
وفى هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما لا يخفى.
وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق - أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال فقال :(30/226)
ج 30 ، ص : 227
(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) يقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة ، كأنه إذا وضع فى ميزان كان له به رجحان ، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة ، والفضائل الراجحة ، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم ويكونون فى عيشة راضية ، تقرّ بها أعينهم ، وتسر بها نفوسهم.
ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات.
ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر فقال :
(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يقال خف ميزانه : أي سقطت قيمته فكأنه ليس بشىء حتى لو وضع فى كفة ميزان لم يرجح بها على أختها ، ومن كان فى الدنيا كثير الشر ، قليل فعل الخير ، فدسّى نفسه بالشرك واجتراح المعاصي وعاث فى الأرض فسادا ، لم يكن شيئا ، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها.
وعلى الجملة فعلينا أن نؤمن بما ذكره اللّه من الميزان فى هذه الآية وفى قوله :
« وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ » ومن وزن الأعمال ، وتمييز مقدار لكل عمل ، وليس علينا أن نبحث وراء ذلك ، فلا نسأل كيف يزن ، ولا كيف يقدر ؟
فهو أعلم بغيبه ، ونحن لا نعلم.
أما أن الميزان له لسان وكفّتان فهذان لم يرد به نص عن المعصوم يلزمنا التصديق به ، وكيف يوزن بهذا الميزان الذي تعلمه الإنسان فى مهد البداوة الأولى ، ويترك ما هو أدق منه مما اخترع فيما بعد وهدى إليه الناس ، على أن جميع ما عمله البشر ، فهو ميزان للأثقال الجسمانية لا ميزان للمعانى المعقولة كالحسنات والسيئات ، فلنفوض أمر ذلك إلى عالم الغيب.
والمراد من كون أمه هاوية - أن مرجعه الذي يأوى إليه مهواة سحيقة فى جهنم يهوى فيها ، كما يأوى الولد إلى أمه ، قال أمية بن أبى الصلت :
فالأرض معقلنا وكانت أمّنا فيها مقابرنا وفيها نولد(30/227)
ج 30 ، ص : 228
(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ ؟ ) أي وأىّ شىء يخبرك بما هى تلك الهاوية ، وأنها أىّ شىء تكون ؟
ثم فسرها بعد إبهامها فقال :
(نارٌ حامِيَةٌ) أي هى نار ملتهبة يهوى فيها ليلقى جزاء ما قدّم من عمل ، وما اجترح من سيئات.
وفى هذا إيماء إلى أن جميع النيران إذا قيست بها ووزنت حالها بحالها لم تكن حامية ، وذلك دليل على قوة حرارتها ، وشدة استعارها.
وقانا اللّه شر هذه النار الحامية ، وآمننا من سعيرها بمنه وكرمه.
سورة التكاثر
هى مكية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة الكوثر.
ومناسبتها لما قبلها - أن فى الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار ، وأن فى هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت فى السورة السابقة ، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال فى الحياة الدنيا ، وهذا بعض أحوال الآخرة.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) }(30/228)
ج 30 ، ص : 229
شرح المفردات
اللهو : ما يشغل الإنسان ، سواء أ كان مما يسرّ أم لا ، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور وإذا ألهى المرء بشىء فهو غافل به عما سواه ، والتكاثر : التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر أنا أكثر منك مالا ، أنا أكثر منك ولدا ، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب ، حتى زرتم المقابر : أي حتى صرتم من الموتى ، قال جرير :
زار القبور أبو مالك فأصبح ألأم زوّارها
علم اليقين : أي علم الأمر الميقون الموثوق به ، والجحيم : دار العذاب. عين اليقين :
أي عين هى اليقين نفسه.
أسباب نزول السورة
أخرج ابن أبى حاتم عن أبى بريدة قال : نزلت « أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ » فى قبيلتين من الأنصار وهما بنو حارثة وبنو الحرث ، تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما :
أفيكم مثل فلان وفلان ؟ وقالت الأخرى : مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا :
انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : أ فيكم مثل فلان وتشير إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل اللّه هذه السورة.
الإيضاح
(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ)
أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع ، وصرفكم ذلك عن الجد فى العمل ، فكنتم فى لهو بالقول عن الفعل ، وفى غرور وإعجاب بالآباء والأعوان ، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم ، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه(30/229)
ج 30 ، ص : 230
وفى صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال : « أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يقرأ : ألهاكم التكاثر قال : يقول ابن آدم مالى ومالك ، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس »
وروى عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان : ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب اللّه على من تاب » .
قال الأستاذ الإمام : وقد يكون معنى التكاثر التغالب فى الكثرة ، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها ، والسعى إلى ذلك لمجرد المغالبة ، لا يبغي الساعي فى سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر ، أو أن يكون عضده أقوى من عضده ، لينال بذلك لذة التعلى والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة ، ولا ينظر الدائب منهم فى عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب فى سبل الخير ، أو النهوض بالقوة إلى نصر الحق ، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه ، ثم المحافظة بعد ذلك عليه.
وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين ، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ (أَلْهاكُمُ) فإن الذي يلهى الناس عن الحق فى كل حال ، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل : هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا أو عدد رجال ، ليعلو عليه ، أو ليستخدمه لسلطانه ، بقدر ما يدخل فى إمكانه ، أما التفاخر بالأقوال فإنما يلهيهم فى بعض الأحوال ا ه.
(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى ، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدى فائدة ، ولا يعود عليكم بمائدة ، فى حياتكم الباقية الخالدة.
قال العلماء : إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي ، لأنها تذكر بالموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد فى الدنيا وترك الرغبة فيها ،(30/230)
ج 30 ، ص : 231
ومن ثم
قال صلى اللّه عليه وسلم : « كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد فى الدنيا وتذكركم الآخرة » .
كما لا خلاف فى منع زيارتها إذا حدث فى ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها.
ثم نبههم إلى خطإ ما هم فيه ، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة فقال :
(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران ، والضغينة والأحقاد ، والجئوا إلى التناصر على الحق ، والتكاثف على أعمال البر ، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات ، من تقويم الأخلاق ، وتطهير الأعراق ، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صحيح نافع لكم فى العقبى.
ثم أكد هذا وزاد فى التهديد فقال :
(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهذا وعيد بعد وعيد فى مقام الزجر والتوبيخ كما يقول السيد لعبده : أقول لك لا تفعل ، ثم أقول لك لا تفعل.
(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم ، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر ، وصرفكم إلى صالح الأعمال ، وإنّ ما تدعونه علما ليس فى الحقيقة بعلم ، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير ، لأنه لا يطابق الواقع ، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع ، بناء على العيان والحس ، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل ، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى اللّه عليه وسلم.
وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة فى زجرهم لتغريرهم بأنفسهم ، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذ ذكّروا بعواقب حالهم أن يقولوا : إنهم يعلمون العواقب ، وأنهم فى منتهى اليقظة وسداد الفكرة.(30/231)
ج 30 ، ص : 232
ثم ذكر لهم بعض ما ينهى إليه هذا اللهو ، وهو عذاب الآخرة بعد خزى الدنيا فقال :
(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها ولترونّها بأعينكم ، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة فى أذهانكم ، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به.
والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها ، وهذا استعمال شائع فى الكتاب الكريم.
ثم كرر ذلك للتأكيد فقال :
(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي لترونها رؤية هى اليقين نفسه ، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا اللّه ربكم ، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها ، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة ، ولترعوا حق اللّه فيها ، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه ، ولا تجترحوا السيئات وتقترفوا المنكرات ، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو اللّه عنهم ، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامى وتلقيبكم بألقابه ، مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإسلام.
ثم شدد عليهم وزاد فى تأنيبهم فقال :
(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهى بعضكم بعضا - ستسألون عنه - ماذا صنعتم به ؟ هل أديتم حق اللّه فيه.
وراعيتم حدود أحكامه فى التمتع به ، فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء فى دار البقاء.
روى عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال : « أىّ نعيم نسأل عنه يا رسول اللّه ، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ظلال المساكن والأشجار ، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد ، والماء البارد فى اليوم الحار » .(30/232)
ج 30 ، ص : 233
وروى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « من أصبح آمنا فى سربه ، معافى فى بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها » .
اللهم وفقا لشكر نعمتك وأداء حقها ، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها ، اللهم آمين.
سورة العصر
هى مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة الشرح.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر وبكل ما من شأنه أن يلهى عن طاعة اللّه ، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار ، وموقعة له فى الدمار إلا من عصم اللّه وأزال عنه شرر نفسه ، فكأن هذا تعليل لما سلف - إلى أنه ذكر فى السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه ، وجرى مع شيطانه حتى وقع فى التهلكة ، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع ، فآمن باللّه وعمل الصالحات ، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق ، والاصطبار على مكارهه.
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
شرح المفردات
العصر : الدهر ، والإنسان : هو هذا النوع من المخلوقات ، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال ، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة ،(30/233)
ج 30 ، ص : 234
والحق : هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل قاطع ، أو عيان ومشاهدة ، أو شريعة صحيحة جاء بها نبى معصوم ، والصبر : قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة فى العمل الطيب ، وتهوّن عليها احتمال المكروه فى سبيل الوصول إلى الأغراض الشريفة.
والتواصي بالحق : أن يوصى بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير ، والتواصي بالصبر : أن يوصى بعضهم بعضا به ويحثه عليه ، ولا يكون ذلك نافعا مقبولا إلا إذا كمّل المرء نفسه به وإلا صدق عليه قول أبى الأسود الدؤلي :
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذى السّقام وذى الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
الإيضاح
(وَالْعَصْرِ) أقسم ربنا سبحانه بالدهر لما فيه من أحداث وعبر يستدل به على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه ، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار وهما آيتان من آيات اللّه كما قال : « وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ » وإلى ما فيه : من سراء وضراء ، وصحة وسقم ، وغنى وفقر ، وراحة وتعب ، وحزن وفرح ، إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأى إلى أن للكون خالقا ومدبرا ، وهو الذي ينبغى أن يوجه إليه بالعبادة ويدعى لكشف الضر وجلب الخير - إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر ، فيقولون هذه نائبة من نوائب الدهر ، وهذا زمان بلاء ، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خلق من خلقه ، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرّها ، فإن وقعت للمرء مصيبة فبما كسبت يداه ، وليس للدهر فيها من سبب.
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي إن هذا الجنس من المخلوقات - لخاسر فى أعماله ضربا من الخسران إلا من استثناهم اللّه ، فأعمال الإنسان هى مصدر شقائه ، لا الزمان(30/234)
ج 30 ، ص : 235
ولا المكان ، وهى التي توقعه فى الهلاك ، فذنب المرء فى حق بارئه ، ومن يمنّ عليه بنعمه الجليلة ، وآلائه الجسيمة ، جريمة لا تعد ل ها جريمة أخرى.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فاعتقدوا اعتقادا صحيحا أن للعالم كله إلها خالقا قادرا يرضى عن المطيع ، ويغضب على العاصي ، وأن هناك فرقا بين الفضيلة والرذيلة ، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير - وجماع ذلك نفع المرء نفسه ونفعه للناس أجمعين.
وخلاصة أمرهم - أنهم باعوا الفاني الخسيس ، واشتروا الباقي النفيس ، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات ، فيالها من صفقة ما أربحها ، ومنقبة جامعة للخير ما أوضحها.
(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ، ولا زوال فى الدارين لمحاسن آثاره ، وهو الخير كله من إيمان باللّه عز وجل واتباع لكتبه ورسله فى كل عقد وعمل.
(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية ، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها ، وعلى ما يبتلى اللّه تعالى به عباده من المصايب ويتلقاها بالرضا ظاهرا وباطنا ، فلا بد للنجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ويمكّنوه من قلوبهم ، ثم يحمل بعضهم بعضا على سلوك طريقه ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ، ولا دليل يهدى إليها.
وخلاصة ما سلف - إن الناس جميعا فى خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء :
الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به ، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء.
والإنسان جميعه خسر مساعيه وضلّ مناهجه ، وصرف عمره فى غير مطالبه ، فهو قد جاء إلى الأرض ليخلص نفسه من الرذائل ويتحلى بالفضائل ، حتى إذا رجع(30/235)
ج 30 ، ص : 236
إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحا ، وأمضى سلاحا ، لكنه حين رجع إلى مقره فى عالم السموات بالموت لم يجد إلا نقصا يحيط به ، وجهلا يرديه ، فندم إلا طائفة منه عاشوا فى الدنيا مفكرين ، فآمنوا بأنبيائهم وصدقوا برسلهم ، وأحبوا بنى جنسهم ، وأحسنوا إلى إخوانهم فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم ، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان ، ورموا به من البهتان ، فهؤلاء فى الدنيا يفوزون بما يريدون ، وفى الآخرة بالنعيم يفرحون.
جعلنا اللّه فى زمرة أولئك العاملين الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
سورة الهمزة
هى مكية ، وآياتها تسع ، نزلت بعد سورة القيامة.
ومناسبتها لما قبلها - أنه لما ذكر سبحانه فى السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون فى الضلال إلا من عصم اللّه - ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال.
أسباب نزول هذه السورة
قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة فى الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم وبخاصة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
وقال مقاتل : نزلت فى الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من ورائه ويطعن فيه فى وجهه.
وقال محمد بن إسحق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت فى أمية ابن خلف.(30/236)
ج 30 ، ص : 237
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
شرح المفردات
ويل : أي خزى وعذاب ، وهو لفظ يستعمل فى الذم والتقبيح والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم ، والهمزة للمزة : الذي يطعن فى أعراض الناس ويظهر عيوبهم ويحقّر أعمالهم ، تلذذا بالحط منهم وترفعا عنهم وأصل الهمز : الكسر يقال همز كذا : أي كسره ، وأصل اللمز الطعن ، يقال لمزه بالرمح : أي طعنه ثم شاع استعمالها فيما ذكرنا ، قال زياد الأعجم :
إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يغتاب ويطعن فى وجه الرجل ، واللمزة :
الذي يغتاب من خلفه إذا غاب ، ومنه قول حسان :
همزتك فاختضعت بذلّ نفس بقافية تأجّج كالشواظ
عدّده : أي عده مرة بعد أخرى شغفا به ، أخلده : أي ضمن له الخلود فى الدنيا ، والنبذ : الطرح مع الإهانة والتحقير ، والحطمة : من الحطم وهو الكسر ، يقال رجل حطمة إذا كان شديدا لا يبقى على شىء.
وفى أمثالهم : شرّ الرّعاء الحطمة : أي الذي يحطم ما شيته ويكسرها بشدة سوقها قال :
قد لفّها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر وضم(30/237)
ج 30 ، ص : 238
والمراد بها النار ، لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب ، تطّلع على الأفئدة : أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها ، مؤصدة : أي مطبقة من أوصدت الباب : أي أغلقته قال :
تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى ومن دونها أبواب صنعاء موصده
والعمد : واحدها عمود ، وممدّدة : أي مطولة من أول الباب إلى آخره.
الإيضاح
(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي سخط وعذاب من اللّه لكل طعّان فى الناس ، أكال للحومهم ، مؤذ لهم فى غيبتهم أو فى حضورهم.
ثم ذكر سبب عيبه وطعنه فى الناس فقال :
(الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ) أي إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى ، شغفا به وتلذذا بإحصائه ، لأنه يرى أن لا عزّ إلا به ، ولا شرف بغيره ، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته ، وهزأ بكل ذى فضل ومزية دونه ، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزة ولمزه وتمزيقه أعراض الناس ، لأن غروره أنساه الموت ، وأعمى بصيرته عن النظر فى مآله ، والتأمل فى أحواله.
ثم بين خطأه فى ظنه فقال :
(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود فى الدنيا ، وأعطاه الأمان من الموت ، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيّا أبد الدهر ، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سىء الأعمال.(30/238)
ج 30 ، ص : 239
وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب ، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال للمقوتة ، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت ، أعقبه بتفصيل ما أعدّ له من هذا العذاب المحتوم فقال :
(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ازدجر أيها العيّاب عما خيل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك ، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل ، فإنك واللّه مطروح فى النار لا محالة ، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك.
وأثر عن علىّ كرم اللّه وجهه من عظة له : يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم فى القلوب موجودة.
يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس ، لأنهم لا ينالون منهم شيئا ، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم ، ويغترف من بحار فضلهم.
ثم أخذ يهوّل أمر هذه النار ويعظم شأنها فقال :
(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك ، ولا يقف على حقيقتها عقلك ، فلا يعلم شأنها ، ولا يقف على كنهها ، إلا من أعدها لمن يستحقها.
ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها فقال :
(نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ) أي إنها النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه ، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين ، وفى وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا بل هى ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها.
ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال :
(1) (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها ، فتدخل فى الأجواف حتى تصل إلى الصدور ، فتأكل الأفئدة ، والقلب أشد أجزاء البدن تألما ، فإذا استولت عليه النار فأحرقته ، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.(30/239)
ج 30 ، ص : 240
وقد يكون المراد بالاطلاع المعرفة والعلم ، وكأن هذه النار تدرك ما فى أفئدة الناس يوم البعث ، فتميز العاصي عن المطيع ، والخبيث عن الطيب ، وتفرق بين من اجترحوا السيئات فى حياتهم الأولى ، ومن أحسنوا أعمالهم ، وإنا لنكل أمر ذلك إلى علام الغيوب.
وفى وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان فى أخفى مكان منه - إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا.
(2) (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا ، فهم « كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها » .
(3) (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال مقاتل : إلا الأبواب أطبقت عليهم ، ثم شدّت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح ا ه.
والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم ، والمبالغة فى ذلك ليودع فى قلوبهم اليأس من الخلاص منها.
وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد ولا فى أنها تمتد طولا أو عرضا ، ولا فى أنها مشبهة لعمد الدنيا ، بل نكل أمر ذلك إلى اللّه ، لأن شأن الآخرة غير شأن الدنيا ، ولم يأتنا خبر من الرسول صلى اللّه عليه وسلم يبين ذلك ، فالكلام فيه قول بلا علم ، وافتراء على اللّه الكذب.
نسأل اللّه أن يحفظنا من غضبه ، وبقينا شر النار الموصدة ، بمنه وكرمه.(30/240)
ج 30 ، ص : 241
سورة الفيل
هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الكافرين.
ومناسبتها لما قبلها - أنه بين فى السورة السابقة أن المال لا يغنى من اللّه شيئا وهنا أقام الدليل على ذلك بقصص أصحاب الفيل.
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
شرح المفردات
الكيد : إرادة وقوع ضر بغيرك على وجه الخفاء ، والتضليل : التضييع والإبطال تقول ضلّلت كيد فلان إذا جعلته باطلا ضائعا ، والطير : كل ما صار فى الهواء ، صغيرا كان أو كبيرا ، والأبابيل : الجماعات ، لا واحد له من لفظه ، والسجيل : الطين الذي تحجر ، والعصف : ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد ، وتعصفه الرياح : فتأكله الماشية ، مأكول : أي أكلت الدواب بعضه وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.
المعنى الجملي
ذكّر اللّه سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته ، وأن كل قدرة دونها فهى خاضعة لسلطانها - ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم(30/241)
ج 30 ، ص : 242
ليغلبوا بعض عباده على أمرهم ، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى ، فأهلكهم اللّه ، وردّ كيدهم ، وأبطل تدبيرهم ، بعد أن كانوا فى ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب ، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ، فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك.
وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم - أن قائدا حبشيا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدى على الكعبة المشرّفة ويهدمها ، ليمنع العرب من الحج إليها ، فتوجه بجيش جرار إلى مكة ، واستصحب معه فيلا أو فيلة كثيرة زيادة فى الإرهاب والتخويف ولم يزل سائرا يغلب من يلاقيه ، حتى وصل إلى « المغمّس » وهو موضع بالقرب من مكة ، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما جاء لهدم البيت ، ففزعوا منه ، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينظرون ما هو فاعل.
وفى اليوم الثاني فشا فى جند الحبشي داء الجدرىّ والحصبة ، قال عكرمة :
وهو أول جدرىّ ظهر ببلاد العرب ، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله ، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط ، فذعر الجيش وصاحبه وولّوا هاربين ، وأصيب الحبشي ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة ، وأنملة أنملة ، حتى انصدع صدره ومات فى صنعاء.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ؟ ) أي ألم تعلم الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة اللّه تعالى وكمال علمه وحكمته ، فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام ، فتلك حال قد جاءت على غير ما يعرف من(30/242)
ج 30 ، ص : 243
الأسباب والعلل ، إذ لم يعهد أن يجىء طير فى جهة فيقصد قوما دون قوم ، وهم معهم فى جهة واحدة ، فذلك أمارة أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنقاذ مقصد معين.
وإنما عبر عن العلم بالرؤية ، للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصص متواتر مستفيض ، فالعلم به مساو فى قوة الثبوت مع الوضوح - للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة.
وخلاصة ذلك - إنك قد علمت ذلك علما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء.
ثم بين الحال التي وقع عليها فعله فقال :
(أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ؟ ) أي إنك لترى ما كان عليه فعل اللّه بأولئك القوم ، فقد ضيع تدبيرهم ، وخيّب سعيهم.
ثم فصل تدبيره فى إبطال كيد أولئك القوم فقال :
(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي إنه تعالى أرسل عليهم فرقا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش ، فابتلوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى هلكوا.
وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح ، فيعلق بأرجل هذا الطير ، فإذا اتصل بجسم دخل فى مسامّه ، فأثار فيه قروحا تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه.
ولا شك أن الذباب يحمل كثيرا من جراثيم الأمراض ، فوقوع ذبابة واحدة ملوّثة بالمكروب على الإنسان كافية فى إصابته بالمرض الذي يحمله ، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجمّ الغفير من الناس ، فإذا أراد اللّه أن يهلك جيشا كثير العدد ببعوضة واحدة لم يكن ذلك بعيدا عن مجرى الإلف والعادة ، وهذا أقوى فى الدلالة على قدرة اللّه وعظيم سلطانه ، من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور ، وغرائب الأمور ، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام القهر الإلهى ، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة ، وتقضّ مضجعه بعوضة ، ويؤذيه هبوب الريح.(30/243)
ج 30 ، ص : 244
قال الأستاذ الإمام : فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل اللّه عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكه ، وهى نعمة من اللّه غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم ، حفظا لبيته حتى يرسل إليه من يحميه بقوة دينه صلى اللّه عليه وسلم ، وإن كانت نقمة من اللّه حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه.
(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي فجعل هؤلاء القوم كعصف وقع فيه الأكال وهو السوس ، أو أكلت الدواب بعضه ، وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.
وصلّ ربنا على محمد الذي قصصت عليه ما فيه العبرة لمن ادّكر ، وأوحيت إليه ما فيه مزدجر ، لمن تدبر واعتبر ، إنك أنت العليم الحكيم.
سورة قريش
هى مكية ، وآياتها أربع ، نزلت بعد سورة التين.
ومناسبتها لما قبلها - أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم اللّه على أهل مكة فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم وهو أساس مجدهم وعزهم والثانية ذكرت نعمة أخرى هى اجتماع أمرهم ، والتئام شملهم ، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء فى تجارتهم ، وجلب الميرة لهم.
ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبىّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة ، حتى روى عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة.(30/244)
ج 30 ، ص : 245
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
شرح المفردات
تقول ألفت الشيء إلفا وإلافا ، وآلفته إيلافا : إذا لزمته وعكفت عليه مع الأنس به وعدم النفور منه ، وقريش : اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة ، والرحلة : ارتحال القوم أي شدهم الرحال للمسير ، أطعمهم : أي وسع لهم الرزق ، ومهّد لهم سبيله ، وآمنهم : أي جعلهم فى أمن من التعدي عليهم ، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم.
الإيضاح
(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فلتعبد قريش ربها شكرا له على أن جعلهم قوما تجارا ذوى أسفار فى بلاد غير ذات زرع ولا ضرع ، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتى من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد ورحلة فى الصيف إلى بلاد الشام لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها.
وقد كان العرب يحترمونهم فى أسفارهم ، لأنهم جيران بيت اللّه وسكان حرمه ، وولاة الكعبة ، فيذهبون آمنين ، ويعودون سالمين ، لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع.
فكان احترام البيت ضربا من القوة المعنوية التي تحتمى بها قريش فى الأسفار ، ولهذا ألفتها نفوسهم ، وتعلقت بالرحيل ، استدرارا للرزق.(30/245)
ج 30 ، ص : 246
وهذا الإجلال الذي ملك نفوس العرب من البيت الحرام ، إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه ، وقد حفظ حرمته ، وزادها فى نفوس العرب ردّ الحبشة عنه حين أرادوا هدمه ، وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرا ، بل قبل أن يدنوا منه.
ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب ، ونقصت حرمته عندهم ، واستطالت الأيدى على سفّارهم لنفروا من تلك الرحلات ، فقلّت وسائل الكسب بينهم ، لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع ، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم وهم فى عقر ديارهم ليأخذوا منها ، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات.
َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ)
الذي حماه من الحبشة وغيرهم ، ومكّن منزلته فى النفوس ، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال.
ثم وصف رب هذا البيت بقوله :
(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي إنه هو الذي أوسع لهم الرزق ، ومهد لهم سبله ، ولولاه لكانوا فى جوع وضنك عيش.
(وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي وآمن طريقهم ، وأورثهم القبول عند الناس ، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم ، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان فعاشوا فى ضنك وجهد شديد.
وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت ، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره ، وتوسيط سواه عنده ؟ مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه فى شىء من النعمة التي هم فيها ، نعمة الأمن ونعمة الرزق : وكفاية الحاجة.
اللهم ألهم قلوبنا الشكر على نعمك التي تترى علينا ، وزدنا بسطة فى العلم والرزق.(30/246)
ج 30 ، ص : 247
سورة الماعون
هى مكية ، وآياتها سبع ، نزلت بعد سورة التكاثر.
ووجه مناسبتها لما قبلها :
(1) أنه لما قال فى السورة السابقة : « أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ » ذم فى هذه من لم يحضّ على طعام المسكين.
(2) أنه قال فى السورة السابقة : َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ »
وهنا ذم من سها عن صلاته.
(3) أنه هناك عدّد نعمه على قريش وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
شرح المفردات
أرأيت : أي هل عرفت وعلمت والمراد بذلك تشويق السامع إلى تعرّف ما يذكر بعده مع تضمنه التعجب منه ، كما تقول : أ رأيت فلانا ماذا صنع ، وأ رأيت فلانا كيف عرّض نفسه للمخاطر - أنت فى كل ذلك تريد بعث المخاطب على التعجب مما فعل ، والدين : هو الخضوع لما وراء المحسوس من الشؤون الإلهية التي لا يمكن الإنسان أن يعرف حقيقتها ، وإنما يجد آثارها فى الكون باعثة على الإذعان(30/247)
ج 30 ، ص : 248
والتصديق ، كوجود اللّه ووحدانيته ، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين ، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربهم للجزاء ، يدعّ اليتيم : أي يدفعه ويزجره زجرا عنيفا كما جاء فى قوله : « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا » يحض : أي يحث ويدعو الناس إلى ذلك ، يراءون : أي يفعلون بقدر ما يرى الناس أنهم يفعلون ذلك من غير أن تستشعر قلوبهم خشية اللّه بها وحقيقة الرياء طلب ما فى الدنيا بالعبادة وطلب المنزلة فى قلوب الناس ، ويكون فعل ذلك على ضروب (1) بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس.
(2) بلبس الثياب القصار أو الخشنة ليأخذ بذلك هيبة الزهاد فى الدنيا.
(3) بإظهار السخط على الدنيا ، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير.
(4) بإظهار الصلاة والصدقة ، أو بتحسين الصلاة لرؤية الناس له.
والماعون : ما جرت العادة بأن يسأله الفقير والغنى كالقدر والدلو والفأس.
وقال جار اللّه : ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها
لقوله عليه الصلاة والسلام : « ولا غمّة فى فرائض اللّه »
لأنها أعلام الإسلام ، وشعائر الدين ، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار ، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى ، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا الاقتداء به كان جميلا ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح ، وعن بعضهم أنه رأى رجلا فى المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها فقال : ما أحسن هذا لو كان فى بيتك ؟
وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة.
على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص ، ومن ثم
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « الرياء أخفى من ديب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على المسح الأسود » ا ه.
المسح : كساء خشن من صوف يلبسه الزهاد.(30/248)
ج 30 ، ص : 249
الإيضاح
(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية ، والشئون الغيبية ، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع ، والبرهان الساطع ، فإن كنت لا تعرفه بذاته ، فاعرفه بصفاته وهى :
(1) (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة ، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه.
(2) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث غيره على إطعامه ، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه ، فهو لا يفعله بالأولى.
وفى هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك كما تفعل جماعات الخير : « الجمعيات الخيرية » .
وقصارى ما سلف - إن للمكذب بالدين صفتين : أولاهما أن يحتقر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيتهما أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج ، أو يبخل بسعيه لدى الأغنياء ، ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة ، ويقوم لهم بكفاف العيش.
وسواء أ كان المحتفر للحقوق ، البخيل بالمال والسعى لدى غيره مصليا أو غير مصلّ فهو فى وصف المكذبين ، ولا تخرجه صلاته منهم ، لأن المصدق بشىء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدّق به ، فلو صدّق بالدين حقا لصار منكسرا متواضعا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم فمن لم يفعل شيئا من ذلك فهو مراء فى عمله ، كاذب فى دعواه ، ومن ثم قال سبحانه :
(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فعذاب لمن يؤدى الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر فى نفسه ، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي(30/249)
ج 30 ، ص : 250
شرعت لأجلها ، لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان ، وتفعله الجوارح ، فيركع وهو لاه عن ركوعه ، ويسجد وهو لاه عن سجوده ، ويكبر وهو لا يعى ما يقول وإنما هى حركات اعتادها ، وكلمات حفظها ، لا تدرك نفسه معناها ، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها.
(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إنهم يفعلون أفعالا ظاهرة بقدر ما يرى الناس ، دون أن تستشعر قلوبهم بها ، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها.
(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ويمنعون ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الفقير والغنى ، وينسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق كالقدر والفأس ، والقدوم ونحو ذلك.
قال الأستاذ الإمام : فأولئك الذين يصلّون ، ولا يأتون من الأعمال إلا ما يرى للناس ، مما لا يكلفهم بذل شىء من مالهم ، ولا يخشون منه ضررا يلحق بأبدانهم ، أو نقصا يلمّ بجاههم ، ثم يمنعون ما عونهم ، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سدّ حاجة المعوزين ، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم وطمأنينتهم - لا تنفعهم صلاتهم ، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين ، لا فرق بين من وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره ، فإن حكم اللّه واحد ، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة ، التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع.
فخاصة المصدّق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس ، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هى احتقار حقوق الضعفاء وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة ، وحب الأثرة بالمال ، والتعزز بالقوة ، ومنع المعروف عمن يستحقه من الناس.
فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد صلى اللّه عليه وسلم وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون فى هذه السورة الشريفة ؟
ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين ؟ وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا فى ظواهر أعضائهم ، وبهذا الجوع الذي يسمونه صياما(30/250)
ج 30 ، ص : 251
ولا أثر له إلا فى عبوس وجوههم ، وبذاذة ألسنتهم ، وضياع أوقاتهم فى اللهو والبطالة ، ويرجعوا إلى الحق من دينهم ، فيقيموا الصلاة ، ويحيوا صورتها بالخشوع للعلىّ الأعلى فلا يخرجون من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد للّه يلتمسون رضاه فى رعاية حقوقه بما يراه ، ويجعلوا من الصوم مؤدبا للشهوة ، ومهذّبا للرغبة ، رادعا للنفس عن الأثرة ، فلا يكون فى صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم ، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم ، ولا يبخلون بالمعونة فيما ينفع الخاصة والعامة ا ه واللّه أعلم :
سورة الكوثر
هى مكية وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة العاديات.
ومناسبتها لما قبلها - أنه وصف فى الأولى الذي يكذب بالدين بأمور أربع :
البخل. الإعراض عن الصلاة. الرياء. منع المعونة - وهنا وصف ما منحه رسوله صلى اللّه عليه وسلم من الخير والبركة ، فذكر أنه أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير ، والحرص على الصلاة ودوامها ، والإخلاص فيها والتصدّق على الفقراء.
أسباب نزول هذه السورة
كان المشركون من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة يعيبون النبي صلى اللّه عليه وسلم ويلمزونه بأمور :
(1) أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء ، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوى الرأى والمكانة بين عشائرهم ، وهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة ، فقد قال قوم نوح له فيما قصه اللّه علينا : « وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ » .(30/251)
ج 30 ، ص : 252
وقد جرت سنة اللّه فى خلقه أن يسرع فى إجابة دعوة الرسل الضعفاء ، من قبل أنهم لا يملكون مالا فيخافوا أن يضيع فى سبيل الدعوة الجديدة ، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة - وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا فى دين اللّه وهم له كارهون ، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل اللّه ، ويأخذون فى انتقاصهم. وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة ، واللّه ينصر رسله ويؤيدهم ويشدّ أزرهم.
وعلى هذا السّنن سار أهل مكة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين.
(2) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون ، يقولون : انقطع ذكر محمد وصار أبتر ، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.
(3) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا وانتظروا أن تدول الدّولة عليهم وتذهب ريحهم ، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد.
فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم لا حقيقة له ، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم ، ولتردّ كيد المشركين فى نحورهم ، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة. وأن أتباعه هم المفلحون.
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(30/252)
ج 30 ، ص : 253
شرح المفردات
الكوثر : المفرط فى الكثرة ، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر ، ويقال للرجل الكثير العطاء هو كوثر ، قال الكميت الأسدى :
وأنت كثير يا ابن مروان طيّب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى وما فيه سعادة الدنيا والآخرة ، والشانئ :
المبغض ، وأصل الأبتر : الحيوان المقطوع الذنب ، والمراد به هنا ما لا يبقى له ذكر ولا يدوم له أثر - شبه بقاء الذكر الحسن واستمرار الأثر الجميل بذنب الحيوان من حيث إنه يتبعه وهو زينة له. وشبه الحرمان منه ببتر الذنب وقطعه.
الإيضاح
(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير الذي بعجز عن بلوغه العدّ ، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته ، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه ، فإنما ذلك من فساد عقولهم ، وضعف إدراكهم.
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك للّه أيضا ، فإنه هو الذي رباك وأسبغ عليك نعمه دون سواه كما قال : تعالى آمرا له : « قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ » .
وبعد أن بشر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأعظم البشارة ، وطالبه بشكره على ذلك ، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورا ذليلا ، أعقبه بقوله :
(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك كائنا من كان هو المقطوع ذكره من(30/253)
ج 30 ، ص : 254
خيرى الدنيا والآخرة ، وأما أنت فستبقى ذريتك ، ويبقى حسن صيتك ، وآثار فضلك إلى يوم القيامة.
وشانئوه ما كانوا يبغضونه لشخصه ، لأنه كان محبّبا إلى نفوسهم ، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة ، لأنه سفّه أحلامهم ، وعاب معبوداتهم ، ونادى بفراق ما ألفوه ونشئوا عليه.
وقد حقق اللّه فى شانئيه من العرب وغيرهم فى زمنه صلى اللّه عليه وسلم ما يستحقونه من الخذلان والخسران ، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر أما النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومن اهتدى بهديه فإن اللّه رفع منزلتهم فوق كل منزلة ، وجعل كلمتهم هى العليا.
قال الحسن رحمه اللّه : عنى المشركون بكونه أبتر : أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، واللّه بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك ا ه.
وصلّ ربنا على نبيك محمد الذي أعليت ذكره ، وأذللت شانئه ، صلاة تبقى ما بقي الدهر.
سورة الكافرون
هى مكية ، وآياتها ستّ ، نزلت بعد سورة الماعون.
ومناسبتها لما قبلها - أنه فى السورة السابقة أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم بعبادته ، والشكر له على نعمه الكثيرة ، بإخلاص العبادة له ، وفى هذه السورة التصريح بما أشير إليه فيما سلف.(30/254)
ج 30 ، ص : 255
أسباب نزول السورة
روى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف فى جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا له : هلمّ يا محمد فاتبع ديننا ونتبع دينك ، ونشر كك فى أمرنا كله. تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا حظا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا فى أمرنا ، وأخذت حظك منه ، فقال : معاذ اللّه أن نشرك به غيره ، وأنزل اللّه ردا على هؤلاء هذه السورة فغدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رءوسهم ، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك ، وطفقوا يؤذونه ويؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة.
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) }
الإيضاح
(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي قل لهم : إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده ، لأنكم تعبدون م ن يتخذ الشفعاء أو الولد ، أو يتجلى فى شخص أو يتجلى فى صورة معينة أو نحو ذلك مما تزعمون ، وأنا أعبد إلها لا مثيل له ولا ندّ ، وليس له ولد ولا صاحبة ، ولا يحل فى جسم ، ولا تدرك(30/255)
ج 30 ، ص : 256
كنهه العقول ، ولا تحويه الأمكنة ، ولا تمر به الأزمنة ، ولا يتقرّب إليه بالشفعاء ، ولا تقدم إليه الوسائل.
وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد ، فارق عظيم ، وبون شاسع ، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودى أن يتصف بها.
(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي إنكم لستم بعابدين إلهى الذي أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم ، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال.
وبعد أن نفى الاختلاف فى المعبود نفى الاختلاف فى العبادة ، من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم. أو فى المعابد التي أقاموها لها أو فى خلواتهم وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة للّه ، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لا يفضلهم فى شىء فقال :
(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أنا بعابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتى قاله أبو مسلم الأصفهانى.
وخلاصة ما سلف - الاختلاف التامّ فى المعبود ، والاختلاف البيّن فى العبادة فلا معبودنا واحد ، ولا عبادتنا واحدة ، لأن معبودى منزه عن الندّ والنظير ، متعال عن الظهور فى شخص معين ، وعن المحاباة لشعب أو واحد بعينه ، والذي تعبدونه أنتم على خلاف ذلك.
كما أن عبادتى خالصة للّه وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك ، مصحوبة بالغفلة عن اللّه تعالى ، فلا تسمى على الحقيقة عبادة.
ثم هددهم وتوعدهم فقال :
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم على أعمالكم ولى جزائى على عملى كما جاء فى قوله تعالى : « لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ » .
وصل ربنا على محمد الذي جعل الدين لك خالصا ، وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/256)
ج 30 ، ص : 257
سورة النصر
هى مدنية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة التوبة.
ومناسبتها لما قبلها - أنه لما ذكر فى السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه ، ودين الكفار الذي يعكفون عليه - أشار فى هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول ، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه ، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة.
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
شرح المفردات
النصر : العون يقال نصره على عدوه ينصره نصرا : أي أعانه ، ونصر الغيث الأرض : إذا أعان على إظهار نباتها ومنع من قحطها ، قال شاعرهم :
إذا دخل الشهر الحرام فجاوزى بلاد تميم وانصرى أرض عامر
والفتح : الفصل بينه وبين أعدائه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ، والأفواج :
واحدهم فوج وهو الجماعة والطائفة ، واستغفره : أي اسأله أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك ، توّابا : أي كثير القبول لتوبة عباده.
المعنى الجملي
كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته ، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحزن ويضيق صدره ،(30/257)
ج 30 ، ص : 258
لتكذيب قومه له على وضوح الحق وسطوع البرهان ، كما قال تعالى مخاطبا رسوله :
«
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » وقال :
« فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » وقال :
« قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ » .
وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر اللّه للحق الذي بعث به نبيّه ، بل فيه سهو عن وعد اللّه بتأييد دينه ، كما جاء فى قوله : « وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ » ؟ .
هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لكن اللّه يعدّه على أقرب عباده إليه ، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقد يراه النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى اللّه منه ويستغفره ، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر.
الإيضاح
(إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا رأيت نصر اللّه لدين الحق ، وانهزام أهل الشرك وخذلانهم ، وفتح اللّه بينك وبين قومك ، بجعل الغلبة لك عليهم ، وإعزاز أمرك ، وإعلاء كلمتك.
(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس يدخلون فى دينك ، وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادا كما كان فى بدء أمرك وقت الشدة.(30/258)
ج 30 ، ص : 259
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي إذا تمّ لك كل ذلك فنزّه ربك وقدّسه عن أن يهمل الحق ، ويدعه للباطل يتغلب عليه ، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به ، بأن يجعل كلمتك العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، ويتم نعمته عليك ولو كره الكافرون.
وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم ، وشكره على ما منحك من خير ، والثناء عليه بما هو له أهل ، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ، فلن يضيع أجر العاملين.
(وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واسأله أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر.
والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد اللّه ، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر ، ولكن اللّه قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال ، ومن ثم أمره به ، وهكذا يحدث فى نفوس الكملة من أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك ، واللّه يتقبله منهم.
ثم علل طلب الاستغفار بقوله :
(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه كثير القبول لتوبة عباده ، لأنه يربى النفوس بالمحن ، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدّد عزيمتها بحسن الوعد ، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال.
وخلاصة ما سلف - إذا حصل الفتح وتحقق النصر ، وأقبل الناس على الدين الحق فقد زال الخوف ، فعليك أن تسبّح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة ، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ماداموا على تلك الكثرة ، ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة.(30/259)
ج 30 ، ص : 260
وقد فهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من هذا أن الأمر قد تمّ ، ولم يبق إلا أن يلحق بالرفيق الأعلى ، فقال فيما
روى عنه : إنه قد نعيت إليه نفسه.
قال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى فى حجة الوداع ، ثم نزلت « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي » فعاش بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزلت : « لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ » فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزلت : « وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ » فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.
وصلّ وسلّم ربّنا على محمد وآله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا ورابطوا فى سبيل اللّه.
سورة المسد
هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الفتح.
ومناسبتها لما قبلها - أنه ذكر فى السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء فى الدنيا ، والثواب الجزيل فى العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.
أسباب نزول هذه السورة
روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : « خرج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أ كنتم تصدقونى ؟ قالوا نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد » فقال أبو لهب : أ لهذا جمعتنا ؟ تبّا لك!! وفى رواية :
إنه قام ينفض يديه ويقول : تبّا لك سائر اليوم ، أ لهذا جمعتنا ؟ فأنزل اللّه « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ » .(30/260)
ج 30 ، ص : 261
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
شرح المفردات
التباب : الهلاك والخسران : قال تعالى : « وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ » وأبو لهب : أحد أعمام النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واسمه عبد العزّى بن عبد المطلب ، وتبّ : أي قد تبّ وخسر ، يصلى نارا : أي يجد حرها ويذوقه ، ولهب النار :
ما يسطع منها عند اشتعالها وتوقدها ، والجيد : العنق ، والمسد : الليف.
الإيضاح
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) هذا دعاء عليه بالخسران والهلاك ، ونسب الهلاك إلى اليدين ، لأنهما آلة العمل والبطش ، فإذا هلكتا وخسرتا كان الشخص كأنه معدوم هالك.
(وَتَبَّ) أي وقد تب وهلك.
والجملة الأولى دعاء عليه بالخسران والهلاك ، والجملة الثانية إخبار من اللّه بأن هذا الدعاء قد حصل ، وقد خسر الدنيا والآخرة.
ثم ذكر أن ما كان يعتزّ به فى الدنيا من مال وجاه لم يغن عنه من اللّه شيئا يوم القيامة فقال :
(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي لم يفده حينئذ ماله ولا عمله الذي كان يأتيه فى الدنيا من معاداته رسول اللّه طلبا للعلوّ والظهور فكما أن ذلك لم يجده شيئا(30/261)
ج 30 ، ص : 262
فى الدنيا ، إذ لم يتغلب على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يقطع ما أراد اللّه أن يوصل لم يفده فى الآخرة ، بل لحقه البوار والنكال وعذاب النار.
وقد كان أبو لهب شديد العداوة للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، شديد التحريض عليه شديد الصدّ عنه.
روى أحمد عن ربيعة بن عباد قال : « رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الجاهلية فى سوق ذى المجاز وهو يقول : قولوا لا إله إلا اللّه تفلحوا ، والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضىء الوجه أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابىء كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب.
ومن ذلك تعلم أن أبا لهب كان يصدّ عن الحق ، وينفّر عن اتباعه ، وذاع عنه تكذيبه للرسول صلى اللّه عليه وسلم وتحدّيه واتباع خطواته لدحض دعوته ، والحط من شأن دينه وما جاء به.
(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي سيذوق حر النار ويعذب بلظاها.
وخلاصة ما سلف - خسر أبو لهب وضل عمله ، وبطل سعيه الذي كان يسعاه للصد عن دين اللّه ، ولم يغن عنه ماله الذي كان يتباهى به ، ولا جدّه واجتهاده فى ذلك ، فإن اللّه أعلى كلمة رسوله ، ونشر دعوته ، وأذاع ذكره ، وأنه سيعذب يوم القيامة بنار ذات شرر ولهيب ، وإحراق شديد ، أعدها اللّه لمثله من الكفار المعاندين ، فوق تعذيبه فى الدنيا بإبطال سعيه ، ودحض عمله وستعذب معه امرأته التي كانت تعاونه على كفره وجحده ، وكانت عضده فى مشاكسة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإيذائه ، وكانت تمشى بالنميمة للإفساد ، وإيقاد نار الفتنة والعداوة كما قال :
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) أي وستعذب أيضا بهذه النار امرأته أروى بنت حرب أخت أبى سفيان بن حرب ، جزاء لها على ما كانت تجترحه من السعى بالنميمة إطفاء لدعوة رسوله صلى اللّه عليه وسلم والعرب تقول لمن يسعى فى الفتنة ويفسد(30/262)
ج 30 ، ص : 263
بين الناس : هو يحمل الحطب بينهم ، كأنه بعمله يحرق ما بينهم من صلات.
وقيل إنها كانت تحمل حزم الشوك والحسك والسّعدان ، وتنثرها بالليل فى طريق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لإيذائه.
وقد زاد سبحانه فى تبشيع عملها وتقبيح صورته فقال :
(فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي فى عنقها حبل مما مسد من الحبال أي أحكم فتله ، وقد صوّرها اللّه بصورة من تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها فى جيدها كبعض الحطّابات الممتهنات احتقارا لها ، واحتقارا لبعلها ، حين اختارت ذلك لنفسها.
وقصارى أمرها - إنها فى تكليف نفسها المشقة الفادحة ، للإفساد بين الناس وإيقاد نيران العداوة بينهم ، بمنزلة حاملة الحطب التي فى عنقها حبل خشن تشدّ به ما تحمله إلى عنقها حين تستقلّ به ، وهذه أبشع صورة تظهر بها امرأة تحمل الحطب وهى على تلك الحال.
ويرى بعض العلماء أن المراد بيان حالها وهى فى نار جهنم ، إذ تكون على الصورة التي كانت عليها فى الدنيا ، حين كانت تحمل الشوك إيذاء لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فهى لا تزال تحمل حزمة من حطب النار ، ولا يزال فى جيدها حبل من سلاسلها ، ليكون جزاؤها من جنس عملها فقد روى عن سعيد بن المسيّب أنه قال :
كانت لأم جميل قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنّها فى عداوة محمد ، فأعقبها اللّه حبلا فى جيدها من مسد النار.
نسأل اللّه الوقاية من النار ، والبعد من الصدّ عن دينه وكتابه ، إنه هو السميع العليم.(30/263)
ج 30 ، ص : 264
سورة الإخلاص
هى مكية ، وآياتها أربع ، نزلت بعد سورة الناس.
أسباب نزولها
روى الضحاك أن المشركين أرسلوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عامر بن الطّفيل فقال له عنهم : شققت عصانا (فرّقت كلمتنا) ، وسببت آلهتنا ، وخالفت دين آبائك ، فإن كنت فقيرا أغنيناك ، وإن كنت مجنونا داويناك ، وإن كنت قد هويت امرأة زوجنا كها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لست بفقير ولا مجنون ، ولا هويت امرأة ، أنا رسول اللّه ، أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته ، فأرسلوه ثانية وقالوا : قل له : بيّن لنا جنس معبودك ، أم من ذهب أم من فضة ؟ فأنزل اللّه هذه السورة :
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
شرح المفردات
أحد : أي واحد لا كثرة فى ذاته ، فهو ليس بمركب من جواهر مختلفة مادية ولا من أصول متعدّدة غير مادية ، والصمد : الذي يقصد فى الحاجات كما قال :
لقد بكر الناعي بخير بنى أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
الكفء والمكافئ : النظير فى العمل والقدرة.(30/264)
ج 30 ، ص : 265
المعنى الجملي
هذه السورة تضمنت أهمّ الأركان التي قامت عليها رسالة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهى توحيد اللّه وتنزيهه ، وتقرير الحدود العامة للأعمال ، ببيان الصالحات وما يقابلها ، وأحوال النفس بعد الموت من البعث وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب ،
وقد ورد فى الخبر : « إنها تعدل ثلث القرآن »
لأن من عرف معناها ، وتدبر ما جاء فيها حق التدبر ، علم أن ما جاء فى الدين من التوحيد والتنزيه تفصيل لما أجمل فيها.
الإيضاح
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أي قل لمن سألك عن صفة ربك : اللّه هو الواحد المنزه عن التركيب والتعدّد ، لأن التعدد فى الذات مستلزم لافتقار المجموع إلى تلك الأجزاء واللّه لا يفتقر إلى شىء.
(اللَّهُ الصَّمَدُ) أي هو اللّه الذي يقصده العباد ويتوجهون إليه ، لقضاء ما أهمهم دون واسطة إلى شفيع وبهذا أبطل عقيدة مشركى العرب الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ، وعقيدة غيرهم من أهل الأديان الأخرى الذين يعتقدون بأن لرؤسائهم منزلة عند ربهم ينالون بها التوسط لغيرهم فى نيل مبتغاهم ، فيلجئون إليهم أحياء وأمواتا ، ويقومون عند قبورهم خاضعين خاشعين ، كما يخشعون للّه أو أشد خشية.
(لَمْ يَلِدْ) أي تنزه ربنا عن أن يكون له ولد ، وفى هذا ردّ لمزاعم مشركى العرب الذين زعموا أن الملائكة بنات اللّه ، ولمزاعم النصارى الذين قالوا : المسيح ابن اللّه ، اقرأ إن شئت قوله تعالى : « فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ؟ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ : وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » .
(وَلَمْ يُولَدْ) لأن ذلك يقتضى مجانسته لسواه ، وسبق العدم قبل الوجود - تنزه ربنا عن ذلك.(30/265)
ج 30 ، ص : 266
وأثر عن ابن عباس أنه قال : لم يلد كما ولدت مريم ، ولم يولد كما ولد عيسى وعزير ، وهو ردّ على النصارى الذين قالوا المسيح ابن اللّه ، وعلى اليهود الذين قالوا :
عزير ابن اللّه.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له ندّ ولا مماثل ، وفى هذا نفى لما يعتقده بعض المبطلين من أن للّه ندّا فى أفعاله كما ذهب إلى ذلك مشركو العرب حيث جعلوا الملائكة شركاء للّه.
والخلاصة - إن السورة تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه ، فقد نفى اللّه عن نفسه أنواع الكثرة بقوله : « اللّه أحد » ونفى عن نفسه أنواع الاحتياج بقوله :
« اللَّهُ الصَّمَدُ » ونفى عن نفسه المجانسة والمشابهة لشىء بقوله : « لَمْ يَلِدْ » ونفى عن نفسه الحدوث والأوّلية بقوله : « وَلَمْ يُولَدْ » ونفى عن نفسه الأنداد والأشباه بقوله :
« وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ » تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
سورة الفلق
هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الفيل.
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
شرح المفردات
أعوذ : أي ألجأ ، والفلق : شق الشيء وفصل بعضه من بعض ، تقول فقلت الشيء فانفلق كما قال تعالى : « فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى » والشيء المفلوق يسمى فلقا ،(30/266)
ج 30 ، ص : 267
والمراد به كل ما يفلقه اللّه كالأرض التي تنفلق عن النبات ، والجبال التي تنفلق عن عيون الماء ، والسحائب التي تنفلق عن ماء الأمطار ، والأرحام التي تنفلق عن الأولاد.
والغاسق : الليل إذا اعتكر ظلامه ، ووقب : دخل ظلامه فى كل شىء ، ويقال وقبت الشمس إذا غابت ، والنفاثات : واحدهم نفاثة كعلامة ، من النفث وهو النفخ من ريق يخرج من الفم ، والعقد : واحدها عقدة ، والحاسد : هو الذي يتمنى زوال نعمة المحسود.
الإيضاح
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي قل : أستعيذ برب المخلوقات ، ومبدع الكائنات ، من كل أذى وشر يصيبنى من مخلوق من مخلوقاته طرّا.
ثم خصص من بعض ما خلق أصنافا يكثر وقوع الأذى منهم فطلب إليه التعوذ من شرهم ودفع أذاهم ، وهم :
(1) (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي ومن شر الليل إذا دخل وغمر كل شىء بظلامه ، والليل إذا كان على تلك الحال كان مخوفا باعثا على الرهبة - إلى أنه ستار يختفى فى ظلامه ذوو الإجرام إذا قصدوك بالأذى - إلى أنه عون لأعدائك عليك.
(2) (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي ومن شر النمامين الذين يقطعون روابط المحبة ، ويبددون شمل المودة ، وقد شبه عملهم بالنفث ، وشبهت رابطة الوداد بالعقدة ، والعرب تسمى الارتباط الوثيق بين شيئين عقدة ، كما سمى الارتباط بين الزوجين :
(عقدة النكاح).
فالنميمة تحول ما بين الصديقين من محبة إلى عداوة بالوسائل الخفية التي تشبه أن تكون ضربا من السحر ، ويصعب الاحتياط والتحفظ منها فالنمام يأتى لك بكلام يشبه الصدق ، فيصعب عليك تكذيبه ، كما يفعل الساحر المشعوذ إذا أراد(30/267)
ج 30 ، ص : 268
أن يحل عقدة المحبة بين المرء وزوجه ، إذ يقول كلاما ويعقد عقدة وينفث فيها ، ثم يحلها إيهاما للعامة أن هذا حل للعقدة التي بين الزوجين.
قال الأستاذ الإمام ما خلاصته : قد رووا هاهنا أحاديث فى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سحره لبيد بن الأعصم ، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله ، أو يأتى شيئا وهو لا يأتيه ، وأن اللّه أنبأه بذلك ، وأخرجت موادّ السحر من بئر ، وعوفى صلى اللّه عليه وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة.
ولا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه عليه الصلاة والسلام - ماس بالعقل آخذ بالروح ، فهو مما يصدق قول المشركين فيه : « إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً » .
والذي يجب علينا اعتقاده أن القرآن المتواتر جاء بنفي السحر عنه عليه الصلاة والسلام ، حيث نسب القول بإثبات حصوله له إلى المشركين ووبخهم على ذلك.
والحديث على فرض صحته من أحاديث الآحاد التي لا يؤخذ بها فى العقائد ، وعصمة الأنبياء عقيدة لا يؤخذ فيها إلا باليقين ، ونفى السحر عنه صلى اللّه عليه وسلم لا يستلزم نفى السحر مطلقا ، فربما جاز أن يصيب السحر غيره بالجنون ، ولكن من المحال أن يصيبه صلى اللّه عليه وسلم ، لأن اللّه عصمه منه.
إلا أن هذه السورة مكية فى قول عطاء والحسن وجابر ، وما يزعمونه من السحر إنما وقع بالمدينة ، فهذا مما يضعف الاحتجاج بالحديث ، ويضعف التسليم بصحته.
وعلى الجملة فعلينا أن نأخذ بنص الكتاب ، ونفوض الأمر فى الحديث ولا نحكمه فى عقيدتنا ا ه.
(3) (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) أي ونستعيذ بك ربنا من شر الحاسد إذا أنفذ حسده ، بالسعي والجدّ فى إزالة نعمة من يحسده ، فهو يعمل الحيلة ، وينصب(30/268)
ج 30 ، ص : 269
شباكه ، لإيقاع المحسود فى الضرر ، بأدق الوسائل ، ولا يمكن إرضاؤه ، ولا فى الاستطاعة الوقوف على ما يدبره ، فهو لا يرضى إلا بزوال النعمة ، وليس فى الطوق دفع كيده ، وردّ عواديه ، فلم يبق إلا أن نستعين عليه بالخالق الأكرم ، فهو القادر على ردّ كيده ، ودفع أذاه ، وإحباط سعيه.
نسألك اللهم وأنت الوزر والنصير ، أن تقينا أذى الحاسدين ، وتدفع عنا كيد الكائدين ، إنك أنت الملجأ والمعين.
سورة الناس
هى مكية ، وآياتها ست ، نزلت بعد سورة الفلق
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
شرح المفردات
رب الناس : أي مربيهم ومنميهم ومراعى شؤونهم ، الوسواس : أي الموسوس الذي يلقى حديث السوء فى النفس ، والخناس : من الخنوس وهو الرجوع والاختفاء والجنة : واحدهم جنىّ ، كإنس وإنسى.
الإيضاح
(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أمر رسوله أن يستعين بمن يربى الناس بنعمه ، ويودبهم بنقمه.(30/269)
ج 30 ، ص : 270
(مَلِكِ النَّاسِ) أي مالكهم ومدبر أمورهم ، وواضع الشرائع والأحكام التي فيها سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
(إِلهِ النَّاسِ) أي المستولى على قلوبهم بعظمته ، وهم لا يحيطون بكنه سلطانه بل يخضعون بما يحيط منها بنواحي قلوبهم ، ولا يدرون من أىّ جانب يأتيهم ، ولا كيف يسلط عليهم.
وإنما قدم الربوبية ، لأنها من أوائل نعم اللّه على عباده ، ثم ثنى بذكر المالكية لأن العبد إنما يدرك ذلك بعد أن يصير عاقلا مفكرا ، ثم ثلّث بذكر الألوهية ، لأن المرء بعد أن يدرك ويعقل يعلم أنه هو المستوجب للخضوع والعزة والمستحق للعبادة وإنما قال : رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، وهو رب كل شىء ومالك كل شىء وإله كل شىء من قبل أن الناس هم الذين أخطئوا فى صفاته وضلوا فيها عن الطريق السوىّ ، فجعلوا لهم أربابا ينسبون إليهم بعض النعم ، ويلجئون إليهم فى دفع النقم ، ويلقبونهم بالشفعاء ، ويظنون أنهم هم الذين يدبرون حركاتهم ، ويرسمون لهم حدود أعمالهم.
وبحسبك أن تقرأ قوله تعالى : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » وقوله : « وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ؟ » .
والخلاصة - إنه سبحانه أراد أن ينبه الناس بأنه هو ربهم ، وهم أناس مفكرون ، وملكهم وهم كذلك ، وإلههم وهم هكذا ، فباطل ما اخترعوا لأنفسهم من حيث هم بشر.
(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) أي ألجأ إليك ربّ الخلق وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء ، لأنه يأتى من ناحية(30/270)
ج 30 ، ص : 271
الباطل ، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه ، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوإ مصير ، إذا انجرّت مع وسوسته ، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال.
وهذه الأحاديث النفسية إذا سلط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت ، ولكن الموسوس عند إلقائها.
وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس ، يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع ، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ وبعثك على فعل السوء ثم كرّته بأوامر الدين يخنس ويمسك عن القول ، إلى أن تستح له فرصة أخرى.
وقد وصف اللّه هذا الوسواس الخناس بقوله :
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) أي إن هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس فى صدور البشر ، قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس ، كما جاء فى قوله تعالى : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ » فشيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى ، وشيطان الإنس كذلك ، فكثيرا ما يريك أنه ناصح شفيق ، فإذا زجرته خنس وترك هذه الوسوسة ، وإذا أصغيت إلى كلامه استرسل واستمر فى حديثه وبالغ فيه ،
وقد ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إن اللّه عز وجل تجاوز لأمتى عما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به » رواه أبو هريرة وخرّجه مسلم.
وإنما جعل الوسوسة فى الصدور من قبل أنه عهد فى كلام العرب أن الخواطر فى القلب ، والقلب مما حواه الصدر عندهم ، ألا تراهم يقولون : إن الشك يحوك فى صدرك ، ويجيش فى صدرى كذا ، ويختلج ذلك بخاطري ، وما الشك إلا فى نفسه وعقله ، وأفاعيل العقل تكون فى المخ ، ويظهر لها أثر فى حركات الدم وضربات القلب ، وضيق الصدر وانبساطه.
قال الأستاذ الإمام : الموسوسون قسمان :
(1) قسم الجنة وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم ، وإنما نجد فى أنفسنا(30/271)
ج 30 ، ص : 272
أثرا ينسب إليهم ، ولكل واحد من الناس شيطان ، وهى قوة نازعة إلى الشر ، ويحدث منها فى نفسه خواطر السوء.
(2) قسم الناس ، ووسوستهم ما نشاهده ونراه بأعيننا ، ونسمعه بآذاننا.
وما أوردوه فى خرطوم الشيطان وخطمه ومنقاره وجثومه على الصدر أو على القلب ونحو ذلك فهو من قبيل التمثيل والتصوير ا ه ملخصا.
وقد بدئت السورة برب الناس ، ومن كان مربيهم فهو القادر على دفع إغواء الشيطان ووسوستهم.
وقد أرشد فى هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه ، كما أرشد إليها فى الفاتحة للإشارة إلى أن ملاك الأمر كله هو التوجه إليه وحده ، والإخلاص له فى القول والعمل والالتجاء فيما لا قدرة لنا على دفعه.
اللهم اجعلنا من المخلصين فى أعمالنا ، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجن ، وأبعد عنا شر الموسوسين ، وقنا عذاب جهنم ، ولا تفضحنا يوم العرض.
وصل ربنا على محمد وآله الطيبين الطاهرين ، وصحبه الذين ذادوا عن دينك ، بقدر ما غرست فى قلوبهم من برد اليقين ، وأثلجت صدورهم بمحبة هذا الدين.(30/272)
ج 30 ، ص : 273
خاتمة التفسير
حمدا لك اللهم على نعمائك ، وشكرا لك على جزيل آلائك ، سبحانك رب وفقتني لتفسير كتابك الكريم ، وبيان أسراره ومغازيه لجمهرة المسلمين ، بعد أن كانت تقوم أمامهم عقبات تلو عقبات فمن مصطلحات للعلوم لا تستسيغها إلا طوائف ممن تخصصوا لدرسها ، ومن تفسير لنظريات طبية أو فلكية دلت أبحاث العلماء المحدثين على أن تفسير العلماء القدامى لها كان مجانفا للحقائق التي أثبتها العلم الحديث ، ومن قصص دوّن فى كتب التفسير يعوزه الدليل النقلى الصحيح ، ولا يوافق على صدقه العقل الرجيح ، ولا سيما قصص الأنبياء وأخبار الأمم البائدة ، وبدء التكوين ، وخلق السموات والأرض.
وكم سهرت الليالى الطوال فى أيام القرّ ، وإبّان الحرّ ، لا تؤنسني إلا معونة اللّه وجميل توفيقه ، وما أشعر به من لذة تخفف عنى ما أنقض ظهرى.
وحينما كنت أحس بسأم من العمل المضنى - آنس أن نفحة من روح اللّه يهب نسيمها على قلبى ، فأنشط للعمل ، وأدأب على المضي قدما ، لمواصلة الدرس والتأليف.
وهكذا كانت تمر الليالى والأيام ، فلا أجد مع ذلك الجهد إلا انشراحا وسرورا بمواصلة العمل. وقد أعاننى اللّه على إتمامه بعد سبع سنين دائبا العمل ليل نهار ، صباح مساء.
وكان مسك الختام ، وإنجاز التفسير فى سلخ ذى الحجة من سنة 1365 خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية.
وللّه الحمد فى الآخرة والأولى ، وإليه المرجع والمآب.(30/273)
ج 30 ، ص : 274
خاتمة الطبع
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حمدا لمن أنزل القرآن تبيانا للناس وهدى وموعظة للمتقين ، وأرسل سيدنا محمدا بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين ، صلى اللّه عليه وسلم وآله وصحبه مصابيح الهدى وترجمان القرآن الذي هو حجة اللّه على الناس أجمعين.
أتى رب العالمين فيه بالبراهين الساطعة ، والحجج الدامغة على انفراده سبحانه بالألوهية واختصاصه جل ذكره بالمعبودية. دمغ به الباطل وأزهقه ، وزيف به عقائد العرب وبين لهم النجدين ، فمنهم من مال إلى الإسلام ، ومنهم من خضع بالسيف والسنان.
ولقد وضح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مقاصده ، وبين مراميه وفسر بعض آياته ، واقتدى به الصحابة ومن بعدهم فى ذلك.
وللّه در حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل الشيخ « أحمد مصطفى المراغي بك » حيث خاض لجة بحر علم تفسير القرآن ، فشرح الألفاظ المفردة التي يصعب على القارئ فهمها لأول وهلة ، ثم تلاها بالمعنى المراد من الآيات فى عبارة مختصرة ، ثم ثلثها بإيضاح المعاني إيضاحا شاملا شافيا ، مع تجنب القصص الإسرائيلية المدسوسة والخرافات الدخيلة على هذا العلم النفيس ، فذكر منها الصريح والنقل الصحيح. اهتدى إلى ما لم يهتد إليه الفحول من متقدميه ، واستدل بأحاديث الرسول فى بعض المواضيع ، وبأشعار العرب ، وبأقوال أهل اللغة والعلماء الموثوق بعلمهم ونقلهم ، فهو كما قال القائل :
وإنى وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
وقد قام بطبعه طبعا متقنا ونشره بين الأنام السادة النبلاء من نشروا كتب الجهابذة الأعلام فى أنحاء المعمورة ، أصحاب :
[شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر] فللّه درهم حيث قدموه لجمهور القراء بهذا الشكل البديع مع الاعتناء بتصحيحه بمعرفة لجنة التصحيح بالشركة.(30/274)
ج 30 ، ص : 275
فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 كان المشركون كثيرا ما يتحدثون فى شأن البعث والحساب فنزلت سورة عم 8 للظلمة فوائد وللنور فوائد 9 فى الشمس سر الحياة 11 أمر الكائنات فى يوم الفصل على غير ما نعهد 14 ذكر جرائم الكفار التي استحقوا عليها العذاب 17 التمتع بالنساء فى الآخرة يكون على نهج يشاكل العالم الأخروى 19 الملائكة مخلوقات غيبية نصدق بما جاء فى الكتاب من أوصافها 20 فى يوم القيامة تتجلى للمرء أعماله التي كانت فى حياته الأولى 23 الإقسام ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم يكون لأحد أمرين 25 استبعد المشركون أمر البعث لأسباب ثلاثة 27 قصص موسى مع فرعون طاغية مصر 30 البعث هين إذا قيس بخلق السموات والأرض 31 تعاقب الليل والنهار يهيىء الأرض للسكنى 33 يوم القيامة يتذكر كل امرئ ما عمل فى الدنيا 35 كان المشركون يسألون النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الساعة فأمره أن يقول لهم :
علمها عند ربى 37 يوم القيامة يظن المشركون أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا عشية أو ضحاها(30/275)
ج 30 ، ص : 276
39 عتاب اللّه لنبيه على الإعراض عن هذا الأعمى 42 الهداية تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل 47 الآيات المنبثة فى الآفاق والأنفس 49 ذكر بعض أهوال يوم القيامة التي توجب الفزع 50 الناس فريقان : سعداء وأشقياء 53 حين تقع أحداث القيامة تعلم كل نفس ما قدّمت من عمل 55 افتنّ العرب فى وأد البنات 56 لا يتقبل اللّه من الأعمال إلا ما كان عن قلب ملىء بالإيمان 59 أوصاف جبريل عليه السلام 60 صفة النبي عليه الصلاة والسلام 61 على مشيئة المكلف تتوقف الهداية 65 فى يوم الحشر يسأل الإنسان عما دعاه إلى مخالفة خالقه.
66 الإنسان لا يعيش كما يعيش سائر الحيوان 67 لا يمنع الإنسان من التصديق بالبعث إلا العناد.
71 جزاء التطفيف فى الكيل والميزان 73 التطفيف يكون فى غير الكيل والميزان 75 مقالة المشركين فى القرآن.
76 لا يكذب بيوم الدين إلا المعتدى الأثيم 78 ما يقال للكفار يوم القيامة 80 أعمال الأبرار فى كتاب يسمى عليين وأعمال الفجار فى كتاب يسمى سجينا(30/276)
ج 30 ، ص : 277
81 أثر النعيم فى أهل الجنة 83 ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الدنيا 84 من شأن القوى أن يضحك ممن يخالفة 88 الناس فى الآخرة فريقان : برررة وقجرة 89 حين اختلاف نظام هذا العالم تمدّ الأرض مدّ الأديم العكاظي 91 كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : اللهم حاسبنى حسابا يسيرا 92 إيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال تصوير وتمثيل 94 إقسام اللّه تعالى بآياته الباهرات فى هذا الكون 98 الإقسام بما فيه غيب وشهود 99 تعذيب المشركين للمؤمنين شنشنة قديمة 100 حديث أصحاب الأخدود 102 ما أعد اللّه للكافرين من العذاب الأليم 104 ما يعظم به الملك فى الدنيا 106 فى قصص أصحاب الأخدور تسلية للنبى وصحبه 107 أحوال الكفار متشابهة فى كل عصر 109 إقسام اللّه تعالى بأن النفوس لم تخلق سدى 112 كيفية خلق الجنين ونموّ الحمل كما أثبته العلم حديثا 114 الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة 118 فى الحديث « كتاب اللّه فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم » إلخ 121 اسم اللّه ما يعرف به(30/277)
ج 30 ، ص : 278
123 وعد اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم أنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه 125 أمره صلى اللّه عليه وسلم بتذكير عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم 126 الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى اللّه عليه وسلم أقسام ثلاثة 127 وعد من زكى نفسه بالفوز والفلاح والظفر بالسعادة 129 الرسول صلى اللّه عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيان من شرائع المرسلين 134 وصف الجنة وما فيها.
136 إقامة الحجة على المنكرين ليوم البعث 137 ضرب أمثلة دالة على قدرته تعالى.
141 نعمة اللّه على عباده بتعاقب الليل والنهار 143 ذكر قصص الأمم الماضية وما فيها من سلوى لرسوله صلى اللّه عليه وسلم 143 الإنسان لا يهتم إلا بشئون الدنيا 148 توبيخ الإنسان على زجر اليتيم والمسكين 150 إيثار الناس للحياة الدنيا على الآخرة 151 يندم الإنسان على ما فرط منه حين لا يجدى الندم 152 وصف يوم القيامة وما فيه من أحداث 157 خلق الإنسان فى عناء 161 الحض على مواساة اليتيم وإطعام المسكين 163 فعل البر لا يجدى نفعا إلا مع الإيمان واطمئنان القلب 166 الحكمة فى القسم بالشمس والقمر والليل والنهار(30/278)
ج 30 ، ص : 279
168 ألهم اللّه تعالى النفوس الفجور والتقوى وعرّفها حالها 170 ذكر بعض أخبار الأمم الماضية وما جوزوا به 174 اختلاف الأجنة فى الذكورة والأنوثة دليل على أن واضع النظام عليم بما يفعل 178 أعذر اللّه إلى عباده فأبان لهم الخير والشر وأرشد إلى عاقبتهما 180 الناس أصناف ثلاثة 182 سبب نزول سورة الضحى 184 تعداد ما أنعم اللّه به على رسوله قبل النبوة 186 مطالبته عليه الصلاة والسلام بشكر هذه النعم 187 كان صلى اللّه عليه وسلم كثير الإنفاق على الفقراء عظيم الرأفة بهم 189 لا فخار أعظم من ذكره صلى اللّه عليه وسلم فى كلمة الإيمان مع العلى الرحمن 191 ستخرج النفس ظافرة مهما اشتد العسر إذا اعتصمت بالصبر وتوكلت على ربها 194 أقسم ربنا بالعهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر 197 صدر سورة اقرأ أول القرآن نزولا 200 نعم اللّه على عباده 201 أسباب طغيان الإنسان 205 ما دار من الحواريين النبي صلى اللّه عليه وسلم وأبى جهل 206 أشار القرآن إلى نزول القرآن فى أربعة مواضع 208 فضل ليلة القدر 215 النعي على المسلمين فيما أحدثوا من البدع 217 علامات يوم القيامة(30/279)
ج 30 ، ص : 280
223 أقسم اللّه سبحانه بالخيل ليعلى من قدرها 227 نحن نؤمن بالميزان يوم القيامة لكنا لا نعرف حقيقته.
230 زيارة القبور أعظم دواء للقلب القاسي 232 يسأل الكفار عن النعيم الذي كانوا يتمتعون به فى الدنيا 234 الدهر خلق من خلق اللّه تقع فيه الحوادث خيرها وشرها 235 الناس فى خسر إلا من اتصفوا بأربع صفات 238 سخط اللّه وعذابه لكل طعان فى الناس أكّال للحوم 242 قصص أصحاب الفيل كما رواه الثقات.
243 البعوض الذي أهلك أصحاب الفيل 245 تعداد النعم على قريش 248 الرياء على ضروب 251 أسباب نزول سورة الكوثر 257 كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يضيق صدره لتكذيب قومه له 262 كان أبو لهب يصدّ عن الحق وينفر الناس عن اتباعه 264 ورد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن.
264 سورة الإخلاص تضمنت نفى الشرك بجميع أنواعه 267 علمنا اللّه أن نتعوّذ به من أصناف من الخلق 268 نفى تأثير السحر فى النبي صلى اللّه عليه وسلم 271 الموسوسون قسمان 273 خاتمة التفسير 274 « الطبع(30/280)
صفحات ناقصة من ص 48 ـ 57
ج 20 ، ص : 48
صفحات ناقصة
ج 20 ، ص : 136 ـ 147
صفحات ناقصة ص : 49 ـ ص : 60
ج 23 ، ص : 49
صفحة ناقصة مع بعض ما قبلها ص : 58 ـ 59
ج 28 ، ص : 59(30/281)