ج 26 ، ص : 146
أو قوى إذ لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ، وأنه لا ينبغى للمؤمن أن يمتنّ على الرسول بإيمانه ، بل من حق الرسول أن يمتنّ عليه بأن وفّق للهداية على يديه إن كان صادق الإيمان. ثم ختم الآيات بالإخبار عن واسع علمه ، وإحاطته بمكنون سرّ خلقه فى السموات والأرض لا يعزب عنه مثقال ذرة فيهما ، وهو البصير بما يعمل عباده من خير أو شر ، قال مجاهد : نزلت فى أعراب من بنى أسد بن خزيمة (وكانوا يجاورون المدينة) قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين حقّا.
وقال السّدّىّ : نزلت فى الأعراب المذكورين فى سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والدّيل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا.
الإيضاح
(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) أي قالت الأعراب : صدقنا باللّه ورسوله ونحن له مؤمنون فردّ اللّه عليهم مكذبا لهم مع عدم التصريح بذلك فقال :
(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) أي قل لهم : إن الإيمان هو التصديق مع طمأنينة القلب والوثوق باللّه ولم يحصل لكم بعد ، بدليل أنكم مننتم على الرسول بترك مقاتلته ، ولكن قولوا : انقدنا لك واستسلمنا ، ولا ندخل معك فى حرب ، ولا نكون عونا لعدوك عليك.
وجاءت الآية على هذا الأسلوب ، ولم يقل لهم كذبتم ، ولكن قولوا أسلمنا ، حملا له عليه السلام على الأدب فى التخاطب ليتأسّى به أتباعه ، فيلينوا لمن يخاطبونهم فى القول.
(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي قولوا أسلمنا فحسب ، لأنه لم يدخل الإيمان(26/146)
ج 26 ، ص : 147
فى قلوبكم بعد ، إذ لم يوافق القلب ما جرى به اللسان ، ولم يكن لشرائع الدين ولا آدابه أثر فى أعمالكم ، فلم تتغذّ بها أرواحكم ، ولم تصطبغ بهديها نفوسكم.
قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع وقبول ما أتى به النبي صلّى اللّه عليه وسلم وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك هو الإيمان وصاحبه المؤمن اه.
(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) أي وإن تطيعوا اللّه ورسوله وتخلصوا له فى العمل وتتركوا النفاق لا ينقص سبحانه من أجوركم شيئا ، بل يضاعف ذلك أضعافا كثيرة.
ولما كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد - ذكر أنه غفور لزلاته فقال :
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه ستار للهفوات ، غفار لزلات من تاب وأناب وأخلص لربه ، رحيم به أن يعذبه بعد التوبة ، بل يزيد فى إكرامه ، ويصفح عن آثامه.
ثم بين سبحانه حقيقة الإيمان بقوله :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي إنما المؤمنون حق الإيمان الذين صدقوا اللّه ورسوله ، ثم لم يشكوا ولم يتزلزلوا ، بل ثبتوا على حال واحدة ، وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم فى طاعة اللّه ورضوانه - أولئك هم الصادقون فى قولهم : آمنا ، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة ، وقد دخلوا الملة خوفا من السيف ، ليحقنوا دماءهم ويحفظوا أموالهم.
ثم أكد ما سبق من قوله : لم تؤمنوا بقوله :
(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ ؟ ) أي قل لهم : أ تخبرون اللّه بما فى ضمائركم ، وما تنطوى عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم : آمنا حقا.(26/147)
ج 26 ، ص : 148
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فلا يخفى عليه مثقال ذرة فيهما.
وفى هذا تجهيل وتوبيخ لهم لا يخفى أمره (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم فتنالكم عقوبته ، إذ لا يخفى عليه شىء.
(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) أي يعدّون إسلامهم ومتابعتهم لك ونصرتهم إياك منّة يطلبون منك أجرها ، فقد قالوا جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان.
ثم أمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدّعونه من الإسلام فقال :
(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي لا تعدوا إسلامكم الذي سميتموه إيمانا منة علىّ ، فإن الإسلام هو المنة التي لا يطلب موليها ثوابا لمن أنعم بها عليه ، ومن ثم قال :
(بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل اللّه هو الذي يمن عليكم ، إذ أمدكم بتوفيقه وهدايته للإيمان إن كنتم صادقين فى إيمانكم.
وفى هذا إيماء إلى أنهم كاذبون فى ادعائهم الإيمان.
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال للأنصار يوم حنين « يا معشر الأنصار ، أ لم آتكم ضلّالا فهداكم اللّه ؟ وعالة فأغناكم اللّه ؟ وأعداء فألف اللّه بين قلوبكم ؟ قالوا بلى ، اللّه ورسوله أمنّ وأفضل » .
والخلاصة - إن اللّه تعالى سمى ما كان منهم إسلاما وخضوعا لا إيمانا إظهارا لكذبهم فى قولهم آمنا ، ثم لما منّوا على رسول اللّه بما كان منهم قال سبحانه لرسوله :
أيعتدّون عليك بما ليس جديرا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانا وليس بذاك ؟
بل اللّه هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا ، فهو قد أمدّهم بهديه وتوفيقه. ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات فقال :(26/148)
ج 26 ، ص : 149
(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إن اللّه يعلم ما غاب فيهما ، وهو بصير بسركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه ما فى ضمائركم.
وفى ذلك رمز إلى أنهم كاذبون فى إيمانهم ، وإعلان للنبى صلّى اللّه عليه وسلم وأتباعه من المؤمنين بما فى أنفسهم.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
مباحث هذه السورة قسمان : قسم بين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأمته ، وقسم يخص أمته وهو إما ترك للرذائل وإما تحلية بالفضائل. والقسم الأول هو :
(1) ألا يقضى المؤمنون فى أمر قبل أن يقضى اللّه ورسوله فيه.
(2) الهيبة والإجلال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وألا تتجاوز أصواتهم صوته.
(3) ألا يخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضهم بعضا ، بل يخاطبونه بالنبي والرسول.
(4) إن الذين يخفضون أصواتهم عند رسول اللّه أولئك هم المتقون.
(5) إن من نادوه من وراء الحجرات كعيينة بن حصن ومن معه أكثرهم لا يعقلون.
(6) ذمّ المنّ على اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالإيمان.
والقسم الثاني هو :
(1) ألا نسمع كلام الفاسق حتى نتثبّت منه وتظهر الحقيقة.
(2) إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر اللّه.
(3) حبب اللّه الصلح بين المؤمنين.
(4) النهى عن السخرية واللمز والتنابز.
(5) النهى عن سوء الظن بالمسلم وعن تتبع العورات المستورة وعن الغيبة والنميمة.
(6) الناس جميعا سواسية مخلوقون من ذكر وأنثى ، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.(26/149)
ج 26 ، ص : 150
سورة ق
هى مكية إلا آية 38 فمدنية ، وآيها خمس وأربعون ، نزلت بعد المرسلات.
ومناسبتها لما قبلها - أنه أشار فى آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ، وذلك يقتضى إنكار النبوة وإنكار البعث ، وافتتح هذه السورة بما يتعلق بذلك.
حدّث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة أنه عليه الصلاة والسّلام كان يقرأ هذه السورة فى الركعة الأولى من صلاة الفجر.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبى واقد الليثي « أنه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ فى العيد بقاف واقتربت » .
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت « ما أخذت (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إلا من فى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقرأ بها فى كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس » .
وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها فى المجامع الكبيرة كالعيدين والجمع ، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب.
[سورة ق (50) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)(26/150)
ج 26 ، ص : 151
تفسير المفردات
المجيد من المجد ، وهو كما قال الراغب : السعة فى الكرم من قولهم : مجدت الإبل إذا وقعت فى مرعى كثير واسع ، وصف به القرآن لكثرة ما تضمنه من المكارم الدنيوية والأخروية ، رجع بعيد : أي بعث بعد الموت بعيد عن الأوهام ، ما تنقص الأرض : أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم ، حفيظ : أي حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، بالحق : أي بالنبوة الثابتة بالمعجزات ، مريج : أي مضطرب من قولهم : مرج الخاتم فى إصبعه إذا قلق من الهزال.
الإيضاح
(ق) تقدم أن قلنا غير مرة إن الحروف المفردة. التي جاءت فى أوائل السور حروف لتنبيه السامع إلى ما يرد بعدها ، وأكثر ما جاء ذلك إذا ورد بعدها وصف القرآن كما هنا.
(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أقسم اللّه سبحانه بكتابه الكثير الخير والبركة - إنك أيها الرسول جئتهم منذرا بالبعث ، يدل على ذلك قوله تعالى « يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - إلى أن قال - لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ » .
(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي إنك جئتهم منذرا بالبعث ، فلم يقبلوا ولم يكتفوا بالشك فى أمرك وردّ رسالتك ، بل جزموا بنفيها ، وجعلوها من عجائب الأمور التي تستحق الدهشة ، وكثير التأمل والاعتبار.
ثم فسر تعجبهم وفصّل محل التعجب وهو إنذاره بالقرآن فقال :
(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ) أي فقال المكذبون باللّه ورسوله من قريش إذ جاءهم منذر منهم : هذا شىء عجيب ، أي إن مجىء رجل منا برسالة من اللّه إلينا(26/151)
ج 26 ، ص : 152
أمر عجيب ، هلا أنزل إلينا ملكا فيكون لنا نذيرا ، كما حكى عنهم من قولهم :
« أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ » وقوله حكاية عنهم « قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » .
وبعد أن أظهروا التعجب من رسالته أظهروا استبعاد ما جاء به فقالوا :
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي أ حين نموت ونصير ترابا نرجع كما يقول النذير ؟ إن ذلك الرجوع بعد الموت لبعيد عن الأوهام ، لا يصدّقه العقل وتحيله العادة.
ثم أشار إلى دليل جواز البعث وقدرته تعالى عليه فقال :
(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي قد علمنا ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم ، ولا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان ، وأين ذهبت ، وإلى أين صارت ؟ فلا يصعب علينا البعث ولا يستبعد.
ثم أكد علمه بجميع الأشياء فقال :
(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ، وهذا تمثيل لحال علمه تعالى للكائنات جميعا علما كاملا بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شىء ، فيضبط ما يعلم أتم الضبط ويحصيه أكمل الإحصاء.
ثم حكى عنهم ما هو أفظع من تعجبهم وهو تكذيبهم بالنبوة الثابتة بالمعجزات من أول وهلة بلا تدبر ولا تفكر فقال :
(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي بل كذبوا ، بالنبوة التي قامت الأدلة على صدقها وأيدتها المعجزات الباهرة ، وهم إذا كذبوا بها فقد كذبوا بما أنبأ به الرسول من البعث وغيره ، ولا شك أن هذا الإنكار أعظم جرما وأشد بلية من الإنكار بما جاء به الرسول ، إذ به أنكروا الصلة الروحية بين اللّه ومن يصطفيه من خلقه من ذوى النفوس الصافية ، وأرباب الأرواح العالية.
(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي فهم فى قلق واضطراب ، فتارة ينفون الرسالة عن البشر ،(26/152)
ج 26 ، ص : 153
وأخرى يزعمون أنها لا تليق إلا بأهل الجاه والرياسة كما ينبئ بهذا قولهم : « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » وثالثة يقولون : إنها سحر أو كهانة ، إذ قالوا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : ساحر أو كاهن إلى نحو ذلك من أقاويلهم التي تدل على اضطراب فى الأمر ، وقلق فى الفكر ، فهم لا يدرون ما ذا يفعلون حين جاءهم النذير الذي أقضّ مضاجعهم ، وجعلهم حيارى دهشين ، إلام هم صائرون ؟ وإلى أي منقلب ينقلبون ؟
[سورة ق (50) : الآيات 6 الى 11]
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)
تفسير المفردات
بنيناها : أي أحكمنا بناءها ، فجعلناها بغير عمد ، وزيناها : أي بالكواكب ، فروج : أي شقوق ، مددناها : أي بسطناها ، رواسى : أي جبالا ثوابت تمنعها من الميد والاضطراب ، زوج : أي صنف ، بهيج : أي ذى بهجة وحسن ، تبصرة وذكرى :
أي تبصيرا وتذكيرا ، منيب : من أناب إذا رجع وخضع ، حب الحصيد : أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالبرّ والشعير ، باسقات : أي طويلات ، والطلع ما ينمو(26/153)
ج 26 ، ص : 154
ويصير بلحا ثم رطبا ثم تمرا ، ونضيد : أي منضود بعضه فوق بعض ، الخروج : أي من القبور.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم استبعدوا البعث فقالوا رجع بعيد - أردف ذلك الدليل الذي يدحض كلامهم ، فإن من خلق السماء وزينها بالكواكب ، وبسط الأرض وجعل فيها رواسى وأنبت فيها صنوف النبات ، وجعل ذلك تذكرة وتبصرة لأولى الألباب ، ونزل من السماء ماء فأنبت به ناضر الجنان ، والزرع المختلف الأصناف والألوان ، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقا لعباده ، وأحيا به الأرض الموات - أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم ، وبعد أن يصيروا عظاما ورفاتا ، وينشئهم خلقا آخر فى حياة أخرى وعالم غير هذا العالم ؟
الإيضاح
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أ فلم ينظر هؤلاء المكذبون بالبعث بعد الموت ، المنكرون قدرتنا على إحيائهم بعد البلى - إلى السماء فوقهم كيف رفعناها بلا عمد ، وزيناها بالكواكب ومالها من فتوق ، فهى ملساء متلاصقة الطباق ، وهذا هو الرأى الحديث فى عالم السموات ، إذ يقولون : إن هناك عالما لطيفا أرق من الهواء وألطف من كل ما نراه وهو مبدأ كل شىء وأول كل شىء وهو العالم المسمى بالأثير ، وهذا العالم وإن لم يره الناس فقد عرفوه من وصول أضواء الكواكب إلينا ، فإن من الكواكب ما لا يصل ضوءه إلينا إلا فيما يزيد على ألف ألف سنة ، ونور الشمس (التي تبعد عنا مقدار سير القطار إليها لو أمكن فى نحو خمس ستين وثلاثمائة سنة) يصل إلينا فى مدة ثمان دقاق وثمانى عشرة ثانية.(26/154)
ج 26 ، ص : 155
فانظر كيف يكون بعد تلك الكواكب التي تحتاج بسير النور إلى مليون سنة ونصف مليون ألا يدل هذا على أن ذلك الضوء محمول على شىء موجود وهو الأثير فلو أن طبقة من الطبقات لم يكن فيها الأثير لا نقطع سير النور إلى الأرض ولم نره.
وهذا ما يشير إليه الكتاب بقوله « وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ » فلو كان هناك فروج تتخلل السموات لا نقطع سير النور إلينا.
وآراء الجهلة فى كل أمة أن كل سماء منفصلة عن الأخرى وبينهما فضاء كما يظن لأول وهلة فيما بيننا وبين السماء ، فجاء الكتاب الكريم وعكس هذه القضية وقال لا فروج فى السماء أي لا خلاء فى العالم.
(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي والأرض بسطناها وألقينا فيها جبالا ثوابت لئلا تميد وتضطرب ، وأنبتنا فيها من كل صنف من صنوف النبات ما حسن منظره ، وراق مخبره.
(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي فعلنا ذلك لتبصرة العبد المنيب وادكاره فإن رفعنا السماء ، أو زيناها بالكواكب فلاستبصاره ، وإن بسطنا الأرض أو أرسيناها بالجبال أو أنبتنا النبات زينة للأرض فلاعتباره.
ثم شرع يبين كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج فقال :
(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي ونزلنا من السماء ماء كثير المنافع ، إذ أنبتنا به جنات غناء ، وحدائق فيحاء ، وحب الزرع الذي من شأنه أن يحصد كالشعير والقمح وغيرهما.
(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي وأنبتنا به النخل الطوال التي لها طلع منضود متراكم بعضه فوق بعض ، لأقوات العباد وأرزاقهم.
عن قطبة قال : « سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ فى الصبح ق فلما أتى على هذه الآية - والنّخل باسقات - فجعلت أقول ما بسوقها ؟ قال طولها » أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه.(26/155)
ج 26 ، ص : 156
ولم يقيد هنا العباد بالإنابة كما قيد به فى قوله : « تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ » لأن التذكرة لا تكون إلا لمنيب ، والرزق يعم كل أحد ، غير أن المنيب يأكل ذاكرا وشاكرا للإنعام ، وغيره يأكل كما تأكل الأنعام ، ومن ثم لم يخصص الرزق بقيد.
(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أي وأحيينا بذلك الماء الأرض المجدبة التي لا نبات فيها فتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
ثم جعل ما سلف كالدليل على البعث لأنه شبيه به فقال :
(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي ومثل هذه الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور.
وفى التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء ، وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث : وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه لأفهام الناس.
[سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
تفسير المفردات
الرس : البئر التي لم تطو أي لم تبن ، وأصحابه هم من بعث إليهم شعيب عليه الصلاة والسلام ، والأيكة : الغيضة الملتفة الشجر ، تبّع : هو تبع الحميرى ، والعي(26/156)
ج 26 ، ص : 157
عن الأمر. العجز عنه : قال الكسائي تقول أعييت من التعب ، وعييت من العجز عن الأمر وانقطاع الحيلة ، ولبس : أي شك شديد وحيرة واختلاط.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تكذيب المشركين للرسول صلّى اللّه عليه وسلم - أردف ذلك ذكر المكذبين للرسل من قبله وبيان ما آل إليه أمرهم ، تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم وعبرة لهم ، وتنبيها إلى أن حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل كذّبوا فصبروا فأهلك اللّه مكذبيهم ونصرهم وأعلى كلمتهم كما قال : « وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » وقال :
« وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » .
ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذبت رسلها بأن من خلق العالم بادىء ذى بدء فهو على إعادته أقدر.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ. وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ. وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ ، كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) هدد سبحانه كفار قريش بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقم والعذاب الأليم فى الدنيا والآخرة ، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان ، وأهلك جميع من ذكروا بعدهم من الأمم التي كذبت رسلها بضروب شتى من العذاب ، وحق عليهم وعيده ، ونصر رسله ، وأعلى كلمتهم وكانت العاقبة لهم كما قال (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا) وقد تقدمت هذه القصص فى مواضع متفرقة من الكتاب الكريم.
ثم ذكر ما يؤكد صحة البعث فقال :
(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ؟ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي أ فأعجزنا ابتداء(26/157)
ج 26 ، ص : 158
الخلق حتى يشكّوا فى الإعادة ؟ أي إن ابتداء الخلق لم يعجزنا والإعادة أسهل من الابتداء ، فلا حق لهم فى تطرق الشبهة إليهم والشك فيه ، كما قال : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال : « وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » وجاء فى الحديث القدسي : « يقول اللّه تعالى : يؤذينى ابن آدم يقول لن يعيدنى كما بدأنى ، وليس أول الخلق بأهون علىّ من إعادته » .
[سورة ق (50) : الآيات 16 الى 22]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)
وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
تفسير المفردات
الوسوسة : الصوت الخفىّ ومنه وسواس الحلي والمراد بها هنا حديث النفس وما يخطر بالبال من شتى الشئون ، وحبل الوريد : عرق كبير فى العنق ، وللانسان وريدان مكتنفان بصفحتى العنق فى مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، وقعيد :
بمعنى مقاعد كالجليس بمعنى المجالس ، والرقيب : ملك يرقب قوله ويكتبه ، فإن كان خيرا فهو صاحب اليمين ، وإن كان شرا فهو صاحب الشمال ، عتيد : أي مهيأ لكتابة ما يؤمر به من الخير والشر ، سكرة الموت : شدته ، بالحق : أي بحقيقة الحال ، تحيد :(26/158)
ج 26 ، ص : 159
أي تميل وتعدل ، يوم الوعيد : أي يوم إنجاز الوعيد ، السائق والشهيد : ملكان أحدهما يسوق النفس إلى أمر اللّه ، والآخر : يشهد عليها بعملها ، والغطاء : الحجاب المغطى لأمور المعاد ، وهو الغفلة والانهماك فى اللذات وقصر النظر عليها ، حديد : أي نافذ ، لزوال المانع للابصار.
المعنى الجملي
بعد أن استدل على إمكان البعث بقوله : أ فعيينا بالخلق الأوّل - أردف ذلك دليلا آخر على إمكانه وهو علمه بما فى صدورهم وعدم خفاء شىء من أمرهم عليه ، فإن من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرة أخرى ، ثم أخبر بأنهم سيعلمون بعد الموت أن ما جاء به الدين حق لا شك فيه ، وأنه يوم القيامة تأتى كل نفس ومعها ملكان أحدهما سائق لها إلى المحشر والثاني شهيد عليها ، وأن الخزنة سيقولون لأهل النار : لقد كنتم فى غفلة عن حلول هذا اليوم الذي توفّى فيه كل نفس جزاء ما عملت ، والآن أزلنا عنكم هذه الغفلة فأبصرتم عاقبة أمركم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي إنه تعالى قادر على بعث الإنسان ، لأنه خالقه وعالم بجميع أموره حتى إنه ليعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ولا عقاب على حديث النفس ،
وقد ثبت فى الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إن اللّه تجاوز لأمتى ما حدّثت به أنفسها ما لم تقل أو تفعل » .
(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي ونحن أعلم به وبخفيات أحواله لا يخفى علينا شىء من أمره ، من علمكم بحبل الوريد ، لأن العرق تحجبه أجزاء من اللحم ، وعلم اللّه لا يحجب عنه شىء.(26/159)
ج 26 ، ص : 160
أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال « نزل اللّه من ابن آدم أربع منازل ، هو أقرب إليه من حبل الوريد ، وهو يحول بين المرء وقلبه ، وهو آخذ بناصية كل دابة ، وهو معهم أينما كانوا » .
قال القشيري : فى هذه الآية - هيبة وفزع وخوف لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم.
ثم ذكر سبحانه أنه مع علمه به وكل به ملكين يكتبان ويحفظان عليه عمله إلزاما للحجة فقال :
(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي نحن أعلم بحاله من كل قريب حين يتلقن الحفيظان ما يتلفظ به ، مع أننا أغنياء عن استحفاظ الملكين لشدة قربنا منه.
(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد أي مقاعد ومجالس له يترصد ما يقول ويعمل ، فالذى عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات.
قال الحسن وقتادة : المتلقيان ملكان يتلقيان عملك : أحدهما عن يمينك يكتب حسناتك ، والآخر عن شمالك يكتب سيئاتك.
ثم ذكر عملهما واستعدادهما لأدائه فقال :
(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي لا يلفظ بكلمة من فيه إلا لديه ملك حاضر معه مراقب لأعماله ، يكتب ما فيه ثوابه أو عقابه.
قال الحسن البصري وتلا هذه الآية : « عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ » يا بن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طويت صحيفتك وجعلت فى عنقك(26/160)
ج 26 ، ص : 161
معك فى قبرك حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقول اللّه تعالى : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً » ثم قال : عدل واللّه فيك من جعلك حسيب نفسك.
و
روى أبو أسامة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها ملك اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات لعله يسبّح أو يستغفر » .
والحكمة فى هذا أن اللّه لم يخلق الناس لتعذيبهم ، بل خلقهم لتربيتهم وتهذيبهم ، فكل ألم فهو لرقىّ النفس. والعالم المادي من طبعه أن يكون نفعه أكثر من ضره ، واللّه تعالى خلقنا لغاية شريفة لنا ، والحسنات هى الأصل والسيئات عارضة كما أن المنافع فى الطبيعة هى الأصل والمضارّ عارضة ، فالنار خلقت لنفعه ، والماء لنفعه ، والهواء لنفعه فإذا أحرق ثوب الناسك ، أو أغرق رب صبية لا عائل لهم ، فهذا عارض ، والأصل فى ذلك المنافع ، وهكذا خلق نوع الإنسان للخير ، والشر عارض ، ولفعل الحسنات ، والسيئات عارضة.
وبعد أن ذكر استبعادهم البعث للجزاء ، وأزاح ذلك بتحقيق قدرته وعلمه ، أعلمهم بأنهم يلاقون صدق ذلك حين الموت وحين قيام الساعة فقال :
(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) أي وكشفت لك سكرة الموت عن اليقين الذي كنت تمترى فيه ، وأن البعث لا شك فيه.
(ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي ذلك الحق الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ، ولا فكاك ولا خلاص.
ولما ثقل أبوبكر جاءت عائشة رضى اللّه عنها فتمثلت بقول حاتم :
لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر(26/161)
ج 26 ، ص : 162
فكشف رضى اللّه عنه عن وجهه وقال : ليس كذلك ، ولكن قولى : « وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ » .
وفى الصحيح « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : سبحان اللّه ، إن للموت لسكرات » .
(وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي ونفخ فى الصور نفخة البعث ، وذلك الزمان العظيم الأهوال هو اليوم الذي أوعد اللّه الكفار أن يعذبهم فيه.
وفى الحديث أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له ؟ قالوا يا رسول اللّه ماذا نقول ؟ قال :
قولوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل » .
(وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي وجاءت فى هذا اليوم كل نفس ربها ومعها سائق يسوقها إليه ، وشهيد يشهد عليها بما عملت فى الدنيا من خير أو شر.
(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي لقد كنت أيها الإنسان فى غفلة عن هذا الذي عاينت من الأهوال والشدائد ، فجلّينا ذلك لك ، وأظهرناه لعينيك حتى رأيته وعاينته ، فزالت عنك هذه الغفلة.
وقد جعل سبحانه الغفلة غطاء غطّى به الجسد كله ، أو غشاوة غشّى بها عينيه فلا يبصر شيئا ، فإذا كان يوم القيامة تيقظ وزالت عنه الغفلة وغطاؤها ، فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق.
[سورة ق (50) : الآيات 23 الى 30]
وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)(26/162)
ج 26 ، ص : 163
تفسير المفردات
القرين : هو الملك الموكّل بالمرء ، عتيد : أي معدّ محضر ، عنيد : أي مبالغ فى العناد وترك الانقياد للحق ، مناع للخير : أي كثير المنع للمال فى الحقوق المفروضة عليه ، معتد : أي متجاوز للحق ظالم ، مريب : أي شاكّ فى اللّه وفى دينه ، القرين هنا :
الشيطان المقيّض له ، بعيد : أي من الحق ، لا تختصموا لدىّ : أي لا يجادل بعضكم بعضا عندى ، بالوعيد : أي على الطغيان فى دار الدنيا فى كتبى وعلى ألسنة رسلى ، ما يبدل القول لدى : أي لا يقع فيه الخلف والتغيير فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي ، مزيد : زيادة.
الإيضاح
(وَقالَ قَرِينُهُ : هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي وقال الملك الموكل به : هذا الذي وكلتني به من بنى آدم قد أحضرته وأحضرت ديوان أعماله.
(أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي قال تعالى للسائق والشهيد : ألقيا فى جهنم كل من كفر باللّه ، أو أشرك به معبودا سواه من خلقه أو كذب الحق وعارضه بالباطل ، ومنع الحقوق المفروضة عليه ، واعتدى الناس بلسانه بالبذاء والفحش ، وبيده بالسطوة والبطش ظلما.(26/163)
ج 26 ، ص : 164
ثم كرر ما سلف توكيدا فقال :
(فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) أي فألقياه فى النار ذات العذاب الشديد.
(قالَ قَرِينُهُ : رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي قال الكافر معتذرا :
رب إن قرينى من الشياطين أطغانى ، فقال الشيطان المقيّض له : ربنا ما أطغيته ، ولكن كان طبعه وديدنه الضلال والبعد عن الحق ، فسار على النهج الذي يشاكل أخلاقه.
وخلاصة ذلك - إنه فى ضلال بعيد المدى لا يرجع عنه إلى الحق.
ونحو الآية قوله : « وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي » .
(قالَ : لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ ، وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي قال عز اسمه للإنسى وقرينه من الجن حين اختصما - فقال الإنسى : رب إن هذا أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى ، وقال الشيطان : ربنا ما أطغيته ولكن كان فى ضلال بعيد عن منهج الحق - لا تختصموا عندى ، فقد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل وأنزلت الكتب ، وقامت عليكم الحجج.
والخلاصة - إنهم اعتذروا بغير ما يصلح أن يكون عذرا ، فأبطل اللّه حجتهم وردّ عليهم بقوله :
(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أي لا يغيّر قضائى الذي قضيته ، ووعيدي الذي أوعدته بتخليد الكفار فى النار ومجازاة العصاة على قدر ما يستحقون.
(وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب أحدا بغير جرم اجترمه ، ولا ذنب جناه ولا أعذب أحدا مكان أحد.
ثم ذكر مكان حلول الوعيد فقال :
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ : هَلِ امْتَلَأْتِ ؟ وَتَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ؟ ) أي وأنذر قومك يوم نقول لجهنم : هل امتلأت بما ألقى إليك فوجا بعد فوج ؟ فتقول : لا مزيد بعد ذلك.(26/164)
ج 26 ، ص : 165
وفى هذا بيان لأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها ، يطرح فيها من الجنّة والناس جماعات بعد جماعات حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة.
وهذا السؤال والجواب جىء بهما للتمثيل وتصوير المعنى بإبرازه فى لباس المحسوس ليتضح أمره.
روى عن ابن عباس أنه قال : سبقت كلمته : لأملأنّ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، فلما سيق أعداء اللّه إليها صارت لا يلقى فيها فوج إلا ذهب فيها ولا يملؤها شىء فتقول أ لست قد أقسمت لتملأنّى ؟ فيضع قدمه عليها فيقول : هل امتلأت ؟ فتقول : قطّ قطّ (كفى كفى) قد امتلأت لا مزيد.
[سورة ق (50) : الآيات 31 الى 35]
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35)
تفسير المفردات
أزلفت : أي أدنيت وقرّبت ، غير بعيد : أي فى مكان غير بعيد منهم بل هو بمرأى منهم ، هذا ما توعدون : أي هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الرسل ، أوّاب : أي رجاع عن المعصية إلى الطاعة ، حفيظ : أي حافظ لحدود اللّه وشرائعه ، خشى الرحمن بالغيب : أي خاف عقاب ربه وهو غائب عن الأعين حين لا يراه أحد ، منيب : أي مخلص مقبل على طاعة اللّه ، بسلام : أي سالمين من العذاب وزوال النعم ، الخلود : أي فى الجنة إذ لا موت فيها ، مزيد : أي مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(26/165)
ج 26 ، ص : 166
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحوار بين الكافر وقرينه من الشياطين ، واعتذار الكافر وردّ القرين عليه ، وأن اللّه سبحانه نهاهم عن الاختصام لديه ، لأنه لا فائدة فيه بعد أن أوعدهم على ألسنة رسله - أردف هذا ذكر حال المتقين ، فذكر أن الجنة تكون قريبة منهم بحيث يرونها رأى العين ، فتطمئن إليها نفوسهم وتثلج لمرآها صدورهم ، ويقال لهم هذا هو الثواب الذي وعدتم به على ألسنة الأنبياء والرسل ، وهو دائم لا نفاد له ولا حصر ، فكل ما يريدون من لذة ونعيم فهو حاضر ، ولهم فوق هذا رضوان من ربهم « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
الإيضاح
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي وأدنيت الجنة للذين اتقوا ربهم ، واجتنبوا معاصيه ، بحيث تكون بمرأى العين منهم ، إكراما لهم ، واطمئنانا لنفوسهم ، فيرون ما أعدّ لهم من نعيم وحبور ، ولذة وسرور ، لا نفاد له ولا فناء.
(هذا ما تُوعَدُونَ) أي وتقول لهم الملائكة : هذا هو النعيم الذي وعدكم به ربكم على ألسنة رسله ، وجاءت به كتبه.
ثم بين المستحق لهذا النعيم فقال :
(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ، وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) أي هذا الثواب للمتقين الذين يرجعون من معصية اللّه إلى طاعته تائبين من ذنوبهم ويلقون اللّه بقلوب منيبة إليه ، خاضعة له.
(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي وتقول لهم الملائكة تكرمة لهم : ادخلوا الجنة سالمين من العذاب والهموم والأكدار ، فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
ثم يبشّرون ويقال لهم :(26/166)
ج 26 ، ص : 167
(ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي فاطمئنوا وقرّوا عينا ، فهذا يوم الخلود الذي لا موت بعده ، ولا ظعن ولا رحيل.
ثم زاد فى البشرى فقال :
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي لهم إجابة لسؤالهم كل ما يشتهون ، ثم نزيدهم فوق ما سألوا مما لم تره أعينهم ولم يدر بخلدهم.
ونحو الآية قوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » .
[سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)
تفسير المفردات
القرن : الجيل من الناس ، بطشا : أي قوة ، فنقبوا فى البلاد : أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمكاسب ، ويقال لمن طوّف فى الأرض نقّب فيها ، قال امرؤ القيس :
فقد نقّبت فى الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب(26/167)
ج 26 ، ص : 168
محيص : أي مهرب ، لذكرى : أي لعبرة ، قلب : أي لبّ يعى به ، أو ألقى السمع :
أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحى ، شهيد : أي حاضر فهو من الشهود بمعنى الحضور ، والمراد به الفطن ، إذ غيره كأنه غائب ، لغوب : أي تعب ، سبح بحمد ربك : أي نزهه عن كل نقص ، أدبار السجود : أي أعقاب الصلوات ، واحدها دبر (بضم فسكون وبضمتين) واستمع أي لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة ، يوم ينادى المنادى :
أي يخرجون من القبور يوم ينادى المنادى ، من مكان قريب : أي بحيث لا يخفى الصوت على أحد ،
والمنادى هو جبريل عليه السلام ، على ما ورد فى الآثار ، يقول : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، واللحوم المتمزّقة ، والشعور المتفرقة ، إن اللّه يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.
والصيحة : النفخة الثانية. بالحق : أي بالبعث والجزاء ، يوم الخروج : أي من القبور ، تشقق : أي تتصدع ، بجبار : أي بمسيطر ومسلط ، إنما أنت داع ومنذر.
المعنى الجملي
بعد أن أنذرهم بما بين أيديهم من اليوم العظيم والعذاب الأليم - أنذرهم بما يعجل لهم فى الدنيا من ضروب العذاب ، سنة اللّه فيمن تقدمهم من المكذبين قبلهم ممن ساروا فى البلاد طولا وعرضا وكانوا ذوى قوة وأيد ، ولم يغن ذلك عنهم من اللّه شيئا ، ووسط بين ذلك ذكر المتقين وما يلاقونه من النعيم ، ليكون أمرهم بين الخوف والطمع ، ومن ثم ذكر حال الكفور المعاند ، وحال الشكور العابد ، ثم ذكر أن هذا عظة وذكرى لكل ذى لبّ واع سميع لما يلقى إليه ، ثم أعاد الدليل مرة أخرى على إمكان البعث ، فأبان أنه قد خلق السموات والأرض فى ستة أطوار مختلفة وما أصابه تعب ولا لغوب كما قال : « أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ ؟ » ثم أمره بالصبر على ما يقولون ، وتنزيه اللّه عن كلّ نقص آناء الليل وأطراف النهار ، فها هو ذا قد اقترب يوم البعث والنشور ، وسمع صوت الداعي لذلك بعد النفخ فى الصور ، وتشققت الأرض سراعا وخرج الناس من(26/168)
ج 26 ، ص : 169
القبور ، وما ذلك بالصعب على رب العالمين ، خالق السموات والأرضين ، وإنا لنعلم ما يقول المشركون فى البعث والنشور ، فدعهم فى غيّهم يعمهون ، فما أنت عليهم بجبار تلزمهم الإيمان بهذا اليوم ، وما فيه من هول ، إن أنت إلا نذير ، ولا يؤمن بك إلا من يخاف عقابى ، وشديد وعيدي ، ولا تنفع العظة إلا ذوى الأحلام الراجحة ، والقلوب الواعية.
الإيضاح
(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ ؟ ) أي وكثير من الأمم التي قبلك أهلكناهم وكانوا أشد من قومك بطشا ، وأكثر منهم قوة ، كعاد وثمود وتبّع ، فتقلبوا فى البلاد وسلكوا كل طريق ابتغاء للرزق ، ولم يجدوا لهم من أمر اللّه مهربا ولا ملجأ حين حمّ القضاء ، وهكذا حالكم ، فحذار أن يصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب العاجل فى الدنيا ، والآجل يوم القيامة.
وبعد أن ذكر فى هذه السورة وما قبلها بارع الحكم ونفائس المعارف الإلهية جملة وتفصيلا ، فمن أدب للأمة مع نبيها ، إلى أدب للأمة بعضها مع بعض ، إلى حفظ للسلام بين الناس والصلح بينهم ، وصيانة اللسان من الهزؤ والسخرية والهمز واللمز ، ثم إلى النظر فى ملكوت السموات والأرض ، وبذا يحل التواصل محل التقاطع ، ويتعلم الجهال ، ويجتمع الشمل ، ويخيم الأمن فى ربوع البلاد ، أبان أن تلك الزواجر لا ينتفع بها إلا ذوو الألباب فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي إن فيما تقدم لتذكرة وعبرة لمن كان له قلب واع يتدبر به الحقائق ، ويعى ما يقال له.
ثم أعقب ذلك بذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي قسما بربك إنا خلقنا السموات والأرض وملأناهما بالعجائب فى ستة أطوار مختلفة(26/169)
ج 26 ، ص : 170
وما مسنا تعب ولا إعياء ، ولا تزال عجائبنا تترى كل يوم ، فانظروا إليها ، وناملوا فى محاسنها ، فهى لا تحصى ، ولا يبلغها الاستقصاء ، وكذّبوا اليهود الذين قالوا : إن اللّه خلق السموات والأرض فى ستة أيام أوّلها الأحد وآخرها الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش ، فنحن لا يمسنا لغوب ولا إعياء.
ونحو الآية قوله : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ، بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي فاصبر على ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل التي لا مستند لها إلا الاستبعاد ، فإن من خلق الخلق فى تلك المدة اليسيرة بلا إعياء - قادر على بعثهم وجزائهم على ما قدموا من الحسنات والسيئات.
(وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ) أي ونزه ربك عن العجز عن كل ممكن كالبعث ونحوه ، حامدا له أنعمه عليك ، وقت الفجر ووقت العصر وبعض الليل ، وفى أعقاب الصلوات.
وقال ابن عباس : الصلاة قبل طلوع الشمس صلاة الفجر ، وقبل الغروب الظهر والعصر ، ومن الليل العشاءان ، وأدبار السجود النوافل بعد الفرائض.
روى البخاري عن ابن عباس قال : أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أن يسبح فى أدبار الصلوات كلها ، يعنى قوله : « وَأَدْبارَ السُّجُودِ »
وفى حديث مسلم تحديد التسبيح بثلاث وثلاثين ، والتحميد بثلاث وثلاثين ، والتكبير بثلاث وثلاثين ، وتمام المائة لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير ، دبر كل صلاة.
(وَاسْتَمِعْ) أيها الرسول لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة ، وفى إبهام أمره ، تعظيم لشأنه.
ثم بين ذلك الخبر وزمانه بقوله :
(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي يوم ينادى المنادى من موضع قريب(26/170)
ج 26 ، ص : 171
فيصل نداؤه إلى كل الخلائق على السوية ، ويقول : هلموا إلى الحساب ، فيخرجون من قبورهم ويقبلون. كأنهم جراد منتشر.
ثم زاد الأمر تفصيلا فقال :
(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ) أي يوم يسمعون النفخة الثانية منذرة بالبعث والجزاء على ما قدموا من الأعمال.
ثم ذكر ما يقال لهم حينئذ فقال :
(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) أي هذا اليوم هو يوم الخروج من القبور.
ثم لخص ما تقدم من أول السورة إلى هنا فقال :
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ) أي إنا نحن نحيى فى الدنيا ونميت فيها حين انقضاء الآجال ، وإلينا الرجوع للحساب والجزاء فى الآخرة.
(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أي إلينا المصير فى ذلك اليوم الذي تتصدع فيه الأرض فتخرج الموتى من صدوعها مسرعة ، وذلك جمع هين علينا ، لا عسر فيه ولا مشقة.
ثم سلى رسوله وهدد المشركين بقوله :
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) أي نحن أعلم بما يقولون من فريتهم على ربهم وتكذيبهم بآياته ، وإنكارهم قدرته على البعث بعد الموت.
(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي وما أنت بمسلّط عليهم تقسرهم على الإيمان وتسيرهم على ما تهوى وتريد ، إنما أنت نذير ، وما عليك إلا التبليغ وعلينا الحساب.
ثم أكد أنه مذكّر لا مسيطر وأن التذكير لا ينفع إلا من خشى ربه فقال :
(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) أي فذكر أيها الرسول بهذا القرآن الذي أنزلته عليك من يخاف وعيدي الذي أوعدته من عصانى وخالف أمرى ، أي بلغ رسالة ربك ، وما يتذكر بها إلا من يخاف وعيد اللّه وشديد عذابه.(26/171)
ج 26 ، ص : 172
ونحو الآية قوله : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله :
« لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » .
وكان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا برّ يا رحيم.
موجز لما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إنكار المشركين للنبوة والبعث.
(2) الحث على النظر فى السماء وزينتها وبهجة بنائها ، وفى الأرض وجبالها الشامخات ، وزروعها النضرات ، وأمطارها الثجّاجات.
(3) العبرة بالدول الهالكات كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وقوم تبّع وما استحقوا من وعيد وعذاب.
(4) تقريع الإنسان على أعماله ، وأنه مسئول عن دخائل نفسه ، فى مجلس أنسه ، وعند إخوته ، وفى خلوته ، وأنه محوط بالكرام الكاتبين ، يحصون أعماله ، ويرقبون أحواله حتى إذا جاءت سكرته ، وحانت منيته ، حوسب على كل قول وكل عمل ، وشهدت عليه الشهود وكشفت له الحجب.
(5) إنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا.
(6) إن القرآن عظة وذكرى لمن كان له قلب واع يستمع ما يلقى إليه.
(7) تسلية رسوله على ما يقول المشركون من إنكار البعث وتهديدهم على ذلك (8) أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار.
(9) أمر الرسول بالتذكير بالقرآن من يخاف وعيد اللّه ويخشى عقابه.(26/172)
ج 26 ، ص : 173
سورة الذاريات
هى مكية وآيها ستون ، نزلت بعد الأحقاف ، ومناسبتها لما قبلها :
(1) إنه قد ذكر فى السورة السابقة البعث والجزاء والجنة والنار ، وافتتح هذه بالقسم بأن ما وعدوا من ذلك صدق وأن الجزاء واقع.
(2) إنه ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال ، وهنا ذكر ذلك على وجه التفصيل.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)
إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
تفسير المفردات
الذاريات : الرياح تذرو التراب وغيره : أي تفرقه ، والوقر : حمل البعير وجمعه أوقار : أي أثقال ، والحاملات وقرا : هى الرياح الحاملات للسحاب المشبع ببخار الماء ، واليسر : السهولة ، والجاريات يسرا : هى الرياح الجارية فى مهابّها بسهولة ، والمقسمات أمرا : هى الرياح التي تقسم الأمطار بتصريف السحاب ، وما توعدون : هو البعث(26/173)
ج 26 ، ص : 174
والحشر للحساب والجزاء ، والدين : الجزاء ، وواقع : أي حاصل ، والحبك : الطرق واحدها حبيكة ، مختلف : أي متناقض مضطرب فى شأن اللّه ، فبينا تقولون إنه خالق السموات تقولون بصحة عبادة الأوثان معه ، وفى شأن الرسول فتارة تقولون إنه مجنون وتارة تقولون إنه ساحر ، وفى شأن الحشر فتارة تقولون لا حشر ولا بعث ، وأخرى تقولون : الأصنام شفعاؤنا عند اللّه يوم القيامة ، يؤفك عنه من أفك : أي يصرف عن القول المختلف : أي بسببه من صرف عن الإيمان ، والخرّاصون : أي الكذابون من أصحاب القول المختلف ، فى غمرة : أي فى جهل يشملهم ويغمرهم شمول الماء الغامر ، ساهون : أي غافلون عما أمروا به ، أيان يوم الدين : أي متى يوم الجزاء : أي متى حصوله ، يفتنون : أي يحرقون ، وأصل الفتن : إذابة الجوهر ليعرف غشه ، فاستعمل فى الإحراق والتعذيب ، فتنتكم : أي عذابكم المعدّ لكم.
المعنى الجملي
هاهنا أمور يجمل بك أن تتفهمها :
(1) بعد أن بين الحشر بدلائله وقال : « ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ » ثم أصروا على ذلك غاية الإصرار لم يبق إلا اليمين فقال « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً - ... إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ » .
(2) إن الأيمان التي حلف بها اللّه تعالى فى كتابه كلها دلائل على قدرته أخرجها فى صورة الأيمان ، كما يقول القائل للمنعم عليه : وحق نعمك الكثيرة إنى لا أزال أشكرك ، فيذكر النعم وهى سبب لدوام الشكر ويسلك بها مسلك القسم ، وجاءت الآية هكذا مصدّرة بالقسم ، لأن المتكلم إذا بدأ كلامه به علم السامع أن هاهنا كلاما عظيما يجب أن يصغى إليه ، فإذا وجّه همه لسماعه خرج له الدليل والبرهان المتين فى صورة اليمين.(26/174)
ج 26 ، ص : 175
(3) فى السور التي أقسم اللّه فى ابتدائها بغير الحروف المقطعة كان القسم لإثبات أحد الأصول الثلاثة : الوحدانية والرسالة والحشر وهى التي يتم بها الإيمان ، فأقسم لإثبات الوحدانية فى سورة الصافات فقال : « إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » وأقسم فى سورتى النجم والضحى لإثبات الرسالة فقال فى الأولى : « وَالنَّجْمِ إِذا هَوى . ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى » وقال فى الثانية : « وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى » وأقسم فى سور كثيرة على إثبات البعث والجزاء.
(4) فى السورة التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم بالساكنات فقال :
« وَالصَّافَّاتِ صَفًّا » وفى السور التي أقسم فيها لإثبات الحشر أقسم بالمتحركات فقال :
« وَالذَّارِياتِ ذَرْواً - وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً - وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً - وَالْعادِياتِ ضَبْحاً » لأن الحشر فيه جمع وتفريق ، وهو بالحركة أليق.
(5) كانت العرب تحترز عن الأيمان الكاذبة وتعتقد أنها تدع الديار بلاقع ، وقد جرى النبي صلى اللّه عليه وسلّم على سننهم ، فحلف بكل شريف ولم يزده ذلك إلا رفعة وثباتا ، وكانوا يعلمون أنه لا يحلف إلا صادقا ، وإلا أصابه شؤم الأيمان ، وناله المكروه فى بعض الأيمان.
الإيضاح
(وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) أقسم سبحانه بالرياح وذروها التراب ، وحملها السحاب ، وجريها فى الهواء بيسر وسهولة ، وتقسيمها الأمطار ، إن هذا البعث لحاصل ، وإن هذا الجزاء لا بد منه فى ذلك اليوم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وهنا أقسم سبحانه بالرياح وأفعالها ، لما يشاهدون من آثارها ونفعها العظيم لهم فهى التي ترسل الأمطار مبشرات برحمته ، ومنها تسقى الأنعام والزروع ، وبها تنبت(26/175)
ج 26 ، ص : 176
البساتين والجنات وتصير الأرض القفر مروجا ، وعليها يعتمدون فى معاشهم ، فآثارها واضحة أمامهم ، ولا عجب أن تكون لها المنزلة العظمى فى نفوسهم.
وأفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية ، فإن ما على الأرض منجذب إليها ، واقع عليها ، ولكن هذه الرياح تتصرف تصرفا عجيبا تابعا لسير الكواكب ، فبجريها وجرى الشمس تؤثر فى أرضنا وهوائها بنظام محكم ، فما ذرت الرياح التراب ، ولا حملت السحاب ، ولا قسمت المطر على البلاد إلا بحركات فلكية منتظمة ، من أجل هذا جعل ذلك براهين على البعث والإعادة.
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي والسماء ذات الجمال والبهاء ، والحسن والاستواء ، إنكم أيها المشركون المكذبون للرسول ، لفى قول مختلف مضطرب ، لا يلتئم ولا يجتمع ، ولا يروج إلا على من هو ضالّ فى نفسه ، لأنه قول باطل يصرف بسببه من صرف عن الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وبما جاء به.
والخلاصة - قسما بالسماء وزينتها وجمالها ، إن أمركم فى شأن محمد وكتابه لعجب عاجب ، فهو متناقض مضطرب ، فحينا تقولون هو شاعر ، وحينا آخر تقولون هو ساحر ، ومرة ثالثة تقولون هو مجنون ، وبينا تقولون عن القرآن إنه سحر إذا بكم تقولون إنه شعر أو إنه كهانة.
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) أي قتل الكذابون من أصحاب القول المختلف الذين هم فى جهل عميق وغفلة عظيمة عما أمروا به.
وهذا دعاء عليهم يراد به فى عرف التخاطب لعنهم ، إذ من لعنه اللّه فهو بمنزلة الهالك المقتول ، وقد جاء فى القاموس : قتل الإنسان ما أكفره : أي لعن ، وقاتلهم اللّه ، أي لعنهم (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يسألك المشركون استهزاء فيقولون : متى يوم الجزاء ، وقد كان لهم من أنفسهم لو تدبروا ما يدفعهم إلى الاعتقاد بمجىء هذا(26/176)
ج 26 ، ص : 177
اليوم ، فإن أحدا منهم لا يترك عبيده وأجراءه فى عمل دون أن يحاسبهم وينظر فى أحوالهم ، ويحكم بينهم فى أقوالهم وأفعالهم ، فكيف يترك أحكم الحاكمين عبيده الذين أبدع لهم هذا الكون وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه - سدى ويوجدهم عبثا ؟ .
ثم أجاب عن هذا السؤال وذكر أنه يكون يوم القيامة فقال :
(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يوم الجزاء هو يوم نعذب الكفار وتقول لهم الخزنة :
(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي ذوقوا هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون وقوعه استهزاء وتظنون أنه غير كائن.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
تفسير المفردات
فى جنات وعيون : أي فى بساتين تجرى من تحتها الأنهار ، محسنين : أي مجوّدين لأعمالهم ، والهجوع : النوم ليلا والهجعة النومة الخفيفة ، والأسحار : واحدها سحر وهو السدس الأخير من الليل ، حق : أي نصيب وافر يوجبونه على أنفسهم تقربا إلى ربهم وإشفاقا على عباده ، والسائل : هو المستجدى الطالب العطاء ، والمحروم : هو المتعفف(26/177)
ج 26 ، ص : 178
الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس ، آيات : أي دلائل على قدرته تعالى من وجود المعادن والنبات والحيوان ، والدحو فى بعض المواضع والارتفاع فى بعضها الآخر عن الماء ، واختلاف أجزائها فى الكيفيات والخواص. للموقنين : أي للموحدين الذين سلكوا الطريق الموصل إلى معرفة اللّه ، فهم نظارون بعيون باصرة ، وأفهام نافذة ، وما توعدون : أي والذي توعدونه من خير أو شر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال المغترين الذين أنكروا يوم الدين ، وكذبوا بالبعث والنشور ، وأنكروا نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم وعبدوا مع اللّه غيره من وثن أو صنم - أردف ذلك ذكر حال المتقين وما يتمتعون به من النعيم المقيم فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، جزاء إحسانهم فى أعمالهم ، وقيامهم بالليل للصلاة ، والاستغفار بالأسحار ، وإنفاقهم أموالهم للفقراء والمساكين ، ونظرهم فى دلائل التوحيد التي فى الآفاق والأنفس ، وتفكيرهم فى ملكوت السموات والأرض مصدقين قوله تعالى : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ » .
ثم أقسم برب السماء والأرض إن ما توعدون من البعث والجزاء حق لا شك فيه ، كما لا شك فى نطقكم حين تنطقون.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين اتقوا اللّه وأطاعوه واجتنبوا معاصيه ، فى بساتين وجنات تجرى من تحتها الأنهار ، قريرة أعينهم بما آتاهم ربهم ، إذ فيه ما يرضيهم ويغنيهم ويفوق ما كانوا يؤملون.
ثم ذكر الثمن الذي دفعوه لنيل هذا الأجر العظيم فقال :
(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) أي إنهم كانوا فى دار الدنيا يفعلون صالح(26/178)
ج 26 ، ص : 179
الأعمال ، خشية من ربهم وطلبا لرضاه ، ومن ثم نالوا هذا الفوز العظيم ، والمكرمة التي فاقت ما كانوا يؤملون ويرجون.
ونحو الآية قوله : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ » ، ثم فصل ما أحسنوا فيه فقال :
(كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي كانوا ينامون القليل من الليل ويتهجدون فى معظمه ، قال ابن عباس : ما تأتى عليهم ليلة ينامون حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئا إما من أولها أو من وسطها ، وقال الحسن البصري : كابدوا قيام الليل ، فلا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نشطوا فجدّوا إلى السحر. وعن أنس قال : كانوا يصلون بين المغرب والعشاء.
(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي فهم يحيون الليل متهجدين ، فإذا أسحروا أخذوا فى الاستغفار كأنهم أسلفوا فى ليلهم الجرائم.
ولما ذكر أنهم يقيمون الصلاة ثنى بوصفهم بأداء الزكاة والبر بالفقراء فقال :
(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وجعلوا فى أموالهم جزءا معينا ميزوه وعزلوه للطالب المحتاج ، والمتعفف الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يسأل الناس ، ولا يفطنون إليه ليتصدقوا عليه.
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « ليس المسكين الذي تردّه التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان ، قيل فمن المسكين ؟
قال الذي ليس له ما يغنيه ، ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه ، فذلك المحروم » .
وبعد أن ذكر أوصاف المتقين بين أنه قد لاحت لهم الأدلة الأرضية والسماوية التي بها أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه فقال :
(وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفى الأرض دلائل على وجود الخالق وعظيم(26/179)
ج 26 ، ص : 180
قدرته ، استبانت لمن فكر وتدبر فى هذا الكون وبديع صنعه ، مما يشاهد من صنوف النبات والحيوان ، والمهاد والجبال ، والقفار والبحار إلى نحو أولئك مما بهر المخلوقات كما قال : « وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ » .
فالموقنون كلما رأوا آية عرفوا وجه تأويلها فازدادوا إيقانا ، وخصهم بالذكر لأنهم هم الذين يعترفون بذلك ، ويتدبرونه فينتفعون به.
(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ ) أي أفلا تنظرون نظر من يعتبر فى اختلاف الألسنة والألوان ، والتفاوت فى العقول والأفهام ، واختلاف الأعضاء ، وتعدد وظائف كل منها على وجه يحار فيه اللّبّ ، ويدهش منه العقل ؟
وخلاصة ما سلف - إنّ اللّه تعالى وصف المتقين بأنهم مجدّون فى العبادة البدنية وفى بذل المال للمستحقين من ذوى الحاجة والبائسين ، والإيمان باللّه والعلم بقدرته بالنظر فى الآفاق والأنفس.
(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي وفى السماء أسباب رزقكم من النيّرين (الشمس والقمر) والكواكب والمطالع والمغارب التي بها تختلف الفصول فتنبت الأرض أنواع النبات وتسقى بماء الأمطار التي تحملها السحب وتسوقها الرياح لأسباب فلكية وطبيعية أوضحها علماء الفلك وعلماء الطبيعة. وكذلك ما توعدون من خير وشر ، قاله مجاهد.
ثم أقسم ربنا بعزته وجلاله إن البعث لحق فقال :
(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أقسم ربنا جلت قدرته بجلاله وكبريائه : إن ما وعدكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء حق لا مرية فيه ، فلا تشكّوا فيه كما لا تشكون فى نطقكم حين تنطقون ، وهذا كما يقول الناس : إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع.(26/180)
ج 26 ، ص : 181
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن الحسن أنه قال فيها : بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم قال « قاتل اللّه قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا » .
عن الأصمعى قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابى على قعود فقال ممن الرجل ؟ قلت من بنى أصمع ، قال من أين أقبلت ؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرجل ؟ قلت من بنى أصمع ، قال من أين أقبلت ؟ قلت من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، قال : اتل علىّ فتلوت والذّاريات فلما بلغت : وفى السّماء رزقكم قال حسبك ، فقام إلىّ ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفتّ فإذا بالأعرابى قد نحل واصفر فسلم علىّ واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح وقال لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت : فو ربّ السّماء والأرض إنّه لحقّ. فصاح وقال : يا سبحان اللّه ، من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه حتى حلف (قالها ثلاثا) وخرجت معها نفسه.
وإنما قصصت عليك هذا القصص لما فيه من أدب بارع وظرف وحسن فهم من ذلك الأعرابى لكتاب اللّه ، ولك بعد ذلك أن تصدقه أو تتشكك فيه ، فكم للأصمعى من مثله ، فهو الأديب البارع ، والراوية الحافظ ، فلا يعجزه أن يصنعه ويصنع أمثاله.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 30]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)(26/181)
ج 26 ، ص : 182
تفسير المفردات
الضيف : لفظ يستعمل للواحد والكثير ، المكرمين : أي عند إبراهيم إذ خدمهم هو وزوجه وعجل لهم القرى وأجلسهم فى أكرم موضع ، قوم منكرون : أي قوم لا عهد لنا بكم من قبل ، وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام للتعرف بهم كما تقول لمن لقيته وسلم عليك : أنا لا أعرفك ، تريد عرّف لى نفسك وصفها ، فراغ إلى أهله : أي ذهب إليهم خفية من ضيفه ، سمين : أي ممتلىء بالشحم واللحم ، فقربه إليهم : أي وضعه لديهم ، فأوجس منهم خيفة : أي أضمر فى نفسه الخوف منهم ، امرأته هى سارّة لما سمعت بشارتهم له ، صرّة : أي صيحة ، فصكت وجهها : أي ضربت بيدها على جبهتها وقالت : يا ويلتا ، عجوز عقيم : أي أنا كبيرة السن لا ألد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه إنكار قومه للبعث والنشور حتى أقسم لهم بعزته أنه كائن لا محالة - سلى رسوله فأبان له أنه ليس ببدع فى الرسل ، وأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، وأنهم إن تمادوا فى غيهم وأصروا على كفرهم ولم يقلعوا عماهم عليه ، فسيحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية.
وذكر إبراهيم من بين الأنبياء لكونه شيخ المرسلين ، وكون النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على سننه كما قال تعالى : « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ولأن العرب كانت تجلّه وتحترمه وتدعى أنها على دينه.(26/182)
ج 26 ، ص : 183
وأتى بالقصص بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن الحديث كما تقول لمخاطبك هل بلغك كذا وكذا ، وأنت تعلم أنه لم يبلغه ، توجيها لأنظاره حتى يصغى إليه ويهتم بأمره ، ولو جاء على صورة الخبر لم يكن له من الروعة والجلال مثل ما كان وهو بهذه الصورة ، وتنبيها إلى أن الرسول لم يعلم به إلا من طريق الوحى.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ ؟ ) أي هل عندك نبأ بما حدث بين إبراهيم وضيوفه من الملائكة الذين وفدوا عليه وهم ذاهبون فى طريقهم إلى قوم لوط ، فسلموا عليه فرد عليهم التحية بأحسن منها.
ثم أراد أن يتعرف بهم فقال :
(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي إنكم قوم لا عهد لنا بكم من قبل فعرفونى أنفسكم - من أنتم ؟
واستظهر بعض العلماء أن هذه مقالة أسرّها فى نفسه أو لمن كان معه من أتباعه وجلسائه من غير أن يشعرهم بذلك ، لأن فى خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا له ، إلى أنه لو كان أراد ذلك لكشفوا له أحوالهم ، ولم يتصد لمقدمات الضيافة ، ثم ذكر أنه أسرع فى قرى ضيوفه فقال :
(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) أي فذهب خفية مسرعا وقدم لضيوفه عجلا سمينا أنضجه شيّا ، كما جاء فى سورة هود « فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ » أي مشوى على الرضف.
(قالَ أَلا تَأْكُلُونَ ؟ ) أي قال مستحثا لهم على الأكل : ألا تأكلون ؟ وفى هذا تلطف منه فى العبارة وعرض حسن ، وقد انتظم كلامه وعمله آداب الضيافة ، إذ جاء بطعام من حيث لا يشعرون ، وأتى بأفضل ماله ، وهو عجل فتىّ مشوى ، ووضعه بين أيديهم ، ولم يضعه بعيدا منهم حتى يذهبوا إليه ، وتلطف فى العرض فقال : ألا تأكلون ؟(26/183)
ج 26 ، ص : 184
(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي فأعرضوا عن طعامه ولم يأكلوا فأضمر فى نفسه الخوف منهم ، ظنا منه أن امتناعهم إنما كان لشرّ يريدونه ، فإنّ أكل الضيف أمنة ودليل على سروره وانشراح صدره ، وللطعام حرمة ، وفى الإعراض عنه وحشة موجبة لسوء الظن ، وقد جاء فى سورة هود : « فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً » .
ثم ذكر أنهم طمأنوه حينئذ فقال :
(قالُوا لا تَخَفْ) منا إنا رسل ربك ، وجاء فى الآية الأخرى : « قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ » .
(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي فبشروه بإسحاق بن سارّة كما جاء فى سورة هود :
« فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » وجاءت البشارة بذكر لأنه أسرّ للنفس ، وأقر للعين ، ووصفه بالعلم لأنه الصفة التي يمتاز بها الإنسان الكامل ، لا الصورة الجميلة ولا القوة ولا نحوهما.
ثم أخبر عما حدث من امرأته حينئذ فقال :
(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) أي فأقبلت امرأته سارّة حين سمعت بشارتهم (كانت فى ناحية من البيت تنظر إليهم) وهى تصرخ صرخة عظيمة وضربت بيديها على جبيتها وقالت : أنا عجوز عقيم فكيف ألد ؟ وجاء فى الآية الأخرى : « قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً » فأجابوها عما قالت :
(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي قالوا لها : مثل الذي أخبرناك به قال ربك ، فنحن نخبرك عن اللّه ، واللّه قادر على ما تستبعدين ، وهو الحكيم فى أفعاله ، العليم الذي لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء.(26/184)
ج 26 ، ص : 185
والخلاصة - إنها استبعدت الولادة لسببين : كبر السن والعقم ، وقد كانت لا تلد فى عنفوان شبابها والآن قد عجزت وأيست ، فأجدر بها الآن ألا تلد ، فكأنها قالت :
ليتكم دعوتم دعاء قريبا من الإجابة ، ظنا منها أن ذلك منهم كما يصدر من الضيف من الدعوات الطيبات كما يقول الداعي : أعطاك اللّه مالا ، ورزقك ولدا ، فردوا عليها بأن هذا ليس منا بدعاء ، وإنما ذلك قول اللّه تعالى.
قد تمّ ما أردنا تصنيفه فى تفسير هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى اليوم العاشر من شهر ربيع الثاني من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة سيد ولد عدنان.
والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وسلم.(26/185)
ج 26 ، ص : 186
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 القرآن الكريم من عند اللّه ، لا من عند محمد 9 الردّ على المشركين فى طعنهم فى النبوة 11 ما ينسب إلى بعض الأولياء من علمهم بشئون الغيب فهو فرية على اللّه 14 إسلام عبد اللّه بن سلام وحديثه مع قومه اليهود 15 الرد على المشركين فى أن القرآن ليس مفترى 17 الوصية بالوالدين 18 حوار بين علىّ وعثمان فى أقل مدة الحمل 19 لم يبعث اللّه نبيا قبل الأربعين إلا ابني الخالة عيسى ويحيى 20 الدعاء الذي كان يعلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه فى التشهد 23 خطبة مروان فى المسجد دعاية ليزيد بن معاوية وردّ عبد الرحمن بن أبى بكر عليه 26 غضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين رأى على الحسن والحسين قلبين من فضة 31 كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا عصفت الريح يدعو بدعاء خاص 34 استماع الجن للقرآن 35 لا دليل من العقل على عالمى : الملائكة والجن ، بل الدليل من السمع وأخبار الأنبياء 37 ورد أن الجن استمعت القرآن مرات كثيرة 39 ضرب القرآن للأمثال(26/186)
ج 26 ، ص : 187
الصفحة المبحث 49 الحرب ترقى الصناعات ، وتوقظ الشعور ، وتزيد عدد الأمم 50 سيأتى يوم تسعد فيه الأمم بسعادة أعدائها 52 يعرف أهل الجنة منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم فى الدنيا 56 لما خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : أنت أحب بلاد اللّه إلىّ ، أنت أحب بلاد اللّه إلىّ 58 صفة الجنة كما وصفها القرآن 63 فى الحديث : « إنى أستغفر اللّه وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة » 64 ما كان يقول المنافقون حين نزول آيات الجهاد ؟
70 ممالأة المنافقين لليهود من بنى قريظة 71 يعرف المنافقون من غيرهم بلحن القول والعدول عن التصريح إلى الإشارة 72 فى الحديث : « ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه اللّه جلبابها » 75 المعاصي تبطل الحسنات 81 نتائج صلح الحديبية 86 من سنن اللّه أن يسلط بعض عباده على بعض 87 للّه جنود للرحمة ، وجنود للعذاب 90 بيعة الرضوان - بيعة الشجرة 92 معاذير بعض القبائل للتخلف عن الجهاد 99 الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد 101 نادى منادى رسول اللّه للبيعة وهو تحت الشجرة 102 أمر عمر بقطع الشجرة التي بويع عندها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين رأى الناس يحجون إليها.
104 فتح خيبر ومغانمها ليست بشىء إذا قيست إلى ما بعدها 105 قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « لأعطينّ الراية رجلا يحبه اللّه ورسوله »(26/187)
ج 26 ، ص : 188
الصفحة المبحث 107 كتاب الصلح الذي كتب بين يدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم 111 ما دار من الحديث بين سهيل بن عمرو ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم 112 حوار بين أبى بكر وعمر 116 قال عمر : من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته 124 ما أنشده الوفود أمام النبي صلّى اللّه عليه وسلم 128 رأى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أنفع للمؤمنين من آرائهم لأنفسهم 131 وجوب قتال الفئة الباغية 131 المؤمنون بعضهم إخوة لبعض 133 النهى عن السخرية والهمز واللمز 137 من عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه 138 فى الحديث : « إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث » 140 قال علىّ بن الحسين : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس 140 لا تحرم الغيبة فى ستة مواضع 144 خطبة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يوم فتح مكة وهو على راحلته 146 القرآن علم المؤمنين الأدب فى التخاطب 147 الفرق بين الإسلام والإيمان 148 مقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم للانصار يوم حنين 161 فى الحديث : « كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات » 171 الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم مذكر وليس بمسيطر 176 أفعال الرياح تخالف ناموس الجاذبية 181 القصص الذي رواه الأصمعى عن أعرابى قابله 184 بشرى الملائكة لإبرهيم 185 استبعاد سارّة للولادة فى هذه السن(26/188)
ج 27 ، ص : 1
الجزء السّابع والعشرون
[تتمة سورة الذاريات ]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السّابع والعشرون(27/1)
ج 27 ، ص : 2(27/2)
ج 27 ، ص : 3
الجزء السابع والعشرون بسم اللّه الرحمن الرحيم
[سورة الذاريات (51) : الآيات 31 الى 37]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35)
فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)
تفسير المفردات
الخطب : الشأن الخطير ، أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ، إلى قوم مجرمين : هم قوم لوط ، من طين : أي من طين متحجر وهو السجيل ، مسومة :
أي معلّمة من السّومة وهى العلامة ، للمسرفين : أي المجاوزين الحد فى الفجور ، من المؤمنين : أي ممن آمن بلوط ، غير بيت : أي غير أهل بيت ، والمراد بهم لوط وابنتاه آية : أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب.(27/3)
ج 27 ، ص : 4
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا إلى العدّ اللفظي ولم يعنوا بالنظر إلى الترتيب المعنوي ، ومن ثم تجد جزءا قد انتهى وبدىء بآخر أثناء القصة كما هنا.
فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السّلام بالغلام - سألهم ما شأنكم وما الذي جئتم لأجله ؟ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، لنهلكهم بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لإهلاكهم ، ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين ، وسنترك فيها علامة تدل على ما أصابهم من الرجز ، جزاء فسوقهم وخروجهم من طاعة ربهم.
الإيضاح
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال إبراهيم لهؤلاء الملائكة : ما شأنكم ؟
وفيم أرسلتم ؟ وجاء فى سورة هود : « فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ » .
فأجابوه عما سأل :
(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالوا له : إنا أرسلنا إلى قوم لوط بالعذاب لإجرامهم ، وسنلقى عليهم حجارة من طين مطبوخ كالآجرّ وهى فى الصلابة كالحجارة ، وفيها علامات أعدت لهلاك المسرفين.
ولما أراد سبحانه أن يهلك المجرمين ميّز عنهم المؤمنين وأبعدهم منهم كما قال :
(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(27/4)
ج 27 ، ص : 5
أي بعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط ووقعت بينهم وبينهم محاورات لم يدع الحال إلى ذكرها هنا - أخرجوا من كان فى القرى من المؤمنين تخليصا لهم من العذاب ، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه للّه ظاهرا وباطنا ، وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه ، وهو بيت لوط ابن أخى إبراهيم عليه السّلام.
عن سعيد بن جبير قال : كانوا ثلاثة عشر.
قال أبو مسلم الأصفهانى : الإسلام الاستسلام لأمر اللّه والانقياد لحكمه ، فكل مؤمن مسلم ، ومن ذلك قوله تعالى : « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا » .
وقد أوضح الحديث الشريف الفرق بينهما ،
فجاء فى الصحيحين وغيرهما من طرق عدة « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الإسلام فقال : أن تشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره » .
(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال وحجارة السجيل ، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة وهى بحيرة طبرية ، لتكون ذكرى لن يخشى اللّه ويخاف عذابه.
وفى الآية إيماء إلى أن الكفر متى غلب ، والفسق إذا انتشر ، لا تنفع معه عبادة المؤمنين ، أما إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون ، فإن اللّه لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 38 الى 46]
وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)(27/5)
ج 27 ، ص : 6
تفسير المفردات
بسلطان مبين : أي بحجة واضحة هى معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ، والركن :
ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به ، والمراد هنا جنوده وأعوانه ووزراؤه كما جاء فى سورة هود « أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ » ، فأخذناه : أي أخذ غضب وانتقام ، نبذناهم :
أي طرحناهم ، فى اليمّ : أي فى البحر ، مليم : أي آت بما يلام عليه ، والعقيم : أي التي لا خير فيها ولا بركة ، فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ، سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، الرميم : البالي من عظم ونبات وغير ذلك ، فعتوا : أي فاستكبروا عن الامتثال ، والصاعقة : نار تنزل بالاحتكاكات الكهربية ، منتصرين : أي ممتنعين من عذاب اللّه بغيرهم ممن أهلكهم ، فاسقين : أي خارجين من طاعة اللّه ، متجاوزين حدوده.
المعنى الجملي
بعد أن ذكرما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان ، وما أصابهم من الهلاك جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات تسلية لرسوله على ما يرى من قومه - عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقى هذا الرسول الكريم ، فحقت على أقوامهم كلمة ربهم ونزل بهم عذاب الاستئصال وصاروا(27/6)
ج 27 ، ص : 7
كأمس الدابر عبرة ومثلا للآخرين ، فذكر أنه أرسل موسى إلى فرعون بشيرا ونذيرا فأبى واستكبر واعتزّ بقوته وجنده ، وقال أنا ربكم الأعلى ، فأغرق هو وقومه فى البحر.
وأرسل شعيبا إلى عاد فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. وأرسل صالحا إلى ثمود فكذبوه فأخذتهم الصاعقة ولم تبق منهم أحدا ، وبعث نوحا إلى قومه فلم يستجيبوا لدعوته فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.
الإيضاح
(وَ فِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وفى قصص موسى عبرة لقوم يعقلون ، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرة ، وآيات باهرة ، فأعرض ونأى ، وكذب ما جاء به ، معتزا بجنده وقوته وجبروته ، وقال حينا تحقيرا لشأن موسى : « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » وقال حينا آخر : « إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ » . وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمل فيما جاء به من الآيات ، خوفا على ملكه أن ينهار ، وعلى دولته أن يلحقها الدمار ، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان فى البلاد.
ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع فقال :
َأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ)
أي فألقينا فرعون وجنوده فى البحر وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان.
وفى هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة وسوء عاقبتهم ، جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم.
ثم ذكر قصص عاد فقال :
(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وفى عاد آية لكل ذى لبّ ، إذ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية(27/7)
ج 27 ، ص : 8
لم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار ، ولا تركت شيئا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشىء الهالك البالي.
وبعدئذ ذكر قصص ثمود فقال :
(وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، ... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وفى ثمود عظة لمن تدبر وفكر فى آيات ربه ، إذ قال لهم نبيهم : « تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ » ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به ، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم ، فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعا وهم ينظرون إليها - جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام ، وارتكاب الخطايا والأوزار.
(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي فما استطاعوا هربا ولم يجدوا مفرّا ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب اللّه.
ثم ذكر موجزا لقصص قوم نوح فقال :
(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وأهلكنا قوم نوح بالطوفان قبل هؤلاء ، بسبب فسقهم وفجورهم وانتهاكهم حرمات اللّه.
[سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 51]
وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
تفسير المفردات
الأيد والآد : القوة ، لموسعون : أي لذو سعة يخلقها وخلق غيرها من الوسع بمعنى الطاقة ، فرشناها : أي بسطناها ومهدناها من مهدت الفراش إذا بسطته ووطّأته ،(27/8)
ج 27 ، ص : 9
وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها ، ومن كل شىء : أي ومن كل جنس من الحيوان ، زوجين : أي ذكر وأنثى ، ففروا إلى اللّه : أي اعتصموا بحبل اللّه وأقروا بوحدانيته ، إنى لكم منه نذير مبين : أي إنى لكم من عقابه منذر ومخوّف.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت الحشر وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة - أرشد إلى وحدانية اللّه وعظيم قدرته ، فبين أنه خلق السماء بغير عمد ، وبسط الأرض ودحاها ، لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان ، وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين ذكرا وأنثى ، ليستمر بقاء الأنواع إلى أن يشاء اللّه فناء العالم ، ثم أمرهم أن يعتصموا بحبل اللّه وأنذرهم شديد عقابه ، وحذرهم أن يجعلوا مع اللّه ندّا وشريكا.
الإيضاح
(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا ، وعظيم سلطاننا ، وإنا لقادرون على ذلك لا يمسنا نصب ولا لغوب.
وفى ذلك تعريض باليهود الذين قالوا : أن اللّه خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع مستلقيا على عرشه.
(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي ومهدنا الأرض ، وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان ، وجعلنا فيها الأرزاق والأقوات ، من الحيوان والنبات وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين ، ووضعنا فيها من المعادن فى ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم ، فتبنون المساكن من حجارتها ، وتتخذون الحلىّ من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة ، وتصنعون آلات الحرب والسفن والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى.(27/9)
ج 27 ، ص : 10
وفى الآية إشارة إلى أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون قبل الفرش ، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن ، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.
ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع فقال :
(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم ما فعلنا ، وما أجمل ما خلقنا ، مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر.
(وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيا له ، مخالفا له فى مبناه والمراد منه ، وكل منهما زوج للآخر ، فخلقنا السعادة والشقاوة ، والهدى والضلال ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض - لتتذكروا وتعتبروا فتعلموا أن اللّه ربكم الذي ينبغى لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له - هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كل شىء لا ما لا يقدر على ذلك.
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) أي فالجئوا إلى اللّه واعتمدوا عليه فى جميع أموركم ، واتبعوا أوامره ، واعملوا على طاعته ، ثم علل الأمر بالفرار إليه بقوله :
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير من اللّه أنذركم عقابه ، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها ، وإنى مبيّن لكم ما يجب عليكم أن تحذروه.
ثم ذكر أعظم ما يجب أن يفر المرء منه ، وهو الشرك فقال :
(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودا آخر سواه ، فإن العبادة لا تصلح لغيره.
ثم علل هذا النهى بقوله :
(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره.(27/10)
ج 27 ، ص : 11
ونحو الآية قوله تعالى : « فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً » .
[سورة الذاريات (51) : الآيات 52 الى 60]
كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)
ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تفسير المفردات
فتول عنهم : أي أعرض عن جدلهم ، وذكّر : أي دم على التذكير والموعظة ، إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجى إليهم ، المتين : أي الشديد القوة ، ذنوبا : أي نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب : الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، أصحابهم :
أي نظرائهم ، فويل للذين كفروا : أي هلاك لهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين فى قول مختلف مضطرب لا يلتئم بعضه مع بعض فبينما هم يقولون : خالق السموات والأرض هو اللّه إذا بهم يعبدون الأصنام والأوثان ، وطورا يقولون : محمد ساحر ، وطورا آخر يقولون هو كاهن إلى نحو ذلك.(27/11)
ج 27 ، ص : 12
قفىّ على ذلك بأن ذكر أن قومه ليسوا بدعا فى الأمم ، فكما كذبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رسلها ، فأحل اللّه بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود ، ثم عجّب من حالهم وقال : أ تواصى بعضهم مع بعض بذلك ؟ ثم قال : لا بل هم قوم طغاة متعدّون حدود اللّه ، لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه ، ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم ، فإنه قد بلّغ ما أمر به ولم يقصّر فيه ، فلا يلام على ذلك ، وأن يذكّر من تنفعه الذكرى ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية ، ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته ، لا لاحتياجه إليهم فى تحصيل رزق ولا إحضار طعام ، فاللّه هو الرزاق ذو القوة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة ، فأولى لهم ألا يستعجلوه بقولهم : « مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » ، فقد حقت عليهم كلمة ربك فى اليوم الذي يوعدون ، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مردّ له ، ولا يجدون له دافعا.
الإيضاح
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من قريش وقالوا ساحر أو مجنون - فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم وقالوا مثل مقالتهم ، فهم ليسوا ببدع فى الأمم ، ولا أنت ببدع فى الرسل ، فكلهم قد كذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر اللّه.
وفى هذا تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم على احتمال الأذى والإعراض عن جدلهم ، فإنهم قد أبطرتهم النعمة وغرّهم الإمهال ، فلا تجدى فيهم العظة ولا تنفعهم الذكرى.
ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :(27/12)
ج 27 ، ص : 13
(أَتَواصَوْا بِهِ ؟ ) أي أ أوصى أولهم آخرهم بتكذيب محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فقبلوا ذلك منهم ؟
ثم عدل عن أنّ الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي ، إلى أن الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان فقال :
(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان وتجاوز حدود الدين والعقل ، فقال متأخرهم مثل مقالة متقدمهم.
ثم سلى رسوله بقوله :
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي فأعرض عنهم أيها الرسول ، ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام فإنك لم تأل جهدا فى الدعوة ، وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارا ، وطغيانا وإعراضا.
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي دم على العظة والنصح ، فإن الذكرى تنفع من فى قلوبهم استعداد للهداية والرشاد.
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي وجماعة من طريق مجاهد عن على كرم اللّه وجهه قال : لما نزلت « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ » لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة ، إذ أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتولى عنا ، فنزلت « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » فطابت أنفسنا.
وبعد أن بين حالهم فى التكذيب ذكر سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الذي خلقهم للعبادة بقوله :
(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي وما خلقتهم إلا ليعرفونى ، إذ لو لا خلقهم لم يعرفوا وجودى ولا توحيدى ، يرشد إلى ذلك ما جاء فى الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبى عرفونى » قاله مجاهد ، وروى عنه أيضا أن المعنى : إلا لآمرهم وأنهاهم ، ويدل عليه قوله : « وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ » واختاره الزجاج ،(27/13)
ج 27 ، ص : 14
ويرى جمع من المفسرين أن المعنى : إلا ليخضعوا لى ويتذللوا ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء اللّه ، متذلل لمشيئته ، منقاد لما قدره عليه ، خلقهم على ما أراد ، ورزقهم كما قضى ، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا.
وهذه الجملة مؤكدة للأمر بالتذكير وفيها تعليل له ، فإن خلقهم لما ذكر يدعوه إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ.
ثم ذكر أن شأنه مع عبيده ليس كشأن السادة مع عبيدهم فقال :
(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إننى ما أريد أن أستعين بهم لجلب منفعة ولا دفع مضرة ، فلا أصرّفهم فى تحصيل الأرزاق والمطاعم كما يفعل الموالي مع عبيدهم.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي إنه تعالى غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه فى جميع أحوالهم ، لأنه خالقهم ورازقهم ، وهو ذو القدرة والقوة الغالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
روى أحمد عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « يقول اللّه تعالى : يا ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك » .
ولما أقسم سبحانه على الصدق فى وعيدهم - أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة فقال :
(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة ، وإشراكهم باللّه عز وجل وتكذيبهم رسوله نصيبا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يطلبوا منى أن أعجل بالإتيان به ، فإنى لا أخاف(27/14)
ج 27 ، ص : 15
الفوت ، ولا يلحقنى عجز ، وهذا جواب عن قولهم : « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » .
ونحو الآية قوله : « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » .
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة حين لا تغنى نفس عن نفس شيئا ولا هم ينصرون.
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة
(1) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.
(2) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.
(3) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.
(4) تسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ما يلقاه من أذى قومه.
(5) الفرار إلى اللّه من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.
(6) النهى عن الإشراك باللّه.
(7) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.
(8) أمره صلّى اللّه عليه وسلّم بالإعراض عنهم ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.
(9) إخباره بأن اللّه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.
(10) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.
(11) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين.(27/15)
ج 27 ، ص : 16
سورة الطور
هى مكية وعدد آياتها تسع وأربعون ، نزلت بعد السجدة.
عن أم سلمة « أنها سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلى إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور » أخرجه البخاري وغيره.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) إن فى ابتداء كل منهما وصف حال المتقين.
(2) إن فى نهاية كل منهما وعيد للكافرين.
(3) إن كلا منهما بدئت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد ، ففى الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان فى معاشه ، وهنا أقسم بالطور الذي أنزل فيه التوراة النافعة للناس فى معادهم.
(4) فى كل منهما أمر النبي بالتذكير والإعراض عما يقول الجاحدون من قول مختلف.
(5) تضمنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث ، إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة فى السورتين.
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)(27/16)
ج 27 ، ص : 17
تفسير المفردات
الطور بالسريانية : الجبل ، والمراد به طور سينين ، وهو الجبل الذي كلم اللّه عليه موسى عليه السلام ، والمراد بالكتاب هنا : ما كتب من الكتب السماوية كالقرآن والتوراة والإنجيل ، والمسطور : أي المكتوب على طريق منظم ، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة ، والرّق : (بالفتح والكسر) جلد رقيق يكتب فيه ، والمنشور : المفتوح الذي لا ختم عليه ، والبيت المعمور : هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين ، والسقف المرفوع : هو السماء ، والمسجور : أي الموقد المحمى ، من سجر النار أي أوقدها وعنى به باطن الأرض وهو الذي دل عليه الكشف الحديث ولم تعرفه الأمم قديما ، وقد أشارت إليه الأحاديث ، فعن عبد اللّه بن عمر : « لا يركبنّ رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا ، فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا » .
وقد أثبت علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) أن الأرض كلها كبطيخة وقشرتها كقشرة البطيخة أي إن نسبة قشرة الأرض إلى النار التي فى باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل ، فنحن الآن فوق نار عظيمة : أي فوق بحر مملوء نارا ، وهذا البحر مغطى من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السد عليه ، ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر فى الزلازل والبراكين كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة 1909 م وابتلع مدينة مسّينا ، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة 1925 م وخربت مدنا بأكملها.(27/17)
ج 27 ، ص : 18
وتمور : أي تضطرب وترتجّ وهى فى مكانها ، وأصل المور التردد فى الذهاب والمجيء ، وقد يطلق على السير مطلقا كما قال الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل
وأصل الخوض : السير فى الماء ثم استعمل فى الشروع فى كل شىء وغلب فى الخوض فى الباطل ، كالإحضار فإنه عام فى كل شىء ثم غلب استعماله فى الإحضار للعذاب ، يدعّون : أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون إلى النار ويطرحون فيها.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بمخلوقاته العظيمة ، الدالة على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، وعدّ منها أماكن ثلاثة : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور - لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم ، والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق ، فانتقل موسى إلى الطور وخاطب ربه وقال « أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا » وقال « رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ » وانتقل محمد إلى البيت المعمور وناجى ربه وقال « سلام علينا وعلى عباد اللّه الصالحين ، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » ، وكلم يونس ربه فى البحر وقال :
« لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » .
وقرن الكتاب بالطور لأن موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به ، وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وأقسم بكل هذا على أن العذاب يوم القيامة نازل بأعدائه الذين يخوضون فى الباطل ويتخذون الدين هزوا ولعبا ، فيدفعون إلى النار دفعا عنيفا ويقال لهم : هذه هى النار التي كنتم بها تكذبون ، ادخلوها وقاسوا شدائدها ، وسواء عليكم أ جزعتم أم صبرتم مالكم منها مهرب ولا خلاص.(27/18)
ج 27 ، ص : 19
الإيضاح
(وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم سبحانه بهذا الجبل العظيم الشأن الذي كلم فوقه موسى ، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع ، مرتب الحروف ، فى رق منشور ، يسهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام ، وآداب وأخلاق.
(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي والكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون إليها كل عام من أرجاء المعمورة ، وينسلون إليها من كل حدب ، كما يعمرها المجاورون لها تبركا بالعبادة فيها ، وطلبا لقبولها عند ربهم.
(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي والعالم العلوي وما حوى من شموس وأقمار ، وكواكب ثابتة وسيارات ، وما فيه من عرشه وكرسيه وملائكته الذين لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وما فيه من عوالم لا يحصى عدتها إلا هو ، ومن جنود لا يعلم حقيقتها إلا من ذرأها كما قال « وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ » .
(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والبحر المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع ما على الأرض ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات ، فيفسد نظام العالم وتعدم الحكمة التي لأجلها خلق.
وقد يكون المعنى - والبحر الموقد فى باطن الأرض بمنزلة التنّور المحمى ، وقد بينا هذا فيما سبق.
ثم ذكر ما أقسم عليه فقال :
(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي إن عذاب يوم القيامة لمحيط بالكافرين المكذبين بالرسل ، لا يدفعه عنهم دافع ، ولا يجدون من دونه مهربا ، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الشرك والآثام ، ودسّوا به أرواحهم من التكذيب بالرسل واليوم الآخر.(27/19)
ج 27 ، ص : 20
(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي ليس للعذاب دافع فى ذلك اليوم الذي ترتجّ فيه السماء وهى فى أماكنها ، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب اللّه ولا مهرب منه.
(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي وتزول الجبال من أماكنها ، وتسير عن مواضعها كسير السحاب ، وتطير فى الهواء ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ثم تصير كالعهن (الصوف المندوف) ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منثورا كما دل على ذلك ما جاء فى سورة النمل والحكمة فى مور السماء وسير الجبال - الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة.
ثم بين من سيقع عليه العذاب حينئذ فقال :
(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فهلاك يومئذ للمكذبين الذين يخوضون فى الباطل ، ويندفعون لاهين ، لا يذكرون حسابا ، ولا يخافون عقابا.
(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا.
فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها تقريعا وتوبيخا :
(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي هذه النار التي تشاهدونها هى التي كنتم بها تكذبون فى الدنيا ، وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها ، وللوحى الناطق بها.
ثم تهكم بهم وأنّبهم فقال :
(أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ؟ ) كان المشركون فى الدنيا ينسبون إلى محمد صلى اللّه عليه وسلّم أنه يسحر العقول ويغطى الأبصار ، فأنبهم على ما قالوا مستهزئا بهم وقال لهم : هل ما ترونه بأعينكم مما كنتم تنبئون به فى الدنيا من العذاب - حق ، أو سحرتم أيضا كما كان يفعل بكم محمد فى الدنيا ، أو قد غطّيت أبصاركم فلا ترى شيئا ؟
بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغطّ أبصاركم.(27/20)
ج 27 ، ص : 21
والخلاصة - هل فى المرئي شك أو فى أبصاركم علل ؟ لا واحد منهما بموجود ، فالذى ترونه حق.
(اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) أي إذا لم يمكنكم إنكارها ، وتحقق أنها ليست بسحر ، ولا خلل فى أبصاركم فاصلوها ، وفى قوله : فاصبروا أو لا تصبروا بيان لعدم الخلاص ، وانتفاء لعدم المناص فإن من لا يصبر على شىء يحاول دفعه عنه ، إما بإبعاده عنه ، وإما بمحقه وإزالته ولا شىء من ذلك بحاصل يوم القيامة - إلا أن عذاب الآخرة ليس كعذاب الدنيا ، فإن المعذب فيها إن صبر انتفع بصبره إما بالجزاء فى الآخرة وإما بالحمد فى الدنيا فيقال ما أشجعه ، وما أقوى قلبه ، وإن جزع ذم وقيل فيه يجزع كالصبيان والنسوان ، وأما فى الآخرة فلا مدح ولا ثواب على الصبر.
ثم علل استواء الصبر وعدمه بقوله :
(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنما تستوفون جزاء أعمالكم فى الدنيا ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر « ولا يظلم ربّك أحدا » بل يجازى كل أحد بعمله ، وإذا كان الجزاء واقعا حتما كان الصبر وعدمه سواء.
والخلاصة - إن الجزاء محتم الوقوع ، لسبق الوعيد به فى الدنيا على ألسنة الرسل ، ولقضاء اللّه به بمقتضى عدله ، فالصبر وعدمه سيان حينئذ.
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)(27/21)
ج 27 ، ص : 22
تفسير المفردات
فاكهين : أي طيبة نفوسهم ، مسرورة بما هى فيه ، وقاهم : أي حفظهم ، والطعام الهنيء : ما لا يلحق المرء فيه مشقة ولا يعقبه تخمة ولا سقم ، وزوّجناهم : أي قرنّاهم ، والحور : واحدتهن حوراء ، والحور : اسوداد المقلة ، والعين : واحدتهن عيناء : أي واسعة العينين.
المعنى الجملي
بعد أن أبان ما يصيب الكافرين من العذاب الأليم الذي لا دافع له ولا مهرب منه - ذكر ما يتمتع به المؤمنون فى ذلك اليوم من صنوف اللذات فى المساكن والمآكل والمشارب والفرش والأزواج ، بحسب سنن القرآن من ذكر الثواب بعد العقاب ، ليتم أمر الترغيب بعد الترهيب حتى يكون المرء بين عاملين ، عاملى الرهبة من بطش ربه ، والرغبة فى رحمته ، وكلاهما لا غنى للمرء عنه ، ليكمل صلاحه ، ويرعوى عن غيه ، ولا يقنط من رحمة ربه.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي إن الذين خافوا ربهم وأخلصوا له العبادة فى السر والعلن ، وأدّوا فرائضه ، وتحلّوا بآداب دينه ، وانتهوا عن معاصيه ، ولم يدنّسوا أنفسهم بالآثام ، ولم يدسّوا أرواحهم بالذنوب ، يجازيهم ربهم جزاء وفاقا بجنات يتنعمون فيها ، ويجدون ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال فى الدنيا ، وما حرموا منه أنفسهم من لذاتها ، وما صبروا عليه من مكارهها ، ابتغاء رضوانه. وهم فيها قرير والأعين طيبو النفوس ، لا يشغلهم شاغل ، ولا يجدون هما ولا نصبا ، ولا يكدّر صفو عيشهم مكدر.(27/22)
ج 27 ، ص : 23
وقوله فى جنات ونعيم لبيان أن حالهم كحال من يتمتع بالبستان ، وكالناطور الذي يحرسه وقوله : فاكهين إشارة إلى أن قلوبهم لا يشغلها همّ ولا نصب ، بل هم فى لذة ، وسرور ، وفرح وحبور.
ثم ذكر أنهم تمتعوا بنعمة أخرى قبل هذه فقال :
(وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وقد نجاهم ربهم من عذاب النار ، فلم يمسسهم لظاها ، ولم يحسوا بأذاها ، فهم قد لابسوا النعم ، وجانبوا النقم ، وذلك هو الفوز العظيم والنعيم المقيم.
ثم ذكر أنه يقال لهم حينئذ :
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي كلوا مما رزقكم ربكم من الطيبات ، واشربوا مما لذ وطاب ، هنيئا : أي لا تخافون أذى ولا غائلة كما تشاهدون مثل ذلك فى طعام الدنيا وشرابها ، كفاء ما قدمتم من صالح الأعمال ، وآثرتم من تعب الدنيا لراحة الآخرة. قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى طوال الليل : أتبعت نفسك ، فقال :
راحتها أطلب.
ونحو الآية قوله تعالى : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ » .
وفى قوله (هنيئا) إشارة إلى خلوّ المآكل والمشارب مما ينغصهما ، فإن الآكل قد يخاف المرض فلا يهنأ له الطعام ، أو يخاف النفاد فيحرص عليه ، أو يتعب فى تحصيله وتهيئته بالطبخ والإنضاج ، ولا يكون شىء من هذا فى الآخرة.
وفى قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) إيماء إلى أن هذا إنجاز لما وعدهم ربهم به فى الدنيا ، فلا منّ عليهم فيه ، بل كان المن عليهم فى الدنيا ، بهدايتهم للإيمان ، وتوفيقهم لصالح الأعمال كما قال : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ، قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ » .
ثم ذكر ما يتمتعون به من الفرش فقال :(27/23)
ج 27 ، ص : 24
(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) أي يجلسون على سرر مصفوف بعضها بجوار بعض جلسة المتكئ الذي لا كلفة عليه ، ولا تكلف لديه ، فإن من يكون عنده من يتكلف له يجلس ولا يتكىء ، ومن يكون فى مهمّ لا يتفرغ للاتكاء ، فحاله حال اطمئنان ورفع كلفة وخلوّ بال.
ونحو الآية قوله « عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ » .
ثم ذكر ما يتمتعون به من الأزواج فقال :
(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وجعلنا لهم قرينات صالحات ، وزوجات حسانا واسعات العيون.
وهذا وصف يتمدح به العربي إذا ذكر جمال المرأة.
[سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
تفسير المفردات
ألتناهم : أي أنقصناهم ، رهين : أي مرهون بعمله عند اللّه ، والعمل الصالح يفكّه ، والعمل الطالح يوبقه ، وأمددناهم : أي زدناهم ، مما يشتهون : أي من صنوف النعماء ، وضروب الآلاء ، يتنازعون : أي يتجاذبون تجاذب ملاعبة وسرور ، والكأس :(27/24)
ج 27 ، ص : 25
الإناء بما فيه من الشراب قاله الراغب ، وقد يسمى كل منهما على انفراد كأسا ، لا لغو فيها : أي فى شرابها ، فلا يتكلمون فى أثناء الشراب بلغو الحديث وسقط الكلام ، ولا تأثيم : أي ولا يفحشون فى القول كما هو ديدن الندامى فى الدنيا ، فإنهم كثير واللغو فعالون للآثام ، غلمان : أي مماليك مختصون بهم ، مكنون : أي مصون فى أصدافه لم تنله الأيدى فهو يكون أبيض صافى اللون ، والسموم : النار ، والبر : الواسع الإحسان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يتمتع به أهل الجنة من المطاعم والمشارب والأزواج كرما منه وفضلا - أردف ذلك ذكر ما زاده لهم من الفضل والإكرام ، وهو أن يلحق بهم ذريتهم المؤمنة فى المنازل والدرجات ، وإن لم تبلغ بهم أعمالهم ذلك ، لتقرّبهم أعينهم إذا رأوهم فى منازلهم على أحسن الأحوال ، فيرفع الناقص فى عمله إلى الكامل فيه ، ولا ينقص من عمله هو ولا منزلته.
قال ابن عباس : إن اللّه ليرفع ذرية المؤمن فى درجته وإن كانوا دونه فى المنزلة ، لتقرّبهم عينه ، وقرأ الآية ، ثم وصف حالهم إذ ذاك فى الطعام والشراب والفاكهة ، فأبان أنه ما من فاكهة أو طعام يطلبونه إلا وجدوه ثم أتبع هذا ببيان عظيم حبورهم وسرورهم ، فإنهم يتجاذبون الكؤوس ، ويتندّرون بأطيب الأحاديث التي لا لغو فيها ولا يأثم بها قائلها لو كان فى الدنيا ، وتخدمهم مماليك غاية فى الحسن والجمال ، ويتحدثون بما كان لهم من شؤون وأحوال فى الدنيا كما هو شأن ناعمى البال قريرى الأعين.
ثم ذكر أن من أحاديثهم أنهم كانوا فى دنياهم يخشون ربهم ويخافونه ، ومن ثمّ وقاهم عذاب النار.(27/25)
ج 27 ، ص : 26
الإيضاح
(وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) أي إن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم فى الإيمان يلحقهم ربهم بآبائهم فى المنزلة فضلا منه وكرما وإن لم يبلغوا بأعمالهم منزلتهم ، لتقرّبهم أعينهم ، ويكمل بهم فرحهم وحبورهم ، لوجودهم بينهم.
روى ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده ، فيقال له إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك ، فيقول : رب قد عملت لى ولهم فيؤمر بإلحاقهم به » .
(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وما أنقصنا مثوبات الآباء وحططنا درجاتهم بل رفعنا منزلة الأبناء تفضلا منا وإحسانا.
وبعد أن أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل لهم ، أخبر عن مقام العدل وهو ألا يؤاخذ أحد بذنب أحد فقال :
(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي كل امرئ مرتهن بعمله ، لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس ، سواء كان أبا أو ابنا ، وقد جعل العمل كأنه دين والمرء كأنه رهن به ، والرهن لا ينفك ما لم يؤدّ الدين ، فإن كان العمل صالحا فقد أدى الدين ، لأن العمل الصالح يقبله اللّه ويصعد إليه ، وإن كان غير صالح فلا أداء ولا خلاص ، إذ لا يصعد إليه غير الطيب.
ونحو الآية قوله « كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ » أي إن كل نفس رهن بعملها عند اللّه لا يفك رهنها إلا أصحاب اليمين ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطاعوه من عملهم وكسبهم.
وبعد أن ذكر وجوه النعيم فيما سلف ذكر أنه يزيدهم على ذلك حينا فحينا مما يشتهون من قنون النعماء فقال :(27/26)
ج 27 ، ص : 27
(وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي وزدناهم على ما سلف فواكه ولحوما من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى ، وإن لم يقترحوا ولم يطلبوا.
وذكر الفاكهة واللحم دون أنواع الطعام الأخرى ، لأنهما طعام المترفين فى الدنيا.
وبعد أن ذكر طعامهم أردفه ذكر شرابهم وسرورهم لدى احتسائهم له فقال :
(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) أي يتجاذبون الكؤوس فى الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل الندامى فيما بينهم لشدة سرورهم كما قال الأخطل :
نازعته طيّب الرّاح الشّمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة الساري
وليس فى الشراب فى الآخرة ما فيه فى الدنيا من اللغو بسبب زوال العقل ، ومن الفحش فى القول ، كما يتكلم به الشّرب فيها ، وقد أخبر سبحانه فى موضع آخر عن حسن منظرها ، وطيب مطعمها فقال « بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ، لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ » وقال : « لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ » .
ثم ذكر مالهم من خدم وحشم فى الجنة فقال :
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) أي يطوف عليهم بالكؤوس مماليك لهم ، يتصرفون فيهم بالأمر والنهى والاستخدام كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون فى الأصداف فى الحسن والبهاء.
ونحو الآية قوله تعالى : « يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ » .
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال : « بلغني أنه قيل يا رسول اللّه هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : والذي نفسى بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب » .
وروى « إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه فيجىء ألف ببابه لبّيك لبّيك » .(27/27)
ج 27 ، ص : 28
ثم بين أنهم فى الجنة يتذاكر بعضهم مع بعض فى أحوال الدنيا فقال :
(وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي أقبلوا يسأل بعضهم بعضا فى الجنة عن حاله وما كان فيه من تعب الدنيا وخوف العاقبة ، ثم يحمدون اللّه الذي أذهب عنهم الحزن والخوف والهم وما كانوا فيه من الكدر والنكد لطلب المعاش وتحصيل الأرزاق وما وصلوا إليه ، تلذذ بالنعمة واعترافا بها.
أخرج البزار عن أنس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « إذا دخل أهل الجنة الجنة ، اشتاقوا إلى الإخوان ، فيجىء سرير هذا حتى يحاذى سرير هذا فيتحدثان فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان بما كانوا فى الدنيا فيقول أحدهما لصاحبه يا فلان أ تدرى أىّ يوم غفر اللّه لنا ؟ اليوم الذي كنا فى موضع كذا وكذا فدعونا اللّه فغفر لنا » .
ثم فصل ما يجيب به بعضهم بعضا فقال :
(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ. فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) أي قالوا : إنا كنا فى دار الدنيا ونحن بين أهلها خائفين من ربنا مشفقين من عذابه وعقابه ، فتفضل علينا وأجارنا مما نخاف.
والمقصود إثبات خوفهم فى سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى ، فإن وجودهم بين أهليهم مظنّة الأمن ، فإذا خافوا فى تلك الحال فلأن يخافوا فى غيرها بالأولى.
روى أن عائشة قالت : « لو فتح اللّه على أهل الأرض من عذاب السموم قدر الأنملة لأحرقت الأرض ومن عليها » .
ثم تمموا العلة فى استحقاقهم للكرامة فى تلك الدار بقولهم :
(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) أي إنا كنا نعبده ونسأله أن يمنّ علينا بالمغفرة والرحمة ، فاستجاب دعاءنا وأعطانا سؤلنا ، لأنه هو المحسن الواسع الرحمة والفضل.(27/28)
ج 27 ، ص : 29
وكل من المؤمن والكافر لا ينسى ما كان له فى الدنيا ، وتزداد لذة المؤمن إذا رأى نفسه قد انتقلت من سجن الدنيا إلى نعيم الجنة ، ومن الضيق إلى السعة وتزداد آلام الكافر إذا رأى نفسه انتقل من الترف إلى التلف ، ومن النعيم إلى الجحيم.
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِن ْ كانُوا صادِقِينَ (34)
تفسير المفردات
فذكر : أي فاثبت على ما أنت عليه من التذكير ، والكاهن : من يخبر بالأخبار الماضية الخفية بضرب من الظن ، والعرّاف : من يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك قاله الراغب ، ونتربص : أي ننتظر ، والمنون : الدهر ، وريبه : حوادثه وصروفه قال أبو ذؤيب :
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وقال آخر :
تربّص بها ريب المنون لعلها تطلّق يوما أو يموت حليلها
الأحلام : العقول ، والطغيان : تجاوز الحد فى المكابرة والعناد ، تقوّله : أي اختلقه من تلقاء نفسه ، إذ التقول لا يستعمل غالبا إلا فى الكذب.(27/29)
ج 27 ، ص : 30
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن العذاب واقع بالكافرين لا محالة ، وأن الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيون بأعمالهم ، وأن الرسول على الحق المبين الذي من كذبه باء بغضب من اللّه ، ومن صدّقه استحق رضوانه ومغفرة من لدنه - أمر رسوله هنا بالثبات على التذكر والموعظة ، وعدم المبالاة بما يكيد به أولئك الكائدون ، فإنه هو الغالب حجة وسيفا فى هذه الدار ، ومنزلة ورفعة فى دار القرار ثم ذكر تناقض أقوالهم لينبه إلى فساد آرائهم ، وإلى أنهم ما أعرضوا عن الحق إلا اتباعا للهوى لا اتباعا للدليل والبرهان ، وفى ذلك تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كما لا يخفى ، إذ ما أبعد حال من كان أرجحهم عقلا ، وأبينهم قولا ، منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشد ، من الجنون والكهانة ، إلى ما فى هذا من التناقض والاضطراب ، فإن الكهان كانوا من الكملة وكان قولهم مقنعا ، فأين هذا من الجنون ، ثم ترقّوا فى نسبته إلى الكذاب ، فقالوا إنه شاعر ، وأعذب الشعر أكذبه ، ثم قالوا فلنصبر عليه ، ولنتربص به صروف الدهر وأحداثه ، فسيكون حاله حال زهير والنابغة وأضرابهم ممن انقرضوا وصاروا كأمس الدابر ، ثم أمره بتهديدهم بمثل صنيعهم بقوله : « قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ » ثم زاد فى تسفيه أحلامهم بأن مصدر هذا التكذيب إما كتاب أنزل عليهم بذلك وإما أن عقولهم تأمرهم بما يقولون ، لا بل الحق أنهم قوم طاغون يفترون ويقولون ما لا دليل عليه لا من كتاب ولا مقتضى له من عقل ، ثم زادوا فى الإنكار ونسبوه إلى التقول والافتراء ، فإن صح ما يقولون فليأتوا بمثل أقصر سورة من مثل هذا المفترى إن كانوا صادقين ، لا بل هم قوم جاحدون لا يؤمنون فليقولوا ما تسوّله لهم أنفسهم فإن اللّه قد أعمى بصائرهم ، فهم لا أحلام لهم تميز الحق من الباطل ، والغث من السمين فامض لشأنك ، ولا تأبه لمقالهم فاللّه معك ، ولن يترك شيئا من أعمالك.(27/30)
ج 27 ، ص : 31
الإيضاح
(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي فذكّر أيها الرسول من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم ، وعظهم بالآيات والذكر الحكم ، ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل ، وقد انتفت عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة اللّه عليك ، وهذا كما يقول القائل : ما أنا بمعسر بحمد اللّه وغناه ، والمراد بذلك الرد على القائلين بذلك وإبطاله ، فإن ما أوتيه من رجاحة العقل ، وعلو الهمة وكرم الفعال ، وصدق النبوة ، لكاف جد الكفاية فى دحض هذا وأشباهه. وممن قال إنه كاهن شيبة بن ربيعة ، وممن قال إنه مجنون عقبة بن أبى معيط.
ثم ذكر أنهم ترقّوا فى الإنكار عليه فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي بل هم يقولون : هو شاعر نتربص به أحداث الدهر ونكباته من موت أو حادثة متلفة.
روى أن قريشا اجتمعت فى دار الندوة وذهبت مذاهب شتى فى صدّ دعوته صلى اللّه عليه وسلّم ومقابلة هذا الخطر الداهم عليهم ، وماذا يفعلون فى الخلاص منه ، فقال قائل من بنى عبد الدار : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، ثم افترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية.
وخلاصة هذا - إنا نبتعد من إيذائه ، ونتقى لسانه ، مخافة أن يغلبنا بقوة شعره ، وإنما سبيلنا معه أن نصبر عليه ونتربص موته كما مات الشعراء من قبله.
فأمره اللّه أن يهددهم ويتهكم بهم بقوله :
(قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أي قل لهم : انتظروا وتمهّلوا فى ريب المنون ، فإنى متربص معكم منتظر قضاء اللّه فىّ وفيكم ، وستعلمون لمن يكون حسن العاقبة ، والظفر فى الدنيا والآخرة.
(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) أي بل أ تأمرهم أحلامهم بهذا التناقض فى القول ،(27/31)
ج 27 ، ص : 32
فالشاعر غير الكاهن وغير المجنون ، وفرق عظيم بين من زال عقله ، ومن يقول الشعر الحكيم الرصين ، ومن يجعل قوله حجة فى معرفة أخبار الغيب ، ويعتقد أن الجن توحى إليه بما يقول :
وقصارى هذا : إنهم لا أحلام لهم ولا عقول :
ثم ذكر السبب الحق فى كل ما يعملون فقال :
(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الحق أن الذي حملهم على أن يقولوا ما قالوا ، هو طغيانهم وعنادهم وضلالهم عن الحق.
(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي أ يقولون كاهن أم يقولون شاعر أم يقولون إنه افترى القرآن واختلقه من تلقاء نفسه ؟ .
(بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي إن كفرهم هو الذي حملهم على هذه المطاعن وزين لهم أن أن يقولوا ما قالوا.
ثم رد عليهم جميع ما زعموا وتحداهم فى دحض ما قالوا فقال :
(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي إن كان شاعرا فلديكم الشعراء الفصحاء ، أو كاهنا فلديكم الكهان الأذكياء ، وإن كان قد تقوله فلديكم الخطباء الذين يحبّرون الخطب ، ويجيدون القول فى كل فنون الكلام ، فهلمّ فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون ، فإن أسباب القول متوافرة لديهم كما هى متوافرة لديه ، بل فيهم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحفظ أيام العرب ووقائعها أكثر من محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 43]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39)
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)(27/32)
ج 27 ، ص : 33
تفسير المفردات
من غير شىء : أي من غير خالق ، خزائن ربك : أي خزائن رزقه ، المسيطرون :
أي القاهرون المسلطون عليها ، من قولهم : سيطر على كذا. إذا راقبه وأقام عليه ، سلّم :
أي مرتقى إلى السماء ، بسلطان مبين : أي بحجة واضحة تصدق استماعه ، مغرم : أي التزام غرامة تطلبها منهم ، مثقلون : أي محملون ثقلا ، الغيب : أي علم الغيب ، كيدا :
أي شرا ، المكيدون : أي الذين يحيق بهم الشر ويعود إليهم وباله.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وردّ عليهم ما زعموه من أنه كاهن أو شاعر أو مجنون ، وأمره أن يمضى لطيّته ويذكّر الناس ويبشرهم وينذرهم ولا يأبه لمقالتهم ، فاللّه ناصره عليهم - انتقل إلى الرد عليهم فى إنكارهم للخالق كما هو شأن الدهريين أو لادعائهم للّه شريكا كما هو شأن كثير من العرب الذين قالوا : الملائكة بنات اللّه ، وقالوا : ما نعبد الأوثان والأصنام إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى.
وبعد أن أقام عليهم الحجة فى كل ذلك ، وسد عليهم المسالك ، طلب إليه أن يتوكل عليه ، وأن يعلم أن كيدهم لا يضيره شيئا ، فاللّه ناصره عليهم ، وسيظهر دينه ، ويتمّ له الغلبة والفلج عليهم.(27/33)
ج 27 ، ص : 34
الإيضاح
(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ) أي كيف ينكرون الخالق الموجد ؟ ، فهل هم خلقوا هذا الخلق البديع الصنع من غير خالق ولا موجد ؟ والعقل يشهد بأن كل ما يوجد من العدم لا بد له من موجد.
(أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) أي بل أ هم أوجدوا أنفسهم ؟ والضرورة والعقل يكذبان ذلك ، إذ يلزم من هذا أن الشيء يكون مقدما فى الوجود على نفسه ، فهم باعتبار أنهم خالقون مقدّمون على أنفسهم فى الوجود باعتبار أنهم مخلوقون ، وهذا بيّن البطلان.
(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي لو فرض أنهم خلقوا أنفسهم ، فهل هم يجرءون ويقولون إنهم خلقوا هذه الأجرام العظيمة التي تتوقف عليها حياتهم ، وفيها أسباب معاشهم وهى السموات والأرض ؟ - أظن أنهم لا يدّعون ذلك.
(بَلْ لا يُوقِنُونَ) أي ليس واحد مما تقدم يمكن أن يدّعوه ، بل حقيقة أمرهم أنهم لا يوقنون بما يقولون إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ فقالوا اللّه ، إذ لو أيقنوا بذلك ما أعرضوا عن عبادته.
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي بل أ هم يتصرفون فى الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن ؟
فيعطوا النبوة لمن يشاءون ، ويصطفوا لها من يختارون.
(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي أم هم الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر العالم ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم ، والمراد أنه ليس الأمر كذلك ، بل اللّه هو المالك المتصرف الفعال لما يريد.
روى البخاري عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : « سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقرأ فى المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : « أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ، أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ » كاد قلبى يطير ، وكان جبير بن مطعم(27/34)
ج 27 ، ص : 35
قد قدم على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد وقعة بدر فى فداء الأسارى ، وكان إذ ذاك مشركا ، فكان سماعه هذه الآية من جملة ما حمله على الدخول فى الإسلام بعد ذلك.
(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي أم لهم مرتقى إلى السماء يستمعون فيه كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب ، فهم لذلك مستمسكون بما هم عليه ، فإن كانوا يدّعون ذلك فليأتوا بحجة تبين أنهم على الحق ، كما أتى محمد صلى اللّه عليه وسلّم بالبرهان الدالّ على صدق قوله فيما جاءهم به من عند ربه.
وبعد أن رد على الذين أنكروا الألوهية بتاتا ردّ على من قالوا : الملائكة بنات اللّه ، وسفه أحلامهم إذ اختاروا له البنات ولأنفسهم البنين فقال :
(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي بل أ لربكم البنات ولكم البنون ؟ « تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى » .
وفى هذا إيماء إلى أن من كان هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت ، وسماع كلام رب العزة والجبروت.
(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أ تسأل هؤلاء المشركين الذين أرسلناك إليهم على ما تدعوهم إليه من توحيد اللّه وطاعته - أجرا تأخذه من أموالهم فهم من ثقل ما حملتهم من المغرم لا يقدرون على إجابتك إلى ما تدعوهم إليه ؟ .
(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ؟ ) أي أم عندهم علم فهم يكتبون ذلك للناس ، فينبئونهم بما شاءوا ويخبرونهم بما أرادوا - ليس الأمر كذلك ، إذ لا يعلم غيب السموات والأرض إلا اللّه.
قال قتادة : وهذا جواب لقولهم : نتربص به ريب المنون ، فيقول اللّه : أم عندهم الغيب حتى علموا أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم يموت قبلهم.
(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي بل يريد هؤلاء المشركون(27/35)
ج 27 ، ص : 36
بقولهم هذا فى الرسول وفى الدين غرور الناس وكيد الرسول ، فإن كان هذا ما يريدون فكيدهم راجع إليهم ووباله على أنفسهم ، فثق باللّه وامض لما أمرك به.
قال فى فتح البيان : والظاهر أنه من الإخبار بالغيب ، فإن السورة مكية ، وذلك الكيد كان وقوعه ليلة الهجرة ، ثم أهلكهم اللّه تعالى ببدر عند انتهاء سنين عدتها عدة ما هنا من كلمة (أم) وهى خمس عشرة ، فإن بدرا كانت فى الثانية من الهجرة وهى الخامسة عشرة من النبوة ، وأذلهم فى غير موطن ، ومكر سبحانه بهم (وَمَكَرُوا ، وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) اه.
(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي بل ألهم إله غير اللّه يعينهم ويحرسهم من عذاب اللّه ؟ تنزه ربنا عن الشريك وعما يعبدونه سواه.
وفى هذا إنكار شديد على المشركين فى عبادتهم للأصنام والأنداد مع اللّه تعالى.
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
تفسير المفردات
كسفا : أي قطعة ، مركوم : أي متراكم ملقى بعضه على بعض ، يصعقون : أي يقتلون ، دون ذلك : أي قبله ، وهو ما أصابهم من القحط سبع سنين ، بأعيننا : أي(27/36)
ج 27 ، ص : 37
فى حفظنا وحراستنا ، وإدبار النجوم : أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مزاعمهم فى النبوة وبيّن فسادها بما لم يبق بعده وجه للعناد والمكابرة ثم أعقبه بالرد عليهم فى جحودهم للألوهية إما بإنكارها بتاتا ، وإما بادعاء الشريك للّه ، أو باتخاذه الولد ، سبحانه وتعالى عما يصفون - أردف هذا بيان أن هؤلاء قوم بلغوا حدا فى العناد أصبحوا به يكابرون فى المحسات فضلا عن المعقولات ، فدعهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي لا مرد له ، يوم لا تنفعهم حبائلهم وشراكهم التي كانوا ينصبون مثلها فى الدنيا ، ولا يجدون لهم إذ ذاك وليّا ولا نصيرا ، وأن اللّه سيصيبهم بعذاب من عنده فى الدنيا قبل ذلك اليوم ، وأنه ناصرك عليهم وكالئك بعين رعايته ، واذكر ربك حين تقوم من منامك ، ومن مجلسك ، وحين تغيب النجوم ، ويصبح الصباح ، وتغرّد الأطيار مسبّحة منزهة خالق السموات والأرض ، قائلة : سبّوح قدّوس ، ربّ الملائكة والرّوح.
الإيضاح
(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي إن هؤلاء قوم ديدنهم العناد والمكابرة ، فلو رأوا بعض ما سألوا من الآيات ، فعاينوا كسفا من السماء ساقطا - لكذبوا وقالوا : سحاب بعضه فوق بعض ، لأن اللّه قد ختم على قلوبهم ، وأعمى أبصارهم ، فأصبحوا ينكرون ما تبصره الأعين ، وتسمعه الآذان.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ، لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ » .(27/37)
ج 27 ، ص : 38
ثم أمر سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتركهم وشأنهم فقال :
(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي فدعهم وشأنهم ، ولا تكترث بهم حتى يأتى اليوم الذي يجازون فيه بسيئات أعمالهم وهو يوم بدر ، قاله البقاعي وهو الظاهر فى الآية.
(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي وفى هذا اليوم لا تنفعهم الحيل التي دبروها لمناصبته صلّى اللّه عليه وسلّم العداء ، ولا يجدون لهم نصيرا ولا معينا يدفع عنهم ما يحيق بهم من العذاب.
(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) أي وإن لهؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي عذابا بالقحط والجوع سبع سنين قبل يوم بدر لأنه كان فى السنة الثانية للهجرة والقحط وقع لهم قبلها.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ما سيصيرون إليه من عذاب اللّه ، وما أعده لهم فى الدنيا والآخرة ، وإنا سنبتليهم بالمصائب ، لعلهم يرجعون وينيبون إلينا.
ونحو الآية قوله : « وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » .
(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي واصبر على أذاهم ولا تبال بهم ، وامض لأمر اللّه ونهيه ، وبلّغ ما أرسلت به ، فإنك بمرأى منا نراك ونرى أعمالك ، ونحوطك ونحفظك ، فلا يصل إليك منهم أذى.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) أي ونزّه ربك عما لا يليق به لإنعامه عليك ، واعبده بالتلاوة والصلاة حين تقوم من مجلسك ، قال عطاء وسعيد وسفيان الثوري وأبو الأحوص : يسبح اللّه حين يقوم من مجلسه فيقول : سبحان اللّه وبحمده أو سبحانك اللهم وبحمدك عند قيامه من كل مجلس يجلسه.
وعن أبى برزة الأسلمى قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بآخر عمره إذا قام(27/38)
ج 27 ، ص : 39
من المجلس يقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، فقال رجل يا رسول اللّه : إنك لتقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى ، قال كفارة لما يكون فى المجلس » أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم وابن مردويه وابن أبى شيبة.
و
روى « أن جبريل علّم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إذا قام من مجلسه أن يقول :
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك » .
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي وسبحه فى صلاة الليل لأن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد من الرياء ، وحين إدبار الليل بظهور ضوء الصبح ، وقيل
المراد من التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء ، ومن إدبار النجوم ركعتا الفجر.
وقد روى ذلك عن عمر وعلىّ
وأبى هريرة والحسن رضى اللّه عنهم أجمعين.
ونحو الآية قوله : « وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » .
خلاصة ما حوته السورة الكريمة
من العظات والزواجر (1) القسم بالعالم العلوي والسفلى أن العذاب آت لا محالة.
(2) وصف عذاب النار وما يلاقيه المكذبون حينئذ من الذلة والمهانة.
(3) وصف نعيم أهل الجنة وما يتمتعون به من اللذات فى مساكنهم ومطاعمهم ومشاربهم وأزواجهم وخدمهم وحشمهم.
(4) أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالثبات على تبليغ الرسالة والإعراض عن سفاهتهم من نحو قولهم : هو شاعر ، هو كاهن ، هو مجنون ، هو مفتر.
(5) إثبات الألوهية بالبراهين التي لا تقبل جدلا.(27/39)
ج 27 ، ص : 40
(6) النعي على المشركين فى قولهم : الملائكة بنات اللّه.
(7) بيان أنهم بلغوا فى عنادهم حدا ينكرون معه المحسوسات التي لا شك فيها.
(8) أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي كانوا يوعدون.
(9) الإخبار بأن الظالمين فى كل أمة وكل جيل يعذبون فى الدنيا قبل عذابهم فى الآخرة.
(10) الإخبار بأن اللّه حارس نبيّه وكالئه ، فلا يصل إليه أذى من خلقه كما قال سبحانه : « وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » .
(11) أمره صلّى اللّه عليه وسلّم بالذكر والتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وفى كل موطن ومجلس يقوم فيه.(27/40)
ج 27 ، ص : 41
سورة النجم
هى مكية إلا آية 32 فمدنية ، نزلت بعد سورة الإخلاص ، وآيها ثنتان وستون.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إن السورة قبلها ختمت بقوله : وإدبار النجوم ، وبدئت هذه بقوله : والنجم إذا هوى.
(2) إن السورة قبلها ذكر فيها تقوّل القرآن وافتراؤه ، وذكر هذا فى مفتتح هذه السورة.
(3) إنه ذكر فى التي قبلها أن ذرية المؤمنين تبع لآبائهم ، وفى هذه ذكر ذرية اليهود فى قوله : « هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ » .
(4) إنه قال هناك فى المؤمنين : « أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » وقال هنا فى الكفار « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » .
وهى كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قراءتها ، فقرأها فى الحرم والمشركون يسمعون ،
وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي « أن أول سورة أنزلت فيها سجدة (والنجم) فسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف ».
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)(27/41)
ج 27 ، ص : 42
تفسير المفردات
المراد بالنجم : جنس النجوم إذا غربت أو صعدت ، يقال هوى النجم هويّا (بالفتح) أي سقط وغرب ، وهويا : (بالضم) إذا علا وصعد ، ما ضلّ : أي ما حاد عن الطريق المستقيم ، صاحبكم : أي مصاحبكم ، والتعبير عنه صلّى اللّه عليه وسلم بعنوان المصاحبة لهم إيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم خبرا ببراءته مما نسب إليه ، وباتصافه بالهدى والرشاد ، فإن طول صحبتهم له ، ومشاهدتهم لشئونه العظيمة تقتضى ذلك ، ففى هذا تأكيد لإقامة الحجة عليهم ، وما غوى : أي وما اعتقد باطلا ، والخطاب فى هذا لقريش ، وما ينطق عن الهوى : أي ما يتكلم بالباطل ، والمراد بشديد القوى جبريل عليه السّلام ، ذو مرة : أي ذو حصافة عقل وقوة عارضة ، قال قطرب : العرب تقول لكل من هو جزل الرأى حصيف العقل : هو ذو مرة.
من قولهم أمررت الحبل : أي أحكمت فتله ، فاستوى : أي فاستقام على صورته التي خلقه اللّه عليها عند حراء فى مبادى النبوة ، وهو بالأفق الأعلى : أي بالجهة العليا من السماء المقابلة للناظر ، ثم دنا : أي ثم قرب ، فتدلى : أي فنزل من قولهم تدلت الثمرة ،(27/42)
ج 27 ، ص : 43
ومنه الدوالي وهى الثمر المعلق كعناقيد العنب ، والقاب مقدار ما بين المقبض والسّية ، ولكل قوس قابان ، والعرب تقدر الأطوال بالقوس والرمح وبالذراع والباع والخطوة والشبر والإصبع ، أو أدنى : أي أقرب من ذلك ، والمراد بالفؤاد فؤاد محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، ما رأى أي ما رآه ببصره ، أ فتمارونه على ما يرى : أي أ فتجادلونه على ما يراه معاينة ، نزلة أخرى : أي مرة أخرى ، سدرة المنتهى : هى شجرة نبق قالوا إنها فى السماء السابعة عن يمين العرش ، جنة المأوى : أي الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة ، يغشى : يغطى ، ما زاغ البصر : أي ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومسكّن منها وما مال يمينا ولا شمالا ، وما طغى : أي ما جاوز ما أمر به ، آيات ربه الكبرى : أي عجائبه الملكية والملكوتية فى ليلة المعراج.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بخلق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتها إلا هو ، وهى نجوم السماء التي تهدى الساري فى الفلوات ، وترشده إلى البعيد من المسافات - إن محمدا صاحبكم نبىّ حقا ، وما ضلّ عن طريق الرشاد ، ولا اتبع الباطل ، ولا يتكلم إلا بوحي يوحيه اللّه إليه ، ويعلمه إياه جبريل شديد القوى ، ولقد رآه مرتين على صورته التي خلقه اللّه عليها بأجنحته وأوصافه الملكية : مرة بغار حراء فى بدء النبوة ، وأخرى ليلة المعراج حين عرج به إلى السماء ، ورأى من عجائب صنع اللّه ما رأى ، مما استطاع أن يخبركم به ، ومما لم يستطع ذلك ، فكيف بكم تجادلونه فيما أخبركم به ، وتقولون طورا : إنه مجنون ، وطورا آخر إنه كاهن ، وطورا ثالثا إنه شاعر ، وما كل هذا بالذي ينطبق على أوصافه ، وهو صاحبكم وأنتم أعلم بحاله ، فحق عليكم أن تسمعوا قوله ، وأن تطيعوا أمره ، فتفوزوا رضوان من ربه.(27/43)
ج 27 ، ص : 44
الإيضاح
(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى . ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى ) أي قسما بمخلوقاتى العظيمة وهى النجوم التي تسير فى مداراتها ، ولا تعدو أفلاكها ، والتي تهتدون بها فى الفيافي والقفار ، فى حلكم وترحالكم ، فى سفركم وحضركم ، وفى البحار ، ولها لديكم منزلة عظمى فى حياتكم المعيشية - إن محمدا نبى حقا ، وما حاد عن سبيل الحق ، ولا سلك سبيل الباطل.
وقد خاطب سبحانه بهذا القسم العرب الذين يعرفون ما للنجوم من جزيل الفضل عليهم ، فى تعيين المواسم والفصول ، ليستعدوا للنّجعة ، ويرتادوا الكلأ بعد سقوط المطر ، ويزرعوا ما يتسنى لهم أن يزرعوه ، وهم يتيامنون ببعضها ويتشاءمون ببعض آخر.
إلى أن القسم بها ينبهنا إلى أن هناك عوالم وأجراما علويّة يجب علينا أن نتعرّف أمرها ، لنستدل بها على عظيم قدرة مبدعها وبديع صنعه.
ولقد أثبت العلم حديثا ما يدعو إلى العجب من أحوال هذه الأجرام ، وسرعة سيرها ، وكبير حجمها ، فقد علم أن سير نور الكوكب 300 ألف كيلوم فى الثانية ، ومثله سير الأمواج اللاسلكية ، وكلاهما يجرى حول الأرض فى سبع ثانية مرة واحدة ، ويجرى حول الكون كله فى نحو مائة مليون سنه ، فنسبة محيط الكرة الأرضية إلى محيط ما عرف من الكون كنسبة سبع ثانية إلى مائة مليون سنة.
والنظام الشمسى يشتمل على الشمس وتسعة سيارات تدور حول أكثرها أقمار ، وهذه الشمس وعالمها جزء من عالم المجرّة ، والمجرّة فيها نجوم تبلغ نحو 30 ألف مليون نجم كلهن شموس كشمسنا أو أكبر أو أصغر. ويقدرون عمر الشمس بنحو خمسة ملايين مليون سنة ، وعمر الأرض بنحو ألفى مليون سنة ، وعمر المياه عليها بنحو 300 مليون سنة ، وعمر الإنسان بنحو 300 ألف سنة.(27/44)
ج 27 ، ص : 45
وإن شمسنا التي تزيد على أرضنا ألف ألف مرة وثلاثمائة ألف مرة هى كوكب له توابع وسيارات ، وهذا الكواكب وتوابعه واحد من ثلاثين ألف مليون شمس ، وهذه كلها تكوّن مجرتنا ، وهذه المجرة لها نظائر ، فسبحان الخلاق العليم الذي لا يعلم جنوده إلا هو.
والخلاصة - إن الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم راشد مرشد تابع للحق ، ليس بضالّ ولا هو بسالك للطريق بغير علم ، ولا هو بغاو يعدل عن الحق قصدا إلى غيره ، وبهذا نزه اللّه رسوله وشرعه عن مشايعة أهل الضلال من اليهود والنصارى الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، فهو فى غاية الاستقامة والاعتدال والسّداد.
ثم بين السبب فى عدم ضلاله وغوايته فقال :
(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ) أي كيف يضل ويغوى ، وهو لا ينطق عن الهوى ، وإنما يضل من كان كذلك ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » .
ثم أكد هذا بقوله :
(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى ) أي إنما يقول ما أمر أن يبلغه إلى الناس كاملا موفورا بلا زيادة ولا نقصان.
روى أحمد عن عبد اللّه بن عمرو قال : « كنت أكتب كل شىء أسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أريد حفظه ، فنهتنى قريش فقالوا : إنك تكتب كل شىء تسمعه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ورسول اللّه بشر يتكلم فى الغضب ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : اكتب فو الذي نفسى بيده ما خرج منى إلا الحق » .
وعن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا أقول إلا حقا » قال بعض أصحابه فإنك تداعبنا يا رسول اللّه ، قال : « إنى لا أقول إلا حقا » .
ويرى بعض المفسرين أن قوله : ما ضل صاحبكم - ردّ لقولهم : إنه مجنون ،(27/45)
ج 27 ، ص : 46
وقوله : وما غوى - ردّ لقولهم إنه شاعر : أي ليس بينه وبين الغواية تعلق وارتباط ، وقوله : والشعراء يتبعهم الغاوون ، وقوله : وما ينطق عن الهوى - ردّ لقولهم كاهن ، وقوله : إن هو إلا وحي يوحى تأكيد لما تقدم ، أي فلا هو بقول كاهن ، ولا هو بقول شاعر.
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) أي علّم صاحبكم جبريل عليه السّلام وهو شديد القوى العلمية والعملية ، فيعلم ويعمل ، ولا شك أن مدح المعلّم مدح للمتعلم.
وفى هذا رد عليهم فى قولهم : إن هو إلا أساطير الأولين ، سمعها وقت سفره إلى الشام.
والخلاصة - إنه لم يعلمه أحد من الناس ، بل علمه شديد القوى ، والإنسان خلق ضعيفا لم يؤت من العلم إلا قليلا - إلى أنه موثوق بقوله ، لأن قوة الإدراك شرط الوثوق بقول القائل ، وكذلك هو موثوق بحفظه وأمانته ، فلا ينسى ولا يحرّف.
(ذُو مِرَّةٍ) أي ذو حصافة فى العقل ، فالوصف الأول إشارة إلى قوة الفعل ، وهذا وصف بقوة النظر وظهور الآثار البديعة منه.
والخلاصة - إنه يجمع بين القوى النظرية والقوى الجسمية كما روى أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحيه ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح بثمود فأصبحوا جاثمين.
وإنا لنؤمن بهذا على أنه من عالم الغيب ونكتفى بما جاء فى كتابه تعالى ولا نزيد عليه.
وإن علماء الأرواح فى أوروبا الآن أصبحوا يؤمنون بقوى عالم الروح وبما لها من خوارق العادات بالنظر إلى عالمنا. قال أوليفر لودج : إنى أصبحت موقنا بأنا محوطون بعالم نحن بالنسبة إليه كالنمل بالنسبة لنا ، وهم يساعدوننا ويحافظون علينا ، ثم قال :
وقفت على هذا بطريق علمى (يريد تحضير الأرواح) ثم قال : فإذا ما قال القدّيسون إنهم رأوا الملائكة أو أنهم رأوا اللّه ، فكل ذلك حق لا مرية فيه اه.(27/46)
ج 27 ، ص : 47
هذا ولا شك من عجائب القرآن ، فإن ما جاء فيه مما يتعلق بعالم الأرواح أصبح علوما تدرس وتذاع بين الناس باعتبارها علوما روحية وكشفا حديثا ، صدق ربنا « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ » .
فالقوى الجسمية والعقلية للعالم الروحي ظهرت بطريق استحضار الأرواح والتنويم المغناطيسى ، إذ فيه انخلاع للنفس عن البدن انخلاعا جزئيا أو كليا وهى مربوطة به ولها اتصال بالعوالم الروحية.
(فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى . فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ) أي فاستقام جبريل على صورته التي خلقه اللّه عليها حين أحب رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يراه كذلك ، فظهر له فى الأفق الأعلى وهو أفق الشمس ، فملأه ثم أخذ يدنو من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويتدلى : أي يزيد فى القرب والنزول حتى كان منه مقدار قوسين أو أقرب على تقديركم وعلى مقدار فهمكم ، فأوحى إلى عبده ورسوله ما شاء أن يوحيه إليه من شئون الدين. ولا غرو فإن ظهور الأرواح فى صورة مرئية أصبح الآن معروفا ، وقد قص علماء الروح عجائب وغرائب وأصبح فى طوقهم أن يظهروا الروح فى صور بشرية وصور نورية وتخاطبهم حين التنويم المغناطيسى ، وإذا صح ذلك للعلة فليكن ذلك للقدّيسين والأنبياء بالأولى بطريق يشاكل مقامهم ، ولا تتجلى الأرواح إلا بالمناسبة بين المتجلّى والمتجلّى عليه ، وظهوره فى صورة مرئية يرجع إلى قوته وشدته ، وقوله : فأوحى إلى عبده ما أوحى ، يرجع إلى قوته العلمية.
ولما كان الإنسان كثيرا ما يظن أنه قد تخيل ما رآه ويكذب قلبه ما ظهر له ، حتى قال علماء الأرواح : إنهم لما خاطبوا الأرواح قالت لهم ، إنكم كثيرا ما يظهر لكم عجائب روحية فتظنونها من الوهم وتنسبونها إلى خداع الحواس - أعقب سبحانه هذا بما يدل على أنه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يقم بنفسه أن هذا تخيل ولا أنه وهم فقال :(27/47)
ج 27 ، ص : 48
(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى ) أي ما كذب فؤاده ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السّلام : أي إن فؤاده صلّى اللّه عليه وسلّم ما قال لما رآه ببصره لم أعرفك ، ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
والخلاصة - إنه لما قال : إن هو إلا وحي يوحى أكد هذا المعنى وفصله بقوله :
علّمه شديد القوى ، ليبين أنه ليس من الشعر ولا من الكهانة فى شىء ، ولما قال :
فاستوى وذكر قيامه بصورته الحقيقية أكد أن مجيئه بصورة دحية الكلبي لا يعمّى وصفه ، إذ قد عرفه بشكله الحقيقي من قبل ، فلا يشتبه عليه ، وقوله : ثم دنا فتدلى تتميم لحديث نزوله عليه السّلام وإتيانه بالمنزّل ، وقوله : ما كذب الفؤاد ما رأى ، بين به أنه لما عرفه وحققه لم يكذّبه فؤاده بعد ذلك فى أنه جبريل ، ولو تصور بغير تلك الصورة.
(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى ؟ ) أي أ فتكذبونه وتجادلونه فيما رآه بعينه من صورة جبريل عليه السّلام له.
(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى . عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى ) أي ولقد رأى النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم جبريل فى صورته التي خلقه اللّه عليها عند شجرة النبق التي ينتهى إليها علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا اللّه قاله ابن عباس.
وقد يكون المراد بالمنتهى اللّه عز وجل أي سدرة اللّه الذي إليه المنتهى كما قال سبحانه « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » وعند هذه السدرة الجنة التي يأوى إليها المتقون يوم القيامة قاله الحسن البصري.
وعلينا أن نؤمن بهذه الشجرة كما وصفها اللّه ، ولا نعين مكانها ولا نصفها بأوصاف أكثر مما وصفها به الكتاب الكريم ، إلا إذا ورد عن المعصوم صلّى اللّه عليه وسلم ما يبين ذلك ويثبت لدينا بالتواتر ، لأن ذلك من علم الغيب الذي لم يؤذن لنا بعلمه.(27/48)
ج 27 ، ص : 49
روى أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم أنها فى السماء السابعة ، نبتها كقلال هجر ، وأوراقها مثل آذان الفيلة ، يسير الراكب فى ظلها سبعين خريفا لا يقطعها.
والمشاهد فى الدنيا أن النبات يعيش إذا وجد التراب والماء والهواء ، ولكن لاعجب فاللّه يخلقه فى أي مكان شاء ، كما أخبر عن شجرة الزقوم أنها تنبت فى أصل الجحيم.
وقصارى ما سلف - إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رأى جبريل فى صورته الحقيقية مرتين : مرة وهو فى غار حراء فى بدء النبوة ، والثانية فى ليلة المعراج ولم يكن ذلك فى الأرض بل كان عند شجرة نبق عن يمين العرش وهى فى منتهى الجنة : أي آخرها ، وعلم الملائكة ينتهى إليها.
وقد تقدم أن الصحيح أن الصعود إلى الملإ الأعلى كان روحيا لا جسمانيا كما روى عن جمع من الصحابة رضوان اللّه عليهم.
(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ) أي رآه حين غطى السدرة ما غطاها من الخلائق الدالة على عظمة اللّه وجلاله ، ومن الإشراق والحسن ، ومن الملائكة وقد أبهم ذلك الكتاب الكريم ، فعلينا أن نكتفى بهذا الإبهام ولا نزيده إيضاحا بلا دليل قاطع ، ولا حجة بينة ، ولو علم اللّه الخير لنا فى البيان لفعل.
(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) أي ما مال بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكّن منها ، وما جاوزها إلى رؤية ما لم يؤمر برؤيته.
والخلاصة - إنه رأى رؤية المستيقن المحقق لما رأى.
(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) أي ولقد رأى الآيات الكبرى من آيات ربه وعجائبه الملكوتية.
روى البخاري وابن جرير وابن المنذر فى جماعة آخرين عن ابن مسعود أنه قال(27/49)
ج 27 ، ص : 50
فى الآية : رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق ، وعن ابن زيد أنه رأى جبريل بالصورة التي هو بها.
وعلينا ألا نحصر ما رآه فى شىء بعينه بعد أن أبهمه القرآن ، إذ هو قد رأى من الآيات الكبرى ما يجل عنه الحصر والاستقصاء.
[سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 26]
أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)
أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26)
تفسير المفردات
اللات والعزى ومناة : أصنام كانت تعبدها العرب فى جاهليتها ، فاللات كانت لثقيف. وأصل ذلك أن رجلا كان يلت السويق للحاج ، فلما مات عكفوا على قبره يعبدونه ثم صنعوا له صورة وعبدوها ، والعزى : شجرة بغطفان كانوا يعبدونها ، وبعث النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد الإسلام خالد بن الوليد ليقطعها ، فجعل يضربها بفأسه ويقول :
يا عزّ كفرانك لا سبحانك إنى رأيت اللّه قد أهانك
ومناة : صخرة كانت لهذيل وخزاعة ، وكانت دماء النسائك تمنى عندها :
أي تراق ، والأخرى : أي المتأخرة الوضيعة القدر كما جاء فى قوله : « قالَتْ أُخْراهُمْ(27/50)
ج 27 ، ص : 51
لِأُولاهُمْ »
أي وقال وضعاؤهم لأشرافهم ورؤسائهم ، وقد جاء لفظ (الأخرى) بهذا المعنى بين المصريين فيقول : هو الآخر وهى الأخرى ، يريدون الضعة وتأخر القدر والشرف ، ضيزى : من ضزته حقه (بالضم والكسر) أي نقصته ، والمراد أنها قسمة جائرة غير عادلة ، قال امرؤ القيس :
ضازت بنو أسد بحكمهم إذ يجعلون الرأس كالذنب
المعنى الجملي
بعد أن بين ما رآه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم من العجائب ليلة المعراج - قال للمشركين ماذا رأيتم فى هذه الأصنام ؟ وكيف تحصرون أنفسكم فى العالم المادي وأصنامه ، وتقطعون على أنفسكم طريق التقدم والارتقاء ، وإن النفس لا ترقى إلا بما استعدت له ، فإذا وقفت النفوس عند هذه المادة وتلك الأصنام لم يكن لها عروج إلى السماء ، ولا سيما أن هذه الأصنام لا تشفع لهم عند ربهم ولا تجديهم نفعا.
الإيضاح
(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ؟ ) أي أ فبعد أن سمعتم ما سمعتم من آثار كمال اللّه عز وجل وعظمته فى ملكه وملكوته ، وجلاله وجبروته ، وأحكام قدرته ونفاذ أمره ، وأن الملائكة على رفعة مقامهم وعلوّ قدرهم ينتهون إلى السدرة ويقفون عندها - تجعلون هذه الأصنام على حقارة شأنها شركاء للّه مع ما علمتم من عظمته.
وفى هذا تقريع شديد ، وتوبيخ عظيم ، وتأنيب لا إلى غاية ، وإن عاقلا لا ينبغى أن يخطر بباله مثل هذا ، ويمتهن رأيه إلى هذا الحد.
روى أن أبا سفيان قال يوم أحد : لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : قولوا : اللّه مولانا ولا مولى لكم.(27/51)
ج 27 ، ص : 52
وبعد أن أنّبهم على سخف عقولهم ، وسفاهة أحلامهم ، بعبادتهم الأصنام التي كانوا يزعمون أنها هياكل للملائكة ، والملائكة بنات اللّه - وبخهم على نسبة البنات إليه سبحانه وهم لا يرضونها لأنفسهم فقال :
(أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ؟ ) أي أ تجعلون له ولدا وتجعلون هذا الولد أنثى ؟ وتختارون لأنفسكم الذكران ، على علم منكم أن البنات ناقصات والبنين كاملون ، واللّه كامل العظمة ، فكيف تنسبون إليه الناقص ، وأنتم على نقصكم تنسبون إلى أنفسكم الكامل.
(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) أي تلك قسمة جائرة غير مستوية ، ناقصة غير تامة ، لأنكم جعلتم لربكم ما تكرهونه لأنفسكم ، وآثرتم أنفسكم بما ترضون لها.
ثم أنكر عليهم ما ابتدعوه من الكذب والافتراء فى عبادة الأصنام وتسميتها آلهة فقال :
(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي إن هذه الأصنام التي تسمونها آلهة - هى أسماء فحسب وليس لها مسميات هى آلهة البتة ، كما تزعمون وتعتقدون أنها تستحق أن يعكف على عبادتها وتقديم القرابين إليها ، وليس لكم من حجة ولا برهان تؤيدون به ما تقولون ، وإنما قلّد فيها الآخر الأول ، وتبع فى ذلك الأبناء الآباء.
ولا يخفى ما فى ذلك من التحقير ، كما تقول : ما هو إلا اسم إذا لم يكن مشتملا على صفة معتبرة لها شأن وقدر.
ونحو الآية قوله تعالى « ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً » الآية.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم ، وإلا حظوظ نفوسهم فى رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين.(27/52)
ج 27 ، ص : 53
والخلاصة - إنكم تعبدون هذه الأصنام توهما منكم أن ما عليه آباؤكم حق ، وإشباعا لشهوات أنفسكم.
ثم بين أنه ما كان ينبغى لهم ذلك ، لأنه قد جاءهم ما ينبههم إلى سوء رأيهم وعظيم غفلتهم فقال :
(وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى ) أي هم يتبعون ما كان عليه أسلافهم وينقادون إلى آرائهم ، وقد أرسل اللّه إليهم الرسول بالحق المنير ، والحجة الواضحة ، وقد كان ينبغى أن يكون لهم فى ذلك مزدجر ، لكنهم أعرضوا عنه وتولوا « كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » .
وبعد أن بين أن جعلهم الأصنام شركاء للّه لا يستند إلى دليل ، بل لا يستند إلا إلى التشهي والهوى واتباع الظن - ذكر أنها مع هذا لا تجديهم نفعا ، فهى لا تشفع لهم عند اللّه ، ولا يظفرون منها بجدوى فقال :
(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى ؟ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى ) أي بل ألهم ما يتمنونه من شفاعة الآلهة يوم القيامة كلا إن هذا لن يكون ، ولن يجديكم ذلك فتيلا ولا قطميرا ، فإن كل ما فى الدنيا والآخرة فهو ملك له تعالى ، ولا دخل لهذه الأصنام فى شىء منه.
وهذا تيئيس لهم من أن ينالوا خيرا من عبادتها والتقرب إليها ، ولا تكون وسيلة لهم عند ربهم.
ثم حرمهم فائدة عبادتها من وجه آخر فقال :
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى ) أي وكثير من الملائكة لا تفيد شفاعتهم شيئا إلا إذا أذن بها ربهم لمن يشاء ويرضى عنهم ممن أخلصوا له فى القول والعمل ، وإذا كان هذا حال الملائكة وهم عالم روحى لهم القرب من ربهم والزلفى لديه ، فما بالكم بأصنام أرضية ميتة لا روح فيها ولا حياة ، فهى بعيدة كل البعد عن الذات الأقدس.(27/53)
ج 27 ، ص : 54
وخلاصة ذلك - إنه لا مطمع لهم فى شفاعة هذه الأصنام ، ولا تجديهم نفعا فى هذا اليوم.
[سورة النجم (53) : الآيات 27 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
المعنى الجملي
بعد أن عاب عليهم عبادتهم للأصنام والأوثان ، وادعاءهم أن للّه ولدا من الملائكة ، ورد عليهم بأن هذه الأصنام التي جعلوها آلهة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، فما هى إلا أسماء ليس لها مسميات هى آلهة كما تدّعون ، فلا هى تشفع لهم ، ولا تجديهم فتيلا ولا قطميرا ، فإن الملائكة الكرام لا يشفعون عند ربهم إلا إذا أذن لهم ، ورضى عمن يشفعون له ، فأجدر بمثل هؤلاء ألا يستطيعوا شفاعة عنده.
عاد فعاب عليهم هنة أخرى ، وهى تسميتهم الملائكة بنات اللّه ، وأبان لهم أن هذه مقالة شنعاء لا تصدر إلا عمن لا يؤمن بالآخرة والحساب والعقاب ، فمن أين أتاهم أن للّه أولادا هن ملائكته ؟ والولد إنما يطلب للمساعدة وقت الحاجة ، ولحسن الأحدوثة ، ولحفظ الصيت ، واللّه غنى عن كل ذلك ، ولو صح ما يقولون ، فلم اختاروا له البنات دون البنين ؟ أ فلا يساوونه بأنفسهم ويجعلون له ولدا من الذكور لا من الإناث ؟ فما هذا منهم إلا أباطيل لا تغنى عن الحق شيئا ، وعليك أيها الرسول أن تعرض عن هؤلاء(27/54)
ج 27 ، ص : 55
الذين لا همّ لهم إلا جمع حطام الدنيا ، والتمتع بزخرفها ، وإن ربك هو العليم بحالهم ، وما تخفى صدورهم ، وسيحاسبهم على النقير والقطمير ، ويجازيهم بما يقولون ويعتقدون جزاء وفاقا.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى ) أي إن هؤلاء الذين لا يؤمنون بالبعث وما بعده من أحوال الدار الآخرة على الوجه الذي بيّنته الرسل يضمون إلى كفرهم مقالة شنعاء وجهالة جهلاء وهى قولهم : الملائكة بنات اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
وإنما جعلها مقالة من لا يؤمن ، للاشارة إلى أنها بلغت من الفظاعة حدا لا يمكن معه أن تصدر من موقن بالجزاء والحساب ، فقد اشتملت على جريمتين أولاهما نسبة الولد إلى اللّه ، ثانيتهما أن الولد أنثى تفضيلا لأنفسهم على بارئهم وموجدهم من العدم.
(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) أي وليس لهم بذلك برهان ، ولا أتى لهم به وحي حتى يقولوا ما قالوا.
ثم أكد نفى علمهم الحق بذلك فقال :
(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) أي إن معرفة الشيء معرفة حقيقية يجب أن تكون عن يقين لا عن ظن وتوهم ، وأنتم لا تتبعون فيما تقولون فى هذه التسمية إلا الظن والتوهم ، وليس هذا من سبيل العلم فى شىء ،
وقد جاء فى الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث » .
ونحو الآية قوله تعالى : « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ » .(27/55)
ج 27 ، ص : 56
والخلاصة - إن مثل هذا الاعتقاد إما أن يكون عن دليل عقلى والعقل لا يركن إليه فى مثل هذا ، وإما عن وحي ولم يصل إليهم شىء منه يخبرهم بما يقولون.
ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم فقال :
(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) أي فأعرض عن مثل هؤلاء الذين أعرضوا عن كتابنا ولم يأخذوا بما فيه مما يوصل إلى سعادتهم فى المعاش والمعاد من المعتقدات الحقة وقصص الأولين المذكّرة بأمور الآخرة وما فيها من نعيم مقيم أو عذاب أليم ، واقتصروا على شئون الدنيا ورضوا بزخرفها وجدّوا فى بلوغ أسمى المراتب فيها كما فعل النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة وأضرابهما.
والخلاصة - لا تبالغ فى الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك فى أمور الدنيا ، وجعلها منتهى همته ، وأقصى أمنيته ، وقصارى سعيه ، فلا سبيل إلى إيمان مثله ، فلا تبخع نفسك على مثله أسفا وحزنا كما قال : « لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » .
ثم أكد ما مضى من أن همتهم مقصورة على الحياة الدنيا بقوله :
(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إن منتهى علمهم أن يتفهموا شئون الحياة الدنيا ، ويتمتعوا باللذات ، ويتصرفوا فى التجارات ، ليحصلوا على ما يكون لهم فيها من بسطة فى المال ، وسعة فى الرزق ، ويكونوا ممن يشار إليهم بالبنان ، وما به يذكرون لدى الناس ، ولا يعنون بما وراء ذلك ، فشئون الآخرة دبر أذنهم ، ووراء ظهورهم ، لا يعرفون منها قبيلا من دبير.
روى أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضى اللّه عنها قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له »
وفى الدعاء المأثور « اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا » .(27/56)
ج 27 ، ص : 57
ثم ذكر السبب فى الأمر بالإعراض عنهم فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى ) أي إن ربك هو العليم بمن واصل ليله بنهاره ، وصباحه بمسائه ، مفكرا فى آياته فى الكون ، وفيما جاء على ألسنة رسله ، حتى اهتدى إلى الحق الذي ينجيه فى آخرته ، ويبلغه رضوان ربه ، ويبلغه سعادة الدنيا بالسير على السنن التي وضعها فى خليقته ، فاحتذى حذوها ، وسار على إثرها - وبمن حاد عن طريق النجاة وجعل إلهه هواه وركب رأسه ، فلم يلو على شىء مما جاء به الداعي الناصح الأمين ، وإنه لمجاز كلّا بما كسب واكتسب ، وسيجزيه على الجليل والحقير ، والصغير والكبير ، بحسب ما أحاط به واسع علمه ، وبمقدار فضله على من أخبت إليه كما قال : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » ونكاله بمن دسّى نفسه واجترح السيئات ، مصداقا لقوله : « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ » .
والخلاصة - إن هؤلاء قوم لا تجدى فيهم الذكرى ، ولا تؤثر فيهم العظة ، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.
[سورة النجم (53) : الآيات 31 الى 32]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)(27/57)
ج 27 ، ص : 58
تفسير المفردات
بما عملوا : أي بالعقاب على عملهم ، بالحسنى : أي بالمثوبة الحسنى وهى الجنة ، كبائر الإثم : ما يكبر عقابه كالزنا وشرب الخمر ، والفواحش : واحدها فاحشة وهى ما عظم قبحها من الكبائر ، واللمم : ما صغر من الذنوب كالنظرة والقبلة ، وهو فى اللغة اسم لما قلّ قدره ومنه لمّة الشعر ، وقيل اللمم : الدنو من الشيء دون ارتكابه من قولهم ألممت بكذا : أي قاربت منه ، وعليه فالمراد به الهمّ بالذنب وحديث النفس دون حدوث فعل ، ومن ثم قال سعيد بن المسيّب : هو ما خطر على القلب ، والأجنة :
واحدها جنين ، وهو الولد ما دام فى البطن.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه رسوله بالإعراض عن المشركين مع شدة ميله إلى إيمانهم ، وتطلعه إلى هدايتهم ، وتعلقه بصلاحهم وإرشادهم وهم قومه وعشيرته ، وأبان له أن هؤلاء قوم انصرفوا عن النظر إلى الحق ، ووجهوا همّهم إلى زخرف الدنيا ، وأن منتهى علمهم التصرف فى شئونها ، فهى قبلتهم التي إليها يحجون ، ومطمح أنظارهم الذي إليه يرنون ، وذكر أنه هو العليم باستعدادهم ، وأنهم قوم ضالون لا يصل الحق إلى شغاف قلوبهم ، ولا يلتفتون إليه بعيونهم.
ذكر هنا أنه لا يهملهم ، بل سيجزيهم بسوء صنيعهم ، وهو العليم بما فى السموات والأرض ، فلا يترك عباده هملا ، بل يجازيهم بعدله ، فيثيب المحسن بالجنة ، ويعاقب المسيء على سوء صنيعهم بما هو أهله ، ثم أردف ذلك ذكر أوصاف المحسنين وأنهم هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، ولا يقع منهم إلا اللمم من صغائر الذنوب الفينة بعد الفينة ، ويتوبون منه ولا يصرّون عليه ، ثم حذّر عباده بأنه لا تخفى عليه خافية من أمورهم من حين أن كانوا أجنة فى بطون أمهاتهم إلى أن يموتوا ، فيعلم المطيع من المعاصي ، فلا حاجة للعبد إذا إلى مدح نفسه بفعل الطاعات ، واجتناب السيئات.(27/58)
ج 27 ، ص : 59
الإيضاح
(وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن ما فى السموات وما فى الأرض تحت قبضته وسلطانه ، وله التصرف فيه خلقا وملكا وتدبيرا ، فهو العليم به لا تخفى عليه خافية من أمره ، فلا تظنوا أنه يهمل أمركم ، كلا ، فإنه مجاز كل نفس بما كسبت من خير أو شر ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) أي فهو يجازى بحسب علمه المحيط بكل شى ء - المحسن بالإحسان ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ويمتعه بنعيم لا يخطر على قلب بشر ، والمسيء بصنيع ما أساء ، وبما دسّى به نفسه من ضروب الشرك والمعاصي ، وبما ران على قلبه من كبائر الذنوب والآثام ، وقد أضله اللّه على علم ، وختم على سمعه وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة.
ثم ذكر أوصاف المحسنين فقال :
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) أي إن المحسنين هم الذين يبتعدون عما عظم شأنه من كبائر المعاصي كالشرك باللّه وقتل النفس التي حرم اللّه بغير حق والزنا ، ولا تقع منهم إلا صغائرها ، فيتوبون إلى ربهم ويندمون على ما فرط منهم.
ونحو الآية قوله : « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً » .
والمشهور أن الكبائر سبع وروى ذلك عن علىّ كرم اللّه وجهه واستدلوا عليه بما
روى فى الصحيحين « اجتنبوا السبع الموبقات : الإشراك باللّه تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم اللّه إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » .(27/59)
ج 27 ، ص : 60
وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له : الكبائر سبع ، فقال هى إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار اه.
وقيل الكبيرة : كل ذنب ختمه اللّه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو حدّ فى الدنيا ، أو أقدم صاحبه عليه من غير استشعار خوف أو ندم ، أو ترتب عليه مفاسد كبيرة ، ولو كان فى نظر الناس صغيرا ، فمن أمسك إنسانا ليقتله ظالم ، أو دل العدو على عورات البلاد فقد فعل أمرا عظيما ، فيكون أكل مال اليتيم إذا قيس على هذين قليلا مع أنه من الكبائر.
ثم ذكر ما يدفع اليأس عن صاحب الكبيرة فى غفران ذنبه فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) فيغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، وله أن يغفر ما يشاء من الذنوب بعد التوبة الصادقة ، والندم على ما فرط من مرتكبها إذا أخبت لربه وتجافى عن ذنبه.
ونحوه قوله تعالى : « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ » .
ثم أكد ما قبله وقرره بقوله :
(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أي هو بصير بأحوالكم ، عليم بأقوالكم وأفعالكم حين ابتدأ خلقكم من التراب ، وحين صوّركم فى الأرحام ، على أطوار مختلفة ، وصور شتى.
(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ) أي فإذا علمتم ذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة من المعاصي ، أو بزكاة العمل وزيادة الخير ، بل اشكروا للّه على فضله ومغفرته ، فهو العليم بمن اتقى المعاصي ، ومن ولغ فيها ودنّس نفسه باجتراحها.(27/60)
ج 27 ، ص : 61
والنهى عن تزكية النفس إنما يكون إذا أريد بها الرياء أو الإعجاب بالعمل ، وإلا فلا بأس بها ولا تكون منهيا عنها ، ومن ثم قيل : المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر.
ونحو الآية قوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا » .
أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبى سلمة أنها سمّيت (برّة) فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تزكّوا أنفسكم ، اللّه أعلم بأهل البرّ منكم ، سمّوها زينب » .
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 54]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52)
وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)(27/61)
ج 27 ، ص : 62
تفسير المفردات
تولى : أي أعرض عن اتباع الحق والثبات عليه ، وأكدى : أي قطع العطاء من قولهم : حفر فأكدى. أي بلغ إلى كدية أي صخرة تمنعه من إتمام العمل ، ينبأ : أي يخبر ، وصحف موسى هى التوراة ، وصحف إبراهيم ما نزل عليه من الشرائع ، ووفّى :
أي أتم ما أمر به ، أن لا تزر وازرة وزر أخرى : أي لا تحمل نفس حمل نفس أخرى ، يرى : أي يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن ، وتوبيخا للمسىء ، يجزاه : أي يجزى سعيه يقال جزاه اللّه بعمله ، وجزاه على عمله ، وجزاه عمله ، المنتهى :
أي المعاد يوم القيامة والجزاء حين الحشر ، تمنى : أي تدفع فى الرحم من قولهم : أمنى الرجل ومنى : أي صبّ المنىّ ، والنشأة الأخرى : هى إعادة الأرواح إلى الأجساد حين البعث ، أغنى وأقنى : أي أغنى من شاء وأفقر من شاء ، والشعرى : هى الشعرى العبور وهى ذلك النجم الوضاء الذي يقال له مرزم الجوزاء وقد عبدته طائفة من العرب ، وعاد الأولى : هم قوم هود وهم ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح ، وعاد الأخرى : من ولد عاد الأولى ، والمؤتفكة هى قرى قوم لوط ، سميت بذلك ، لأنّها ائتفكت بأهلها :
أي انقلبت بهم ، ومنه الإفك لأنه قلب الحق ، أهوى : أي أسقط فى الأرض ، غشاها :
أي غطّاها.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه علمه وقدرته ، وأن الجزاء واقع على الإساءة والإحسان ، وأن المحسن هو الذي يجتنب كبائر الإثم ، وهذا لا يعرف إلا بالوحى من اللّه تعالى. ذكر هنا أن من العجب العاجب بعد هذا أن يسمع سامع ، ويرجو عاقل أن غيره يقوم مقامه(27/62)
ج 27 ، ص : 63
فى تحمل وزره ويعطيه جعلا ، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى وقف عن العطاء ، ومن ثم وبخه على ذلك ، بأن علم هذا لا يكون إلا بوحي ، فهل علم منه صحة ما اعتقد ؟ كلا فجميع الشرائع المعروفة لكم كشريعة موسى وإبراهيم على غير هذا ، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، فمن أين وصل له أن ذلك مجز له.
قال مجاهد وابن زيد : إن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة ، وكان قد سمع قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وجلس إليه ووعظه فلان قلبه للإسلام فطمع فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم إنه عاتبه رجل من المشركين وقال له : أ تترك ملة آبائك ؟ ارجع إلى دينك ، واثبت عليه ، وأنا أتحمل عنك كل شىء تخافه فى الآخرة لكن على أن تعطينى كذا وكذا من المال ، فوافقه الوليد على ذلك ، ورجع عما همّ به من الإسلام ، وضل ضلالا بعيدا ، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح.
وقد ذكر سبحانه ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى :
(1) ألا يؤاخذ امرؤ بذنب غيره.
(2) ألا يثاب امرؤ إلا بعمله.
(3) إن العامل يرى عمله فى ميزانه ، خيرا كان أو شرا.
(4) إنه يجازى عليه الجزاء الأوفى فتضاعف له حسناته إلى سبعمائة ضعف ، ويجازى بمثل سيئاته.
(5) إن الخلائق كلهم راجعون يوم المعاد إلى ربهم ، ومجازون بأعمالهم.
(6) إنه تعالى خلق الضحك والبكاء والفرح والحزن.
(7) إنه سبحانه خلق الذكر والأنثى من نطفة تصب فى الأرحام.
(8) إنه تعالى خلق الموت والحياة.
(9) إنه هو الذي أعطى الغنى والفقر ، وكلاهما بيده وتحت قبضته.(27/63)
ج 27 ، ص : 64 (10) إنه هو رب الشعرى ، وكانت خزاعة تعبدها (11) إنه أهلك عادا الأولى ، وقد كانوا أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح.
(12) إنه أهلك ثمود فما أبقاهم ، بل أخذهم بذنوبهم.
(13) إنه أهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود ، وقد كانوا أظلم من الفريقين.
(14) إنه أهلك المؤتفكة وهى قرى قوم لوط وقد انقلبت بأهلها ، وغطّاها بحجارة من سجيل.
الإيضاح
(أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى : وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى . أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى ؟ ) أي أعلمت شأن هذا الكافر ؟ وهل بلغك شأنه العجيب ، فقد أشرف على الإيمان واتباع هدى الرسول ، فوسوس له شيطان من شياطين الإنس بألا يقبل نصح الناصح ، ويرجع إلى دين آبائه ، ويتحمل ما عليه من وزر إذا هو أعطاه قليلا من المال ، فقبل ذلك منه ، لكنه ما أعطاه إلا قليلا حتى امتنع من إعطائه شيئا بعد ذلك ، أ فعنده علم بأمور الغيب ، فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ما يخاف من أوزاره يوم القيامة ؟ .
وقصارى ذلك - أخبرنى بأمر هذا الكافر وحاله العجيبة ، إذ قبل أن سواه يحمل أوزاره إذا أدّى له أجرا معلوما ، أ أنزل عليه وحي فرأى أن ما صنعه حق ؟
ثم أكد هذا الإنكار فذكر أن الشرائع التي يعرفونها على غير هذا فقال :
(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) أي ألم يخبر بما نصت عليه التوراة ، وما ذكر فى شرائع إبراهيم الذي وفّى بما عاهد اللّه عليه ، وأتم ما أمر به ، وأدى رسالته على الوجه المرضى ، يدل على ذلك قوله : « وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » .(27/64)
ج 27 ، ص : 65
قال ابن عباس : وفّى بسهام الإسلام كلها وهى ثلاثون سهما لم يوفّها أحد غيره ، منها عشرة فى براءة « إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ » الآيات ، وعشرة فى الأحزاب « إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ » الآيات ، وستة فى « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ » الآيات ، وأربعة فى سأل سائل « وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ » الآيات.
وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لم يحتمل غيره ، وفى قصة الذبح ما فيه الغناء فى ذلك.
وإنما ذكر ما جاء فى شريعتى هذين النبيين فحسب ، لأن المشركين كانوا يدّعون أنهم على شريعة أبيهم إبراهيم ، وأهل الكتاب كانوا يدعون أنهم متبعون ما فى التوراة وصحفها قريبة العهد منهم.
ثم فصل ما جاء فى هاتين الشريعتين فقال :
(1) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) أي لا تحمل نفس ذنوب نفس أخرى ، فكل نفس اكتسبت إثما بكفر أو معصية فعليها وزرها لا يحمله عنها أحد كما قال :
« وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » ، (2) (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) أي كما لا يحمل على الإنسان وزر غيره ، لا يحصل له من الأجر إلا ما كسب لنفسه ، ومن هذا استنبط مالك والشافعي ومن تبعهما أن القراءة لا يصح إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، وهكذا جميع العبادات البدنية كالصلاة والحج والتلاوة ، ومن ثم لم يندب إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم أمته ولا حثهم عليها ولا أرشدهم إليها بنص ولا إيماء ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضى اللّه عنهم ، ولو كان خيرا لسبقونا إليه ، أما الصدقة فإنها تقبل وما
رواه مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة من قوله صلّى اللّه عليه وسلم « إذا مات ابن آدم(27/65)
ج 27 ، ص : 66
انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعوله ، وصدقة جارية من بعده ، وعلم ينتفع به »
فهى فى الحقيقة من سعيه وكدّه وعمله ، كما
جاء فى الحديث : « إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولد الرجل من كسبه »
والصدقة الجارية كالوقف ونحوه على أعمال البرهى من آثار عمله ، وقد قال تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ » الآية ، والعلم الذي نشره فى الناس فاقتدوا به واتبعوه - هو من سعيه ،
فقد ثبت فى الصحيح « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجر من اتبعه من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا » .
ومذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء أن ثواب القراءة يصل إلى الموتى إن لم تكن القراءة بأجر ، أما إذا كانت به كما يفعله الناس اليوم من إعطاء الأجر للحفاظ للقراءة على المقابر وغيرها - فلا يصل إلى الميت ثوابها ، إذ لا ثواب لها حتى يصل إليهم ، لحرمة أخذ الأجر على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه.
(3) (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ) أي إن عمله سيعرض يوم القيامة على أهل المحشر ويطلعون عليه ، فيكون فى ذلك إشادة بفضل المحسنين ، وتوبيخ للمسيئين.
ونحو هذا قوله : « وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .
(4) (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى ) أي ثم يجزى بعمله أوفى الجزاء وأوفره ، فيضاعف اللّه له الحسنة ويبلغها سبعمائة ضعف ، ويجازى بالسيئة مثلها أو يعفو عنها كما قال :
« نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ » .
(5) (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى ) أي وأن مرجع الأمور يوم الميعاد إلى ربك ، فيحاسبهم على النقير والقطمير ، ويثيبهم أو يعاقبهم بالجنة أو النار.
وفى هذا تهديد بليغ للمسىء ، وحث شديد للمحسن ، وتسلية لقلبه صلّى اللّه عليه وسلم ، كأنه يقول له : لا تحزن أيها الرسول ، فإن المنتهى إلى اللّه.(27/66)
ج 27 ، ص : 67
ونحو الآية قوله : « فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ » إلى أن قال فى آخر السورة « وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » وأمثال ذلك كثيرة فى القرآن.
(6) (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى ) أي وأنه خلق فى عباده الضحك والبكاء وسببهما ، والمراد أنه خلق ما يسرّ وما يحزن من الأعمال الصالحة ، والأعمال الطالحة.
(7) (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي وأنه خلق الموت والحياة كما جاء فى قوله :
« الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ » فهو يميت من يشاء موته ، ويحيى من يشاء حياته ، فينفخ الروح فى النطفة الميتة فيجعلها حية.
(8) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى . مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى ) أي وأنه خلق الذكر والأنثى من الإنسان وغيره من الحيوان من المنى الذي يدفق فى الأرحام.
(9) (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى ) أي وأن عليه الإحياء بعد الإماتة ، ليجازى كل من المحسن والمسيء على ما عمل.
(10) (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى ) أي وأنه تعالى يغنى من يشاء من عباده ، ويفقر من يشاء بحسب ما يرى من استعداد كل منهما ومقدرته على كسب المال بحسب السنن المعروفة فى هذه الحياة.
وفى هذا تنبيه إلى كمال القدرة ، فإن النطفة جسم متناسب الأجزاء فى الظاهر ، ويخلق اللّه تعالى منها أعضاء مختلفة ، وطباعا متباينة من ذكر وأنثى ، ومن ثم لم يدّع أحد خلق ذلك ، كما لم يدّع خلق السموات والأرض كما قال : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » .
ونحو الآية قوله : « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ » .
(11) (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى ) أي وأنه تعالى رب هذا الكوكب الوهاج الذي تطلع خلف الجوزاء فى شدة الحر.(27/67)
ج 27 ، ص : 68
وإنما خصها بالذكر من بين الأجرام السماوية ، وفيها ما هو أكبر منها جرما وأكثر ضوءا ، لأنها عبدت من دون اللّه فى الجاهلية ، فقد عبدتها حمير وخزاعة ، وأول من سن عبادتها أبو كبشة وكان من أشراف العرب ، وكانت قريش تقول لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ابن أبى كبشة تشبيها له به ، لمخالفته دينهم كما خالفهم أبو كبشة ، وكان من أجداد النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من قبل أمه ، ومن ذلك قول أبى سفيان حين دخوله على هرقل : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة.
ومن العرب من كانوا يعظمونها ، ويعتقدون أن لها تأثيرا فى العالم ويتكلمون على المغيبات حين طلوعها.
وهى شعريان إحداهما شامية ، وثانيتهما يمانية وهى المرادة هنا وهى التي كانت تعبد من دون اللّه.
(12) (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى ) وهى قوم هود عليه السلام ، وعاد الأخرى هى إرم بن سام بن نوح كما قال : « أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ ؟ » وقد كانوا من أشد الأمم وأقواهم وأعتاهم على اللّه ورسوله ، فأهلكهم « بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً » أي متتابعة.
وقال المبرد : وعاد الأخرى هى ثمود ، وقيل عاد الأخرى من ولد عاد الأولى.
(13) (وَثَمُودَ فَما أَبْقى ) أي وأهلك ثمود فما أبقى عليهم ، بل أخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر.
ونحو الآية قوله : « فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ » .
(14) (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) أي وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود ، وكانوا أظلم من هذين ، لأنهم بدءوا بالظلم ، و« من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » وأطغى منهما وأكثر تجاوزا للحد ، لأنهم سمعوا المواعظ(27/68)
ج 27 ، ص : 69
وطال عليهم الأمد ولم يرتدعوا حتى دعا عليهم نبيهم بقوله : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » .
وقد كان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه ويمشى إلى نوح يحذره منه ويقول يا بنى إن أبى مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ ، فإياك أن تصدّقه ، فيموت الكبير على الكفر ، وينشأ الصغير على وصية أبيه ، لا يتأثر من دعائه له.
(15) (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى ، فَغَشَّاها ما غَشَّى) أي وأهلك قوم لوط بانقلاب قريتهم عليهم وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود كما قال :
« وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ » وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
فغشاها ما غشى.
وفى هذا الأسلوب تهويل للأمر الذي غشاها به ، وتعظيم له.
[سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 62]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
تفسير المفردات
الآلاء : النعم واحدها ألى (بالفتح والكسر) وتتمارى : تمترى وتشك ، والخطاب للانسان ، هذا نذير من النذر : أي إن محمدا بعض من أنذر ، أزفت : قربت ، والآزفة :
الساعة ، وسميت بذلك لقرب قيامها ، أو لدنوها من الناس كما جاء فى قوله : « اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ » من دون اللّه : أي من غيره ، كاشفة : أي نفس تكشف وقت وقوعها(27/69)
ج 27 ، ص : 70
وتبينه ، لأنها من أخفى المغيبات ، والحديث : القرآن ، سامدون : أي لاهون غافلون من سمد البعير فى سيره إذا رفع رأسه ، فاسجدوا : أي اشكروا على الهداية ، واعبدوا :
أي اشتغلوا بالعبادة والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قبل ما جاء فى صحف موسى وإبراهيم ، من أن الإحياء والإماتة بيد اللّه ، وأنه هو الذي يصرّف أمور العالم خلقا وتدبيرا وملكا ، فيفقر قوما ويغنى آخرين ، وأن أمر المعاد تحت قبضته ، وأن الخلق إذ ذاك يرجعون إليه ، وأن بعض الأمم كذبت رسلها وأنكرت الخالق فأصابها ما أصابها - قفى على هذا بالتعجيب من أمر الإنسان ، وأنه كيف يتشكك فى هذا ويجادل فيه منكرا له ، وقد جاء النذير به ، فعليكم أن تصدّقوه وتؤمنوا به قبل أن يحل بكم عذاب يوم عظيم قد أزف ، ولا يقدر على كشفه أحد إلا هو ، فلا تعجبوا من القرآن منكرين ، ولا تضحكوا منه مستهزئين ، وابكوا حزنا على ما فرّطتم فى جنب اللّه ، وعلى غفلتكم عن مواعظه وحكمه التي فيها سعادتكم فى دنياكم وآخرتكم ، واسجدوا شكرا لبارئ النسم ، الذي أوجدها من العدم ، واعبدوه بكرة وعشيا شكرا على آلائه ، وتقلبكم فى نعمائه.
الإيضاح
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ) أي فبأى نعم ربك عليك أيها الإنسان تمترى وتشك ؟
ونحو الآية قوله : « يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ؟ » وقوله : « وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا » وقوله : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » .(27/70)
ج 27 ، ص : 71
والمراد بالنعم ما عدده من قبل ، وجعلت كلها نعما ، وبعضها نقم ، لما فى النقم من المواعظ والعبر للمعتبرين ، من الأنبياء والمؤمنين.
والخلاصة - إنها كلها دالة على وحدانية ربك وربوبيته ، ففى أيها تتشكك على وضوحها للناظرين ، ووجوه دلالتها للمعتبرين ؟ .
(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى ) أي إن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم منذر من حاد عن طريق الهدى ، وسلك طريق الضلال والهوى ، بسىء العواقب ، فى العاجل والآجل ، وهو كمن قبله من الرسل الذين أرسلهم ربهم لهداية خلقه ، فكذبوهم فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وحل بهم البوار والنكال ، كفاء تكذيبهم وجحودهم آلاء ربهم ، ونعمه التي تترى عليهم.
ونحو الآية قوله : « إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ » وقوله صلّى اللّه عليه وسلم « أنا النذير العريان » أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس شيئا ، وبادر إلى إنذار قومه وجاءهم مسرعا.
(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي اقتربت الساعة ، ونصب الميزان ، وستجازى كل نفس بما عملت من خير أو شر ، فاحذروا أن تكونوا من الهالكين ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم ، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.
ونحو الآية قوله : « إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ، لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ »
وفى الحديث « مثلى ومثل الساعة كهاتين »
وفرق بين إصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.
(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ) أي ليس هناك من يعرف وقت حلول الآزفة إلا هو ، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تأخذكم الساعة بغتة وأنتم لا تشعرون ، فتندموا ولات ساعة مندم ، وجدّوا للعمل قبل حلول الأجل.
وقد أشار فى هذه الآيات إلى أصول الدين الثلاثة.
(1) وحدانية اللّه بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى ؟ ).(27/71)
ج 27 ، ص : 72
(2) إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلّم بقوله : (هذا نذير) (3) إثبات الحشر والبعث بقوله : (أزفت الآزفة).
ثم أنكر على المشركين تعجبهم من القرآن واستهزاءهم به وإعراضهم عنه فقال :
(أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي أ فينبغي لكم بعد ذلك أن تعجبوا من هذا القرآن وقد جاءكم بما فيه هدايتكم إلى سواء السبيل ، وإرشادكم إلى الطريق المستقيم ، وكيف تسخرون منه وتستهزئون به ، ولا تكونوا كالموقنين الذين وصفهم اللّه بقوله : « وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً » وكيف تلهون عن استماع عبره ، وتغفلون عن مواعظه ، وتتلقونها تلقى اللاهي الساهي المعرض عما يسمع ، غير المكترث بما يلقى إليه.
أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن أبى هريرة قال : لما نزلت « أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ » الآية بكى أصحاب الصّفّة حتى جرت دموعهم على خدودهم ، فلما سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حنينهم بكى معهم ، فبكينا ببكائه ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لا يلج النار من بكى من خشية اللّه تعالى ، ولا يدخل الجنة مصرّ على معصية ، ولو لم تذنبوا لجاء اللّه بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم »
ثم بيّن ما يجب عند سماع القرآن من الإجلال والتعظيم فقال :
(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي فاخضعوا وأخلصوا له العمل حنفاء غير مشركين به ، فهو الذي أنزله على عبده ورسوله هاديا وبشيرا لكم لعلكم ترحمون ، ودعوا ما أنتم فيه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تغنى عنكم شيئا ، فلا تدفع عنكم ضرّا ، ولا تجديكم نفعا كما قال آمرا رسوله أن يقول لهم : « قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ؟ » .(27/72)
ج 27 ، ص : 73
ما تضمنته السورة الكريمة من الأسرار والأحكام
(1) إنزال الوحى على رسوله.
(2) إن الذي علمه إياه هو جبريل شديد القوى.
(3) قرب رسوله من ربه.
(4) إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رأى جبريل على صورته الملكية مرتين.
(5) تقريع المشركين على عبادتهم للأصنام.
(6) توبيخهم على جعل الملائكة إناثا وتسميتهم إياهم بنات اللّه.
(7) مجازاة كل من المحسن والمسيء بعمله.
(8) أوصاف المحسنين.
(9) إحاطة علمه تعالى بما فى السموات والأرض.
(10) النهى عن تزكية المرء نفسه.
(11) الوصايا التي جاءت فى صحف إبراهيم وموسى.
(12) النعي على المشركين فى إنكارهم الوحدانية والرسالة والبعث والنشور.
(13) التعجب من استهزاء المشركين بالقرآن حين سماعه ، وغفلتهم عن مواعظه.
(14) أمر المؤمنين بالخضوع للّه والإخلاص له فى العمل.(27/73)
ج 27 ، ص : 74
سورة القمر
هى مكية إلا قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ. سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) فمدنية.
وآيها خمس وخمسون ، نزلت بعد الطارق.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) مشاكلة آخر السورة السابقة لأول هذه فقد قال هناك : أزفت الآزفة ، وقال هنا : اقتربت الساعة.
(2) حسن التناسق بين النجم والقمر.
(3) إن هذه قد فصلت ما جاء فى سابقتها ، ففيها إيضاح أحوال الأمم التي كذبت رسلها ، وتفصيل هلاكهم الذي أشار إليه فى السابقة بقوله : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى . وَثَمُودَ فَما أَبْقى . وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى ) فما أشبهها مع سابقتها بالأعراف بعد الأنعام ، والشعراء بعد الفرقان.
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)(27/74)
ج 27 ، ص : 75
تفسير المفردات
اقتربت : أي دنت وقربت ، وانشق القمر : أي انفصل بعضه من بعض وصار فرقتين ، آية : أي دليلا على نبوتك ، مستمر : أي مطرد دائم ، أهواءهم : أي ما زينه لهم الشيطان من الوساوس والأوهام ، مستقر : أي منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ، الأنباء أخبار القرون الماضية وما حاق بهم من العذاب جزاء تكذيبهم للرسل ، واحدها نبأ ، بالغة : أي واصلة غاية الإحكام والإبداع ، تغنى : أي تفيد وتنفع ، والنذر : واحدهم نذير بمعنى منذر ، فتولّ عنهم : أي لا تجادلهم ولا تحاجهم ، نكر : أي أمر تنكره النفوس إذ لا عهد لها بمثله ، خشعا : واحدهم خاشع : أي ذليل ، والأجداث : القبور ، مهطعين :
أي مسرعين منقادين ، عسر : أي صعب شديد الهول.
المعنى الجملي
يخبر سبحانه باقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها وأن الأجرام العلوية يختل نظامها على نحو ما جاء فى قوله : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)
روى أنس « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا سفّ يسير ، فقال : والذي نفسى بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه » .
وروى أحمد عن سهل بن سعد قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : (بعثت أنا والساعة هكذا ، وأشار بإصبعيه السبّابة والوسطى).
ثم ذكر أن الكافرين كلما رأوا علامة من علامات نبوتك أعرضوا وكذبوا بها وقالوا إن هذا إلا سحر منك يتلو بعضه بعضا ثم أخبر أن أمرهم سينتهى بعد حين(27/75)
ج 27 ، ص : 76
وسيستقر أمرك ، وسينصرك اللّه عليهم نصرا مؤزّرا ، ثم أعقب هذا بأن عبر الماضين وإهلاك اللّه لهم بعد تكذيبهم أنبياءهم كانت جدّ كافية لهم لو أن لهم عقولا يفكرون بها فيما هم قادمون عليه ، ولكن أنّى تغنى الآيات والنذر عن قوم قد أضلهم اللّه على علم وختم على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة ؟ . ثم أمر رسوله بالإعراض عنهم وسيخرجون من قبورهم أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين إلى إجابة الداعي ، يقول الكافرون منهم هذا يوم شديد حسابه ، عسر عقابه.
الإيضاح
(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي دنت الساعة التي تقوم فيها القيامة ، وقرب انتهاء الدنيا وهذا كقوله : « أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ » وقوله : « اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » .
(وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي وسينشق القمر وينفصل بعضه من بعض حين يختل نظام هذا العالم وتبدل الأرض غير الأرض ، ونحو هذا قوله : « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » وقوله :
« إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ » وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة.
ويرى جمع من المفسرين أن هذا حدث قد حصل ، وأن القمر صار فرقتين على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل الهجرة بنحو خمس سنين ،
فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء (جبل بمكة) بينهما ،
وفى الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود : « انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فرقتين ، فرقة على الجبل وفرقة دونه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اشهدوا » .(27/76)
ج 27 ، ص : 77
و
جاء عنه أيضا : « انشق القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت قريش : هذا سحر بن أبى كبشة ، فقال رجل انتظروا ما يأتيكم به السفّار ، فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس ، فجاء السفار فأخبروهم بذلك » رواه أبو داود والطيالسي ،
وفى رواية البيهقي « فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا رأيناه ، فأنزل اللّه تعالى اقتربت الساعة وانشق القمر » .
والذي يدل على أن هذا إخبار عن حدث مستقبل لا عن انشقاق ماض - أمور :
(1) إن الإخبار بالانشقاق أتى إثر الكلام على قرب مجىء الساعة ، والظاهر تجانس الخبرين وأنهما خبران عن مستقبل لا عن ماض.
(2) إن انشقاق القمر من الأحداث الكونية الهامة التي لو حصلت لرآها من الناس من لا يحصى كثرة من العرب وغيرهم ، ولبلع حدا لا يمكن أحدا أن ينكره ، وصار من المحسوسات التي لا تدفع ، ولصار من المعجزات التي لا يسع مسلما ولا غيره إنكارها.
(3) ما ادعى أحد من المسلمين إلا من شذ أن هذه معجزة بلغت حد التواتر ، ولو كان قد حصل ذلك ما كان رواته آحادا ، بل كانوا لا يعدّون كثرة.
(4) إن حذيفة بن اليمان وهو ذلكم الصحابي الجليل خطب الناس يوم الجمعة فى المدائن حين فتح اللّه فارس فقال : ألا إن للّه تبارك وتعالى يقول : اقتربت الساعة وانشق القمر ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق ، ألا وإن الغاية النار ، والسابق من سبق إلى الجنة ، فهذا الكلام من حذيفة فى معرض قرب مجىء الساعة وتوقع أحداثها ، لا فى كلام عن أحداث قد حصلت تأييدا للرسول وإثباتا لنبوته ، لأن ذلك كان فى معرض العظة والاعتبار.
وبعد أن ذكر قرب مجىء الساعة وكان ذلك مما يستدعى انتباههم من غفلتهم ، والتفكير فى مصيرهم ، والنظر فيما جاءهم به الرسول من الأدلة المثبتة لنبوته ، والمؤيدة(27/77)
ج 27 ، ص : 78
لصدقه ، لكنهم مع كل هذا ما التفتوا إلى الداعي لهم إلى الرشاد ، والهادي لهم إلى سواء السبيل ، بل أعرضوا وتولوا مستكبرين كما قال :
(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) أي وإن ير المشركون علامة تدلهم على حقيقة نبوتك ، وترشدهم إلى صدق ما جئت به من عند ربك ، يعرضوا عنها ويولوا مكذبين بها ، منكرين أن يكون ذلك حقا ، ويقولوا تكذيبا منهم بها :
هذا سحر سحرنا به محمد ، وهو يفعل ذلك على مرّ الأيام.
وفى هذا إيماء إلى ترادف الآيات ، وتتابع المعجزات.
وقال الكسائي والفرّاء واختاره النحاس : إن المراد بالمستمر الذاهب الزائل عن قرب ، إذ هم قد عللوا أنفسهم ومنّوها بالأمانى الفارغة ، وكأنهم قالوا : إن حاله عليه السلام وما ظهر من معجزاته إن هى إلا سحابة صيف عن قريب تقشع ، ولكن أيهات أيهات ، فقد غرّتهم الأمانى : « وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ » .
ثم أكد ما سبق بقوله :
(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي وكذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به أهواؤهم ، لجهلهم وسخف عقولهم.
والخلاصة - إنهم كذبوا النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وتركوا حججه وقالوا :
هو كاهن يقول عن النجوم ويختار الأوقات للأفعال ، وساحر يسترهب الناس بسحره ، إلى أشباه هذا من مقالاتهم التي تدل على العناد وعدم قبول الحق.
ثم سلّى رسوله وهدد المشركين بقوله :
(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي وكل شىء ينتهى إلى غاية تشاكله ، فأمرهم سينتهى إلى الخذلان فى الدنيا والعذاب الدائم فى الآخرة ، وأمرك سينتهى إلى النصر فى الدنيا والجنة فى الآخرة.(27/78)
ج 27 ، ص : 79
وهذه قاعدة عامة تنضوى تحتها حركات الكواكب والأفلاك ونظم العمران وأعمال الأفراد والأمم.
وقصارى ذلك - إن أمر محمد صلّى اللّه عليه وسلّم سيصل إلى غاية يتبين عندها أنه الحق ، وأن ما سواه هو الباطل ، فقد جرت سنة اللّه بأن الحق يثبت ، والباطل يزهق بحسب ما وضعه فى نظم الخليقة (البقاء للأصلح).
ثم ذكر أنهم فى ضلال بعيد ، فإن ما جاء فى القرآن من أخبار الماضين قد كان فيه مزدجر لهم لو كانوا يعقلون ، قال :
(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) أي ولقد جاء هؤلاء المشركين الذين كذبوا بك واتبعوا أهواءهم - من الأخبار عن الماضين الذين كذبوا الرسل فأحل اللّه بهم من العقوبات ما قصه فى كتابه - ما يردعهم ويزجرهم عما هم فيه من القبائح ، إذ أبادهم فى الدنيا وسيعذبهم يوم الدين جزاء وفاقا لما دنسوا به أنفسهم من الشرك بربهم وعصيان رسله ، واجتراحهم للسيئات.
ثم بين الذي جاءهم به فقال :
(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) أي هذه الأنباء غاية الحكمة فى الهداية والإرشاد إلى طريق الحق لمن اتبع عقله وعصى هواه.
(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) أي إن النذر لم يبعثوا ليلجئوا الناس إلى قبول الحق ، وإنما أرسلوا مبلغين فحسب فليس عليك ولا على الأنبياء قبلك الإغناء والإلجاء إلى اتباع سبيل الهدى ، فإذا بلّغت فقد أتيت بما عليك من الحكمة البالغة التي أمرت بها فى نحو قوله « ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ » وتول عنهم بعدئذ.
ونحو الآية قوله « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً » .
ثم أمر رسوله ألا يجادلهم ولا يناظرهم فإن ذلك لا يجدى نفعا فقال :
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي فأعرض عن هؤلاء المشركين المكذبين ولا تحاجهم ،(27/79)
ج 27 ، ص : 80
فإنهم قد بلغوا حدا لا يقنعون معه بحجة ولا برهان ، فأحرى بك ألا تلتفت إلى نصحهم وإرشادهم ، فقد عييت بأمرهم ، وبرمت بعنادهم.
(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) أي واذكر حين ينادى الداعي إلى شىء فظيع تنكره نفوسهم ، إذ لا عهد لها بمثله ، وهو موقف الحساب وما فيه من أهوال.
وقد جرت العادة أن من ينصح شخصا لا يؤثر فيه النصح أن يعرض عنه ويقول لسواه ما فيه نصح للمعرض عنه ، وهدايته وإرشاده لو أراد.
ثم ذكر حال الكافرين فى هذا اليوم فقال :
(خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) أي يخرجون من قبورهم ذليلة أبصارهم من هول ما يرون ، كأنهم فى انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعى - جراد قد انتشر فى الآفاق.
وجاء تشبيهم فى الآية الأخرى بالفراش فى قوله « يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ » .
وهم يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين ، لا يهتدون أين يتوجهون ، لأن الفراش لا جهة لها تقصدها ، ثم يكونون كالجراد المنتشر إذا توجهوا للحشر ، فهما تشبيهان باعتبار وقتين ، وحكى ذلك عن مكى بن أبى طالب.
(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) أي مسرعين إلى الداعي لا يخالفون ولا يتأخرون ، ويقولون هذا يوم شديد الهول سيىء المنقلب.
ونحو الآية قوله : « فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ » .
وفى هذا إيماء إلى أنه هين على المؤمن لا عسر فيه ولا مشقة.(27/80)
ج 27 ، ص : 81
قصص بعض الأنبياء مع أممهم
(1) قصص قوم نوح
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 17]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
تفسير المفردات
وازدجر : أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذى والتخويف ، فانتصر : أي فانتقم لى منهم ، منهمر : أي كثير كما قال :
أعيناى جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معدّ وحاضر
فالتقى الماء : أي ماء السماء وماء الأرض ، على أمر : أي على حال ، قد قدر :
أي قد قدّره اللّه فى الأزل ، ذات ألواح : أي ذات خشب عريضة ، دسر : أي مسامير واحدها دسار ككتب وكتاب ، بأعيننا : أي بمرأى منه والمراد بحراستنا وحفظنا ، كفر :
أي جحد به وهو نوح عليه السلام ، تركناها : أي أبقينا السفينة ، آية : أي علامة ودليلا ، مدكر : أي متذكر ومعتبر ، ونذر : واحدها نذير بمعنى إنذار ، يسرنا : أي سهلنا ، للذكر : أي للعظة والاعتبار ، مدكر : أي متعظ بمواعظه.
(6 - مراغى - السابع والعشرون)(27/81)
ج 27 ، ص : 82
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه جاءهم من الأخبار ما فيه زاجر لهم لو تذكروا لكن لم تغنهم تلك الزواجر شيئا - أردف هذا ذكر قصص من قبلهم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود ، ليبين لرسوله أنهم ليسوا ببدع فى الأمم ، بل كثير منهم فعلوا فعلهم بل كانوا أشد منهم عتوا واستكبارا ، وأن الأنبياء قبله قد لاقوا منهم من البلاء ما لا قيت ، فلا تأس على ما فرط منهم ، ولا تبتئس بما كانوا يفعلون كما جاء فى قوله سبحانه :
« فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
وفى هذا وعيد للمشركين من أهل مكة وغيرهم على تكذيبهم رسولهم ، وأنهم إن لم ينيبوا إلى ربهم فسيحل بهم من العذاب مثل ما حل بمن قبلهم ، وينجّى نبيه والمؤمنين كما نجّى من قبله من الرسل وأتباعهم من نقمه التي أحلها بأممهم.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قبل قومك قوم نوح فكانوا أسوة لمن بعدهم من المكذبين للرسل.
ثم فصّل هذا التكذيب بقوله :
(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) أي فكذبوا عبدنا نوحا ونسبوه إلى الجنون ، وزجروه وتوعدوه ، لئن لم ينته ليكونن من المرجومين.
وأضاف العبد إليه فى قوله « عبدنا » للاشارة إلى أنه لم يعبد سواه ، فهو فى جميع أفعاله للّه وإلى أنه صادق فى دعواه النبوة ، فهو لا ينطق عن الهوى ، فتكذيبهم له قبيح غاية القبح ، بالغ نهاية العتوّ والإنكار.
ثم بين أنه عيل بهم صبرا ، وضاق بهم ذرعا فدعا عليهم فقال :
(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي فدعا نوح ربه قائلا إن قومى قد غلبونى لتمردهم وعتوهم ، ولا طاقة لى بهم ، فانتصر منهم بعقاب من عندك على كفرهم بك.(27/82)
ج 27 ، ص : 83
وقصارى ذلك - انتصر لك ولدينك ، فإنى قد غلبت وعجزت عن الانتصار لهما.
ثم أخبر سبحانه أنه قد أجاب دعاءه فقال :
(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) أي فصببنا عليهم ماء ثجاجا من السماء ، وتقول العرب فى المطر الوابل : جرت ميازيب السماء. روى أنهم طلبوا المطر سنين فأهلكهم اللّه بما طلبوا.
وفى الآية إيماء إلى أن اللّه انتصر منهم ، وانتقم بماء لا بجند أنزله.
(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) أي وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة.
(فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدره اللّه وهو هلاكهم بالطوفان.
والخلاصة - إن اللّه أرسل ماء السحاب مدرارا ، وأخرج من الأرض ماء ثجاجا فالتقى الماءان فأحدثا طوفانا على وجه الأرض ، فأغرق به قوم نوح ، ونجا نوح بركوب سفينته التي بناها كما أشار إلى ذلك فى هود بالتفصيل وأشار إليه هنا بقوله :
(وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) أي وأنقذناه من الطوفان ، فحملناه على سفينة ذات خشب ومسامير.
وجاء فى سورة العنكبوت « فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ » .
وفى هذا إيماء إلى أنه تعالى يوجد الأسباب لتحقيق ما يريد من المسببات ، بحسب السنن التي وضعها فى الخليقة ، وأنه يمهل الظالمين ، ولا يهملهم كما
جاء فى الحديث « إن ربك لا يهمل ولكن يمهل » .
ثم أشار إلى أنه كان محروسا بعناية اللّه وكلاءته فقال :
(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) أي تجرى محفوظة بحراستنا ، فقد كانت بمرأى منافنحن نكلؤها ونرعاها ، كما يرعى المرء ما يراه بعينه ، ويقع تحت سمعه وبصره ، ويقول القائل إذا وصّى آخر بأمر وشدد عليه : اجعله نصب عينيك أي اهتمّ به ، ولا تهمله.(27/83)
ج 27 ، ص : 84
ثم بين أن هذا هو الجزاء العادل على سوء صنيعهم ، وكفرهم بربهم فقال :
(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي فعلنا ذلك بهم جزاء كفرهم بآياتنا ، وجحودهم بنعمائنا ، وتكذيبهم برسولنا.
ثم ذكر أنه أبقى السفينة عبرة لمن بعدهم على كر الدهور والأعوام فقال :
(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي ولقد جعلنا السفينة التي حملنا فيها نوحا ومن معه - عبرة لمن بعده من الأمم ، ليدبروا ويتعظوا ، ويرعووا أن يسلكوا مسلكهم وينهجوا نهجهم فى الكفر باللّه وتكذيب رسله ، فيصيبهم مثل ما أصابهم من العقوبة وقد رووا أن اللّه حفظها آمادا طويلة بأرض الجزيرة على جبل الجودىّ. وقال قتادة : أبقاها اللّه بباقر دى من أرض الجزيرة حتى أدركتها أوائل هذه الأمة.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ. لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ » .
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ ) أي فهل من معتبر بتلك الآية الحريّة بالاعتبار ، الجديرة بطويل التفكير والتأمل فى عواقب المكذبين برسل اللّه ، الجاحدين بوحدانيته ، المتخذين له الأنداد والأوثان.
ثم بين سبحانه شديد نكاله وعقابه فقال :
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ؟ ) أي ما أشد ما أنزلته بهم من البوار والهلاك ، وما أفظع إنذارى لهم بما أحللته بهم من النقمة بعد النعمة ، وهكذا عاقبة كل مكذب جبار.
ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد ، وعظيم التهديد ، لكل باغ عنيد ، ساخط على الرسل ، مكذب بربه.
والخلاصة - انظر كيف كان عذابى لمن كفر بي ، وكذب رسلى ، وكيف انتصرت لهم ، وأخذت أعداءهم بما يستحقون ؟ .(27/84)
ج 27 ، ص : 85
ثم ذكر أن هذا القصص وأمثاله إنما ذكر فى القرآن للعبرة ، لا ليكون قصصا تاريخيا يتلى ، فقال :
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي ولقد سهلنا لفظه ، ويسرنا معناه ، وملأناه بأنواع العبر والمواعظ ، ليتعظ به من شاء ، ويتدبر من أراد « وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » .
ونحو الآية قوله : « كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ » وقوله : « فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا » روى الضحاك عن ابن عباس قال : لو لا أن اللّه يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام اللّه عز وجل.
(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي فهل من متعظ به ، مزدجر عن معاصيه ، أي ما أقل من تذكر به ، واتعظ بأمره ونهيه.
(2) قصص عاد قوم هود
[سورة القمر (54) : الآيات 18 الى 22]
كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
تفسير المفردات
الريح الصرصر : الباردة أشد البرد ، والنحس : الشؤم ، منقعر : أي مقتلع من أصوله يقال قعرت النخلة : أي قلعتها من أصلها فانقعرت.(27/85)
ج 27 ، ص : 86
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص قوم نوح وما فيه من العبرة لمن تدبر وفكر ، أعقبه بقصص عاد قوم هود ، ليبين للمكذبين أن عاقبة كل مكذب الهلاك والبوار وإن تعددت أسبابه.
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد
فقد أرسل اللّه عليهم ريحا عاصفا ، لصوتها صرير حين هبوطها فى يوم شؤم عليهم ، واستمر بهم البلاء حتى حل بهم الدمار ، وكانت الريح لشدتها تقتلع الناس من الأرض وترفعهم إلى السماء ثم ترمى بهم على رءوسهم ، فتندقّ رقابهم ، وتبين من أجسامهم ، فانظروا أيها المكذبون إلى ما حل بهم من العذاب جزاء تكذيبهم لرسوله ، كما هى سنة اللّه فى أمثالهم من المكذبين.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ عادٌ) أي كذبت عاد نبيهم هودا فيما أتاهم به عن اللّه ، كما كذبت قوم نوح من قبلهم نبيهم.
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا معشر قريش ، كيف كان عذابى إياهم ، وعقابى لهم على كفرهم باللّه ، وتكذيبهم رسوله هودا ، وإنذارى من سلك سبيلهم وتمادى فى الغىّ والضلال بحلول مثل ذلك العقاب به.
وفى هذا توجيه لقلوب السامعين إلى الإصغاء لما يلقى عليهم قبل ذكره ، وتعجيب من حالهم بعد بيانه ، كأنه قيل : كذبت عاد فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى لهم به قبل نزوله.
ثم فصّل ما أجمله أولا فقال :(27/86)
ج 27 ، ص : 87
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي إنا بعثنا إلى عاد إذ تمادوا فى طغيانهم وكفرهم بربهم ريحا شديدة العصوف فى برد ، لصوتها صرير ، فى زمن شؤم ونحس عليهم ، إذ ما زالت مستمرة حتى أهلكتهم.
ونحو الآية قوله : « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ » وقوله :
« سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً » أي متتابعة. وما روى من شؤم بعض الأيام فلا يصح شىء منه ، فالأيام كلها للّه ، لا ضرر فيها لذاتها ، ولا محذور منها ، ولا سعد فيها ولا نحس ، فما من يوم يمر إلا وهو سعد على قوم ونحس على آخرين ، باعتبار ما يحدثه اللّه فيه من الخير والشر لهم ، فكل منها يتصف بالأمرين :
ألا إنما الأيام أبناء واحد وهذى الليالى كلها أخوات
وتخصيص كل يوم بعمل كما يزعم بعض الناس وينسبون فى ذلك أبياتا إلى على كرم اللّه وجهه ، لا يصح منه شىء ، وإنما هو نزغات شيعيّة لا تستند إلى ركن من الدين ركين.
(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أي تقتلعهم حتى يصيروا كأنهم أعجاز نخل قد انقلع من مغارسه فى الأرض.
وفى الآية إيماء إلى أن الريح كانت تقتلع رءوسهم فتبقى الأجسام ولا رءوس لها ، وإلى أنهم كانوا ذوى جثث عظام طوال كالنخل ، وإلى أنهم أعملوا أرجلهم فى الأرض وقصدوا بذلك مقاومة الريح ، وإلى أن الريح جعلتهم كأنهم خشب يابسة لشدة بردها.
ثم هوّل من أمر العذاب والإنذار بعد بيانهما فقال :
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) أي فانظروا كيف كان عذابى وإنذارى ، وقد كرره تعظيما لشأنه ، وهذه سنة فى بليغ الكلام ، فى باب النصح والإرشاد ، وباب(27/87)
ج 27 ، ص : 88
التهديد والوعيد ، وقد يكون الأول إشارة إلى عذاب الدنيا ، والثاني إلى عذاب الآخرة كما جاء فى قصصهم فى آية أخرى « لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ » .
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) الكلام فيه كسابقه فلا نعيده.
(3) قصص ثمود
[سورة القمر (54) : الآيات 23 الى 32]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
تفسير المفردات
بالنذر : أي بالرسل ، وتكذيب صالح تكذيب لهم جميعا لاتفاقهم على أصول الشرائع ، وسعر : أي جنون ، ومنه ناقة مسعورة : إذا كانت تفرط فى سيرها كأنها مجنونة ، والذكر : الوحى والمراد بالغد وقت نزول العذاب بهم ، والأشر : شديد البطر ، والبطر : دهش يعترى الإنسان من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ، فتنة : أي(27/88)
ج 27 ، ص : 89
امتحانا واختبارا ، فارتقبهم : أي فانتظرهم ، واصطبر : أي واصبر على أذاهم ، والشّرب :
النصيب ، محتضر : أي يحضره صاحبه فى نوبته ، فتحضر الناقة مرة ويحضرون أخرى ، صاحبهم : هو قدار بن سالف أحيمر ثمود ، فتعاطى : أي فاجترأ على تعاطى الأمر العظيم غير مكترث به ، فعقر : أي فضرب قوائم الناقة بالسيف ، صيحة واحدة : هى صيحة صاحها جبريل عليه السلام ، والهشيم : ما تهشم وتفتت من الشجر ، والمحتظر : الذي يعمل الحظيرة فتتساقط منه بعض أجزاء وتتفتت حال العمل.
المعنى الجملي
قص اللّه علينا قصص ثمود مع نبيها صالح ، إذ قالوا : أ نحن العدد الجمّ ، والكثرة الساحقة ، نتبع واحدا منا لا امتياز له عنا ؟ إنا إذا فعلنا ذلك لفى ضلال وبعد عن محجة الصواب ، وإنه لكاذب فيما يدّعيه من الوحى عن ربه ، وما هو إلا بشر وليس بملك ، فقال لهم ربهم ، ستعلمون بعد حين قريب من الكذاب البطر ؟ وقد جعلنا ناقته فتنة واختبارا لهم ، فأمرناه أن يخبرهم بأن ماء البئر يقسم بينها وبينهم ، فلها يوم ولهم آخر ، فما ارتضوا هذا وقام فاسقهم قدا وعقر الناقة فخرت صريعة ، فجازاهم اللّه فأرسل عليهم العذاب فصاروا كالهشيم الذي يتفتت حين بناء حظيرة الماشية.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي كذبت ثمود بنذر اللّه ورسله الذين بعثهم لخلقه ، وهم وإن كذبوا صالحا فحسب ، فإن تكذيبه تكذيب لهم جميعا ، لاتفاقهم على الأصول العامة للتشريع ، وهى التوحيد ومجىء الرسل واليوم الآخر.
ثم فصل تكذيبهم وحكى عنهم مقالهم فقال :
(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ ؟ ) أي أ نتبع واحدا من الدهماء ، لا من علية(27/89)
ج 27 ، ص : 90
القوم ولا من أشرافهم ، وليس له ميزة عن امرئ منا بعلم ظاهر ، ولا ثروة وغنى ، تجعله يدّعى أن يكون الزعيم لنا.
ثم ذكروا وجه إصرارهم على تكذيبه بقولهم :
(إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إنا لو اتبعناه نكون قد ضللنا الصراط السوىّ ، وجانبنا الصواب ، وصرنا لا محالة إلى الجنون الذي لا يرضى به عاقل لنفسه.
روى أن صالحا كان يقول لهم : إن لم تتبعونى كنتم فى ضلال عن الحق وسعر ، فعكسوا عليه مقاله بعتوّهم واستكبارهم فقالوا : إنا إن اتبعناك كنا كما تقول :
ثم بالغوا فى العتو والإنكار وتعجبوا من أمره ونسبوه إلى الاختلاق والكذب فقالوا :
(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي أ أنزل عليه الوحى من بيننا وأوتى النبوة وهو واحد منا ؟ ولم اختصه اللّه بإنزال الشرائع عليه وهو ليس بملك مكرّم ؟ الحق إنه لكذاب متجبر ، يريد أن تكون له السيطرة والسلطان علينا ، ويودّ أن يكون الرئيس المطاع ، وما ذاك إلا بما زينته له نفسه ، وأغواه به الشيطان ، ولا يستند إلى وحي سماوى ، ولا أمر إلهى.
ثم حكى سبحانه ما قاله لصالح وعدا له ووعيدا لقومه فقالوا :
(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ؟ ) أي سيعلمون عن قريب حين يحل بهم الهلاك الدنيوي - من الكذاب البطر الذي حمله بطره على ما فعل ، أصالح فى دعواه الرسالة من ربه ، وأنه أمره بالتبليغ لهداية قومه إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، أم هم فى تكذيبهم إياه ودعواهم عليه الاختلاق والكذب ؟ .
وقصارى ذلك - سيتبين لهم أنهم هم الكذابون الأشرون.
وأورد الكلام على طريق الإبهام للإشارة إلى أنه مما لا يخفى ، جريا على أساليبهم كقوله تعالى آمرا رسوله أن يقول للمشركين : « وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » وقوله :(27/90)
ج 27 ، ص : 91
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيّى وأيك فارس الأحزاب
ثم ذكر مقدمات العذاب الموعود به فقال :
(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي إنا مخرجو الناقة من الهضبة التي طلبوا من نبيهم بعثها منها ، لتكون آية لهم ، وحجة على صدقه فى ادعائه النبوة ، وتكون فتنة واختبارا لهم ، أ يؤمنون باللّه ويتبعونه فيما أمرهم به من توحيد ، أم يكذبونه ويكفرون به ؟ .
(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) أي فانتظر ماذا يفعلون ؟ وأبصر ماذا يصنعون ؟ واصبر على أذاهم ولا تعجل حتى يأتى أمر اللّه ، فإن اللّه ناصرك ، ومهلك عدوك.
(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي وأخبرهم أن ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة ، لها يوم ولهم يوم ، وكل حصة منه يحضر صاحبها ليأخذها فى نوبته ، فتحضر الناقة تارة ، ويحضرون هم أخرى.
وقد جعلت القسمة على هذا الوجه لمنع الضرر ، لأن حيوان القوم كانت تنفر منها ، ولا ترد الماء وهى عليه ، فصعب ذلك عليهم.
(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) أي فملّت ثمود هذه القسمة ، وأرادوا الخلاص منها ، فنادوا قدار بن سالف وكان أشقاهم ليعقرها وحضّوه على ذلك ، فلبّى طلبهم وتناولها بيده وأهوى بالسيف ضربا على قوائمها ، فخرت صريعة.
ثم ذكر عقابهم الفظيع فقال :
(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ ؟ ) قد سبق تفسير هذا.
ثم فصل هذا العذاب بقوله :
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) أي إنا أرسلنا جبريل فصاح بهم صيحة فصاروا كالحشيش البالي الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته ، وكأنهم هلكوا من أمد بعيد.(27/91)
ج 27 ، ص : 92
وقصارى ذلك - إنهم بادوا عن آخرهم ولم تبق منهم باقية ، وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ ) مرّ بيان هذا.
(4) قصص قوم لوط
[سورة القمر (54) : الآيات 33 الى 40]
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
تفسير المفردات
حاصبا : أي ريحا ترميهم بالحصباء وهى الحصا ، قال فى الصحاح : الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء ، والحصب (بفتحتين) ما تحصب به النار : أي ترمى ، وكل ما ألقيته فى النار فقد حصبتها به ، والسحر : السدس الأخير من الليل ، وقال الراغب : السحر والسّحرة : اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار ، والبطش : الأخذ الشديد بالعذاب ، فتماروا بالنذر : أي فشكوا فى الإنذارات ولم يصدقوها ، راودوه عن ضيفه : أي صرفوه عن رأيه فيهم فطلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه ليفجروا بهم ، فطمسنا أعينهم : أي فحجبناها عن الأبصار فلم تر شيئا ، بكرة : أي أول النهار ، مستقرّ :
أي دائب بهم إلى أن يهلكوا.(27/92)
ج 27 ، ص : 93
المعنى الجملي
ذكر هنا تكذيب قوم لوط لنبيهم ومخالفتهم إياه ، واجتراحهم من السيئات ما لم يسبقهم به أحد من العالمين ، بإتيانهم الذكران دون النساء ، ثم أردفه ذكر عذابهم بإرسال حجارة من سجيل عليهم إلا من آمن منهم ، فقد نجاهم بسحر ، وما أهلكهم إلا بعد أن أنذرهم عذابه على لسان رسوله فكذبوه.
الإيضاح
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أي كذبت قوم لوط بآيات اللّه التي أنذرهم بها.
ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب ونجاة من آمن منهم فقال :
(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) أي إنا عاقبناهم بإرسال ريح تحمل الحصباء ، وما زالت بهم حتى دمرتهم ، إلا من آمن منهم ، فإنا أمرناهم بالخروج آخر الليل لينجوا من الهلاك.
ثم بين أن سبب إنجاء المؤمنين هو شكرانهم للنعمة فقال :
(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي أنعمنا عليهم بالنجاة كرامة لهم منا ، وهكذا نجزى من شكرنا على نعمتنا وأطاعنا فائتمر بأمرنا ، وانتهى عما نهينا عنه.
ثم ذكر أنه ما أهلك من أهلك إلا بعد أن أنذرهم عذابه وخوفهم بأسه فقال :
(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) أي ولقد أنذرهم نبيهم بأس اللّه وعذابه ، قبل حلوله بهم ، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه ، بل شكّوا فيه وتماروا به.
ثم بين جرمهم الذي استحقوا به العذاب فقال :
(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) أي طلبوا منه ضيوفه وهم الملائكة الذين جاءوا فى صورة شباب مرد حسان ، محنة من اللّه لهم ، إذ قد بعثت إليهم امرأته العجوز السوء(27/93)
ج 27 ، ص : 94
فأعلمتهم بأضيافه ، فأقبلوا إليه يهرعون من كل مكان ، فأغلق لوط عليهم الباب ، فجعلوا يعالجونه ليكسروه ، وهو يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ويقول لهم : هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم ، فقالوا له : لقد علمت مالنا فى بناتك من أرب ، وإنك لتعلم ما نريد ، فلما اشتد بينهم الصراع وأبوا إلا الدخول - طمس اللّه أبصارهم فلم يروا شيئا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) فجعل بعضهم يجول فى بعض ولا يرون شيئا ، ويقولون :
أين ضيوفك ؟ وقد تقدم تفصيل ذلك فى سورة هود.
(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فقلنا لهم على ألسنة ملائكتنا : ذوقوا هذا العذاب عذاب طمس الأعين وما بعده بعد أن أنذرتكم على سوء أفعالكم ، وقبيح خلالكم.
ثم بين وقت مجىء العذاب فقال :
(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي ولقد نزل بهم العذاب وقت البكور وما زال ملحّا عليهم حتى أخمدهم ، وبلغ غايته فى دمارهم وهلاكهم.
ثم حكى ما قيل لهم بعد التصبيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب فقال :
(فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي فذوقوا جزاء أفعالكم من عذاب عاجل ، وما لزم من إنذاركم من عذاب آجل.
(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ ) هذه الجملة القسمية وردت فى آخر كل قصة من القصص الأربع ، تقريرا لمضمون ما سبق من قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وتنبيها إلى أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادّكار ، كافية فى الازدجار ، ولم يحصل بها مع هذا عظة واعتبار.
وقد جاء هذا التكرير فيما سيأتى فى سورة الرحمن من قوله : « فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ » وقوله فى سورة المرسلات : « فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ » .(27/94)
ج 27 ، ص : 95
وهذا كثير فى كلام العرب إذا أرادوا العناية بما فيه من هامّ الأمور ، كقول مهلهل فى رثاء أخيه كليب حين قتل :
قرّبا مربط النعامة منّى لقحت حرب وائل عن حيالى
قرّبا مربط النعامة منّى شاب رأسى وأنكرتنى عيالى
وهى طويلة جارية على هذا السنن ، والنعامة فرسه ، ولقحت : أي حملت.
(5) قصص آل فرعون
[سورة القمر (54) : الآيات 41 الى 42]
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
تفسير المفردات
النذر : واحدها نذير بمعنى إنذار وهى الآيات التسع التي أنذرهم بها موسى صلوات اللّه عليه ، عزيز : أي لا يغالب ولا يغلب ، مقتدر : أي لا يعجزه شىء.
الإيضاح
(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) أي تاللّه لقد توالت عليهم الإنذارات ، وجاءتهم الآية تلو الآية فكذبوا بها.
ثم أبان ما فعلوه على توالى النذر فقال :
(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) أي كذبوا بأدلتنا وبرهاناتنا التي أرسلناها إلى موسى ، وقد تقدم ذكرها فى سورة الأعراف.
ثم ذكر جزاءهم على ذلك فقال :(27/95)
ج 27 ، ص : 96
(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) أي فعاقبناهم بكفرهم باللّه - عقوبة مقتدر على ما يشاء غير عاجز ولا ضعيف.
توبيخ قريش على كفرهم بربهم
[سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 46]
أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
تفسير المفردات
براءة : أي صك مكتوب بالنجاة من العذاب ، والزبر : الكتب السماوية واحدها زبور ، يولون : أي يرجعون ، والدبر : أي الأدبار هار بين منهزمين ، والساعة : هى القيامة ، موعدهم : أي موعد عذابهم ، أدهى : أي أعظم داهية وهى الأمر الفظيع الذي لا يهتدى الخلاص منه ، يقال دهاه أمر كذا : أي أصابه ، وأمرّ : أي أشد مرارة فى الذوق والمراد الشدة والهول.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون ، وفصّل ما أصيبوا به من عذاب اللّه الذي لا مرد له ، بسبب كفرهم بآياته وتكذيبهم لرسله - أعقب هذا بتنبيه كفار قريش إلى أنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غيهم فستحل بهم سنتنا ، ويحيق بهم من البلاء مثل ما حل بأضرابهم من المكذبين من قبلهم ، ولا يجدون عنه محيصا ولا مهربا ، ثم خاطبهم خطاب إنكار(27/96)
ج 27 ، ص : 97
وتوبيخ فقال لهم : علام تتكلون ، وما ذا تظنون ؟ أ أنتم خير ممن سبقكم عددا وكثرة مال وبطشا وقوة ، أم لديكم صكّ من ربكم بأنه لن يعذبكم مهما أشركتم واجترحتم من السيئات ؟ أم أنكم تظنون أنكم جمع كثير لا يمكن أن ينال بسوء ، ولا تصل إلى أذاكم يد مهما أوتيت من القوة ؟ كلا إن شيئا من هذا ليس بكائن ، وإنكم ستهزمون وتولون الأدبار فى الدنيا وسيحل بكم قضاء اللّه الذي لا مفر منه ، وما سترونه فى الآخرة أشد نكالا ، وأعظم وبالا ، فأفيقوا من غفلتكم ، وأنيبوا إلى ربكم ، عسى أن يرحمكم.
الإيضاح
(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي أ كفاركم يا معشر قريش خير من أولئكم الذين أحللت بهم نقمى من قوم نوح وعاد وثمود ؟ فيأملوا أن ينجوا من عذابى ونقمتى ، على كفرهم بي وتكذيبهم رسولى.
وتلخيص المعنى - ما كفاركم خير ممن سبقهم ، فهم ليسوا بأكثر منهم قوة ، ولا أوفر عددا ، ولا ألين شكيمة فى الكفر والعصيان والضلال والطغيان ، وقد أصاب من هم خير منهم ما أصابهم ، فكيف يطمعون فى المهرب من مثل ذلك ، فليثوبوا إلى رشدهم ، وليرجعوا عن غيّهم قبل أن يندموا ولات ساعة مندم.
ثم انتقل من توبيخهم الأول إلى توبيخ أشد منه فقال :
(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي أم لكم صك بالبراءة من تبعات ما تجترحون من السيئات ، وأن ربكم لن يعاقبكم على ما تدسّون به أنفسكم من الشرور والآثام ؟ فأنتم على هذا الصك تعتمدون ، وبهذا الوعد آمنون ، حقا إنكم لتطمعون فى غير مطمع ، وليس بين أيديكم ولا قلامة ظفر من هذا - فعلام تتكلون ؟ وإلام تستندون ؟(27/97)
ج 27 ، ص : 98
(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي بل هم يقولون نحن واثقون بشوكتنا ، فنحن قوم أمرنا مجتمع ، لا نرام ولا نضام ، وإنا منصورون على من قصدنا بسوء ، أو أراد حربنا وتفريق جمعنا.
وجماع القول - إنه تعالى سدّ عليهم المسالك ، ونقض جميع المعاذير التي ربما تعللوا بها فى عدم تصديقهم بالرسول ، وفى كفرهم بآيات ربهم ، فقال لهم : لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم ؟ أ أنتم أقل كفرا وعنادا منهم ، فيكون ذلك سبب الأمن من حلول مثل عذابهم بكم ؟ أم أعطاكم اللّه براءة من عذابه ؟ أم أنتم أعز منهم جندا فأنتم تنتصرون على جند اللّه ؟
ثم رد عليهم مقالهم وأبان لهم أنهم يعيشون فى بحر من الأوهام ، وأن قضاء اللّه سيحل بهم ، وسيهزمون ويولون الأدبار متى جاء قضاؤه فقال :
(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) أي سيتفرق شملهم ويغلبون حين يلتقى جيشهم وجيش المؤمنين ، وقد صدق اللّه وعده ، فانهزموا وولوا الأدبار يوم بدر ، وكان هذا دليلا من دلائل النبوة ، فإن الآية نزلت بمكة ولم يكن له صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ جيش ، بل كان أتباعه مشرّدين فى الآفاق ، يلاقون العذاب من المشركين فى كل صوب ، حتى
لقد قال عمر رضى اللّه عنه : لما نزلت لم أعلم ما هى ؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يلبس الدرع ويقول : سيهزم الجمع فعلمته - ثم استمر انهزامهم بعد.
روى البخاري عن ابن عباس : « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال وهو فى قبّة له يوم بدر : أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم فى الأرض أبدا فأخذ أبو بكر رضى اللّه عنه بيده وقال : حسبك يا رسول اللّه ، ألححت على ربك ، فخرج وهو يثب فى الدرع ويقول : « (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ. بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) » .(27/98)
ج 27 ، ص : 99
ثم بين أن هذا عذاب الدنيا وسيلاقون يوم القيامة ما هو أشد منه نكالا فقال :
(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أي إن ما سيلاقونه من العذاب فى الدنيا من الهزيمة والقتل والأسر - هيّن إذا قيس على ما سيلاقونه من العذاب فى الآخرة ، فإن ذا أشد وآلم ، فهو عذاب خالد دائم ، وسيأتى بعد وصف ما فيه من فظاعة ونكر.
[سورة القمر (54) : الآيات 47 الى 55]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين : المشركون كما جاء فى قوله : « يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ » .
فى ضلال : أي فى الدنيا عن الحق ، وسعر : أي نيران واحدها سعير ، يسحبون : أي يجرّون ، سقر : اسم لجهنم ، ومسها : حرها ، بقدر : أي مقدر مكتوب فى اللوح المحفوظ ، أمرنا : أي شأننا ، واحدة : أي كلمة واحدة وهى قوله (كن) كلمح البصر : أي فى اليسر والسرعة ، أشياعكم : أي أشباهكم فى الكفر من الأمم السالفة ، واحدهم شيعة ، وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ، مدكر : أي متعظ ، فى الزبر : أي فى كتب الحفظة ،(27/99)
ج 27 ، ص : 100
مستطر : أي مسطور مكتوب فى اللوح بتفاصيله ، نهر : أي أنهار ، فى مقعد صدق :
أي فى مكان مرضى ، عند مليك مقتدر : أي عند ملك عظيم القدرة واسع السلطان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر تكذيب الأمم الماضية لرسلها كما كذبت قريش نبيها ، وأعقبه بذكر ما أصابهم فى الدنيا من العذاب والهوان - أردف ذلك ذكر ما سينالهم من النكال والوبال فى الآخرة ، فبين أنهم سيساقون على وجوههم إلى جهنم سوقا ، إهانة وتحقيرا لهم ، ويقال لهم حينئذ توبيخا وتعنيفا : ذوقوا عذاب النار وشديد حرها. ثم أعقبه ببيان أن كل شىء فهو بقضاء اللّه وقدره ، وإذا أراد اللّه أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، ثم نبههم إلى ما كان يجب عليهم أن يتنبهوا له من هلاك أمثالهم من الأمم التي كذبت رسلها من قبل ، وفعلت فعلها فأخذها أخذ عزيز مقتدر ثم ختم السورة بذكر ما يتمتع به المتقون فى جنات النعيم ، من إجلال وتعظيم ، ويرون ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) أي إن المشركين باللّه المكذبين لرسله - فى ضلال عن الصراط المستقيم ، وعماية عن الهدى فى الدنيا ، وعذاب أليم فى نار جهنم يوم القيامة.
ثم بين ما يلحقهم من الإهانة والإذلال حينئذ فقال :
(يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) أي يعذبون ويهانون يوم يجرّون على وجوههم فى النار ، ويقال لهم إيلاما وتعنيفا : ذوقوا حر النار وآلامها جزاء وفاقا لتكذيبكم رسل ربكم فى كل ما جاءوا به من الإنذار بهذا اليوم ، والتحذير مما يقع فيه للكافرين من العذاب ، والتبشير بما للمتقين فيه من ثواب.(27/100)
ج 27 ، ص : 101
ثم بين أن كل ما يوجد فى هذه الحياة فهو لا يحدث اتفاقا ، وإنما يحصل بقضاء اللّه وقدره فقال :
(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي إن كل كائن فى هذه الحياة ، فهو بتقدير اللّه وتكوينه على مقتضى الحكمة البالغة والنظام الشامل ، وبحسب السنن التي وضعها فى الخليقة.
ونحو الآية قوله : « وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً » وقوله : « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى »
وفى الحديث الصحيح « استعن باللّه ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قدر اللّه وما شاء فعل ، ولا تقل لو أنى فعلت لكان كذا ، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان »
وفى حديث ابن عباس أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال له : « ... واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه اللّه لك لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه اللّه عليك لم يضروك ، جفت الأقلام ، وطويت الصحف » .
وبعد أن بين نفاذ قدره فى خلقه بين نفاذ مشيئته فيهم فقال :
(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي إنا إذا أردنا أمرا قلنا له كن فإذا هو كائن ولا يحتاج إلى تأكيد الأمر بثانية ولا ثالثة ، وللّه در القائل :
إذا أراد اللّه أمرا فإنما يقول له (كن) قولة فيكون
وهذا تمثيل لسرعة نفاذ المشيئة فى إيجاد الخلق ، فهى كلمح البصر أو هى أقرب.
وجماع القول - ما أمرنا للشىء إذا أردنا إيجاده إلا قولة واحدة (كن) فيكون لا مراجعة فيها ولا ردّ ، فهى فى السرعة كلمح البصر لا إبطاء ولا تأخير.
ثم أنبهم على ما هم فيه من غفلة وعماية عن الحق بعد وضوحه فقال :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ؟ ) أي ولقد أهلكنا أشباهكم يا معشر قريش من المكذبين لأنبيائهم من الأمم الخالية ، واستأصلنا شأفتهم بحسب سنتنا فى أمثالهم ، بشتى العقوبات ، ومختلف الوسائل « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ.(27/101)
ج 27 ، ص : 102
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ »
أفما كان لكم فى ذلك مزدجر تعتبرون به ، فتنيبوا إلى ربكم وتسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون ؟
ونحو الآية قوله : « وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ » ثم بين لهم أن كل أعمالهم محصاة عليهم وسيحاسبون على النقير والقطمير فقال :
(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ. وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي وكل شىء يفعلونه ، فيدسون به أنفسهم من الكفر والمعاصي ، ويدنسونها به من الأرجاس والآثام فهو مقيّد لدى الكرام الكاتبين كما قال : « ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » فما من صغيرة ولا كبيرة إلا وهى مسطورة فى دواوينهم ، وصحائف أعمالهم ، فليحذروا ما هم عليه قادمون من الحساب العسير على الجليل والحقير ، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
روى الإمام أحمد عن عائشة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : « يا عائشة إياك ومحقّرات الذنوب ، فإن لها من اللّه طالبا » .
وقيل :
لا تحقرنّ من الذنوب صغيرا إن الصغير غدا يعود كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطّر تسطيرا
فاسأل هدايتك الإله فتتئد فكفى بربك هاديا ونصيرا
وبعد أن ألمع إلى ما يصيب الكافرين من الإهانة فى ذلك اليوم - أردفه ما يناله المتقون من الكرامة عند ربهم ، وما يحظون به من الشرف والزلفى ، بحسب سنة القرآن من ذكر الثواب إثر العقاب والعكس بالعكس فقال :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي إن الذين اتقوا عقاب ربهم فأطاعوه ، وأدوا فرائضه واجتنبوا معاصيه ، وأخلصوا له العمل فى السر والعلن ، يثبهم بما عملوا جنات تجرى من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور(27/102)
ج 27 ، ص : 103
من ذهب ، ويجلسون على فرش بطائنها من إستبرق ، ويجدون فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر ، كفاء ما بذلوا من الصبر على شاقّ الطاعات ، وحرموا منه أنفسهم من اللذات ، كما قيل للربيع بن خيثم وقد صلّى حتى ورمت قدماه ، وتهجد حتى غارت عيناه : أتعبت نفسك ، فقال : راحتها أطلب.
كما ينالون الزلفى عند ربهم القادر على جزائهم بإحسانه وجوده ، وفضله ومنته فكل شىء تحت قبضته وسلطانه ، لا يمانع ولا يغالب ، وهو العزيز الحكيم.
اللهم احشرنا فى زمرتهم واجعلنا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، إنك أنت السميع المجيب ، ذو الطّول العظيم.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) الإخبار بقرب مجىء الساعة.
(2) تكذيب المشركين للرسول وقولهم فى معجزاته : إنها سحر مفترى.
(3) غفلتهم عما فى القرآن من الزواجر.
(4) أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى يأتى قضاء اللّه فيهم.
(5) إنذارهم بأنهم سيحشرون أذلاء ناكسى الرءوس مسرعين كأنهم جراد منتشر.
(6) قصص المكذبين من سالفى الأمم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون ، وما لا قوه من الجزاء على تكذيبهم.
(7) توبيخ المشركين على ما هم فيه من الغفلة عن الاعتبار بهذه النذر.
(8) ما يلاقونه من الجزاء فى الآخرة إهانة وتحقيرا لهم.
(9) بيان أن كل ما فى الوجود فهو بقضاء اللّه وقدره.
(10) نفاذ مشيئة اللّه وسلطانه فى الكون.
(11) بيان أنّ كل أعمال المرء فى كتاب قد خطه الكرام الكاتبون.
(12) ما أوتيه المتقون من الكرامة عند ربهم وما لهم من الزلفى لديه.(27/103)
ج 27 ، ص : 104
سورة الرحمن جل وعلا
هى مكية وآيها ثمان وسبعون ، نزلت بعد سورة الرعد.
ووجه صلتها بما قبلها :
(1) إن فيها تفصيل أحوال المجرمين والمتقين التي أشير إليها فى السورة السابقة إجمالا فى قوله : « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ » وقوله : « إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ » (2) إنه عدّد فى السورة السابقة ما نزل بالأمم التي قد خلت من ضروب النقم وبين عقب كل ضرب منها أن القرآن قد يسّر لتذكر الناس وإيقاظهم ، ثم نعى عليهم إعراضهم - وهنا عدد ما أفاض اللّه على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية فى الأنفس والآفاق ، وأنكر عليهم إثر كل فن منها إخلالهم بموجب شكرها.
(3) إن قوله : « الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ » كأنه جواب سائل يقول : ما ذا صنع المليك المقتدر ، وما أفاد برحمته أهل الأرض ؟ .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)(27/104)
ج 27 ، ص : 105
تفسير المفردات
الرحمن : اسم من أسماء اللّه الحسنى ، والإنسان هو هذا النوع ، البيان : تعبير الإنسان عما فى ضميره وإفهامه لغيره ، بحسبان : أي بحساب دقيق منظم ، والنجم : ما لا ساق له من النبات كالحنطة والفول ، والشجر : ما له ساق كالنخل والبرتقال ، يسجدان : أي ينقادان للّه طبعا كما ينقاد المكلفون اختيارا ، رفعها : أي خلقها مرفوعة المحل والمرتبة ، والميزان : العدل والنظام ، وأقيموا الوزن بالقسط : أي قوّموا وزنكم بالعدل ، ولا تخسروا الميزان : أي لا تنقصوه ، للأنام : أي للخلق ، والأكمام : واحدها كمّ (بالكسر) وعاء الثمر ، والعصف : ورق النبات الذي على السنبلة ، والريحان : كل مشموم طيب الرائحة من النبات ، والآلاء : النعم واحدها إلى (بفتح الهمزة وكسرها) وإلى وإلو.
المعنى الجملي
بين سبحانه ما صنعه المليك المقتدر من النعم لعباده ، رحمة بهم فأفاد :
(1) أنه علم القرآن وأحكام الشرائع لهداية الخلق وإتمام سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
(2) أنه خلق الإنسان على أحسن تقويم وكمله بالعقل والمعرفة.
(3) أنه علمه النطق وإفهام غيره ، ولا يتم هذا إلا بنفس وعقل.
(4) أنه سخر له الشمس والقمر والنجوم على نظام بديع ووضع أنيق لحاجته إليها فى دنياه ودينه.
(5) أنه سخر له النجم والشجر ليقتات منهما.(27/105)
ج 27 ، ص : 106
(6) أنه رفع السماء وأقامها بالحكمة والنظام.
(7) أنه أوجد الأرض وما فيها من نخل وفاكهة وحب ذى عصف وريحان.
الإيضاح
(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) أي اللّه سبحانه علم محمدا صلى اللّه عليه وسلم القرآن ، ومحمد علمه أمته.
وهذه الآية نزلت جوابا لأهل مكة حين قالوا : « إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ » .
ولما كانت هذه السورة لتعديد نعمه التي أنعم بها على عباده - قدّم النعمة التي هى أجلّها قدرا وأكثرها نفعا ، وأتمها فائدة ، وهى نعمة تعليم القرآن الكريم ، فباتباعه تكون سعادة الدارين ، وبالسير على نهجه تنال الرغائب فيهما وهو سنام الكتب السماوية ، وقد نزل على خير البرية.
ثم امتنّ بعد هذه النعم بنعمة الخلق التي هى مناط كل الأمور ومرجع جميع الأشياء فقال :
(خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) أي خلق هذا الجنس وعلمه التعبير عما يختلج بخاطره ويدور بخلده ، ولو لا ذلك ما علم محمد القرآن لأمته.
ولما كان الإنسان مدنيا بطبعه لا يعيش إلا مجتمعا بسواه - كان لا بد له من لغة يتفاهم بها مع سواه من أبناء جنسه ويكتب إليه فى الأقطار النائية ، والبلاد النازحة ، ويحفظ علوم السلف ، لينتفع بها الخلف ، ويزيد فيها اللاحق ، على ما فعل السابق.
وهذه منة روحية كبرى لا تعدلها منة أخرى فى هذه الحياة ، ومن ثم قدمها على النعم الأخرى الآتية.
وقد بدأ أوّلا بما يتعلّم وهو القرآن الذي به السعادة ، ثم ثنى بالتعلم ، ثم ثلث بطريق التعلم وكيفيته ، ثم انتقل إلى ذكر الأجرام العلوية التي ينتفع بها الناس فى معاشهم فقال :(27/106)
ج 27 ، ص : 107
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي إن الشمس والقمر وهما من أعظم الأجرام يجريان فى بروجهما ومنازلهما بحساب مقدر معلوم ، وبهما تنتظم أمور المخلوقات الأرضية ، وتختلف الفصول ، وبهذا الحسبان انتفع بهما الناس فى شئون الزراعات كمواعيد البذر والحصاد ، وما ينفع منها فى كل فصل من الفصول ، وفى الأمور المالية من بيع وشراء لآجال محدودة من شهور وسنين ، وفى تقدير الأعمار والآجال التي تقدمت ، وجاءت فى أخبار الماضين ، والتي ستكون للحاضرين.
وبعد أن ذكر أن الشمس والقمر طوع قدرته وقد جعل لهما النظم الدقيقة فى الحسبان - أردفه انقياد العوالم الأرضية له فقال :
(وَ النَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) أي والزرع والشجر ينقادان للّه فيما أراد بهما طبعا كما ينقاد المكلف اختيارا ، فما اختلاف ثمرهما فى الشكل والهيئة واللون والمقدار والطعم والرائحة ، إلا انقياد للقدرة التي أرادت ذلك.
(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) أي وجعل العالم العلوي رفيع القدر ، إذ هو مبتدأ أحكامه ، ومتنزّل أوامره ونواهيه لعباده ، وسكن ملائكته الذين يهبطون بالوحى على أنبيائه ، وجعل نظم العالم الأرضى تسير على نهج العدل ، فعدل فى الاعتقاد كالتوحيد ، إذ هو وسط بين إنكار الإله والشرك به ، وعدل فى العبادات والفضائل والآداب ، وعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر عباده بتزكية نفوسهم وأباح لهم كثيرا من الطيبات لحفظ البدن ، ونهى عن الغلوّ فى الدين والإسراف فى حب الدنيا ، وهكذا ترى أن عدله شامل لكل ما فى هذا العالم لا يغادر الصغير ولا الكبير منه.
(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) أي فعل ذلك لئلا تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغى من العدل والنّصفة وجرى الأمور وفق ما وضع لكم من سنن الميزان فى كل أمر ، فترقى شئونكم ، وتنتظم أعمالكم وأخلاقكم.
ثم أكد هذا بقوله :(27/107)
ج 27 ، ص : 108
(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي وقوّموا وزنكم بالعدل ، ولا تنقصوه شيئا وفى هذا إشارة إلى مراعاته فى جميع أعمال الإنسان وأقواله.
والتكرير للتوصية به ، وتأكيد الأمر باستعماله والحث عليه ، وقد أمر سبحانه أوّلا بالتسوية ، ثم نهى عن الطغيان الذي هو مجاوزة الحد ، ثم نهى عن الخسران الذي هو النقص والبخس.
وقال قتادة فى الآية : اعدل يا ابن آدم كما تحب أن يعدل لك ، وأوف كما تحب أن يوفى لك ، فإن فى العدل صلاح الناس.
وبعد أن ذكر نعمه الدالة على قدرته برفع السماءذكر مقابلها وهو الأرض فقال :
(وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي والأرض بسطها لسكنى الحيوان من كل ما له روح وفيه حياة ، لينتفع بما فى ظاهرها وما فى باطنها فى معايشه على ضروب مختلفة وأشكال لا حصر لها.
ثم فصل ما تقدم بقوله :
(فِيها فاكِهَةٌ) أي فيها ما يتفكه به من ألوان الثمار طازجة ومطبوخة ومجففة على شتى الأشكال وضروب الألوان.
(وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي والنخل ذات الأوعية لثمرها حين ظهوره.
وأفردها بالذكر لكثرتها بالبلاد العربية ، وكثرة فوائدها ، لأنه ينتفع بثمارها رطبة ويابسة ، وينتفع بجميع أجزائها ، فيتخذ من خوصها السلال والزنابيل ، ومن ليفها الحبال ، ومن جريدها سقف البيوت ، ويؤكل جمّارها ، ومن ثم ذكرها باسمها ، وذكر الفاكهة دون أشجارها.
(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) أي وجميع الحبوب التي يقتات بها كالحنطة والشعير ، ولها عصف من الورق على سنابلها ، وكل مشموم من النبات تطيب رائحته.
وذكر أولا الفاكهة ، لأنها للتفكهة فحسب ، ثم النخل لأن ثمرها فاكهة وغذاء(27/108)
ج 27 ، ص : 109
ثم الحب الذي عليه المعول فى الغذاء فى جميع البلاد ، فهو أتم نعمة لموافقته لمزاج الإنسان ، ومن ثم خلقه اللّه فى سائر البلاد ، وجعل النخل فى البلاد الحارة دون غيرها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى النعم المتقدمة يا معشر الثقلين من الجن والإنس تكذبان ؟ والمراد من تكذيب آلائه كفرهم بربهم ، لأن إشراكهم آلهتهم به فى العبادة دليل على كفرانهم بها ، إذ من حق النعم أن تشكر ، والشكر إنما يكون بعبادة من أسداها إليهم.
والتعبير (بالرب) للاشارة إلى أنها نعم صادرة من المالك المربّى لهما الذي ينميهما أجساما وعقولا ، فهو الحقيق بالحمد والشكر على ما أولى وأنعم ، والعبادة له دون سواه.
وقد كررت هذه الآية فى واحد وثلاثين موضعا من السورة تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها ، فتراه عدّد نعمه على الخلق وفصل بين كل نعمتين بما يذكرهم ويقررهم بها.
وهذا أسلوب كثير الاستعمال فى كلام العرب ، فترى الرجل يقول لمن أحسن إليه بنعمة وهو يكفر بها : أ لم تكن فقيرا فأغنيتك ، أ فتنكر هذا ؟ أ لم تكن عريانا فكسوتك ؟
أفتنكر هذا ، أ لم تكن خاملا فرفعت قدرك ، أ فتنكر هذا ؟ .
فكأنه سبحانه قال : أ لم أخلق الإنسان. وأعلمه البيان. وأجعل الشمس والقمر بحسبان. وأنوّع الشجر. وأبدع الثمر. وأعممها فى البدو والحضر ، لمن آمن بي وكفر.
وأسقيها حينا بالمطر ، وآونة بالجداول والنّهر. أ فتنكران ذلك أيها الإنس والجن ؟ .
وقد جاء مثل هذا فى أشعارهم : انظر قول مهلهل يرثى أخاه كليبا :
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما ضيم جيران المجير
على أن ليس عدلا من كليب إذا خرجت مخبّأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب إذا ما خار جأش المستجير(27/109)
ج 27 ، ص : 110
وهى قصيدة طويلة على هذا النسق ، ولها نظائر أيضا فى رثائه ، ولو لا خشية التطويل لأوردنا شيئا منها. وعدلا أي مثلا ونظيرا.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 25]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)
وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
تفسير المفردات
الصلصال : الطين اليابس الذي له صلصلة وصوت إذا نقر ، والفخار : الخزف وهو الطين المطبوخ ، والجان : نوع من الجن ، والمارج : اللهب الخالص الذي لا دخان فيه ، رب المشرقين : أي مشرقى الشمس صيفا وشتاء ، ورب المغربين : أي مغربيهما كذلك ، مرج البحرين : أي أرسلهما وأجراهما من قولك مرجت الدابة فى المرعى :
أي أرسلتها فيه ، يلتقيان : أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما فى رأى العين ، برزخ : أي حاجز ، لا يبغيان : أي لا يبغى أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال خاصته ، واللؤلؤ : الدر المخلوق فى الأصداف ، والمرجان : الخرز الأحمر ، الجواري : السفن الكبار ، المنشئات : أي المصنوعات ، والأعلام : الجبال واحدها علم وهو الجبل العالي.(27/110)
ج 27 ، ص : 111
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه كثيرا من النعم وكان بعضها يحتاج إلى زيادة إيضاح وبيان كخلق الإنسان ، وحساب الشمس والقمر ، وأسباب نمو الزرع والشجر - فصل أحوالها على الترتيب السابق.
الإيضاح
(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) أي خلق الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام من طين يابس له صلصلة إذا نقر ، وهو كالخزف المطبوخ فى صلابته.
إيضاح هذا أن الطين المطبوخ مركب من الطين والحرارة التي أنضجته وسوّته لتحفظ كيانه وهكذا الإنسان له شهوة الطعام والشراب والتزاوج ، لتبقى بنيته وتدوم حياته بالمادة الأرضية التي اجتذبها النبات من الأرض ، وله قوة غضبية تورثه الشجاعة والقوة ، ليحافظ على بقائه وحياته ، ويمنع عن نفسه عاديات الكواسر ، ومهاجمات الجيوش والأعداء المحيطة به من كل جانب ، وهذه القوة فى الإنسان تقابل طبخ الطعام ليصير فخارا ، فتتماسك أجزاؤه ، ولولاها لما استطاع المحافظة على هيكله المنصوب ، وجسمه المحبوب ، من الكواسر وأهل القسوة من بنى الإنسان ، ولأصبح قتيلا فى الفلوات تأكله الطير ، أو تهوى بأجزائه الريح فى مكان سحيق ، كما أن الطين إذا لم يطبخ يتفتت وتذروه الرياح أو يذوب فى أجزاء الأرض.
وقد جاء فى الكتاب الكريم عبارات مختلفة فى خلق الإنسان باعتبار مراتب الخلق ، فمرة قال إنه خلقه من تراب وأخرى قال إنه من طين لازب : أي لاصق باليد لما اختلط به من الماء ، وهنا قال من صلصال.(27/111)
ج 27 ، ص : 112
(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) أي وخلق الجن من النار الصافية المختلط بعضها ببعض ، فمن لهب أصفر إلى أحمر إلى مشوب بالخضرة ، فكما أن الإنسان من عناصر مختلفات ، فالجانّ من أنواع من اللهب مختلطات.
ولقد أظهر الكشف الحديث أن الضوء مركب من ألوان سبعة ، ولفظ (المارج) يشير إلى ذلك ، وإلى أن اللهب مضطرب دائما.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) مما أفاض عليكما فى تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم.
روى نافع عن ابن عمر قال : « إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ سورة الرحمن أو قرئت عنده فقال : مالى أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ؟ قالوا وما ذاك يا رسول اللّه ؟ قال ما أتيت على قول اللّه (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالت الجن : لا بشىء من نعمة ربنا نكذب » .
ولما فرغ من إيضاح خلق الإنسان شرع يوضح خلق الشمس والقمر بحسبان قال :
(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) أي رب مشرقى الصيف والشتاء ومغربيهما ، اللذين يترتب عليهما تقلب الفصول الأربعة ، وتقلب الهواء وتنوعه ، وما يلى ذلك من الأمطار والشجر والنبات والأنهار الجاريات.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى نعمة من هذه النعم تكذبان ؟ أ فتنكران الأمطار وفوائدها ؟ أم تنكران ما لاختلاف الفصول من منافع ، فبها تختلف صنوف المزروعات من صيفية إلى شتوية ، أم تنكران ما لاختلاف الأجواء من مزايا فى تنظيم مزاج الإنسان والحيوان.
ولما ذكر نعمه التي تترى على عباده فى البر أعقبها بنعمه عليهم فى البحر فقال :
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) أي أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين لا يبغى أحدهما على الآخر ، فلا الملح يطغى على العذب فيجعله ملحا ، ولا العذب يجعل البحر الملح مثله ، فقد حجز بينهما ربهما بحاجز من(27/112)
ج 27 ، ص : 113
قدرته ، أو بحاجز من الأجرام الأرضية ، فترى نهر النيل بمصر يخرج من جبال الحبشة ، ويجرى شمالا ختى يصب فى البحر الأبيض المتوسط ، ولا يبغى أحدهما على الآخر.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ ) أي فبأى هذه المنافع تكذبان ؟ إذ لو بغى الملح على العذب لم نجد ماء للشرب ولا لسقى الحيوان والنبات ولم نجد ما نقتات به فنهلك جوعا ، ولو بغى العذب على الملح لم نجد ما يصلح الهواء ويمنع عاديات الجراثيم التي فيه.
(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) وقد ثبت فى الكشف الحديث أن اللؤلؤ كما يستخرج من البحر الملح يستخرج من البحر العذب ، وكذلك المرجان وإن كان الغالب أنه لا يستخرج إلا من الماء الملح.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان ؟
(وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي وله السفن الكبار التي رفعت شرعها فى الهواء كالجبال الشاهفة ، تجرى فى البحر بما ينفع الناس ، فتنقل المتاجر من بلد إلى آخر ، والأقوات من إقليم هى كثيرة فيه إلى آخر هو محروم منها ، وبذا يتمّ تبادل السلع ، وسدّ حاجات الأمم فى أقواتها ومشاربها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان - أ بخلق موادّ السفن أم بكيفية تركيبها ، أم بإجرائها فى البحر بأسباب لا يقدر عليها غيره سبحانه.
أي عبادى ، هل ظننتم أن مجرد الإيمان كاف لكم فى شكر هذه النعم ، فهل خلقت الشمس والقمر والنجم والشجر والزرع والحب ، والأنهار والبحار ، والدّر والمرجان لقوم لا يعقلون ، أو خلقتها لقوم يقبلون منى النعمة ، وكيف يقبلونها دون أن يعرفوها ؟
(8 - مراغى - السابع والعشرون)(27/113)
ج 27 ، ص : 114
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 30]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)
تفسير المفردات
فان : أي هالك ، وجه ربك : أي ذاته ، ذو الجلال والإكرام : أي ذو العظمة والكبرياء ، يسأله من فى السموات والأرض : أي يطلبون منه ما يحتاجون إليه فى ذواتهم حدوثا وبقاء وفى سائر أحوالهم بلسان المقال أو بلسان الحال ، هو فى شأن :
أي فى أمر من الأمور ، فيحدث أشخاصا ويجدد أحوالا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر النعم التي أنعم بها على عباده فى البر والبحر ، فى السماء والأرض ردف ذلك بيان أن هذه النعم تفنى ولا تبقى ، فكل شىء يفنى إلا ذاته تعالى ، وكل من فى الوجود مفتقر إليه ، فهو المدبر أمره ، والمتصرف فيه ، فهو يحيى قوما ويميت آخرين ، ويرفع قوما ويخفض آخرين.
الإيضاح
(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي إن جميع أهل الأرض يذهبون ويموتون ، وكذلك أهل السموات ، ولا يبقى سوى وجه ربك الكريم ، فإنه الحي الذي لا يموت أبدا.
قال قتادة : أنبأ بما خلق ، ثم أنبأ أن ذلك كله فان ،
وقد ورد فى الدعاء المأثور يا حى يا قيّوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ،(27/114)
ج 27 ، ص : 115
برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك.
ثم وصف سبحانه نفسه بالاستغناء المطلق ، والفضل العام ، وأنه ذو الجود والكبرياء ، يعطى خلقه من النعم والإكرام ما يليق بحالهم ، ولا يحجب فضله عن مخلوق خلقه.
انظر إلى هذه النجوم الثواقب فى ظلمات الليل ، ترها مشرقة ساطعة تتلألأ نورا تنشرح له الصدور ، وتقرّ به العيون ، فتتجلى لك عظمة الخالق وكبرياؤه ، تموت الأحياء وتلك النجوم باقية ، والأرض لم تتغير على ما نشاهد ، وهذا مظهر الجلال والعظمة ، جمال فى النجوم ، بهجة فى الإشراق ، مناظر باهرة ، أنوار ساطعة ، أجسام عظيمة أحوال تتقلب ، وأهوال تتعاقب ، والناس من بينها يخرون صعقين ، فهذا لعمرك هو الجلال والعظمة ، فسبحان الخلاق العظيم.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان ؟ فالفناء باب للبقاء وللحياة الأبدية ، والنعم السرمدية ، ولو لا تحليل أجسامنا بالموت لتعطلت الحياة ، إذ المادة الأرضية إذا بقيت على حال واحدة كانت قواها محدودة ، لكن انبعاث الصور الكثيرة وتعاقبها جيلا بعد جيل يلبس المادة جميع الصور والأشكال ويجعل العالم فى تجدد مستمر.
انظر إلى بنى الإنسان مثلا إذا توالدوا جيلا بعد جيل ولم يمت منهم أحد ، فلا تمضى إلا أجيال معدودة حتى يكون على القدم ألف قدم ، وتمتلئ الأرض بالآدميين ، فلا يكفيهم حيوان أرضى ولا نبات مأكول ولا يجدون وسيلة للعيش إلا أن يأكل بعضهم بعضا ، وتمتلىء الأرض رمما آدمية من السغب والمخمصة.
والخلاصة - إن فى الفناء نعمتين : نعمة الرحمة بتعاقب الأجيال ، ونعمة الخروج من سجن المادة إلى فسيح العالم الروحي وإلى التمتع بنعيم آخر بعد الموت.(27/115)
ج 27 ، ص : 116
ولما كان ما ذكر يتضمن الافتقار المتجدد إليه تعالى أوضحه بقوله :
(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لأن المادة دائما تلبس جديدا وتخلع قديما ، فأجسامنا وأجسام الحيوان على هذا المنوال ، فهما فى حاجة إلى بقاء الأجسام وتغذيتها وإذا انحل جسم افتقر إلى شىء يعوّض ما ذهب ، فالتغيرات المستمرة افتقار ، وهذا الافتقار مستمر فى كل لحظة ، وذلك يدعو إلى السؤال من الواهب المعطى إما بالنطق وإما بتوجه النفس وطلبها العون والمدد والفيض من فضله.
وجماع القول - أن المادة مفتقرة إلى بقاء ما يناسبها ، فالنبات فى كل لحظة مفتقر إلى ما يبقيه من ماء وهواء وموادّ أخرى ، والحيوان يطلب ما يحتاج إليه ، والإنسان يسأل ما هو فى حاجة إليه : إما سؤال حال ، وإما سؤال مقال فى كل وقت وآن.
(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فمن شئونه أنه يحيى ويميت ويرزق ، ويعزّ ويذل ، ويمرض ويشفى ، ويعطى ويمنع ، ويغفر ويعاقب ، ويرحم ويغضب ، إلى نحو أولئك.
ومن شئونه إعطاء أهل السموات والأرض ما يطلبون منه على اختلاف حاجاتهم وتباين أغراضهم.
عن عبد اللّه بن منيب قال : « تلا علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية فقلنا يا رسول اللّه وما ذلك الشأن ؟ قال : أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين » أخرجه الحسن بن سفيان والبزار وابن جرير والطبراني وأبو نعيم وابن عساكر.
وقال ابن عيينة : الدهر عند اللّه يومان : يوم الدنيا وشأنه فيه الأمر والنهى ، والإماتة والإحياء. ويوم القيامة وشأنه فيه الجزاء والحساب ، وسأل عبد اللّه بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية ، وما صح من
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « جفّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة »
فقال : شئون يبديها ، لا شئون يبتديها.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى هذه النعم تكذبان ؟ فكم من سؤال(27/116)
ج 27 ، ص : 117
أجبته ، وكم من جديد أحدثته ، وكم من ضعيف فى الحياة أرحته ، إما بصحة تسعده ، أو بموت من سجن المادة يخرجه.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 31 الى 36]
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
تفسير المفردات
سنفرغ لكم : أي سنتجرد لحسابكم وجزائكم يوم القيامة ، والمراد التوفر على الجزاء والانتقام منهما.
قال الزجاج : الفراغ فى اللغة على ضربين : أحدهما الفراغ من الشغل ، والآخر القصد للشىء والإقبال عليه كما هنا اه.
والثقلان : الجن والإنس كما علمت ، أن تنفذوا : أي تخرجوا ، والأقطار :
الجوانب واحدها قطر ، والسلطان : القوة والقهر ، والشواظ : اللهب الخالص ، والنحاس :
الدخان الذي لا لهب فيه ، قال النابغة الذبياني :
تضىء كضوء السراج السليط لم يجعل اللّه فيه نحاسا فلا تنتصران : أي فلا تمتنعان من اللّه ولا يكون لكما منه ناصر.
المعنى الجملي
بعد أن عدّد سبحانه نعماءه على عباده فى البر والبحر وفى الأرض والسماء ، ليشكروه على ما أنعم ، ويعبدوه وحده على ما أعطى وتمم ، وذكر أنهم مفتقرون إليه آناء الليل(27/117)
ج 27 ، ص : 118
وأطراف النهار ، ثم أرشد إلى أن هذه النعم لا تدوم ، بل هى إلى زوال ، فكل ما على وجه الأرض سيفنى ، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات نبههم إلى أنه فى يوم القيامة سيلقى كل عامل جزاء ما عمل ، وثواب ما اكتسب ، ولا مهرب حينئذ من العقاب ، ولا سبيل إلى الامتناع منه ، وسيكون جزاء المشركين به العاصين لأوامره ، نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كفر بربه وكذب برسله ، فاستعدوا لهذا اليوم قبل أن تندموا ، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنقصد لحسابكم ومجازاتكم على أعمالكم ، وهذا وعيد شديد وتهديد من اللّه لعباده ، كما يقول القائل لمن يهدده : إذا أتفرغ لك :
أي أقصد قصدك.
هذا ، وإن شأن الآخرة ما هو إلا شأن من الشئون ، فلا يشغله شأن عن شأن وهو القائل : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » والقائل : « وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » .
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فبأى نعم ربكما تكذبان يا معشر الثقلين ، ومن جملتها التنبيه إلى ما ستلقونه من الجزاء فى هذا اليوم ، تحذيرا مما سيؤدى إلى سوء الحساب ، وشديد العقاب.
ثم ذكر أنه لا مهرب فى هذا اليوم من جزاء كل عامل على عمله فقال :
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) أي إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السموات والأرض هاربين من عقاب اللّه ، فارّين من عذابه فافعلوا ، والمراد أنكم لا تستطيعون ذلك ، فهو محيط بكم لا تقدرون على الخلاص منه ، فأينما ذهبتم أحيط بكم.(27/118)
ج 27 ، ص : 119
ثم بين السبب فى عدم إمكان المهرب فقال :
(لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي إن المهرب إنما يكون بالقوة والقهر ، وأنّى لكم بهما ؟ وممن تستمدونهما وأنتم لا تجدون إذ ذاك حولا ولا طولا ؟
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ومن جملتها النعمة الحاصلة بالتحذير والتهديد ، فإنها تزيد المحسن إحسانا ، وتكف المسيء عن إساءته ، مع أن من حذّركم وأنذركم قادر على الإيقاع بكم دون مهلة ، والعفو عن المذنب مع كمال القدرة عليه من أجلّ النعم التي يسديها اللّه إلى عباده.
ثم بين السبب فى طلب المهرب فقال :
(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) أي يصب عليكما ألوان من النيران ، فمن لهب خالص يضىء كضوء السراج ، إلى نار مختلطة بالدخان ، فلا تستطيعان المهرب منها ، بل يسوقكم إلى الحشر سوقا.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ ) أي فبأى هذه النعم تكذبان ، فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالإنعام على الأول والانتقام من الثاني ، من أجلّ نعم الإله القادر على جزاء عباده.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)(27/119)
ج 27 ، ص : 120
تفسير المفردات
انشقت : تصدعت ، وردة : أي كالوردة فى الحمرة ، والدهان : ما يدهن به : أي كانت مذابة كالدهان ، والسيما : العلامة ، والنواصي : واحدها ناصية وهى مقدم الرأس ، والأقدام : واحدها قدم ، وهى قدم الرجل المعروفة ، والحميم : الماء الحارّ ، وآن : أي متناه فى الحرارة لا يستطاع شر به من شدة حرارته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد عزت قدرته نعماءه على عباده ، وما يجب من شكرهم عليها ، ثم أرشدهم إلى أن هذه النعم لا بقاء لها ولا ثبات ، ثم ذكر أن الناس محاسبون على الصغير والكبير من أعمالهم ، وسيلقون الجزاء عليها ، ولا مهرب حينئذ منها ، ولا نصير لهم ينقذهم مما سيحل بهم من العذاب - ذكر هنا أنه إذا جاء ذلك اليوم اختل نظام العالم ، فتتصدع السموات ، ويحمر لونها ، وتصير مذابة غير متماسكة ، كالزيت ونحوه مما يدّهن به ، ويكون للمجرمين حينئذ علامات يمتازون بها عن سواهم ، فيتعرفهم الرائي لهم دون حاجة إلى سؤال نكالا وخزيا لهم ، ثم يجرّون إلى جهنم من نواصيهم وأرجلهم ، ويقال لهم توبيخا وتقريعا : هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها ، وينتقل بهم من جهنم إلى ماء حار كالمهل يشوى الوجوه ومن عذاب إلى ما هو أشد منه.
الإيضاح
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) أي فإذا جاء يوم القيامة تصدعت السموات واختلت نظمها ، وتبعثرت أجرامها وكواكبها عن مداراتها ، واحمر لونها وأذيبت حتى صارت كأنها الزيت ونحوه مما يدّهن به.
ونحو الآية قوله : « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ » .(27/120)
ج 27 ، ص : 121
وقوله : « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ » وقوله : « وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ » .
والخلاصة - إنها تذوب كما يذوب دردئ الزيت والفضة حين السبك ، وتتلوّن كما تتلون الأصباغ التي يدّهن بها ، فتارة تكون حمراء وأخرى صفراء وثالثة زرقاء.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر ، فهو لطف أىّ لطف ، ونعمة أيّما نعمة.
(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) لأنهم يعرفون بسيماهم حينما يخرجون من القبور ويحشرون إلى الموقف.
ونحو الآية قوله تعالى : « هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ » ثم يسألون بعدئذ كما يدل على ذلك قوله : « فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ » .
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ ) أي فبأى هذه النعم تكذبان ، فإن تخويف المجرم نعمة عليه ، حتى يرتدع عن ذنبه ، ويثوب إلى رشده ، ويتوب إلى ربه.
ثم ذكر السبب فى عدم سؤال الإنس والجان عن ذنوبهم فقال :
(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي يعرف المجرمون حينئذ بعلامات يمتازون بها عن سواهم ، فلا حاجة حينئذ إلى السؤال والجواب ، لأن السيما ميزت كل مجرم بنوع جرمه.
ولقد اهتدى الإنسان بعقله إلى فوائد هذه العلامات فى الدنيا ، فأنشأت الحكومات إدارات خاصة لعلامات المشتبه فى سلوكهم ومعتادى الأجرام ، فتأخذ إبهاماتهم وتحفظها فى أضابير خصّيصى بهم ، ولكل امرئ خطوط فى إبهامه لا تشابه خطوط غيره فيه ولا يحصل فيها التباس ، فمتى أحدث أحدهم حدثا وجاء بجرم روجع ملفّه الخاص ،(27/121)
ج 27 ، ص : 122
واستخرجت صورة إبهامه من ملفه ، وطبقت على الصورة الخارجية ولاقى فى المحاكم ما يستحقه من عقاب.
والخلاصة - إن لكل امرئ أحوالا تخصه فى جسمه وعقله وأخلاقه ، يعرف الناس منها الآن قليلا ، وبقية علمها عند اللّه يعلمها ملائكته يوم القيامة فيعرفون المجرمين بها.
ثم تسحبهم الملائكة تارة بأخذ النواصي ، وأخرى بأخذ الأقدام ، روى عن الضحاك « أن الملك يجمع بين ناصية أحدهم وقدميه فى سلسلة من وراء ظهره ، ثم يكسر ظهره ويلقيه فى النار ، وقيل : تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية ، وبعضهم سحبا بالقدم ، ولا نجزم بشىء من ذلك إلا بالنص القاطع.
وهذا الوضع معهم سبيل من سبل الإهانة والإذلال والنكال.
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما سلف حذو القذّة بالقذّة.
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) أي ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : هذه جهنم التي كنتم تكذبون بها فى الدنيا ، فهأنتم الآن قد شاهدتموها ورأيتموها رأى العين ، فذوقوا عذابها واشربوا من الحميم الذي يقطّع الأمعاء والأحشاء فأنتم بين الجحيم والحميم.
والخلاصة - إنهم إذا استغاثوا من النار جعل عذابهم الحميم الآنى الذي صار كالمهل (دردىء الزيت : أي عكره).
ونحو الآية قوله : « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ » .
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يقال هنا مثل ما قيل فيما سلف.(27/122)
ج 27 ، ص : 123
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 61]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
تفسير المفردات
الخوف فى الأصل : توقع المكروه عند ظهور أمارة مظنونة أو محققة ، وضده الأمن ويراد به هنا الكفّ عن المعاصي مع فعل الطاعات ، ومقام ربه : أي قيامه عليه واطلاعه على أعماله ، جنتان : أي جنة روحية لقلبه ، وجنة جسمانية على شاكلة ما عمل فى الدنيا ، وقيل إنهما منزلان ينتقل بينهما لتتوافر دواعى لذته ، وتظهر آثار كرامته ، ذواتا : مثنى ذات بمعنى صاحبة ، والأفنان : الأنواع واحدها فنّ : أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار ، زوجان : أي صنفان رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه فى الفضل والطيب ، والفرش : واحدها فراش ، والبطائن : واحدها بطانة ، والإستبرق : الديباج أي الحرير الثخين ، والجنى : الثمر ، دان : أي قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع ، قاصرات الطرف : أي نساء يقصرن أبصارهن على أزواجهن(27/123)
ج 27 ، ص : 124
لا ينظرن إلى غيرهم ، لم يطمثهن : أي لم يمسسهن ، وأصل الطمث : خروج الدم ، ويراد به قربان النساء ، كأنهن الياقوت : أي فى الصفاء ، والمرجان : أي صغار اللؤلؤ فى البياض.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما يراه المشركون بربهم ، والعاصون لأوامره ونواهيه من الأهوال ، من إرسال الشواظ من النار عليهم ، ومن أخذهم بالنواصي والأقدام ، إهانة لهم واحتقارا ومن التنقل بهم بين النار والحميم الآنى الذي يشوى الوجوه - ذكر هنا ما أعده من النعيم الروحي والجسماني لمن خشى ربه ، وراقبه فى السر والعلن ، فمن جنات متشابهة الثمار والفواكه تجرى من تحتها الأنهار ، جناها دان لمن طلبه وأحب نيله ، يجلس فيها على فرش بطائنها من الديباج ، ومن نساء حسان لم يقرب منهن أحد لا من الإنس ولا من الجن ، وهن كالياقوت صفاء واللؤلؤ بياضا ، وذلك كفاء ما قدموا من صالح العمل ، وما أسلفوا فى الأيام الخالية ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ .
الإيضاح
(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ؟ ) أي ولمن خشى ربه وراقبه فى أعماله ، وأيقن بأنه مجازيه عليها يوم العرض والحساب ، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، فإذا هو همّ بمعصية ذكر اللّه وأنه عليم بسره ونجواه ، فتركها مخافة عقابه ، وشديد حسابه ، ففعل الخير وأحب الخير للناس - جنتان : جنة روحية تصل به إلى حظيرة القدس ، وجمال الملكوت ورضا اللّه عنه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » وجنة جسمانية بمقدار ما عمل فى الدنيا من خير ، وقدم من صالح عمل ، فبأى نعم ربكما(27/124)
ج 27 ، ص : 125
أيها الثقلان تكذبان ، فإثابته المحسن منكم بما وصف ، وعقابه العاصي بما عاقب من النعم العظمى ، والمنن الكبرى.
(ذَواتا أَفْنانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ذواتا أنواع وألوان من الأشجار والثمار من قولهم « افتن فلان فى حديثه إذا أخذ فى فنون منه وضروب مختلفة ، والمتنوقون فى الدنيا يتنقلون من فاكهة إلى أخرى فيكون ذلك أدعى إلى زيادة اللذة ، وأكثر شهوة للطعام ، كما قال قائلهم :
ومن كل أفنان اللذاذة والصّبا لهوت به والعيش أخضر ناضر
(فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما عينان تسرحان وتسقيان تلك الأشجار والأغصان ، إحداهما يقال لها التسنيم ، والأخرى السلسبيل قاله الحسن البصري. وقال أبو بكر الوراق : تجريان لمن كانت عيناه فى الدنيا تجريان من مخافة اللّه عز وجل ، فتجريان فى كل مكان شاء صاحبهما وإن علا مكانه ، كما تصعد المياه فى الأشجار فى كل غصن منها وإن زاد علوها.
(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فيهما من كل فاكهة صنفان : رطب ويابس ، لا ينقص أحدهما عن الآخر لذة وطيبا ، بخلاف ثمار الدنيا فإن الطازج فيها ألذ طعما وأشهى مأكلا.
وبعد أن ذكر طعامهم ذكر فراشهم فقال :
(مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي مضطجعين على فرش بطائنها من الديباج الغليظ ، وإذا كانت هذه حال البطائن فما ظنكم بالظهائر ؟ ومن ثم روى عن ابن مسعود أنه قال : أخبرتم بالبطائن ، فكيف لو أخبرتم بالظهائر ؟ وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر ؟ قال : هذا مما قال اللّه فيه « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وبمثله قال ابن عباس.(27/125)
ج 27 ، ص : 126
وفى هذا دليل على شرف هذه الفرش ، وتمتع أهلها بالثواب العظيم ، والنعيم المقيم.
وإنما ذكر الاتكاء ، لأنه هيئة تدل على صحة الجسم ، وفراغ القلب ، إذ العليل لا يستطيع أن يستلقى أو يستند إلى شىء ، وهو مشغول القلب يتحرك تحرك المحضر للعقاب.
(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وثمرهما قريب منهم متى شاءوا ، ونحو الآية قوله : « قُطُوفُها دانِيَةٌ » وقوله : « وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا » فهى لا تمتنع ممن أرادها ، بل تنحط إليه من أغصانها.
ثم ذكر أوصاف النساء اللواتى يمتعون بهنّ فقال :
(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء غضيضات الطرف عن غير أزواجهن ، فلا يرين شيئا فيها أحسن منهم ، وهن أبكار لم يمسسهن أحد قبل أزواجهن لا من الجن ولا من الإنس.
(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي كأنهن الياقوت صفاء وصغار اللؤلؤ بياضا.
أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فى الآية : فى صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ.
ثم بين السبب فى هذا الجزاء فقال :
(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ما جزاء الإحسان فى العمل إلا الإحسان فى المثوبة.
ونحو الآية قوله : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ » .
وعن أنس بن مالك قال : « قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : هل جزاء(27/126)
ج 27 ، ص : 127
الإحسان إلّا الإحسان ، وقال : هل تدرون ما قال ربكم ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم.
قال : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة » أخرجه ابن أبى حاتم وابن مردويه والبيهقي ،
وروى عن ابن عباس « هل جزاء من قال : لا إله إلا اللّه فى الدنيا إلا الجنة فى الآخرة ؟ » .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
تفسير المفردات
ومن دونهما : أي من ورائهما وأقل منهما ، مدهامتان : أي خضراوان بسواد لأن الخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد من كثرة الري بالماء ونحوه ، نضاختان :
أي فوارتان بالماء ، والنضخ : فوران الماء ، حور واحدتهن حوراء : أي بيضاء.
قال ابن الأثير : الحوراء هى الشديدة بياض العين والشديدة سوادها ، خيرات : أي(27/127)
ج 27 ، ص : 128
خيّرات بالتشديد فخفف كما
جاء فى الحديث « هينون لينون »
، مقصورات فى الخيام :
أي مخدّرات ، يقال امرأة قصيرة ومقصورة : أي مخدرة ملازمة بيتها لا تطوف فى الطرق. قال قيس بن الأسلت :
وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتلّ من إتيانهن فتعذر
والخيام : واحدها خيمة وهى أربعة أعواد تنصب وتسقف بشىء من نبات الأرض ، وما يتخذ من شعر أو وبر فهو خباء ، والرفرف واحده رفرفة : وهى الوسادة (المخدّة) أو ما تدلّى من الأسرّة من غالى الثياب ، والعبقرىّ : منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه بلد يسكنه الجن ويسندون إليه كل شىء عجيب ، والمراد العجيب النادر الموشى من البسط ، تبارك اسم ربك : أي تقدس وتنزه ربنا الذي أفاض على عباده نعمه.
المعنى الجملي
هذا تتميم لوصف الجنات بما يشوق الراغبين فيها ، ليعملوا ما يوصلهم إليها ، ويرضى ربهم عنهم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
الإيضاح
(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. مُدْهامَّتانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي ومن وراء هاتين الجنتين وأقل منهما فضلا جنتان تنبتان النبات والرياحين الخضراء التي تضرب إلى السواد من شدة خضرتها ، لكثرة الري ، وأما الجنتان السابقتان ففيهما أشجار وفواكه ، وفرق ما بين الحالين ، فبأى هذه النعم تكذبان وهى نعم واضحة لا تجحد ولا تنكر.
قال الحسن : الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين لهم.
وعن أبى أيوب الأنصاري قال : « سألت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن قوله مدهامتان ؟ قال : خضراوان » أخرجه الطبراني وابن مردويه.(27/128)
ج 27 ، ص : 129
(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) النضح كالرش فهو دون الجري ، ومن ثم قال البراء بن عازب فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبى حاتم : « العينان اللتان تجريان خير من النضاختين » .
أي فيهما عينان تفوران بالماء. وقال مجاهد : نضاختان بالخير والبركة.
(فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) خص النخل والرمان مع دخولهما فى الفاكهة ، تنبيها إلى ما لهما من ميزة عن غيرهما من الفواكه ، لأنهما يوجدان فى الخريف والشتاء ، ولأنهما فاكهة وإدام ، وقد جاء مثل هذا فى قوله تعالى :
« حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » وقوله : « وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ » .
(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي فى تلك الجنات نساء خيّرات الأخلاق ، حسان الوجوه.
روى الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت : « قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
يا رسول اللّه أخبرنى عن قوله تعالى خيرات حسان ؟ قال : خيّرات الأخلاق حسان الوجوه » .
وقال الرازي : فى باطنهن الخير ، وفى ظاهرهن الحسن. وروى أن الحور يغنّين :
نحن الخيّرات الحسان ، خلقن لأزواج كرام.
(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهؤلاء الخيّرات الحسان واسعات العيون مع صفاء البياض حول السواد ، محبوسات فى الحجال ، فلسن بطوّافات فى الطرقات ، والعرب يمدحون النساء الملازمات للبيوت للدلالة على شدة الصيانة.
(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تقدم الكلام فى نظيره قبل.
(9 - مراغى - السابع والعشرون)(27/129)
ج 27 ، ص : 130
(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي وهم يتكئون على ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج ، ووسائد عظيمة ، وبسط لها أطراف فاخرة ، غاية فى كمال الصنعة وحسن المنظر.
(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تعالى ربك ذو الجلال والعظمة والتكريم على ما أنعم به وتفضل من نعم غوال ، ومنن عظام.
وهذا تعليم منه لعباده بأن كل هذا من رحمته ، فهو قد خلق السماء والأرض والجنة والنار ، وعذّب العاصين ، وأثاب المطيعين ، وآتاهم من فضله ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
سورة الواقعة
هى مكية إلا قوله : « أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ. وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ » فمدنية ، وآيها ست وتسعون ، نزلت بعد طه.
ووجه مناسبتها ما قبلها :
(1) أن فى كل منهما وصف القيامة والجنة والنار.
(2) أنه ذكر فى السورة السابقة عذاب المجرمين ونعيم المتقين ، وفاضل بين جنتى بعض المؤمنين وجنتى بعض آخر منهم ، وبين هنا انقسام المكلفين إذ ذاك إلى أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين.
(3) أنه ذكر فى سورة الرحمن انشقاق السماء ، وذكر هنا رجّ الأرض ، فكأنّ السورتين لتلازمهما واتحادهما موضوعا سورة واحدة مع عكس فى الترتيب ، فقد ذكر فى أول هذه ما فى آخر تلك ، وفى آخر هذه ما فى أول تلك.(27/130)
ج 27 ، ص : 131
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
تفسير المفردات
وقعت : حدثت ، والواقعة القيامة ، لوقعتها : أي لوقوعها ، كاذبة : أي كذب ، ورجت : زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال ، وبست :
أي فتتت وصارت كالسويق الملتوت ، من قولهم بس فلان السويق : أي لتّه ، وهباء :
أي غبارا ، منبثا : أي متفرقا ، أزواجا : أي أصنافا. قال الراغب : الزوج يكون لكل من القرينين الذكر والأنثى فى الحيوانات المتزاوجة ، ولكل قرينين منها ومن غيرها كالخف والنعل ، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا اه والميمنة ناحية اليمين ، والمشأمة ناحية الشمال والعرب يتيمنون بالميامن ويتشاءمون بالشمائل ، والمراد أصحاب المرتبة السنية الرفيعة القدر ، والسابقون : هم الذين سبقوا إلى الخيرات فى الدنيا ، والمقربون :
هم أرباب الحظوة والكرامة عند ربهم.
المعنى الجملي
حين تقع الواقعة ويجىء يوم القيامة لا تكذب نفس على اللّه فتنكره ، إذ تحقق بالمعاينة وشهده كل أحد ، أما فى الدنيا فما أكثر النفوس المكذبة به ، المنكرة له ،(27/131)
ج 27 ، ص : 132
لأنهم لم يذوقوا العذاب كما عاينه المعذبون فى الآخرة.
ثم وصف هذه الواقعة بأنها تخفض أقواما وترفع آخرين ، وأن الأرض حينئذ تزلزل فيندك ما عليها من جبال وأبنية ، وأن الجبال تتفتت وتصير كالغبار المنتشر فى الجو ، وأن الناس إذ ذاك ينقسمون أفواجا ثلاثة : أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون.
الإيضاح
(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي إذا قامت القيامة لا يكون لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذى سطوة قاهر قاله الحسن وقتادة وقد يكون المعنى - ليس فى وقت وقوعها كذب ، لأنه حق لا شبهة فيه.
ثم هوّل شأنها وعظم أمرها فقال :
(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي هى خافضة لأقوام ورافعة لآخرين قاله ابن عباس ، إذ الوقائع العظيمة شأنها الخفض والرفع كما يشاهد فى تبدل الدول من ذل الأعزة وعزّ الأذلة.
وفى هذا إيماء إلى ما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ، ورفع السعداء إلى درجات الجنات ، ومن ثم قال عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : خفضت أعداء اللّه إلى النار ، ورفعت أولياءه إلى الحنة.
(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي إذا وقعت الواقعة تزلزل الأرض زلزالا وتضطرب اضطرابا شديدا طولا وعرضا ، فتندكّ الحصون والجبال ، وتهدم البيوت والصياصي.
قال الربيع بن أنس : ترجّ بما فيها كرجّ الغربال بما فيه.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها » وقوله : « يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ » .(27/132)
ج 27 ، ص : 133
(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي وتفتت الجبال تفتتا ، وصارت كثيبا مهيلا بعد أن كانت شامخة.
(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) أي فصارت كالهباء المنبث الذي ذرته الريح وفرقته. وقال قتادة : صارت كيبيس الشجر الذي تذروه الرياح.
والخلاصة - إن الجبال تزول عن أماكنها حينئذ ، وتنسف نسفا ، وتكون كالعهن المنفوش.
(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) أي وصرتم أصنافا ثلاثة ، وكل صنف يذكر أو يوجد مع صنف آخر يسمى زوجا كالعينين والرجلين ، فكل منهما يسمى زوجا ، وهما معا زوجان ، فهاهنا أزواج ثلاثة لا زوجان.
ثم فصل هذه الأزواج فقال :
(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي فأصحاب الميمنة الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم ، أىّ شىء هم فى حالهم وصفتهم وسعادتهم ؟ والمراد أنهم فى حال هى الغاية فى الحسن والكمال.
ولا يخفى ما فى هذا من تفخيم شأنهم ، وتعظيم أمرهم ، وأنهم بلغوا حدا لا يقدر قدره من السعادة.
(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، أي شىء هم فى حالهم ؟ والمراد أنهم بلغوا الغاية فى سوء الحال.
وقال المبرد : أصحاب الميمنة أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر ، والعرب تقول اجعلنى فى يمينك ، ولا تجعلنى فى شمالك ، أي اجعلنى من المتقدمين ولا تجعلنى من المتأخرين اه.
أخرج أحمد عن معاذ بن جبل « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قبض بيديه قبضتين وقال هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالى » .(27/133)
ج 27 ، ص : 134
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أي والسابقون الذين يتقدمون غيرهم إلى الطاعات - هم الذين اشتهرت أحوالهم ، وعرفت فخامة أمورهم ، وقد يكون المعنى والسابقون إلى طاعة اللّه تعالى هم السابقون إلى رحمته سبحانه ، فمن سبق فى هذه الدنيا إلى فعل الخير كان فى الآخرة من السابقين إلى دار الكرامة ، فالجزاء من جنس العمل وكما تدين تدان.
وعن عائشة رضى اللّه عنها أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « أ تدرون من السابقون إلى ظل اللّه يوم القيامة ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال : الذين إذا أعطوا الحق قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم » أخرجه أحمد.
(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي أولئك المتصفون بذلك الوصف الجليل (السبق) هم الذين نالوا حظوة عند ربهم ، وهم فى جنات النعيم ، يتمتعون فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 26]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)(27/134)
ج 27 ، ص : 135
تفسير المفردات
الثلة : الجماعة قلّت أو كثرت ، وقيل الجماعة الكثيرة من الناس كما قال :
وجاءت إليهم ثلّة خندفيّة بجيش كتيّار من السيل مزبد
موضونة من الوضن وهو : النسج ، والولدان : واحدهم ولد ، مخلدون : أي مبقون أبدا على هذه الصفة ، أكواب : أي آنية لا عرا لها ولا خراطيم ، أباريق : واحدها إبريق وهو إناء له خرطوم. قال عدىّ بن الرّقاع :
ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت به قينة فى يمينها إبريق
كأس من معين : أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة ، والمراد أنها لم تعصر كخمر الدنيا ، لا يصدّعون عنها ، أي لا يلحقهم صداع بسببها كما يحدث ذلك فى خمر الدنيا ، ولا ينزفون : أي ولا تذهب عقولهم بالسكر منها ، يقال نزف الشارب إذا ذهب عقله ، ويقال للسكران نزيف ومنزوف ، يتخيرون : أي يختارون ويرضون ، حور : واحدتهن حوراء : أي بيضاء ، عين : واحدتهن عيناء : أي واسعة العينين ، المكنون : المصون الذي لم تمسسه الأيدى وهو أصفى وأبعد من التغير قال :
قامت تراءى بين سجفى كلّة كالشمس يوم طلوعها بالأسعد
أو درّة صدفيّة غوّاصها بهج متى يرها يهلّ ويسجد
لغوا : أي هزاء لا خير فيه ، ولا تأثيما : أي ما يقال حين سماعه وقعتم فى الإثم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الناس يوم القيامة أصناف ثلاثة : سابقون وأصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة - أعقب ذلك بذكر ما يتمتع به السابقون من النعيم فى فرشهم وطعامهم وشرابهم ونسائهم وأحاديثهم التي تدل على صفاء النفس ، وأدب الخلق ، وسمو العقل.(27/135)
ج 27 ، ص : 136
الإيضاح
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي هم جماعة كثيرة من سالفى الأمم وقليل من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويستأنس لهذا
بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة » .
(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي على سرر منسوجة بالذهب مشبكة بالدر والياقوت ، قال الأعشى فى وصف الدرع :
ومن نسج داود موضونة تسير مع الحىّ عيرا فعيرا
(مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) أي متكئين على السرر ينظر بعضهم إلى وجوه بعض ، فهم فى صفاء وعيش رغد وحسن معاشرة ، لا يوجد فى نفوسهم من الشحناء والبغضاء ما يوجب الافتراق.
ثم ذكر ما هم فيه من ترف ونعيم ، وأنهم مخدومون فى شرابهم وطعامهم ، مكفيون مئونة ما يريدون فقال :
(يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف عليهم غلمان وخدم على صفة واحدة لا يكبرون ولا يتغيرون ، فهم دائما على الصفة التي تسر المخدوم إذا رأى الخادم.
(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي يطوفون عليهم بأداة الشراب كاملة من أكواب وأباريق وخمر تجرى من العيون ولا تعصر عصرا فهى صافية نقية لا تنقطع أبدا ، وهم يطلبون منها ما يريدون ، ولا صداع فى شرابها ، ولا ذهاب منها للعقل كما فى خمور الدنيا.
روى عن ابن عباس أن فى خمر الدنيا أربع خصال : السكر والصداع والقيء والبول ، نزه اللّه خمر الجنة عنها » .
وبعد أن وصف الشراب وصف الطعام فقال :
(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ويطوفون بألوان من الفاكهة(27/136)
ج 27 ، ص : 137
المختلفة المطاعم ، يختارون منها ما تميل إليه نفوسهم ، وبأنواع من لحوم الطير مما لذّ وطاب ، فيأخذون منها ما يشتهون ، وفيه يرغبون.
وبعد أن ذكر طعامهم وشرابهم أعقبه بذكر نسائهم فقال :
(وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي ويتمتعون بنساء بيض مشرقات الوجوه تبدو عليهم نضرة النعيم ، وكأنهن اللآلئ صفاء وبهجة.
ثم ذكر السبب فى متعتهم بكل هذا النعيم فقال :
(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جازاهم ربهم على ما عملوا ، وأثابهم بما كسبوا فى الدنيا ، وزكّوا به أنفسهم من صالح الأعمال ، ونصبوا له بأداء فروض دينهم على أتم الوجوه وأكملها ، فهم كانوا قوّامين لليل ، صوّامين للنهار « كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ » وبعد أن وصف النساء وصف حديثهم حينئذ فقال :
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً) أي لا يسمعون اللغو الهراء من الحديث ، ولا هجر القول وما تتقزز منه النفوس الراقية ، ذات الأخلاق العالية ، ولكن يسمعون أطيب السلام ، وسامى الكلام ، مما يستساغ كما قال سبحانه :
« تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ » .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)(27/137)
ج 27 ، ص : 138
تفسير المفردات
السدر : شجر النبق ، مخضود : أي خضد شوكه أي قطع ، والطلح : شجر الموز ، منضود : أي نضد حمله من أسفله إلى أعلاه فليست له سوق بارزة ، ممدود : أي منبسط ممتد لا يتقلص ولا يتفاوت ، مسكوب : أي مصبوب يسكب لهم كما يشاءون بلا نصب ولا تعب ، فرش : واحدها فراش كسرج وسراج ، مرفوعة : أي عالية منضدة ، عربا : واحدتهنّ عروب كصبر وصبور ، أترابا : أي متساويات فى السن واحدتهن ترب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال السابقين وبين مالهم من نعيم مقيم ، فى جنات النعيم - أردف ذلك ذكر حال أصحاب اليمين ، فبين أنهم فى جنات يتخللها السدر المخضود ، والموز المنضّد بعضه فوق بعض ، والفاكهة الكثيرة التي لا تنقطع أبدا ، ولا تمتنع عنهم متى شاءوا ، وفيها فرش وثيرة مرتفعة عالية ، ونساء حسان أبكار فى سن واحدة.
الإيضاح
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) أي وأصحاب اليمين هم الغاية فى فخامة شأنهم ، ورفعة قدرهم ، وعلوّ منزلتهم.
وقد جاء هذا الأسلوب فى كلام العرب لإفادة المبالغة فى مدح أو ذم فيقولون فلان ما فلان.(27/138)
ج 27 ، ص : 139
ثم فصل ما أبهم من حالهم بقوله :
(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي هم يتمتعون بجنات فيها السدر الذي قطع شوكه لا كسدر البرية فى الدنيا ، وفيها الموز الذي ملىء ثمرا ، فلا تظهر له سيقان ، وفيها ظل ظليل يقيهم شديد الحر ووهج الشمس ، وفيها ماء مصبوب لا يحتاج أهلها إلى تعب ونصب للحصول عليه ، وفيها ضروب من الفاكهة التي لا تنقطع أبدا ، ولا تمتنع عنهم فى وقت ، فهم يجدونها متى شاءوا وأحبوا.
ثم ذكر ما يمتعون به من الفرش فقال :
(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) أي وهم يجلسون على فرش وثيرة عالية وطيئة لا تتعب الجالس عليها.
وبعدئذ ذكر ما يمتعون به من النساء فقال :
(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي إنا أعددناهن نساء أبكارا متحببات إلى أزواجهن ، إذ هنّ يحسنّ التبعّل ، كلهن فى سن واحدة ، لا تمتاز واحدة عن أخرى ، وأعطيناهن لأصحاب اليمين.
وأعاد ذكر (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) للتأكيد والتحقيق.
(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي أصحاب اليمين جماعة من مؤمنى الأمم السالفة ، وجماعة من مؤمنى أمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وإنما لم يقل فى حق هؤلاء جزاء بما كانوا يعملون كما قال ذلك فى حق السابقين إشارة إلى أن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)(27/139)
ج 27 ، ص : 140
تفسير المفردات
السموم : حر نار ينفذ فى المسامّ ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، واليحموم :
دخان أسود كما قال ابن عباس وابن زيد ، لا بارد ولا كريم : أي لا هو بارد كسائر الظلال ، ولا دافع أذى الحر لمن يأوى إليه ، مترفين : أي منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون على شىء مما جاء به الرسل ، يصرون : أي يقيمون ولا يقلعون ، والحنث العظيم : أي الذنب العظيم وهو الشرك باللّه وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون اللّه ، والميقات : ما وقت به الشيء والمراد به يوم القيامة ، وسمى به لأنه وقتت به الدنيا ، وشجر الزقوم : شجر ينبت فى أصل الجحيم ، والهيم : واحدها أهيم وهو الجمل الذي يصيبه الهيام (بالضم) وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا ، والنزل : ما يقدم للضيف إذا نزل تكرمة له ، ويوم الدين :
يوم الجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر زوجين من الأزواج الثلاثة ، وبين ما يلقاه كل منهم من عز مقيم ، وشرف عظيم ، فى جنات ونعيم ، فى جملة شئونهم ، فى مآكلهم ومشاربهم وفرشهم(27/140)
ج 27 ، ص : 141
وأزواجهم - أردف ذلك ذكر الزوج الثالث ، وبين ما يلقاه من النكال والوبال وسوء الحال ، فهو يتظلى فى السموم ، ويشرب ماء كالمهل يشوى الوجوه ، ثم أعقبه بذكر السبب فى هذا ، بأنهم كانوا فى دنياهم مترفين غارقين فى ذنوبهم ، منكرين هذا اليوم يوم الجزاء ثم أمره أن يخبرهم بأن هذا اليوم واقع حتما وأن مأكلهم سيكون من شجر الزقوم يملئون منه بطونهم ، ثم يشربون ولا يرتوون كالإبل الهيم ، وهذا ما أعد لهم من كرم وحسن وفادة فى هذا اليوم.
الإيضاح
(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ، ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أصحاب الشمال فى حال لا يستطاع وصفها ، ولا يقدر قدرها من نكال ووبال وسوء منقلب.
ثم فسر هذا المبهم بقوله :
(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي هم فى حرّ ينفذ فى المسامّ ، وماء متناه فى الحرارة ، وظل من دخان أسود ، ليس بطيّب الهبوب ، ولا حسن المنظر ، لأنه دخان من سعير جهنم يؤلم من يستظل به.
قال ابن جرير : العرب تتبع هذه اللفظة (الكريم) فى النفي فيقولون هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم ، وهذا اللحم ليس بسمين ولا كريم ، وهذه الدار ليست بواسعة ولا كريمة اه.
وذكر السموم والحميم ولم يذكر النار ، إشارة بالأدنى إلى الأعلى ، فإن هواءهم إذا كان سموما ، وماءهم الذي يستغيثون به حميما ، مع أن الهواء والماء من أبرد الأشياء وأنفعها ، فما ظنك بنارهم ، فكأنه قال : إن أبرد الأشياء لديهم أحرها ، فما بالك بحالهم مع أحرّها ؟ .
ونحو الآية قوله تعالى : « انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ. انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ. لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ.(27/141)
ج 27 ، ص : 142
كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ »
.
والخلاصة - إن السموم تضربهم فيعطشون ، وتلتهم تارة أحشاءهم ، فيشربون الماء فيقطّع أمعاءهم ، ويريدون الاستظلال بظل ، فيكون ظل اليحموم.
ثم ذكر السبب فى تعذيبهم فقال :
(إِنَّهُمْ كانُواقَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ. وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ؟ )
أي إنهم كانوا فى الدنيا منعمين بألوان من المآكل والمشارب ، والمساكن الطيبة ، والمقامات الكريمة ، مهمكين فى الشهوات ، فلا جرم عذّبوا بنقائضها ، إلى أنهم كانوا ينكرون هذا اليوم ويقولون : أنبعث نحن وآباؤنا الأولون ونعود كرّة أخرى ، وقد صرنا أجسادا بالية ، وعظاما نخرة ؟ .
والخلاصة - إنهم كانوا يمتّعون بوافر النّعم وجزيل المنن ، وهم مع ذلك أصروا على كفرانهم ، ولم يشكروا أنعم اللّه عليهم ، فاستحقوا عقاب ربهم ، وكانوا مكذبين بهذا اليوم ، مستبعدين وقوعه ، وركبوا رءوسهم فلم يلووا على شىء ، وهاموا فى أودية الضلالة ، وساروا فى سبيل الغواية ، لا رقيب ولا حسيب.
وقد جرت سنة القرآن أن يذكر أسباب العقاب ، ولا يذكر أسباب الثواب ، لأن الثواب فضل ، والعقاب عدل ، والفضل إن ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم فى المتفضل به نقص ولا ظلم ، أما العدل فإن لم يعلم سببه فربما يظن أنه ضرب من الظلم.
وقد ذكروا لاستبعاد هذا البعث أسبابا :
(1) الحياة بعد الموت.
(2) طول العهد بعد الموت حتى صارت اللحوم ترابا والعظام رفاتا.
(3) بلغ الأمر منهم أن قالوا متعجبين : أو يبعث آباؤنا الأولون ؟
فرد اللّه عليهم كل هذا وأمر رسوله أن يجيبهم.(27/142)
ج 27 ، ص : 143
(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أجبهم أيها الرسول الكريم قائلا لهم : إن الأولين الذين تستبعدون بعثهم أشد الاستبعاد ، والآخرين الذين تظنون أن لن يبعثوا - ليجمعون فى صعيد واحد فى ذلك اليوم المعلوم ، ولا شك أن اجتماع عدد لا يحصى كثرة أعجب من البعث نفسه.
ونحو الآية قوله فى سورة الصافات : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » .
ثم بين ما يلقاه أولئك المكذبون من الجزاء فى مآكلهم ومشاربهم فقال :
(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ. فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي أيها الذين ضللتم فأصررتم على الذنب العظيم ، إذ لم توحّدوا اللّه ولم تفعلوا ما يوجب تعظيمه ، ثم كذبتم رسله ، فأنكرتم البعث والجزاء فى هذا اليوم - إنكم لآكلون من شجر الزقوم ، فمالئون منها بطونكم ، فشاربون بعد ذلك من ماء حارّ لغلبة العطش عليكم ، ولكنه شرب لا يشفى الغليل ، ومن ثم تشربون ولا ترتوون ، فكأنكم الإبل التي أصيبت بداء الهيام ، فلا يروى لها الماء غليلا.
وخلاصة ذلك - إنه لزيادة العذاب لا ترتوون من شرب هذا الماء المنتن الحار فلا تمسكوا عنه ، بل يكون شربكم كشرب الإبل التي تشرب ولا تروى.
ثم بين أنه ليس هذا كل العذاب بل هو أوله وقطعة منه فقال :
(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الزقوم المأكول ، والحميم المشروب ، أول الضيافة التي تقدم لهم كما يقدم للنازل مما حضر ، فما بالك بهم بعد ما يستقر بهم المقام فى النار ؟ .
ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم ، والتوبيخ لهم كما قال :
وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا(27/143)
ج 27 ، ص : 144
[سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
تفسير المفردات
تمنون : أي تقذفونه فى الأرحام من النطف ، تخلقونه أي تقدرونه وتصوّرونه بشرا سويا تام الخلق ، قدرنا : أي قسمنا ووقتنا موت كل أحد بوقت ، نبدل أمثالكم :
أي نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم ، فيما لا تعلمون : أي من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها ، فلو لا تذكرون : أي فهلا تتذكرون ذلك ، تحرثون : أي تبذرون حبه ، وتعملون فى أرضه ، تزرعونه : أي تنبتونه وتجعلونه نباتا يرفّ ، حطاما : أي هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه ، تفكهون : أي تتعجبون من سوء حاله ، مغرمون : أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال :
إن يعذّب يكن غراما وإن يقسط جزيلا فإنه لا يبالى(27/144)
ج 27 ، ص : 145
محرومون : أي غير مجدودين ، فليس لنا جدّ وحظ ، المزن : السحاب واحدته مزنة ، أجاجا : أي ملحا زعاقا لا يصلح لشرب ولا فى زرع ، لو لا : بمعنى هلا ، وهى كلمة تفيد الحث على فعل ما بعدها ، تورون : أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ، تذكرة : تذكيرا بالبعث ، ومتاعا : أي منفعة ، للمقوين : أي للمسافرين الذين يسكنون القواء : أي القفر والمفاوز ، فسبح : أي تعجب من أمرهم ، وقل : سبحان اللّه العظيم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأزواج الثلاثة ، وبين مآل كل منها ، وفصل ما يلقاه السابقون وأصحاب الميمنة من نعيم مقيم ، وذكر ما يلقاه أصحاب المشأمة من عذاب لازب فى حميم وغساق ، وذكر أن ذلك إنما نالهم ، لأنهم أشركوا بربهم وعبدوا معه غيره وكذبوا رسله ، وأنكروا البعث والجزاء - أردف ذلك إقامة الأدلة على الألوهية من خلق ورزق لطعام وشراب ، وأقام الدليل على البعث والجزاء ، ثم أثبت الأصل الثالث وهو النبوة فيما بعد.
الإيضاح
(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي نحن بدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، أ فليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى ؟ فهلا تصدقون بالبعث.
وفى هذا تقرير للمعاد ، ورد على المكذبين به ، المستبعدين له من أهل الزيغ والإلحاد ، الذين قالوا : « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ؟ » .
ثم أعاد الدليل فقال :(27/145)
ج 27 ، ص : 146
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ ؟ ) أي أخبرونى عما قذفتم به فى الأرحام من النطف :ء أنتم تقدرونه بشرا سويا تام الخلق أم اللّه الخالق لذلك ؟ .
ولا شك أنهم لا يجدون إلا جوابا واحدا لا ثانى له.
والخلاصة - أخبرونى أيها المنكرون قدرة اللّه على إحيائكم بعد مماتكم - عن النطف التي تمنون فى أرحام نسائكم ،ء أنتم تخلقونها أم نحن الخالقون لها ؟ .
(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي نحن قسمنا الموت بينكم ، ووقتنا موت كل واحد بميقات معيّن لا يعدوه بحسب ما اقتضته مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة ، وما نحن بعاجزين عن أن نذهبكم ونأتى بأشباهكم من الخلق ، وننشئكم فيما لا تعلمون من الأطوار والأحوال التي لا تعهدونها.
والخلاصة - نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل منكم أمثالكم بعد مهلككم ، ونجىء بآخرين من جنسكم ، فنجن نميت طائفة ونبدلها بطائفة أخرى قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل.
ثم ذكر دليلا آخر على البعث فقال :
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي لقد علمتم أن اللّه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهى البداية قادر على النشأة الأخرى وهى الإعادة بطريق الأولى كما قال : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » وقال : « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ؟ ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى . أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ » .
وفى الحديث « عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور » .(27/146)
ج 27 ، ص : 147
ثم أردف ذلك دليلا آخر فى الرزق فى المطعوم فقال :
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي أخبرونى عن الحرث الذي تحرثونه ،ء أنتم تنبتونه أم نحن الذين ننبته ؟ أيء أنتم تصيرونه زرعا أم نحن الذين نصيّره كذلك ؟ .
وروى عن حجر المنذرى أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا رب.
(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا ، وأبقيناه لكم ، ولو شئنا لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ، فأصبح لا ينتفع به فى مطعم ولا فى غذاء ، فصرتم تعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتم فيه من الخضرة والنضرة والبهجة والرّواء ، وتقولون : حقا إنا لمعذبون مهلكون لهلاك أرزاقنا ، لا بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا ، وسوء حظنا.
والخلاصة - لو نشاء لجعلناه هشيما متكسرا لشدة يبسه ، فأقمتم تعجبون مما نزل بكم ، ويعجّب بعضكم بعضا لذلك وتقولون إنا لمعذبون ، لا بل نحن محرمون غير مجدودين ، لنحس طالعنا ، وسوء حظنا.
ثم أعقبه بدليل آخر فى المشروب فقال :
(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) أي أ فرأيتم أيها الناس الماء العذب الذي تشربونه ،ء أنتم أنزلتموه من السحاب الذي فوقكم إلى قرار الأرض أم نحن منزلوه لكم ؟ .
(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي لو نشاء لجعلناه ملحا زعاقا لا تنتفعون به فى شرب ولا غرس ولا زرع ، فهلا تشكرون ربكم على إنزاله المطر عذبا زلالا ؟
« لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ. يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » .(27/147)
ج 27 ، ص : 148
أخرج ابن أبى حاتم عن أبى جعفر رضى اللّه عنه « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا شرب الماء قال : الحمد للّه الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا » .
(أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي أ فرأيتم النار التي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد ،ء أنتم أنشأتم شجرتها التي منها الزناد أم نحن المنشئون لها بقدرتنا ؟ .
وكانت العرب توقد النار بطريق احتكاك المرخ بالعفار (نوعان من الشجر) فيأتون بعود من العفار وبقطعة عريضة من المرخ يحفرون فى وسطها حفرة ثم يضعون عود العفار فى هذه الفجوة ، ويأتى فتى من فتيان القبيلة ويحرك عود العفار فيها بالتوالي ، ويأتى بعده آخر ويصنع صنيع سابقه ، ولا يزالون يفعلون هكذا حتى تشتعل النار من كثرة الاحتكاك.
وهذه عملية شاقة عسرة ، ومن ثم كان البيت فى القبيلة إذا رأى النار موقدة استعار جذوة منها ، وإلى هذا أشار فى قوله سبحانه فى قصص موسى « إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ » .
ثم بين منافع هذه النار فقال :
(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) أي نحن جعلنا النار تبصرة فى أمر البعث حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ، ويذكروا بها ما أوعدوا به لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضادّ لها فهو قادر على إعادة ما تفرقت مواده ، ومنفعة لمن ينزلون القواء والمفاوز من المسافرين ، فكم من قوم سافروا ثم أرملوا فأجّجوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها ، وقد كان من لطف اللّه أن أودعها الأحجار ، وخالص الحديد ، فيتمكن المسافر من حملها فى متاعه وبين ثيابه ، وإذا احتاج إليها فى منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد نارا فطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها فى وجوه المنافع المختلفة.(27/148)
ج 27 ، ص : 149
وفى الحديث « المسلمون شركاء فى ثلاثة : النار والكلإ والماء » .
وقد يكون المعنى : وجعلناها تذكرة وأنموذجا من نار جهنم لما
فى الصحيحين وغيرهما عن أبى هريرة أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم » .
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) الذي خلق هذه الأشياء بقدرته ، فخلق الماء العذب البارد ، ولو شاء لجعله ملحا كالبحار والمحيطات ، وخلق النار وجعل فيها منافع للناس فى معايشهم ، وجعلها تبصرة لهم فى معادهم.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 82]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
تفسير المفردات
لا أقسم : هذا قسم تستعمله العرب فى كلامها ، ولا مزيدة للتأكيد مثلها فى قوله :
« لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ » ، ومواقع النجوم : مساقط كواكب السماء ومغاربها ، مكنون : أي مصون عن التغيير والتبديل ، المطهرون : أي المنزهون عن دنس الحظوظ النفسية ، مدهنون : أي متهاونون كمن يدهن فى الأمر : أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على الألوهية والبعث والجزاء - أعقب هذا بذكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم ، وأقسم على هذا بما يرونه فى مشاهداتهم من(27/149)
ج 27 ، ص : 150
مساقط النجوم ، إنه لكتاب كريم لا يمسه إلا المطهرون ، وأنه نزل من لدن حضرة القدس على يد جبريل عليه السلام ، فكيف تتهاونون فى اتباع أوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، وتجعلون شكركم على هذا تكذيبكم بنعم اللّه وجزيل فضله عليكم ؟ .
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) أي أقسم بمساقط النجوم ومغاربها ، وإنما خص القسم بهذه الحال ، لما فى غروبها من زوال أثرها ، والدلالة على وجود مؤثر دائم ، ومن ثم استدل إبراهيم عليه السلام بالأفول على وجود الإله جلت قدرته.
وقد أقسم سبحانه بكثير من مخلوقاته العظيمة ، دلالة على عظم مبدعها ، فأقسم بالشمس والقمر ، والليل والنهار ، ويوم القيامة ، والتين والزيتون ، كما أقسم بالأمكنة فأقسم بطور سينين ومكة المكرمة.
ويرى أبو مسلم الأصفهانى وشرذمة من المفسرين : أنّ لا ليست مزيدة والكلام على ظاهره المتبادر منه ، والمعنى : لا أقسم بهذه : إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما ، فضلا عن هذا القسم العظيم.
(وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم عظيم لو تعلمون ذلك.
وفى هذا تفخيم للمقسم به ، لما فيه من الدلالة على عظيم القدرة ، وكمال الحكمة ، وفرط الرحمة ، ومن مقتضيات رحمته ، ألا يترك عباده سدى.
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال :
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن جم المنافع ، كثير الفوائد ، فقد اشتمل على ما فيه صلاح البشر فى دنياهم وآخرتهم.
قال الأزهرى : الكريم اسم جامع لما يحمد ، والقرآن كريم يحمد ، لما فيه من الهدى والبينات ، والعلم والحكمة ، فالفقيه يستدل به ويأخذ منه ، والحكيم يستمد منه(27/150)
ج 27 ، ص : 151
ويحتج به ، والأديب يستفيد منه ويتقوى به ، فكل عالم يطلب أصل علمه منه اه.
(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي فى لوح محفوظ مصون عن غير المقرّبين من الملائكة الكرام.
(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي لا يمس هذا اللوح إلا المنزهون عن دنس الأرجاس والحظوظ النفسية وقد يكون المراد : لا ينزل به إلا المطهرون وهم الملائكة الكرام ، أو لا يمس هذا القرآن إلا المطهرون من الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، والمراد بذلك النهى : أي لا ينبغى أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة.
أخرج ابن أبى شيبة فى المصنف وابن المنذر والحاكم عن عبد الرحمن بن زيد قال : كنا مع سلمان الفارسي فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا ثم خرج إلينا ، فقلنا لو توضأت فسألناك عن أشياء من القرآن ، فقال : سلونى فإنى لست أمسه ، إنما يمسه المطهرون ، ثم تلا (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ).
وقد ذهب جمهور العلماء إلى منع المحدث عن مس المصحف ، وبذلك قال على وابن مسعود وسعد بن أبى وقاص وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.
وروى عن ابن عباس والشعبي فى جماعة منهم أبو حنيفة أنه يجوز للمحدث مسه ، يراجع شرح المنتقى للشوكانى.
وقال الحسين بن الفضل : المراد أنه لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره اللّه من الشرك والنفاق.
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وهو منزل نجوما من لدن رب العالمين ، فليس بالسحر ولا الكهانة ولا الشعر ، وهو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه شىء نافع.
وبعد أن بين مزاياه وأنه من لدن عليم خبير ذكر أنه لا ينبغى التهاون فى أوامره ونواهيه ، بل ينبغى التمسك به فقال :(27/151)
ج 27 ، ص : 152
(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أي أ فبهذا القرآن تتهاونون ، وتمالثون من يتكلم منه ، ولا تظهرون له المخالفة وعدم الرضا ؟ .
قال البقاعي : فهو على هذا إنكار على من سمع أحدا يتكلم فى القرآن بما لا يليق به ، ثم لا يجاهره بالعداوة. وابن العربي الطائي صاحب كتاب الفصوص ، وابن الفارض صاحب التائية أول من صوّبت إليهما هذه الآية ، فإنهما تكلما فى القرآن على وجه يبطل الدين أصلا ورأسا ويحلّه عروة عروة ، فهما من أضر الناس على هذا الدين ، ومن يتأول لهما أو ينافح عنهما أو يعتذر لهما أو يحسن الظن بهما مخالفا إجماع الأمة - فهو أعجب حالا منهما ، فإن مراده إبقاء كلامهما الذي لا أفسد للاسلام منه من غير أن يكون لإبقائه مصلحة ما بوجه من الوجوه اه بتصرف.
(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي وتجعلون الشكر على هذا أنكم تكذبون بمن منح هذا الرزق ، فتنسبونه إلى الأنواء وتقولون مطرنا بنوء كذا ، دون أن تقولوا أفاض اللّه علينا الرزق من لدنه ، ومنحنا الفضل برحمته.
والخلاصة - إنكم تضعون الكذب مكان الشكر ، وهذا على نحو ما جاء فى قوله تعالى : « وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً » أي لم يكونوا يصلون ، لكنهم كانوا يصفرون ويصفّقون مكان الصلاة.
قال القرطبي : وفى هذا بيان لأن ما يصيب العباد من خير فلا ينبغى أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكون أسبابا ، بل ينبغى أن يروه من قبل اللّه تعالى ، ثم يقابلونه بالشكر إن كان نعمة ، وبالصبر إن كان مكروها ، تعبدا له وتذللا اه.(27/152)
ج 27 ، ص : 153
[سورة الواقعة (56) : الآيات 83 الى 96]
فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
تفسير المفردات
لو لا : حرف يفيد الحث على حصول ما بعده على سبيل الاستحسان أو الوجوب ، والحلقوم : مجرى الطعام ، ونحن أقرب إليه منكم : أي علما وقدرة ، مدينين : أي محاسبين مجزيين ، أو مملوكين مقهورين من قولهم دان السلطان الرعية إذا استذلهم واستعبدهم ، والروح : الاستراحة ، ريحان : أي رزق ، من المكذبين الضالين :
هم أصحاب الشمال ، فنزل : أي فجزاؤه نزل ، وتصلية جحيم : أي إدخال فى النار ، حق اليقين : أي حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه :
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه جحود الكافرين بآياته وتكذيبهم رسوله وكتابه ، وقولهم فيه : إنه سحر أو افتراء ، واعتقادهم أن رزقهم من الأنواء - أردف ذلك توبيخهم على ما يعتقدون ، فإنه إذا كان لا بد للفعل من فاعل ، وقد جحدتم اللّه وكذبتم رسوله فالفاعل لهذا كله أنتم ، لأن الخالق إما اللّه وإما أنتم ، فإذا نفيتم اللّه فأنتم الخالقون ،(27/153)
ج 27 ، ص : 154
وإذا فلما ذا لا ترجعون الروح لميتكم وهو يعالج سكرات الموت ، فإن كنتم صادقين فارجعوها ، الحق أنكم لا تعقلون الدليل والبرهان ، بل لا تفهمون إلا المحسوسات ، فلمّا لم تروا الفاعل كذبتم به ، وهذا من شيمة الجهال ، إذ للعلم وسائل عديدة ، فليس عدم رؤية الشيء دليلا على عدم وجوده.
ثم بين حال المتوفى ، ومن أىّ الأزواج الثلاثة هو ، فإن كان من السابقين فله روح واطمئنان نفس ، علما منه بما سيلقاه من الجزاء ، ورزق طيب فى جنات النعيم فيرى فيها ما تلذ الأنفس ، وتقرّ به الأعين ، وإن كان من أصحاب اليمين فتسلم عليه الملائكة ، وتعطيه أمانا من ربه ، وإن كان من أصحاب الشمال فضيافته ماء حميم وعذاب فى النار أبدا.
ثم بين لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن الخبر الذي أخبر به هو الحق اليقين ، وعليه أن ينزّه ربه العظيم عن كل ما لا يليق به.
الإيضاح
(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي فهلا إذا بلغت النفوس عند خروجها من أجساد موتاكم حلا قيمهم وأنتم ومن حضركم من أهليكم تنظرون إليهم ، ورسلنا الذين يقبضون أرواحهم أقرب إليهم منكم ولكن لا تبصرون - وجواب لو لا هو ما سيأتى بعد وهو (ترجعونها).
وخلاصة المعنى - إذا لم يكن لكم خالق وأنتم الخالقون ، فهلا ترجعون النفوس إلى أجسادها حين خروجها من حلاقيمها ؟
ثم كرر الحث والتحضيض مرة أخرى فقال :
(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي فهلا ترجعون النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ، ومقرها من الجسد ، إن كنتم غير مصدقين أنكم تبعثون وتحاسبون وتجزون.(27/154)
ج 27 ، ص : 155
وبعد أن ذكر حال المحتضرين فى الدنيا أردفها ذكر حالهم بعد الوفاة وقسمهم أزواجا ثلاثة فقال :
(1) (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فإن كان المتوفّى من الذين قرّبهم ربهم من جواره فى جناته ، لفعله ما أمر به ، وتركه ما نهى عنه ، فراحة واطمئنان لنفسه ، ورزق واسع من عنده ، وتبشره الملائكة بجنات النعيم ، و
قد جاء فى حديث البراء بن عازب : « إن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة فى الجسد الطيب ، كنت تعمرينه ، فاخرجى إلى روح وريحان ، ورب غير غضبان » .
(2) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ. فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وإن كان المتوفّى من أصحاب اليمين فتبشره الملائكة وتقول له : سلام لك من إخوانك أصحاب اليمين.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ » .
(3) (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وإن كان المتوفى من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى ، فيقدم ضيافة له ماء حميم يصهر به ما فى بطنه والجلود ، ويدخل فى النار التي تغمره من جميع جهاته.
(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الذي ذكر فى هذه السورة من أمر البعث الذي كذبوا به ، ومن قيام الأدلة عليه ، ومن حال المقربين وأصحاب اليمين ، وحال المكذبين الضالين - لهو حق الخبر اليقين الذي لا شك فيه ، لتظاهر الأدلة القاطعة عليه ، كأنه مشاهد رأى العين.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فبعد أن استبان لك الحق ، وظهر لك اليقين ، فنزه ربك عما لا يليق به ، مما ينسبه الكفار إليه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.(27/155)
ج 27 ، ص : 156
أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عقبة بن عامر الجهني قال : « لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسبّح باسم ربّك العظيم » قال اجعلوها فى ركوعكم ولما نزلت « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » قال اجعلوها فى سجودكم » .
واللّه أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
خلاصة موضوعات هذه السورة
(1) اضطراب الأرض وتفتت الجبال حين قيام الساعة.
(2) إن الناس عند الحساب أزواج ثلاثة ، وذكر مآل كل زوج منها.
(3) اجتماع الأولين والآخرين فى هذا اليوم.
(4) إقامة الأدلة على وجود الخالق.
(5) إقامة البرهانات على البعث والنشور والحساب.
(6) إثبات أن هذه الأخبار حق لا شك فيها.
(7) تبكيت المكذبين على إنكار الخالق.(27/156)
ج 27 ، ص : 157
سورة الحديد
هذه السورة مدنية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد الزلزلة.
ووجه مناسبتها لما قبلها :
(1) إن هذه بدئت بالتسبيح ، وتلك ختمت به.
(2) إن أول هذه واقع موقع العلة لآخر ما قبلها من الأمر بالتسبيح فكأنه قيل :
سبح باسم ربك العظيم ، لأنه سبح له ما فى السموات والأرض.
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
تفسير المفردات
جاء فى الكتاب الكريم سبّح ويسبّح وسبّح ، ويقال : سبّحته وسبّحت له كما يقال : نصحته ونصحت له ، وتسبيح العقلاء أن يقولوا ما يدل على تنزيهه من كل نقص ،(27/157)
ج 27 ، ص : 158
وإبعاده عما لا يليق به من صفات المحدثات ، كإثبات شريك له أو ندّ ، وكون الملائكة بنات له ، وكون عيسى ابنا له ، وتسبيح غيرهم دلالة وجوده على عظم خالقه ، وانقياده له فى كل آن.
وما مثل هذا إلا مثل إشارتك لصاحبك على وضع خاص يفهم منها تأنّ واصبر ، وإشارتك له على هيئة أخرى يفهم منها أنك لا تفعل هذا.
فهذه الدلالة فى الحالين أفهمت صاحبك إفهاما كإفهام الكلام ، بل أقوى وأبلغ أثرا ، وكم للانسان فى حركاته من معان يفهمها الآخرون بطريق لا لبس فيها.
وإذا كان هذا حال الإنسان المحدود العلم والإدراك ، فما بالك بما أطلعنا اللّه عليه من بدائع القدرة والعلم والحكمة ، وقد فهمنا منها ما لا نفهم بالقول ، فلو أنك وقفت فى الخلوات ، وراقبت المزارع والجنات ، والأشجار مترنحات ، وأنواع الكلأ متحركات ، والأوراق تغنّى بموزون الأصوات ، وقد أرخى الليل سدوله ، وأرسل من الخافقين جحافل جنوده ، تلمع من بينها الكواكب ، فتضىء من بينها السباسب لتجلت لك العبر ، وقرأت علوم المبتدإ والخبر ، ولعلمت أنها تحت قبضة ذى الملك والملكوت ، الحي الذي لا يموت ، الفرد الصمد ، المنزّه عن الصاحبة والولد ، سبّوح قدوس ، رب الملائكة والروح.
العزيز : أي الذي لا ينازعه فى ملكه شىء ، الحكيم : أي الذي يفعل أفعاله وفق الحكمة والصواب ، يحيى ويميت : أي يحيى النطف فيجعلها أشخاصا عقلاء فاهمين ناطقين ، ويميت الأحياء ، وهو على كل من الإحياء والإماتة قدير ، وهو الأول : أي السابق على سائر الموجودات ، والآخر : أي الباقي بعد فنائها ، والظاهر والباطن : أي وهو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت ، وخفيت عنا ذاته فلم ترها العيون ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بذاته ، ومشرق بجماله وكماله ، وهو ظاهر بغلبته على مخلوقاته وتسخيرها لإرادته وباطن بعلمه بما خفى منها ، فلا تخفى عليه خافية ، والمراد بستة الأيام ستة الأطوار ، كما تقدم ذلك فى سورة الأعراف ، والاستواء على العرش تقدم تفسيره(27/158)
ج 27 ، ص : 159
فى سورتى يونس وهود ، يلج فى الأرض : أي يدخل فيها من كنوز ومعادن وبذور ، وما يخرج منها : كالزرع والمعادن لمنفعة الناس ، وما ينزل من السماء : كالمطر والملائكة ونحوهما ، وما يعرج فيها : كالأبخرة المتصاعدة والأعمال والدعوات ، يولج الليل فى النهار ويولج النهار فى الليل تقدم تفسير هذا فيما تقدم ، ذات الصدور : أي مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إن ما دونه من خلقه ينزّه عن كلّ نقص ، تعظيما له وإقرارا بربوبيته ، وإذعانا لطاعته كما قال : « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً » .
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو القادر الغالب الذي لا ينازعه شىء ، الحكيم فى تدبير أمور خلقه ، وتصريفها فيما شاء وأحب.
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف والسلطان فيهما ، وهو نافذ الأمر ، ماضى الحكم ، فلا شىء فيهن يمتنع منه.
(يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيى ما يشاء من الخلق كيف شاء ، فيحدث من النطفة الميتة حيوانا ينفخ فيه الروح ، ويميت ما يشاء من الأحياء حين بلوغ أجله.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وهو ذو قدرة لا يتعذر عليه شىء أراده من إحياء وإماتة ، وإعزاز وإذلال إلى نحو أولئك.
(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) أي هو الأول قبل كل شىء بغير حدّ كما جاء فى الحديث القدسي : « كنت كنزا مخفيا ، فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى »(27/159)
ج 27 ، ص : 160
وهو الآخر بعد كل شىء بغير نهاية كما قال : « كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ » .
(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي وهو العالي فوق كل شىء ، فلا شىء أعلى منه ، وهو الباطن بذاته ، فلا تحوم حوله الظنون ، فهو ظاهر بآثاره وأفعاله ، وباطن بعلمه بما بطن وخفى ، فلا شىء إليه أقرب من شىء كما قال : « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » .
(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي وهو ذو علم تام بكل شىء ، فلا يخفى عليه شىء ولا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي هو الذي أنشأ السموات السبع والأرضين ، فدبرهن وما فيهن فى ستة أطوار مختلفات ، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه.
(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها) أي يعلم ما يدخل فى الأرض من خلقه ، فلا تخفى عليه خافية منه ، وما يخرج منها من نبات وزرع وثمار ومعادن كما قال :
« وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » .
(وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من شىء كالمطر والملائكة.
(وَما يَعْرُجُ فِيها) أي وما يصعد إليها من الأرض كالأبخرة المتصاعدة ، والأعمال الصالحة كما قال : « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ » .
(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) أي وهو مطلع على أعمالكم أينما كنتم ، ويعلم متقلبكم ومثواكم.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو رقيب عليكم ، سميع لكلامكم ، يعلم سركم ونجواكم كما قال : « سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ(27/160)
ج 27 ، ص : 161
مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ »
وفى الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان « الإحسان أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .
وقال عمر : « جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : زوّدنى حكمة أعيش بها ، فقال : استح اللّه كما تستحى رجلا من صالحى عشيرتك لا يفارقك » .
وكان الإمام أحمد كثيرا ما ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علىّ رقيب
ولا تحسبنّ اللّه يغفل ساعة ولا أنّ ما تخفى عليه يغيب
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي هو المالك لما فيهما ، والمدبر لأمورهما ، والنافذ حكمه فيهما ، وإليه مصير جميع خلقه ، فيقضى بينهم بحكمه كما قال « وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى » وقال : « وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » .
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يقلب الليل والنهار ويقدّرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطوّل الليل ويقصر النهار والعكس بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وحينا يجعل الفصل شتاء أو ربيعا أو قيظا أو خريفا ، وكل ذلك بتدبيره وفائدة خلقه.
(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي وهو عليم بالسرائر وإن دقت وخفيت ، فهو يعلم نوايا خلقه كما يعلم ظواهر أعمالهم من خير أو شر.
وفى ذلك حث لنا على النظر والتأمل ثم الشكر على ما أولى وأنعم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 11]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)(27/161)
ج 27 ، ص : 162
تفسير المفردات
مستخلفين فيه : أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه فى التصرف من غير أن تملكوه أخذ الميثاق : نصب الأدلة فى الأنفس والآفاق والتمكين من النظر فيها ، والآيات البينات : هى القرآن ، والفتح : هو فتح مكة ، والحسنى : أي المثوبة الحسنى ، وهى النصر والغنيمة فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة ، يقرض اللّه : أي ينفق ماله فى سبيله رجاء ثوابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنواعا من الأدلة تثبت وحدانيته وعلمه وقدرته ، فبين أن كل ما فى السموات والأرض فهو فى قبضته يصرّفه كما يشاء على ما تقتضيه حكمته ، ثم ذكر أنواعا من الظواهر فى الأنفس ترشد إلى هذا وأومأ إلى النظر والتأمل فيها ، أعقب هذا بذكر التكاليف الدينية ، فأمر بدوام الإيمان الكامل الذي له آثاره العملية من إخبات النفس للّه ، وإخلاص العمل له ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،(27/162)
ج 27 ، ص : 163
ثم طلب إنفاق المال فى سبيله ، وأبان أن المال عارية مستردّة فهو ملك له وأنتم خلفاؤه فى تثميره فى الوجوه التي فيها خير لكم ولأمتكم ولدينكم ، ولكم على ذلك الأجر الجزيل الذي يضاعفه إلى سبعمائة ضعف ، ثم حث على ذلك بأن جعل هذا صفوة دعوة الرسول وقد أخذ عليكم العهد به ، وآيات كتابه هادية لكم تخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، واللّه رءوف بكم إذ أنقذكم من هاوية الشرك وهداكم إلى طاعته ، ثم ذكر فضل السابقين الأولين الذين أسلموا قبل فتح مكة ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم فى إعلاء كلمة اللّه حين عز النصير وقلّ المعين ، فهؤلاء لا يستوون مع من فعل ذلك بعد الفتح وبعد أن دخل الناس فى دين اللّه أفواجا ، وهؤلاء وأولئك لهم المثوبة الحسنى والأحر الكريم عند ربهم ثم حث على الإنفاق مرة أخرى وسماه قرضا له ، وأنه سيردّ هذا القرض ويجازى به أجمل الأجر يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه.
الإيضاح
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أقروا بوحدانية اللّه وصدقوا رسوله فيما جاءكم به عن ربكم - تنالوا الفوز برضوانه ، وتدخلوا فراديس جناته ، وتسعدوا بما لم يدر لكم بخلد ، ولم يخطر لكم ببال.
(وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) أي وأنفقوا مما هو معكم من المال على سبيل العارية ، فإنه قد كان فى أيدى من قبلكم ثم صار إليكم ، واستعملوه فى طاعته وإلا حاسبكم على ذلك حسابا عسيرا ، وللّه درّ لبيد إذ يقول :
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن تردّ الودائع
وفى هذا ترغيب أيّما ترغيب فى الإنفاق ، لأن من علم أن المال لم يبق لمن قبله وانتقل إليه - علم أنه لا يدوم له بل ينتقل إلى غيره ، وبذا يسهل عليه إنفاقه.
قال شعبة : سمعت عن قتادة يحدّث عن مطرّف بن عبد اللّه عن أبيه قال :(27/163)
ج 27 ، ص : 164
« انتهيت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو يقول : « أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ » يقول ابن آدم مالى مالى ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » رواه مسلم.
ثم حث على ما تقدم من الإيمان والإنفاق فى سبيل اللّه فقال :
(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي فالذين آمنوا باللّه وصدقوا رسوله منكم ، وأنفقوا مما خوّلهم اللّه عمن قبلهم - فى سبيل اللّه ، لهم الثواب العظيم عند ربهم ، وهناك يرون من الكرامة والمثوبة ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
ثم وبخهم على ترك الإيمان الذي أمروا به ، وأبان أنه ليس لهم فى ذلك من عذر فقال :
(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ ؟ ) أي وأىّ شىء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ؟ .
روى البخاري « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال يوما لأصحابه : أىّ المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ قالوا الملائكة ، قال : وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ، قالوا فالأنبياء ، قال : وما لهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم ، قالوا فنحن : قال : وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها » .
(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي وقد أخذ اللّه عليكم الميثاق بما نصب لكم من الأدلة على وحدانيته فى الكون ، أرضه وسمائه ، برّه وبحره ، وفى الأنفس بما تشاهدون فيها من بديع صنعها ، وعظيم خلقها ، إن كنتم تؤمنون بالدليل العقلي والنقلى وصفوة القول : إن الأدلة تظاهرت على وجوب الإيمان باللّه ورسوله ، فقد نصب(27/164)
ج 27 ، ص : 165
فى الكون ما يرشد إلى وجوده ، وأرسل الرسل يدعون إلى ذلك ، وأقاموا البراهين على صدق ما يقولون ، فما عذركم ، وإلام تستندون فى رد هذا ؟ .
الآن قد تبين الرشد من الغى ، وأفصح الصبح لذى عينين ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ فهل من مدّكر ؟
ثم قطع عليهم الحجة وأزال معذرتهم فقال :
(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي هو الذي ينزل على رسوله دلائل واضحات ، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن الضلالة إلى الهدى ، ولرأفته بكم مكّن لكم من النظر فى الأنفس والآفاق ، لتهتدوا إلى معرفته على أتم وجه ، وأهون سبيل.
وبعد أن وبخهم على ترك الإيمان ، وبخهم على ترك الإنفاق ، وأبان أنه لا معذرة لهم فى ذلك فقال :
(وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وما لكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم اللّه فى سبيله ؟ وأموالكم صائرة إليه إن لم تنفقوها فى حياتكم ، لأن له ما فى السموات والأرض ميراثا.
والخلاصة - أنفقوا أموالكم فى سبيل اللّه قبل أن تموتوا ، ليكون ذلك ذخرا لكم عند ربكم ، فبعد الموت لا تقدرون على ذلك ، إذ تصير الأموال ميراثا لمن له السموات والأرض.
ثم بين تفاوت درجات المنفقين بحسب تفاوت أحوالهم فى الإنفاق فقال :
(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) أي لا يستوى من آمن وهاجر وأنفق ماله فى سبيل اللّه قبل فتح مكة ، ومن أنفق من بعد الفتح - ذاك أنه قبل فتحها كان الناس فى جهد وضيق ولم يؤمن إذ ذاك إلا الصديقون ، أما بعد الفتح فقد انتشر الإسلام ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا ، ومن ثم قال :
(أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا).(27/165)
ج 27 ، ص : 166
قال قتادة : كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر ، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ، كان القتال والنفقة من قبل فتح مكة أفضل من النفقة والقتال بعد ذلك.
(وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ) أي وكل من المنفقين قبل الفتح وبعده لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت فى مقدار الجزاء كما قال فى آية أخرى : « لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً » .
أخرج أحمد عن أنس قال : « كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ؟ فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : دعوا لى أصحابى ، فو الذي نفسى بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهبا ما بلغتم أعمالهم » .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبى سعيد الخدرىّ قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « لا تسبّوا أصحابى ، فو الذي نفس محمد بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه » .
ثم وعد وأوعد فقال :
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي واللّه عليم بظواهر أحوالكم وبواطنها ، فيجازيكم بذلك ، ولخبرته تعالى بكم فضّل أعمال من أنفق من قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعده وقاتل ، وما ذاك إلا لعلمه بإخلاص الأول فى إنفاقه فى حال الجهد والضيق.
ولأبى بكر الصديق الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه سيد من عمل بها ، إذا أنفق ماله كله ابتغاء وجه اللّه ، ولم يكن لأحد عنده من نعمة يجزيه بها.
ثم ندب إلى الإنفاق فى سبيله ، ووبخ على تركه فقال :
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي من هذا(27/166)
ج 27 ، ص : 167
الذي ينفق أمواله فى سبيل اللّه محتسبا أجره عند ربه ، فيضاعف له ذلك القرض ، فيجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة ، وله بعد ذلك جزاء كريم بمثوبته بالجنة ؟ .
و
عن ابن مسعود قال « لما نزلت هذه الآية : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ ؟ » قال أبو الدّحداح الأنصاري يا رسول اللّه وإن اللّه ليريد منا القرض ؟ قال نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرنى يدك يا رسول اللّه ، قال : فناوله يده ، قال : إنى أقرضت ربى حائطى (بستانى) وكان له حائط فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح ، قالت لبيك ، قال اخرجى فقد أقرضته ربى عز وجل ، قالت له : ريح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها فقال رسول اللّه : كم من عذق رداح فى الجنة لأبى الدحداح »
وهذا الأسلوب يستعمل فى الأمر العزيز النادر فيقال : من ذا الذي يفعل كذا ، إذا كان أمرا عظيما ، وعلى هذا جاء قوله : « مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ » .
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 15]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)(27/167)
ج 27 ، ص : 168
تفسير المفردات
المراد بالنور هنا : ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة من علم وعمل ، بشراكم :
أي ما تبشرون به ، انظرونا : أي انتظرونا ، وأصل الاقتباس طلب القبس : أي الجذوة من النار ، والسور : الحاجز ، من قبله : أي من جهته ، بلى : أي كنتم معنا ، فتنتم أنفسكم : أي أهلكتموها بالمعاصي والشهوات ، وتربصتم : أي انتظرتم بالمؤمنين مصايب الزمان ، وارتبتم : أي شككتم فى أمر البعث ، والأمانى : الأباطيل من طول الآمال والطمع فى انتكاس الإسلام واحدها أمنية ، والغرور (بالفتح) الشيطان ، والفدية والفداء : ما يبذل لحفظ النفس أو المال من الهلاك ، مأواكم : أي منزلكم الذي تأوون إليه ، مولاكم : أي أولى بكم ، والمصير : المآل والعاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بالإيمان والإنفاق فى سبيل اللّه ، وحث على كل منهما بوجود موجباته فحث على الإيمان بوجود الأسباب التي تساعد عليه وهى وجود الرسول بين أظهرهم ، وكتابه الذي يتلى بين أيديهم ، وحث على الإنفاق فأبان أن المال مال اللّه وهو عارية بين أيديهم ثم يردّ إليه ، وأنهم ينالون على إنفاقه الأجر العظيم فى جنات النعيم ، ثم ذكر أن المنفقين أول الإسلام لهم من الأجر أكثر ممن أنفقوا من بعد حين كثر النصير والمعين - ذكر هنا حال المؤمنين المنفقين يوم القيامة ، فبين أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدهم إلى الجنة ، وأنهم يبشرون بجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ثم أردفه ذكر حال المنافقين إذ ذاك ، وأنهم يطلبون من المؤمنين(27/168)
ج 27 ، ص : 169
شيئا من الضوء يستنيرون به ليهديهم سواء السبيل ، فيتهكم بهم المؤمنون ويخيّبون آمالهم ويقولون لهم : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا بتحصيل العلوم والمعارف ، فلا نور إلا منها ثم أرشد إلى أنه يضرب بين الفريقين حاجز باطنه مما يلى المؤمنين فيه الرحمة ، ومما يلى المنافقين فيه العذاب ، لأنه فى النار ، ثم ذكر السبب فيما صاروا إليه ، وهو أنهم أهلكوا أنفسهم بالنفاق والمعاصي ، وانتظروا أن تدور على المؤمنين الدوائر ، فينطفئ نور الإيمان ، وشكّوا فى أمر البعث وغرهم الشيطان فأوقعهم فى مهاوى الردى ، ثم أعقبه ببيان أنه لا أمل فى النجاة لهم إذ ذاك ، فلا تجدى الفدية كما كانت تنفع فى الدنيا ، فلا مأوى لهم إلا النار وبئس القرار.
الإيضاح
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي لهم الأجر الكريم حين ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى بين أيديهم ما يكون السبب فى نجاتهم وهدايتهم إلى سبيل الجنة من العلوم التي كملوا بها أنفسهم فى الدنيا كالاعتقاد بالتوحيد وخلع الأنداد والأوثان ، والأعمال الصالحة التي زكوا بها أنفسهم ، وبها أخبتوا لربهم وأنابوا إليه مخلصين له الدين ، وبأيمانهم تكون كتبهم كما جاء فى آية أخرى : « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً » .
(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي وتقول لهم الملائكة : أبشروا بجنات تجرى من تحتها الأنهار جزاء وفاقا لما قدمتم من صالح الأعمال ، وجاهدتم به أنفسكم فى ترك الشرك والآثام ، وكنتم تذكرون اللّه بالليل والناس نيام ، فطوبى لكم وهنيئا بما عملتم.
ونحو الآية قوله : « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ » .(27/169)
ج 27 ، ص : 170
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الخلود فى الجنات التي سمعتم أوصافها هو النجح العظيم الذي كنتم تطلبونه بعد النجاة من عقاب اللّه.
وبعد أن ذكر حال المؤمنين فى موقف القيامة أتبعه ببيان حال المنافقين فقال :
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) أي فى هذا اليوم يقول المنافقون والمنافقات : أيها الذين نجوتم بإيمانكم بربكم وفزتم برضوانه حتى دخلتم فسيح جناته ، انتظروا نلحق بكم ونقتبس من نوركم حتى نخرج من ذلك الظلام الدامس ، والعذاب الأليم الذي نحن مقبلون عليه ، فيجابون بما يخيّب آمالهم ويلحق بهم الحسرة والندامة كما قال :
(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي ارجعوا من حيث أتيتم ، واطلبوا لأنفسكم هناك نورا ، فإنه لا سبيل إلى الاقتباس من نورنا الذي كان بما قدمنا لأنفسنا وادّخرنا لها من عمل صالح ، فأيهات أيهات أن تنالوا نورا ، إذ لا ينفع المرء حينئذ إلا عمله ، وللّه در القائل :
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب
ولا يخفى ما فى هذا من التهكم بهم ، والاستهزاء بطلبهم ، كما استهزءوا بالمؤمنين فى الدنيا حين قالوا آمنا ، وما هم بمؤمنين ، وذلك ما عناه سبحانه بقوله : « اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ » أي حين يقال لهم : « ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً » .
ثم ذكر ما يكون بعد هذه المقالة فقال :
(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) أي فضرب بين الفريقين حاجز جانبه الذي يلى مكان المؤمنين وهو الجنة فيه الرحمة ، وجانبه الذي يلى المنافقين وهو النار فيه العذاب.
ثم أرشد إلى ما يكون من المنافقين حينئذ فقال :
(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ؟ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي ينادى المنافقون المؤمنين :(27/170)
ج 27 ، ص : 171
أما كنا معكم فى الدار الدنيا نصلى معكم الجماعات ، ونقف معكم بعرفات ، ونحضر معكم الغزوات ، ونؤدى معكم سائر الواجبات ؟ فيجيبهم المؤمنون قائلين لهم : بلى كنتم معنا ، ولكنكم أهلكتم أنفسكم باللذات والمعاصي ، وأخرتم التوبة ، وشككتم فى أمر البعث بعد الموت ، وغرتكم الأمانى ، فقلتم سيغفر لنا ، وما زلتم كذلك حتى حضركم الموت ، وغركم الشيطان فقال لكم : إن اللّه عفوّ كريم لا يعذبكم.
والخلاصة - إنكم كنتم معنا بأبدانكم لا بقلوبكم ، وكنتم فى حيرة من أمركم ، فلا تذكرون اللّه إلا قليلا.
ثم أيأسوهم من عاقبة أمرهم ، وأنهم هالكون لا محالة ولا سبيل إلى الخلاص من النار فقال :
(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي فاليوم لو جاء أحدكم بملء الأرض ذهبا ومثله معه ليفتدى به من عذاب اللّه ما قبل منه ، فمصيركم إلى النار ، وإليها متقلبكم ومثواكم ، وهى أولى بكم من كل منزل آخر ، لكفركم وارتيابكم ، وساءت مصيرا ومآلا.
والخلاصة - إنه لا مناص من النار ، فلا فداء ولا فكاك منها.
[سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 17]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
تفسير المفردات
ألم يأن : ألم يجىء وقت ذلك من قولهم أنى الأمر أنيا وأناء وإناء إذا جاء أناه أي وقته ، والخشوع : الخشية والخوف ، وذكر اللّه : مواعظه ، والحق : هو القرآن ، والذين أوتوا الكتاب : هم اليهود والنصارى ، والأمد : الزمان ، وطال عليهم الأمد :(27/171)
ج 27 ، ص : 172
أي طال العهد بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم : أي صلبت وصارت كالحجارة أو أشد قسوة ، فاسقون : أي خارجون عن حدود دينهم ، رافضون لما جاء فيه من أوامر ونواه ، والأرض الميتة : هى التي لا تنبت شيئا ، والآيات : هى البينات والحجج ، تعقلون : أي تتدبرون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فرق ما بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة ، وأن الأولين لهم نور يهديهم إلى طريق الجنة ، وأن الآخرين يطلبون منهم أن يأتوهم قبسا من نورهم يهديهم إلى سبيل النجاة ، فيردونهم خائبين ، ويقولون لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا - أردف هذا عتاب قوم من المؤمنين فترت هممهم عن القيام بما ندبوا له من الخشوع ، ورقة القلوب بسماع المواعظ وسماع القرآن ، ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب الذين طال العهد بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وأعرضوا عن أوامر الدين ونواهيه ، ثم أبان لهم بضرب المثل أن القلوب القاسية تحيا بالذكر وتلاوة القرآن كما تحيا الأرض الميتة بالغيث والمطر.
روى عن ابن مسعود أنه قال : « لما قدم أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة ، فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد أن كانوا فى جهد جهيد ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت الآية » .
وعن ابن عباس أنه قال : « إن اللّه استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا » الآية.
الإيضاح
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) أي أما آن للمؤمنين أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن والمواعظ ، فتفهمه وتنقاد له ، وتطيع أوامره ، وتنتهى عن نواهيه ؟ .(27/172)
ج 27 ، ص : 173
وإذا كان المؤمنون قد أصابهم الوهن ولم يمض على الإسلام أكثر من ثلاث عشرة سنة كما قال ابن عباس ، فما بالهم اليوم وقد مضى عليهم أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، فتعبير الآية عن حالهم الآن بالأولى ، فالوهن الآن أضعاف مضاعفة عما كان فى تلك الحقبة ، ومن ثم أفرط الفرنجة فى إذلالهم واستعبادهم ، وصاروا غرباء فى ديارهم ، والأمر والنهى فيها لسواهم :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
ثم حذرهم أن يكونوا كأهل الكتاب قبلهم فقال :
(وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي لا يتشبهوا بالذين حمّلوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى حين طال الأمد بينهم وبين أنبيائهم ، فقست قلوبهم ولم تقبل موعظة ولم يؤثر فيها وعد ولا وعيد ، وبدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة ، والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا فى دين دون دليل ولا برهان ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، وكثير منهم خرج عن أوامر الدين فى الأعمال والأقوال كما قال : « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » .
أي فسدت قلوبهم فقست وصار سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، فتركوا الأعمال التي أمروا بها ، واجترحوا ما نهوا عنه.
والخلاصة - إن اللّه نهى المؤمنين أن يكونوا حين سماع القرآن غير متدبرين مواعظه كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم ، لما طال العهد بينهم وبين أنبيائهم.
ثم ضرب المثل لتأثير المواعظ وتلاوة القرآن فى القلوب فقال :
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إن اللّه تعالى يلين القلوب بعد قسوتها ، ويهدى النفوس الحيارى بعد ضلّتها ،(27/173)
ج 27 ، ص : 174
ويفرّج الكروب بعد شدتها ، ببراهين القرآن ودلائله ، وبالمواعظ والنصائح التي تلين الصخر الأصم ، ويحييها بعد موتها كما يحيى الأرض الهامدة المجدبة بالغيث الوابل الهتّان ، وقد ضرب لكم الأمثال كى تتدبروا وتكمل عقولكم فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، وهو الفعال لما يشاء الحكم العدل فى جميع الفعال ، اللطيف الخبير المتعال.
[سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
تفسير المفردات
المصدقين : أي المتصدقين بأموالهم على البائسين وذوى الحاجة ، والقرض الحسن :
هو الدفع بنية خالصة ابتغاء مرضاة اللّه ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ، يضاعف لهم :
أي يضاعف اللّه لهم ثواب أعمالهم ، والصدّيق : من كثر منه الصدق وصار سجية له ، والشهداء من قتلوا فى سبيل اللّه ، واحدهم شهيد.
المعنى الجملي
بعد أن وازن بين المؤمنين والمنافقين فيما مضى ، وأبان ما يكون بينهما من فارق يوم القيامة - ذكر هنا التفاوت بين حال المؤمنين وحال الكافرين.(27/174)
ج 27 ، ص : 175
الإيضاح
(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) أي إن المتصدقين والمتصدقات بأموالهم ابتغاء مرضاة اللّه ، لا يريدون جزاء ولا شكورا - يضاعف لهم ربهم ثواب إنفاقهم ، فيقابل الحسنة الواحدة بعشر أمثالها ، ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف ، ولهم ثواب جزيل ، ومرجع صالح.
(وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) أي والذين أقروا بوحدانية اللّه وصدقوا رسله ، وآمنوا بما جاءوهم به من عند ربهم ، أولئك هم فى حكم اللّه بمنزلة الصديقين.
(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي والذين استشهدوا فى سبيل اللّه لهم أجر جزيل ، ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم يتفاوتون فى ذلك بحسب ما كانوا فى الدار الدنيا من الأعمال والخلاصة - إن العاملين أقسام : فمنهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى : « وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ » .
ولما ذكر السعداء ومآلهم أردف ذلك ذكر حال الأشقياء فقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) أي والذين كفروا باللّه وكذبوا بحججه وبراهينه الدالة على وحدانيته وصدق رسله أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها أبدا لا يفارقونها.(27/175)
ج 27 ، ص : 176
[سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
تفسير المفردات
اللعب : ما لا ثمرة له كلعب الصبيان ، واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ، وزينة : أي كالملابس الفاخرة ، وتفاخر : أي بالأنساب والعظام البالية ، وتكاثر فى الأموال والأولاد : أي مباهاة بكثرة العدد والعدد ، والغيث : المطر ، والكفار :
الزراع ، يهيج : أي يبتدئ فى اليبس والجفاف بعد أن كان أخضر ناضرا ، حطاما :
أي هشيما متكسرا من يبسه ، والغرور : الخديعة.
المعنى الجملي
بعد أن بشر المؤمنين بأن نورهم يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، وحثهم على بذل الجهد وترك الغفلة ، وذكر ثواب المتصدقين والمتصدقات - أردف ذلك وصف حال الدنيا وسرعة زوالها وتقضيها ، وضرب لذلك مثل الأرض ينزل عليها المطر فتنبت الزرع البهيج الناضر الذي يعجب الزراع لنمائه وجودة غلته ، وبينا هو على تلك الحال ، إذا به يصفرّ بعد النضرة والخضرة ويجف ثم يتكسر ويتفتت ، وما الحياة الدنيا إلا مزرعة للآخرة ، فمن أجاد زرعه حصد وربح ، ومن توان وكسل ندم ولات ساعة مندم.(27/176)
ج 27 ، ص : 177
قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان اللّه وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة.
ثم حث على عمل ما يوصل إلى مغفرة اللّه ورضوانه ، ويمهد إلى الدخول فى جنات عرضها السموات والأرض ، أعدها لمن آمن به وبرسله فضلا منه ورحمة وهو المنعم عظيم الفضل.
الإيضاح
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) أي اعلموا أيها الناس أن متاع الدنيا ما هو إلا لعب ولهو تتفكهون به ، وزينة تتزينون بها ، وبها يفخر بعضكم على بعض ، وتتباهون فيها بكثرة الأموال والأولاد.
ثم ضرب مثلا يبين أنها زهرة فانية ، ونعمة زائلة فقال :
(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) أي ما مثل هذه الحياة فى سرعة فنائها وانقضائها على عجل إلا مثل أرض أصابها مطر وابل ، فأنبتت من النبات ما أعجب الزراع وجعلهم فى غبطة وحبور ، وبهجة وسرور ، وبينا هو على تلك الحال إذا هو يصوح ويأخذ فى الجفاف واليبس ، ثم يكون هشيما تذروه الرياح.
ونحو الآية قوله : « إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ » .
ثم ذكر عاقبة المنهمكين فيها ، الطالبين لتحصيل لذاتها ، المتهالكين فى جمع حطامها والمعرضين عنها الطالبين لرضوان ربهم فقال :(27/177)
ج 27 ، ص : 178
(وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ) أي وفى الآخرة إما عذاب شديد دائم لمن انهمك فى لذاتها ، وأعرض عن صالح الأعمال ، ودسّى نفسه بالشرك والآثام ، وإما مغفرة من اللّه ورضوان من لدنه لمن زكّى نفسه وأخبت لربه وأناب إليه :
قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرّة زلجا
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي وما هذه الحياة الدنيا إلا متاع فان زائل خادع ، من ركن إليه ، واغترّ به وأعجبه ، حتى اعتقد أن لا دار سواها ، ولا معاد وراءها.
ولما أبان أن الآخرة قريبة ، وفيها العذاب الأليم ، والنعيم المقيم - حث على المبادرة إلى فعل الخيرات فقال :
(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي سابقوا أقرانكم فى مضمار الأعمال الصالحة ، وأدّوا ما كلفتم به من أوامر الشريعة ، واتركوا نواهيها - يدخلكم ربكم بما قدّمتم لأنفسكم ، جنة سعتها كسعة السموات والأرض.
ثم بين المستحقين لها فقال :
(أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت للذين اعترفوا بوحدانية اللّه وصدقوا رسله.
ثم بين أن هذا فضل منه ورحمة فقال :
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي هذا الذي أعده اللّه لهم هو من فضله ورحمته ومنته عليهم.
وفى الصحيح « أن فقراء المهاجرين قالوا : يا رسول اللّه ، ذهب أهل الدّثور (الأموال) بالأجور ، والدرجات العلى ، والنعيم المقيم ، قال وما ذاك ؟ قالوا يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، قال :(27/178)
ج 27 ، ص : 179
أفلا أدلكم على شىء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ؟ تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، قال :
فرجعوا فقالوا سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء » .
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي واللّه واسع العطاء ، عظيم الفضل ، فيعطى من يشاء ما شاء كرما منه وفضلا ، ويبسط له الرزق فى الدنيا ، ويهب لهم النعم ، ويعرّفهم مواضع الشكر ، ثم يجزيهم فى الآخرة ما أعده لهم مما وصفه قبل.
[سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
تفسير المفردات
فى الأرض : أي كالجدب والفاقة ، واحتلال الأجانب الظالمين ، واستيلاء الحكام الفاسقين ، فى أنفسكم : أي كالمرض والفاقة ، فى كتاب : هو اللوح المحفوظ ، نبرأها :
أي نخلقها ، وتأسوا : أي تحزنوا ، ما فاتكم : أي من نعيم الدنيا ، ما آتاكم : أي ما أعطاكم ، والمختال : المتكبر بسبب فضيلة تراءت له من نفسه ، والفخور : هو المباهي بالأشياء العارضة كالمال والجاه.(27/179)
ج 27 ، ص : 180
المعنى الجملي
بعد أن أبان أن متاع هذه الدنيا زائل فان ، وأن ما فيها من خير أو شر لا يدوم - أردف ذلك تهوين المصايب على المؤمنين ، فذلك يكون مصدر سعادة نفوسهم واطمئنانها ، وبدونه يكون شقاؤها وكآبتها ، وآية ذلك أن لا يحزنوا على فائت ، ولا يفرحوا بما يصل إليهم من لذاتها الفانية.
ثم بين أن المختالين الذين يبخلون بأموالهم على ذوى الحاجة والبائسين ، ويأمرون الناس بذلك ، ويعرضون عن الإنفاق لا يجننّ إلا على أنفسهم ، واللّه غنى عنهم ، وهو المحمود على نعمه التي لا تدخل تحت حد.
الإيضاح
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي ما أصابكم أيها الناس من مصايب فى آفاق الأرض كقحط وجدب وفساد زرع ، أو فى أنفسكم من أوصاب وأسقام - إلا فى أم الكتاب من قبل أن نبرأ هذه الخليقة.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن علمه بالأشياء قبل وجودها ، وكتابته لها طبق ما توجد فى حينها - يسير عليه ، لأنه يعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون.
أخرج الحاكم وصححه عن أبى حسان : أن رجلين دخلا على عائشة رضى اللّه عنها فقالا إن أبا هريرة يحدّث أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقول : إنما الطّيرة فى المرأة والدابة والدار ، فقالت : والذي أنزل القرآن على أبى القاسم صلى اللّه عليه وسلم ما هكذا كان يقول ، كان يقول « كان أهل الجاهلية يقولون : إنما الطيرة فى المرأة والدابة والدار(27/180)
ج 27 ، ص : 181
ثم قرأ : وما أصابكم من مصيبة فى الأرض ولا فى أنفسكم إلّا فى كتاب من قبل أن نبرأها » .
(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل وجودها ، لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم ، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ، فلا تحزنوا على فائت ، ولا تفرحوا بآت.
والخلاصة - إن كل شىء قدّر فى الكتاب ، فكيف نفرح أو نحزن ؟
قال عكرمة : ليس أحد إلا وهو يحزن أو يفرح ، ولكن اجعلوا الفرح شكرا ، والحزن صبرا.
وقال حكيم : الصبر مخرج من الشقاء ، فلا سعادة إلا بالصبر ، ووصول النفس إلى كمالها الخلقي ، بحيث يمر المال والولد والقوة والعلم عليها ، فيصيبها مرة ويخطئها أخرى وهى مطمئنة ، لا يدخلها زهو ولا إعجاب بما نالت ، ولا حزن على ما فاتها اه.
وعلى الجملة فالحزن المذموم هو ما يخرج بصاحبه إلى ما يذهب عنه الصبر والتسليم لأمر اللّه ورجاء الثواب ، والفرح المنهي عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويلهيه عن الشكر.
(وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي إن المختال الفخور يبغضه اللّه ولا يرضى عنه.
ثم بين أوصاف المختالين الفخورين فقال :
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) أي إن المختالين بما أوتوا من المال يضنّون به لأنهم يرون عزتهم فى وجوده ، ويعدهم الشيطان بالفقر إذا هم أنفقوه ، وقد يبلغ الأمر بهم أن يأمروا سواهم بالبخل ويبدوا لهم النصائح التي تجعلهم يضنون به مدعين أن ذلك إشفاق عليهم ونصح لهم.
(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن يعرض عن الإنفاق فلا يضرّن بذلك إلا نفسه ، فاللّه غنى عن ماله وعن نفقته ، محمود إلى خلقه بما أنعم به عليهم من(27/181)
ج 27 ، ص : 182
نعمه ، ولا يضيره الإعراض عن شكره كما قال موسى عليه السلام لقومه : « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ » .
[سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
تفسير المفردات
البينات : المعجزات والحجج ، والكتاب : أي كتب التشريع ، والميزان : العدل ، والقسط : الحق ، وأنزلنا الحديد : أي خلقناه ، والبأس : القوة ، وليعلم اللّه : أي ليعلمه علم مشاهدة ووجود فى الخارج.
الإيضاح
(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) أي ولقد أرسلنا الأنبياء إلى أممهم ومعهم البراهين الدالة على صدقهم ، المؤيدة لبعثهم من عند ربهم ، ومعهم كتب الشرائع التي فيها هداية البشر وصلاحهم فى دينهم ودنياهم ، وأمرناهم بالعدل ليعملوا به فيما بينهم ، ولا يظلم بعضهم بعضا.
ولما كان الناس فريقين فريقا يقوده العلم والحكمة ، وفريقا يقوده السيف والعصا ، ولما كان ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن ، وكان العدل والقانون لا بد له من حام يحميه وهو الدولة والملك وأعوانه والجند ، وهؤلاء لا بد لهم من عدّة يحمون بها القانون والعدل فى داخل البلاد وفى خارجها أعقب هذا بقوله :(27/182)
ج 27 ، ص : 183
(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) أي وخلقنا الحديد لتكون منه السيوف والرماح والدروع والسفن البحرية وما أشبه ذلك ، وفيها القوة التي ترغم أنف الظالم ، وتحمى المظلوم ، وفيه منافع للناس فى حاجاتهم فى معايشهم كأدوات الصناعات ، وحاجات البيوت ، وقطر السكك الجديدية ونحوها.
(وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي وإنما فعل ذلك ليراكم ناصرى دينه باستعمال السلاح والكراع لمجاهدة أعدائه ، وناصرى رسله وهم غائبون عنكم لا يبصرونكم.
روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد اللّه وحده لا شريك له ، وجعل رزقى تحت ظل رمحى ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمرى ، ومن تشبه بقوم فهو منهم » .
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن اللّه يدفع بقوته بأس من يعرض عن ملته ، وهو غالب على أمره ، لا يقدر أحد على دفع العقوبة متى أحلها بأحد من خلقه.
[سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
تفسير المفردات
قفاه : اتبعه بعد أن مضى ، والإنجيل : الكتاب الذي أنزل على عيسى وفيه شريعته ، والمراد من الرأفة : دفع الشر ، ومن الرحمة : جلب الخير ، وبذا يكون(27/183)
ج 27 ، ص : 184
بينهم مودة ، والرهبانية : ترهبهم فى الجبال فارّين بدينهم من الفتنة ، مخلصين أنفسهم للعبادة ، محتملين المشاق من الخلوة واللباس الخشن والاعتزال عن النساء والتعبد فى الغيران والكهوف ، وقوله ابتدعوها : استحدثوها ولم تكن فى دينهم ، ابتغاء رضوان اللّه : أي طلبا لرضاه ومحبته ، فما رعوها : أي ما حافظوا عليها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أرسل الرسل بالبينات والمعجزات ، وأنه أنزل الميزان والحديد ، وأمر الخلق بأن يقوموا بنصرة رسله - أتبع ذلك ببيان ما أنعم به على أنبيائه من النعم الجسام ، فذكر أنه شرّف نوحا وإبراهيم عليهما السلام بالرسالة ، ثم جعل فى ذريتهما النبوة والكتاب ، فما جاء أحد بعدهما بالنبوة إلا كان من سلائلهما.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أي ولقد بعثنا نوحا إلى طائفة من خلقنا ، ثم بعثنا إبراهيم من بعده لقوم آخرين ، ولم نرسل بعدهما رسلا بشرائع إلا من ذريتهما.
ثم بين أن هذه الذرية افترقت فرقتين فقال :
(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فمن ذريتهما مهتد إلى الحق مستبصر ، وكثير منهم ضلّال خارجون عن طاعة اللّه ذاهبون إلى طاعة الشيطان ، مدسّون أنفسهم باجتراح الآثام.
وفى الآية إيماء إلى أنهم خرجوا عن الطريق المستقيم بعد أن تمكنوا من الوصول إليه ، وبعد أن عرفوه حق المعرفة ، وهذا أبلغ فى الذم وأشد فى الاستهجان لعملهم.
(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أي ثم بعثنا بعدهم رسولا بعد رسول على توالى العصور ولأيام.(27/184)
ج 27 ، ص : 185
ثم خص من أولئك الرسل عيسى لشهرة شريعته فى عصر التنزيل ولوجود أتباعه فى جزيرة العرب وغيرها فقال :
(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي ثم أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام ، وأعطيناه الإنجيل الذي أوحيناه إليه ، وفيه شريعته ووصاياه ، وقد جاء ما فيه مكملا لما فى التوراة ومخففا بعض أحكامها التي شرعت تغليظا على بنى إسرائيل ، لنقضهم العهد والميثاق كما جاء فى قوله : « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » .
ثم بين صفات أتباع عيسى فقال :
(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي إن أتباعه الذين ساروا على نهجه وشريعته اتصفوا بما يأتى :
(1) الرأفة بين بعضهم وبعض ، فيدفعون الشر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، ويصلحون ما فسد من أمورهم.
(2) الرحمة فيجلب بعضهم الخير لبعض كما قال فى حق أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « رُحَماءُ بَيْنَهُمْ » .
(3) الرهبانية المبتدعة ، فقد انقطعوا عن الناس فى الفلوات والصوامع معتزلين الخلق وحرّموا على أنفسهم النساء ولبسوا الملابس الخشنة ، تبتلا إلى اللّه وإخباتا له.
(ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ) أي ما فرضنا عليهم هذه الرهبانية ، ولكنهم استحدثوها طلبا لمرضاة اللّه والزلفى إليه.
ثم ذكر أنهم ما حافظوا عليها كما قال :
(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما حافظوا على هذه الرهبانية المبتدعة ، وما قاموا(27/185)
ج 27 ، ص : 186
مما التزموه حق القيام ، بل ضيّعوها ، وكفروا بدين عيسى بن مريم ، فضموا إليه التثليث ودخلوا فى دين الملوك الذين غيروا وبدلوا.
وفى هذا ذم لهم من وجهين :
(1) أنهم ابتدعوا فى دين اللّه ما لم يأمر به.
(2) أنهم لم يقوموا بما فرضوه على أنفسهم مما زعموا أنه قربة يقرّبهم إلى ربهم ، وقد كان ذلك كالنذر الذي يجب رعايته ، والعهد الذي يجب الوفاء به.
روى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال : « قال لى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يا ابن مسعود ، قلت : لبّيك يا رسول اللّه ، قال : اختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فرقة ، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم ، فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين اللّه ودين عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه فقتلتهم الملوك ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى بن مريم صلوات اللّه عليه ، فقتلتهم الملوك بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهرانى قومهم يدعونهم إلى دين اللّه ودين عيسى صلوات اللّه عليه ، فلحقوا بالبراري والجبال فترهبوا فيها فهو قول اللّه عز وجل « وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ » الآية ، فمن آمن بي واتبعنى وصدقنى فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الفاسقون » .
(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا طبعت آثاره فى أعمالهم ، فزكّوا أنفسهم ، وأخبتوا لربهم ، وأدّوا فرائضه - أجورهم التي استحقوها كفاء ما عملوا ، وكثير منهم فسقوا عن أمر اللّه ، وو اجترحوا الشرور والآثام ، وظهر فسادهم فى البر والبحر بما كسبت أيديهم ، فكبكبوا فى النار ، وباءوا بغضب من اللّه ، ولهم عذاب عظيم(27/186)
ج 27 ، ص : 187
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
تفسير المفردات
قال المؤرّج السدوسي : الكفل : النصيب بلغة هذيل ، وقال غيره بل بلغة الحبشة ، وقال المفضل الضبي : أصل الكفل كساء يديره الراكب حول سنام البعير ليتمكن من القعود عليه ، لئلا يعلم : أي لكى يعلم
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن من آمنوا من أهل الكتاب إيمانا صحيحا لهم أجرهم عند ربهم - ذكر هنا أن من آمنوا منهم بعيسى أولا وبمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ثانيا يؤتيهم أجرهم مرتين ، لإيمانهم بنبيهم ، ثم بمحمد من بعده ، ثم ذكر أن النبوة فضل من اللّه ورحمة منه لا يخص به قوما دون قوم ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، لا كما يقول اليهود : إن الوحى والرسالة فينا لا تعدونا إلى سوانا ، فنحن شعب اللّه المختار ، ونحن أبناء اللّه وأحباؤه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله من(27/187)
ج 27 ، ص : 188
أهل الكتابين التوراة والإنجيل - خافوا اللّه بأداء طاعته واجتناب معاصيه وآمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم - يعطكم ضعفين من الأجر ، لإيمانكم بعيسى والأنبياء قبل محمد صلى اللّه عليه وسلّم ثم بإيمانكم بمحمد بعد أن بعث نبيا ، ويجعل لكم هدى تستبصرون به من العمى والجهالة ، ويغفر لكم ما أسلفتم من الذنوب وما فرطتم فى جنب اللّه ، واللّه واسع المغفرة لمن يشاء ، رحيم بعباده يقبل توبتهم - متى أنابوا إليه ، وخشعت له قلوبهم.
والخلاصة - إنه تعالى وعد المؤمنين برسوله بعد إيمانهم بالأنبياء قبله بأمور ثلاثة :
(1) أنه يضاعف لهم الأجر والثواب.
(2) أن يجعل لهم نورا بين أيديهم وعن شمائلهم يوم القيامه يهديهم إلى الصراط السوي ويوصلهم إلى الجنة.
(3) أن يغفر لهم ما اجترحوا من الذنوب والآثام.
روى الشعبي عن أبى بردة عن أبيه أبى موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق اللّه وحق مواليه فله أجران ، ورجل أدّب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران » . رواه البخاري ومسلم.
ثم رد على أهل الكتاب الذين خصوا فضل الرسالة بهم فقال :
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي فعلنا ذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا من فضل اللّه من الأجرين ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم.(27/188)
ج 27 ، ص : 189
وخلاصة ذلك - إن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
أخرج ابن أبى حاتم قال لما نزلت « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا » فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا : لما أجران ولكم أجر ، فاشتد ذلك على أصحابه فأنزل اللّه « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور.
(وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي واللّه واسع الفضل كثير العطاء ، يمنحه من شاء من عباده لا يخص به قوما دون آخرين ولا شعبا دون آخر.
سبحانك قسمت حظوظك بين عبادك بمقتضى عدلك وفضلك ، وآتيتهم فوق ما يستحقون بجودك وكرمك. فاللهم آتنا من لدنك الرشد والتوفيق ، واهدنا لأقوم طريق.
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) صفات اللّه وأسماؤه الحسنى ، وظهور آثاره فى بدائع خلقه.
(2) الحض على الإنفاق.
(3) بشرى المؤمنين بالنور يوم القيامة.
(4) ثواب المتصدقين الذين أقرضوا اللّه قرضا حسنا.
(5) ذم الدنيا وأنها لهو ولعب.
(6) الترغيب فى الآخرة وتشمير العزيمة للعمل لها.
(7) التسلية على المصايب.
(8) ذم الاختيال والفخر والبخل.(27/189)
ج 27 ، ص : 190
(9) الحث على العدل.
(10) الاعتبار بالأمم السالفة.
(11) قصص نوح وإبراهيم.
(12) إن أهل الكتاب الذين آمنوا برسلهم وآمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم يضاعف لهم الأجر عند ربهم.
(13) اللّه يصطفى من رسله من يشاء ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وكان الفراغ من مسودة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى صبيحة يوم الجمعة لتسع بقين من رجب الأصم من سنة خمس وستين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة سيد ولد عدنان ، والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات.(27/190)
ج 27 ، ص : 191
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 الفرق بين الإسلام والإيمان 12 أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعرض عن جدل المشركين ومرامهم 17 ما أثبته علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) حديثا 20 الحكمة فى مور السماء وسير الجبال 24 محاسن المرأة التي يتمدح بها العرب 28 ما قالته عائشة فى وصف عذاب النار 32 تحدى العرب فى الإتيان بمثل القرآن 35 أمر المشركين بإقامة الحجة على ما يدعون 44 ما أثبته علماء الفلك فى النجوم حديثا 45 كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يمزح ولا يقول إلا حقا 46 علينا أن نؤمن بما جاء فى القرآن عن عالم الأرواح 52 توبيخ المشركين على نسبة البنات إلى اللّه 59 المشهور أنّ الكبائر سبع 61 النهى عن تزكية النفس حين قصد الرياء 63 ما تضمنته صحف إبراهيم وموسى 65 يرى مالك والشافعي أنه لا يصح إهداء ثواب القراءة إلى الموتى 68 سبب تخصيص الشعرى بالذكر من بين الكواكب 73 ما تضمنته سورة النجم من الأسرار والأحكام(27/191)
ج 27 ، ص : 192
الصفحة المبحث 76 هل انشقاق القمر حدث أو سيحدث ؟
84 يقولون إن سفينة نوح لا تزال باقية إلى الآن فى موضعها 87 ما روى من شؤم بعض الأيام لا يصح منه شىء 89 كانت ناقة صالح فتنة لقومه 91 اتبع صالح مع قومه طريق المناوبة لناقته فى شرب ماء البئر 98 دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلّم على المشركين يوم بدر 102 فى الحديث : يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من اللّه طالبا 103 خلاصة موضوعات سورة القمر الكريمة 106 منة اللّه على عباده بالبيان والتبيين عما يجول فى النفس 109 حكمة تكرار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) 111 كيف خلق الإنسان الأول 116 الدهر عند اللّه يومان 132 إذا وقعت الواقعة لا تكذب نفس على اللّه 133 ينقسم الناس يوم القيامة أزواجا ثلاثة 151 آراء العلماء فى تفسير قوله : لا يمسه إلا المطهرون 152 ابن العربي وابن الفارض أتيا بما هو بدع فى الدين فرده العلماء 161 فائدة اختلاف الفصول وتوالى الليل والنهار 172 عتاب المؤمنين الذين فترت هممهم عن القيام بشعائر الدين 179 ذهب أهل الدثور بالأجور - الحديث 184 ما أنعم اللّه به على أنبيائه من النعم الجسام 187 من آمن بعيسى ثم بمحمد يؤتهم أجرهم مرتين(27/192)
ج 28 ، ص : 3
الجزء الثامن والعشرون
سورة المجادلة
هى مدنية وعدة آيها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة المنافقين.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) أن الأولى ختمت بفضل اللّه ، وافتتحت هذه بما هو من هذا الوادي.
(2) أنه ذكر فى مطلع الأولى صفاته الجليلة ومنها الظاهر والباطن - وذكر فى مطلع هذه أنه سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)(28/3)
ج 28 ، ص : 4
شرح المفردات
سمع : أي أجاب وقبل ، كما يقال سمع اللّه لمن حمده ، والتي تجادلك فى زوجها : هى خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، وتجادلك : أي تراجعك الكلام فى أمره وفيما صدر منه فى شأنها ، وتشتكى إلى اللّه : أي تبثّ إليه ما انطوت عليه نفسها من غمّ وهمّ وتضرع إليه أن يزيل كربها ، وزوجها : هو أوس بن الصامت أخو عبادة ابن الصامت ، والسمع : صفة تدرك بها الأصوات أثبتها اللّه تعالى لنفسه ، والتحاور :
المرادّة فى الكلام ، والكلام المردّد ، كما يقال كلمته فما رجع إلىّ حوارا : أي ماردّ علىّ بشىء ، والظهار : لغة من ظاهر ويراد به معان مختلفة باختلاف الأغراض فيقال ظاهر فلان فلانا : أي نصره ، وظاهر بين ثوبين : أي لبس أحدهما فوق الآخر ، وظاهر من امرأته : أي قال لها أنت علىّ كظهر أمي ، أي محرمة ، وقد كان هذا أشدّ طلاق فى الجاهلية ، والظهار شرعا : تشبيه المرأة أو عضو منها بامرأة محرمة نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم لا بقصد الكرامة ، ولهذا المعنى نزلت الآية ، « إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ » : أي ما أمهاتهم ، والمنكر : ما ينكره الشرع والعقل والطبع ، وزورا : أي كذبا ، فتحرير رقبة : أي عتق عبد أو جارية ، أن يتماسا : أي يجتمعا اجتماع الأزواج ، متتابعين : أي متواليين ، فمن لم يستطع : أي لم يقدر على ذلك لكبر سنّ أو ضعف أو شبق إلى النساء ، حدود اللّه : أي أحكام شريعته ، وللكافرين : أي للذين يتعدّون الأحكام ولا يعملون بها.(28/4)
ج 28 ، ص : 5
المعنى الجملي
روى أن هذه الآيات الأربع نزلت فى خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت ومن حديث ذلك : « أن أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، فدخل على خولة يوما فراجعته بشىء فغضب ، فقال لها : أنت علىّ كظهر أمي (وكان الرجل فى الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه) وكان هذا أول ظهار فى الإسلام ، فندم لساعته ، فدعاها (طلب ملامستها) فأبت ، وقالت : والذي نفسى بيده لاتصل إلىّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم اللّه ورسوله ، فأتت الرسول صلى اللّه عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إن أوسا تزوجنى وأنا شابة مرغوب فىّ ، فلما خلا سنى ونثرت بطني (كثر ولدي) جعلنى عليه كأمه إلى غير أحد ، فإن كنت تجد لى رخصة تنعشنى بها وإياه فحدثنى بها ، فقال عليه الصلاة والسلام : واللّه ما أمرت فى شأنك بشىء حتى الآن ، وفى رواية ما أراك إلا قد حرمت ، قالت : ما ذكر طلاقا ، وجادلت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مرارا ثم قالت : اللهم إنى أشكو إليك شدة وحدتي ، وما يشق علىّ من فراقه ، وفى رواية أنها قالت : أشكو إلى اللّه فاقتى وشدة حالى ، وإن لى صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إلىّ جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول :
اللهم إنى أشكو إليك ، اللهم فأنزل على لسان نبيك ، وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا خولة أبشرى ، قالت خيرا فقرأ عليها « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ » الآيات.
روى البخاري فى تاريخه أنها استوقفت عمر يوما فوقف ، فأغلظت له القول ، فقال رجل يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم ، فقال رضى اللّه عنه ، وما يمنعنى أن أستمع إليها وهى التي استمع اللّه لها ، فأنزل فيها ما أنزل « قَدْ سَمِعَ اللَّهُ » الآيات.
والشارع اعتبر الظهار يمينا وأوجب فيها الكفارة عند إرادة الملامسة بأحد أمور ثلاثة على الترتيب الآتي :(28/5)
ج 28 ، ص : 6
(1) تحرير رقبة (عتق عبد أو جارية).
(2) صيام شهرين متواليين إن لم يجد ما يعتقه.
(3) إطعام ستين مسكينا إن لم يستطع الصوم لكبر أو مرض لا يرجى زواله ، لكل مسكين نصف صاع من بر (رطل وثلث) أو صاع من تمر أو شعير.
الإيضاح
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي قد قبل اللّه شكوى التي جادلت رسوله صلى اللّه عليه وسلم فى شأن زوجها ، وبثّت أمرها إلى ربها ، وسمع ما سمع من تحاورها مع رسوله ، واللّه سميع لما يقال ، خبير بحال عباده ، فأنزل فيها ما أزال غصّتها ، وفرج كربتها ، وأقرّ به عينها ، وبلّ ريقها ، وأرجع إلى كنفها صبيتها ، الذين كانوا مصدر شقوتها ، وبهم اعتلّت (تعلّلت واحتجت) على رسوله.
وقد فصل ما أنزل من الحكم فى حادثتها وأمثالها فقال :
(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أي الذين يقع منهم الظهار من نسائهم ، فيقول أحدهم لامرأته : أنت علىّ كظهر أمي ، يريد أنك علىّ حرام ، كما أن أمي علىّ حرام - مخطئون فيما صنعوا.
(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فكيف يجعلونهن كذلك ، ما أمهاتهم إلا من ولدنهم ، فلا ينبغى تشبيههن بهن.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبالغ فى الاستهجان فقال :
(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي وإنهم ليقولون قولا منكرا لا يجيزه شرع ، ولا يرضى به عقل ، ولا يوافق عليه ذو طبع سليم ، فكيف تشبّه من يسكن إليها وتسكن إليه وجعل بينه وبينها مودة ورحمة ، وصلة خاصة لا تكون لأم ولا لأخت ، بمن جعل صلتها بابنها صلة الكرامة والحنوّ والإجلال والتعظيم ، إلى(28/6)
ج 28 ، ص : 7
أن الرجل قوّام على المرأة له حق تأديبها إذا اعوجّت ، وهجرانها فى المضاجع إذا جمحت ولم يعط ذلك لابن ليعامل به أمه ، فهذا زور وبهتان عظيم.
وغير خاف ما فى هذا من الاستهجان ، وشديد التشنيع على صدور هذا القول منهم.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) لما سلف من الذنب متى تاب فاعله منه.
ثم فصل حكم الظهار فقال :
(1) (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي والذين يقولون هذا القول المنكر ثم يتدار كونه بنقضه ويرجعون عما قالوا فيريدون المسيس فعلى كل منهم عتق عبد أو أمة قبل التماسّ إن كان ذلك لديه.
ثم بين السبب فى شرع هذا الحكم فقال :
(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي إنه شرع لكم حكم الكفارة عند طلب العودة إلى المسيس ، ليكون ذلك زاجرا لكم عن ارتكاب المنكر ، فإن الكفارة تمنع من وقوع الجرم ، واللّه خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شىء منها ، وهو مجازيكم بها ، فانتهوا عن قول المنكر ، وحافظوا على ما شرع لكم من الحدود ، ولا تخلوا بشىء منها.
(2) (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) أي فمن لم يجد رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس ، فإن أفطر يوما من الشهرين ولو اليوم الأخير لعذر أو مرض أو سفر لزمه الاستئناف بصوم جديد لزوال التتابع.
(3) (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) أي فمن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين لكبر سنّ أو مرض لا يرجى زواله - فعليه إطعام ستين مسكينا لكل منهم نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر قبل التماس أيضا.
(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذلك(28/7)
ج 28 ، ص : 8
الذي بيّناه لكم من وجوب الكفارة حين الظهار ، لتقروا بتوحيد اللّه وتصدقوا رسوله وتنتهوا عن قول الزور والكذب ، وتتبعوا ما حده الدين من حدود ، وبينه لكم من فرائض ، وللجاحدين بهذه الحدود وغيرها من فرائض اللّه عذاب مؤلم على كفرهم بها.
وأطلق اسم (الكافر) على متعدّى هذه الحدود تغليظا للزجر كما قال فى المتهاون فى أداء فريضة الحج « وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » .
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
شرح المفردات
يحادون : أي يشاقون ويعادون ، وأصل المحادّة الممانعة ومنه قيل للبواب حداد ، كبتوا : أي خذلوا ، وقال المبرد : كبت اللّه فلانا إذا أذله ، والمردود بالذل : مكبوت ، آيات بينات : أي حججا وبراهين مبينة لحدود شرائعنا ، مهين : أي يلحق بهم الهوان والذل ، فينبئهم بما عملوا : أي يخبرهم بأعمالهم توبيخا وتقريعا لهم ، أحضاه اللّه : أي أحاط به عدّا لم يغب عنه شىء منه ، شهيد : أي مشاهد لا يخفى عليه شىء(28/8)
ج 28 ، ص : 9
ألم تر : أي ألم تعلم ، ما يكون : أي ما يوجد ، والنجوى : التناجي والمسارّة كما قال :
«
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ »
وقد يستعمل فى المتناجين كما قال : « وَإِذْ هُمْ نَجْوى » أي أصحاب نجوى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحكام كفارة الظهار وبيّن أنه إنما شرعها تغليظا للناس حتى يتركوا الظهار ، وقد كان ديدنهم فى الجاهلية ، ويتبعوا أوامر الشريعة ، ويلين قيادهم لها ، ويخلصوا للّه ربهم فى جميع أعمالهم ، فتصفو نفوسهم ، وتزكو بصالح الأعمال.
أردف هذا ببيان أن من يشاقّ اللّه ورسوله ويعصى أوامره ، يلحق به الخزي والهوان فى الدنيا وله فى الآخرة العذاب المهين فى نار جهنم ثم أعقب ذلك بالوعيد الشديد فبين أنه لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء ، فهو عليم بمناجاة المتناجين ، فإن كانوا ثلاثة فهو رابعهم ، وإن كانوا خمسة فهو سادسهم ، وإن كانوا أقل من ذلك أو أكثر فهو معهم أينما كانوا ، فلا تظنوا أنه تخفى عليه أعمالكم ، وسينبئكم بها عند العرض والحساب ، وحين ينصب الميزان ، فتلقون جزاء ما كسبت أيديكم ، وتندمون ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي إن الذين يختارون لأنفسهم حدودا غير ما حده اللّه ورسوله ، ويضعون شرائع غير ما شرعه ، سيلحقهم الخزي والنكال فى الدنيا كما لحق من قبلهم من كفار الأمم الماضية الذين حادوا اللّه ورسله ، وقد تحقق ذلك يوم الخندق.
وفى هذا بشارة للمؤمنين بظهورهم على عدوهم ونصر اللّه لهم.(28/9)
ج 28 ، ص : 10
كما أن فيه وعيدا عظيما للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا قوانين وشرائع وضعية غير ما شرع اللّه ، وألزموا رعاياهم العمل بها ، والجري على نهجها ، وعينوا لذلك قضاة يحكمون بها ، ونبذوا ما جاء فى شرعهم ، واللّه يقول : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » .
نعم إنه لا بأس بالقوانين السياسية إذا وقعت باتفاق ذوى الآراء من أهل الحلّ والعقد على وجه يكون به انتظام شمل الجماعات ، إذا كانت لا تخالف فى أحكامها روح التشريع الديني كتعيين مراتب التأديب للزجر على المعاصي ، والجنايات التي لم ينص الشارع فيها على حد معين ، بل فوض الأمر فيها للإمام ، وليس فى ذلك محادة للّه ورسوله ، بل فيها استيفاء لحق اللّه على الوجه الأكمل.
(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي وكيف يفعلون ذلك وقد أقمنا دلائل واضحات تبين معالم الشريعة وتوضح حدودها ، وتفصل أحكامها وتبين سرّ تشريعها ؟
فلا عذر لهم فى مخالفتها ، والانحراف عن سننها.
(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي وللجاحدين بتلك الآيات عذاب يذهب بعزهم وكبريائهم.
والخلاصة - إن لهؤلاء المحادين عذابا فى الدنيا بالخزي والهوان ، وعذابا فى الآخرة فى جهنم وبئس القرار.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا ، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يجمع اللّه الأولين والآخرين فى صعيد واحد ، فيخبرهم بما كسبت أيديهم تشهيرا لهم وخزيا على رءوس الأشهاد ، واللّه قد حفظه وضبطه وهم قد نسوه ، واللّه شهيد على كل شىء ، فلا يغيب عنه شىء ، ولا ينسى شيئا.
وفى هذا شديد الوعيد والتقريع العظيم والتنديم ، ليعرفوا أن ما حاق بهم من العذاب ، إنما كان من جراء أعمالهم وقبيح أفعالهم.(28/10)
ج 28 ، ص : 11
ثم أكد ما سبق من إحاطة علمه تعالى بكل شىء فقال :
(أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي ألم تعلم أنه تعالى يعلم ما فى السموات وما فى الأرض ، فلا يتناجى ثلاثة إلا واللّه معهم ويعلم ما يقولون وما يدبرون ، ولا خمسة إلا وهو سادسهم يعلم ما به يتناجون ، ولا نجوى أكثر من هذه الأعداد ولا أقل منها إلا وهو عليم بها ، وعليم بزمانها ومكانها لا يخفى عليه شىء من أمرها.
وإنما خص هذه الأعداد ، لأن أقل ما لا بد منه فى المشاورة التي يكون الغرض منها تدبير المصالح العامة - ثلاثة فيكون الاثنان كالمتنازعين نفيا وإثباتا ، والثالث كالحكم بينهما ، وحينئذ تكمل المشورة ويتم الغرض ، وهكذا فى كل جمع اجتمعوا المشورة لا بد من واحد يكون حكما مقبول القول ، ومن ثم يكون عدد رجال المشورة فردا كما جاء فى الآية ونحوها قوله : « أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ » وقوله : « أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ؟ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ » .
(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي ثم ينبئ هؤلاء المتناجين بما عملوا من عمل يحبه أو يسخطه يوم القيامة ، وإنه لعليم بنجواهم وأسرارهم لا تخفى عليه خافية من أمرهم.
وقد علمت أن هذا الإنباء إنما هو للتنديم وزيادة التقريع والتوبيخ على مرأى ومسمع من أهل الموقف ، فيكون ذلك أنكى وأشد إيلاما لهم.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)(28/11)
ج 28 ، ص : 12
شرح المفردات
الذين نهوا عن النجوى : هم اليهود والمنافقون ، بالإثم : أي بما هو معصية وذنب ، والعدوان : الاعتداء على غيرهم كمعصية الرسول ومخالفته ، لو لا يعذبنا اللّه : أي هلا يعذبنا بسبب ذلك ، حسبهم جهنم : أي عذاب جهنم كاف لهم ، يصلونها : أي يقاسون حرّها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه عليم بالسر والنجوى ، وأنه لا تخفى عليه خافية من أمرهم ، فهو عليم بما يكون من التناجي بين الثلاثة والخمسة والأكثر والأقل ، ومجازيهم على ما يكون من التناجي - خاطب رسوله معجّبا له من اليهود والمنافقين الذين نهوا عن التناجي دون المؤمنين ، فعادوا لما نهوا عنه ، وما كان تناجيهم إلا بما هو إثم وعدوان على غيرهم ، ثم ذكر أنهم كانوا إذا جاءوا الرسول حيّوه بغير تحية اللّه ، فيقولون له : السام عليك (يريدون الموت) ثم يقولون فى أنفسهم : لو كان رسولا لعذبنا اللّه للاستخفاف به ، وإن جهنم لكافية جد الكفاية لعذابهم ثم نهى المؤمنين أن يفعلوا مثل فعلهم ، بل يتناجون بالبر والتقوى ثم بين أن التناجي بالإثم والعدوان من الشيطان ولن يضيرهم شىء منه إلا بإذن اللّه ، فعليه فليتوكلوا.(28/12)
ج 28 ، ص : 13
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ)
« روى أن اليهود كانوا إذا مر بهم أحد من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم جلسوا يتناجون فيما بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره ، حتى إذا رأى ذلك خشيهم ، فترك طريقهم ، فنهاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى فأنزل اللّه الآية » .
ثم بيّن ما به يتناجون فقال :
(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي وهم يتحدثون فيما بينهم بما هو إثم فى نفسه ووباله عليهم ، وبما هو تعدّ على المؤمنين ، وتواص بمخالفة الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه.
ثم ذكر جرما آخر يقع منهم فقال :
(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)
روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة « أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقال عليه السلام : وعليكم ، قالت عائشة : وقلت : عليكم السام ولعنكم اللّه وغضب عليكم ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : يا عائشة عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ، فقلت : ألا تسمعهم يقولون السام ؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
أو ما سمعت ما أقول : وعليكم ؟ فأنزل اللّه تعالى (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) الآية » .
(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإبهام السلام وهم يريدون شتمه ، ويحدّثون أنفسهم أنه لو كان نبيّا حقا لعذبنا اللّه بما نقول ، لأن اللّه يعلم ما نسره ، فلو كان نبيا حقا لعاجلنا بالعقوبة فى الدنيا فردّ اللّه عليهم بقوله :
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وإن جهنم وما فيها من العذاب الأليم لكافية لعقابهم ونكالهم ، وقد أجّل عذابهم إلى هذا اليوم.(28/13)
ج 28 ، ص : 14
ثم قال تعالى مؤدبا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل اليهود والمنافقين فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي إذا حدث منكم أيها المؤمنون تناج ومسارّة فى أنديتكم وخلواتكم ، فلا تفعلوا كما يفعل أولئك الكفار من أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين.
(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وتناجوا بما هو خير واتقوا اللّه فيما تأتون وما تذرون ، فإليه تحشرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم ، وسيجزيكم بها.
ثم بين الباعث لهم على هذه النجوى والمزين لهم ذلك فقال :
(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي إنما التناجي بالإثم والعدوان من وسوسة الشيطان وتزيينه.
ثم ذكر السبب الذي حداه إلى ذلك فقال :
(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي إنما فعل ذلك يسوء الذين آمنوا بإيهامهم أن ذلك فى نكبة أصابتهم ، وليس الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا إلا بإرادة اللّه ومشيئته.
(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إن ما يتناجى به المنافقون مما يحزن المؤمنين إن وقع ، فإنما يكون بإرادة اللّه ومشيئته ، فلا يكترثنّ المؤمنون بتناجيهم ، وليتوكلنّ على اللّه ولا يحزننّ.
وقد وردت السنة بالنهى عن التناجي إذا كان فى ذلك أذى لمؤمن.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه ، فإن ذلك يحزنه » .(28/14)
ج 28 ، ص : 15
[سورة المجادلة (58) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
شرح المفردات
تفسحوا : أي توسعوا وليفسح بعضكم عن بعض ، من قولهم : افسح عنى أي تنحّ ، يفسح اللّه لكم : أي فى رحمته ويوسع لكم فى أرزاقكم ، انشزوا : أي انهضوا للتوسعة على المقبلين ، فانشزوا أي فانهضوا ولا تتباطئوا ، يرفع اللّه الذين آمنوا : أي يرفع منزلتهم يوم القيامة ، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات ، أي ويرفع العالمين منهم خاصة درجات فى الكرامة وعلوّ المنزلة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى عباده المؤمنين عما يكون سببا للتباغض من التناجي بالإثم والعدوان - أمرهم بما يكون سبب التوادّ والتوافق بين بعض المؤمنين وبعض :
من التوسع فى المجالس حين إقبال الوافد ، والانصراف إذا طلب منكم ذلك.
فإذا فعلتم ذلك رفع اللّه منازلكم فى جناته ، وجعلكم من الأبرار الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا باللّه وصدقوا برسوله ، إذا قيل لكم توسعوا فى مجالس رسول اللّه أو فى مجالس القتال ، فافسحوا يفسح اللّه فى منازلكم فى الجنة.(28/15)
ج 28 ، ص : 16
أخرج ابن أبى حاتم عن مقاتل بن حبان قال : « كان صلى اللّه عليه وسلم يوم جمعة فى الصّفّة وفى المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس منهم ثابت بن قيس وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، فرد النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم ، فلم يفسحوا لهم ، فشقّ ذلك على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لبعض من حوله : قم يا فلان ، قم يا فلان ، فأقام نفرا بمقدار من قدم ، فشق ذلك عليهم ، وعرفت كراهيته فى وجوههم ، وطعن المنافقون وقالوا : واللّه ما عدل على هؤلاء ، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه ، أقامهم وأجلس من أبطأ عنه فنزلت الآية » .
وقال الحسن : كان الصحابة يتشاحون فى مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب ، فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة فى الشهادة ، ومن الآية نعلم :
(1) أن الصحابة كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسماع حديثه ، لما فيه من الخير العميم ، والفضل العظيم ، ومن ثم
قال عليه الصلاة والسلام : « ليلينى منكم أولو الأحلام والنّهى » .
(2) الأمر بالتفسح فى المجالس وعدم التضامّ فيها متى وجد إلى ذلك سبيل ، لأن ذلك يدخل المحبة فى القلوب ، والاشتراك فى سماع أحكام الدين.
(3) إن كل من وسع على عباد اللّه أبواب الخير والراحة ، وسع اللّه عليه خيرات الدنيا والآخرة.
وعلى الجملة فالآية تشمل التوسع فى إيصال جميع أنواع الخير إلى المسلم وإدخال السرور عليه ، ومن ثم
قال عليه الصلاة والسلام « لا يزال اللّه فى عون العبد ما دام العبد فى عون أخيه » .(28/16)
ج 28 ، ص : 17
(وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي وإذا دعيتم إلى القيام عن مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقوموا ، لأن الرسول صلى اللّه عليه وسلم كان يؤثر الانفراد أحيانا لتدبير شئون الدين ، أو لأداء وظائف تخصه لا تؤدى أو لا يكمل أداؤها إلا بالانفراد.
وقد عمموا هذا الحكم فقالوا : إذا قال صاحب مجلس لمن فى مجلسه قوموا ينبغى أن يجاب.
ولا ينبغى لقادم أن يقيم أحدا ليجلس فى مجلسه
فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا » .
(يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي يرفع اللّه المؤمنين بامتثال أوامره وأوامر رسوله ، والعالمين منهم خاصة درجات كثيرة فى الثواب ومراتب الرضوان.
والخلاصة - إنكم أيها المؤمنون إذا فسح أحدكم لأخيه إذا أقبل ، أو إذا أمر بالخروج فخرج ، فلا يظننّ أن ذلك نقص فى حقه ، بل هو رفعة وزيادة قربى عند ربه ، واللّه تعالى لا يضيع ذلك بل يجزى به فى الدنيا والآخرة ، فإن من تواضع لأمر اللّه رفع اللّه قدره ، ونشر ذكره.
(وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي واللّه بأعمالكم ذو خبرة لا يخفى عليه المطيع منكم من العاصي ، وهو مجازيكم جميعا بأعمالكم ، فالمحسن بإحسانه ، والمسيء بالذي هو أهله أو يعفو.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)(28/17)
ج 28 ، ص : 18
شرح المفردات
ناجيتم الرسول : أي أردتم مناجاته والحديث معه ، فقدموا بين يدى نجواكم صدقة : أي فتصدقوا قبلها ، أطهر : أي أزكى ، لتعويد النفس بذل المال وعدم الضنّ به ، أشفقتم : أي خفتم ، تاب اللّه عليكم : أي رخص لكم فى المناجاة من غير تقديم صدقة.
المعنى الجملي
علمت من الآية السالفة أن المؤمنين كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسماع أحاديثه ولمناجاته فى أمور الدين ، وأكثروا فى ذلك حتى شقّ عليه صلى اللّه عليه وسلم وشغلوا أوقاته التي يحب أن تكون موزعة بين إبلاغ الرسالة والعبادة ، والقيام ببعض وظائفه الخاصة ، فإنه بشر يحتاج إلى قسط من الراحة ، وإلى التحنث إلى ربه فى خلواته.
من أجل هذا نزلت هذه الآيات آمرة بوجوب تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه ، لما فى ذلك من منافع ومزايا :
(1) إعظام الرسول وإعظام مناجاته ، فإن الشيء إذا نيل مع المشقة استعظم ، وإن نيل بسهولة لم يكن له منزلة ورفعة شأن.
(2) نفع كثير من الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة.
(3) تمييز المنافقين الذين يحبون المال ويريدون عرض الدنيا - من المؤمنين حقّ الإيمان الذين يريدون الآخرة وما عند اللّه من نعيم مقيم.(28/18)
ج 28 ، ص : 19
قال ابن عباس : إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى شقوا عليه ، وأراد اللّه أن يخفف عن نبيه فأنزل هذه الآيات فكف كثير من الناس عن المناجاة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أي أيها المؤمنون إذا أراد أحد منكم أن يناحى الرسول ويسارّه فيما بينه وبينه - فليقدم صدقة قبل هذا ، لما فى ذلك من تعظيم أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ونفع الفقراء والتمييز بين المؤمن حقا والمنافق ، ومحب الآخرة ومحب الدنيا ، ومن دفع التكاثر عليه صلى اللّه عليه وسلم من غير حاجة ملحّة إلى ذلك.
ثم ذكر العلة فى هذا فقال :
(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) أي إن فى هذا التقديم خيرا لكم لما فيه من الثواب العظيم عند ربكم ، ومن تزكية النفوس وتطهيرها من الجشع فى جمع المال وحب ادخاره ، وتعويدها بذله فى المصالح العامة كإغاثة ملهوف ، ودفع خصاصة فقير ، وإعانة ذى حاجة ، والنفقة فى كل ما يرقّى شأن الأمة ويرفع من قدرها ، ويعلى كلمتها ، ويؤيد الدين وينشر دعوته.
ثم أقام العذر للفقراء فقال :
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن لم تجدوا الصدقة أيها الفقراء وعجزتم عن ذلك فاللّه قد رخص لكم فى المناجاة بلا تقديم لها ، لأنه ما أمر بها إلا من قدر عليها.
وقد شرع هذا الحكم لتمييز المخلص من المنافق ، فلما تم هذا الغرض انتهى ذلك الحكم ورخص فى المناجاة بدون تقديم صدقة ، فقال :(28/19)
ج 28 ، ص : 20
(أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أبخلتم وخفتم العيلة والفاقة إن قدمتم الصدقات ، ووسوس لكم الشيطان أن فى هذا الإنفاق ضياعا للمال ؟
(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) أي فحين لم تفعلوا ما أمرتم به ، وشق ذلك عليكم ، خفف عليكم ربكم فرخص فى المناجاة من غير تقديم صدقة ، فتداركوا ذلك بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة كما قال :
(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي فأدوا الصلاة وقوّموها بأدائها على أكمل الوجوه ، لما فيها من الإخبات إلى اللّه والإنابة إليه والإخلاص له فى القول والعمل ، ونهيها عن الفحشاء والمنكر ، ولما فى الزكاة من تطهير النفوس وإزالة الشح بالمال المستحوذ على القلوب الدافع لها إلى ارتكاب الشرور والآثام.
وأطيعوا اللّه فيما يأمركم به من الفرائض والواجبات ، وينهاكم عنه من الموبقات.
ثم وعد وأوعد فقال :
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فهو محيط بنواياكم وأعمالكم ، ومجازيكم بما قدمتم لأنفسكم من خير أو شر ، كما قال « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » وقال : « وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » .
[سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 19]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)(28/20)
ج 28 ، ص : 21
شرح المفردات
ألم تر : أي أخبرنى وهو أسلوب من الكلام يراد به التعجب وإظهار الغرابة المخاطب ، والمراد من الذين تولوا : المنافقون ، والتولي : من الموالاة وهى المودة والمحبة ، والقوم : هم اليهود ، وغضب اللّه : سخطه والطرد من رحمته ، ما هم منكم ولا منهم :
أي لأنهم مذبذبون ، على الكذب : أي على أنهم معكم على الإيمان ، جنة : أي وقاية وسترا عن المؤاخذة ، على شىء : أي من جلب منفعة أو دفع مضرة ، استحوذ على الشيء : حواه وأحاط به قال المبرد ويقال حاوزت الإبل وحزتها إذا استوليت عليها وجمعتها ، قالت عائشة : كان عمر أحوذيا نسيج وحده : أي سائسا ضابطا للأمور لا نظير له ، فأنساهم ذكر اللّه : أي لم يمكنهم من ذكره بما زين لهم من الشهوات ، وحزب الشيطان : جنوده وأتباعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يتنافسون فى القرب من مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لتلقى الدين عنه والاهتداء بهديه حتى كان يضيق بهم المجلس ، فأمروا أن يتوسعوا ولا يتضاموا - ذكر هنا حال قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين ، فهم عيون لهم عليهم ، وإذا لاقوا المؤمنين قالوا لهم : إنا معكم نؤيدكم على أعدائكم بكل ما أوتينا من قوة وهم كاذبون(28/21)
ج 28 ، ص : 22
فى كل ما يقولون وقد جعلوا الإيمان وقاية لستر ما يبطنون ، فأمنوا من المؤاخذة وجاسوا خلال ضعفاء المؤمنين يصدونهم عن الدين ويذكرون لهم ما يبغضهم فيه ثم أبان أن اللّه قد أعد لمثل هؤلاء عذابا شديدا يوم القيامة ، وما هم فيه من مال وولد فى الدنيا لن يغنى عنهم شيئا حينئذ ثم ذكر أن الذي جرأهم على ما فعلوا هو الشيطان ، فقد استولى على عقولهم ، وزين لهم قبيح أعمالهم ، فأنساهم عذاب اليوم الآخر ثم ذكر أن أولئك هم جند الشيطان ، وجنود الشيطان لن تفلح فى شىء ، وسيرد اللّه عليهم كيدهم فى نحورهم ، ويحبط سعيهم ، ويظهر نور دينه ولو كره الكافرون.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي أخبرنى عن حال هؤلاء المنافقين الذين اتخذوا اليهود أولياء يناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين إن حالهم لتستدعى العجب ، يقابلون كل قوم بوجه ، فهم مع اليهود نصحاء أمناء يبلغونهم ما يعرفونه من دخائل المؤمنين اكتسابا لصداقتهم وودهم ، ومع المؤمنين مؤمنون مخلصون قد بلغ الإيمان قرارة نفوسهم ، وملك عليهم مشاعرهم وحواسهم والحقيقة أنهم يخدعون الفئتين كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) أي فلا هم بالمؤمنين حقا بل هم مؤمنون من طرف اللسان مداراة للمؤمنين وخوفا من بطشهم ، ولا هم مع اليهود ، لأنهم لا يعتقدون أنهم على الدين الحق ، ولكنهم يريدون أن ينتفعوا بما عندهم من عرض الدنيا ، وأن يحتفظوا بمودتهم إذا احتاجوا إليها ، فهم كما قال اللّه فيهم : « مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ »
وفى الخبر « مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين »
أي المترددة بين قطيعين « لا تدرى أيّهما تتبع » ثم ذكر أنهم يؤكدون إيمانهم وإخلاصهم بالأيمان الكاذبة فقال :(28/22)
ج 28 ، ص : 23
(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا إنا آمنا وإذا جاء الرسول حلفوا وقالوا له : نشهد إنك لرسول اللّه ، واللّه يشهد إنهم لكاذبون فيما يقولون ، لأنهم لا يعتقدون صدقه.
ثم ذكر مآلهم وبيّن ما يلقون من النكال والوبال فقال :
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي أرصد اللّه لهم نكالا وعذابا أليما جزاء صنيعهم بغش المسلمين واطلاع أعدائهم على أسرارهم ونصحهم لهم.
ثم ذكر ما جعلوه تكأة لهم على تصديقهم فقال :
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر وتستروا بالأيمان الكاذبة ، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم أنهم صادقون وبهذه الوسيلة صدوا كثيرا من الناس عن سبيل اللّه بتثبيط من لقوا عن الدخول فى الإسلام بتحقير شأنه فى نظرهم.
ثم بين ما كافأهم به على عملهم فقال :
(فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فلهم عذاب يلحقهم به الذل والهوان فى النار جزاء ما امتهنوا اسمه الكريم بالحلف به كذبا.
ثم أرشد إلى أن ما ظنوه منجيا لهم من عذاب اللّه من المال والأولاد - لبس بنافع لهم حينئذ فقال :
(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي لن تغنى عن هؤلاء المنافقين الأموال فيفتدوا بها من عذاب اللّه ، ولا الأولاد فينصروهم وينقدوهم من العذاب إذا هو عاقبهم ، فأولئك هم أهل النار وهم خالدون فيها أبدا ، وقد تقدم مثل هذا فى غير موضع من الكتاب الكريم.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) أي واذكر لهم أيها الرسول حالهم يوم يبعثهم اللّه جميعا من قبورهم أحياء كهيئتهم قبل مماتهم ، فيحلفون له(28/23)
ج 28 ، ص : 24
قائلين : « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » كما كانوا يحلفون لكم فى الدنيا إنهم مؤمنون مثلكم.
(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ) أي ويعتقدون أن ذلك نافع لهم ، فيجلب لهم الخير ، ويدفع عنهم الضّير ، كما كان ذلك شأنهم فى الدنيا ، إذ كانوا يدفعون بتلك الأيمان الفاجرة عن أرواحهم وأموالهم ويحصلون على فوائد دنيوية أخرى.
ثم رد عليهم منكرا لهم فقال :
(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) فيما يحلفون عليه زعما منهم أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه تعالى ، كما تروّجه لدى المؤمنين فى الدنيا.
ونحو الآية قوله : « ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ » .
ثم بين السبب الذي أوقعهم فى الردى وأوصلهم إلى قرارة جهنم فقال :
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه ، فلم يمكنهم من ذكر اللّه واتباع أوامره وترك نواهيه ، بما زين لهم من الشهوات فأوقعهم فى دركات جهنم ، وبئس المصير.
(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي أولئك هم جنود الشيطان وأعوانه ، وإن جنده لهم الهالكون المغبونون فى صفتهم ، إذ هم قد فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم ، واستبدلوا به العذاب الأليم ، وليس من دأب العاقل أن يقبل مثل هذا لنفسه.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 20 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(28/24)
ج 28 ، ص : 25
شرح المفردات
يحادون : أي يعادون ويشاقون ، فى الأذلين : أي فى جملة أذلّ خلق اللّه ، لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر ، كتب اللّه : أي قضى وحكم ، لأغلبنّ : أي بالحجة والسيف ، وأيدهم : أي قواهم ، بروح من عنده : أي بنور يقذفه فى قلب من يشاء من عباده ، لتحصل له الطمأنينة والسكينة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال أولئك المنافقين الذين يحلفون كذبا إنهم مؤمنون ، ويمالئون المؤمنين طورا واليهود طورا آخر اكتسابا لرضا الفريقين ، ثم بين أن الذي حملهم على ذلك هو الشيطان ، إذ غلبهم على أمرهم حتى أنساهم ذكر اللّه وما يجب له من تعظيم ووجوب اعتقاد باليوم الآخر ، ثم حكم عليهم بأن صفقتهم خاسرة ، لأنهم باعوا الباقي بالفاني والزائل الذي لا دوام له بما هو دائم أبدا سرمدا - بين هنا سبب خسرانهم وهو أنهم شاقوا اللّه ورسوله وعصوا أمرهما ، فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة ، إذ قد قضى بأن العزة والغلب له ولرسله ، والذلة لأعدائه ثم ذكر أن الإيمان الحق لا يجتمع مع موالاة أعدائه مهما قرب بهم النسب بأن كانوا آباء أو أبناء أو إخوانا أو من ذى العشيرة ، لأن المحادين كتبت عليهم الذلة ، وأولئك كتبت لهم العزة ، وقوّاهم ربهم بالطمأنينة والثبات على الإيمان ، وهم جند اللّه وناصر ودينه ،(28/25)
ج 28 ، ص : 26
وحزب اللّه مفلح لا محالة وقد كتبت له السعادة فى الدارين كما قال : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » .
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) أي إن الذين يخالفون أوامر اللّه ونواهيه ، ويمتنعون عن أداء ما فرض عليهم من فرائضه ، هم فى جملة أهل الذلة ، لأن الغلبة للّه ولرسوله ، وذلهم فى الدنيا يكون بالقتل والأسر والإخراج من الديار كما حصل للمشركين واليهود ، وفى الآخرة بالخزي والنكال والعذاب الأليم كما قال سبحانه : « رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » .
وفى هذا بشارة للمؤمنين بأنه سيظهرهم على عدوهم ويكتب لهم الفوز ويكونون هم الأعزاء وسواهم الأذلاء.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي قضى اللّه وحكم فى أم الكتاب بأن الغلبة بالحجة والسيف وما يجرى مجراهما تكون للّه ورسله ، فقد أهلك كثيرا من أعدائهم بأنواع من العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم (والحرب بين نبينا وبين المشركين ، وإن كانت سجالا كانت العاقبة فيها له عليه الصلاة والسلام) ثم تكون لأتباعه من بعده ما داموا على سننه ، محافظين على الحدود التي أمروا بها ، وجاهدوا عدوهم جهادا خالصا للّه على نحو جهاد الرسل ، لا لطلب ملك وسلطان ، ولا لطلب دنيا ومال.
وعن مقاتل قال : لما فتح اللّه تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها ، قالوا نرجو أن يظهرنا اللّه على فارس والروم ، فقال عبد اللّه بن أبىّ رأس المنافقين :
أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ واللّه إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » .(28/26)
ج 28 ، ص : 27
ونحو الآية قوله تعالى : « وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ » .
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي إن اللّه الذي له الأمر كله - قوىّ على نصر رسله لا يغلب على مراده ، فمتى أراد شيئا كان ولم يجد معارضا ولا ممانعا كما قال : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .
(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) أي لا تجد قوما يجمعون بين الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وموادّة أعداء اللّه ورسوله ، لأن إيمان المؤمنين يفسد بموادة الكافرين ، إذ من كان مؤمنا حقا لا يوالى كافرا ، فمن أحب أحدا امتنع أن يوالى عدوه ، والمراد من موالاته مناصحته وإرادة الخير له فى الدين والدنيا ، أما المخالطة والمعاشرة فليست بمحظورة ولقد أصاب المسلمين اليوم من ذلك بلاء شديد ، فإنا نرى الأمم الإسلامية أصبحت فى أخريات الأمم ، وأبناؤها فى شمال إفريقية وفى مصر وغيرها يوالون الإفربحة وينصرونهم على أبناء جنسهم ، ولو كان فى هذا ذل لهم ولدينهم وأمتهم ، ولن يزول هذا إلا بالاستشعار بالعزة والكرامة القومية والدفاع عن حوزة الدين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بالغ فى الزجر وأبان أنه لا ينبغى لمؤمن أن يفعل ذلك ولو مع الأقارب كالآباء الذين يجب طاعتهم ومصاحبتهم فى الدنيا بالمعروف ، أو الأبناء الذين هم فلذات الأكباد أو الإخوان الذين هم الناصرون لهم ، أو العشيرة الذين يعتمد عليهم بعد الإخوان.
والخلاصة - إنه لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء اللّه ، لأن من أحب أحدا امتنع من محبة عدوه ، فإذا حصل فى القلب مودة أعداء اللّه لم يحصل فيه الإيمان الصحيح وكان صاحبه منافقا.(28/27)
ج 28 ، ص : 28
أخرج الطبراني والحاكم والترمذي مرفوعا « يقول اللّه تبارك وتعالى : وعزتى لا ينال رحمتى من لم يوال أوليائى ، ويعاد أعدائى »
و
أخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاش علىّ يدا ولا نعمة فيودّه قلبى ، فإنى وجدت فيما أوحيت إلىّ : لا تجد قوما يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه ورسوله » .
قيل إن الآيات نزلت فى أبى بكر رضي اللّه عنه ، أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال : حدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى اللّه عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط بها على وجهه ، فذكر ذلك للنبى صلى اللّه عليه وسلم فقال : أفعلت يا أبا بكر ؟ قال نعم ، قال لا تعد ، قال واللّه لو كان السيف قريبا منى لقتلته.
وقيل نزلت فى أبى عبيدة بن عبد اللّه الجراح ، أخرج ابن أبى حاتم والطبراني وأبو نعيم فى الحلية والبيهقي فى سننه عن ابن عباس قال : جعل والد أبى عبيدة يتصدى له يوم بدر ، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت : (لا تَجِدُ قَوْماً) الآية.
(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أولئك الذين سلفت أوصافهم أثبت اللّه فى قلوبهم الإيمان ، والإيمان نعمة عظيمة لا تحصل لمن يوادّ من حادّ اللّه ورسوله.
وفى هذا مبالغة فى الزجر عن موادة أعداء اللّه.
ثم ذكر سببا آخر يمنع من موادتهم فقال :
(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي إنه قواهم بطمأنينة القلب والثبات على الحق ، فلا يبالون بموادة أعداء اللّه ولا يأبهون لهم.
ثم ذكر ما أعده لهم من النعيم المقيم فقال :
(وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين فيها أبدا.
ثم ذكر السبب فيما أفاض اللّه عليهم من نعمة فقال :(28/28)
ج 28 ، ص : 29
(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي أغدق عليهم من رحمته العاجلة والآجلة ، فأدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ورضوا عنه لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا ، فإنهم لما سخطوا على الأقارب والعشائر فى اللّه تعالى - عوضهم اللّه بالرضا عنه ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، والفضل العميم.
ثم أشاد بتشريفهم فجعلهم جنده تعالى فقال :
(أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي أولئك أنصار اللّه وجنده وأهل كرامته ، وهم أهل لفلاح والسعادة والنصرة فى الدنيا والآخرة.
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) ألفة الأزواج فى المنازل.
(2) ألفة الأصحاب فى المجالس.
(3) الأدب مع الحكام بترك مضايقتهم ، لكثرة أعمالهم.
(4) رفق الحكام بالمحكومين إذا رأوا أمرا يثقلهم.
(5) مجانبة خيانة الأمة بموالاة أعدائها ، وبالنفاق والشقاق ، فإن ذلك يضعفها ويفرق جمعها ويذلها.(28/29)
ج 28 ، ص : 30
سورة الحشر
هى مدنية ، وعدة آيها أربع وعشرون نزلت بعد سورة البيّنة.
ومناسبتها ما قبلها من وجوه :
(1) إن فى آخر السالفة قال : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وفى أول هذه قال : « فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ » .
(2) إن فى السابقة ذكر من حادّ اللّه ورسوله ، وفى أول هذه ذكر من شاقّ اللّه ورسوله.
(3) إن فى السالفة ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا ، وفى هذه ذكر ما حل باليهود ، وعدم غناء تولى المنافقين إياهم.
«
روى أن بنى النضير كانوا قد صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعت فى التوراة ، لا نردّ له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف فى أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأخبر جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس ، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم فى دية المسلمين من بنى عامر عند منصرفه من بئر معونة ، إذ همّوا بطرح حجر عليه فعصمه اللّه.
وبعد أن قتل كعب بأشهر تهيأ المسلمون لقتالهم وساروا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واستعمل على المدينة عبد اللّه بن أم مكتوم حتى إذا نزل فى بنى النضير وجدهم ينوحون على كعب ، وقالوا ذرنا نبكى شجونا ، ثم ائتمر أمرك ، فقال : اخرجوا من المدينة ، فقالوا الموت أقرب إلينا من ذلك ، فتنادوا بالحرب ، ودس المنافقون عبد اللّه بن أبىّ وأضرابه إليهم ألا يخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم ،(28/30)
ج 28 ، ص : 31
وإن أخرجتم لنخرجنّ معكم ، فحصنوا الأزقة وحاصروهم إحدى وعشرين ليلة ، وقذف اللّه الرعب فى قلوبهم وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشام ، إلى أريحا وأذرعات ، إلا أهل بيتين منهم هما آل أبى الحقيق وآل حيىّ بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة ، وقبض النبي صلى اللّه عليه وسلم أموالهم وسلاحهم ، فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة » .
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)
شرح المفردات
الذين كفروا : هم بنو النّضير (بزنة أمير) قبيلة عظيمة من اليهود كبنى قريظة ، والحشر : إخراج جمع من مكان إلى آخر ، ولأول الحشر : أي فى أول حشرهم ،(28/31)
ج 28 ، ص : 32
أي جمعهم وإخراجهم من جزيرة العرب ونفيهم إلى بلاد الشام ، وآخر حشر : إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ، والحصون : واحدها حصن وهو القصر الشاهق والقلعة المشيدة ، مانعتهم حصونهم من اللّه : أي مانعتهم من بأسه وعقابه ، فأتاهم اللّه : أي جاءهم عذابه ، من حيث لم يحتسبوا : أي من حيث لم يخطر لهم ببال ، وقذف الشيء :
رميه بقوة ، والمراد هنا إثباته وركزه فى قلوبهم ، والرعب : الخوف الذي يملأ الصدر يخربون : أي يهدمون ، فاعتبروا : أي فاتعظوا ، والاعتبار : النظر فى حقائق الأشياء وجهات دلالتها ، ليعرف بالنظر فيها شىء آخر من جنسها ، وأجليت القوم عن منازلهم : أي أخرجتهم منها ، وجلوا : خرجوا ، وقد فرقوا بين الإجلاء والإخراج من وجهين : أن الأول لا يكون إلا لجماعة ، والثاني : يكون لواحد ولجماعة ، وأن الأول ما كان مع الأهل والولد والثاني يكون مع بقائهما ، واللينة : النخلة ما لم تكن عجوة.
المعنى الجملي
علمت مما سلف أن اليهود نقضوا عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وظاهروا المشركين اتكالا على مساعدة المنافقين لهم ومناعة حصونهم ، فتهيأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسار لقتالهم ، فلما علموا بقدومه حصنوا الأزقة فحاصرهم عليه الصلاة والسلام عدة أيام وألقى اللّه الرعب فى قلوبهم ، فطلبوا الصلح فأبى إلا الجلاء وأخرجهم من حصونهم بعد تخريبها بأيديهم وأيدى المؤمنين ، ولو لا جلاؤهم لعذبهم فى الدنيا بالقتل والأسر ، ولهم فى الآخرة عذاب شديد ، وما كان ذلك إلا بإذن اللّه وتقديره للأمور وفقالحكمة والمصلحة.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي إن جميع ما فى السموات والأرض من الأشياء يقدسه سبحانه ويمجده ، إما باللسان أو بالقلب أو بدلالة الحال لانقياده لتصريفه له كيف شاء لا معقّب لحكمه.(28/32)
ج 28 ، ص : 33
ونحو الآية قوله تعالى : « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » .
ثم بين بعض آثار عزته ، وأحكام حكمته فقال :
(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) أي هو الذي أجلى بنى النضير من المدينة بقوة عزته ، وعظيم سلطانه ، وكان هذا أول مرة حشروا فيها وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم الذل قبلها ، لأنهم كانوا أهل عزة ومنعة ، وآخر حشر لهم إجلاء عمر رضى اللّه عنه لهم من خيبر إلى الشام.
ثم بيّن فضل اللّه على المؤمنين ، ونعمته عليهم فى إخراج عدوهم من ديارهم ولم يكن ذلك منتظرا فقال :
(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي ما خطر لكم ذلك أيها المؤمنون ببال ، لشدة بأسهم ومنعتهم ، وقوة حصونهم ، وكثرة عددهم وعددهم.
وفى ذكر هذا تعظيم للنعمة ، فإن النعمة إذا جاءت من حيث لا ترتقب كانت مكانتها فى النفوس أعظم ، وكانت بها أشد سرورا وابتهاجا.
والمسلمون ما ظنوا أن يبلغ الأمر بهم إلى إخراج اليهود من ديارهم ، ويتخلصوا من مكايدهم وأشراكهم التي ما فتئوا ينصبونها للمؤمنين ، وبذا قضى اللّه عليهم قضاءه الذي لا مردّ له ، وصدق اللّه (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
ثم ذكر ما جرّأهم على مشاكسة النبي صلى اللّه عليه وسلم وتأليب المشركين عليه فقال :
(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ) أي وظن بنو النضير أن حصونهم المنيعة القوية تمنعهم من أن ينالهم عدو بسوء ، فلا يستطيع جيش مهما أوتى من بأس أن يصل إليهم بأذى ، فاطمأنوا إلى تلك القوة ، وأوقدوا نار الفتنة بين الرسول صلى اللّه عليه وسلم والمشركين ، طمعا فى القضاء عليه ، بعد أن أصبحت له الزعامة(28/33)
ج 28 ، ص : 34
الدينية والسياسية فى المدينة ، وسيكون فى ذلك القضاء عليهم لو صبروا ، وقد غبروا دهرا وهم أصحاب السلطان فيها ، لأنهم من وجه أهل كتاب ، ومن وجه آخر هم أرباب النفوذ المالى فيها ، وأصحاب الثروة والجاه العريض.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :
(فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي فجاءهم بأس اللّه وقدرته الذي لا تدفع من حيث لم يخطر ذلك لهم ببال ، وصدق فيهم ما قيل : قد يؤتى الحذر من مأمنه.
فأجلاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم من المدينة ، فذهبت طائفة منهم إلى أذرعات من أعالى الشام ، وطائفة إلى خيبر على أن يأخذوا معهم ما حملت إبلهم.
ثم بين أسباب هذا الاستسلام السريع ، والنزول على حكم الرسول على مناعة الحصون وكثرة العدد والعدد فقال :
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) أي بثّ فى قلوبهم الهلع والخوف حين جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه إليهم ، فلم يستطيعوا إلى المقاومة سبيلا.
ومما كان له بالغ الأثر فى هذا الخوف قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غيلة ، وما رأوه من كذب وعد عبد اللّه بن أبىّ رأس المنافقين فى نصرتهم ، وإرسال المدد إليهم ، وتغريره بهم ، وتوسيع مسافة الخلف بينهم وبين الرسول ، فهم قد أوقدوا نارا كانوا هم حطب لهيبها ، وفتحوا ثغرة برءوسهم قد سدّوها ، ووقعوا فى حفرة هم الذين كانوا قد حفروها ، فابتلعتهم لا إلى رجعة.
ثم بين مدى ما لحقهم من الهلع والجزع ، وكيف حاروا فى الدفاع عن أنفسهم فقال :
(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي يخربون بيوتهم بأيديهم ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة حتى لا يدخلها العدو ، وحتى لا تبقى صالحة لسكنى المؤمنين بعد جلائهم ، ولينقلوا بعض أدواتها التي تصلح للاستعمال فى جهات أخرى كالخشب والعمد والأبواب ، ويخربها المؤمنون من خارج ليدخلوها(28/34)
ج 28 ، ص : 35
عليهم ، ويزيلوا تحصنهم بها ، وليتسع مجال القتال ، ويكون فى ذلك عظيم التنكيل والغيظ لهم.
ثم ذكر ما يجب أن يجعله العاقل نصب عينيه من عظة واعتبار فقال :
(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي فاتعظوا يا ذوى البصائر السليمة ، والعقول الراجحة ، بما جرى لهؤلاء من أمور عظام ، وبلاء ما كان يخطر لهم ببال ، بأسباب تحار فى فهمها العقول ، ولا يصل إلى كنه حقيقتها ذوو الآراء الحصيفة ، وابتعدوا عن الكفر والمعاصي التي أوقعتهم فى هذه المهالك ، فالسعيد من وعظ بغيره ، وإياكم والغدر ، والاعتماد على غير اللّه ، فما اعتمد أحد على غيره إلا ذلّ.
ثم بين أن الجلاء الذي كتب عليهم كان أخف من القتل والأسر فقال :
(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ أي ولو لا أن اللّه قدّر جلاءهم من المدينة ، وخروجهم من أوطانهم على هذا الوجه المهين ، لعذبهم فى الدنيا بما هو أفظع منه من قتل وأسر كما فعل مع المشركين فى وقعة بدر ، وكما فعل مع بنى قريظة فى سنة خمس للهجرة ، كفاء غدرهم وخيانتهم ، وتأليب المشركين على المؤمنين ، والسعى فى إطفاء نور الإسلام حتى لا تقوم لهم قائمة - إلى ما أعد لهم من عذاب مقيم ، ونكال وجحيم ، حين تقوم الساعة ، وتجازى كل نفس بما كسبت.
ثم بين السبب فيما حل بهم وذكر علته فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه إنما فعل ذلك بهم ، وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ، لأنهم خالفوا اللّه ورسوله ، وكذبوا بما أنزله على رسله المتقدمين من البشارة بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.
ثم ذكر مآل من يعادى اللّه ورسوله فقال :
(وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي ومن يعاد اللّه فإن اللّه يعاقبه أشد العقاب ، وينزل به الخزي والهوان فى الدنيا ، والنكال السرمدي فى الآخرة.(28/35)
ج 28 ، ص : 36
ثم ذكر أن كل شىء بقضاء اللّه وقدره فقال :
(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أي أىّ شىء قطعتموه من النخل أو أبقيتموه كما كان ولم تتعرضوا له بشىء فذلك بأمر اللّه الذي بلّغه إليكم رسوله لتطهر البلاد من شرورهم.
روى أنه عليه الصلاة والسلام حين أمر بقطع نخلهم وحرقه قالوا : يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد فى الأرض ، فما بال قطع النخل وتحريقها ، وكان فى أنفس المؤمنين من ذلك شىء فقالوا لنسألنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل اللّه الآية :
(وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) أي فعل ذلك ليعزّ المؤمنين ، وليخزى الفاسقين ، ويذلهم ويزيد غيظهم ، ويضاعف حسرتهم ، بنفاذ حكم أعدائهم فى أعزّ أموالهم.
والخلاصة - إنكم بأمر اللّه قطعتم ، ولم يكن ذلك فسادا بل نعمة من اللّه ، ليخزيهم ويذلهم بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة اللّه ومخالفة أمره ونهيه.
[سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 7]
وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)(28/36)
ج 28 ، ص : 37
شرح المفردات
قال المبرد : يقال فاء يفىء إذا رجع ، وأفاءه اللّه إليه : أي رده وصيره إليه ، والفيء شرعا : ما أخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كأموال بنى النضير ، ويقال وجف الفرس والبعير يجف وجفا ووجيفا : إذا أسرع ، وأوجفه صاحبه إذا حمله على السير السريع والركاب : ما يركب من الإبل ، واحدتها راحلة ، ولا واحد لها من لفظها ، والعرب لا تطلق لفظ الراكب إلا على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارسا ، يسلط رسله : أي على أعدائه من غير قتال ولا مصاولة بل بإلقاء الرعب فى القلوب ، فيكون الفيء للرسول يصرفه فى مصارفه التي ستعلمها بعد ، من أهل القرى : أي من أهل البلدان التي تفتح هكذا بلا قتال ، ولذي القربى :
أي بنى هاشم وبنى المطلب ، قال المبرد : الدّولة (بالضم) الشيء الذي يتداوله القوم بينهم يكون كذا مرة وكذا أخرى ، والدّولة (بالفتح) انتقال حال سارّة من قوم إلى قوم ، أي فالأولى اسم لما يتداول من المال ، والثانية اسم لما ينتقل من الحال ، آتاكم : أي أعطاكم ، وما نهاكم عنه. أي ما منعكم عن فعله.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه ما حلّ ببني النضير من العذاب العاجل كتخريب بيوتهم بأيديهم وتحريق نخيلهم وتقطيعها ، ثم إجلائهم من بعد ذلك عن الديار إلى الشام دون أن يحملوا إلا القليل من المتاع - ذكر هنا حكم ما أخذ من أموالهم ، فجعله فيئا للّه ورسوله ينفق منه على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل اللّه ، ولا يقسم بين المقاتلة كالغنيمة ، لأنهم لم يقاتلوا لأجله.
روى أن الصحابة رضى اللّه عنهم طلبوا من الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يقسم الفيء بينهم كما قسم الغنيمة فى بدر وغيرها بينهم ، فبين سبحانه الفرق بين(28/37)
ج 28 ، ص : 38
الأمرين ، بأن الغنيمة تكون فيما أتعبتم أنفسكم فى تحصيله وأوجفتم عليه الخيل والركاب ، والفيء فيما لم تتحملوا فى تحصيله تعبا ، وحينئذ يكون أمره مفوّضا إلى الرسول يضعه حيث يشاء.
الإيضاح
(وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) أي ما صيره اللّه إلى رسوله من أموال بنى النضير فهو للّه ورسوله ، ولا يجعل غنيمة للجيش يقسم تقسيم الغنائم ، لأنه لم تقاتل فيه الأعداء بالمبارزة والمصاولة ، بل نزلوا على حكم الرسول فرقا ورعبا ، ولهذا يصرف فى وجوه البر والمنافع العامة التي ذكرها اللّه فى هذه الآيات.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال : « كانت أموال بنى النضير مما أفاء اللّه تعالى على رسوله خاصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ، ثم يجعل ما بقي فى السلاح والكراع عدّة فى سبيل اللّه تعالى » .
(وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي ولكن جرت سنة اللّه أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائه ويقذف الرعب فى قلوبهم ، فيستسلمون لهم بلا قتال ولا مصاولة ، كما سلط محمدا صلى اللّه عليه وسلم على هؤلاء فنزلوا على حكمه دون اقتحام مضايق الخطوب ، ولا مقاومة شدائد الحروب ، فلا حق للمقاتلة فى الفيء بل يكون أمره مفوضا إلى الرسول يصرفه كيف شاء ، ولا يقسمه تقسيم الغنائم.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيفعل ما يشاء كما يشاء ، تارة على ما يعهد من السنن وأخرى على غير ما يعهد منها كما جرى لبنى النضير من استسلامهم بلا قتال على(28/38)
ج 28 ، ص : 39
مناعة حصونهم وكثرة عددهم وعددهم من سلاح وكراع ، وما كان المسلمون يظنون أن هذا سيكون.
وبعد أن أتمّ الكلام فى إجلاء بنى النضير وفيئهم أعقبه بالكلام فى حكم ما أفاء اللّه على رسوله من قرى الكفار عامة فقال :
(ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي ما رده اللّه إلى رسوله من كفار أهل القرى كقريظة والنّضير وفدك وخيبر ، فيصرف فى وجوه البر والخير ولا يقسم تقسيم الغنائم ، بل يعطى للرسول ولذوى قرباه من مؤمنى بنى هاشم وبنى المطلب ، ولليتامى الفقراء ، وللمساكين ذوى الحاجة والبؤس ، ولابن السبيل الذي انقطع عنه ماله ، ولا يمكن أن يصل إليه لبعد الشّقّة وانقطاع طرق المواصلات ، وقد كان ذلك حين كانت طرق الوصول شاقة ، لكنها الآن سهلة وهى على أساليب شتى ، فيمكن المرء أن يطلب ما شاء بحوالة على أي مصرف فى أي بلد على سطح الكرة الأرضية ، ومن ثم فهذا النوع لا يوجد الآن.
ثم علل هذا التقسيم بقوله :
(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي وإنما حكمنا بذلك وجعلناه مقسما بين هؤلاء المذكورين ، لئلا يأخذه الأغنياء ويتداولوه فيما بينهم ، ويتكاثروا به ، كما كان ذلك دأبهم فى الجاهلية ، ولا يصيب الفقراء من ذلك شىء.
(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) أي وما أعطاكم الرسول من الفيء وغيره فخذوه فهو لكم حلال ، وما نهاكم عنه فابتعدوا عنه ولا تقربوه ، فإن الرسول لا ينطق عن الهوى كما قال سبحانه : « وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ » .
أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي فى جماعة عن ابن مسعود قال : « لعن اللّه(28/39)
ج 28 ، ص : 40
تعالى الواشمات « 1 » والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق اللّه ، فبلغ ذلك امرأة من بنى أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : ما لى لا ألعن من لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو فى كتاب اللّه عز وجل ، فقالت : لقد قرأت ما بين لوحى المصحف فما وجدته ، قال إن كنت قرأته فقد وجدته ، أما قرأت قوله تعالى : « وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » قالت بلى ، قال : فإنه صلى اللّه عليه وسلم قد نهى عنه » .
وعن أبى رافع أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « لا ألفينّ أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدرى ، ما وجدنا فى كتاب اللّه اتبعناه » .
ثم حذرهم من مخالفة أوامر اللّه ونواهيه فقال :
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي واتقوا اللّه فامتثلوا أوامره ، واتركوا نواهيه ، فإنه شديد العقاب لمن عصاه ، وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما عنه زجره ونهاه ، ورسوله ترجمان عما يريده اللّه لخير عباده وسعادتهم فى الدنيا والآخرة.
[سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 10]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
__________________________________________________
(1) الوشم : غرز الإبرة فى عضو من الجسم ثم حشوه بالكحل ، والمستوشمة : التي تطلب فعل ذلك ، والمتنمصة : هى التي تنتف الشعر من الوجه وغيره ، والمتفلجة : هى التي تتكلف تفريج ما بين الثنايا بطرق صناعية.(28/40)
ج 28 ، ص : 41
شرح المفردات
التبوّء : النزول فى المكان ، ومنه المباءة للمنزل ، والمراد من الدار المدينة ، والمراد بالحاجة الحسد والغيظ ، وأوتوا : أي أعطى المهاجرون دون الأنصار ، ويؤثرون :
أي يقدمون ويفضلون ، والخصاصة : الحاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج وكذا كل خرق فى منخل أو باب أو سحاب أو برقع ، والشح :
اللؤم وهو أن تكون النفس كزّة حريصة على المنع ، قال شاعرهم :
يمارس نفسا بين جنبيه كزّة إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا
قال الراغب : البخل : المنع ، والشح : الحال النفسية التي تقتضى ذلك ، وغلّا أي حسدا وبغضا.
المعنى الجملي
بعد أن بين مصارف الفيء فيما سلف ، وذكر أنه للّه وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين - ذكر هنا أنه أراد بهم فقراء المهاجرين الذين لهم هذه الصفات السامية ، والمناقب الرفيعة ، ثم مدح الأنصار ساكنى المدينة وبالغ فى مدحهم فذكر لهم هذه الفضائل :
(1) إنهم يحبون المهاجرين.
(2) إنهم ليس فى قلوبهم حقد ولا حسد لهم.(28/41)
ج 28 ، ص : 42
(3) إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم فى أشد الحاجة إليه ، وما ذاك إلا لأن اللّه عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك ، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر.
ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان ، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة ، ويطلبون من اللّه ألا يجعل فى قلوبهم حقدا وحسدا لهم.
الإيضاح
(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة للّه ورسوله ، وإعلاء لشأن دينه.
(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون فى إيمانهم ، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم ، فهم قد أخرجوا من ديارهم ، وهى العزيزة على النفوس ، المحببة إلى القلوب.
بلادي وإن جارت علىّ عزيزة وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام
وتركوا الأموال والمال شقيق الروح ، وكثيرا ما يقتل المرء فى سبيل الذّود عنه ، وانتزاعه من أيدى غاصبيه ، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين ، ورفعة شأنه ، وذيوع ذكره ، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم ، وجزيل الثواب بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال ، وعظيم الخلال.
روى أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها.
وعن سعيد قال : قال(28/42)
ج 28 ، ص : 43
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة ، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم ، وذلك خمسمائة سنة » أخرجه أبو داود.
ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال :
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة ، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين ، لهم صفات كريمة ، وشيم جليلة تدل على كرم النفس ، ونبل الطباع ، فهم :
(1) يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم ، وقد آخى رسول اللّه بينهم وبينهم ، وأسكن المهاجرين فى دور الأنصار معهم ، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين ، طيّبة بذلك نفوسهم ، قريرة به أعينهم.
روى أحمد عن أنس قال : « قال المهاجرون : يا رسول اللّه ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم حسن مواساة فى قليل ، ولا حسن بذل فى كثير ، لقد كفونا المئونة ، وأشركونا فى المهيأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم اللّه لهم » .
وقال عمر : وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا ، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم.
(2) لا يطمحون إلى شىء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.
روى « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للأنصار : إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم ، فقالوا أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو غير ذلك ؟ قالوا وما ذاك يا رسول اللّه ؟ فقال : هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر ، فقالوا نعم يا رسول اللّه » .(28/43)
ج 28 ، ص : 44
(3) يقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم ، ويبدءون بسواهم قبلهم ، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين.
أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبى هريرة قال : « أتى رجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : أصابنى الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه اللّه ؟ فقال أبو طلحة أنا يا رسول اللّه ، فذهب إلى أهله فقال لامرأته أكرمى ضيف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قالت واللّه ما عندى إلا قوت الصبية ، قال إذا أراد الصبية العشاء فنوّميهم ، وتعالى فأطفئى السراج ونطوى الليلة لضيف رسول اللّه ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام : لقد عجب اللّه الليلة من فلان وفلانة وأنزل فيهما (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) » .
ثم بين سوء عاقبة الشح فقال :
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مكروه.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا « لا يجتمع غبار فى سبيل اللّه ودخان نار جهنم فى جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الإيمان والشح فى قلب عبد أبدا » .
وأخرج أحمد والبخاري فى الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « اتقوا الظلم ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم ، واستحلوا محارمهم » .
وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال : إنى أخاف أن أكون قد هلكت ، قال وما ذاك ؟ قال : سمعت اللّه يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل(28/44)
ج 28 ، ص : 45
شحيح لا أكاد أخرج من يدى شيئا فقال ابن مسعود : ليس ذاك الذي ذكر اللّه تعالى ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل - ففرق بين الشح والبخل.
وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك
فقد روى أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « برئ من الشح من أدى الزكاة ، وقرى الضيف ، وأعطى فى النائبة » .
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون : ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر لإخواننا فى الدين الذين سبقونا بالإيمان.
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاث منازل : المهاجرين ، والذين تبوءوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.
وفى هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى اللّه عنهم أجمعين ، لأنه جعل لمن بعدهم حظا فى الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له فى الفيء.
وإنما بدءوا فى الدعاء بأنفسهم
لقوله صلى اللّه عليه وسلم : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » .
(وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون اللّه ألا يجعل فى قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا.
والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة ، وينبوع كل معصية ، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة ، وسائر أنواع الفجور.
ونحو الآية قوله فى سورة براءة « وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ »(28/45)
ج 28 ، ص : 46
وفى الآية إيماء إلى وجوب محبة من تقدمهم من المؤمنين ومراعاة حقوقهم لإخوّتهم فى الدين والسبق بالإيمان.
(رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ربنا إنك عظيم الرأفة بعبادك ، كثير الرحمة لهم ، فأجب دعاءنا.
وفى الآية حثّ على الدعاء للصحابة ، وصفاء القلوب من بغض أحد منهم.
وعن ابن عمر أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه : « لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ » ثم قال : هؤلاء المهاجرون ، أ فمنهم أنت ؟ قال لا ، ثم قرأ عليه « وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ » الآية ، ثم قال هؤلاء الأنصار فأنت منهم ؟
قال لا ، ثم قرأ عليه : « وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ » الآية ، ثم قال : أ فمن هؤلاء أنت ؟ قال أرجو ، قال : ليس من هؤلاء من سبّ هؤلاء.
[سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)(28/46)
ج 28 ، ص : 47
شرح المفردات
نافقوا : أي أظهروا غير ما أضمروا ، وبالغوا فى إخفاء عقائدهم ، والإخوان :
الأصدقاء واحدهم أخ ، والأخ من النسب جمعه إخوة ، لننصرنكم : أي لنعاوننكم ، ليولنّ الأدبار : أي ليفرّن هار بين ، أشد رهبة فى صدورهم من اللّه : أي إنهم يخافونكم فى صدورهم أشد من خوفهم للّه ، لا يفقهون : أي لا يعلمون عظمته تعالى حتى يخشوه حق خشيته ، جميعا : أي مجتمعين ، محصنة : أي بالدروب والخنادق وغيرها ، جدر :
أي حيطان واحدها جدار ، بأسهم : أي حربهم ، وشتى : أي متفرقة ، واحدها شتيت ، وبال أمرهم : أي سوء عاقبتهم ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم سيىء العاقبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما حدث لبنى النضير من الاستسلام خوفا ورهبة ، لما قذفه فى قلوبهم من الرعب ، ثم ذكر مصارف الفيء التي تقدمت - أردفه بذكر ما حصل من مناصحة المنافقين عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول ورفقته لأولئك اليهود ، وتشجيعهم لهم على الدفاع عن ديارهم ومحاربتهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما قصه اللّه علينا وفصّله أتمّ تفصيل ، ليكون فى ذلك عبرة لنا وإنا لنشاهد كل يوم أن الناس يضل بعضهم بعضا ويغوونهم ثم يتركونهم فى حيرة من أمرهم لا يجدون لهم مخلصا مما وقعوا فيه.
أخرج ابن إسحق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس : أنها نزلت فى رهط من(28/47)
ج 28 ، ص : 48
بنى عوف ، منهم عبد اللّه بن أبىّ ابن سلول ، ووديعة بن مالك ، وسويد وداعس بعثوا إلى بنى النضير بما قصه اللّه علينا فى كتابه.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً). تقدم أن قلنا فى غير موضع إن مثل هذا الأسلوب (أَلَمْ تَرَ) يراد به التعجيب من حال المحدّث عنه ، وأن أمره غاية فى الغرابة ، وموضع للدهشة والحيرة.
فهؤلاء قوم من منافقى المدينة لهم أقوال تخالف ما يبطنون ، منهم عبد اللّه بن أبىّ وشيعته رأوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم شرع يحاصر بنى النضير ويقاتلهم ، فأرسلوا إليهم يقولون لهم : إنا قادمون لمساعدتكم بخيلنا ورجلنا ، ولا نسلمكم لمحمد أبدا فجدّوا فى قتالهم ، ولا تهنوا فى الدفاع عن دياركم وأموالكم ، حتى إذا اشتد الحصار ، وأوغل المسلمون فى الدخول فى ديارهم ، وتحريق نخيلهم ، وهدم بيوتهم رأى بنو النضير أن تلك الوعود كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، وأنهم بين أمرين :
(1) الاستسلام وقبول حكم محمد عليهم.
(2) إفناؤهم وتخريب ديارهم.
وقد أدخل اللّه الرعب فى قلوبهم ، فاختاروا الدنيّة ، وقبلوا الجلاء عن الديار واستبان لهم أن المنافقين كانوا كاذبين لا عهود لهم ولا وعود ، كما هو دأبهم فى كل زمان ومكان.
وبعد أن كذبهم على سبيل الإجمال كذبهم تفصيلا ليزيد تعجيب المخاطب حالهم ، وليبين له مبلغ خبث طويّتهم ، وشدة جبنهم ، وفزعهم من القتال ، وأن هذه الوعود أقوال كاذبة لا كتها ألسنتهم وقلوبهم منها براء فقال :(28/48)
ج 28 ، ص : 49
(لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ ، وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) أي لئن أخرج بنو النضير من ديارهم فأجلوا عنها لا يخرج معهم المنافقون الذين وعدوهم بالخروج من ديارهم ، ولئن قاتلهم محمد صلى اللّه عليه وسلم لا ينصرونهم ، ولئن نصروهم ليولّن الأدبار منهزمين عن محمد وأصحابه ، هاربين منهم خاذلين لهم ، ثم لا ينصر اللّه بنى النضير.
وهذا إخبار بالغيب ، ودليل من دلائل النبوة ، ووجه من وجوه الإعجاز ، فإنه قد كان الأمر كما أخبر اللّه قبل وقوعه.
والخلاصة - إن بنى النضير أخرجوا فلم يخرج معهم المنافقون ، وقوتلوا فما نصروهم ، ولو كانوا قد نصروهم لتركوا النصرة وانهزموا وتركوا أولئك اليهود فى أيدى الأعداء.
ثم ذكر السبب فى عدم نصرتهم لليهود والدخول مع المؤمنين فى قتال فقال :
(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ) أي إنهم يخافونكم أشد مما يخافون اللّه ، ومن ثمّ لم يجرءوا على الدخول معكم فى قتال ، وأسلموا اليهود يحكم عليهم الرسول بما يشاء.
ثم ذكر سبب الرهبة لهم من دون اللّه فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي وكانت هذه الرهبة لكم فى صدورهم أشد من رهبتهم للّه من أجل أنهم لا يفقهون قدر عظمته تعالى ، فهم لذلك يستخفّون بمعاصيه ولا يرهبون عقابه قدر رهبتهم لكم.
ونحو الآية قوله : « إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً » .
ثم أكد جبن اليهود والمنافقين وشديد خوفهم منهم فقال :
(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي إن هؤلاء اليهود(28/49)
ج 28 ، ص : 50
والمنافقين قد ألقى الرعب فى قلوبهم ، فلا يواجهونكم بقتال مجتمعين ، لأن الخوف والهلع بلغا منهم كل مبلغ ، بل يقاتلونكم فى قرى محصنة بالدروب والخنادق ونحوها ، ومن وراء الجدر والحيطان وهم محاصرون.
ثم بين أن من أسباب هذا الجبن والخوف - التخاذل وعدم الاتحاد حين اشتداد الخطوب فقال :
(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي بعضهم عدوّ لبعض ، فلا يمكن أن يقاتلوا عدوا لهم وهم فى تخاذل وانحلال ، ومن ثم استكانوا وذلوا.
وفى هذا عبرة للمسلمين فى كل زمان ومكان ، فإن الدول الإسلامية ما هدّ كيانها ، وأضعفها أمام أعدائها إلا تخاذلها أفرادا وجماعات ، وانفراط عقد وحدتها ، ومن ثم طمع الأعداء فى بلادهم ودخلوها فاتحين وأذاقوا أهلها كؤوس الذل والهوان وفرّقوهم شذر مذر ، وجعلوهم عبيدا أذلاء فى بلادهم والتهموا ثرواتهم ، ولم يبقوا لهم إلا النّفاية وفتات الموائد. وللّه الأمر من قبل ومن بعد ، وعسى اللّه أن يأتى بالفتح أو نصر من عنده ، فيستيقظ المسلمون من سباتهم ، ويثوبوا إلى رشدهم ، فيستعيدوا سابق مجدهم ، وتدول الدولة لهم :
فيوما لنا ويوما علينا ويوما نساء ويوما نسرّ
ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :
(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي إنك أيها الرسول إذا رأيتهم مجتمعين خلتهم متفقين وهم مختلفون غاية الاختلاف ، لما بينهم من إحن وعداوات ، فهم لا يتعاضدون ولا يتساندون ولا يرمون عن قوس واحدة.
وفى هذا تشجيع للمؤمنين على قتالهم ، وحثّ للعزائم الصادقة على حربهم ، فإن المقاتل متى عرف ضعف خصمه ازداد نشاطا وازدادت حميّته وكان ذلك من أسباب نصرته عليه.(28/50)
ج 28 ، ص : 51
ثم بين أسباب النفرة وانحلال الوحدة فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) أي ذلك التفرق من جراء أن أفئدتهم هواء ، فهم قوم لا يفقهون سر نظم هذه الحياة ، ولا يعلمون أن الوحدة هى سر النجاح ، ومن ثم تخاذلوا وتفرقت كلمتهم ، واختلف جمعهم ، واستهان بهم عدوهم ، ودارت عليهم الدائرة.
ثم أرشد إلى أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الكافرين ، بل قد سبقهم غيرهم ممن كان حقه أن يكون عبرة لهم فقال :
(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي مثل بنى النضير مثل اليهود من بنى قينقاع الذين كانوا حول المدينة وغزاهم النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم السبت فى شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وأجلاهم إلى أذرعات بالشام ، وذاقوا سوء عاقبة كفرهم إثر عصيانهم قبل وقعة بنى النضير التي كانت سنة أربع للهجرة.
والخلاصة - إنهم قد كانت لهم أسوة ببني قينقاع ، فجروحهم لا تزال دامية ، وآثار خذلانهم لا تزال بادية للعيان ، وقد كان من حق ذلك أن يكون عبرة ماثلة لهم ولكنهم قوم لا يفقهون ولا يعتبرون بالمثلات التي يرونها رأى العين.
(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لا يقادر قدره ، ولا يعرف كنهه سوى علام الغيوب.
ثم ضرب لليهود والمنافقين مثلا آخر أشد نكالا وأوجع إيلاما فقال :
(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) أي مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بنى النضير النصرة إن قوتلوا ، أو الخروج معهم إن أخرجوا ، ومثل بنى النضير فى غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم فى أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم - كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده النصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر باللّه واتبعه وأطاعه ، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه وقال : إنى أخاف اللّه رب العالمين إذا أنا نصرتك ، لئلا يشركنى معك فى العذاب.(28/51)
ج 28 ، ص : 52
والخلاصة - إن مثل اليهود فى اغترارهم بمن وعدوهم النصرة من المنافقين بقولهم لهم : لئن قوتلتم لننصرنكم ، ولما جدّ الجدّ واشتد الحصار والقتال تخلّوا عنهم وأسلموهم للهلكة - كمثل الشيطان إذ سوّل للإنسان الكفر والعصيان ، فلما دخل فيه تبرأ منه وتنصل وقال : « إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ » .
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس ، ولا أنكى جرحا فى القلوب من هذا المثل ، لمن اعتبر وادّكر ، ولكنهم قوم لا يعقلون.
ثم ذكر عاقبة الناصح والمنصوح فقال :
(فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والداخل فيه - الخلود فى النار أبدا ، وهكذا جزاء الظالمين لأنفسهم بالكفر كيهود بنى النضير والمنافقين الذين وعدوهم بالنصرة.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
شرح المفردات
ما قدمت : أي أىّ شىء قدمت ، وغد : هو يوم القيامة سمى بذلك لقربه ، فكل آت قريب كما قال : وإن غدا لناظره قريب. نسوا اللّه : أي نسوا حقه فتركوا أوامره ، ولم ينتهوا عن نواهيه ، فأنساهم أنفسهم : أي أنساهم حظوظ أنفسهم فلم يقدموا لها خيرا ينفعها.(28/52)
ج 28 ، ص : 53
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المضلين من المنافقين ، وبيّن أن ما يقولون غير ما يبطنون ، وأن مثلهم كمثل الشيطان فى الإغواء والإضلال ، ثم أعقبه بذكر الضالين من بنى النضير وكيف خدعوا بتلك الوعود الخلّابة التي كانت عليهم وبالا ونكالا ، وكان فيها سوء حالهم فى دنياهم ودينهم - شرع ينصح المؤمنين بلزوم التقوى ، وأن يعملوا فى دنياهم ما ينفعهم فى أخراهم حتى ينالوا الثواب العظيم ، والنعيم المقيم ، وألا ينسوا حقوق اللّه ، فيجعل الرين على قلوبهم ، فلا يقدموا لأنفسهم ما به رشادهم وفلاحهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ) فافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي ولتنظروا ماذا قدمتم لآخرتكم مما ينفعكم يوم الحساب والجزاء ، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت ، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكنهم من توقع العذاب حيارى.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) تكرير للتوكيد ، لما يستدعيه الحال من التنبيه والحث على التقوى التي هى الزاد فى المعاد.
ثم وعد وأوعد وبشر وأنذر فقال :
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي إنه تعالى عليم بأحوالكم لا يخفى عليه شىء من شئونكم ، فراقبوه فى جليل أعمالكم وحقيرها ، واعلموا أنه سبحانه سيحاسبكم على النقير والقطمير ، والقليل والكثير ، ولا يفوته شىء من ذلك.
ثم ضرب لهم الأمثال تحذيرا وإنذارا فقال :
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي ولا يكن حالكم كحال قوم تركوا العمل بحقوق اللّه التي أوجبها على عباده ، فران على قلوبهم وأنساهم العمل(28/53)
ج 28 ، ص : 54
الصالح الذي ينجيهم من عقابه ، فضلوا ضلالا بعيدا ، فجازاهم بما هم له أهل ، وما هم مستحقون ، جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم وأوقعوها فى المعاصي والآثام ، ومن ثم حكم عليهم بالهلاك فقال :
(أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي أولئك هم الذين خرجوا من طاعة اللّه فاستحقوا عقابه يوم القيامة.
ونحو الآية قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » .
خطب أبو بكر فقال : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضى الأجل وهو فى عمل اللّه عزّ وجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بتوفيق اللّه عز وجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم اللّه عز وجل أن تكونوا أمثالهم فقال : « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدّموا فى أيام سلفهم ، وخلوا بالشّقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن ، وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب اللّه لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا بسنائه وبيانه. إن اللّه أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى : « إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ » لا خير فى قول لا يراد به وجه اللّه ، ولا خير فى مال لا ينفق فى سبيل اللّه ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف فى اللّه لومة لائم.
ثم وازن بين من يعمل الحسنات ، ومن يجترم السيئات فقال :
(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوى الذين نسوا اللّه فاستحقوا الخلود فى النار ، والذين اتقوا اللّه فاستحقوا الخلود فى الجنة.(28/54)
ج 28 ، ص : 55
ونحو الآية قوله تعالى : « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ »
وقوله : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ؟ » .
ثم بين عدم استوائهما فقال :
(أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي أصحاب الجنة هم الفائزون بكل مطلوب ، الناجون من كل مكروه.
وفى هذا تنبيه إلى أن الناس لفرط غفلتهم وقلة تفكرهم فى العاقبة ، وتهالكهم على إيثار العاجلة ، واتباعهم للشهوات الفانية ، كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار ، وشاسع البون بين أصحابهما ، وأن الفوز لأصحاب الجنة ، فمن حقهم أن يعلموا ذلك بعد أن نبّهوا له ، كما تقول لمن عقّ أباه : هو أبوك - تجعله كأنه لا يعرف ذلك فتنبهه إلى حق الأبوة الذي يقتضى البر والعطف.
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(28/55)
ج 28 ، ص : 56
تفسير المفردات
خاشعا : أي منقادا متذللا ، متصدعا : أي متشققا ، خشية اللّه : أي خوفه وشديد عقابه ، الغيب : ما غاب عن الحسّ من العوالم التي لا نراها ، والشهادة : ما حضر من الأجرام المادية التي نشاهدها ، القدوس : أي المنزه عن النقص ، السلام : أي الذي سلم الخلق من ظلمه ، إذ جعلهم على نظم كفيلة برقيهم ، المؤمن : أي واهب الأمن فكل مخلوق يعيش فى أمن فالطائر فى جوّه ، والحية فى وكرها ، والسمك فى البحر تعيش كذلك ، ولا يعيش قوم على الأرض ما لم يكن هناك حراس يحرسون قراهم وإلا هلكوا ، العزيز : أي الغالب على أمره ، الجبار : أي الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه ، المتكبر : أي البليغ الكبرياء والعظمة ، سبحان اللّه عما يشركون : أي تنزه ربنا عما يصفه به المشركون ، الخالق : أي المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة ، والبارئ : أي المبرز لها على صفحة الوجود بحسب السنن التي وضعها والغرض الذي خلقت له ، المصوّر : أي الموجد للأشياء على صورها ومختلف أشكالها كما أراد ، الأسماء الحسنى : أي الأسماء الدالة على محاسن المعاني التي تظهر فى مظاهر هذا الوجود ، فنظم هذه الحياة وبدائع ما فيها دليل على كمال صفاته ، وكمال الصفة يرشد إلى كمال الموصوف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فرق المضلين من المنافقين ، والضالين من اليهود وغيرهم ، وأمر عباده المؤمنين بالتقوى ، استعدادا ليوم القيامة - ذكر هنا أن لهم مرشدا عظيما وإماما هاديا هو القرآن الذي يجب أن تخشع لهيبته القلوب ، وتتصدع لدى سماع عظاته الأفئدة. لما فيه من وعد ووعيد ، وبشارة وإنذار ، وحكم وأحكام ، فلو أنا ألهمنا الجبل عقلا وفهمه وتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف اللّه عز وجل ، فكيف بكم(28/56)
ج 28 ، ص : 57
أيها البشر لا تلين قلوبكم ، ولا تخشع وتتصدع من خشيته ؟ وقد فهمتم عن اللّه أمره ، وتدبرتم كتابه.
وبعد أن وصف القرآن بالعظم أتبعه بوصف عظمة المنزّل للقرآن ذي الأسماء الحسنى الذي يخضع له ما فى السموات والأرض وينقادون لحكمه ، وأمره ونهيه.
الإيضاح
(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) أي لو جعل فى الجبل عقل كما جعل فيكم أيها البشر ، ثم أنزل عليه القرآن لخشع وخضع وتشقق من خشية اللّه.
وهذا تمثيل لعلوّ شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر ، وفيه توبيخ للانسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه حين قراءة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع التي تذل لها الجبال الراسيات.
(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) أي وهذه الأمثال التي أودعناها القرآن وذكرناها فى مواضعها التي ضربت لأجلها ، واقتضاها الحال من نحو قوله : « وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ » وقوله : « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » وقوله : « وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى » الآية - جعلناها تبصرة وذكري لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فمن الناس من وفقه اللّه واهتدى بها إلى سواء السبيل ، وفاز بما يرضى ربه عنه ، ومنهم من أعرض عنها ونأى ، فأخذه اللّه نكال الآخرة والأولى ، وأدخله فى سقر ، وما أدراك ما سقر ، لا تبقى ولا تذر.(28/57)
ج 28 ، ص : 58
ثم وصف سبحانه نفسه بجليل الصفات ، التي هى سر العظمة والجلال ، لخالق الأرض والسموات فقال :
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أي إنه لا ربّ غيره ، ولا إله فى الوجود سواه ، فكل ما يعبد من دونه من شجر أو حجر أو صنم أو ملك فهو باطل ، وهو يعلم جميع الكائنات الشاهدة لنا والغائبة عنا ، ولا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السموات ، وهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي هو اللّه المالك لجميع الأشياء ، المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة ، المنزه عن كل عيب ونقص ، الذي أمن خلقه أن يظلمهم ، وهو الرقيب عليهم كما قال « وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » وقال : « أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ » والذي عز كل شىء فقهره ، وغلب الأشياء بعظمته وجبروته ، فلا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته كما
ورد فى الصحيح : « العظمة إزارى ، والكبرياء ردائى ، فمن نازعنى واحدا منهما عذبته »
تنزه ربنا عما يقوله المشركون من الصاحبة والولد فهو الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد.
(هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) أي هو اللّه الخالق لجميع الأشياء المبرز لها إلى عالم الوجود على الصفة التي أرادها كما قال : « فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ » ، وله الصفات الحسنى التي وصف بها نفسه لا يشركه فيها أحد سواه.
(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تقدم الكلام فى هذا فى مثل قوله :
« تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه
اللهم
ف اللّه سبحانه نفسه بأوصاف الجلال والكمال.(28/58)
صفحة ناقصة مع بعض ما قبلها ص : 58 ـ 59
ج 28 ، ص : 59(28/59)
ج 28 ، ص : 60
سورة الممتحنة
هى مدينة ، وآيها ثلاث عشرة ، نزلت بعد الأحزاب.
ومناسبتها لما قبلها.
(1) إنه ذكر هناك موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب ، وذكر هنا نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء ، لئلا يشبهوا المنافقين.
(2) إنه ذكر هناك المعاهدين من أهل الكتاب ، وذكر هنا المعاهدين من المشركين.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
تفسير المفردات
تلقون إليهم بالمودة : أي ترسلون إليهم أخبار الرسول بسبب المودة التي بينكم وبينهم ، يخرجون الرسول وإياكم : أي من مكة ، أن تؤمنوا باللّه : أي لأجل(28/60)
ج 28 ، ص : 61
إيمانكم باللّه ، ضل : أي أخطأ ، وسواء السبيل : أي الطريق المستوي وهو طريق الحق ، إن يثقفوكم : أي يظفروا بكم ، وأصل الثقف : الحذق فى إدراك الشيء وفعله ومنه رجل ثقف لقف ، بالسوء : أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم ، وودّوا لو تكفرون : أي وتمنوا كفركم ، أرحامكم : أي قراباتكم ، يفصل بينكم : أي يفرق بينكم من شدة الهول.
المعنى الجملي
روى البخاري ومسلم وغيرهما « أن سارّة التي كانت مغنية ونائحة بمكة أتت المدينة تشكو الحاجة ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بنى عبد المطلب أن يعطوها ما يدفع حاجتها ، فأعطوها نفقة وكسوة وحملوها ، فجاءها حاطب بن أبى بلتعة (مولى عبد اللّه بن حميد بن عبد العزّى) فأعطاها عشرة دنانير وكتب معها كتابا إلى أهل مكة ، هذا صورته :
من حاطب بن أبى بلتعة إلى أهل مكة إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم ، فأخبره جبريل به ، فبعث إليها عليّا وعمارا وطلحة والزّبير والمقداد وأبا مرثد وكانوا فرسانا. وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (موضع) فإن بها ظعينة (امرأة) معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة ، فخذوه منها وخلوها فإن أبت فاضربوا عنقها ، فأدركوها فجحدت وحلفت ، فهمّوا بالرجوع ، فقال علىّ :
واللّه ما كذبنا ولا كذب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وسلّ سيفه وقال لها :
أخرجى الكتاب ، أو ألقى ما معك من الثياب ، فأخرجته من عقاص شعرها ، فأحضر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حاطبا وقال له : ما حملك عليه ؟ فقال : يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت ، ولا غششتك منذ نصحتك ، ولا أحببتهم منذ فارقتهم ، ولكنى كنت امرأ ملصقا فى قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهلهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتنى النسب فيهم(28/61)
ج 28 ، ص : 62
أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتى ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن دينى ، فصدّقه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقبل عذره ، فقال عمر : دعنى يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل اللّه اطلع على أهل بدر فقال : افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فنزلت : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ » الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) أي لا تجعلوا الكفار أنصارا وأعوانا لكم.
ثم فسر هذه الموالاة فقال :
(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تبلغونهم أخبار الرسول صلى اللّه عليه وسلم التي لا ينبغى لأعدائه أن يطلعوا عليها من خطط حربية ، أو أعمال نافعة فى نشر دينه وبثّ دعوته. بسبب ما بينكم وبينهم من مودة.
ثم ذكر أن مما يمنع هذا الاتخاذ أمرين :
(1) (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) أي وقد كفروا باللّه ورسوله وكتابه الذي أنزله عليكم! فكيف بكم بعد هذا تجعلونهم أنصارا وتسرّون إليهم بما ينفعهم ويضر رسولكم ، ويعوق نشر دينكم.
(2) (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ) أي يخرجون الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة للّه وحده ولم يكن لهم جريرة ولا جرم سوى ذلك.
ونحو الآية قوله : « وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » وقوله « الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ » .(28/62)
ج 28 ، ص : 63
وفى هذا تهييج لهم على عداوتهم وعدم موالاتهم ، ثم زادهم تهييجا بقوله :
(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم خرجتم مجاهدين فى سبيلى ، باغين مرضاتى عنكم ، فلا توالوا أعدائى وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم حنقا عليكم وسخطا لدينكم.
ثم توعد من يفعل ذلك وشدد النكير عليه وذكر ما فيه أعظم الزجر له فقال :
(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي ومن يفعل هذه الموالاة ويبلغ أخبار الرسول صلى اللّه عليه وسلم لأعدائه فقد جار عن قصد الطريق التي توصل إلى الجنة ورضوان اللّه تعالى.
ثم ذكر أمورا أخرى تمنع موالاتهم فقال :
(1) (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) أي إن يظفر بكم هؤلاء الذين تسرون إليهم بالمودة يكونوا حربا عليكم ويفعلوا بكم الأفاعيل.
(2) (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي ويمدوا أيديهم وألسنتهم لقتالكم وأذاكم وسبّكم وشتمكم ، فكيف ترونهم على هذه الحال وتتخذونهم أصدقاء وأولياء.
(3) (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي وتمنوا لو تكفرون بربكم ، لتكونوا على مثل الذي هم عليه ، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة.
والخلاصة - إن هؤلاء يودون لكم كل ضر وأذى فى دينكم ودنياكم ، فكيف بكم بعد هذا تمدون إليهم حبال المودة ، وتوثقون عرا الإخاء ، فهذا مما لا يرشد إليه عقل ، ولا يهدى إليه دين.
ثم ذكر أن ما جعلوه سببا من المحافظة على الأهل والولد لا ينبغى أن يقدّم على شئون الدين فقال :
(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لن تنفعكم يوم القيامة أقاربكم(28/63)
ج 28 ، ص : 64
ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم ، وتتقربون إليهم محاماة عنهم - فتدفع عنكم عذاب اللّه إن عصيتموه فى الدنيا وكفرتم به.
ثم بين السبب فى عدم نفعهم فقال :
(يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) أي يفرّق اللّه بينكم وبينهم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر كما قال : « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » .
ثم أوعد من يفعل ذلك فقال :
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي واللّه بأعمالكم ذو بصر بها ، لا يخفى عليه شىء منها ، فهو محيط بها جميعها ، ومجازيكم عليها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، فاتقوا اللّه فى أنفسكم واحذروه.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 6]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)(28/64)
ج 28 ، ص : 65
شرح المفردات
الأسوة : (بضم الهمزة وكسرها وبهما قرئ) من يؤتسى به ، كالقدوة لمن يقتدى به والجمع أسى ، برآء واحدهم برىء كظرفاء وظريف : أي متبرئون ومنكرون لما تعملون ، وما تعبدون : أي الأصنام والكواكب وغيرها ، البغضاء : أي البغض والكراهة ، لا تجعلنا فتنة للذين كفروا : أي لا تسلطهم علينا فيفتنونا بعذاب لا نحتمله ، من قولهم : فتن الفضة : أي أذابها ، يرجو اللّه : أي يؤمل ثوابه ، واليوم الآخر ، أي مجيئه ، ومن يتولّ : أي ومن يعص النصيحة.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم موالاتهم للكافرين ، وذكر لهم الموانع التي تمنع من ذلك كإخراجهم من الديار ، وتمنى الكفر لهم ، وصدهم عن هداية الدين وكفرهم بالرسول وبما جاء به ، وأنهم متى وجدوا سبيلا لأذاهم بقول أو فكر سلكوه غير آبهين لصلة رحم ولا قربى - أكد هنا ذلك فأمرهم أن يأتسوا بإبراهيم وأصحابه إذ تبرءوا من قومهم وعادوهم وقالوا لهم : إنا برآء منكم ، قال الفراء : يقول أفلا تأسيت يا حاطب بإبراهيم حين تبرأ من أهله ؟ لتعلم أن الحب فى اللّه والبغض فى اللّه من أوثق عرا الإيمان.
الإيضاح
(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة فى إبراهيم خليل الرحمن تقتدون به وبالذين معه من أتباعه المؤمنين حين قالوا لقومهم الذين(28/65)
ج 28 ، ص : 66
كفروا باللّه وعبدوا الطاغوت : أيها القوم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون اللّه من الآلهة والأنداد.
ثم فسر هذه البراءة بقوله :
(كَفَرْنا بِكُمْ) أي جحدنا ما أنتم عليه من الكفر ، وأنكرنا عبادتكم ما تعبدون من دون اللّه ، فلا نعتدّ بكم ولا بآلهتكم ، فإن ما أنتم عليه لا تقره العقول الراجحة ، ولا الأحلام الحصيفة فما قيمة الأحجار والأصنام التي تتخذونها معبودات ترجون منها النفع والضر « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » .
(وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) أي وها نحن أولاء قد أعلنّا الحرب عليكم ، فلا هوادة بيننا وبينكم ، وسيكون هذا دأبنا معكم ، لا نترككم بحال حتى تتركوا ما أنتم عليه من الشرك ، فتنقلب العداوة ولاية ، والبغضاء محبة.
(إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم فى إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا فى استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدوّا للّه تبرأ منه.
وقد كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه فأنزل اللّه عز وجل : « ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ، وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ » .
والخلاصة - لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة وتستغفروا لهم ، كما فعل إبراهيم لأبيه ، لأنه إنما استغفر له قبل أن يتبين له أنه عدو للّه ، فلما مات على الكفر تبين(28/66)
ج 28 ، ص : 67
له ذلك ، فترك الاستغفار ، وأنتم قد استبانت لكم عداواتهم بكفرهم بالرسول ، وإخراجكم من الديار ، فلا ينبغى أن تستغفروا لهم.
(وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ) أي وليس فى وسعى إلا الاستغفار لك ، ولا أستطيع أن أنفعك بأكثر من هذا ، فإن أراد اللّه عقوبتك على كفرك فلا أدفعها عنك.
ثم أخبر عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبوءوا منهم ولجئوا إلى اللّه وتضرعوا إليه.
(رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي ربنا اعتمدنا عليك فى قضاء أمورنا ، ورجعنا إليك بالتوبة مما تكره إلى ما تحب وترضى ، ومصيرنا إليك يوم تبعثنا من قبورنا ، وتحشرنا إلى موقف العرض والحساب.
(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال قتادة : أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك ، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقّ هم عليه.
(وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي واستر لنا ذنوبنا بعفوك عنها ، إنك أنت الذي لا يضام من لاذ بجنابه ، الحكيم فى تدبير خلقه ، وصرفه إياهم فيما فيه صلاحهم.
ثم أعاد ما تقدم مبالغة فى الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي لقد كان لكم أيها المؤمنون قدوة حسنة فى إبراهيم ومن آمن معه من أتباعه المؤمنين ، لمن كان منكم يرجو لقاء اللّه وجزيل ثوابه ، والنجاة فى اليوم الآخر.
وفى هذا تهييج إلى الإيمان باللّه واليوم الآخر ، والعضّ عليهما بالنواجذ ، وبيان أنهما ملاك الأمر كله يوم العرض والحساب.
ثم أوعد على تركهما بقوله :
(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي ومن أعرض عما ندبه اللّه إليه منكم(28/67)
ج 28 ، ص : 68
وأدبر واستكبر ، ووالى أعداء اللّه ، وألقى إليهم بالمودة فلا يضرنّ إلا نفسه ، فإن اللّه غنى عن إيمانه وطاعته ، بل عن جميع خلقه ، محمود بأياديه وآلائه عليهم.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ » .
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 7 الى 9]
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
شرح المفردات
عسى : كلمة تفيد رجاء حصول ما بعدها ، فإذا صدرت من اللّه فما بعدها واجب الوقوع ، أن تبروهم : أي تفعلوا البر والخير لهم ، وتقسطوا إليهم : أي تعدلوا فيهم بالبر والإحسان ، المقسطين : أي العادلين ، وظاهروا : أي ساعدوا ، أن تولوهم : أي أن تكونوا أولياء وأنصارا لهم.
المعنى الجملي
لما نهاهم عن موالاة الكفار وإلقاء المودة إليهم ، وضرب لهم المثل بإبراهيم وقومه - حملهم ذلك على أن يظهروا براعتهم من أقربائهم ، والتشدد فى معاداتهم(28/68)
ج 28 ، ص : 69
ومقاطعتهم ، وكان ذلك عزيزا على نفوسهم ، ويتمنون أن يجدوا المخلص منه - أردف ذلك سبحانه بأنه سيغير من طباع المشركين ، ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام ، فيتمّ التوادّ والتصافي بينكم وبينهم.
وفى ذلك إزالة للوحشة من قلوب المؤمنين ، وتطيب لقلوبهم ، وقد أنجز اللّه وعده ، فأتاح للمسلمين فتح مكة ، فأسلم قومهم ، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتوادّ ، ثم رخص لهم فى صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار ولم يخرجوهم من ديارهم ، ولم يظاهروا على إخراجهم.
روى أحمد فى جماعة آخرين عن عبد اللّه بن الزبير قال : قدمت قتيلة بنت عبد العزّى على ابنتها أسماء بنت أبى بكر بهدايا - صناب (صباغ يتخذ من الخردل والزبيب) وأقط وسمن وهى مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخل بيتها ، حتى أرسلت إلى عائشة رضى اللّه عنها أن تسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن هذا فسألت فأنزل اللّه « لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ » الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها
وقال الحسن وأبو صالح : نزلت الآية فى خزاعة وبنى الحرث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب ، كانوا صالحوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ألا يقاتلوه ولا يعينوا عليه.
الإيضاح
(عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً ، وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لعل اللّه يجعل بينكم وبين أعدائكم من كفار مكة محبة بعد البغض ، ومودة بعد النفرة ، وألفة بعد الفرقة ، واللّه قدير على ما يشاء ، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة ، غفور لخطيئة من ألقى إليهم بالمودة إذا تابوا منها ، رحيم بهم أن يعذبهم بعد التوبة.(28/69)
ج 28 ، ص : 70
وقد تمّ ذلك بفتح مكة حين دخل المشركون فى دين اللّه أفواجا ، وثم بينهم التصافي والتصاهر ، وكان بينهم أتم ما يكون من وثيق الصلات كما قال تعالى :
«
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها » وقال : « هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .
ثم أباح لهم صلة الذين لم يقاتلوهم من الكفار فقال :
(لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي لا ينها كم اللّه عن الإحسان إلى الكفار الذين لم يقاتلوكم فى الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم ، ولم يعاونوا على إخراجكم ، وهم خزاعة وغيرهم ممن كانوا عاهدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على ترك القتال والإخراج من الديار ، فأمر اللّه رسوله بالبر والوفاء لهم إلى مدة أجلهم.
ثم زاد الأمر إيضاحا وبيانا فقال :
(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينها كم عن موالاة الذين ناصبوكم العداوة فقاتلوكم وأخرجوكم أو عاونوا على إخراجكم كمشركى مكة ، فإن بعضهم سعوا فى إخراج المؤمنين ، وبعضهم أعان المخرجين.
ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال :
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم تولوا غير الذين يجوز لهم أن يتولوهم ، ووضعوا ولايتهم فى غير موضعها ، وخالفوا أمر اللّه فى ذلك.(28/70)
ج 28 ، ص : 71
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
شرح المفردات
فامتحنوهن : أي فاختبروهن بما يغلب به على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنّهن فى الإيمان ، علمتموهن : أي ظننتموهن ، إلى الكفار : أي إلى أزواجهن الكفار أجورهن : أي مهورهن ، وعصم : واحدها عصمة ، وهى ما يعتصم به من عقد وسبب ، والكوافر : واحدتهن كافرة : فعاقبتم : أي فكانت العقبى لكم ، أي الغلبة والنصر لكم ، حتى غنمتم منهم.
المعنى الجملي
الكافر المعاند لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة :
(1) أن يستمر على عناده ، وإلى مثله أشار بقوله : « قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ » الآية.(28/71)
ج 28 ، ص : 72
(2) أن يرجى منه أن يترك العناد ، وإلى مثله أشار بقوله : « عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً » .
(3) أن يترك العناد ويستسلم ، وإلى ذلك أشار بقوله : « إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ » الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ) أي إذا جاءكم أيها المؤمنون النساء اللاتي نطقن بالشهادة ولم يظهر منهن ما يخالف ذلك - مهاجرات من بين الكفار فاختبروا حالهن ، وانظروا هل توافق قلوبهن ألسنتهن ، أو هنّ منافقات ،
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول للمتحنة : باللّه الذي لا إله إلا هو ، ما خرجت من بغض زوج ، باللّه ما خرجت رغبة بأرض عن أرض ، باللّه ما خرجت التماسا لدنيا ، باللّه ما خرجت إلا حبّا للّه ورسوله.
ثم ذكر جملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ليتبين أن الامتحان يفيد معرفة الظاهر فحسب فقال :
(اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ) منكم وهو يتولى السرائر ، وفى هذا بيان أنه لا سبيل إلى ما تطمئن إليه النفس من الإحاطة بحقيقة إيمانهن ، فإن ذلك مما استأثر اللّه بعلمه.
(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) أي فإن غلب على ظنكم إيمانهن بالحلف وغيره مما يورث اطمئنان قلوبكم على إسلامهن ، فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين.
ثم بيّن العلة فى النهى عن إرجاعهن بقوله :
(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) أي لا المؤمنات حلّ للكفار ، ولا الكفار يحلون للمؤمنات.
(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) أي وأعطوا أزواجهن مثل ما أنفقوا من المهور.(28/72)
ج 28 ، ص : 73
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عام الحديبية أمر عليّا أن يكتب بالصلح فكتب :
باسمك اللهم ، هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو. اصطلحوا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين ، تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده إليه ، ومن جاء قريشا من محمد لم يرده إليه ، وأن بيننا عيبة مكفوفة ، وأن لا إسلال ولا إغلال ، وأن من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فرد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أبا جندل بن سهيل ، ولم يأت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد من الرجال إلا ردّه فى مدة العهد ، وإن كان مسلما ، ثم جاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أولادهن أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، فقدم أخواها عمار والوليد فكلماه فى أمرها ليردها إلى قريش فنزلت الآية ، فلم يردها عليه الصلاة والسلام ، ثم أنكحها زيد بن حارثة.
وعن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحرث الأسلمية مؤمنة ، وكانت تحت صيفى بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلب ردّها فأنزل سبحانه الآية فلم يردها وأعطاه ما أنفق ، وتزوجها عمر رضى اللّه عنه.
ْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ)
أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم إذا ارتددن ولحقن بهم.
(وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وليسألكم الكفار مهور نسائكم المهاجرات إليكم ، والمراد أن عليكم أن تؤدوا لهم ذلك.
(ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي ذلكم الذي ذكر هو حكم اللّه فاتبعوه ، يحكم به بينكم فلا تخالفوه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فلا يشرع إلا ما تقتضيه الحكمة البالغة.
(وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن ذهبت أزواجكم مرتدات إلى دار الشرك ولم يعطوكم للهور اللاتي دفعت لهن ، ثم ظفرتم بالمشركين وانتصرتم عليهم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهن من الغنيمة مثل ما أنفقوا.
روى عن ابن عباس أنه يعطى الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمّس أي قبل أن تقسم أخماسا ، كما هى القاعدة فى تقسيم الغنائم كما تقدم فى سورة الأنفال.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي وخافوا اللّه الذي أنتم به مصدقون ، فأدّوا فرائضه ، واجتنبوا نواهيه.
[سورة الممتحنة (60) : آية 12]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)(28/73)
ج 28 ، ص : 74(28/74)
ج 28 ، ص : 75
شرح المفردات
يبايعنك : أي يلتزمن لك الطاعة ، ولا يقتلن أولادهن : أي ولا يئدن البنات والمراد بالبهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن : الولد الذي كانت ألصقته بزوجها كذبا ، والافتراء : الكذب ، فى معروف : أي فى أمر برّ وتقوى ، فبايعهن : أي فالتزم لهن ضمان الثواب إذا وفين بهذه الأشياء.
المعنى الجملي
روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضى اللّه عنها قالت : إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه بهذه الآية : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ - إلى قوله : غَفُورٌ رَحِيمٌ » . فمن أقرت بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « قد بايعتك » كلاما ، ولا واللّه ما مست يده يد امرأة فى المبايعة قط ، ما بايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك.
وروى أحمد عن أميمة بنت رقية التيمية قالت : « أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما فى القرآن : ألّا نشرك باللّه شيئا - حتى بلغ - ولا يعصينك فى معروف فقال : فيما استطعتن وأطقتن ، قلنا اللّه ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا يا رسول اللّه : ألا تصافحنا ؟ قال إنى لا أصافح النساء ، إنما قولى لامرأة واحدة قولى لمائة امرأة » .
الإيضاح
أي أيها النبي إذا جاءك النساء المؤمنات مقدمات لك الطاعة ، ملتزمات ألا يشركن باللّه شيئا من صنم أو حجر ، ولا يسرقن من مال الناس شيئا ، ولا يزنين ، ولا يئدن البنات كما كنّ يفعلن ذلك فى الجاهلية ، ولا يلصقن أولاد(28/75)
ج 28 ، ص : 76
الأجانب بأزواجهن كذبا وبهتانا ، ولا يعصينك فيما تأمرهن به أو تنهاهن عنه كالنّوح وتمزيق الثياب وجزّ الشعر وشق الجيوب وخمش الوجوه ، وألا تخلو امرأة بغير ذى رحم محرم - فبايعهن على ذلك ، والتزم لهن الوفاء بالثواب إن هن أطعنك فى كل ذلك ، واطلب لهن المغفرة من اللّه ، إنه هو الغفور الرحيم لهن إذا وفّين بما بايعن عليه.
و
عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت : « جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخذ عليها : ألّا يشركن باللّه شيئا ولا يسرقن ولا يزنين » الآية ، قال فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة : أقرّى أيتها المرأة ، فو اللّه ما بايعنا إلا على هذا ، قالت فنعم ، فبايعها بالآية » .
[سورة الممتحنة (60) : آية 13]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
شرح المفردات
غضب اللّه عليهم : أي طردهم من رحمته ، من الآخرة : أي من ثوابها ونعيمها ، من أصحاب القبور : أي من رجوع موتاهم إليهم ، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
المعنى الجملي
نهى سبحانه أول السورة عن موالاة المشركين ، وذكر الموانع التي تمنع من موالاتهم ، ثم أوعد على ذلك ، ولما كان الأمر فى ذلك جدّ خطير فى سياسة الدولة(28/76)
ج 28 ، ص : 77
الإسلامية ونشر الملة - كرر النهى عن موالاة الكافرين مرة أخرى ، يهودا كانوا أو نصارى ، ليكون عظة وذكرى لحاطب بن أبى بلتعة ومن نحا نحوه ممن يفضلون توثيق الصلات الدنيوية على مصلحة الدعوة الدينية ، ويجعلون شئون الدنيا مقدمة على شئون الدين.
روى أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ، ليصيبوا من ثمارهم فنزلت الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) أي لا تتخذوا اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب اللّه عليهم واستحقوا الطرد من رحمته - أولياء لكم وأصدقاء تسرون إليهم بما يضر نشر الدعوة ، ويحول دون تقدم شئون الملة.
ثم بيّن أوصافهم ومعتقداتهم فقال :
(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها ، لعنادهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المبشّر به فى كتابهم ، المؤيد بالآيات البينات ، والمعجزات الباهرات فهم قد أفسدوا آخرتهم بتكذيبهم له وعلموا أن لا سبيل لهم لنيل نعيمها ، كما يئس الكفار من بعث موتاهم ، لأنهم لا يعتقدون ببعث ولا نشور.
والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله.(28/77)
ج 28 ، ص : 78
خلاصة موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) النهى عن موالاة المشركين مع ذكر أسباب ذلك.
(2) ضرب المثل بقصص إبراهيم وقومه.
(3) امتحان النساء المؤمنات المهاجرات وعدم إرجاعهن إلى دار الكفر.
(4) مبايعة النساء المؤمنات فى دار الإسلام.
(5) تأكيد النهى عن موالاة المشركين ، حرصا على شئون الملة ، ونشر الدعوة.(28/78)
ج 28 ، ص : 79
سورة الصف
هى مدينة وعدد آيها أربع عشرة ، نزلت بعد التغابن.
ومناسبتها ما قبلها - أنها اشتملت على الحث على الجهاد والترغيب فيه ، وفى ذلك تأكيد للنهى الذي تصمنته السورة السابقة من اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين.
روى أحمد بسنده عن عبد اللّه بن سلام قال : تذاكرنا أيّكم يأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فيسأله : أي الأعمال أحب إلى اللّه ؟ فلم يقم منا أحد ، فأرسل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة :
(الصف) كلها.
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
شرح المفردات
(لِمَ) أي لأىّ شىء تقولون قد فعلنا كذا وكذا ، وأنتم لم تفعلوا ؟ والمراد بذلك التأنيب والتوبيخ على صدور هذا الكذب منهم ، كبر : أي عظم ، والمقت : أشد البغض وأعظمه ، ورجل مقيت وممقوت إذا كان يبغضه كل أحد ، والمرصوص :(28/79)
ج 28 ، ص : 80
المحكم ، قال المبرد : تقول رصصت البناء إذا لا أمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة.
المعنى الجملي
قال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن اللّه دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر اللّه نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان باللّه لا شك فيه ، وجهاد لأهل معصيته الذين جحدوا الإيمان به ، وإقرار برسالة نبيّه ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فأنزل اللّه الآية.
الإيضاح
(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي شهد له بالربوبية والوحدانية والقدرة وغيرهما من صفات الكمال جميع ما فى السموات والأرض ، وهو الغالب على أمره ، القاهر فوق عباده ، الحكيم فى تدبير خلقه وفق ما سنّه من السنن ، وأرشد إليه من ضروب الهداية.
وبعد أن وصف نفسه بصفات الكمال ذكر ما يلحق المخلوقين من صفات النقص فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ؟ ) أي لأى شىء ولأىّ غرض تقولون لوددنا أن نعمل كذا وكذا من أفعال الخير حتى إذا طلب منكم ذلك كرهتم ولم تفعلوا ؟
والتوبيخ والإنكار موجه إلى عدم فعلهم ما وعدوا به ، وإنما وجّه إلى القول لبيان أن معصيتهم مزدوجة ، وأنهم عملوا جرمين. فهم تركوا فعل الخير.
وقد وعدوا بفعله.(28/80)
ج 28 ، ص : 81
وبهذه الآية استدل السلف على وجوب الوفاء بالوعد ، وبما ثبت فى السنة من
قوله صلى اللّه عليه وسلم « آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان » .
ثم بين شدة قبح ذلك وأنه بلغ الغاية فى بغض اللّه له فقال :
(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي عظم جرما عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون.
ذاك أن الوفاء بالوعد دليل على كريم الشيم ، وجميل الخصال ، وبه تكون الثقة بين الجماعات ، فترتبط برباط المودة والمحبة حين يتعامل بعض أفرادها مع بعض ، ويكونون يدا واحدة فيما انتووا من الأعمال ، والعكس بالعكس ، فإذا فشا فى أمة خلف الوعد قلّت الثقة بين أفرادها ، وانحلت عرا الروابط بينهم ، وأصبحوا عقدا متناثرا لا ينتفع به ، ولا يخشى منهم عدوّ إذا اشتدت الأزمات ، وعظمت الخطوب ، لما يكون بينهم من التواكل ، وعدم ائتمان بعضهم بعضا.
وبعد أن ذمّ المخالفين فى أمر القتال وهم الذين وعدوا ولم يفعلوا ، مدح الذين قاتلوا فى سبيله وبالغوا فيه فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي إن اللّه يحب الذين يصفّون أنفسهم حين القتال ولا يكون بينهم فرج فيه كأنهم بنيان متلاحم الأجزاء ، كأنه قطعة واحدة قد صبّت صبا ، وعلى هذه الطريقة تسير الجيوش فى العصر الحاضر.
وسر هذا أنهم إذا كانوا كذلك زادت قوتهم المعنوية ، وتنافسوا فى الطعان والنزال ، والكرّ والفرّ ، إلى ما فى ذلك من إدخال الرّوع والفزع فى نفوس العدو ، إلى ما لحسن النظام من إمضاء العمل بالدقة والإحكام ، ومن ثم أمرنا بتسوية الصفوف فى الصلاة ، وألا يجلس المصلى فى صف خلفى إلا إذا اكتمل ما فى الصف(28/81)
ج 28 ، ص : 82
الأمامى ، وهكذا تراعى الأمم فى عصرنا الحاضر النظام فى كل أعمالها ، فى أكلها ونومها ورياضتها وتربية أولادها ، بحيث لا يطغى عمل على عمل ، فللجدّ وقت لا يعدوه ، وللرياضة وقت آخر ، وللنوم كذلك ، ولهذا لا يوجد تواكل ولا تراخ فى الأعمال ، ولا تحاذل فيها ، ومن ثم
جاء فى الأثر.
« أفضل الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ » .
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 6]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
شرح المفردات
تؤذوننى : أي تخالفون أمرى بترك القتال ، زاغوا : أي أصرّوا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به موسى عليه السلام ، أزاغ اللّه قلوبهم : أي صرفها عن قبول الحق ، الفاسقين : أي الخارجين عن الطاعة ومنهاج الصدق المصرّين على الغواية ، وأحمد : من أسماء نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قال حسان :
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه والطيّبون على المبارك أحمد
المعنى الجملي
بعد أن أنّب التاركين للقتال الهاربين منه بقوله : « لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ؟ » ذكر هنا أن حالهم يشبه حال بنى إسرائيل مع موسى حين ندبهم إلى قتال الجبارين(28/82)
ج 28 ، ص : 83
بقوله : « يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ » فلم يمتثلوا أمره وعصوه أشد العصيان ، و« قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ، فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ » وقالوا : « فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ » وأصروا على ذلك وآذوه أشدّ الإيذاء ، فوبخهم على ذلك بما جاء فى الآية الكريمة ، وقد صرفهم اللّه عن قبول الحق وألحق بهم الضيم والذل فى الدنيا ، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
ومثلهم أيضا فى عصيانهم مثل بنى إسرائيل حين قال لهم عيسى : إنى رسول اللّه :
وجاءهم بالبينات والمعجزات الدالة على صدقه وقال : إنى مبشر برسول سيأتى من بعدي يسمى أحمد ، فعصوه وكذبوه ولم يمتثلوا أمره.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ؟ ) أي واذكر لقومك خبر عبده ورسوله موسى بن عمران كليم اللّه حين قال لقومه : لم تؤذوننى وتخالفون أمرى فتتركوا القتال وأنتم تعلمون صدقى فيما جئتكم به من رسالة ربى ؟ وفى هذا تسلية لرسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم فيما أصابه من قومه الكافرين ومن غيرهم ، وأمر له بالصبر ، ولهذا
قال صلى اللّه عليه وسلم « رحمة اللّه على موسى لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر »
كما أن فيه نهيا للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى اللّه عليه وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما جاء فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً » .
ثم بين عاقبة عصيانهم ومخالفة أمره بقوله :
(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، وأصرّوا على ذلك ، صرف اللّه قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الحيرة والشك ، جزاء(28/83)
ج 28 ، ص : 84
وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من الذنوب والآثام ، ومخالفة أوامر رسوله ، وانهما كهم فى الطغيان والمعاصي ، فران على قلوبهم ، وطمس على أعينهم ، فلم تنظر إلى ما تشاهد من دليل ، ولا تبصر ما ترى من برهان كما قال : « وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ » .
ثم أكد إزاغته لقلوبهم وبيّن علتها بقوله :
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي واللّه لا يوفق لإصابة الحق من اختار الكفر ونبذ طاعة اللّه ورسوله ، بما يرين على قلبه من الضلالة ، فيحرمه النظر إلى الأدلة التي نصبت فى الكون ، وجعلت منارا للعقول ، وشفاء للصدر.
(وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي واذكر لقومك ما قال عيسى ابن مريم لقومه : يا قوم إنى مرسل إليكم من اللّه ، وإنى مصدق بالتوراة وبكتب اللّه وأنبيائه جميعا من تقدم منهم ومن تأخر.
(وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) أي وداعيا إلى التصديق بهذا الرسول الكريم الذي جاءت البشارة به فى التوراة. فقد جاء فى الفصل العشرين من السّفر الخامس منها : أقبل اللّه من سينا ، وتجلى من ساعير ، وظهر من جبال فاران ، معه الربوات الأطهار عن يمينه. « سينا مهبط الوحى على موسى ، وساعير مهبط الوحى على عيسى ، وفاران جبال مكة مهبط الوحى على محمد صلى اللّه عليه وسلم » .
وفيها فى الفصل الحادي عشر من هذا السفر : يا موسى إنى سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم مثلك ، أجعل كلامى فى فيه ، ويقول لهم ما آمره به ، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي ، أنا أنتقم منه ومن سبطه.(28/84)
ج 28 ، ص : 85
وكذلك جاء فى الإنجيل ما هو بشارة به - ففى إنجيل يوحنا فى الفصل الخامس عشر. قال يسوع المسيح : إن الفار قليط روح الحق الذي يرسله أبى ، يعلمكم كل شىء.
وفيه أيضا : قال المسيح من يحفظ كلمتى يحبنى ، وأبى يحبه ، وعنده يتخذ المنزلة ، كلمتكم بهذا لأنى لست عندكم بمقيم ، والفار قليط روح القدس الذي يرسله أبى هو يعلمكم كل شىء ، وهو يذكركم كل ما قلت لكم ، أستودعكم سلامى ، لا تقلق قلوبكم ولا تجزع ، فإنى منطلق وعائد إليكم ، لو كنتم تحبونى تفرحون بمضيّى إلى الأب.
وفيه أيضا : إن خيرا لكم أن أنطلق لأبى لأنى إن لم أذهب لم يأتكم الفار قليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم ، فإذا جاء فهو يوبخ العالم على خطيئته ، وإن لى كلاما كثيرا أريد قوله ، ولكنكم لا تستطيعون حمله ، ولكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه ليس ينطق من عنده ، بل يتكلم بما يسمع ، ويخبركم بكل ما يأتى ، ويعرفكم جميع ما للأب.
(والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد ، فسره بعضهم بالحمّاد وبعضهم بالحامد ، ففى مدلوله إشارة إلى اسمه عليه السلام أحمد) كما لا يخفى على من كشف اللّه تعالى غشاوة التعصب عن عينيه.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي فحين جاءهم أحمد المبشّر به بالأدلة الواضحة ، والمعجزات الباهرة ، فاجئوه بالتكذيب والإعراض عنه استكبارا وعنادا وقالوا : إن ما جئت به ما هو إلا ترّهات وأباطيل ، وسحر واضح لا شك فيه.
ونحو الآية قوله تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ » الآية.
[سورة الصف (61) : الآيات 7 الى 9]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)(28/85)
ج 28 ، ص : 86
شرح المفردات
الإسلام : الاستسلام والانقياد والخضوع للّه عز وجل ، والمراد من إبطال نور اللّه بأفواههم إرادتهم إبطال الإسلام ، بنحو قولهم هذا سحر مفترى ، واللّه متم نوره :
أي واللّه متم الحق ومبلغه غايته ، بالهدى : أي بالقرآن ، ودين الحق : أي بالملة السمحة ، ليظهره : أي ليعليه ، على الدين كله : أي على سائر الأديان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الجاحدين لنبوته صلى اللّه عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب لما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مفترى - أردف ذلك ببيان أنهم دعوا إلى الإسلام والخضوع لخالق الخلق ومبدع العالم ، وأقيمت لهم على ذلك الأدلة ونصب لهم المنار ، لكنهم ظلموا أنفسهم وجحدوا النور الواضح ، والبرهان الساطع.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ثم بين أن السبب فى ذلك هو سوء استعدادهم وتدسيتهم لأنفسهم ، وأن مثلهم فى صد الدعوة عن الدين مثل من يريد إطفاء نور الشمس بالنفخ بقية ، وأنى له بذاك ؟
فاللّه متم نوره ، ومكمّل دينه مهما جدّ المشركون فى إطفائه فالرسول صلى اللّه عليه وسلم ما جاء إلا بما فيه هداية البشر وسعادتهم فى معاشهم ومعادهم ، وبالدين الحق الذي لا تجد العقول مطعنا فيه ، ولا طريقا إلا الاعتراف بما جاء به من حكم وأحكام.(28/86)
ج 28 ، ص : 87
الإيضاح
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ ؟ ) أي ومن أشد ظلما وعدوانا ممن اختلق على اللّه الكذب وجعل له أندادا وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص ؟
وتلخيص المعنى - أىّ الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام والخضوع ، فلا يجيب الداعي بل يفترى على اللّه الكذب بتكذيب رسوله وقسمية آياته سحرا ؟
والمراد أنه أظلم من كل ظالم ، لأنه قد أهدر عقله ، وركب هواه ، وألقى الأدلة وراءه ظهريا.
ثم بين سبب ظلمهم وفساد عقائدهم فقال :
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي واللّه لا يرشد الظالمين لأنفسهم إلى ما فيه صلاحهم ورشادهم ، لأنهم دسّوها باجتراح السيئات ، وارتكاب الموبقات ، فختم على قلوبهم ، وجعل على أبصارهم غشاوة ، فلا تفهم الأدلة المنصوبة فى الكون ، ولا تهتدى بهدى العقل ، بل تسير فى عماية وتمشى فى ظلام دامس لا تلوى على شىء.
ثم ذكر جدّهم واجتهادهم فى إبطال الدين ، واستهزأ بما اتخذوه من الوسائل فقال :
(يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي إن مثلهم فى مقاومتهم لدعوة الدين ، وجدّهم فى إخماد نوره - مثل من ينفخ فى الشمس بفيه ليطفىء نورها ، ويحجب ضياءها ، وأنى له ذلك ؟ فما هو إلا كمن يضرب فى حديد بارد ، أو كمن يريد أن يضرم النار فى الرماد ، أو كمن يريد أن يصطاد العنقاء.
أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا
(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي واللّه معلن الحق ومظهر دينه ، وناصر محمدا عليه الصلاة والسلام على من عاداه ولو كره ذلك الكافرون به.(28/87)
ج 28 ، ص : 88
روى عن ابن عباس « أن الوحى أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف :
يا معشر يهود أبشروا ، أطفأ اللّه نور محمد فيما كان ينزل عليه ، وما كان ليتم نوره ، فخزن الرسول صلى اللّه عليه وسلم فنزلت. « يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ » الآية.
ثم بين العلة فى إخماد دعوتهم ، وأنه لا سبيل لقبولها لدى العقول فقال :
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) أي هو اللّه الذي أرسل محمدا صلى اللّه عليه وسلم بالقرآن والملة الحنيفة ، ليعليه على جميع الأديان المخالفة له ، وقد أنجز اللّه وعده ، فلم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام.
وإنما قال أوّلا : ولو كره الكافرون ، وقال ثانيا ولو كره المشركون ، لأنه ذكر أولا النور وإطفاءه فاللائق به الكفر ، لأنه ستر وتغطية ، وذكر ثانيا الحاسدين للرسول وأكثرهم من قريش ، فناسب ذكر المشركين.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)(28/88)
ج 28 ، ص : 89
شرح المفردات
التجارة هنا : ما يقدمه المرء من عمل صالح ، لينال به الثواب كما قال سبحانه :
« إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ » طيبة : أي طاهرة مستلذة ، جنات عدن : أي بساتين إقامة وخلود ، قريب : أي عاجل وهو فتح مكة ، وحوارىّ الرجل : صفيه وخليله ، وأنصار اللّه : أي الناصرون لدينه ، فأيدنا :
أي قوّينا وساعدنا ، على عدوهم : أي الكفار ، ظاهرين : أي غالبين.
المعنى الجملي
بعد أن حث فى الآية السابقة على الجهاد فى سبيله ، ونهاهم أن يكونوا مثل قوم موسى فى التواكل والتخاذل ، إذ قالوا له : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ونهاهم أيضا عن أن يكونوا مثل قوم عيسى فى العصيان بعد أن أتى لهم بالأدلة الباهرة على صدق نبوته - ذكر هنا أن الإيمان باللّه والجهاد بالمال والنفس فى سبيله تجارة رابحة ، فإن المجاهد ينال الفوز العاجل ، والثواب الآجل ، فيظفر بالنصرة فى الدنيا والغلبة على العدو وأخذ الغنائم وكرائم الأموال ، ويحظى فى الآخرة بغفران الذنب ، ورضوان الرب ، والكرامة فى جنات الخلود والإقامة ، ولا فوز أعظم من هذا.
ثم ضرب لهم مثلا بقوم عيسى ، فقد انقسموا فرقتين : فرقة آمنت به وهم حواريه ، وفرقة كفرت به وهم البقية الباقية منهم ، فأمد اللّه المؤمنين بروح من عنده ، فتم لهم الفوز والنصر على الكافرين ، وغلبوهم بإذن اللّه كما هى سنة اللّه فى البشر كما قال :
« كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » وقال : « إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » .(28/89)
ج 28 ، ص : 90
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا أيها الذين آمنوا باللّه وصدقوا رسوله : ألا أدلكم على صفقة رابحة ، وتجارة نافعة ، تنالون بها الربح العظيم ، والنجح الخالد الباقي.
وهذا أسلوب يفيد التشويق والاهتمام بما يأتى بعده ، كما تقول : هل أدلك على عالم عظيم ذى خلق حسن ، وعلم فياض ؟ هو فلان ، فيكون ذلك أروع فى الخطاب وأجلب لقبوله.
ثم بين هذه التجارة بقوله :
(تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) أي اثبتوا على إيمانكم ، وأخلصوا للّه العمل ، وجاهدوا بالأنفس والأموال فى سبيل اللّه بنشر دينه وإعلاء كلمته.
والجهاد ضروب شتى : جهاد للعدو فى ميدان القتال لنصرة الدين ، وجهاد للنفس بقهرها ومنعها عن شهواتها التي ترديها ، وجهاد بين النفس والخلق بترك الطمع فى أموالهم والشفقة عليهم والرحمة بهم ، وجهاد فيما بين المرء والدنيا بألا يتكالب على جمع حطامها ، وألا ينفق المال إلا فيما تجيزه الشرائع ، وتقره العقول السليمة.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي هذا الإيمان والجهاد خير لكم من كل شىء فى الدنيا من نفس ومال وولد ، إن كنتم من أهل الإدراك والعلم بوجوه المنافع وفهم المقاصد ، فإن الأمور إنما تتفاضل بغاياتها ونتائجها.
ولهذه التجارة فوائد عاجلة وأخرى آجلة ، وقد فصل كلا الأمرين وقدم الثانية فقال :
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً(28/90)
ج 28 ، ص : 91
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)
أي إن فعلتم ذلك فآمنتم باللّه وصدقتم رسوله ، وجاهدتم فى سبيله - ستر لكم ذنوبكم ومحاها ، وأدخلكم فراديس جناته وأسكنكم مساكن تطيب لدى النفوس ، وتقرّ بها العيون فى دار الخلد الأبدى ، وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من الفوز الذي لا فوز بعده.
ثم ذكر الفوز العاجل فى الدنيا فقال :
(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي ولكم على هذا فوز فى الدنيا بنصركم على عدوكم ، وفتحكم للبلاد ، وتمكينكم منها حتى تدين لكم مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أنجز اللّه وعده ، فرفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من العالم فى زمن وجيز لم يعهد التاريخ نظيره ، وامتلكوا بلاد القياصرة والأباطرة ، وساسوا العالم سياسة شهد لهم بفضلها العدو قبل الصديق.
ثم أمرهم بأن يكونوا أنصار اللّه فى كل حين ، فلا يتخاذلوا ولا يتواكلوا ، فيكتب لهم النصر على أعدائهم كما فعل حواريو عيسى فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ ؟ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ) أي يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار اللّه ، فارفعوا شأن دينه ، وأعلوا كلمته ، كما فعل الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم : من أنصارى إلى اللّه ؟ قالوا له : نحن أنصار اللّه وأنصار دينه.
وقصارى ذلك - كونوا أنصار اللّه فى جميع أعمالكم وأقوالكم ، وأنفسكم وأموالكم ، كما استجاب الحواريون لعيسى.
(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) لما بلّغ عيسى عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه ، ووازره من الحواريين من وازره ، اهتدت طائفة من بنى إسرائيل بما جاءهم به ، وضلت طائفة أخرى إما جحودا لرسالته ورميه هو وأمه بالعظائم كما فعل اليهود ، وإما بالغلو وإعطائه فوق ما أعطاه اللّه من مرتبة النبوة(28/91)
ج 28 ، ص : 92
فمن قائل إنه ابن اللّه ، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، ومن قائل إنه اللّه.
(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي فنصرنا للمؤمنين على من عداهم ، وأمددناهم بروح من عندنا على مقتضى سنتنا « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » فغلبوا أعداءهم وظهروا عليهم كما قال « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا » فله الحمد على ما أعطى ، والمنة على ما أنعم ، وصل ربنا على محمد وآله.
ما جاء فى أثناء السورة من موضوعات
(1) اللوم والتعنيف على مخالفة القول للعمل.
(2) البشارة بمحمد على لسان عيسى.
(3) محمد صلى اللّه عليه وسلم أرسل بالهدى والدين الحق.
(4) التجارة الرابحة عند اللّه هى الإيمان والجهاد فى سبيله.
(5) الأمر بنصرة الدين كما نصر الحواريون دينهم. (28/92)
ج 28 ، ص : 93
سورة الجمعة
مدنية وعدد آيها إحدى عشرة ، نزلت بعد الصف.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه ذكر فى السورة قبلها حال موسى مع قومه وأذاه لهم ، ناعيا عليهم ذلك ، وذكر فى هذه حال الرسول صلى اللّه عليه وسلم وفضل أمته ، تشريفا لهم ، ليعلم الفرق بين الاثنين.
(2) إنه حكى فى السورة قبلها قول عيسى : « وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ » وذكر هنا : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ) إشارة إلى أنه هو الذي بشر به عيسى.
(3) لما ختم السورة قبلها بالأمر بالجهاد وسماه تجارة ، ختم هذه السورة بالأمر بالجمعة ، وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)(28/93)
ج 28 ، ص : 94
شرح المفردات
القدوس : المنزه عن النقائص المتصف بصفات الكمال ، الأميين : هم العرب ، واحدهم أمي نسبة إلى الأم التي ولدته ، لأنه على الحال التي ولد عليها لم يتعلم الكتابة والحساب ، فهو على الجبلة الأولى ، يزكيهم : أي يطهرهم بتلاوة آياته ، وآخرين واحدهم آخر بمعنى غير ، لما يلحقوا بهم : أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وهم من جاء بعد الصحابة إلى يوم الدين.
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي كل ما فى السموات والأرض ، إذا نظرت إليه دلك على وحدانية خالقه ، وعظيم قدرته ، كما قال سبحانه : « وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » .
(الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو المالك لما فى السموات والأرض المتصرف فيهما بقدرته وحكمته ، المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.
(الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هو الغالب عباده المسخّر لهم بقدرته ، الحكيم فى تدبير شئونهم فيما هو أعلم به من مصالحهم ، ويوصلهم إلى سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
ثم وصف الرسول صلى اللّه عليه وسلم بصفات المدح والكمال فقال :
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) أي هو الذي أرسل رسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب » .
وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم ، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب ،(28/94)
ج 28 ، ص : 95
ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال ، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها ، وإلى ذلك أشار البوصيرى بقوله :
كفاك بالعلم فى الأمىّ معجزة فى الجاهلية والتأديب فى اليتم
وتخصيص الأميين بالذكر لا يدل على أنه لم يرسل إلى غيرهم فقد جاء العموم فى آيات أخرى كقوله : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » وقوله : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » وقوله : « لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ » .
ومن حكمته تعالى أنه أرسله عربيا مثلهم ، ليفهموا ما أرسل به ويعرفوا صفاته وأخلاقه ، ليسهل اقتناعهم بدعوته.
وخلاصة ما سلف : أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول ، وأجملها فى أمور :
(1) أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين ، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ ، لئلا يكون هناك مطعن فى نبوته ، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين كما أشار إلى ذلك بقوله : « وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ » .
(2) أنه يطهرهم من أدناس الشرك وأخلاق الجاهلية ، ويجعلهم منيبين إلى اللّه مخبتين إليه فى أعمالهم وأقوالهم ، لا يخضعون لسلطة مخلوق غيره ، من ملك أو بشر أو حجر.
(3) أنه يعلمهم الكتاب والحكمة : أي يعلمهم الشرائع والأحكام وحكمتها وأسرارها ، فلا يتلقون عنه شيئا إلا وهم يعلمون الغاية منه ، والغرض الذي يفعله لأجله ، فيقبلون إليه بشوق واطمئنان ، وقد تقدم مثل هذا فى سورة آل عمران.
(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ذاك أن العرب قديما كانوا على دين إبراهيم ، فبدلوا وغيروا واستبدلوا بالتوحيد شركا ، وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها اللّه ، فكان من الحكمة أن يبعث سبحانه محمدا صلى اللّه عليه وسلم(28/95)
ج 28 ، ص : 96
بشرع عظيم فيه هداية للبشر ، وبيان ما هم فى حاجة إليه من أمور معاشهم ومعادهم ، ودعوتهم إلى ما فيه رضوان ربهم ، والتمتع بنعيم جناته ، ونهيهم عما يوجب سخطه ويقربهم إلى النار.
(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وبعثه فى غيرهم من المؤمنين إلى يوم القيامة وهم من جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين من جميع الأمم كالفرس والروم وغيرهم ،
روى البخاري عن أبى هريرة قال : « كنا جلوسا عند النّبى صلى اللّه عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فتلاها ، فلما بلغ « وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ » قال رجل يا رسول اللّه من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا ؟ فلم يكلمه حتى سأله ثلاثا ، قال وسلمان الفارسي فينا ، فوضع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يده على سلمان وقال :
« والذي نفسى بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء » .
وقد تكلم فى هذه الرواية جمع من المحدّثين.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو ذو العزة والسلطان ، القادر أن يجعل هذه الأمة المستضعفة صاحبة النفوذ والقوة التي تنشر فى غيرها من الأمم روح العدل والنظام بإرسال رسول من أبنائها ينقذ الناس من الضلالة إلى الهدى ، ومن الظلمات إلى النور ، وهو الحكيم فيما يفعل من تدبير أمور الخلق لما فيه خيرهم وفلاحهم.
ثم ذكر سبحانه أن إرسال هذا الرسول فضل منه ورحمة فقال :
(ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي إرسال هذا الرسول إلى البشر مزكيا مطهرا لهم ، هاديا معلما فضل من اللّه وإحسان منه إلى عباده ، يعطيه من يشاء ممن يصطفيه من خلقه بحسب ما يعلمه من استعداده وصفاء نفسه ، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وهو سبحانه ذو الفضل العظيم عليهم فى جميع أمورهم فى دنياهم وآخرتهم ، فى معاشهم ومعادهم ، فلا يجعلهم فى حيرة من أمرهم تنتابهم الشكوك والأوهام ، ولا يجدون للخلاص منها سبيلا ، ولا يجعل قويهم يبطش بضعيفهم ، ويغتصب أموالهم(28/96)
ج 28 ، ص : 97
ويسعى فى الأرض بالفساد ، ويهلك الحرث والنسل ، فيكون العالم ككرة تتقاذفها أكفّ اللاعبين ، فهو أرحم بعباده من أن يتركهم سدى هملا لا صلاح لهم فى دين ولا دنيا.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
شرح المفردات
حمّلوا التوراة : أي علّموها وكلّفوا العمل بها ، لم يحملوها : أي لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فى تضاعيفها ، والأسفار : واحدها سفر وهو الكتاب الكبير ، هادوا :
أي تهوّدوا وصاروا يهودا ، أولياء للّه : أي أحباء له ، بما قدمت أيديهم : أي بسبب ما اجترحوه من الكفر والمعاصي.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه التوحيد والنبوة ، وذكر أن الرسول بعث للأميين قال اليهود : إن الرسول لم يبعث لنا ، فرد اللّه عليهم مقالهم بأنهم لو فهموا التوراة حق(28/97)
ج 28 ، ص : 98
الفهم ، وعملوا بما فيها ، لرأوا فيها نعت الرسول والبشارة به ، وأنه يجب عليهم اتباعه ، وما مثلهم فى حملهم للتوراة وتركهم العمل بها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يجديه حملها نفعا.
ثم رد عليهم مقالا آخر إذ قالوا نحن أحباء اللّه وأولياؤه وإنه لن يدخلنا النار إلا أياما معدودات - بأنه لو كان ما تقولونه حقا لتمنيتم الموت حتى تخلصوا من هذه الدار دار الأكدار ، وتذهبوا إلى دار النعيم ، وإنكم لن تفعلوا ذلك فأنتم كاذبون فيما تدّعون ، ولم تفرون منه وهو ملاقيكم ولا محالة ؟ وهناك ترجعون إلى ربكم فينبئكم بما قدمتم من عمل ويجازيكم عليه ، إن خيرا وإن شرا.
الإيضاح
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) يقول سبحانه ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، ثم لم يعملوا بها : ما مثل هؤلاء إلا كمثل الحمار يحمل الكتب لا يدرى ما فيها ، ولا كنه ما يحمل ، بل هم أسوأ حالا من الحمر ، لأن الحمر لا فهم لها ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها فيما ينفعهم ، إذ حرّفوا التوراة فأوّلوها وبدّلوها ، فهم كما قال فى الآية الأخرى : « أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ » .
وصفوة القول : إن هذا النبي الذي تقولون إنه أرسل إلى العرب خاصة ، هو ذلك النبي المنعوت فى التوراة والمبشّر به فيها فكيف تنكرون نبوته ، وكتابكم يحض على الإيمان به ؟ فما مثلكم فى حملكم للتوراة مع عدم العمل بما فيها إلا مثل الحمار يحمل الكتب ولا يدرى ما فيها ، فأنتم إذ لم تعملوا بما فيها وهى حجة عليكم إلا مثل الحمار ليس له إلا ثقل الحمل من غير انتفاع له بما حمل.
ثم بين قبح هذا المثل وشديد وقعه على من يعقله ويتدبره فقال :(28/98)
ج 28 ، ص : 99
(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ) أي ما أقبح هذا مثلا لهم ، لتكذيبهم بآيات اللّه التي جاءت على لسان رسوله لو كانوا يتدبرون ويتفكرون ، إذ لم يكن لهم ما يشبههم من ذوى العقول والحجا من ملك أو إنس ، بل لا شبيه لهم إلا ما هو أحقر الحيوان وأذلّه وهو الحمار.
ولا يقيم على ضيم يراد به إلا الأذلّان عير الحىّ والوتد
هذا على الخسف مربوط برمّته وذا يشجّ فلا يرثى له أحد
(وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم الذين دسّوها حتى أحاطت بهم الخطيئة وأعمت أبصارهم ورانت على قلوبهم ، فلم تر نور الحق ، ولم تشعر بحجة ولا برهان ، بل هى فى ظلام دامس لا تهتدى لطريق ، ولا تصل إلى غاية.
ولما كان من شأن من يعمل بالكتاب الذي أنزل إليه أن يكون محبّا للحياة تاركا لكل ما ينفعه فى الآخرة قال آمرا رسوله أن يقول لهم :
(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أيها اليهود إن كنتم تزعمون أنكم على هدى من ربكم ، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين ، إن كنتم صادقين فيما تزعمون ، وقد تقدم الكلام فى مثل هذه المباهلة (الملاعنة) لليهود فى سورة البقرة فى قوله : « قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » كما تقدمت مباهلة النصارى فى آل عمران فى قوله : « فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » ومباهلة المشركين فى قوله : « قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا » .
ثم أخبر بأنهم لن يتمنوه أبدا لما يعلمون من سوء أفعالهم وقبيح أعمالهم فقال :(28/99)
ج 28 ، ص : 100
(وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي ولا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء أعمالهم لكفرهم بآيات اللّه وتدسبتهم أنفسهم بالمعاصي والشرور والآثام.
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لهم : « والذي نفسى بيده لا يقولها أحد منكم إلا غصّ بريقه »
: فلم يتمنّ أحد لعلمهم بصدقه وأيقنوا أنهم لو تمنوه لماتوا لساعتهم ، وحق عليهم الوعيد ، وحل بهم العذاب الشديد.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ولا يخفى ما فى هذا من شديد التهديد والوعيد.
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) أي وماذا يجديكم الفرار من الموت ؟ ولما ذا تمتنعون من المباهلة خوفا على الحياة ؟ فإنه سيلاقيكم البتة من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، فإن كنتم على الحق فلا تحفلوا بالحياة ، فإن أيام الحياة مهما طال أمدها لا بد من نفادها.
(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم ترجعون بعد مماتكم إلى عالم غيب السموات والأرض ، فيخبركم بما كنتم تعملون فى الدنيا من حسن وسيىء ، ثم يجازيكم على كلّ بما تستحقون.
وغير خاف ما فى هذا من شديد التهديد وعظيم الوعيد لو كانوا يعقلون.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(28/100)
ج 28 ، ص : 101
شرح المفردات
نودى للصلاة : أي النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، أما النداء الأول على الزوراء (أعلى دار بالمدينة حينئذ بقرب المسجد) فقد زاده عثمان لكثرة الناس ، فاسعوا : أي فامشوا ، وذكر اللّه : هو الصلاة ، وذروا البيع : أي اتركوه ، فانتشروا : أي فتفرقوا ، من فضل اللّه :
أي من رزقه ، والمراد باللهو : الطبول والمزامير ونحوها ، انفضّوا : أي انصرفوا ، قائما :
أي على المنبر وأنت تخطب.
المعنى الجملي
بعد أن نعى على اليهود فرارهم من الموت حبّا فى الدنيا والتمتع بطيباتها - ذكر هنا أن المؤمن لا يمنع من اجتناء ثمار الدنيا وخيراتها مع السعى لما ينفعه فى الآخرة كالصلاة يوم الجمعة فى المسجد مع الجماعة ، فعليه أن يعمل للدنيا والآخرة معا ، فما الدنيا إلا مزرعة الآخرة كما
ورد فى الأثر « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا » .
ثم نعى على المسلمين فى عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم تشاغلهم عن سماع عظاته وهو يخطب على المنبر بأمور الدنيا من تجارة وضرب دفّ وغناء بالمزامير ونحو ذلك ، وأبان لهم أنّ ما عند اللّه من الثواب والنعيم المقيم خير لهم من خيرات الدنيا والتمتع بلذاتها الفانية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي إذا أذّن المؤذن بين يدى الإمام وهو على المنبر فى يوم الجمعة للصلاة(28/101)
ج 28 ، ص : 102
فاتركوا البيع واسعوا لتسمعوا موعظة الإمام فى خطبته ، وعليكم أن تمشوا الهوينى بسكينة ووقار حتى تصلوا إلى المسجد.
روى الشيخان عن أبى هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون (تسرعون) وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة والوقار ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا » .
وعن أبى قتادة قال : « بينما نحن نصلى مع النبي صلى اللّه عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : فلا تفعلوا ، إذا أتيتم فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتموا » رواه البخاري ومسلم.
(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ذلكم السعى وترك البيع خير لكم من التشاغل بالبيع وابتغاء النفع الدنيوي فإن منافع الآخرة خير لكم وأبقى ، فهى المنافع الباقية ، أما منافع الدنيا فهى زائلة ، وما عند اللّه خير لكم إن كنتم من ذوى العلم الصحيح بما يضر وما ينفع.
ثم ذكر ما يفعلون بعد الصلاة فقال :
(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي فإذا أديتم الصلاة فتفرقوا لأداء مصالحكم الدنيوية بعد أن أديتم ما ينفعكم فى آخرتكم ، واطلبوا الثواب من ربكم ، واذكروا اللّه وراقبوه فى جميع شئونكم ، فهو العليم بالسر والنجوى ، لا تخفى عليه خافية من أموركم ، لعلكم تفوزون بالفلاح فى دنياكم وآخرتكم.
وفى هذا إيماء إلى شيئين :
(1) مراقبة اللّه فى أعمال الدنيا حتى لا يطغى عليهم حبها بجمع حطامها بأيّ الوسائل من حلال وحرام.(28/102)
ج 28 ، ص : 103
(2) إن فى مراقبته تعالى الفوز والنجاح فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلأن من راقبه لا يغشّ فى كيل ولا وزن ولا يغيّر سلعة بأخرى ، ولا يكذب فى مساومة ، ولا يحلف كذبا ، ولا يخلف موعدا ، ومتى كان كذلك شهر بين الناس بحسن المعاملة وأحبوه وصار له من حسن الأحدوثة ما يضاعف له اللّه به الرزق ، وأما فى الآخرة فيفوز برضوان ربه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » وبجنات تجرى من تحتها الأنهار ، ونعم أجر العاملين.
وعن عراك بن مالك رضى اللّه عنه أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال : « اللهم أجبت دعوتك ، وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتنى ، فارزقنى من فضلك وأنت خير الرازقين » .
ثم عاتب سبحانه عباده المؤمنين على ما كان منهم من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال :
(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي وإذا رأى المؤمنون عير تجارة أو لهوا أسرعوا وتركوك قائما وأنت تخطب الناس.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي فى جماعة عن جابر بن عبد اللّه قال : « بينما النبي صلى اللّه عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير (إبل محملة طعاما من دقيق وبرّ وزيت) فابتدرها أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل اللّه تعالى : « وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً » إلى آخر السورة.
والذي قدم بهذه التجارة دحية الكلبي من الشام ، وكان إذا قدم لم تبق عاتق (الشابة حين أدركت) بالمدينة ، إلا أتته ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ، فيخرجوا ليبتاعوا منه ، وكان ذلك طريق الإعلان عن التجارة حينئذ.
ثم رغبهم فى سماع العظات فقال :
(قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي قل لهم مبينا خطأ ما عملوا :(28/103)
ج 28 ، ص : 104
ما عند اللّه مما ينفعكم فى الآخرة خير لكم مما يفيدكم فى الدنيا من التمتع بخيراتها ، وكسب لذاتها ، فتلك باقية ، وهذه فانية.
(وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فإليه سبحانه فاسعوا ، ومنه فاطلبوا الرزق ، ولن يفوتكم ذلك بسماع عظاته ، فاللّه كفيل برزقكم ، ولن ينقص بترككم البيع والشراء حين الصلاة ، وحين سماع العظات والنصائح.
وللّه الحمد فى الآخرة والأولى ، وله الحكم وإليه ترجعون.
خلاصة موضوعات السورة
(1) وصفه تعالى نفسه بصفات الكمال.
(2) صفات النبي الأمىّ الذي بعثه اللّه رحمة للعالمين.
(3) النعي على اليهود لتركهم العمل بأحكام التوراة.
(4) طلب مباهلة اليهود.
(5) الحث على السعى للصلاة يوم الجمعة حين النداء والإمام على المنبر.
(6) الأمر بالسعي على الأرزاق بعد انقضاء الصلاة.
(7) عتاب المؤمنين على تركهم النبىّ صلى اللّه عليه وسلم وهو يخطب قائما وتفرقهم لرؤية التجارة أو اللهو.(28/104)
ج 28 ، ص : 105
سورة المنافقين
هى مدنية وآياتها إحدى عشرة نزلت بعد الحج.
ووجه اتصالها بما قبلها - أنه ذكر فى الأولى حال المؤمنين الذين بعث إليهم النبي الأميّ يتلو عليهم كتابه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وأمرهم بالصلاة وترك البيع حين أدائها ، وفى هذه ذكر أضدادهم وهم المنافقون الذين يشهدون كذبا بأن محمدا رسول اللّه ويحلفون الأيمان المحرجة على ذلك ، ومن ثم كان النبي يقرأ فى صلاة الجمعة فى الركعة الأولى بسورة الجمعة ، فيحرض بها المؤمنين على العبادة ، وفى الركعة الثانية بسورة المنافقين ، فيقرّع بها المنافقين.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
شرح المفردات
المنافق : من يظهر الإيمان ويبطن الكفر ، جنّة : أي وقاية وسترا لدمائهم وأموالهم ، آمنوا : أي بألسنتهم ، كفروا : أي بقلوبهم ، طبع : أي ختم عليها كما يختم(28/105)
ج 28 ، ص : 106
بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شىء ، لا يفقهون : أي لا يعلمون ، تعجبك أجسامهم : أي لصباحتها وتناسب أعضائها ، تسمع لقولهم : أي لفصاحتهم وحسن حديثهم ، خشب : واحدها خشباء وهى الخشبة التي نخرجوفها ، والصيحة : الصوت ، قاتلهم اللّه : أي لعنهم وطردهم من رحمته ، يؤفكون : أي يصرفون عما هم عليه.
المعنى الجملي
وصف اللّه تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح :
(1) أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.
(2) أنهم لا يبالون بالحلف باللّه كذبا ، سترا لنفاقهم ، وحقنا لدمائهم.
(3) أنهم جبناء ، فهم على ضخامة أجسامهم ، وفصاحة ألسنتهم ، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.
الإيضاح
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد اللّه بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها ، إنك رسول من عند اللّه حقا ، أوحى إليك وحيه ، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها ، تحقيقا لرسالته فقال :
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي واللّه يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا ، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال :
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به ، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.(28/106)
ج 28 ، ص : 107
ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال :
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم ، فيحلفون باللّه إنهم لمنكم ، ويقولون نشهد إنك لرسول اللّه ، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.
قال قتادة : كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين ، عصمة لدمائهم وأموالهم.
وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم ، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة ، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.
ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال :
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام ، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.
وقصارى ذلك - أنهم أجرموا جرمين :
(1) أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة ، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
(2) أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين قبح مغبّة ما يعملون ، ووبال ما يصنعون فقال :
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان ، وأظهروا خلاف ما أضمروا ، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة.
أما فى الدنيا فسيفضحهم اللّه على رءوس الأشهاد ، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله : « ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، إنّهم كفروا باللّه ورسوله » .(28/107)
ج 28 ، ص : 108
وأما فى الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد.
ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم ، وقبح طويتهم ، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون ، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم ، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا ، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق ، ولا يصل إليها خير ، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول ، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان ، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.
ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال :
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم ، وجمال صورهم.
كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال :
(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم ، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.
ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال :
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح ، لهم جمال فى المنظر ، وقبح فى المخبر ، فسدت بواطنهم ، وحسنت ظواهرهم ، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس ، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل ، ولا يستفاد منها خير ، وللّه در أبى نواس :
لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسراب منتشرا وليس فيه لطالب مطر
فى شجر السّرو منهم مثل له رواه وما له ثمر
ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال :(28/108)
ج 28 ، ص : 109
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد فى العسكر ، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة - ظنوا أن العدو قد فجأهم ، وأن أمرهم قد افتضح ، وأنهم هالكون لا محالة ، ولقد قالوا : يكاد المريب يقول خذونى ، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد : ضعوه فى يدى ، لما ألقى من الرعب فى قلوبهم ، فهم يخافون أن تهتك أستارهم ، وتكشف أسرارهم ، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
ونحو الآية قوله تعالى : « أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ » وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله :
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم إذا رأى غير شىء ظنه رجلا
(هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية فى العداوة.
(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر ، ولا تلتفت إلى ظاهرهم ، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا ، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ ، والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم ، وعجّب من حالهم فقال :
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم اللّه وطردهم من رحمته ، فما أفظع حالهم ، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.
وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم ، فكأنه قال : قولوا قاتلهم اللّه.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل ، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم ، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.
وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق ، فما أعظمها محنة ، وأعجب بها نقمة ، جازاهم اللّه بها على سوء أعمالهم ، وقبح فعالهم(28/109)
ج 28 ، ص : 110
[سورة المنافقون (63) : الآيات 5 الى 8]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
شرح المفردات
لوّوا رءوسهم : أي حوّلوها استهزاء ، يصدون : أي يعرضون عن القائل ، الفاسقين : أي الخارجين من طاعة اللّه وطاعة الرسول ، المنهمكين فى أنواع الشرور والآثام ، حتى ينفضّوا : أي حتى يتفرقوا ، خزائن السموات والأرض : أي خزائن الأرزاق فيهما ، لا يفقهون : أي لا يعلمون علما صادرا عن إدراك لجلال اللّه وقدرته ، والأعزّ : أي المنافقون ، والأذل فى زعمهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وصحبه ، والعزة :
الغلبة والنصر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر كذب المنافقين فى قولهم للرسول صلى اللّه عليه وسلم : نشهد إنك لرسول اللّه ، وبيّن شنيع أفعالهم ، بترويجها بالأيمان الفاجرة ، ثم أعقبه بذكر جبنهم وصلفهم ، وأنهم أجسام البغال ، وأحلام العصافير ، ثم أردفه ببيان أنهم أعداء اللّه حقا أعقب هذا بذكر ما صدر منهم مما يثبت كذبهم ونفاقهم ، بما لا يدع شبهة لمن يلتمس لهم المعاذير ، ويبرئهم من النفاق فمن ذلك :(28/110)
ج 28 ، ص : 111
(1) أنهم إذا طلب منهم أن يتقدموا إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ليستغفر لهم على ما فرط منهم من الذنوب ، أمالوا رءوسهم وأعرضوا استكبارا وأنفة أن يفعلوا.
(2) أنهم قالوا : لئن رجعنا من وقعة بنى المصطلق (قبيلة من اليهود) إلى المدينة لنخرجن الأذلاء محمدا وصحبه منها.
ثم نعى عليهم ما قالوا بأنهم قوم لا حلوم لهم ، ولا هم يفقهون جليل قدرة اللّه وبديع صنعه.
روى أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين غزا بنى المصطلق علا المريسيع (ماء لهم) وهزمهم وقتل وأسر - ازدحم على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري ، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب ، وسنان الجهني ، وكان حليف عبد اللّه بن أبىّ ، واقتتلا فصرخ جهجاه وقال : يا للمهاجرين ، وصرخ سنان وقال : يا للأنصار ، فأعان جهجاها رجل من المهاجرين ولطم سنانا فقال عبد اللّه بن أبىّ للمهاجرين : ما صحبنا محمدا إلا لنلطم ، واللّه ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل ، ثم قال لقومه : لو أمسكتم عن هذا وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال عمر : دعنى يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق قال : إذا ترعد أنف كثيرة بيثرب (يريد صلى اللّه عليه وسلم أنه يهيج الشر) قال :
فإن كرهت أن يقتله مهاجر فأمر به أنصاريا ، قال : فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ؟ . ثم قال لعبد اللّه : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني ، قال :
واللّه الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك ، وإن زيدا (يريد زيد بن أرقم الذي بلغ الرسول صلى اللّه عليه وسلم) لكاذب ، فنزلت هذه الآيات ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لزيد : يا غلام إن اللّه صدّقك وكذب المنافقين ، فلما بان كذب عبد اللّه قيل له : قد نزلت فيك آي شداد ، فأذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستغفر(28/111)
ج 28 ، ص : 112
لك فلوّى رأسه وقال : أمرتمونى أن أومن فآمنت ، وأمر تمونى أن أزكّي فزكيت ، وما بقي إلا أن أسجد لمحمد ، ولم يلبث إلا أياما حتى اشتكى ومات.
الإيضاح
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) أي وإذا قيل لجماعة المنافقين كعبد اللّه بن أبىّ : هلموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطلب لكم من ربكم غفران ذنوبكم ، صدوا وأعرضوا ، استكبارا وعتوّا.
قال الكلبي : لما نزل القرآن بصفة المنافقين مشى إليهم عشائرهم من المؤمنين وقالوا لهم : ويلكم افتضحتم بالنفاق ، وأهلكتم أنفسكم ، فائتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتوبوا إليه من النفاق ، واسألوه أن يغفر لكم ، فأبوا ذلك وزهدوا فى الاستغفار فنزلت الآية.
وقال ابن عباس : لما رجع عبد اللّه بن أبىّ من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنّفوه وأسمعوه ما يكره فقال له بنو أبيه : لو أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك ، قال : لا أذهب إليه ولا أريد أن يستغفر لى ، وجعل يلوّى رأسه فنزلت :
ثم أيأسهم من جدوى الاستغفار لهم فقال :
(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي الاستغفار لهم وعدمه سيان لا يجديانهم نفعا ، لأن اللّه قد كتب عليهم الشقاء بما كسبت أيديهم ، وبما اجترحت من الفسوق والآثام ، وبما ران على قلوبهم من الجحود والطغيان ثم علل ذلك بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي إن اللّه لا يهدى من أحاطت به خطيئته فلم تجد الهداية إلى قلبه سبيلا تسلكه ، ولا المواعظ والنصائح متسعا فى فؤاده ،(28/112)
ج 28 ، ص : 113
فأنى للقلب أن يهتدى ، وللعقل أن يرعوى ، وماذا تفيد الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون ؟
ثم ذكر هنة أخرى لهم فقال :
(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) أي هم الذين يقولون للأنصار : لا تطعموا محمدا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة ، فيتركوا نبيهم حين يعضّهم الجوع بنابه.
ثم رد عليهم وخطّأهم فيما يقولون فقال :
(وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وللّه جميع ما فى السموات والأرض من شىء ، وبيده مفاتيح أرزاق العباد ، لا يقدر أحد أن يعطى أحدا شيئا إلا بمشيئته.
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ) ذلك لجهلهم بسنن اللّه فى خلقه ، وأن اللّه قد كفل الأرزاق لعباده فى أي مكان كانوا متى عملوا وجدوا فى الحصول عليها.
ثم ذكر هنة ثالثة لهم وهى أعظمها فقال :
(يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) أي يقول عبد اللّه ابن أبىّ ومن يلوذ به من صحبه : لئن عدنا إلى المدينة لنخرجنكم منها أيها المؤمنون فإننا الأقوياء الأشداء الأعزاء ، وأنتم الضعفاء الأذلاء.
ثم رد عليهم مقالهم فقال :
(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) أي وللّه الغلبة والقوّة ، ولمن أعزه اللّه من الرسول والمؤمنين.
روى « أن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ ، وكان مؤمنا مخلصا ، سلّ سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة وقال : للّه علىّ ألا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل ، فلم يبرح حتى قال ذلك » .
وروى « أنه وقف واستل سيفه وجعل الناس يمرون عليه حتى جاء أبوه فقال :
وراءك ، قال مالك ويلك ؟ قال واللّه لا تجوز من هنا حتى يأذن لك رسول اللّه(28/113)
ج 28 ، ص : 114
صلى اللّه عليه وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ، فرجع حتى لقى رسول اللّه ، وكان إنما يسير ساقة (فى آخر الجيش) ، فشكا إليه ما صنع ابنه ، فأرسل إليه النبي صلى اللّه عليه وسلم أن خلّ عنه يدخل ففعل » .
(وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) أن العزة للّه ولرسوله وللمؤمنين ، وأن العاقبة للمتقين ، وأن اللّه ينصر من ينصره كما قال « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » وسنته تعالى لا تبديل فيها ولا تغيير ، وهو لا بد جاعل عباده المؤمنين هم الأعزاء كما وعد ، وجاعل مخالفيه هم الأذلاء.
ولا دخل للمال والنشب ، ولا للحسب والنسب ، فى تلك القوّة التي يمد بها من يشاء ، والنصرة التي يمنحها عباده المخلصين ، وإن اللّه منجز وعده لنبيه ، كما أنجزه لمن قبله من رسله ، وقد تم لهم الظفر على أعدائهم الضالين.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
شرح المفردات
لا تلهكم : أي لا تشغلكم ، وذكر اللّه : العبادات المذكرة به ، والمال والأولاد يراد بها زخرف الدنيا ، الخاسرون فى تجارتهم : إذ باعوا العظيم بالحقير ، لو لا : كلمة تفيد تمنى حصول ما بعدها.(28/114)
ج 28 ، ص : 115
المعنى الجملي
بعد أن حكى مقال المنافقين من أنهم الأعزاء ، وأن المؤمنين هم الأذلاء ، اغترارا بما لهم من مال ونشب ، وأن ذلك هو الذي صدهم عن طاعة اللّه ، وجعلهم يعرضون عن الإيمان باللّه إيمانا حقا ، ويؤدون فرائضه ، ويقومون بما يقربهم من رضوانه أردف ذلك بنهي المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى ذلك ، بل عليهم أن يلهجوا بذكر اللّه آناء الليل وأطراف النهار ، ويؤدوا ما فرض عليهم من العبادات ، ولا يشغلهم عن ذلك زخرف هذه الحياة من مال ونشب وأولاد وجاه ، فما متاع الحياة الدنيا فى الآخرة إلا قليل ثم أمرهم أن ينفقوا أموالهم فى أعمال البر والخير ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم ، ويتمنوا أن يطيل اللّه أعمارهم ليعوضوا بعض ما فاتهم ، ولكن أنّى لهم ذلك ولكل نفس أجل محدود لا تعدوه ، واللّه خبير بما يعملون ، وهو مجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا وإن شرّا.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي لا يشغلكم تدبير أموالكم ، والعناية بشؤون أولادكم ، عن القيام بحقوق ربكم ، وأداء فرائضه التي طلبها منكم ، واجعلوا للدنيا حظا من اهتمامكم ، وللآخرة مثله ، وهذا ما عناه
الحديث : « اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا » .
وبهذا امتازت الملة الحنيفية السمحة ، فما طلب من المؤمنين أن يكونوا ماديين يتكالبون على جمع حطام الدنيا كما يفعل اليهود ، ولا أن يكونوا روحانيين يجردون أنفسهم من لذات هذه الحياة ، ويتبتلون إلى ربهم كما يفعل المسيحيون ، كما يرشد إلى هذا قوله تعالى : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ(28/115)
ج 28 ، ص : 116
الرِّزْقِ »
وقوله : « يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا » .
ثم توعد من يفعل ذلك فقال :
(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ومن تلهّ بالدنيا وشغلته عن حقوق اللّه فقد باء بغضب من ربه ، وخسرت تجارته ، إذ باع خالدا باقيا ، واشترى فانيا زائلا وكيف يرضى عاقل بمثل هذه التجارة الخاسرة ؟
ومن أهم ما يقرب العبد من ربه ، ويجعله يفوز برضوانه - رحمة البائسين من عباده ، وبذل المال فى الوجوه التي فيها سعادة الأمة ، وإعلاء شأن الملة ، وانتشار الدعوة ، ومن ثم قال :
(وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وأنفقوا بعض ما أعطيناكم من فضلنا من الأموال ، شكرا على النعمة ، ورحمة بالفقراء من عباده ، وادخروا ذلك ليوم العرض والحساب ، فتجنوا ثمار ما عملتم ، ولا تدخروه فى صناديقكم ، وتدعوه لوارثكم ، فربما أضاعه فيما لا يكسبكم حمدا ولا مدحا ، بل يكسبكم ذما وقدحا.
وقد جاء فى الخبر : « أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام »
وجاء أيضا : « يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت ، أو تصدّقت فأبقيت » .
ولا تنتظروا حتى يحين وقت الاحتضار ، وتروا الموت رأى العين ، ثم تتمنون أن لو مدّ اللّه فى الأجل ، وأطال العمر ، لتتداركوا ما فات ، وتحسنوا العمل ، وتساعدوا البائسين وذوى الحاجة ، فهيهات هيهات ، فليس ذا وقت الندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فأتى للعمر أن يطول ، وللحياة أن تزيد ، ولكل نفس أجل لا تعدوه ، وعمر(28/116)
ج 28 ، ص : 117
لا يزيد ولا ينقص فماذا يفيد التمني ، وماذا ينفع الندم والحسرة ؟ وذلك ما عناه سبحانه بقوله :
(وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) فعليكم أن تستعدوا قبل حلول الأجل ، وتهيئوا الزاد ليوم المعاد « فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ. وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ. نارٌ حامِيَةٌ » .
وفى هذا عبرة لمن اعتبر ، ولم يفرّط فى أداء الحقوق والواجبات.
ثم حذرهم وأنذرهم بأنه رقيب عليهم فى كل ما يأتون وما يذرون فقال :
(وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فمجازيكم على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة إعراضا عنه وسخطا ، وبعدا عن رضوانه : إنك لا تجنى من الشوك العنب.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله.
تضمنت هذه السورة شيئين
(1) وصف المنافقين وبيان سيىء خصالهم من الكذب والأيمان الفاجرة والجبن.
(2) حث المؤمنين على الطاعة وإنفاق المال قبل انقضاء الأجل.(28/117)
ج 28 ، ص : 118
سورة التغابن
هى مدينة ، وآياتها ثمانى عشرة ، نزلت بعد التحريم.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) إنه فى السورة قبلها ذكر حال المنافقين ، وخاطب بعد ذلك المؤمنين ، وهنا قسم الناس قسمين مؤمن وكافر.
(2) نهى هناك عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر اللّه ، وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة.
(3) فى السورة السابقة حث على الإنفاق فى سبيل اللّه ، وفى ذكر التغابن حث عليه أيضا.
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
الإيضاح
(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي إن وجود ما فى السموات والأرض دالّ على تنزيه اللّه وكماله ، وإن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له.(28/118)
ج 28 ، ص : 119
(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) فهو المتصرف فى جميع الكائنات ، المحمود على جميع ما يخلق ويقدر ، لأنه مصدر الخيرات ، ومفيض البركات.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع ، وما لم يشأ لم يكن.
ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) أي هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء.
ثم قسم هذا المخلوق فقال :
(فَمِنْكُمْ كافِرٌ ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته ، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة كما
جاء فى الحديث : « كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه »
وقد كانت الأدلة الكونية فى الأنفس ولآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق ، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم ، ولكنكم ما فعلتم ذلك ، بل تفرقتم شيعا ، وجحدتم الخالق ، وكفرتم بأنعمه عليكم ، بعد أن أفصح الصبح لذى عينين.
(وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه ، وزكاء روحه ، فيعطيه ما هو له أهل ومن خبثت طويته ، وفسدت سجيته ، ودسّى نفسه بكبائر الذنوب والآثام ، وسيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم فى جهنم « إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً » .
وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل فقال :
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي بالحكمة البالغة المتضمنة لمنافع الدين والدنيا (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) حيث أودع فيكم القوى ، والمشاعر الظاهرة والباطنة وجعلكم صفوة جميع مخلوقاته ، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته فالإنسان يضم روحا هو من عالم الأرواح ، ويدنا هو من عالم الأشباح ، وأنشدوا :(28/119)
ج 28 ، ص : 120
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) فى الحياة الآخرة ، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت ، لا معقّب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاصرفوا ما خلق لكم فى شكره ، والوفاء بحق نعمة المتظاهرة عليكم ، ظاهرة وباطنة.
(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا تخفى عليه خافية من أمرها ، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع ، وقدرته الشاملة « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » .
ثم خص بعض ما يعلمه ، عناية بأمره ، إذ عليه الثواب والعقاب فقال :
(وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين ، لتنالوا الفوز برضوان اللّه وجميل مثوبته.
ثم علل هذا بقوله :
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء فى صدره واستكنّ فى قلبه ، فلا يخفى عليه ما يسرّ وما يعلن.
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 6]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
شرح المفردات
ألم يأتكم : هذا الاستفهام للتعجب من حالهم ، والنبأ : الخبر الهام وأصل الوبال :
الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور ، ومنه الطعام الوبيل أي الثقيل على المعدة ، والوابل : للمطر الثقيل القطر ، ثم استعمل فى الضر لأنه يثقل على الإنسان ، والأمر :(28/120)
ج 28 ، ص : 121
الكفر وعبر به للإيذان بأنه جناية عظيمة وأمر هائل ، والبينات : المعجزات ، وتولوا :
أعرضوا ، واستغنى اللّه : أي أظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم.
المعنى الجملي
بعد أن بسط سبحانه الأدلة على عظيم قدرته وواسع علمه ، وأنه خلق السموات والأرض ، وأنه صورهم فأحسن صورهم ، وأنه يعلم السر والنجوى - حذّر المشركين من كفار مكة على تماديهم فى الكفر ، والجحود بآياته ، وإنكار رسالة نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم وبيّن لهم عاقبة ما يحل بهم من العذاب فى الدنيا والآخرة وضرب لهم الأمثال بالأمم المكذبة من قبلهم ، فقد كذبوا رسلهم ، وتمادوا فى عنادهم ، وقالوا :
أيرسل اللّه من البشر رسلا ؟ فحلّت بهم نقمة ربهم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر فاصبحت ديارهم خرابا يبابا ، كأن لم يغنوا بالأمس ، فهلا يكون ذلك عبرة لهم ، فيثوبوا إلى رشدهم ، ويرجعوا إلى ربهم لو كانوا من أرباب النّهى.
الإيضاح
(أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم التي أصرّت على الكفر والعناد ، كيف حل بهم عقاب ربهم ، وعظيم نقمته وأرسل عليهم ألوانا من العذاب لا قبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم ، إلى رجفة فى الأرض تهلكهم ، إلى صيحة تصم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر ، وتمحوهم من صفحة الوجود ، إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم فحاق بهم ما كانوا به يستهزئون وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، إن اللّه سريع الحساب.(28/121)
ج 28 ، ص : 122
وفى هذا الأسلوب تعجيب من حالهم ، وأنه قد كان لهم فى ذلك مدّكر ، لو كانوا يستبصرون ، وعبرة لو كانوا يعتبرون.
ثم بيّن أسباب ما حل بهم من النقمة فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا ؟ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاءوهم بالأدلة الواضحة ، والمعجزات الباهرة وقالوا : إن من العجب العاجب أن يكون هدينا على يدى بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح ، ولا بسلطان يتملكون به قيادنا. ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا ، كما قالت ثمود :
« أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ » وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها اللّه من يشاء من عباده كما قال : « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » .
وبعد أن أطال عنادهم وتمادوا فى غيّهم أهلكهم اللّه بسلطانه وجبروته ، وقطع دابرهم ، واستغنى عن إيمانهم ، وهو الغنى عن العالمين جميعا ، والغنى عن إيمانهم وطاعتهم ، وهو الحقيق بالحمد على ما أنعم به على عباده من النعم المتظاهرة عليهم ، ظاهرة وباطنة.
[سورة التغابن (64) : الآيات 7 الى 10]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)(28/122)
ج 28 ، ص : 123
شرح المفردات
زعم فلان كذا : أي ادعى علمه بحصوله ، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل ، بلى : كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده كما وقع فى الآية ، لتبعثن : أي لتحاسبنّ وتجزونّ بأعمالكم ، والنور : هو القرآن وسمى بذلك لأنه بيّن فى نفسه مبيّن لغيره ، والخبير : هو العليم ببواطن الأشياء ، يوم الجمع : هو يوم القيامة سمى بذلك لأن اللّه يجمع فيه الأولين والآخرين فى صعيد واحد ، والتغابن ، من قولهم : تغابن القوم فى التجارة : إذا غبن بعضهم بعضا كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته ، فهذا غبن للبائع ، أو يشتريه بأكثر من قيمته ، وهذا غبن للمشترى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف إنكار المشركين للألوهية ، ثم إنكارهم للنبوة بقولهم : « أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا » ؟ ثم أعقبه بأنهم سيلقون الوبال والنكال جزاء ما فعلوا - أردف ذلك بذكر إنكارهم للبعث ، ثم بإثبات تحققه وأنه كائن لا محالة ، وأن كل امرئ سيجازى بما فعل يوم يجمع اللّه الأولين والآخرين فى صعيد واحد حين يغبن الكفار فى شرائهم ، لأنهم اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، ويفوز المؤمنون فى تجارتهم بالصفقة الرابحة ، لأن اللّه اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنة فضلا منه ورحمة.
الإيضاح
(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء فقالوا : « أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ » ؟ وقالوا : « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ » ؟ .(28/123)
ج 28 ، ص : 124
فأمر رسوله بالرد عليهم وإبطال زعمهم بقوله :
(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي قل لهم :
إن البعث كائن لا محالة ، وإنكم وربى الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم ستحاسبنّ على أعمالكم وتجزونّ على الكثير والقليل ، والنقير والقطمير ، وذلك هين عليه يسير.
ونحو الآية قوله تعالى : « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » وقوله : « وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ » وقوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ » الآية.
وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا محال معه للإنكار - طالبهم بالإيمان بهما فقال :
(فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) أي فصدقوا باللّه ورسوله وكتابه الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات ، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات.
ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون فقال :
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فلا تخفى عليه أعمالكم ، وسيحاسبكم على ما كسبت أيديكم من خير أو اكتسبت من شر ، فراقبوه وخافوا شديد عقابه.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) أي وتذكروا يوم يجمع اللّه الأولين والآخرين للحساب والجزاء فى صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم إن اللّه سريع الحساب.
ونحو الآية قوله تعالى : « ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ » وقوله : « قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ » .(28/124)
ج 28 ، ص : 125
(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها ، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين ،
وفى الصحيح « ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة ، ليزداد حسرة » .
والخلاصة - إنه لا غبن أعظم من أن قوما ينعمون ، وقوما يعذبون ، وأن قوما مغبونين فى الدنيا أصبحوا فى الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.
ثم بين هذا التغابن وفصله بقوله :
(وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ومن يصدق باللّه ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه - يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها ، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده ، لا نطوائه على النجاة من أعظم المهالك ، وأجلّ المخاطر.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي والذين جحدوا وحدانية اللّه وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد صلى اللّه عليه وسلم أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدا ، وبئس النار مصيرا لهم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)(28/125)
ج 28 ، ص : 126
شرح المفردات
المصيبة : ما ينال الإنسان ويصيبه من خير أو شر ، بإذن اللّه : أي بقدرته ومشيئته ، يهد قلبه : أي يشرحه لازدياد الخير والطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس قسمان : كافر باللّه مكذب لرسوله لا يألو جهدا فى إيصال الأذى بهم ، ومؤمن باللّه مصدق لرسله وهو يعمل الصالحات - أردف ذلك ببيان أن ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء اللّه وقدره بحسب النّظم التي وضعها فى الكون ، فعلى الإنسان أن يجدّ ويعمل ، ثم لا يبالى بعد ذلك بما يأتى به القضاء ، لعلمه بأن ما فوق ذلك ليس فى طاقته ، ولن يهوله أمره ، ولن يحزن عليه ، ثم أمر بعد ذلك بطاعة اللّه وطاعة الرسول ، وأبان أن تولّى الكافرين عن الرسول لن يضيره شيئا ، فإنه قد أدى رسالته.
وما على الرسول إلا البلاغ ، وأن على المؤمن أن يتوكل على اللّه وحده ، وهو يكفيه شر ما أهمه.
الإيضاح
(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي ما أصاب أحدا من خيرات الدنيا ولذاتها أو رزاياها وشرورها - فهو بقضاء اللّه وقدره بحسب ما وضع من السنن فى نظم الكون ، فعلى المرء أن يعمل ويجدّ ويسعى لجلب الخير ودفع الضر عن نفسه أو عن غيره ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ثم هو لا يحزن ولا يغتمّ لما يصيبه بعد ذلك ، لأنه قد فعل ما هو فى طاقته وما هو داخل فى مقدوره ، وما بعد ذلك فليس له من أمره شىء.(28/126)
ج 28 ، ص : 127
والخلاصة - إن على المؤمن واجبين :
(1) السعى وبذل الجهد فى جلب الخير ودفع الضر ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
(2) التوكل على اللّه بعد ذلك ، اعتقادا منه أن كل شىء يحدث فإنما هو بقضائه وقدره ، فلا يغتم ولا يحزن لدى حلول الشر ، ولا يتمادى فى السرور عند مجىء الخير.
ثم بين أن الإيمان يضىء القلب ، ويشرح الصدر لخير العمل فقال :
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) ويشرح صدره ، لازدياد الخير والمضي قدما فى طاعة اللّه ، وأىّ نعمة أعظم من هذه النعمة ؟ جدّ فى عمل الخير ، واستراحة لدى الغم والحزن ، واطمئنان للنفس ، ووثوق بفضل اللّه.
(وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي واللّه عليم بالأشياء كلها ، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها ، فاحذروه وراقبوه فى السر والعلن ، كما جاء فى الأثر « اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي وأطيعوا اللّه فيما شرع ، وأطيعوا رسوله فيما بلّغ ، وافعلوا ما به أمر ، واتركوا ما عنه نهى وزجر ، فإن أعرضتم عن ذلك فإنما عليه أداء ما حمل من الرسالة ، وعليكم ما حملتم من السمع والطاعة ، وهو قد أدى ما عليه ، ولا يكلف شيئا بعد ذلك.
(اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي وحدوا اللّه وأخلصوا له العمل وتوكلوا عليه ، ونحو الآية قوله : « رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا » .
وفى هذا إيماء إلى أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه ، ولا يتقوّى إلا به ، لأنه يعتقد أنه لا قادر فى الحقيقة إلا هو ، وفيه حث لرسوله صلى اللّه عليه وسلم على التوكل(28/127)
ج 28 ، ص : 128
عليه. والتقوّى به فى أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه ، وكأنها تشير إلى أن من لا يتوكل عليه فليس بمؤمن ، وهى كالخاتمة والفذلكة لما تقدم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
تفسير المفردات
فتنة : أي بلاء ومحنة ، ومن يوق : أي من يحفظ نفسه ، والشح : البخل مع الحرص ، والقرض الحسن : هو التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بطاعة اللّه وطاعة رسوله ، وذكر أن المؤمن ينبغى أن يتوكل على اللّه تعالى ولا يعتمد إلا عليه - ذكر هنا أن من الأولاد والزوجات أعداء لآبائهم وأزواجهم يثبطونهم عن الطاعة ، ويصدونهم عن تلبية الدعوة لما فيه رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته ، فعليكم أن تحذروهم ولا تتبعوا أهواءهم حتى لا يكونوا إخوان(28/128)
ج 28 ، ص : 129
الشياطين يزينون لكم المعاصي ويصدونكم عن الطاعة ثم أردف هذا ببيان أن الإنسان مفتون بماله وولده ، فإنه ربما عصى اللّه تعالى بسببهما ، فغصب المال أو غيره لأجلهما ، فعليه أن يتقى اللّه ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، ولينفق ذو سعة من سعته ، فمن جاد بماله ووقى نفسه الشح فهو الفائز بخيرى الدنيا والآخرة ، ومن أقرض اللّه قرضا حسنا فاللّه يضاعف له الحسنة بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف ، وهو عالم بما يغيب عن الإنسان وما يشاهد ، وهو العزيز الحكيم فى تدبير شئون عباده.
أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ » فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا فى الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل اللّه : « وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا » الآية.
وفى رواية عنه أنه قال :
كان الرجل يريد الهجرة فتحبسه امرأته فيقول : أما واللّه لئن جمع اللّه بينى وبينكم فى دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ ، فجمع اللّه بينهم فى دار الهجرة فأنزل اللّه الآية.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) أي أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله : إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم ، والأعمال الصالحة التي تنفعكم فى آخرتكم ، وربما حملوكم على السعى فى اكتساب الحرام ، واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « يأتى زمان على أمتى يكون فيه هلاك للرجل على يد زوجه وولده يعيّرانه بالفقر ، فيركب مراكب السوء فيهلك » .
ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم ، ليكونوا فى عيش رغد فى حياته(28/129)
ج 28 ، ص : 130
وبعد مماته ، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك ، وإن لم يطالبوه فيهلك.
ومن المفسرين من حمل العداوة على العداوة الدنيوية وقالوا : إن الزوجات والأولاد ربما آذوا أزواجهم وآباءهم ، وجرّعوهم الغصص والآلام ، وربما جرّ ذلك إلى وضع السّم فى الدسم أو إلى قتلهم ، وفى المشاهد أكبر عبرة لمن اعتبر.
والخلاصة - إنه إما يراد بالعداوة ، العداوة الأخروية ، فإن الأزواج والأولاد ربما أضروا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها ، وإما أن يراد العداوة فى الدنيا فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.
ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال :
(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي وإن تعفوا عن ذنوبهم التي ارتكبوها بترك المعاقبة ، وتصفحوا بالإعراض وترك التثريب عليها ، وتغفروا بإخفائها ، وتمهيد معذرتهم فيها ، فهو خير لكم فإن اللّه رحيم بكم وبهم ، ويعاملكم بمثل ما عاملتم ويتفضل عليكم.
ثم أخبر سبحانه بأن الأموال والأولاد فتنة فقال :
ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إنما حبكم لأموالكم وأولادكم ابتلاء واختبار ، إذ كثيرا ما يترتب على ذلك الوقوع فى الآثام ، وارتكاب كبير المحظورات.
وقدمت الأموال على الأولاد لأنها أعظم فتنة كما قال : « كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » .
أخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي عن كعب بن عياض قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن لكل أمة فتنة ، وإن فتنة أمتى المال » .
َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأولاد وطاعتهم ، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ، ولا تؤثروهم على ما عند اللّه من الأجر العظيم.(28/130)
ج 28 ، ص : 131
(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي ابذلوا فى تقواه جهدكم وطاقتكم ،
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » .
ونحو هذا ما جاء فى قوله : « اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أي كونوا منقادين لما يأمركم اللّه ورسوله به ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه.
(وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) أي وابذلوا مما رزقكم اللّه على الفقراء والمساكين وذوى الحاجات ، وفى الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة ، وسعادة الدين والدنيا ، وذلك خير لأنفسكم من الأموال والأولاد وهذا حثّ على البذل ، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.
ثم زاد فى الحث على الإنفاق فقال :
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال - يكن من الفائزين بكل ما يرجو ، ونيل كل ما يبغى فى دينه ودنياه ، فيكون محببا إلى الناس ، قرير العين برضاهم عنه وحنوّهم عليه ، سعيدا فى الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جناته.
ثم بالغ فى الحث على الإنفاق أيضا فقال :
(إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي إن تنفقوا فى طاعة اللّه متقرّبين إليه بإخلاص وطيب نفس - يضاعف لكم ذلك ، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، ويستر لكم ما فرط من زلاتكم
جاء فى الصحيحين : « إن اللّه يقول :
من يقرض غير ظلوم ولا عديم » ؟
وعن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يقول اللّه : استقرضت عبدى فأبى أن يقرضنى ، ويشتمنى عبدى وهو لا يدرى ، يقول وا دهراه وا دهراه » وأنا الدهر ثم تلا أبو هريرة هذه الآية » أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه.(28/131)
ج 28 ، ص : 132
ونحو الآية ما جاء فى سورة البقرة : « فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً » .
ثم بيّن علة المضاعفة ورغّب فى النفقة فقال :
(وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) فيثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة ، ولا يعاجل من عصاه بعقوبته على كثرة الذنوب والخطايا.
ثم ذكر ما يزيد فى الترغيب فى النفقة أيضا فقال :
(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه ، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه فى أمّ الكتاب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء ، وهو ذو العزة والقدرة ، النافذ الإرادة ، الحكيم فى تدبير خلقه على ما يعلم من المصلحة.
خلاصة ما حوته السورة
(1) صفات اللّه الحسنى.
(2) إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم مع بيان السبب فيما نالهم من ذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث.
(4) بيان أن ما يحدث فى الكون فهو بأمر اللّه وتقديره.
(5) تسلية الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
(6) إن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
(7) الأموال والأولاد فتنة وابتلاء.
(8) الحث على التقوى والإنفاق فى سبيل اللّه.(28/132)
ج 28 ، ص : 133
سورة الطلاق
هى مدنية ، وآيها ثنتا عشرة ، نزلت بعد سورة الإنسان.
ومناسبتها لما قبلها - أنه قال فى السورة السابقة : « إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ » وكانت هذه العداوة قد تفضى إلى الطلاق - أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه ، فقال :
[سورة الطلاق (65) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1)
شرح المفردات
طلقتم النساء : أي أردتم طلاقهن كما جاء فى قوله تعالى : « فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ » أي إذا أردت قراءته ، لعدّتهن : أي مستقبلين عدتهن بأن تطلقوهن فى طهر لا قربان فيه ، وأحصوا العدة : أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل ، وأصل الإحصاء العدّ بالحصى كما كان يستعمل ذلك قديما ثم استعمل فى العدّ والضبط ، والفاحشة المبينة : هى ارتكاب ما يوجب الحد ، أو البذاء على الأحماء أو على الزوج ، أو الخروج قبل انقضاء العدة ، وحدود اللّه : شرائعه التي أمر بها ونهى عن تركها ، ظلم نفسه : أي أضرّ بها ، والأمر : هو الندم على طلاقها والميل إلى رجعتها.(28/133)
ج 28 ، ص : 134
المعنى الجملي
أمر اللّه المؤمنين أن يطلقوا نساءهم فى الطهر الذي يحسب لهن من عدتهن ، وهو الطهر الذي لا وقاع فيه ، ولا يطلقوهن فى حيض لا يعتددن به من قروئهن ، كما أمرهم بضبط العدة وحفظها ، والخوف من تعدى حدود اللّه ، وعدم إخراجهن من مساكنهن التي كنّ فيها قبل الطلاق حتى تنتهى عدتهن إلا أن يأتين بمعصية ظاهرة كالبذاء على الأحماء والأزواج ، أو الخروج من الدار قبل انقضاء العدة ، ومن يتعد هذه الحدود فقد ظلم نفسه وارتكب ما يضرها ويجعلها تندم على ما فعلت ، ثم أبان حكمة الإبقاء فى البيوت ، وهى سهولة مراجعتها لميل القلب إليها وتحوّله من بغض إلى محبة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي أيها المؤمنون إذا أردتم طلاق نسائكم فطلقوهن لزمان محسوب من عدتهن ، وهو طهر لا قربان فيه حتى لا يطول عليهن زمان العدة ، فإن طلقتموهن فى زمان الحيض كان الطلاق طلاقا بدعيا حراما ، والمراد بالنساء المدخول بهن من ذوات الأقراء ، أما غير المدخول بهن فلا عدة عليهن ، وذوات الأشهر سيأتى حكمهنّ فيما بعد.
أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي فى آخرين عن ابن عمر « أنه طلق امرأته وهى حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فتغيظ منه ثم قال :
ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر اللّه أن تطلق لها النساء » .
وخص النبي صلى اللّه عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، قاله فى الكشاف.(28/134)
ج 28 ، ص : 135
والخلاصة - إن السنة فى الطلاق أن تطلق المرأة وهى طاهرة دون أن يكون قد لامسها فى هذا الطهر ، أو أن يطلقها وهى حامل حملا مستبينا ، ومن هذا قسم الفقهاء الطلاق أقساما ثلاثة :
(1) طلاق سنة ، وهو أن يطلقها طاهرة من غير قربان ، أو حاملا حملا قد استبان.
(2) طلاق بدعة وهو أن يطلقها حين الحيض أو فى طهر قد واقعها فيه ، فلا يدرى أحملت أم لا. والسر فى هذا أنه بعمله هذا أطال عليها العدة ، لأن هذه الحيضة لا تحسب فى العدة ، وكذا الطهر الذي بعدها ، لأنها إنما تكون بثلاث حيضات كوامل.
(3) طلاق لا هو بسنة ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها.
وقد روى عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كانوا يستحبون ألا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقون غير ذلك حتى تنقضى العدة ، وما كان أخسّ عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات. وقال مالك ابن أنس : لا أعرف طلاقا إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث متفرقة أو مجموعة. وأبو حنيفة وأصحابه يكرهون ما زاد على الواحدة فى طهر واحد. وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث وقال : لا أعرف فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح.
والخلاصة - أن مالكا يراعى فى طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأن أبا حنيفة يراعى التفريق والوقت ، والشافعي يراعى الوقت وحده.
(وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي واحفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول على المرأة. واحفظوا الأحكام والحقوق التي تجب فيها.
وإنما خوطب الأزواج بذلك دون النساء ، لأنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن المرتبة عليه.(28/135)
ج 28 ، ص : 136
(وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أي واخشوا اللّه ربكم ، فلا تعصوه فيما أمركم به من الطلاق لعدتهن ، وفى القيام بما للمعتدات من حقوق.
وفى وصفه تعالى بالربوبية مبالغة فى وجوب الامتثال لأمره ، لما فى لفظ الرب من التربية التي هى الإنعام والإكرام على ضروب لا حصر لها.
ثم بيّن بعض هذه الحقوق فقال :
(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق ، غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لكم إلى المساكن ، لأن تلك السكنى حق اللّه تعالى أوجبه للزوجات ، فليس لكم أن تتعدوه إلا لضرورة ، كانهدام المنزل أو الحريق أو السيل أو خوف الفتنة فى الدين.
(وَلا يَخْرُجْنَ) أي لا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ، إذ السكنى فى البيوت حق الشرع ، فلا يسقط بالإذن ، فإن خرجن ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ولا تنتهى العدة.
ثم استثنى من لزوم المكث فى البيوت ما إذا دعت الضرورة إلى الإخراج فقال :
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) أي لا يخرجن إلا إذا فعلن ما يوجب حدّا من زنا أو سرقة أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيّب ، أو يبذون على الأحماء أو الأزواج ، فيحل إخراجهن من بيوتهن لبذائهن ، وسوء خلقهن ، أو خرجن متحولات عن منازلهن اللاتي يجب عليهن أن يكملن العدة فيها ، فأىّ ذلك فعلن فللأزواج إخراجهن من البيوت ، لإتيانهن بالفاحشة الواضحة التي ارتكبنها.
(وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي هذه الأمور التي بينتها لكم من الطلاق للعدة ، وإحصاء العدة ، والأمر باتقاء اللّه ، وألا تخرج المطلقة من بيتها إلا أن تأتى بفاحشة مبينة - هى حدود اللّه التي حدها لكم ، فلا تتعدوها.
ثم بين عاقبة تجاوز تلك الحدود فقال :(28/136)
ج 28 ، ص : 137
(وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي ومن يتجاوز ما شرع اللّه لعباده من شرائع ، وما أبيح له إلى ما لم يبح فقد ظلم نفسه وأضرّ بها من حيث لا يدرى.
ثم بين علة هذا الضرر فقال :
(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي لا تعلم أيها المرء أن اللّه يقلب القلوب ، فيجعل فى قلبك محبة لها ، فتندم على فراقها ، وتود الرجعة إليها ، فلا يتسنى لك ذلك ، لأن الفرصة تكون قد ضاعت ، وما جرّ ذلك عليك إلا تعدى حدود اللّه.
والخلاصة - إن من يتعدّ حدود اللّه فقد أساء إلى نفسه ، فإنه لا يدرى عاقبة ما هو فاعل ، فلعل اللّه يحدث فى قلبه بعد ذلك الذي فعل من التعدي - أمرا يدعو إلى عكس ما فعل ، فيبدّل البغض محبة ، والإعراض إقبالا ، ولا يتسنى له تلافى ذلك برجعة أو استئناف نكاح فتضيع الفرصة ويندم ، ولات ساعة مندم.
تنبيه
الشريعة الإسلامية - وإن أباحت الطلاق - بغّضت فيه وقبحته وبينت أنه ضرورة لا يلجأ إليها إلا بعد استنفاد جميع الوسائل لبقاء رباط الزوجية الذي حبّبت فيه وجعلته من أجلّ النعم ، فرغّبت فى إرسال حكم من أهله وحكم من أهلها قبل حدوث الطلاق ، لعلهما يزيلان ما بين الزوجين من نفور ، كما رغبت فى أن تكون الطلقات الثلاث متفرقات ، لعل النفوس تصفو بعد الكدر ، والقلوب ترعوى عن غيها ، ولعلهما يندمان على ما فرط منهما فتكون الفرصة مواتية ، ويمكن الرجوع إلى ما كانا عليه ، بل قد يعودان إلى حال أحسن مما كانا.
روى أبو داود عن محارب بن دثار أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « ما أحل اللّه شيئا أبغض إليه من الطلاق »
وروى الثعلبي من حديث ابن عمر قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن من أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق » .(28/137)
ج 28 ، ص : 138
وعن أبى موسى قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « لا تطلقوا النساء إلا من ريبة ، فإن اللّه عز وجل لا يحب الذوّافين ولا الذواقات » .
وعن ثوبان أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس به ، حرّم اللّه عليها رائحة الجنة » أخرجه أبو داود والترمذي.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 2 الى 3]
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
شرح المفردات
فإذا بلغن أجلهن : أي قاربن انتهاء العدة ، فأمسكوهن : أي فراجعوهن ، بمعروف : أي مع حسن عشرة ، أو فارقوهن بمعروف : أي مع إعطاء الحق واتقاء المضارة : كأن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة ، بالغ أمره : أي منفذ حكمه وقضاءه فى خلقه يفعل ما يشاء ، قدرا : أي تقديرا وتوقيتا.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه بإيقاع الطلاق واحدة فواحدة ومنع الخروج من المنزل والإخراج منه إلا إذا أتين بفاحشة مبينة ، ونهى عن تعدى تلك الحدود حتى لا يحصل الضرر والندم - خيّر الرجل إذا شارفت عدة امرأته على الانتهاء بين أمرين :(28/138)
ج 28 ، ص : 139
(1) إما أن يراجعها ويعاشرها بإحسان.
(2) وإما أن يفارقها مع أداء حقوقها التي لها مع التفضل والإكرام.
فإذا اختار الرجعة فليشهد على ذلك شاهدين عدلين قطعا للنزاع ، ودفعا للريبة.
ثم أبان أن هذه الأحكام إنما شرعت للفائدة والمصلحة. وأرشد إلى أن تقوى اللّه تفتح السبل للمرء وتخرجه من كل ضيق ، وتهديه إلى الطريق المستقيم فى دينه ودنياه ، وأن من يتوكل على ربه ، يكفيه ما أهمه ، ويفرّج عنه كربه.
ثم ذكر أن أمور الحياة جميعا بقضاء اللّه وقدره ، فلا يجزع المؤمن مما يصيبه من النوائب ، ولا يفرح ويبطر بما يناله من خيراتها.
الإيضاح
(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي فإذا قاربت العدة على الانتهاء ، فإن شئتم فأمسكوهن وراجعوهن مع الإحسان فى الصحبة وحسن العشرة ، وأداء الحقوق من النفقة والكسوة ، وإن صممتم على المفارقة فلتكن بالمعروف وعلى وجه لا عنف فيه ولا مشاكسة ، مع إيفاء ما لهنّ من حقوق لديكم كمؤخر صداق ، وإعطاء متعة حسنة تذكركن بفصلها ، ويتحدث الناس بحسن أحدوثتها ، ويكون فيها جبر لخاطرهن ، لما لحقن من ضرر بالفرق ، وليكون فيها بعض السلوة لهن عما فقدنه من العشير والأنيس.
ثم بين ما يحسن إذا أردوا الرجعة فقال :
(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي وأشهدوا على الرجعة إن اخترتموها شاهدين من ذوى العدالة ، حسبما للنزاع فيما بعد ، إذ ربما يموت الزوج فيدعى الورثة أن مورثهم(28/139)
ج 28 ، ص : 140
لم يراجع زوجته ، ليمنعوها ميراثها ، ودفعا للقيل والقال وتهمة الريبة ، ومخافة أن تنكر المرأة الرجعة لتقضى عدتها ، وتنكح زوجا غيره.
وهذا الإشهاد واجب عند الشافعي حين الرجعة ، مندوب حين الفرقة ، ويرى أبو حنيفة أن الرجعة لا تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق.
ثم خاطب الشهود زجرا لهم فقال :
(وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي واشهدوا على الحق إذا استشهدتم ، وأدوا الشهادة على الصحة إذا أنتم دعيتم إلى أدائها.
وإنما حث على أداء الشهادة ، لما قد يكون فيه من العسر على الشهود ، إذ ربما يؤدى ذلك إلى أن يترك الشاهد مهامّ أموره ، ولما فيها من عسر لقاء الحاكم الذي تؤدّى عنده ، وقد يبعد المكان ، أو يكون للشاهد عوائق تحول بينه وبين أدائها.
(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي هذا الذي أمرتكم به ، وعرفتكم عنه من أمر الطلاق ، والواجب لبعضكم على بعض حين الفراق أو الإمساك ، عظة منا لمن كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، ليعمل على نهجها وطريقتها.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما سلف وما سيأتى ، لتأكيد ما سبق من الأحكام والخروج من مشاكلها بعد اتقاء اللّه فقال :
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي ومن يخش اللّه فلا يطلق المرأة فى الحيض حتى لا تطول عدتها ولا يضارّ المعتدة فلا يخرجها من مسكنها ، ويحتاط بالإشهاد حين الرجعة - يجعل اللّه له مخلصا مما عسى أن يقع فيه من الغم ويفرج عنه ما يعتريه من الكرب ، ويرزقه من جهة لا تخطر بباله ولا يحتسبها.
والخلاصة - من اتقى اللّه جعل له مخلصا من غم الدنيا وهمّ الآخرة وغمرات الموت وشدائد يوم القيامة.(28/140)
ج 28 ، ص : 141
روى عن ابن عباس أنه قال : « جاء عوف بن مالك الأشجعى إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه : إن ابني أسره العدو وجزعت أمه ، فبم تأمرنى ؟
قال آمرك وإياها أن تستكثرا من قول : « لا حول ولا قوة إلا باللّه » فقالت المرأة : نعم ما أمرك ، فجعلا يكثران منها ، فتغفل عنه العدو فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه ، فنزلت هذه الآية » أخرجه ابن مردويه.
وفى الآية إيماء إلى أن التقوى ملاك الأمر عند اللّه ، وبها نيطت السعادة فى الدارين وإلى أن الطلاق من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى ، إذ هو أبغض الحلال إلى اللّه لما يتضمنه من إيحاش الزوجة وقطع الألفة بينها وبين زوجها ، ولما فى الاحتياط فى العدة من المحافظة على الأنساب وهى من أجّل مقاصد الدين ، ومن ثم شدّد فى إحصاء العدة حتى لا تختلط ويكون أمرها فوضى.
وروى عن ابن مسعود أنه قال : إن أجمع آية فى القرآن : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وإن أكبر آية فى القرآن فرجا : « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً » .
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي ومن يكل أمره إلى اللّه ويفوض إليه الخلاص منه - كفاه ما أهمه فى دنياه ودينه ، والمراد بذلك أن العبد يأخذ فى الأسباب التي جعلها اللّه من سننه فى هذه الحياة ، ويؤديها على أمثل الطرق ، ثم يكل أمره إلى اللّه فيما لا يعلمه من أسباب لا يستطيع الوصول إلى علمها ، وليس المراد أن يلقى الأمور على عواهنها ، ويترك السعى والعمل ويفوض الأمر إلى اللّه ، فما بهذا أمر الدين بدليل قوله تعالى : « وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ » .
وقوله صلى اللّه عليه وسلم : « اعقلها وتوكل »
إلى نحو ذلك مما هو مستفيض فى الكتاب والسنة.
وروى عن ابن عباس « أنه ركب خلف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوما فقال(28/141)
ج 28 ، ص : 142
له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : يا غلام إنى معلمك كلمات : احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك ، لم ينغعوك إلا بشىء كتبه اللّه لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشىء كتبه اللّه عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف » .
ثم ذكر السبب فى وجوب التوكل عليه فقال :
(إن اللّه بالغ أمره ، قد جعل اللّه لكل شىء قدرا) أي إن اللّه تعالى منفذ أحكامه فى خلقه بما يشاء ، وقد جعل لكل شىء مقدارا ووقتا ، فلا تحزن أيها المؤمن إذا فاتك شىء مما كنت تؤمل وترجو ، فالأمور مرهونة بأوقاتها ، ومقدرة بمقادير خاصة كما قال : « وكلّ شىء عنده بمقدار » .
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الطلاق السنىّ إنما يكون فى طهر لا وقاع فيه ، ولم يبين مقدار العدة وكان قد ذكر فى سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن ، والكبار اللائي يئسن من الحيض ، وأنها ثلاثة(28/142)
ج 28 ، ص : 143
أشهر ، وعدة الحامل وأنها تكون بوضع الحمل سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها.
أخرج الحاكم والبيهقي فى جماعة آخرين عن أبىّ بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت آية البقرة فى عدة النساء قالوا لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر فى القرآن ، الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل فأنزل اللّه تعالى فى سورة النساء القصرى : « وَاللَّائِي يَئِسْنَ » الآية.
وروى أن قوما منهم أبىّ بن كعب وخلاد بن النعمان « لما سمعوا قوله تعالى :
« وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ » قال : يا رسول اللّه فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر ؟ فنزلت : « وَاللَّائِي يَئِسْنَ » الآية.
الإيضاح
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ ، وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي واللائي بلغن سنّ اليأس فانقطع حيضهن لكبرهن بأن بلغن سن الخامسة والخمسين فما فوقها فعدتهن ثلاثة أشهر ، وكذا الصغار اللواتى لم يحضن ، إن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن وما قدرها.
(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) أي وعدة الحوامل أن يضعن حملهنّ سواء كنّ مطلقات أو متوفى عنهنّ أزواجهنّ كما روى عن عمر وابنه ، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبى شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهى حامل فقال : إذا وضعت حملها فقد حلّت ، فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال : لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن حلّت ، وهكذا روى عن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه أنه قال : من شاء لا عنته أن الآية التي فى النساء القصرى « وَأُولاتُ الْأَحْمالِ » الآية نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا ، وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها.(28/143)
ج 28 ، ص : 144
وروى أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفى عنها فى حجة الوداع وهى حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما ، فاختضبت واكتحلت وتزينت تريد الزواج ، فأنكر ذلك عليها ، فسئل النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : « إن تفعل فقد خلا أجلها » .
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) أي ومن يخف اللّه ويرهبه ، فيؤدى فرائضه ويجتنب نواهيه - يسهل عليه أموره ، ويجعل له من كل ضيق فرجا ، وينر له طريق الهدى فى كل ما يعرض له من المشكلات ، فإن فى قلب المؤمن نورا يهديه إلى حلّ عويصات الأمور.
وفى الآية إيماء إلى فضيلة التقوى فى أمور الدنيا والآخرة ، وأنها المخرج من كل ضيق يعرض للمرء فيهما.
(ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي هذا الذي شرع لكم من الأحكام السالفة فى الطلاق والسكنى والعدة - هو أمر اللّه الذي أمركم به وأنزله إليكم لتأتمروا به ، وتعملوا وفق نهجه.
ثم كرر الأمر بالتقوى لأنها ملاك الأمر وعماده فى الدنيا والآخرة فقال :
(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي ومن يخف اللّه فيؤدّ فرائضه ويجتنب نواهيه - يمح عنه ذنوبه كما وعد بذلك فى كتابه : « إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ » ويجزل له الثواب على يسير الأعمال.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 6 الى 7]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)(28/144)
ج 28 ، ص : 145
شرح المفردات
من وجدكم : أي من وسعكم ، وقال الفراء : أي على قدر طاقتكم ، ولا تضاروهن :
أي فى النفقة والسكنى ، لتضيقوا عليهن : أي لتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ، ائتمروا : أي تآمروا وتشاوروا ، بمعروف : أي بجميل فى الأجر والإرضاع ، فلا يكن من الأب مماكسة ولا من الأم معاسرة ، وإن تعاسرتم : أي ضيق بعضكم على بعض بالمشاقة فى الأجر أو يطلب الزيادة ، قدر عليه :
أي ضيق ، آتاه اللّه : أي أعطاه ، ما آتاها : أي إلا بقدر ما أعطاها من الأرزاق قلّ أو جلّ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل - أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة ، ثم أردف ذلك ببيان أن الحوامل لهنّ النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت ، فإذا هنّ ولدن وجب لهنّ الأجر على إرضاع المولود فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها ، والأم أحق بالإرضاع إذا هى رضيت بمثل أجرتها ، والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع ، فاللّه لا يكلف نفسا إلا ما تطيق.
الإيضاح
(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) أي أسكنوا مطلقات نسائكم فى الموضع الذي تسكنون فيه على مقدار حالكم ، فإن لم تجدوا إلا حجرة بجانب(28/145)
ج 28 ، ص : 146
حجرتكم فأسكنوها فيها ، وإنما أمر الرجال بذلك ، لأن السكنى نوع من النفقة وهى واجبة على الأزواج.
ثم نهى عن مضارّة المطلقات فى السكنى فقال :
(وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ) أي ولا تستعملوا معهن الضرار فى السكنى بشغل المكان أو بإسكان غيرهنّ معهنّ ممن لا يحببن السكنى معه ، لتلجئوهنّ إلى الخروج من مساكنهن.
ثم بيّن نفقة الحوامل فقال :
(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) لأنه بالوضع تنقضى العدة ، وهذا حكم المطلقة طلقة بائنة ، أما المطلقة طلقة رجعية فتستحق النفقة وإن لم تكن حاملا.
وقال أبو حنيفة : تجب النفقة والسكنى لكل مطلقة وإن لم تكن ذات حمل لما
روى عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول فى المبتوتة : « لها النفقة والسكنى » ،
لأن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحامل وغيرها.
ثم بين حكم إرضاع الطفل بعد ولادته فقال :
(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) أي فإن أرضعن لكم وهنّ طوالق قد بنّ بانقضاء عدتهنّ ، فلهنّ حينئذ أن يرضعن الأولاد ولهنّ أن يمتنعن ، فإن أرضعن فلهنّ أجر المثل ويتفقن مع الآباء أو الأولياء عليه.
وفى هذا إيماء إلى أن حق الرضاع والنفقة للأولاد على الأزواج ، وحق الإمساك والحضانة على الزوجات.
(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي وتشاوروا فيما بينكم أيها الآباء والأمهات فى شئون الأولاد بما هو أصلح لهم فى أمورهم الصحية والخلقية والثقافية ، ولا تجعلوا المال عقبة(28/146)
ج 28 ، ص : 147
فى سبيل إصلاحهم ، ولا يكن من الآباء مما كسة فى الأجر وسائر النفقات ، ولا من الأمهات معاسرة وإحراج للآباء ، فالأولادهم فلذات أكبادهم ، فليحافظوا عليهم جهد المستطاع.
ثم أرشد إلى ما يجب أن يعمل إذا لم يحصل الوفاق بين الأبوين فى الإنفاق فقال :
(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) أي وإن ضيق بعضكم على بعض بأن شاحّ الأب فى الأجر ، أو اشتطت الأم فى طلب زيادة لا يؤديها أمثاله ، فليحضر الأب مرضعا أخرى تقوم بالإرضاع ، فإن رضيت الأم بمثل ما استؤجرت به الأجنبية فهى أحق بولدها.
وفى الآية إيماء إلى معاتبة الأم ، فهو كقولك لمن تطلب منه حاجة فيتوانى فى قضائها :
إن لم تقضها فسيقضيها غيرك ، وكأنه قال له : إنها ستقضى وأنت ملوم.
وإنما خص الأم بالعتاب ، لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها ، وهو ليس بمال ولا مما يضنّ به فى العرف ولا سيما من الأم ، والمبذول من جهة الأب هو المال وهو مضنون به فى العادة ، فهى إذا أجدر باللوم وأحق بالعتب.
هذا إذا قبل الولد ثدى مرضع أخرى ، فإن لم يقبل إلا ثدى الأم وجب عليها الإرضاع.
ثم بين مقدار الإنفاق بقوله :
(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أي لينفق الولد على المرضع التي طلّقت منه بقدر سعته وغناه.
(وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ) أي ومن كان رزقه بمقدار القوت فحسب فلينفق على مقدار ذلك.
(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) أي لا يكلف اللّه أحدا من النفقة على من تلزمه نفقته بالقرابة والرحم إلا بمقدار ما آتاه من الرزق ، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغنى.(28/147)
ج 28 ، ص : 148
ونحو الآية قوله : « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » .
ثم بين أن الأرزاق تتحول من عسر إلى يسر والعكس بالعكس فقال :
(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) أي سيجعل اللّه بعد شدة رخاء ، ومن بعد ضيق سعة ، ومن بعد فقر غنى ، فالدنيا لا تدوم على حال كما قال سبحانه : « إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً » .
وهذا كالبشرى للمؤمنين الذين كان يغلب عليهم الفقر والفاقة فى ذلك الحين.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 11]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
شرح المفردات
وكأين من قرية : أي كثير من أهل القرى ، عتت : أي تجبرت وتكبرت ، نكرا : أي منكرا عظيما ، وبال أمرها : أي عاقبة عتوّها ، خسرا : أي خسارة فى الآخرة ، ذكرا : أي قرآنا ، رسولا : أي وأرسل رسولا.(28/148)
ج 28 ، ص : 149
المعنى الجملي
بعد أن أمر بأن الطلاق لا يكون إلا فى أوقات خاصة ، وبأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر ، وذكر مدة العدة وما يجب للمعتدة من النفقة والكسوة ، ونهى عن تجاوز حدود اللّه ، وأن من يتجاوزها يكون قد ظلم نفسه توعد هنا من خالفوا أمره ، وكذبوا رسله ، وسلكوا غير ما شرعه ، وأنذرهم بأن يحل بهم مثل ما حل بالأمم السالفة التي كذبت رسلها ، فأخذها أخذ عزيز مقتدر ، وأصبحت كأمس الدابر وصارت مثلا فى الآخرين.
الإيضاح
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي وكثير من أهل القرى خالفوا أمر ربهم ، فكذبوا الرسل الذين أرسلوا إليهم ولّجوا فى طغيانهم يعمهون ، فحاسبناهم حسابا عسيرا ، فاستقصينا عليهم ذنوبهم ، وناقشناهم على النقير والقطمير ، وعذبناهم عذابا نكرا فى الآخرة ، وعبر بالماضي عن المستقبل دلالة على التحقق كما فى قوله تعالى : « وَنُفِخَ فِي الصُّورِ » .
ثم بين أن هذا جزاء ما كسبت أيديهم فقال :
(فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي فجنت ثمار ما غرست أيديها ولا يجنى من الشر إلا الشر كما جاء فى أمثالهم : إنك لا تجنى من الشوك العنب. فكان عاقبة أمرها الخسران والنكال الذي لا يقدر قدره.
ثم أكد هذا الوعيد بقوله :
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ اللّه لهم العذاب المرتقب ، لتماديهم فى طغيانهم وإعراضهم عن اتباع الرسل فيما جاءوا به من عند ربهم.
ثم نبه المؤمنين إلى تقوى اللّه حتى لا يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم فقال :(28/149)
ج 28 ، ص : 150
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا) أي فخافوا أيها المؤمنون عقاب اللّه ، فأنتم أصحاب العقول الراجحة ، والفطر السليمة ، واحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بمن قبلكم ، وتذكروا فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
ثم بين ما يكون مذكرا لهم وداعيا لتقوى اللّه فقال :
(قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي قد أنزل اللّه إليكم يا ذوى البصائر ذكرا لكم وهو القرآن الكريم يذكركم به ، لتستمسكوا بحبله المتين وتعملوا بطاعته وأرسل إليكم رسولا يتلو عليكم آيات هذا الكتاب الذي أنزل عليه ، وهى واضحات لمن تدبرها وعقلها ، كى يخرج من لديه استعداد للهدى من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إذا هو أنعم فى النظر فيها ، وأجال الفكر فى أسرارها ومغازيها ، فهى النبراس الساطع ، والضوء اللامع ، لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ثم بين جزاء الإيمان والعمل الصالح فقال.
(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً) أي ومن يصدق باللّه وعظيم قدرته ، وبديع حكمته ، ويعمل بطاعته - يدخله بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ماكثين فيها أبدا لا يموتون ولا يخرجون منها ، وقد وسع اللّه لهم فيها الأرزاق من مطاعم ومشارب مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)(28/150)
ج 28 ، ص : 151
المعنى الجملي
بعد أن أنذر سبحانه مشركى مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول صلى اللّه عليه وسلم يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا فى الدنيا ، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له فى الآخرة - ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه ، وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلى ليكون ذلك باعثا على اتباع ما شرع من الدين ، واستجابة دعوة الرسول ، والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي اللّه هو الذي خلق السموات السبع وخلق مثلهن فى العدد من الأرضين.
وهذا الأسلوب فى اللغة لا يفيد الانحصار فى السبعة ، وإنما يفيد الكثرة ، فالعرب تعنى فى كلامها بذكر السبعة والسبعين والسبعمائة الكثرة فحسب ويؤيد هذا أن علماء الفلك فى العصر الحاضر قالوا : إن أقل عدد ممكن من الأرضين الدائرة حول الشموس العظيمة التي نسميها نجوما لا يقل عن ثلاثمائة مليون أرض ، ولا شك أن هذا قول هو بالظن أشبه منه باليقين.
روى ابن مسعود أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن ، والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن فى الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة » .
وروى عن مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى : « سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ » الآية قوله : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها.(28/151)
ج 28 ، ص : 152
وهذا من الحبر دليل على أن هناك عوالم كثيرة لا يجدر بالعلماء أن يحدثوا عنها العامة ، فإن عقولهم تضل فى فهمها ، فلتبق فى صدور العلماء وأهل الذكر حتى لا يفتنوا بها.
(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)
أي يجرى أمر اللّه وقضاؤه وقدره بينهن ، وينفذ حكمه فيهن ، فهو يدبر ما فيها وفق علمه الواسع ، وحكمته فى إقامة نظمها ، بحسب العدل والمصلحة.
أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال : « فى كل سماء وفى كل أرض خلق من خلقه تعالى ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائه عز وجل » .
(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي ينزل قضاء اللّه وأمره بين ذلك ، كى تعلموا أيها الناس كنه قدرته وسلطانه ، وأنه لا يتعذر عليه شىء أراده ، ولا يمتنع عليه أمر شاءه ، فهو على ما يشاء قدير ، ولتعلموا أن اللّه بكل شىء من خلقه محيط علما لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.
فخافوا أيها المخالفون أمر ربكم فإنه لا يمنعه من عقوبتكم مانع ، وهو قادر على ذلك ، ومحيط بأعمالكم لا يخفى عليه منها خاف ، وهو محصيها عليكم ، ليجازيكم بها يوم تجزى كل نفس بما كسبت.
ما تضمنته هذه السورة من الشئون
اشتملت هذه السورة على أحكام شرعية ، ومناهج دينية ، وفتاوى إسلامية ، وضعت لإقامة العدل بين الخلق وما أهل الأرض ولا أحكامهم ولا شرائعهم ولا دياناتهم إلا لمحة من نور العدل العام ، وقبضة من فيضه ، وزهرة من شجرته ، فإن قضى القضاة على كراسى الحكم بين العباد ، فأعطوا زيدا ما يجب على عمرو ، وقالوا للحامل عدتك وضع الحمل ، فكم بين السموات والأرض من قضاء فى هذا(28/152)
ج 28 ، ص : 153
الفضاء الواسع الصامت لفظا ، الناطق معنى ، وكم من حكم بيننا نرى أثره ، ولا نسمع النطق به ، نرى الشمس محكوما عليها أن تطلع من مواضع فى المشرق ، وتغيب فى مواضع فى المغرب لا تجوزها ، ونرى الرياح محكوما عليها ، والسحب مأمورة ، والأنهار جارية ، والمزارع قد حكم عليها أن تكون فى زمن خاص ، وأمكنة خاصة فليس للقطن أن ينبت فى البلاد الباردة ، ولا أن يثمر فى زمن الشتاء ، ولا للنخل أن يثمر إلا بعد عدد من السنين ، وكل ذلك حكم لمصلحة الناس ، وسعادتهم فى دنياهم.
فانظر أىّ الحكمين أكثر منفعة ؟ أحكم لمصلحة أشخاص متنازعين ، أم حكم لسعادة هؤلاء المتنازعين من كل أهل ملة ودين ؟ .(28/153)
ج 28 ، ص : 154
سورة التحريم
هى مدنية ، وآيها ثنتا عشرة ، نزلت بعد الحجرات.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) أن سورة الطلاق فى حسن معاشرة النساء والقيام بحقوقهن ، وهذه السورة فيما حصل منهن مع النبي صلى اللّه عليه وسلم تعليما لأمته أن يحذروا أمر النساء ، وأن يعاملوهن بسياسة اللين كما عاملهن النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، وأن ينصحوهن نصححا مؤثّرا.
(2) أن كلتيهما افتتحا بخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(3) أن تلك فى خصام نساء الأمة ، وهذه فى خصومة نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقد أفردن بالذكر تعظيما لمكانتهن.
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)(28/154)
ج 28 ، ص : 155
شرح المفردات
تحرّم : أي تمتنع ، ما أحل اللّه لك : هو العسل ، تبتغى : أي تطلب ، فرض :
أي شرع وبيّن كما جاء فى قوله : « سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها » ، وتحلة أيمانكم :
أي تحليلها بالكفارة ، وتحليلة القسم تستعمل على وجهين :
(1) أحدهما تحليله بالكفارة كما فى الآية.
(2) ثانيهما بمعنى الشيء القليل وهذا هو الأكثر كما جاء فى الحديث : « لن يلج النار إلا تحلة القسم » أي إلا زمنا يسيرا.
مولاكم : أي وليكم وناصركم ، بعض أزواجه : هى حفصة على المشهور ، نبأت به : أي أخبرت عائشة به ، وأظهره : أي أطلعه وأعلمه قول حفصة لعائشة ، عرّف :
أي أعلمها ببعض الحديث الذي أفشته ، وأعرض عن بعض : أي لم يخبرها به ، إن تتوبا : أي حفصة وعائشة ، صغت قلوبكما : أي عدلت ومالت إلى ما يجب للرسول صلى اللّه عليه وسلم من تعظيم وإجلال ، وإن تظاهرا عليه : أي تتظاهرا وتتعاونا على إيذاء الرسول ، مولاه : اى وليه وناصره ، ظهير : أي ظهراء معاونون ، وأنصار مساعدون ، مسلمات : أي خاضعات للّه بالطاعة ، مؤمنات : أي مصدّقات بتوحيد اللّه ، مخلصات ، قانتات : أي مواظبات على الطاعة ، تائبات : أي مقلعات عن الذنوب ، عابدات : أي متعبدات متذللات لأمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، سائحات. أي صائمات ، وسمى الصائم بذلك من حيث إن السائح لا زاد معه ، ولا يزال ممسكا حتى يجد الطعام كالصائم لا يزال كذلك حتى يجىء وقت الإفطار.(28/155)
ج 28 ، ص : 156
المعنى الجملي
روى البخاري ومسلم عن عائشة أنها قالت : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلواء والعسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه ، وكان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، فتواطأت أنا وحفصة أنّ أيّتنا دخل النبي صلى اللّه عليه وسلم عليها فلتقل له : إنى أجد منك ريح مغافير ، أكلت مغافير (صمغ حلوله رائحة كريهة ينضحه شجر يقال له العرفط يكون بالحجاز) ، فقال لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا.
وقد كانت عائشة وحفصة متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويقال إن التي دخل عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم وحرّم على نفسه العسل أمامها هى حفصة فأخبرت عائشة بذلك ، مع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم استكتمها الخبر كما استكتمها ما أسرّها به من الحديث الذي يسرّها ويسر عائشة ، أن أباها وأبا عائشة يكونان خليفتين على أمتى من بعدي ، فالسر كان لها بأمرين :
(1) تحريم العسل الذي كان يبغيه عند زينب.
(2) أمر الخلافة لأبويهما من بعده.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ؟ ) أي يا أيها النبي لم تمتنع عن شرب العسل الذي أحله اللّه لك ، تلتمس بذلك رضا أزواجك ؟
وهذا عتاب من اللّه على فعله ذلك ، لأنه لم يكن عن باعث مرضى ، بل كان طلبا لمرضاة الأزواج.
وفى هذا تنبيه إلى أن ما صدر منه لم يكن مما ينبغى لمقامه الشريف أن يفعله.(28/156)
ج 28 ، ص : 157
وفى ندائه صلى اللّه عليه وسلم بيا أيها النبي فى مفتتح العتاب حسن تلطف ، وتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ، على نحو ما جاء فى قوله : « عفا اللّه عنك لم أذنت لهم ؟ ».
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي واللّه غفور لذنوب التائبين من عباده ، وقد غفر لك امتناعك عما أحله لك ، رحيم بهم أن يعاقبهم على ما تابوا منه من الذنوب.
وإنما عاتبه على الامتناع عن الحلال وهو مباح سواء كان مع اليمين أو بدونه ، تعظيما لقدره الشريف ، وإجلالا لمنصبه أن يراعى مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف اللّه به ، وإيماء إلى أن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي يعدّ كالذنب وإن لم يكن فى نفسه كذلك.
(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي قد شرع لكم تحليل أيمانكم بالكفارة عنها ، فعليك أن تكفر عن يمينك.
وقد روى « أنه عليه الصلاة والسلام كفر عن يمينه فأعتق رقبة (عبدا أو أمة) » .
(وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ) أي واللّه متولى أموركم بنصركم على أعدائكم ، ومسهل لكم سبل الفلاح فى دنياكم وآخرتكم ، ومنير لكم طريق الهداية إلى ما فيه سعادتكم فى معاشكم ومعادكم.
(وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) أي وهو العليم بما يصلحكم فيشرعه لكم ، الحكيم فى تدبير أموركم ، فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا وفق ما تقتضيه المصلحة.
ثم ساق ما هو كالدليل على علمه فقال :
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً ، فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أي واذكر حين أسر النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى حفصة أنه كان يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، وقال لن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا ، فلما أخبرت عائشة بما استكتمها من السر ، وأطلعه اللّه على ما دار بين حفصة وعائشة بما كان قد طلب من حفصة أن تكتمه - أخبر حفصة(28/157)
ج 28 ، ص : 158
ببعض الحديث الذي أفشته وهو قوله لها : كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش فلن أعود ، وأعرض عن بعض الحديث وهو قوله وقد حلفت ، فلم يخبرها به تكرما منه لما فيه من مزيد خجلتها ، ولأنه صلى اللّه عليه وسلم ما كان يود أن يشاع عنه اهتمامه بمرضاة أزواجه إلى حد امتناعه عن تناول ما أحل اللّه له.
(فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا ؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) أي فلما أخبر حفصة بما دار بينها وبين عائشة من الحديث ، قالت من أنبأك بهذا ؟ ظمّا منها أن عائشة قد فضحتها بإخبارها
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : أخبرنى ربى العليم بالسر والنجوى الخبير بما فى الأرض والسماء لا يخفى عليه شىء فيهما.
وفى الآية إيماء إلى أمور اجتماعية هامة :
(1) أنه لا مانع من الإباحة بالأسرار إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
(2) أنه يجب على من استكتم الحديث أن يكتمه.
(3) أنه يحسن التلطّف مع الزوجات فى العتب والإعراض عن الاستقصاء فى الذنب.
ثم وجه الخطاب لحفصة وعائشة مبالغة فى العتب فقال :
(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي إن تتوبا من ذنبكما وتقلعا عن مخالفة رسوله صلى اللّه عليه وسلم فتخبّا ما أحب وتكرها ما كرهه - فقد مالت قلوبكما إلى الحق والخير ، وأديتما ما يجب عليكما نحوه صلى اللّه عليه وسلم من إجلال وتكريم لمنصبه الشريف.
روى عن ابن عباس أنه قال : لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضى اللّه عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم اللتين قال اللّه لهما « إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ » الآية.
حتى حج عمر وحججت معه ، فلما كان ببعض الطريق نزل ليتوضأ فصببت على يديه ، فقلت يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم اللتان(28/158)
ج 28 ، ص : 159
قال اللّه لهما « إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ » الآية ؟ فقال وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أخذ يسوق الحديث.
ثم ذكر سبحانه أنه حافظه وحارسه فلا يضره أذى مخلوق فقال :
(وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ ، وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) أي وإن تتعاونا على العمل لما يؤذيه ويسوؤه من الإفراط فى الغيرة وإفشاء سره - فلن يضره ذلك شيئا ، فإن اللّه ناصره فى أمر دينه وسائر شئونه على كل من يتصدى لما يكرهه ، وجبريل والمؤمنون الصالحون والملائكة مظاهرون له ومعينون.
وقد أعظم سبحانه شأن النصرة لنبيه على هاتين الضعيفتين ، للإشارة إلى عظم مكر النساء ، وللمبالغة فى قطع أطماعهما بأنه ربما شفع لهما مكانتهما عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعند المؤمنين لأمومتهما لهم ، وكرامة له صلى اللّه عليه وسلم ورعاية لأبويهما ، ولتوهين أمر تظاهرهما ، ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره فى أمر النبوة ، وقهر أعداء الدين ، إذ قد جرت العادة بأن الشئون المنزلية تشغل بال الرجال وتضيع زمنا من تفكيرهم فيها ، وقد كانوا أحق به فى التفكير فيما هو أجدى نفعا ، وأجلّ فائدة.
ثم حذرهما بما يلين من قناتهما ، ويخفض من غلوائهما ، ويطمئن من كبريائهما فقال :
(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي عسى اللّه أن يعطيه (صلى اللّه عليه وسلم) بدلكن أزواجا خيرا منكنّ إسلاما وإيمانا ، ومواظبة على العبادة ، وإقلاعا عن الذنوب ، وخضوعا لأوامر الرسول ، بعضهنّ ثيبات وبعضهنّ أبكارا ، إن هو قد طلقكنّ.(28/159)
ج 28 ، ص : 160
والخلاصة - احذرن أيتها الأزواج من إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والتألب عليه ، والعمل على ما يسوؤه ، فإنه ربما أخرج صدره فطلقكنّ فأبدله اللّه من هو خير منكنّ فى الدين والصلاح والتقوى ، وفى الشئون الزوجية. فأعطاه بعضهنّ أبكارا وبعضهنّ ثيبات.
ولا شىء أشد على المرأة من الطلاق. ولا سيما إذا استبدل خير منها بها.
روى البخاري عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم فى الغيرة عليه ، فقلت : عسى ربه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ فنزلت هذه الآية.
وروى عن أنس عن عمر قال : بلغني عن بعض أمهاتنا أمهات المؤمنين شدة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأذاهنّ إياه ، فاستقريتهنّ امرأة أعظها وأنهاها عن أذى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأقول : إن أبيتنّ أبدله اللّه خيرا منكنّ حتى أتيت على زينب ، فقالت يا ابن الخطاب : أما فى رسول اللّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأمسكت ، فأنزل اللّه : « عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ » الآية.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)(28/160)
ج 28 ، ص : 161
شرح المفردات
قوا أنفسكم : أي اجعلوا لها وقاية من النار بترك المعاصي ، وأهليكم : أي بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب ، والوقود (بفتح الواو) : ما توقد به النار ، والحجارة :
هى الأصنام التي تعبد لقوله تعالى : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » ملائكة : هم خزنتها التسعة عشر ، غلاظ : أي غلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا ، شداد : أي أقوياء الأبدان ، والتوبة النصوح : هى الندم على مافات والعزم على عدم العودة إلى مثله فيما هو آت.
المعنى الجملي
بعد أن أمر بعض نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم بالتوبة عما فرط من الزلات ، وأبان لهم أن اللّه كالئ رسوله وناصره ، فلا يضره تظاهرهن عليه ، ثم حذرهن من التمادي فى مخالفته صلى اللّه عليه وسلم خوفا من الطلاق وحرمانهم من الشرف العظيم بكونهنّ أمهات المؤمنين ومن استبدالهنّ بغيرهنّ من صالحات المؤمنات - أمر المؤمنين عامة بوقاية أنفسهم وأهليهم من نار وقودها الناس والحجارة يوم القيامة ، يوم يقال للكافرين : لا تعتذروا فقد فات الأوان ، وإنما تلقون جزاء ما عملتم فى الدنيا ، ثم أمر المؤمنين أن يقلعوا عن زلاتهم ، وأن يتوبوا توبة نصوحا ، فيندموا على ما فرط منهم من الهفوات ، ويعزموا على عدم العودة فيما هو آت ، ليكفر اللّه عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم.(28/161)
ج 28 ، ص : 162
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أي أيها الذين صدّقوا اللّه ورسوله : ليعلم بعضكم بعضا ما تتقون به النار وتدفعونها عنكم ، إنه طاعة اللّه تعالى وامتثال أوامره ، ولتعلّموا أهليكم من العمل بطاعته ما يقون به أنفسهم منها ، واحملوهم على ذلك بالنصح والتأديب.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها » وقوله :
« وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » .
روى أن عمر قال حين نزلت يا رسول اللّه : نقى أنفسنا ، فكيف لنا بأهلينا ؟
فقال عليه السلام « تنهونهن عما نهاكم اللّه عنه ، وتأمرونهن بما أمركم اللّه به ، فيكون ذلك وقاية بينهم وبين النار » .
أخرج ابن المنذر والحاكم فى جماعة آخرين عن علىّ كرم اللّه وجهه أنه قال فى الآية : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم.
والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة.
وفى الآية إيماء إلى أنه يجب على الرجل تعلّم ما يحب من فرائض الدين وتعليمها لهؤلاء ،
وقد جاء فى الحديث : « رحم اللّه رجلا قال يا أهلاه : صلاتكم ، صيامكم ، زكاتكم ، مسكينكم ، يتيمكم ، جيرانكم ، لعل اللّه يجمعكم معهم فى الجنة » .
(عَلَيْها مَلائِكَةٌ) أي موكّل عليها ويلى أمرها وتعذيب أهلها تسعة عشر ملكا هم زبانيتها الذين سيأتى ذكرهم فى سورة المدثر فى قوله تعالى : « سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ. لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ » .
(غِلاظٌ شِدادٌ) أي غلاظ على أهل النار أشداء عليهم.(28/162)
ج 28 ، ص : 163
ثم بين عظيم طاعتهم لربهم فقال :
(لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي لا يخالفون أمره ، بل يؤدون ما يؤمرون به فى وقته بلا تراخ ، فلا يقدمونه عنه ، ولا يؤخرونه.
وقد أفادت الجملة الأولى نفى العناد والاستكبار عنهم فهى كقوله : « لا يستكبرون عن عبادته » وأفادت الجملة الثانية نفى الكسل عنهم فهى كقوله تعالى :
« وَلا يَسْتَحْسِرُونَ » .
وخلاصة ذلك - إنهم يمتثلون الأمر ولا يمتنعون عن تنفيذه ، بل يؤدونه من غير تثاقل ولا توان.
وبعد أن ذكر شدة العذاب فى النار واشتداد الملائكة فى الانتقام من أعداء اللّه الكافرين - بين أنه يقال للكافرين لا فائدة فى الاعتذار لأنه توبة ، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول فى النار فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فقد فات الأوان ، ولا يجدى رجاء ولا اعتذار ، فلات ساعة مندم.
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
ثم بين السبب فى عدم فائدة الندم فقال :
(إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي لأنكم إنما تثابون اليوم وتعطون جزاء أعمالكم التي عملتموها فى الدنيا ، فلا تطلبوا المعاذير منها.
والخلاصة - إن هذه الدار دار جزاء لا دار عمل ، وأنتم قد دسّيتم أنفسكم فى الدنيا بالكفر والمعاصي بعد أن نهيتم عنها ، فاجنوا ثمر ما غرستم ، واشربوا من الكأس التي قد ملأتم.
وبعد أن ذكر أن التوبة فى هذا اليوم لا تجدى نفعا - نبّه عباده المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة النصوح فقال :(28/163)
ج 28 ، ص : 164
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي أيها الذين صدقوا اللّه ورسوله : ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة اللّه وإلى ما يرضيه عنكم - رجوعا لا تعودون فيه أبدا ، عسى ربكم أن يمحوا سيئات أعمالكم التي سلفت منكم ، ويدخلكم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار حين لا يخزى اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين به.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : التوبة النصوح أن يندم العبد على الذنب الذي أصابة ، فيعتذر إلى اللّه ثم لا يعود أبدا ، كما لا يعود اللبن إلى الضّرع ، وهكذا روى عن عمرو بن مسعود وأبى بن كعب والحسن وغيرهم.
وقال الإمام النووي : التوبة النصوح ما استجمعت ثلاثة أمور :
(1) الإقلاع عن المعصية.
(2) الندم على فعلها.
(3) العزم الجازم على ألا يعود إلى مثلها أبدا.
فإن كانت المعصية تتعلق بآدمى وجب رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه ، أو تحصيل البراءة منه.
والخلاصة - إن المعصية إن كانت فى خالص حق اللّه كفى فيها الندم كما فى الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف ، وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم العزم على إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما فى الغصب والقتل العمد ، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما فى الغيبة إذا بلغته ، ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش.
وجىء بكلمة (عَسى ) التي تفيد الطمع فى حصول العفو فحسب ، مع أن اللّه سبحانه وعد بقبول التوبة - جريا على سنن الملوك فى التخاطب ، فإنهم يقولون(28/164)
ج 28 ، ص : 165
إذا أرادوا فعلا : عسى أن نفعل كذا ، وإشعارا بأن ذلك تفضل منه سبحانه ، والتوبة غير موجبة له ، وأن العبد ينبغى أن يكون بين خوف ورجاء ، وإن بالغ فى إقامة وظائف العبادة.
ثم بين ما يكون للنبى والذين آمنوا معه من علامات الظفر والفوز بالمطلوب فقال :
(نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي نورهم يسعى بين أيديهم حين يمشون وبأيمانهم حين الحساب ، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير لهم.
ثم بين ما يطلبونه من ربهم فقال :
(يَقُولُونَ : رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا) أي يسألون ربهم أن يبقى لهم نورهم فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط ، حين يقول لهم المنافقون والمنافقات : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقد تقدم نحو هذا فى سورة الحديد ، ويطلبون أيضا منه أن يستر عليهم ذنوبهم ، ولا يفضحهم بعقوبتهم عليها حين الحساب.
ثم ذكروا ما يطمعهم فى إجابة الدعاء فقالوا :
(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إنك على إتمام نورنا ، وغفران ذنوبنا ، وكل ما نرجو منك ونطمع - قدير يا ربنا ، فاللهم أجب دعاءنا ، ولا تخيب رجاءنا.
وقد روى أن أدناهم منزلة من يكون نوره بقدر ما يبصر موطئ قدمه ، لأن النور على قدر العمل وروى أن السابقين إلى الجنة يمرون على الصراط مثل البرق ، ويمر بعضهم كالريح ، وبعضهم يحبو حبوا ويزحف زحفا ، وهم الذين يقولون : « ربّنا أتمم لنا نورنا » .
[سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)(28/165)
ج 28 ، ص : 166
شرح المفردات
الجهاد تارة يكون بالسيف وأخرى بالحجة والبرهان ، واغلظ عليهم : أي شدّد ، والمأوى : مكان الأبواء والإقامة.
المعنى الجملي
بعد أن أمر سبحانه المؤمنين بالتوبة النصوح والرجوع إلى اللّه والإخبات إليه.
أمر رسوله بقتال الكفار الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان باللّه ، وبوعيد المنافقين والغلظة عليهم حتى يثوبوا إلى رشدهم ، وذكر أن جزاءهم فى الآخرة جهنم وبئس المقيل والمأوى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي جاهد الكفار بالسيف وقاتلهم قتالا لا هوادة فيه ، وجاهد المنافقين بالإنذار والوعيد وبيان سوء المنقلب ، وعنّفهم بفضيحة عاجلة تبين قبح طواياهم وخبث نفوسهم ، كما حدث منه صلى اللّه عليه وسلم فى المسجد الجامع لبعض المنافقين على ملأ من الناس فقال : اخرج يا فلان ، اخرج يا فلان ، وأخرج منهم عددا كثيرا.
ثم بين سوء عاقبتهم فقال :
(وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وسيكون مسكنهم جهنم وبئس المثوى والمقيل.
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(28/166)
ج 28 ، ص : 167
شرح المفردات
ضرب المثل : ذكر حال غريبة لتعرف بها حال أحرى تشاكلها فى الغرابة ، تحت عبدين : أي فى عصمتهما ، فخانتاها : أي نافقتا فأخفتا الكفر وأظهرتا الإيمان ، وكانت امرأة نوح تقول لقومه : إنه مجنون ، وامرأة لوط نزل قومه على نزول أضيافه عليه ، فلم يغنيا عنهما : أي لم يفيداهما ولم يجزيا عنهما من اللّه شيئا ، امرأة فرعون :
على ما قيل هى آسية بنت مزاحم ، نجنى من فرعون وعمله : أي خلصنى منه فإنى أبرأ إليك منه ومن عمله ، والقوم الظالمون : هم الوثنيون أقباط مصر ، وأحصنت فرجها : أي حفظته وصانته ، والفرج : شق جيب الدرع (القميص) إذ الفرج لغة كل فرجة بين الشيئين ، ويراد بذلك عفتها ، وكلمات ربها : أي شرائعه وكتبه التي أنزلها على رسله ، والقانتين : أي الطائعين المخبتين إلى اللّه الممتثلين أوامره.
المعنى الجملي
بعد أن أمر عباده المؤمنين بالتوبة النصوح بالندم على ما فات ، وعدم العودة فيما هو آت ، وأمر رسوله بجهاد الكافرين والمنافقين والغلظة لهم فى القول والعمل.
ذكر هنا أن النفوس إن لم تكن مستعدة لقبول الإيمان ، وفى جوهرها صفاء ونقاء(28/167)
ج 28 ، ص : 168
فلا تجدى فيها العظة والعبرة ولا مخالطة المؤمنين المتقين ، وضرب لذلك المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فقد كانتا فى بيت النبوة ولم يلن قلبهما للإيمان والإسلام.
كذلك إذا كان جوهر النفس نقيا خالصا من كدورة الكفر والنفاق فمجاورتها للكفرة وعشرتها إياهم لا تغير من حالها شيئا ، ولا يؤثر فيها ضلال الضالين ولا عتوّ الظالمين ، وضرب لذلك مثل امرأة فرعون التي ألحف عليها فرعون وقومه أن تعتنق الوثنية التي كانوا يدينون بها ، وتعتقد ألوهيته هو فأبت وجاهدت فى اللّه حق جهاده حتى لاقت ربها وهى آمنة مطمئنة قريرة العين بما دخل فى قلبها من نور الإيمان ، وكذلك مريم بنة عمران التي عفّت فآتاها اللّه الشرف والكرامة ، وأنجبت نبى اللّه عيسى ، وصدقت بجميع شرائعه وكتبه وكانت من العابدين القانتين.
وفى هذا المثل إيماء إلى أن قرابة المشركين للنبى صلى اللّه عليه وسلم لا تجديهم نفعا بعد كفرهم وعداوتهم له وللمؤمنين ، فإن الكفر قد قطع العلائق بينه وبينهم وجعلهم كالأجانب ، بل أبعد منهم كحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتاهما ، كما تضمن التعريض بأمى المؤمنين حفصة وعائشة لما فرط منهما ، والتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) أي ضرب اللّه مثلا يبين به حال الكافرين الذين لم ينتفعوا بعظات المؤمنين الصادقين من النبيين والمرسلين لظلمة قلوبهم وسوء استعدادهم وفساد فطرتهم - امرأة نوح وامرأة لوط إذ كانتا فى عصمة نبيّين يمكنهما أن ينتفعا بهديهما ويحصّلا ما فيه سعادتهما فى معاشهما ومعادهما ، لكنهما أبتا ذلك وعملتا ما يدل على الخيانة والكفر ، فاتهمت الأولى زوجها بالجنون ، وكانت الثانية ترشد قوم لوط إلى ضيوفه لمآرب خبيثة ،(28/168)
ج 28 ، ص : 169
فلم يدفع عنهما قربهما من ذينك السدين الصالحين شيئا ، وحاق بهما سوء ما عملتا وسيحل بهما عقاب اللّه ، وسيدخلان النار فى زمرة داخليها جزاء وفاقا لما اجترحتا من السيئات ، وما دسّتا به أنفسهما من كبير الآثام ، وعظيم المعاصي.
وفى هذا تعريض بأمهات المؤمنين ، وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهنّ - إن أتين بمعصية - اتصالهنّ بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وكونهنّ فى عصمته.
وبعد أن ضرب مثلا يبين به أن وصلة الكافرين بالمؤمنين لا تفيدهم شيئا.
أرشد إلى عكس هذا فأفاد أن اتصال المؤمنين بالكافرين لا يضرهم شيئا فقال :
(وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي وجعل اللّه حال امرأة فرعون مثلا يبين به أن وصلة المؤمنين بالكافرين لا تضرهم شيئا إذا كانت النفوس خالصة من الأكدار ، فقد كانت تحت أعدى أعداء اللّه فى الدنيا ، وطلبت النجاة منه ومن عمله ، وقالت فى دعائها : رب اجعلنى قريبا من رحمتك ، وابن لى بيتا فى الجنة ، وخلصنى من أعمال فرعون الخبيثة ، وأنقذنى من قومه الظالمين.
وفى هذا دليل على أنها كانت مؤمنة مصدّقة بالبعث ، ومن سنن اللّه أن لا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن لكل نفس ما كسبت ، وعليها ما اكتسبت.
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي وضرب اللّه مثلا للذين آمنوا حال مريم وما أوتيت من كرامة الدنيا وكرامة الآخرة ، فاصطفاها ربها مع أن أكثر قومها كانوا كفارا ، من قبل أنها منعت جيب درعها جبريل عليه السلام وقالت له :
« إنّى أعوذ بالرّحمن منك إن كنت تقيّا » فأثبتت بذلك عفتها وكمال طهارتها ، فنفخ جبريل فى جيب درعها فحملت بنبي اللّه وكلمته عيسى صلوات اللّه عليه ، وصدقت بشرائع اللّه وكتبه التي أنزلها على أنبيائه ، وكانت فى عداد القانتين العابدين المخبتين لربهم المطيعين له.(28/169)
ج 28 ، ص : 170
روى أحمد فى مسنده : « سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم عائشة »
وفى الصحيح « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة كفضل الثريد على سائر الطعام » .
وإنما فضل الثريد لأنه مع اللحم غذاء جامع بين اللذة وسهولة التناول وقلة المئونة فى المضغ وسرعة المرور فى المريء ، فضربه مثلا ليؤذن بأنها رضى اللّه عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق ، وفصاحة الكلام ، وجودة القريحة ، ورزانة الرأى ، ورصانة العقل ، والتحبب للبعل ، وبحسبك أنها عقلت من النبي صلى اللّه عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء ، وروت ما لم يرو مثله الرجال.
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على شيئين :
(1) أخبار نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وحلفه صلى اللّه عليه وسلم ألا يشرب العسل إرضاء لبعضهنّ ، واطلاع اللّه له على ما أفشين من سرّ أمرهنّ بكتمه ، من أول السورة إلى قوله : « وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » .
(2) ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط عليهما السلام.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بحلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية فى العشرين من شهر رمضان المعظم من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة.(28/170)
ج 28 ، ص : 171
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 ما قالته خولة بنت ثعلبة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تشكو زوجها.
7 أحكام الظهار والعقوبات التي شرعت لذلك.
9 من يشاقّ اللّه ورسوله يلحقه الخزي والهوان.
11 ما يتناجى ثلاثة إلا واللّه رابعهم ولا خمسة إلا واللّه سادسهم.
12 كان اليهود يحيون الرسول بغير تحية اللّه استهزاء به.
14 نهى المؤمنين عما سيكون سببا للتباغض من التناجي بالعدوان.
16 كان الصحابة يتنافسون فى القرب من مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لسماع حديثه.
18 أمر المؤمنين بتقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول والحديث معه.
21 كان قوم من المنافقين يوادّون اليهود ويطلعونهم على أسرار المؤمنين.
25 المنافقون شاقوا اللّه ورسوله فكتب عليهم الذلة فى الدنيا والآخرة.
27 لا يجتمع إيمان مع موادّة أعداء اللّه.
28 اللهم لا تجعل لفاجر ولا لغاشّ علىّ يدا ولا نعمة فيوده قلبى.
32 نقض اليهود للعهد وإجلاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم لهم إلى بلاد الشام 34 قذف اللّه الرعب فى قلوب اليهود فلم يجدوا للمقاومة سبيلا.
37 حكم ما أخذ من أموال اليهود.(28/171)
ج 28 ، ص : 172
39 ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.
41 مدح الأنصار.
44 « اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة » .
47 مناصحة المنافقين كعبد اللّه بن أبىّ ورفقته لليهود.
49 نكوص المنافقين فى عهودهم لليهود.
53 نصح المؤمنين بلزوم التقوى والعمل بما ينفعهم فى دنياهم وأخراهم.
54 من مواعظ أبى بكر رضى اللّه تعالى عنه.
56 القرآن الكريم مرشد وهاد.
61 ما فعله حاطب بن أبى بلتعة من نصيحته للمشركين.
63 ذكر الموانع التي تمنع من مناصحة المشركين.
65 أمر الصحابة بأن يتأسوا بإبراهيم عليه السلام وأصحابه.
66 كان بعض المؤمنين يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الكفر فنهوا عن ذلك.
69 وعد المؤمنين بأنه سيغير من طباع المشركين ويغرس فى قلوبهم محبة الإسلام.
71 الكافرون المعاندون أقسام ثلاثة.
73 كتاب الصلح بين النبي صلى اللّه عليه وسلم والمشركين عام الحديبية.
75 مبايعة المؤمنات المهاجرات للنبى صلى اللّه عليه وسلم.
77 كان بعض فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ليصيبوا من ثمارهم.
80 أحب الأعمال إلى اللّه إيمان به ، وجهاد لأهل معصيته.
81 أمر المؤمنين بالقتال صفا صفا كأنهم بنيان مرصوص.
84 ما جاء فى التوراة والإنجيل من البشارة بمحمد عليه الصلاة والسلام.(28/172)
ج 28 ، ص : 173
87 الصادّ عن دعوة الدين كمن يريد إطفاء نور الشمس.
88 فرح اليهود ببطء نزول الوحى على النبي صلى اللّه عليه وسلم.
89 الإيمان باللّه والجهاد بالنفس تجارة رابحة.
90 الجهاد على ضروب.
91 رفعت الراية الإسلامية على جميع المعمور من الأرض فى زمن وجيز 94 الحكمة فى إرسال الرسول عربيا إلى العرب.
96 « لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من فارس » .
97 النعي على المشركين بأنهم لم يفهموا التوراة.
99 آية المباهلة.
101 نهى المؤمنين عن تشاغلهم عن عظات النبي صلى اللّه عليه وسلم.
102 أمر المؤمنين أن يأتوا إلى الصلاة وعليهم السكينة.
102 مراقبة اللّه تنيل الفوز والسعادة فى الدنيا والآخرة.
106 وصف اللّه سبحانه المنافقين بأقبح الصفات.
107 كأنت عدّة المنافقين الأيمان الكاذبة.
108 وصف المنافقين بحسن المنظر وقبح المخبر.
110 ذكر الأدلة على نفاق المنافقين.
113 ما فعله عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ المنافق.
115 نهى المؤمنين عن تشاغلهم بالدنيا.
119 الإنسان يضم روحا من عالم الأرواح وبدنا من عالم الأشباح.
121 تحذير المشركين من تماديهم فى الجحود وإنكار رسالة محمد صلى اللّه عليه وسلم(28/173)
ج 28 ، ص : 174
123 إقامة الأدلة على أن البعث حق لا شك فيه.
126 ما يصيب الإنسان من خير وشر فهو بقضاء اللّه وقدره.
127 على المؤمن واجبان : السعى فى جلب الخير ودفع الضر ، ثم التوكل على اللّه 128 من الأولاد والزوجات أعداء للإنسان يثبطونهم عن الطاعة.
130 فى الحديث « إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتى المال » .
131 من يقرض غير ظلوم ولا عديم ؟ الحديث.
134 الأمر بالطلاق فى الطهر الذي يحسب للمرأة.
135 الطلاق أقسام ثلاثة.
136 أمر المطلقة بالمكث فى البيت إلا أن تأتى بفاحشة مبينة.
137 « إن من أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق » الحديث.
141 قصص عوف بن مالك الأشجعى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
142 عدّة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللائي يئسن من الحيض.
143 عدة الحامل وضع الحمل ولو بعد ساعة.
145 ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة.
146 نفقة الحوامل.
147 القدر الواجب فى النفقة.
149 لا تحل المطلقة لزوج آخر إلا بعد انقضاء عدتها.
152 ما تضمنته سورة الطلاق من الأحكام الشرعية والشئون الدينية.
156 فى الحديث « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحب الحلواء والعسل » 157 أسرّ النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى حفصة حديثا فأخبرت به عائشة.(28/174)
ج 28 ، ص : 175
158 لا حرج فى الإباحة بالسر إلى من تركن إليه من زوجة أو صديق.
160 تحذير أمهات المؤمنين من إيذاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
163 الآخرة دار جزاء لا دار عمل.
164 شروط التوبة النصوح.
166 الأمر بقتال المشركين الذين يقفون فى سبيل الدعوة إلى الإيمان.
167 النفوس إن لم يكن فى جوهرها صفاء لا تنفع فيها العظة.
169 ضرب المثل بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران.
170 فى الحديث « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع » .(28/175)
ج 29 ، ص : 1
الجزء التاسع والعشرون
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم احمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء التاسع والعشرون(29/1)
ج 29 ، ص : 2
الطبعة الثالثة 1394 ه - 1974 م(29/2)
ج 29 ، ص : 3
الجزء التاسع والعشرون
سورة الملك
هى مكية ، وآيها ثلاثون ، نزلت بعد سورة الطور.
ومناسبتها لما قبلها - أنه لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين اللتين قدر لهما الشقاء وإن كانتا تحت عبدين صالحين ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وقد كتب لهما السعادة وإن كان أكثر قومهما كفارا - افتتح هذه السورة بما يدل على إحاطة علمه عز وجل وقهره وتصرفه فى ملكه على ما سبق به قضاؤه.
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)(29/3)
ج 29 ، ص : 4
شرح المفردات
البركة : الزيادة حسية كانت أو عقلية ، خلق : أي قدّر ، ليبلوكم : أي ليختبركم والمراد ليعاملكم معاملة المختبر لأعمالكم ، أحسن عملا : أي أخلصه للّه ، العزيز :
أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء ، الغفور : أي كثير المغفرة والستر لذنوب عباده ، طباقا : أي طبقة بعد طبقة ، تفاوت : أي اختلاف وعدم تناسب ، والفطور :
الشقوق ، واحدها فطر ، يقال فطره فانفطر ، كرتين : أي رجعتين أخريين فى ارتياد الخلل ، والمراد بذلك التكرير والتكثير : أي رجعة بعد رجعة ، ينقلب : أي يرجع ، خاسئا : أي صاغرا ذليلا مبعدا لم ير ما يهوى من الخلل ، حسير : أي كليل منقطع لم يدرك ما طلب ، والحاسر : المعيا لنفاد قواه ، والمصابيح : واحدها مصباح وهو السراج والمراد بها الكواكب ، والرجوم : واحدها رجم (بِالْفَتْحِ) وهو ما يرجم ويرمى به ، والشياطين : هم شياطين الإنس والجن ، وأعتدنا : أي هيأنا ، عذاب السعير : أي عذاب النار المسعّرة الموقدة.
المعنى الجملي
مجّد اللّه نفسه وأخبر أن بيده الملك والتصرف فى جميع المخلوقات بما يشاء لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، لقهره وحكمته وعدله ، وهو القدير على كل شىء ثم أخبر بأنه قدّر الموت والحياة ليبلوكم فينظر من منكم أخلص له عملا ، وهو ذو العزة الغالب على أمره ، الغفور لمن أذنب ثم تاب وأقلع عنه ، ثم أردف ذلك بأنه خلق سبع سموات بعضها فوق بعض لا خلل فيها ولا عيب ، فانظر أيها الرائي أ ترى فيها(29/4)
ج 29 ، ص : 5
شقا أو عيبا ؟ ثم أعد النظر وحدّق بالبصر ، لتستيقن تمام تناسبها واستواء خلقها ، وقد زيّنا أقرب السموات إليكم بكواكب يهتدى بها الساري ، ويعلم بها عدد السنين والحساب ، وعليها تتوقف حياة الحيوان والنبات ، وهى أيضا سبب الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن ، وهؤلاء قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة بوساطة الحرارة والضوء من الكواكب ، وبذا أعد لهم عذاب السعير جزاء ما اقترفوا فى حياتهم الدنيا.
الإيضاح
(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي تعالى ربنا الذي بيده ملك الدنيا والآخرة ، فهو يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويرفع أقواما ويخفض آخرين ، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة لا يمنعه مانع ، ولا يحول بينه وبين ما يريد عجز ، فله التصرف التام فى الموجودات على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع ولا مدافع.
والخلاصة - تعاظم عن صفات المخلوقين من بيده الملك والتصرف فى كل شىء ، وهو قدير يتصرف فى ملكه كيف يريد من إنعام وانتقام ، ورفع ووضع ، وإعطاء ومنع.
ثم شرع يفصل بعض أحكام الملك وآثار القدرة ، ويبين ابتناءهما على الحكم والمصالح ، وأنهما يستتبعان غايات جليلة فقال :
(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) أي الذي قدر الموت وقدر الحياة وجعل لكل منهما مواقيت لا يعلمها إلا هو.
(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي ليعاملكم معاملة من يختبر حاله ، وينظر أيكم أخلص فى عمله ، فيجازيكم بذلك بحسب تفاوت مراتبكم وأعمالكم ، سواء أ كانت أعمال القلب أم كانت أعمال الجوارح.(29/5)
ج 29 ، ص : 6
وقد روى فى تفسير الآية عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « أيكم أحسن عقلا ، وأورع عن محارم اللّه ، وأسرع فى طاعته عز وجل »
يعنى أيكم أتم فهما لما يصدر عن حضرة القدس ، وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه ، وأيكم أبعد عن ملابسة الكبائر ، وأسرع فى إجابة داعى اللّه.
وفيه ترغيب فى الطاعات وزجر عن المعاصي كما لا يخفى على ذوى الألباب.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) أي وهو القوى الشديد الانتقام ممن عصاه وخالف أمره ، الغفور لذنوب من أناب إليه وأقلع عنها.
وقد قرن سبحانه الترهيب بالترغيب فى مواضع كثيرة من كتابه كقوله تعالى :
« نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ » .
وإثبات العزة والغفران له يتضمن كونه قادرا على كل المقدورات ، عالما بكل المعلومات ، ليجازى المحسن والمسيء بالثواب والعقاب ، ويعلم المطيع من العاصي ، فلا يقع خطأ فى إيصال الحق إلى من يستحقه ، ثوابا كان أو عقابا.
ثم ذكر دلائل قدرته فقال :
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي هو الذي أوجد سبع سموات بعضها فوق بعض فى جوّ الهواء بلا عماد ، ولا رابط يربطها مع اختصاص كل منها بحيز معين ونظم ثابتة لا تتغير بل بنظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات ، كما جاء فى قوله : « اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى » .
ثم ذكر دلائل العلم فقال :
(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي لا ترى أيها الرائي تفاوتا وعدم تناسب ، فلا يتجاوز شىء منه الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا على نحو ما قيل :(29/6)
ج 29 ، ص : 7
تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهنّ اختلافا بل أتين على قدر
فإن كنت فى ريب من هذا فارجع البصر حتى تتضح لك الحال ، ولا يبقى لك شبهة فى تحقق ذلك التناسب والسلامة من الاختلاف والشقوق بينها.
وإنما قال : (فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) دون أن يقول : (فيها) تعظيما لخلقهنّ ، وتنبيها إلى سبب سلامتهنّ من التفاوت بأنهنّ من خلق الرحمن ، وأنه خلقهنّ بباهر قدرته وواسع رحمته تفضلا منه وإحسانا ، وأن هذه الرحمة عامة فى هذه العوالم جميعا.
ثم أمره بتكرير البصر فى خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع ، هل يجد فيه عيبا وخللا فقال :
(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إنك إذا كررت النظر لم يرجع إليك البصر بما طلبته من وجود الخلل والعيب ، بل يرجع إليك صاغرا ذليلا لم ير ما يهوى منهما ، حتى كأنه طرد وهو كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة.
والمراد بقوله « كرتين » التكثير كقوله :
لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم بيتا وأبعدهم من منزل الذّام
وبعد أن بين خلوّ السموات من العيب ذكر أنها الغاية فى الحسن والبهاء فقال :
(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي ولقد زينا السماء القربى من الأرض وهى التي يراها الناس بكواكب مضيئة بالليل كما يزيّن الناس منازلهم ومساجدهم بالسّرج ، ولكن أنّى لسرج الدنيا أن تكون كسرج اللّه ؟
والخلاصة - أن نظام السموات لا خلل فيه ، بل هو أعظم من ذلك ، فقد زينت سماؤه القريبة منا بمصابيح ، هى بهجة للناظرين ، وعبرة للمعتبرين.(29/7)
ج 29 ، ص : 8
(وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي وهذه الكواكب لا تقف عند حد الزينة بل بضوئها يكون ما فى الأرض : من رزق وحياة وموت ، بحسب الناموس الذي سنناه ، والقدر الذي أمضيناه ، ويكون فى العالم الإنسانى وعالم الجن نفوس تتقاذفها الأهواء ، وتتجاذبها اللذات والشهوات التي تنجم من العناصر المتفاعلة بسبب الأضواء المشعّة النازلة من عالم الكواكب المشرقة فى السماء.
وقصارى القول - إن هذه الكواكب كما هى زينة الدنيا ، وأسباب لرزق ذوى الصلاح من الأنبياء والعلماء والحكماء ، هى أيضا سبب لتكوّن الأرزاق المهيجة لشهوات شياطين الإنس والجن فهذا العالم قد اختلط فيه الضر بالنفع ، وأعطى لكلّ ما استعدّ له فالنفوس الفاضلة ، والنفوس الشريرة ، استمدت من هذه المادة المسخّرة المقهورة ، فصارت سببا لثواب النفوس الطيبة ، وعذاب النفوس الخبيثة ، وصار لهم فيها رجوم وظنون ، إذ هم قد استمدوا شيطنتهم من مظاهر الطبيعة الناشئة من الحرارة والضوء.
ويرى بعض المفسرين أن المراد أن المصابيح التي زيّن اللّه بها السماء الدنيا لا تزول عن مكانها ولا يرجم بها ، بل ينفصل من الكواكب شهاب يقتل الجنىّ أو يخبله.
قال قتادة : خلق اللّه النجوم لثلاث : زينة للسماء ، ورجوم للشياطين ، وعلامات يهتدى بها فى البر والبحر ، فمن تكلم فيها بغير ذلك فقد تكلم فيما لا يعلم ، وتعدى وظلم.
(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) أي وهيأنا لهؤلاء الشياطين فى الآخرة عذاب النار الموقدة كفاء ما اكتسبوا من اللذات ، وانجذبوا إليه من الشهوات ، وغفلوا عن جمال هذه العوالم التي لم يعرفوا منها إلا شهواتهم ، أما عقولهم فقد احتجبت عنها.
والخلاصة - إن السماء قد أضاءت على البر والفاجر ، فالفجار حصروا أنفسهم فى شهواتهم ، فلم ينظروا إليها نظر فكر وعقل ، بل نظروا إليها باعتبار أن بها تقوم(29/8)
ج 29 ، ص : 9
حياتهم ، وهؤلاء أعتدنا لهم عذاب السعير فى الآخرة ، لأن هذا يشاكل حالهم فى الدنيا ، إذ هم فيها قد حبسوا أنفسهم فى نيران البخل والحقد والطمع ، فتحولت إلى نار مبصرة يرون عذابها فى الآخرة.
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
شرح المفردات
ألقوا فيها : أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب فى النار ، والشهيق : تنفس كتنفس المتغيظ قاله المبرّد ، تفور : أي تغلى بهم كغلى المرجل قاله ابن عباس ، وقال الليث : كل شىء جاش فقد فار كفور القدر والماء من العين ، تميز : أي ينفصل بعضها من بعض ، والغيظ : شدة الغضب قاله الراغب ، فوج : أي جماعة ، خزنتها : واحدها خازن ، وهم مالك وأعوانه ، نذير : أي رسول ينذركم بأس اللّه وشديد عقابه ، إن أنتم : أي ما أنتم ، ضلال كبير : أي ضلال بعيد عن الحق والصواب ، فسحقا لهم : أي فبعدا لهم من رحمة ربهم.(29/9)
ج 29 ، ص : 10
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن شياطين الإنس والجن قد أعدّ لهم عذاب السعير ، أردف ذلك ببيان أن هذه النار قد أعدها لكل جاحد بوحدانيته ، مكذب برسله ، منكر للبعث واليوم الآخر ، ثم وصف هذه النار بأوصاف تشيب من هولها الولدان ، وتصطك لسماعها الأسنان ، منها :
(1) أنه يسمع لها شهيق حين يلقى الكافرون فيها.
(2) أنها تفوز بهم كما يفور ما فى المرجل حين يغلى.
(3) أنها تكون شديدة الغيظ والحنق على من فيها.
(4) أن خزنتها يسألون داخليها : ألم تأتكم الرسل فتبعدكم عن هذا العذاب ؟
(5) أن أهلها يعترفون بأن اللّه ما عذبهم ظلما ، بل قد جاءهم الرسل فكذبوهم وقالوا لهم : أنتم فى ضلال بعيد.
(6) دعاء الملائكة عليهم بالبعد من رحمة اللّه وألطافه ، وكرمه وإحسانه.
الإيضاح
(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي قد سبق قضاؤنا ، وجرت سنتنا أن من أشرك بنا ، وكذب رسلنا ، فقد استحق عذاب جهنم ، وبئس المآل والمنقلب.
ثم ذكر فظائع أحوال هذه النار فقال :
(إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) أي إذا طرح المجرمون فيها سمعوا لها صياحا وصوتا كصوت المتغيظ من شدة الغضب ، وهى تغلى بهم كغلى المرجل بما فيه :
(تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يقال فلان يتميز غيظا ، ويتعصف غيظا وغضبا(29/10)
ج 29 ، ص : 11
فطارت منه شعلة فى الأرض وشعلة فى السماء ، إذا وصفوه بالإفراط فى الغضب ، من قبل أن الغضب إنما يحدث حين غليان دم القلب ، والدم حين الغليان يأخذ حجما أكبر من حجمه ، فتتمدد الأوعية الدموية فى البدن ، وكلما كان الغضب أشد كان تمددها أكثر حتى تكاد تتقطع وينفصل بعضها من بعض.
ثم بين سبحانه عدله فى خلقه وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة وإرسال الرسول إليه فقال :
(كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ ) أي كلما طرح فى جهنم جماعة من الكفار سألهم مالك وأعوانه من الزبانية سؤال تقريع وتوبيخ : هل أتتكم رسل من ربكم تنذركم شديد بأسه ، وعظيم عقابه لمن عصاه وخالف أمره.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » .
حينئذ يجيبهم هؤلاء مع التحسر على ما فات والندم على ما كان.
(قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) أي بلى جاءنا الرسول وأنذرنا فكذبناه وقلنا له : إن اللّه لم يوح إليك بشىء ولم يبعثك رسولا ، وما أنت إلا بشر مثلنا ، فما أنت فيما تدّعى إلا مجانف للحق ، بعيد عن جادّة الصدق.
ونحو الآية قوله تعالى : « حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ؟ قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ » .
ثم عادوا على أنفسهم بالملامة ، وندموا حيث لا ينفع الندم فقالوا :
(وَقالُوا : لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي وقالوا : لو كانت لنا عقول ننتفع بها ، أو آذان تسمع ما أنزل اللّه من الحق ، ما كنا على ما نحن عليه من الكفر باللّه ، والاغترار باللذات التي كنا منهمكين بها فى دنيانا ، فبؤنا بسخط ربنا وغضبه ، وحلّ بنا عقابه الأليم.(29/11)
ج 29 ، ص : 12
وقد نفوا عن أنفسهم السماع والعقل ، تنزيلا لما عندهم منهما منزلة العدم ، حين لم ينتفعوا بهما.
وقصارى ما سلف - إنهم قالوا : لو كنا سمعنا كلام النذير وقبلناه ، اعتمادا على ما لاح من صدقه ، وفكرنا فيه تفكير المستبصر ، وعملنا به ما كنا فى زمرة المعذّبين.
ولكن هيهات هيهات ، فلا يجدى الاعتراف بالذنب ، ولا يفيد الندم ، فقد فات أوانه ، وسبق ما حمّ به القضاء.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ فى الضّرع ما قرى فى الحلاب
ومن ثم أحل بهم سبحانه نقمته فقال :
(فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي فاعترفوا بما كان منهم من تكذيب الرسل ، وأنّى يفيدهم ذلك ؟ فبعدا لهم من رحمتى ، جحدوا أو اعترفوا ، فهو ليس بمغن عنهم شيئا ، فقد وقعت الواقعة ، وحل بهم من بأسى ما ليس له من دافع.
روى أحمد عن أبى البحتري الطائي قال : أخبرنى من سمعه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم » ،
وجاء
فى حديث آخر : « لا يدخل أحد النار إلا وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة » .
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 15]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)(29/12)
ج 29 ، ص : 13
شرح المفردات
بالغيب : أي غائبين عن أعين الناس ، بذات الصدور : أي بما فى النفوس ، واللطيف : هو العالم بالأشياء التي يخفى علمها على العالمين ، ومن ثم يقال : إن لطف اللّه بعباده عجيب ، ويراد به دقائق تدبيره لهم ، الخبير : أي بظواهر الأشياء وبواطنها ، ذلولا : أي سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وفيما فيها ، والمناكب : واحدها منكب ، وهو مجتمع ما بين العضد والكتف ، والمراد طرقها وفجاجها ، النشور : أي المرجع بعد البعث.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكفار بما أوعد ، وبالغ فى ترهيبهم بما بالغ - وعد المؤمنين بالمغفرة والأجر الكريم ، ثم عاد إلى تهديد الكافرين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السر والعلن ، وأقام الدليل على ذلك بأنه هو الخالق ، فلا يخفى عليه شىء من أمرهم ، بل يصل علمه إلى ظواهر أمورهم وبواطنها ، ثم عدد نعماءه عليهم ، فذكر أنه عبّد لهم الأرض وذللها لهم ، وهيأ لهم فيها منافع من زروع وثمار ومعادن ، فليتمتعوا بما أوتوا ثم إلى ربهم مرجعهم ، وإليه بعثهم ونشورهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي إن الذين يخافون مقام ربهم فيما بينهم وبينه إذا كانوا غائبين عن أعين الناس ، فيكفون أنفسهم عن المعاصي ، ويقومون بطاعته حيث لا يراهم إلا هو ، مراقبين له فى السر والعلن ، واضعين نصب أعينهم ما
جاء فى الحديث : « اعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
يكفر عنهم ما ألمّوا به من الذنوب والآثام ، ويحزيهم جزيل(29/13)
ج 29 ، ص : 14
الثواب ، ويدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كفاء ما أسلفوا فى الأيام الخالية.
وقد ورد فى الحديث : « سبعة يظلهم اللّه فى ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله - وذكر منهم : ورجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنى أخاف اللّه ، ورجلا تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » .
ثم نبه إلى أنه مطلع على السرائر فقال :
(وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إن عملكم وقولكم على أىّ سبيل وجد فاللّه عليم به ، فدوموا أيها الخاشعون على خشيتكم ، وأنيبوا أيها المفترون إلى ربكم ، وكونوا على حذر من أمركم.
روى عن ابن عباس أنه قال : « كان المشركون ينالون من النبي صلى اللّه عليه وسلم فيوحى إليه بما قالوا فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كيلا يسمع ربّ محمد فنزلت الآية » .
وقدم السر على الجهر للايذان بافتضاح أمرهم ووقوع ما يحذرون على كل حال أسروا أو جهروا ، ولأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة الجهر فما من شىء يجهر به إلا وهو أو مبادئه مضمر فى النفس.
وقوله « إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » كالعلة والسبب لما قبله.
والخلاصة - إنه تعالى محيط بمضمرات النفوس وأسرارها الخفية المستكنة فى الصدور ، فكيف لا يعلم ما تسرون وما تجهرون به ؟ .
ثم نصب الأدلة على إحاطة علمه بجميع الأشياء فقال :
(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أي كيف لا يعلم السر والجهر من أوجد بحكمته ، وواسع علمه ، وعظيم قدرته ، جميع الأشياء وهو النافذ علمه إلى ما ظهر منها وما بطن.
وكأنه سبحانه يقول : ألا يعلم سركم وجهركم ، من يعلم الدقائق والخفايا ، جملها وتفاصيلها ؟ .(29/14)
ج 29 ، ص : 15
ثم نبه إلى نعمه على عباده فقال :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) أي إن ربكم هو الذي سخر لكم الأرض وذللها لكم ، فجعلها قارّة ساكنة ، لا تميد ولا تضطرب بما جعل فيها من الجبال ، وأوجد فيها من العيون ، لسقيكم وسقى أنعامكم وزروعكم وثماركم ، وسلك فيها السبل ، فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا فى أرجائها ، لأنواع المكاسب والتجارات ، وكلوا مما أوجده لكم فيها بفضله من واسع الأرزاق - والسعى فى الأرزاق لا ينافى التوكل على اللّه.
روى أحمد عن عمر بن الخطاب أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « لو أنكم توكلتم على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير. تغدو خماصا ، وتروح بطانا »
فأثبت لها غدوّا ورواحا لطلب الرزق مع توكلها على اللّه عز وجل وهو المسخّر الميسر المسبّب.
وأخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرّة قال : « مرّ عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه بقوم فقال : من أنتم ؟ فقالوا : المتوكلون ، قال : بل أنتم المتأكلون ، إنما المتوكل رجل ألقى حبه فى بطن الأرض وتوكل على اللّه عز وجل » .
وجاء فى الأثر : « إن اللّه يحب العبد المؤمن المحترف » .
وفى الآية إيماء إلى ندب التجارة والتكسب بجميع ضروبه ، وفيها تهديد للكافرين كأنه قال لهم : إنى عالم بسركم وجهركم ، فاحترسوا من عقابى ، فهذه الأرض التي تمشون فى مناكبها ، أنا الذي ذللتها لكم ، وجعلتها سببا لنفعكم ، وإن شئت خسفتها بكم ، وأنزلت عليها ألوانا من المحن والبلاء.
(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي وإليه المرجع يوم القيامة ، فينبغى أن تعلموا أن مكثكم فى الأرض ، وأكلكم مما رزقكم اللّه فيها ، مكث من يعلم أن مرجعه إلى اللّه ، ويستيقن أن مصيره إليه ، فاحذروا الكفر والمعاصي فى السر والعلن.(29/15)
ج 29 ، ص : 16
[سورة الملك (67) : الآيات 16 الى 19]
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
شرح المفردات
الأمن : ضد الخوف ، من فى السماء : هو ربكم الأعلى ، وخسف اللّه به الأرض غيّبه فيها ، ومنه قوله : « فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ » وتمور : أي تهتز وتضطرب حاصبا : أي ريحا شديدة فيها حصباء تهلككم ، نذير : أي إنذارى وتخويفى ، نكير : أي إنكارى عليهم بإنزال العذاب بهم ، صافّات : أي باسطات أجنحتهن فى الجوّ حين طيرانها تارة ، ويقبضن : أي ويضممنها تارة أخرى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعده للكافرين من نار تلظى ، ووصف هذه النار بما تشيب من هوله الولدان - أردف ذلك بترهيبهم وتخويفهم بأنهم لا يأمنون أن يحل بهم فى الدنيا مثل ما حل بالمكذبين بالرسل من قبلهم : من خسف عاجل تمور به الأرض مورا ، أو ريح حاصب تهلك الحرث والنسل ، ولا تبقى منهم ديّارا ولا نافخ نار ثم ضرب لهم المثل بما حل بالأمم قبلهم من ضروب المحن والبلاء ، فقد أهلكت ثمود بصاعقة لم تبق ولم تذر ، وأهلكت عاد بالريح الصرصر العاتية التي سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما - متتابعة - وأهلك فرعون وقومه بالغرق فى بحر القلزم (البحر الأحمر) ثم لفت أنظارهم إلى باهر قدرته ، وعظيم منّته على عباده ، فطلب منهم(29/16)
ج 29 ، ص : 17
أن يروا الطير وهى تبسط أجنحتها فى الجو تارة ، وتضمها أخرى بتسخير اللّه وتعليمه ما هى فى حاجة إليه.
الإيضاح
(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) أيء أمنتم أن يخسف ربكم بكم الأرض كما خسفها بقارون ، فإذا هى تتحرك بكم حين الخسف ، وتبتلعكم وتمور فوقكم جيئة وذهابا.
ثم انتقل من الوعيد بهذا إلى الوعيد بوجه آخر فقال :
(أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي بل أمنتم أن يرسل عليكم ريحا فيها حصباء (حجارة صغار) كما فعل بقوم لوط ، وحينئذ تعلمون كيف يكون عقابى إذا شاهدتموه ، ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ.
والخلاصة - كيف تأمنون من فى السماء أن يصب عليكم العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، وقد ذلل لكم الأرض ، وزين لكم السماء بمصابيح ، فإذا لم تشكروا النعم ، فأنتم حريّون بأن يرسل عليكم النقم.
ونحو الآية قوله تعالى : « قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ » وقوله : « أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا » .
ثم لفت أنظارهم إلى ما حل بالأمم قبلهم ، لعله يكون فيه مزدجر لهم فقال :
(وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كذب من قبلهم من الأمم السالفة والقرون الغابرة من أرسلناهم من رسلنا فحاق بهم من سوء العذاب ما لا مردّ له ، وحل بهم من البأس ما لم يجدوا له دافعا على شدة هو له وعظيم فظاعته.
والخلاصة - إن الكفار قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم ،(29/17)
ج 29 ، ص : 18
وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ، ثم ذكر الدلائل على قدرته على إيصال أنواع العذاب بهم فقال :
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) أي أغفلوا عن قدرتنا ولم ينظروا إلى الطير فوقهم وهى باسطات أجنحتهن فى الجو حين طيرانها تارة ، وقابضات لها أخرى ، وما يمسكهن فى الجو حين الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إلا واسع رحمة من برأهن على أشكال وخصائص هو العليم بها ، وألهمهن حركات تساعد على الجري فى الهواء المسافات البعيدة لتحصيل أقواتهن ، والبحث عن أرزاقهن ؟ .
ثم بين غلة هذا فقال :
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي إنه سبحانه عليم بدقيق الأشياء وجليلها ، فيعلم كيف يبدع خلقها على السنن التي هو عليم بفائدتها لعباده.
والخلاصة - إنكم رأيتم بعض العجائب التي أبرزناها ، والحكم التي أظهرناها فهل أنتم آمنون أن ندبر بحكمتنا عذابا نصبّه عليكم صبّا ، ولا معقّب لحكمنا ، ولا دافع لقضائنا.
[سورة الملك (67) : الآيات 20 الى 27]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)(29/18)
ج 29 ، ص : 19
شرح المفردات
جند : أي عون ، ينصركم : أي يساعدكم فيدفع العذاب عنكم ، من دون الرحمن : أي من غيره ، فى غرور : أي فى خداع من الشيطان الذي يغركم بأن لا عذاب ولا حساب ، أمسك رزقه : أي بإمساك المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق ، لجّوا : أي تمادوا ، فى عتوّ : أي تكبر وعناد عن قبول الحق ، ونفور :
أي إعراض وتباعد منه ، مكبّا على وجهه : أي واقعا عليه ، سويا : أي معتدلا منتصبا ، والأفئدة : العقول واحدها فؤاد ، ذرأكم : أي خلقكم ، الوعد : أي الحشر الموعود ، إنما العلم : أي العلم بوقته ، زلفة : أي مزدلفا قريبا ، سيئت وجوه الذين كفروا : أي تبين فيها السوء والقبح إذ علتها الكآبة والقترة ، ويقال : ساء الشيء يسوء إذا قبح ، تدّعون : أي تطلبونه وتستعجلونه استهزاء وإنكارا
المعنى الجملي
بعد أن أبان للمشركين عجائب قدرته فيما يشاهدونه من أحوال الطير ، ووبخهم على ترك التأمل فيها - أردفه بتوبيخهم على عبادتهم غيره تعالى يبتغون منه نصرا ورزقا ، منكرا عليهم ما اعتقدوه ، مبينا لهم أنهم لا يصلون إلى ما أمّلوه ، وإلا فليبينوا هذا الناصر والمعين والرازق إذا هو أمسك رزقه.
أما وقد وضح الحق لذى عينين فهم فى لجاج وعناد بعد وضوح الحجة وتبين المحجة ، ثم ضرب مثلا يبين حالى المشرك والموحّد ، فمثّل حال الأول بحال من يمشى(29/19)
ج 29 ، ص : 20
منحنيا إلى الأمام على وجهه ، فلا يدرى أين يسلك ، ولا كيف يذهب ، فيكون حائرا ضالا ، ومثّل حال الثاني بحال من يمشى منتصب القامة على الطريق الواضح ، فيرى ما أمامه ويهتدى إلى ما يريد.
ثم أعقب هذا بذكر الدلائل على تفرده بالألوهية بذكر خلق الإنسان فى الأرض وإعطائه نعمة السمع والبصر ، وأرشد إلى أن القليل من الناس شكور لهذه النعم.
ثم أردف هذا بذكر سؤال المشركين للرسول عن ميقات البعث استهزاء به ، وإجابته إياهم بأن علمه عند اللّه وليس له من علمه شىء ، وإنما هو نذير مبين ، وذكر أنه حين تقوم القيامة ويعرف المشركون قرب وقوع ما كانوا ينكرون تعلو وجوههم غبرة ، ترهقها قترة ، ويقال لهم : إن ما كنتم تستعجلون قد وقع ولا مردّ له ، فماذا أنتم فاعلون ؟ .
الإيضاح
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ ؟ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي بل من هذا الذي يعينكم فى دفع العذاب عنكم إذا أراد بكم سوءا ؟
فما أنتم فى زعمكم أنكم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتكم لا بحفظ اللّه لكم إلا فى ضلال مبين ، وقد أغواكم الشيطان ، وغركم بهذه الأمانى الباطلة.
وفى قوله : (مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) إشارة إلى أنه برحمته أبقى الناس فى الأرض مع ظلمهم وجهالتهم ، إذ رحمته وسعت كل شىء ، فوسعت البرّ والفاجر ، والطير فى السماء ، والأنعام فى الأرض.
ثم انتقل من توبيخهم على دعوى ناصر سواه إلى توبيخهم على دعوى رازق غيره فقال :
(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ؟ ) أي بل من ذا الذي يرزقكم إن(29/20)
ج 29 ، ص : 21
منع ربكم عنكم أسباب رزقه من الأمطار وغيرها ، أو وقف الهواء فلم تجر الرياح ، أو جعل ماء البحر غورا ؟
والخلاصة - إنه لا جند لكم ينصركم إن هو عذبكم ، ولا رازق يرزقكم إن هو حرمكم أرزاقكم.
وبعد أن حصحص الحق قال مبينا عتوهم وطغيانهم :
(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي إنهم يعلمون ذلك حق العلم ويعبدون غيره ، فما هذا منهم إلا عناد واستكبار ونفور عن قبول الحق ، وما جرأهم على هذا إلا الشيطان الذي غرهم بوسوسته ، فظنوا أن آلهتهم تنفعهم وتدفع الضر عنهم وتقرّبهم إلى ربهم زلفى.
ثم ضرب مثلا يبين به الفارق بين حالى المشرك والموحد ، جعل فيه المعقول بصورة المحسوس ، ليكون أبين للحجة ، وأوضح لطريق المحجة فقال :
(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ؟ ) أي أ فمن يمشى وهو يتعثر فى كل ساعة ، ويخر على وجهه فى كل خطوة ، لتوعر طريقه ، واختلاف أجزائها انخفاضا وارتفاعا - أهدى سبيلا وأرشد إلى المقصد الذي فؤمه ، أم من يمشى سالما من التخبط والعثار على الطريق السوىّ الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ؟ - فهذا المكب على وجهه هو المشرك الذي يمشى على وجهه فى النار يوم القيامة ، والذي يمشى سويا هو الموحد الذي يحشر على قدميه إلى الجنة.
وبعد أن امتنّ على عباده بما آتاهم من زينة السماء ، وتذليل الأرض ، وإمساك الطير فى الهواء - أخذ يذكر ما هو أقرب إلينا وهو خلق أنفسنا فقال آمرا رسوله أن يبين لهم ذلك :
(قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي قل لهم :
إن ربكم هو الذي برأكم وجعل لكم السمع لتسمعوا به المواعظ ، والأبصار لتنظروا(29/21)
ج 29 ، ص : 22
بها بدائع صنع الخالق ، والأفئدة لتتفكروا فى كل هذا ، وتستفيدوا منه الفوائد العقلية والمادية.
ثم أبان أن الإنسان لنعمة ربه لكنود فقال :
(قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم بها ربكم عليكم فى طاعته ، وامتثال أوامره ، وترك زواجره ، وذلك هو شكرانها.
ثم لخص هذا كله بقوله آمرا رسوله :
(قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم منبها إلى خطئهم : إن ربكم هو الذي برأكم فى الأرض وبعثكم فى أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، ثم يجمعكم كما فرقكم ، ويعيدكم كما بدأكم للحساب والجزاء ، فيجزى كل نفس بما كسبت ، إنه سريع الحساب.
وبعد أن ذكر أن إليه المرجع والمآب - أردفه بذكر مقالة الكافرين المنكرين لذلك فقال :
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويسألون الرسول استهزاء وتهكما : متى يقع ما تعدنا به من الخسف والحاصب فى الدنيا ، والحشر والعذاب فى الآخرة إن كنت صادقا فيما تدعى وتقول ؟
فأمر رسوله أن يجيبهم بأن علم ذلك عند بارئ النسم فقال :
(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي إنما علم ذلك على وجه التعيين عند ربى لا يعلمه إلا هو ، وقد أمرنى أن أخبركم بأن ذلك كائن لا محالة فاحذروه.
ونحو الآية قوله : « إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي » .
ثم بين وظيفة الرسول فقال :
(وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما أنا منذر من عند ربى أبين لكم شرائعه ، ما حلل منها وما حرم ، لتكونوا على بينة من أمركم ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم.(29/22)
ج 29 ، ص : 23
ثم بين حالهم حين نزول ذلك الوعد الموعود فقال :
(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي فلما رأوا العذاب الموعود قريبا « وكل آت قريب وإن طال زمنه » ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والخسران ، وغشيتها القترة والسواد ، إذ جاءهم من أمر اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ : هذا الذي كنتم تستعجلون وقوعه وتقولون لرسوله : « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » .
ونحو الآية قوله : « وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ. وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ » .
[سورة الملك (67) : الآيات 28 الى 30]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
شرح المفردات
أرأيتم : أي أخبرونى ، غورا : أي غائرا فى الأرض لا تناله الدلاء ، معين : أي جار سهل المأخذ تصل إليه الأيدى.
المعنى الجملي
روى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك كما حكى اللّه عنهم فى آية أخرى بقوله : « أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ » وقوله : « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى(29/23)
ج 29 ، ص : 24
أَهْلِيهِمْ أَبَداً »
فنزلت الآية ، ثم أمره أن يقول لهم : إن هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب اللّه ، ثم أمره أن يقول لهم : إنا آمنا بربنا وتوكلنا عليه ، وستعلمون غدا من الهالك ؟ ثم أمره أن يقول لهم : إن غار ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء ، فمن يأتيكم بماء عذب زلال تشربونه ؟
الإيضاح
أجاب سبحانه عن تمنى المشركين موته صلى اللّه عليه وسلم ومن معه بوجهين :
(ا) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي قل لهم موبخا : أخبرونى عن فائدة موتى لكم : سواء أماتنى اللّه ومن معى ، أو أخر أجلنا فأى راحة لكم فى ذلك ، وأي منفعة لكم فيه ، ومن ذا الذي يجيركم من عذاب اللّه إذا نزل بكم ، أ تظنون أن الأصنام أو غيرها تجيركم وهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب ، فتقروا بالتوحيد والنبوة والبعث ؟ .
وخلاصة هذا - إنه لا مجير لكم من عذاب اللّه بسبب كفركم الموجب لهذا العذاب - سواء هلكنا كما تتمنون ففزنا برحمة اللّه ، أو انتصرنا عليكم ورفعنا شأن الإسلام كما نرجو ، فكلا الأمرين فيه ظفر بما ينبغى ، ونيل لما نحب ونهوى.
وفى هذا إيماء إلى أمرين :
(1) حثهم على طلب الخلاص بالإيمان الخالص للّه والإخبات إليه.
(2) إنه كان ينبغى أن يكون ما هم فيه شاغلا لهم عن تمنى هلاك النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن معه من المؤمنين.
(ب) (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل لهم : آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم ، وعليه توكلنا فى جميع أمورنا كما قال : « فاعبده وتوكّل عليه » وهو سيجيرنا من عذاب الآخرة.
وفى هذا تعريض بهم حيث اتكلوا على أولادهم وأموالهم « وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ(29/24)
ج 29 ، ص : 25
أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ »
وإشارة إلى أنهم لا يرحمون فى الدارين ، لأنهم كفروا باللّه وتوكلوا على غيره.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما قبله فقال :
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي فسيستبين لكم من الضالّ منا ومن المهتدى. ولمن تكون العاقبة فى الدنيا والآخرة ؟ .
ولما ذكر أنه يجب التوكل عليه لا على غيره أقام الدليل على ذلك فقال آمرا رسوله أن يقول لهم.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهم : أخبرونى إن ذهب ماؤكم فى الأرض ولم تصل إليه الدلاء ، فمن يأتيكم بماء جار تشربونه عذبا زلالا. ولا جواب لكم إلا أن تقولوا هو اللّه ، وإذا فلم تجعلون ما لا يقدر على شىء شريكا فى العبادة لمن هو قادر على كل شىء.
وفى هذا طلب إقرار منهم ببعض نعمه ، ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر.
وقصارى ذلك - إنه تعالى فضلا منه وكرما أنبع لكم المياه وأجراها فى سائر الأقطار بحسب حاجتكم إليها قلة وكثرة ، فله الحمد والمنة وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما حوته السورة من موضوعات
(1) وصف السموات (2) بيان أن نظام العالم لا عوج فيه ولا اختلاف.
(3) وصف عذاب الكافرين فى الدنيا والآخرة.
(4) التذكير بخلق الإنسان ورزقه وأشباه ذلك.(29/25)
ج 29 ، ص : 26
سورة القلم
هى مكية إلا من آية 17 إلى 33 ، ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية.
وعدد آيها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد العلق.
وهى من أوائل ما نزل من القرآن بمكة ، فقد نزلت : « اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ » ثم هذه ، ثم المزمل ، ثم المدثر كما روى عن ابن عباس.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) إنه ذكر فى آخر (الملك) تهديد المشركين بتغوير الأرض ، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك وهو ثمر البستان الذي طاف عليه طائف فأهلكه وأهلك أهله وهم نائمون.
(2) إنه ذكر فيما قبل أحوال السعداء والأشقياء ، وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع ، وأنه لو شاء لخسف بهم الأرض أو أرسل عليهم حاصبا ، وكان ما أخبربه هو ما أوحى به إلى رسوله ، وكان المشركون ينسبونه فى ذلك مرة إلى الشعر وأخرى إلى السحر وثالثة إلى الجنون - فبرأه اللّه فى هذه السورة مما نسبوه إليه ، وأعظم أجره على صبره على أذاهم وأثنى على خلقه.
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)(29/26)
ج 29 ، ص : 27
شرح المفردات
يسطرون : أي يكتبون ، ممنون : أي مقطوع يقال منّه السير إذا أضعفه ، والمنين : الضعيف ، المفتون : المجنون لأنه فتن ، أي ابتلى بالجنون.
المعنى الجملي
أقسم ربنا بالقلم وما يسطّر به من الكتب : إن محمدا الذي أنعم عليه بنعمة النبوة ليس بالمجنون كما تدّعون ، وكيف يكون مجنونا والكتب والأقلام أعدت لكتابة ما ينزل عليه من الوحى.
وقد أقسم سبحانه بالقلم والكتب فتحا لباب التعليم بهما ، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام فإذا أقسم بالشمس والقمر ، والليل والفجر فإنما ذلك لعظمة الخلق وجمال الصنع ، وإذا أقسم بالقلم والكتب فإنما ذاك ليعمّ العلم والعرفان ، وبه تتهذب النفوس ، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية ، ونكون كما وصف اللّه « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ثم وعد رسوله بما سيكون له من جزيل الأجر على صبره على احتمال أذى المشركين ، وأردف هذا بوصفه بحسن الخلق ورفقه بالناس امتثالا لأمره « خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » قالت عائشة رضى اللّه عنها : كان خلقه القرآن.
ثم هدد المشركين وتوعدهم بما سيتبين لهم من عاقبة أمره وأمرهم ، وأنه سيكون العزيز المهيب فى القلوب وسيكونون الأذلاء ، وأنه سيستولى عليهم ويأسر فريقا ويقتل آخر ، وسيعلمون حينئذ من المجنون ؟ واللّه هو العليم بالمجانين الذين ضلوا عن سبيله ، والعقلاء الذين اهتدوا بهديه.(29/27)
ج 29 ، ص : 28
الإيضاح
(ن) تقدم أن قلنا غير مرة إن أرجح الآراء فى معنى الحروف المقطعة التي وقعت فى أوائل السور أنها حروف تنبيه نحو ألا ، وأما.
(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي أقسم بالقلم وما يكتب به من الكتب.
ثم ذكر المقسم عليه فقال :
(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي إنك لست بالمجنون كما يزعمون ، فقد أنعم اللّه عليك بالنبوة وحصافة العقل وحسن الخلق.
ثم بين بعض نعمه عليه فقال :
(1) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي وإن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على الأذى ومقاساة الشدائد.
(2) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد برأك اللّه على الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق كريم.
روى الشيخان عن أنس خادم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : « خدمت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عشر سنين فما قال لى أفّ قط ولا قال لشىء فعلته لم فعلته ؟ ولا لشىء لم أفعله ألّا فعلته ؟ » .
وروى أحمد عن عائشة قالت : « ما ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد فى سبيل اللّه ولا خيّر بين شيئين قط إلا كان أحبّهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شىء يؤتى إليه إلا أن تنتهك حرمات اللّه » .(29/28)
ج 29 ، ص : 29
وفى الآية رمز إلى أن الأخلاق الحسنة لا تكون مع الجنون ، وكلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد من الجنون.
ثم توعدهم بما يحل بهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة فقال :
(فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ؟ ) أي فستعلم أيها الرسول وسيعلم مكذبوك من المفتون الضال منكم ومنهم ؟
ونحو الآية قوله تعالى : « سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ » وقوله :
« وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ » .
والخلاصة - ستبصر ويبصرون غلبة الإسلام واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر وهيبتك فى أعين الناس أجمعين ، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.
وهذا يشمل ما كان فى بدر وغيرها من الوقائع التي كان فيها النصر المبين للمؤمنين ، والخزي والهوان وذهاب صولة المشركين مما كان عبرة ومثلا للآخرين.
ثم أكد ما تضمنه الكلام السابق من الوعد والوعيد فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي إن ربك سبحانه هو أعلم بمن حاد عن الطريق السوىّ المؤدى إلى سعادة الدارين ، وهام فى تيه الضلالة ، فلا يفرق بين ما ينفع وما يضر ، بل يحسب الضر نفعا والنفع ضرا ، وأعلم بالمهتدين إلى سبيله ، الفائزين بكل مطلوب ، الناجين من كل محذور ، ويجازى كلّا من الفريقين بحسب ما يستحقون من العقاب والثواب.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 16]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)(29/29)
ج 29 ، ص : 30
شرح المفردات
قال الليث : الإدهان : اللين والمصانعة والمقاربة فى الكلام ، وقال المبرد : يقال داهن الرجل فى دينه وداهن فى أمره إذا أظهر خلاف ما يضمر ، والحلّاف : كثير الحلف فى الحق والباطل ، والمهين : المحتقر الرأى والتمييز ، والهماز : العياب الطعّان ، والمشاء بالنميم : أي الذي يمشى بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم ، والمنّاع للخير : البخيل ، والمعتدى : الذي يتجاوز الحق ويسير فى الباطل ، والأثيم : الكثير الآثام والذنوب ، والعتلّ : الشديد الخصومة الفظّ الغليظ ، والزنيم : الذي يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها (الجزء المسترخى من أذنها حين تشق ويبقى كالشىء المعلق) سنسمه :
أي نجعل له سمة وعلامة ، والخرطوم : الأنف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة المشركين فى الرسول بنسبته إلى الجنون ، مع ما أنعم اللّه به عليه من الكمال فى الدين والخلق - أردفه مما يقوى قلبه ويدعوه إلى التشدد مع قومه ، مع قلة العدد وكثرة الكفار (إذ هذه السورة من أوائل ما نزل) فنهاه عن طاعتهم عامة ، ثم أعاد النهى عن طاعة المكذبين الذين اتصفوا بالأخلاق الذميمة التي ذكرت فى هذه الآيات خاصة ، دلالة على قبح سيرتهم ، وضعة نفوسهم ، وتدسيتهم لها بعظيم الذنوب والآثام.
الإيضاح
(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة المكذبين عامة وتشدد فى ذلك.
وفى هذا إيماء إلى النهى عن مداراتهم ومداهنتهم ، استجلابا لقلوبهم ، وجذبا لهم إلى اتباعه.(29/30)
ج 29 ، ص : 31
(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) أي ودّ المشركون لو تلين لهم فى دينك بالركون إلى آلهتهم ، فيدينون لك فى عبادة إلهك.
روى أن رؤساء مكة دعوة إلى دين آبائه فنهاه عن طاعتهم.
وخلاصة ذلك - ودوا لو تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم ، فيفعلون مثل ذلك ، ويتركون بعض ما لا ترضى ، فتلين لهم ويلينون لك ، وترك بعض الدين كله كفر بواح.
والمراد من هذا النهى التهييج والتشدد فى المخالفة والتصميم على معاداتهم.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا. إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ، ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً » .
ثم خص من هؤلاء المكذبين أصنافا هانت عليهم نفوسهم فأفسدوا فطرتها ، تشهيرا بهم فقال :
(1) (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) أي ولا تطع المكثار من الحلف بالحق وبالباطل.
والكاذب يتقى بأيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على اللّه - ضعفه ومهانته أمام الحق ، وفيه دليل على عدم استشعاره الخوف من اللّه.
والكذب أسّ كل شر ، ومصدر كل معصية ، وكفى مزجرة لمن اعتاد الحلف ، أن جعله الولي فاتحة المثالب ، وأسّ المعايب.
(2) (مَهِينٍ) أي محتقر الرأى والتفكير.
(3) (هَمَّازٍ) أي عيّاب طعّان يذكر الناس بالمكروه ، وينال من أعراضهم بذكر مثالبهم.
(4) (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
وأصل النميمة الحركة الخفيفة ومنه أسكت اللّه نأمنه أي ما ينمّ عليه من حركته.(29/31)
ج 29 ، ص : 32
(5) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي بخيل بماله ممسك له ، لا يجود به لدى البأساء والضراء فهو لا يدفع عوز المعوزين ، ولا يساعد المحتاجين البائسين ، ولا ينجد الأمة إذا حزبها الأمر ، وضاقت بها السبل ، كدفع عدوّ يهاجم البلاد ، أو دفع كارثة نزلت بها ، تحتاج إلى بذل المال.
(6) (مُعْتَدٍ) أي متجاوز لما حدّه اللّه من أوامر ونواه ، فهو يخوض فى الباطل خوضه فى الحق ، ولا يتحرّج عن ارتكاب المآثم والمظالم.
(7) (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام ديدنه ذلك ، فهو لا يبالى بما ارتكب ، ولا بما اجترح.
(8) (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ) أي وفوق ذلك هو فظ غليظ جاف ، يعامل الناس بالغلظة والفظاظة.
(9) (زَنِيمٍ) أي معروف بالشرور والآثام ، كما تعرف الشاة بالزنمة روى عن ابن عباس أنه قال : هو الرجل يمرّ على القوم فيقولون رجل سوء.
ثم ذكر بعض مار بما دعاه إلى طاعتهم فقال :
(أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) أي لا تطع من هذه مثالبه من جراء ماله ، وكثرة أولاده وتقوّيه بهم ، فإن ذلك لا يجديه نفعا عند ربه كما قال سبحانه : « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .
ثم ذكر سبب النهى عن طاعته فقال :
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إذا تلى عليه القرآن قال ما هو إلا من كلام البشر ، ومن قصص الأولين التي دوّنت فى الكتب ، وليس هو من عند اللّه.
ونجو الآية قوله تعالى : « ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا إِنَّهُ(29/32)
ج 29 ، ص : 33
كانَ لِآياتِنا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ »
.
وبعد أن ذكر قبائح أفعاله توعّده فقال :
(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد كما لا يخفى ذو السمة على الخرطوم.
وفى هذا إذلال ومهانة له ، لأن السمة على الوجه شين ، فما بالك بها فى أكرم موضع ، وهو الأنف الذي هو مكان العزّة والحميّة والأنفة ، ومن ثم قالوا : الأنف فى الأنف ، وقالوا حمى أنفه ، وقالوا : هو شامخ العرنين ، وعلى عكسه قالوا فى الذليل :
جدع أنفه ، ورغم أنفه ، قال جرير :
لمّا وضعت على الفرزدق ميسمى وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
وفى التعبير بلفظ (الخرطوم) استخفاف به ، لأنه لا يستعمل إلا فى الفيل والخنزير ، وفى استعمال أعضاء الحيوان للانسان كالمشفر للشفة ، والظّلف للقدم دلالة على التحقير كما لا يخفى.
والخلاصة - سنذله فى الدنيا غاية الإذلال ، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر ، ونسمه يوم القيامة على أنفه ، ليعرف بذلك كفره وانحطاط قدره.
[سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33]
إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)
أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)
عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)(29/33)
ج 29 ، ص : 34
شرح المفردات
بلوناهم : أي امتحناهم بألوان من البلاء والآفات ، والجنة : البستان ، ليصر منّها :
أي ليقطعنّ ثمار نخيلها ، مصبحين : أي وقت الصباح ، ولا يستثنون : أي ولا ينثنون عما همّوا به من منع المساكين ، فطاف عليها طائف من ربك : أي طرقها طارق من عذاب ربك ، إذ أرسل عليها صاعقة من السماء أحرقتها ، كالصريم : أي كالليل البهيم فى السواد بعد أن احترقت ، فتنادوا : أي نادى بعضهم بعضا ، أن اغدوا :
أي اخرجوا غدوة مبكّرين ، حرثكم : أي بستانكم ، صارمين : أي قاصدين الصّرم وقطع الثمار ، يتخافتون : أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة والمناجاة حتى لا يسمعهم أحد ، على حرد : أي على منع ، لضالون : أي قد ضللنا طريق جنتنا وما هذه هى ، محرومون : أي حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا ، أوسطهم : أي أرجحهم رأيا ، تسبحون : أي تذكرون اللّه وتشكرونه على ما أنعم به عليكم ، يتلاومون : أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين ، طاغين : أي متجاوزين حدود اللّه.(29/34)
ج 29 ، ص : 35
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن ذا المال والبنين كفر وعصى وتمرد لما آتاه اللّه من النعم - أردف هذا ببيان أن ما أوتيه إنما كان ابتلاء وامتحانا ليرى أ يصرف ذلك فى طاعة اللّه وشكره ، فيزيد له فى النعمة ، أم يكفر بها فيقطعها عنه ، ويصب عليه ألوان البلاء والعذاب ؟ كما أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعاصي دمّر اللّه جنتهم ، فما بالك بمن حادّ اللّه ورسوله وأصر على الكفر والمعصية.
روى أن هذه الجنة كانت على فرسخين من صنعاء بأرض اليمن لرجل صالح وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل ، وما فى أسفل الأكداس ، وما أخطأه القطاف من العنب ، وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت ، فكان يجتمع لهم من ذلك شىء كثير ، فلما مات الرجل قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ، ونحن أولو عيال ، فحلفوا ليصرمنّها وقت الصباح خفية عن المساكين فجازاهم اللّه بما يستحقون وأحرق جنتهم ، ولم يبق منها شيئا.
الإيضاح
(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي إنا امتحنا كفار مكة بما تظاهر عليهم من النعم والآلاء ، وما رحمناهم به من واسع العطاء ، لنرى حالهم ، أ يشكرون هذه النعم ويؤدون حقها ، وينيبون إلى ربهم ، ويتبعون الداعي لهم إلى سبيل الرشاد وهو الرسول صلى اللّه عليه وسلم الذي بعثناه لهم هاديا وبشيرا ونذيرا ، أم يكفرون به ويكذبونه ، فيجحدون حق اللّه عليهم ، فيبتليهم بعذاب من عنده ويبيد تلك النعم جزاء كفرانهم وجحودهم ، كما اختبرنا أصحاب ذلك البستان الذين منعوا حق اللّه فيه ، وعزموا على ألا يؤدوا زكاته لبائس ولا فقير ، فحق عليهم من الجزاء ما هم له أهل ، ودمره شر التدمير.(29/35)
ج 29 ، ص : 36
(إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي حين حلفوا ليجذّنّ ثمرها غدوة حتى لا يعلم بهم سائل ولا فقير ، فيتوافر لهم ما كان يأخذه هؤلاء الفقراء ، ولم ينثنوا عما همّوا به.
ثم أخبر عما جازاهم به لكفرانهم بهذه النعم ومنعهم حق الفقراء فقال :
(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي فطرق تلك الجنة طارق من أمر اللّه ليلا وهم نيام ، إذ أرسل عليها صاعقة فاحترقت وصارت تشبه الليل البهيم فى السواد.
أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إياكم والمعصية فإن العبد ليذنب الذنب الواحد فينسى به الباب من العلم ، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل ، وإن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيىء له ، ثم تلا : فطاف عليها طائف الآية ، قد حرموا خير جنتهم بذنبهم » .
وقد غفلوا عما قدر لهم فلم يدروا مما كان شيئا ، ومن ثم أرادوا تنفيذ ما عزموا عليه.
(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي فنادى بعضهم بعضا هلمّوا واذهبوا غدوة لقطع ثمار بستانكم إن كنتم فاعلين.
وقد أحكموا التدبير وأخفوا الأمر جدّ الخفية حتى لا يتسمع لهم أحد كما قال :
(فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي فمضوا إلى حرثهم يتسارّون ويقول بعضهم لبعض : لا تمكّنوا اليوم مسكينا من الدخول فيها.
(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وغدوا مصممين على منع المساكين وحرمانهم وهم قادرون على نفعهم ، فهم قد تعجلوا الحرمان وكان أولى بهم أن تكون هممهم متوجهة إلى النفع الذي هم قادرون عليه.(29/36)
ج 29 ، ص : 37
ولكن وا خيبة أملاه ، ووا ضياع مسعاهم ، ويا هول ما رأوه مما لا تصدقه العين ولا يخطر لهم ببال ، بستان كان بالأمس عامرا زاخرا بالخير والبركة أصبح قاعا صفصفا قد تغيرت معالمه ، ودرست رسومه ، حتى تشككوا فيه حين رأوه كما قال سبحانه :
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما صاروا إلى بستانهم ورأوه محترقا أنكروه وشكّوا فيه وقالوا : أ بستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ؟
ولكن بعد أن تبينت لهم معالمه واستيقنوها عادوا على أنفسهم بالملامة وقالوا :
(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لسنا بضالين ، بل نحن قد حرمنا خيره بجنايتنا على أنفسنا ، بشؤم عزمنا على البخل ومنع مساعدة البائسين والمعوزين ، وندموا على ما فرط منهم حيث لا ينفع الندم ، كما يرشد إلى ذلك قوله سبحانه حاكيا عنهم.
(قالَ أَوْسَطُهُمْ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي قال أرجحهم رأيا ، وأحسنهم تدبيرا : ألم أقل لكم : هلا تسبحون اللّه وتشكرونه على ما أولاكم من النعم ، فتؤدوا حق البائس الفقير ، ليبارك لكم فيما أنعم وتفضل ، لكنكم أعرضتم عما أدليت لكم به من الرأى وضربتم به عرض الحائط.
وبعد اللّتيا والتي ، وبعد ضياع الفرصة تبين لهم خطأ ما كانوا عزموا عليه ، واعترفوا بذنوبهم كما حكى عنهم سبحانه بقوله :
(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا) أي تنزيها لربنا أن يكون ظالما فيما صنع بجنتنا.
ثم أكدوا ندمهم واعترافهم بالذنب تحقيقا لتوبتهم وهضما لأنفسهم فقالوا :
(إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لأنفسنا بحرماننا البائس الفقير ، ولكن هيهات فقد ضاعت الفرصة ، وحل مكانها الغصّة ، وهكذا شأن الإنسان.
وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره وتشاحنوا ، وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :(29/37)
ج 29 ، ص : 38
(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) فيقول هذا لهذا : أنت الذي أشرت علينا بهذا الرأى ، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي خوفتنا الفقر ، ويقول الثالث لغيره : أنت الذي رغبتنى فى جمع المال.
ثم نادوا على أنفسهم بالويل والثبور كما أشار إلى ذلك سبحانه حاكيا عنهم :
(قالُوا يا وَيْلَنا) أي قالوا : أقبل أيها الهلاك فلا نستحق غيرك ، ثم بينوا علة هذا الدعاء بقولهم.
(إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي إنا اعتدينا على ما حده اللّه لنا من الإحسان على الفقراء والمعوزين ، وتركنا الشكر على نعمه علينا.
ثم رجعوا إلى اللّه وسألوه أن يعوضهم خيرا من جنتهم فقالوا :
(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) أي لعل اللّه يعطينا بدلا هو خير منها ، بتوبتنا من زلاتنا ، ويكفر عنا سيئاتنا ، إنا راجون عفوه ، طالبون الخير منه.
روى عن مجاهد أنهم تابوا فأبدلهم اللّه خيرا منها.
(كَذلِكَ الْعَذابُ) أي وهكذا عذاب من خالف أمر اللّه وبخل بما آتاه وأنعم به عليه ومنع حق البائس الفقير.
وإذا كانت هذه حال من فعل الذنب اليسير كأصحاب الجنة ، فما بالكم بذنب من يعاند الرسول ويصرّ على الكفر والمعصية ؟ .
وبعد أن أبان لهم أن عذاب الدنيا كما سمعتم ورأيتم أشار إلى عذاب الآخرة فقال :
(وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن عذاب الآخرة أشد وأنكى من عذاب الدنيا ، فما عذاب هذه إلا هلاك الأموال والثمرات ، وعذاب تلك نار(29/38)
ج 29 ، ص : 39
وقودها الناس والحجارة ، فلو كانوا من ذوى العلم والمعرفة لارتدعوا عن غيّهم وثابوا إلى رشدهم.
وفى هذا نعى عليهم بالغفلة ، وأنهم ليسوا من أرباب النّهى والمعرفة.
[سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 43]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)
أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
شرح المفردات
تدرسون : أي تقرءون ، تخيرون : أي تختارون ، أيمان : أي عهود ، بالغة :
أي متناهية فى التوكيد موثّقة ، إلى يوم القيامة : أي ثابتة لكم علينا إلى هذا اليوم ، أيهم بذلك زعيم : أي أيهم كفيل بذلك الحكم وأن لهم فى الآخرة ما للمسلمين فيها ، كشف الساق : يراد به الشدة ، وقد كانوا إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق.
قد شمّرت عن ساقها فشدوا وجدّت الحرب بكم فجدّوا
روى عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية فقال : إذا خفى عليكم شىء من القرآن فابتغوه فى الشعر فإنه ديوان العرب. أما سمعتم قول الراجز :(29/39)
ج 29 ، ص : 40
صبرا عناق إنه شرّ باق
قد سن لى قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق
خاشعة أبصارهم : أي ذليلة ، سالمون : أي أصحاء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوه وخالفوا أمره - أعقب هذا ببيان أن لمن اتقاه وأطاعه جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفنى فى الدار الآخرة ، ثم ردّ على من قال من الكفار : إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد وصحبه ، لم يفضلونا بل نكون أحسن منهم حالا ، لأن من أحسن إلينا فى الدنيا يحسن إلينا فى الآخرة - بأنكم كيف تسوّون بين المطيع والعاصي فضلا عن أن تفضلوا العاصي عليه ، ثم أخذ يقطع عليهم الحجة فقال : أ تلقيتم كتابا من السماء فقرأتم فيه أنكم تختارون ما تشاءون ، وتكونون وأنتم مجرمون كالمسلمين الصالحين ، أم أعطينا كم عهودا أكدناها بالأيمان فاستوثقتم بها فهى ثابتة لكم إلى يوم القيامة ؟
أم لكم أناس يذهبون مذهبكم فى هذا القول ، وإن صح أن لكم ذلك فلتأتوا بهم يوم يشتد الأمر ، ويصعب الخطب. وتدعونهم حينئذ إلى السجود فلا يستطيعون ، وتكون أبصارهم خاشعة ذليلة ، وقد كانوا يدعون فى الدنيا إلى السجود وهم سالمون أصحاء ، فيأبون كل الإباء.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي طن لمن اتقوا ربهم فأدّوا فرائضه ، واجتنبوا نواهيه ، جنات ينعمون فيها النعيم الخالص الذي لا يشوبه كدر ينغصه كما يشوب جنات الدنيا.(29/40)
ج 29 ، ص : 41
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين : إن اللّه فضلنا عليكم فى الدنيا فلا بدّ أن يفضلنا عليكم فى الآخرة ، فإن لم يحصل التفضيل فلا أقل من المساواة ، فرد اللّه عليهم ما قالوا وأكد فوز المتقين بقوله :
(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ؟ ) أي أ فنحيف فى الحكم ونسوى بين هؤلاء وهؤلاء فى الجزاء ، كلا ورب الأرض والسماء.
ثم عجّب من حكمهم واستبعده ، وبين أنه لا يصدر من عاقل فقال :
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ ) أي ماذا حصل لكم من فساد الرأى وخبل العقل حتى قلتم ما قلتم ؟
ثم سدّ عليهم طريق القول ، وقطع عليهم كل حجة يستندون إليها فيما يدّعون فقال :
(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي أفبأيديكم كتاب نزل من السماء تدرسونه وتتداولونه ، ينقله الخلف عن السلف ، يتضمن حكما مؤكدا كما تدّعون ، أن لكم ما تختارون وتشتهون ، وأن الأمر مفوض إليكم لا إلى غيركم ؟
وخلاصة هذا - أفسدت عقولكم حتى حكمتم بهذا ، أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم ؟ .
(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أم معكم عهود منا مؤكدة لا نخرج من عهدتها إلى يوم القيامة أنه سيحصل لكم كل ما تهوون وتشتهون ؟ .
وخلاصة ذلك - أم أقسمنا لكم قسما إن لكم كل ما تحبون ؟ .
ثم طلب إلى رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يسألهم على طريق التوبيخ والتقريع فقال :(29/41)
ج 29 ، ص : 42
(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) الزعيم عند العرب الضامن والمتكلم عن القوم ، أي قل لهم من الكفيل بتنفيذ هذا ؟
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي أم لهم ناس يشاركونهم فى هذا الرأى ، وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين ؟ وإن كان كذلك فليأتوا بهم إن كانوا صادقين فى دعواهم.
وقصارى هذا الحجاج - نفى جميع ما يمكن أن يتعلقوا به فى تحقيق دعواهم ، فنبه أوّلا إلى نفى الدليل العقلي بقوله : « ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ » ثم إلى نفى الدليل النقلى بقوله : « أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ » ثم إلى نفى الوعد بذلك - ووعد الكريم دين عليه - بقوله : « أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا » ثم إلى نفى التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله : « أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ » .
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) أي فليأتوا بهؤلاء الشركاء ليعاونوهم إذا اشتد الهول وعظم الأمر يوم القيامة.
وحينئذ يدعى هؤلاء الشركاء إلى السجود توبيخا لهم على تركهم إياه فى الدنيا فلا يستطيعون ، فتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه فى الدنيا وهم سالمون أصحاء فلم يفعلوا.
(خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يدعون إلى السجود وتكون أبصارهم خاشعة وتغشاهم ذلة فى ذلك اليوم ، وقد كانوا فى الدنيا متكبرين متجبرين ، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه.
(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي إنهم لما دعوا إلى السجود فى الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامة أبدانهم ، عوقبوا فى الآخرة بعدم قدرتهم عليه ، فإذا تجلى الرب سجد له المؤمنون ، ولم يستطع أحد من الكافرين والمنافقين(29/42)
ج 29 ، ص : 43
أن يسجد ، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحد ، فكلما همّ بالسجود خرّ لقفاه بعكس السجود فى الدنيا.
وقال النخعي والشعبي : المراد بالسجود الصلوات المفروضة ، وقال آخرون : إن المراد جميع العبادات.
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
شرح المفردات
تقول : ذرنى وإياه : أي كله إلىّ فإنى أكفيكه ويقال استدرجه إلى كذا :
إذا استنزله إليه درجة فدرجة حتى يورّطه فيه ، وأملى لهم : أي أمهلهم وأطيل لهم المدة يقال أملى اللّه له : أي أطال له الملاوة وهى المدة من الزمن ، والكيد هنا :
الإحسان ، والمغرم : الغرامة المالية ، مثقلون : أي مكلفون أحمالا ثقالا فهم بسببها يعرضون عنك ، الغيب : هو ما كتب فى اللوح واستأثر اللّه بعلمه ، يكتبون : أي يحكمون على اللّه بما شاءوا وأرادوا ، حكم ربك : هو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم ،(29/43)
ج 29 ، ص : 44
صاحب الحوت : هو يونس عليه السلام ، مكظوم : أي مملوء غيظا ، من قولهم : كظم السقاء إذا ملأه ، والعراء : الأرض الخالية ، فاجتباه : أي اصطفاه ، يزلقونك :
أي يزلون قدمك ، يقولون : نظر إلىّ نظرة كاد يصرعنى ، أو كاد يأكلنى : أي لو أمكنه بنظره أن يصرعنى أو يأكلنى لفعل ، قال شاعرهم :
يتقارضون إذا التقوا فى موطن نظرا يزل مواطن الأقدام
والذكر : القرآن ، ذكر : أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه.
المعنى الجملي
بعد أن خوف الكفار من هول يوم القيامة - خوّفهم مما فى قدرته من القهر فقال لرسوله مؤنّبا لهم وموبخا : خلّ بينى وبين من يكذب بهذا القرآن ، فإنى عالم بما ينبغى أن أفعل بهم ، فلا تشغل قلبك بهم ، وتوكل علىّ فى الانتقام منهم ، إنا سندنيهم من العذاب درجة فدرجة ، ونورطهم فيه بما نوليهم من النعم ، ونرزقهم من الصحة والعافية ، فتزداد معاصيهم من حيث لا يشعرون ، فكلما جدّدوا معصية جددنا لهم نعمة ، وأنسيناهم شكرها.
ثم قال لرسوله : ماذا ينقمون منك ؟ء أنت تسألهم أجرا على تبليغ الرسالة ثقل عليهم فامتنعوا عن إجابة دعوتك ؟ أم عندهم علم الغيب المكتوب فى اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ما يحكمون به ؟ كلا ، لا هذا ولا ذاك ، إذا فالقوم معاندون ، فلم يبق إلا أن تصبر لحكم ربك ، وقد حكم بإمهالهم وتأخير نصرتك ، وهم إن أمهلوا فلن يهملوا.
ثم نهى رسوله أن يكون كيونس عليه السلام حين غضب على قومه ففارقهم ونزل إلى السفينة فابتلعه الحوت ودعا ربه وقال : « لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ » وهو مملوء غيظا وحنقا.(29/44)
ج 29 ، ص : 45
ثم أخبر رسوله بأن الكافرين ينظرون إليه شذرا حين يسمعون منه القرآن ، ويقولون حسدا على ما آتاه من النبوة : « إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ » تنفيرا منه ومن دعوته ، وما القرآن إلا عظة للجن والإنس جميعا ، لا يفهمها إلا من كان أهلا لها.
الإيضاح
(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي كل أيها الرسول أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إلىّ ، ولا تشغل قلبك بشأنهم فأنا أكفيك أمرهم ، وهذا كما يقول القائل لمن يتوعد رجلا : دعنى وإياه ، وخلّنى وإياه ، فأنا أعلم بمساءته والانتقام منه.
وفى هذا تسلية لرسوله وتهديد للمشركين كما لا يخفى.
وخلاصة ذلك - حسبك انتقاما منهم أن تكل أمرهم إلىّ وتخلّى بينى وبينهم.
ثم بيّن كيف يكون ذلك التعذيب المستفاد إجمالا من الكلام السابق فقال :
(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة من حيث لا يعلمون أنه استدراج ، بل يزعمون أنه إيثار وتفضيل لهم على المؤمنين ، مع أنه سبب فى هلاكهم فى العاقبة.
ونحو الآية قوله : « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله : « فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ » .
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنسئ فى آجالهم ملاوة من الزمان على كفرهم وتمردهم علىّ لتتكامل حججى عليهم ، وإن كيدى لأهل الكفر لقوى شديد.
وسمى سبحانه إحسانه إليهم كيدا « والكيد ضرب من الاحتيال » لكونه فى صورته ، من قبل أنه تعالى يفعل بهم ما هو نفع لهم ظاهرا وهو يريد بهم الضرر ،(29/45)
ج 29 ، ص : 46
لما علم من خبث طويّتهم ، وسوء استعدادهم وتماديهم فى الكفر وتدسيتهم أنفسهم بالآثام والمعاصي.
وفى الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : « إن اللّه تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم قرأ : وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إنّ أخذه أليم شديد » .
ثم ذكر من الشبه ما ربما يكون هو المانع لهم عن قبول الحق فقال :
(1) (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أ تسأل أيها الرسول هؤلاء المشركين باللّه على ما آتيتهم من النصيحة والدعوة إلى الحق أجرا دنيويا ؟
فهم من غرم ذلك الأجر مثقلون بأدائه ، فتحاموا لذلك قبول نصيحتك ، وتجنبوا لعظم ما أصابهم من الغرم الدخول فى الدين الذي دعوتهم إليه.
وخلاصة ذلك - إن أمرهم لعجيب ، فإنك لتدعوهم إلى اللّه بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك من ربك ، وهم مع ذلك يكذبونك فيما جئتهم به من الحق جهلا وعنادا.
(2) (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) أي أم عندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن ، فهم يكتبون ما يريدون من الحجج التي يزعمون أنها تدل على قولهم ، ويخاصمونك بما يكتبون من ذلك ، ويستغنون بذلك عن الإجابة لك ، والامتثال لما تقول.
ولما بالغ فى تزييف طريق الكافرين ، وزجرهم عما هم عليه ، أمر رسوله بالصبر على أذاهم فقال :
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر على قضاء ربك وحكمه فيك وفى هؤلاء المشركين ، وامض لما أمرك به ، ولا يثنك عن تبليغ ما أمرت بتبليغه - تكذيبهم وأذاهم لك.(29/46)
ج 29 ، ص : 47
روى أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض نفسه على القبائل بمكة فنزل قوله تعالى
(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) أي ولا تكن كيونس ابن متّى حين ذهب مغاضبا لقومه ، فكان من أمره ما كان من ركوب البحر والتقام الحوت له ، وشروده به فى البحار ، فنادى ربه فى الظلمات من بطن الحوت وهو مملوء غيظا من قومه إذ لم يؤمنوا حين دعاهم إلى الإيمان.
وجاء فى الآية الأخرى : « فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ » .
(لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن تداركته نعمة اللّه بتوفيقه للتوبة وقبولها منه ، لطرح بالفضاء من بطن الحوت وهو مليم مطرود من الرحمة والكرامة.
(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي ولكن تداركته نعمة من ربه فاصطفاه وأوحى إليه وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون ، وجعله من المرسلين العاملين بما أمرهم به ربهم ، المنتهين عما نهاهم عنه.
ثم بيّن بالغ عداوتهم له ، فذكر أنها سرت من القلب إلى النظر فقال :
(وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي إنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا ، حتى ليكادون يزلون قدمك فتصدع حين سمعوك تتلو كتاب اللّه ، حسدا لك وبغضا.
ويرى بعضهم أن المراد إنهم يكادون يصيبونك بالعين ، وروى أنه كان فى بنى أسد عيّانون ، فأراد بعضهم أن يعين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعصمه اللّه وأنزل عليه هذه الآية.(29/47)
ج 29 ، ص : 48
وقد صح هذا الحديث من عدة طرق :
« إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر » .
وروى أحمد عن أبى ذرّ مرفوعا : « إن العين لتولع بالرجل بإذن اللّه حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه » .
والأحاديث فى هذا الباب كثيرة ، وعن الحسن : رقية العين هذه الآية.
وسر هذا أن من خصائص بعض النفوس أن تؤثر فى غيرها بوساطة العين ، لما فيها من كهربية خاصة يكون بها تأثير فيما تنظر إليه ، واللّه يخص ما شاء بما شاء.
وشبيه بهذا تأثير بعض النفوس فى بعض بوساطة التنويم المغناطيسى الذي أصبح الآن فناله أساليب علمية لا يمكن إنكارها.
(وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) أي ويقولون لحيرتهم فى أمره ، وجهلهم بما فى تضاعيف القرآن من عجائب الحكم ، وبدائع العلوم : إنه لمجنون.
(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يقولون ما قالوا ، وما هو إلا تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ، أ فيكون من أنزل عليه مثل هذا وهو مطلع على أسراره ، محيط بجميع حقائقه خبرا ، ممن ينطبق عليه مثل هذا الوصف الذي قالوه ، أم يكون مثل هذا من أدل الدلائل على كمال الفضل والعقل ؟
واللّه أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
ما تضمنته هذه السورة من موضوعات
(1) محاسن الأخلاق النبوية إلى قوله : « وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » .
(2) سوء أخلاق بعض الكفار وجزاؤهم من قوله : « فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ » إلى قوله : « سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ » .
(3) ضرب المثل لهم بأصحاب الجنة من قوله : « إِنَّا بَلَوْناهُمْ إلى قوله « لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » (4) تقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجج عليهم.
(5) تهديد المشركين المكذبين بالقرآن بقوله : « فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ » إلخ.
(6) أمره صلى اللّه عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين حتى لا يكون كصاحب الحوت.(29/48)
ج 29 ، ص : 49
سورة الحاقة
هى مكية ، وآيها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد سورة الملك.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) إنه وقع فى ن ذكر يوم القيامة مجملا ، وهنا فصّل نبأه وذكر شأنه العظيم.
(2) إنه ذكر فيما قبلها من كذب بالقرآن وما توعده به ، وهنا ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل وما جرى عليهم ، ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)(29/49)
ج 29 ، ص : 50
شرح المفردات
الحاقة : من حق الشيء ، إذا ثبت ووجب ، أي الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجيء وهى يوم القيامة ، ما الحاقة : أي أىّ شىء هى ؟ تفخيما لشأنها ، وتعظيما لهولها ، وما أدراك ما الحاقة : أي أىّ شىء أعلمك ما هى ؟ فلا علم لك بحقيقتها ، إذ بلغت من الشدة والهول أن لا يبلغها علم المخلوقين ، والقارعة : هى الحاقة التي تقرع قلوب الناس بالمخافة والأهوال ، وتقرع الأجرام بالانفطار والانتشار ، وسميتقارعة لشدة هولها ، إذ القرع ضرب شىء بشىء ، والطاغية : هى الواقعة التي جاوزت الحد فى الشدة والقوة كما قال « إنّا لمّا طغى الماء » أي جاوز الحد ، والمراد بها الصاعقة ، والصرصر :
الشديدة الصوت التي لها صرصرة ، عانية : أي بالغة منتهى القوة والشدة ، سخرها عليهم : أي سلطها عليهم ، حسوما : أي متتابعة واحدها حاسم ، والحسم : القطع والاستئصال وسمى السيف حساما لأنه يحسم العدو عما يريد من عداوته ، وصرعى :
واحدهم صريع أي ميت ، وأعجاز : واحدها عجز ، وهو الأصل ، وخاوية : أي خالية الأجواف لا شىء فيها ، والباقية : البقاء ، والمؤتفكات : أي المنقلبات وهى قرى قوم لوط ، جعل اللّه عاليها سافلها بالزلزلة ، والخاطئة : الخطأ ، رابية : من ربا الشيء إذا زاد أي الزائدة فى الشدة ، وطغى الماء : تجاوز حده وارتفع ، حملناكم : أي حملنا آباءكم وأنتم فى أصلابهم ، والجارية : السفينة التي تجرى فى الماء ، وتعيها : أي تحفظها ، وتقول لكل ما حفظته فى نفسك : وعيته ، وتقول لكل ما حفظته فى غير نفسك :
أوعيته فيقال أوعيت المتاع فى الوعاء قال : « والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد » .
المعنى الجملي
ذكر سبحانه أن يوم القيامة حق لا شك فيه ، وأن الأمم التي عصت رسلها وكذبتهم ، أصابها الهلاك والاستئصال بألوان من العذاب ، فثمود أهلكت بالصاعقة(29/50)
ج 29 ، ص : 51
وعاد أهلكت بريح صرصر عانية سلطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام متتابعة ، فصاروا صرعى كأنهم أصول نخل جوفاء ، لم يبق منهم ديّار ، ولا نافخ نار وكذلك أهلك فرعون وقومه بالغرق ، وقوم لوط بالزلزال الشديد الذي قلب قراهم وجعل عاليها سافلها ، وأهلك قوم نوح بالطوفان.
الإيضاح
(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ ؟ ) هذا أسلوب من الكلام يفيد التفخيم والمبالغة فى الغرض الذي يساق له ، فكأنه قيل : أي شىء هى فى حالها وصفتها ؟ فهى لا تحيط بها العبارة ، ولا يبلغ حقيقتها الوصف.
ثم زاد سبحانه فى تفظيع شأنها ، وتفخيم أمرها ، وتهويل حالها فقال :
(وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ؟ ) أي أىّ شىء أعلمك ما هى ؟ فهى خارجة عن دائرة علوم المخلوقات ، لعظم شأنها ، ومدى هولها وشدتها ، فلا تبلغها دراية أحد ولا وهمه ، فكيفما قدرت حالها ، فهى فوق ذلك وأعظم.
قال سفيان بن عيينة : كل ما فى القرآن قال فيه : وما أدراك ، فإنه صلى اللّه عليه وسلم أخبر به ، وكل شىء قال فيه : وما يدريك ، فإنه لم يخبر به.
ثم ذكر بعض الأمم التي كذبت بها ، وما حاق بها من العذاب فقال :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود وعاد بالقيامة التي تقرع الناس بالفزع والهول ، والسماء بالانفجار ، والأرض والجبال بالنسف ، والنجوم بالطمس والانكدار.
ثم فصل ما نزل بكل أمة من العذاب فقال :
(1) (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي فأما ثمود فأهلكهم اللّه بصيحة جاوزت الحد فى الشدة كما جاء فى هود « وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ » وهى الصاعقة التي جاءت فى حم السجدة ، والرجفة والزلزلة التي جاءت فى سورة الأعراف ، فلا تعارض(29/51)
ج 29 ، ص : 52
بين الآيات ، لأن الهلاك فى بعضها نسب إلى السبب القريب ، وفى بعضها نسب إلى السبب البعيد.
(2) (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً) أي وأما عاد فأهلكوا بريح مهلكة عتت عليهم بلا شفقة ولا رحمة ، فما قدروا على الخلاص منها بحيلة : من استتار ببناء ، أو لياذ بجبل ، أو اختفاء فى حفرة ، فقد كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم ، وقد دامت سبع ليال وثمانية أيام بلا انقطاع ولا فتور.
ثم ذكر نتائجها فقال :
(فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ؟ ) أي فترى قوم عاد فى تلك السبع الليالى والثمانية الأيام المتتابعة صرعى هالكين ، كأنهم أصول نخل متأكلة الأجواف لم يبق منهم ولا من نسلهم أحد ، وجاء فى آية أخرى : « فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ » .
(3) (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) أي وجاء فرعون ومن تقدمه من الأمم التي كفرت بآيات اللّه كقوم نوح وعاد وثمود والقرى التي ائتفكت بأهلها ، وصار عاليها سافلها ، بسبب خطيئتها ومعصيتها.
ثم بيّن هذه الخطيئة بقوله :
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي فعصى هؤلاء الذين تقدم ذكرهم رسل اللّه الذين أرسلوا إليهم ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وأذاقهم وبال أمرهم بعقوبة زائدة على عقوبة سائر الكفار ، كما زادت قبائحهم على قبائح غيرهم ونحو الآية قوله : « كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ » .
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي إنا لما ارتفع الماء ، وجاوز الحد ،(29/52)
ج 29 ، ص : 53
وجاء الطوفان حملنا آباءكم من مؤمنى قوم نوح فى السفينة ، لننجيهم من الغرق الذي عمّ هؤلاء الكافرين جميعا.
والمشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
ثم ذكر ما فى هذه النجاة من العبرة فقال :
(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً)
أي لنجعل نجاة المؤمنين ، وإغراق الكافرين عظة وعبرة ، لدلالتها على كمال قدرة الصانع وحكمته ، وسعة رحمته.
(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)
أي وتفهمها أذن حافظة سامعة عن اللّه ، فتنتفع بما سمعت من كتابه ولا تضيع العمل بما فيه.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال لعلىّ : « إنى دعوت اللّه أن يجعلها أذنك يا علىّ » قال علىّ كرم اللّه وجهه : فما سمعت شيئا فنسيته ، وما كان لى أن أنسى.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 18]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
شرح المفردات
نفخة واحدة : هى النفخة الأولى ، حملت الأرض والجبال : أي رفعت من أه كنها ، فد كتادكة واحدة : أي ضرب بعضها ببعض حتى اندقت وصارت كثيبا مهيلا ، الواقعة : النازلة وهى يوم القيامة ، انشقت السماء : أي فتحت أبوابا ، واهية :
أي مسترخية ضعيفة القوة ، من قولهم : وهى السقاء إذا انخرق ، ومن أمثالهم قول الراجز :
خلّ سبيل من وهى سقاؤه ومن هريق بالفلاة ماؤه(29/53)
ج 29 ، ص : 54
أرجائها : أي جوانبها ، واحدها رجا ، ثمانية : أي ثمانية أشخاص ، خافية : أي سريرة.
المعنى الجملي
بعد أن قص هذه القصص الثلاثة ، ونبّه بها على ثبوت القدرة والحكمة ، وبها ثبت إمكان وقوع يوم القيامة - شرع يذكر تفاصيل أحوال هذا اليوم وما يكون فيه من أهوال.
الإيضاح
(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) أي فإذا نفخ إسرافيل النفخة الأولى التي عندها خراب العالم.
(وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي رفعت من أماكنها ، ولا ندرى كيف رفعت فذلك من أنباء الغيب ، فقد يكون ذلك بريح يبلغ من قوة عصفها أن تحملهما ، أو أن ملكا يحملهما ، أو بقدرة اللّه من غير سبب ظاهر ، أو بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب ، فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة ، وترتفع الأرض من حيّزها.
(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي فضرب بعضهما ببعض ضربة واحدة حتى تقطعت أوصالهما ، وصارتا كثيبا مهيلا ، وهباء منبثا لا يتميز شىء من أجزائهما عن الآخر.
(فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي فحينئذ تقوم القيامة.
(وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) أي وتصدعت السماء لأنها يومئذ ضعيفة المنّة كالعهن المنفوش ، بعد أن كانت شديدة الأسر عظيمة القوة.
(وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) أي والملائكة على جوانب السماء ينظرون إلى أهل(29/54)
ج 29 ، ص : 55
الأرض ، ولا ندرى كيف ذلك ، ولا الحكمة فيه ، فندع تفصيل ذلك ونؤمن به كما جاء فى الكتاب ولا نزيد عليه.
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ويحمل عرش ربك حينئذ فوق رءوسهم ثمانية من الملائكة.
(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي فيومئذ تحاسبون وتسألون ، لا يخفى على اللّه شىء من أموركم ، فإنه تعالى عليم بكل شىء ، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، كما جاء فى آية أخرى : « لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ » .
وفى هذا تهديد شديد ، وزجر عظيم ، ومبالغة لا تخفى ، وفضيحة للكافرين ، وسرور للمؤمنين بظهور ما كان خفيا عليهم من أعمالهم ، وبذلك يتكامل حبورهم وسرورهم.
والتعبير بالعرض تشبيه بعرض السلطان لعسكره ، ليعرف أحوالهم ، وفى هذا العرض إقامة للحجة ، ومبالغة فى إظهار العدل.
أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجة وابن مردويه عن أبى موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطاير الصحف فى الأيدى ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » .
[سورة الحاقة (69) : الآيات 19 الى 24]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)(29/55)
ج 29 ، ص : 56
شرح المفردات
هاؤم : أي خذوا ، ظننت : أي علمت ، ملاق : أي معاين ، راضية : أي يرضى بها صاحبها ، عالية : أي مرتفعة المكان ، والقطوف : ما يجتنى من الثمر ، واحدها قطف (بكسر القاف وسكون الطاء) دانية : أي قريبة ، هنيئا : أي بلا تنغيص ولا كدر ، أسلفتم : أي قدمتم ، الخالية : أي الماضية.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم يعرضون على اللّه ولا يخفى عليه شىء من أعمالهم - فصل أحكام هذا العرض ، فأخبر بأن من يؤتى كتابه بيمينه يشتد فرحه حتى يقول لكل من لقيه : خذ كتابى واقرأه ، لأنه يعلم ما فيه من خير وفضل من اللّه ، ويقول :
إنى كنت أعلم أن هذا اليوم آت لا ريب فيه ، وإنى سأحاسب على ما أعمل ، وحينئذ يكون جزاؤه عند ربه جنة عالية ذات ثمار دانية ، ويقال له ولأمثاله : كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم لأنفسكم فى الدنيا.
الإيضاح
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) أي فأما من أعطى كتابه بيمينه فيقول : تعالوا اقرءوا كتابى فرحا به ، لأنه لما أوتيه باليمين علم أنه من الناجين الفائزين بالنعيم ، فأحب أن يظهره لغيره حتى يفرحوا بما نال.
ثم ذكر العلة فى حسن حاله فقال :
(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي إنى فرح مسرور ، لأنى علمت أن ربى سيحاسبنى حسابا يسيرا ، وقد حاسبنى كذلك ، فاللّه عند ظن عبده به.(29/56)
ج 29 ، ص : 57
قال الضحاك : كل ظن فى القرآن من المؤمن فهو يقين ، ومن الكافر فهو شكّ وقال مجاهد : ظن الآخرة يقين ، وظن الدنيا شك.
وقال الحسن فى الآية : إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل للآخرة ، وإن الكافر أساء الظن بربه فأساء العمل لها.
ثم بيّن عاقبة أمره فقال :
(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي فهو يعيش عيشة مرضية خالية مما يكدر مع دوامها وما فيها من إجلال وتعظيم.
ثم فصل ذلك فقال :
(فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي فهو يعيش فى بستان عال رفيع ذى ثمار دانية القطوف ، يأخذها المرء كما يريد ، إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له ، وهو قائم وجالس أو مضطجع ، وإن أحب أن تدنو إلى فيه دنت له.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي ويقول لهم ربهم جل ثناؤه : كلوا يا معشر من رضيت عنه فأدخلته جنتى - من ثمارها وطيب ما فيها من الأطعمة ، واشربوا من أشربتها ، أكلا وشربا هنيئا لا تتأذون بما تأكلون وما تشربون جزاء من اللّه ، وثوابا على ما قدمتم فى دنياكم لآخرتكم من العمل بطاعتي.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 25 الى 37]
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)(29/57)
ج 29 ، ص : 58
شرح المفردات
القاضية : أي القاطعة للحياة فلم أبعث بعدها ، ما أغنى عنى ماليه : أي لم يغن عنى مالى الذي تركته فى الدنيا ، هلك : أي بطل ، والسلطان : الحجة ، غلّوه : أي شدّوه بالأغلال ، والغلّ : القيد الذي يجمع بين اليدين والعنق ، والجحيم : النار المتأججة المشتعلة ، وصليته النار وأصليته : أي أوردته إياها ، ذرعها : أي طولها ، فاسلكوه : أي فاجعلوه فيها بحيث يكون كأنه السلك : أي الحبل الذي يدخل فى ثقب الخرزات بعسر لضيق ذلك الثقب ، إما بإحاطتها بعنقه أو بجميع بدنه بأن تلفّ عليه ، ويقال سلكته الطريق : إذا أدخلته فيه ، حميم : أي قريب مشفق ، والغسلين : الدم والماء والصديد الذي يسيل من لحوم أهل النار قاله ابن عباس ،
وعن أبى سعيد الخدري مرفوعا : « لو أن دلوا من غسلين يهراق فى الدنيا لأنتن أهل الدنيا » أخرجه الحاكم وصححه ،
والخاطئون : أي الآثمون يقال خطئ الرجل : إذا تعمد الإثم والخطأ.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سرور السعداء بصحائف أعمالهم ، ثم بيّن حسن أحوالهم فى معايشهم ومساكنهم - أردف ذلك بذكر غمّ الأشقياء الكافرين وحزنهم بوضع الأغلال والقيود فى أعناقهم وأيديهم ، وإعطائهم الغسلين طعاما ، ثم أعقبه بذكر سبب هذا ، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ، ولا يحثون على مساعدة ذوى الحاجة والبائسين.(29/58)
ج 29 ، ص : 59
الإيضاح
(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) فإنه لما نظر فى صحيفة أعماله ، وتذكر قبيح أفعاله ، خجل منها وتمنى أن لو كان عذب فى النار ولم يخجل هذا الخجل.
وفى هذا إيماء إلى أن العذاب الروحاني أشد ألما من العذاب الجسماني.
(وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ؟ ) أي ولم أعلم أىّ شىء حسابى الذي أحاسب به ، إذ كله وبال ونكال.
(يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة التي متها فى الدنيا كانت نهاية الحياة ، لم أبعث بعدها ولم ألق ما أنا فيه من نكال وسوء منقلب.
قال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن فى الدنيا عنده شىء أكره من الموت ا ه ، وشر من الموت ما يطيب له الموت ، قال شاعرهم :
وشرّ من الموت الذي إن لقيته تمنيت منه الموت والموت أعظم
(ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي لم يدفع عنى مالى الذي كنت أملكه فى الدنيا من عذاب اللّه ولا من بأسه شيئا.
(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهب ملكى وتسلطى على الناس ، وبقيت فقيرا ذليلا ، ومراده التحسر والندم ، إذ كان ينازع المحقين بسبب الملك والسلطان ، فالآن ذهب ذلك وبقي الوبال.
ثم ذكر سبحانه سوء منقلبه فقال :
(خُذُوهُ فَغُلُّوهُ. ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي فيقال لزبانية جهنم : خذوه فضعوا الغلّ فى عنقه ، ثم أدخلوه فى النار الموقدة لقاء كفره باللّه واجتراحه عظيم الآثام.
(ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) أي ثم أدخلوه فى سلسلة طولها سبعون ذراعا تلفّ على جميع جسمه حتى لا يستطيع تحركا ولا انفلاتا.(29/59)
ج 29 ، ص : 60
والعرب إذا أرادت الكثرة عبرت بالسبعة والسبعين والسبعمائة ، والمقصد إثبات أنها طويلة المدى.
ثم بيّن سبب استحقاق هذا العذاب فقال :
(إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ) أي افعلوا ذلك به جزاء له على كفره باللّه فى الدنيا وإشراكه به سواه ، وعدم القيام بحق عبادته وأداء فرائضه.
(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث الناس على إطعام أهل المسكنة والحاجة ، فضلا عن بذل المال لهم.
(فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي فليس له يوم القيامة من ينقذه من عذاب اللّه تعالى ، لأنه يوم يفرّ فيه القريب من قريبه ويهرب الحبيب من حبيبه.
وجاء فى آية أخرى : « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً » وقال : « ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ » .
(وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي وليس له طعام إلا ما يسيل من لحوم أهل النار من الدم والصديد الذي لا يأكله إلا من مرن على اجتراح السيئات ، ودسّى نفسه وأحاطت به الخطايا.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 43]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43)
شرح المفردات
ما تبصرون : هى المشاهدات ، وما لا تبصرون : هى المغيبات.(29/60)
ج 29 ، ص : 61
المعنى الجملي
بعد أن أقام الدليل على إمكان القيامة ، ثم على وقوعها ، ثم ذكر أحوال المؤمنين السعداء ، والكافرين الأشقياء - أردف ذلك بتعظيم القرآن والرسول المنزل عليه هذا القرآن.
قال مقاتل : سبب نزول الآية أن الوليد بن المغيرة قال : إن محمدا ساحر ، وقال أبو جهل : شاعر ، وقال عقبة : كاهن.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي أقسم بما تشاهدون من المخلوقات وبما غاب عنكم ، قال قتادة : أقسم بالأشياء كلها ما يبصر منها وما لا يبصر ، وقال عطاء : ما تبصرون من آثار القدرة ، وما لا تبصرون من أسرار القدرة.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن كلام اللّه ووحيه أنزله على عبده ورسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم.
(وما هو بقول شاعر) لأن محمدا لا يحسن قول الشعر.
(قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ) أي تؤمنون بذلك القرآن إيمانا قليلا ، والمراد أنهم لا يؤمنون أصلا ، فالعرب تقول : قلما يأتينا ، يريدون أنه لا يأتينا.
وقد يكون المراد بالقلة أنهم قد يؤمنون فى قلوبهم ثم يرجعون عنه سريعا.
(وَلا بِقَوْلِ كاهِن ٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ)
أي وليس بقول كاهن كما تزعمون ، لأنه سبّ الشياطين وشتمهم ، فلا يمكن أن يكون بإلهامهم ، ولكنكم لما لم تستطيعوا فهم أسرار نظمه - قلتم : إنه من كلام الكهان.(29/61)
ج 29 ، ص : 62
ثم أكد ما تقدم بقوله :
(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي بل هو تنزيل من رب العالمين نزل به الروح الأمين على رسوله صلى اللّه عليه وسلم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 44 الى 52]
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
شرح المفردات
التقوّل : الافتراء ، وسمى بذلك لأنه قول متكلّف ، والأقاويل : الأقوال المفتراة ، واحدها قول على غير قياس ، لأخذنا منه : أي لأمسكناه ، باليمين : أي بيمينه ، والوتين : عرق يخرج من القلب ويتصل بالرأس ، حاجزين : أي ما نعين ، حق اليقين : أي عين اليقين.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن القرآن تنزيل من رب العالمين ، وليس بشعر ولا كهانة - أكد هذا بأن محمدا لا يستطيع أن يفتعله ، إذ لو فعل ذلك لأبطلنا حجته ، وأمتنا دعوته ، أو سلبناه قوة البيان فلا يتكلم بهذا الكذب ، أو قتلناه فلم يستطع نشر الأكاذيب ، وقد جرت سنتنا بأن كل متكلف للقول لا يقبل قوله ، ولا يصغى(29/62)
ج 29 ، ص : 63
السامعون إلى كلامه كما قال : « وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ » ولا يستطيع أحد بعدئذ أن يدافع عنه.
ثم ذكر أن القرآن عظة لمن يتقى اللّه ويخشى عقابه ، وإنه حسرة على الكافرين حينما يرون ثواب المؤمنين ، وإنه لحق لا ريب فيه.
ثم أمر رسوله بأن يقدس ربه العظيم ويشكره على ما آتاه من النعم ، وعلى ما أوحى به إليه من القرآن العظيم.
الإيضاح
(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي ولو افترى محمد علينا بعض الأقوال الباطلة ونسبها إلينا لعاجلناه بالعقوبة ، وانتقمنا منه أشد الانتقام.
والأخذ باليمين يكون عند ضرب الرقبة وإزهاق الروح ، وقد جرى ذكر هذا على التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم فإنهم لا يمهلونه ، بل يضربون رقبته على الفور.
(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) الوتين : عرق غليظ تصادفه شفرة الناخر.
قال الشماخ ابن ضرار :
إذا بلّغتنى وحملت رحلى عرابة فاشرقى بدم الوتين
والمراد - أنه لو كذب علينا لأزهقنا روحه ، فكان كمن قطع وتينه ، وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه ، إذ يأخذه القتّال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه.
(فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) أي فما أحد منكم يمنعنا عن عقوبته ، والتنكيل به.
وجمع « حاجِزِينَ » باعتبار أحد ، إذ هو فى معنى الجماعة ، ويقع على الواحد والجمع(29/63)
ج 29 ، ص : 64
والمذكر والمؤنث كما جاء فى قوله : « لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » وقوله :
« لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ » .
(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) أي وإن هذا القرآن لعظة وذكرى لمن يخشى عقاب اللّه فيطيع أوامره ، وينتهى عما نهى عنه ، وخص (المتقين) بالتذكرة والعظة ، لأنهم هم الذين ينتفعون بها.
(وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) له بسبب حبكم للدنيا وحسدكم للداعى ، وإنا لنجازيكم على ذلك بما تستحقون إظهارا للعدل.
والخلاصة - إن منكم من اتقى اللّه فتذكر بهذا القرآن وانتفع به ، ومنكم من مال إلى الدنيا فكذب به وأعرض عنه.
وفى هذا وعيد شديد لا يخفى.
(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وإن هذا القرآن لحسرة عظيمة على الكافرين فى دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين ، وفى الآخرة إذا رأوا ثواب المصدقين.
(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) أي وإنه للحق الذي لا شك فى أنه من عند اللّه لم يتقوّله محمد صلى اللّه عليه وسلم.
(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي فسبح اللّه تعالى بذكر اسمه ، تنزيها له عن لرضا بالتقوّل عليه ، وشكرا له على ما أوحى به إليك من هذا القرآن الجليل الشأن.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلم.
ما تضمنته هذه السورة الكريمة
تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :
(1) هلاك الأمم المكذبة لرسلها فى الدنيا من أول السورة إلى قوله : « أُذُنٌ واعِيَةٌ »
(2) عذاب الآخرة جزاء على التكذيب فى الدنيا.
(3) إثبات أن القرآن العظيم وحي من عند اللّه وليس بقول شاعر ولا كاهن.(29/64)
ج 29 ، ص : 65
سورة المعارج
هى مكية ، وآياتها أربع وأربعون ، نزلت بعد الحاقة ، وهى كالتتمة لها فى وصف القيامة وعذاب النار.
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
شرح المفردات
سأل سائل : أي دعا داع ، من قولك : دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه ، كما جاء فى قوله :
« يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ » ليس له دافع : أي إنه واقع لا محالة ، والمعارج : واحدها معرج ، وهو المصعد (أسّنسير) كما قال : « وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ »(29/65)
ج 29 ، ص : 66
والمراد بها النعم التي تكون درجات متفاضلة ، تصل إلى الخلق على مراتب مختلفة ، والروح : هو جبريل عليه السلام ، والمهل : دردىء الزيت ، وهو ما يكون فى قعر الإناء منه ، والعهن : الصوف المصبوغ ألوانا ، والحميم : القريب ، يبصرونهم : أي يبصر الأحماء الأحماء ويرونهم ، يود : أي يتمنى ، والمجرم : المذنب ، وصاحبته : زوجته ، وفصيلته : هى عشيرته ، تؤويه : أي تضمه ويأوى إليها ، كلّا : هى كلمة تفيد الزجر عما يطلب ، لظى : هى النار ، والشوى : واحدها شواة ، وهى جلدة الرأس تنتزعها النار انتزاعا فتفرقها ثم تعود إلى ما كانت عليه ، تدعو : أي تجذب وتحضر ، تولى :
أي أعرض عن الطاعة ، جمع فأوعى : أي جمع المال فجعله فى وعاء.
المعنى الجملي
كان أهل مكة يقول بعضهم لبعض : إن محمدا يخوّفنا بالعذاب ، فما هذا العذاب ؟ ولمن هو ؟ وكان النضر بن الحرث ومن لفّ لفّه يقولون إنكارا واستهزاء :
« اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء أو ائتنا بعذاب أليم » فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ. لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ) أي طلب طالب عذابا واقعا لا محالة ، سواء طلب أم لم يطلب ، لأنه نازل بالكافرين فى الآخرة لا يدفعه عنهم أحد ، فلما ذا هم يطلبونه استهزاء ؟ .
(مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ) أي ليس لذلك العذاب الصادر من اللّه دافع من جهته إذا جاء وقته ، فإذا اقتضت الحكمة وقوعه امتنع ألا يفعله ، وهو ذو النعم التي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة ، ودرجات متفاوتة.(29/66)
ج 29 ، ص : 67
والخلاصة - إن العذاب الذي طلبه السائلون واستبطئوه واقع لا محالة ، وهو سبحانه لم يفعل ذلك إلا لحكمة ، وهى وضعهم فى الدركات التي هم أهل لها بحسب استعدادهم ، وما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال والخطايا التي أحاطت بهم من كل صوب.
وقد نظم سبحانه العوالم فجعل منها مصاعد ، ومنها دركات ، فليكن هؤلاء فى الدركات ، وليكن المؤمنون والملائكة فى الدرجات طبقا عن طبق على نظم ثابتة اقتضتها الحكمة والمصلحة.
ثم بيّن مقدار ارتفاع تلك الدرجات فقال :
(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي تصعد فى تلك المعارج الملائكة وجبريل عليه السلام إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقى فى ذلك الصعود خمسين ألف سنة ، لكنهم يصعدون إليها فى الزمن القليل ، وليس المراد من ذكر الخمسين تحديد العدد ، بل المقصد أن مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد ، فهم فى المادة مغموسون ، وهناك عوالم ألطف وألطف ، درجات بعضها فوق بعض ، وكل عالم ألطف مما قبله ، وكلما لطف العالم العلوي كان أشد قوة وهكذا : « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » .
(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا) أي إذا سألوا استعجال العذاب على سبيل الاستهزاء والتكذيب بالوحى ، وكان هذا يورث ضجرك أيها الرسول - فاصبر صبرا جميلا بلا جزع ولا شكوى ، لأنه أمر محقق ، وكل آت قريب.
ثم بيّن أن هذا اليوم آت لا شك فيه فقال :
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) أي إنهم يرون هذا اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة - بعيدا غير ممكن ، ونحن نراه قريبا هيّنا غير بعيد علينا ولا متعذر.
ثم ذكر وقت حدوثه فقال :
(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي إن العذاب واقع بالكافرين يوم تكون السماء كأنها عكر الزيت ، والمراد أنها تكون واهية ضعيفة غير متماسكة.(29/67)
ج 29 ، ص : 68
(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي وتكون الجبال هشّة غير متلاحمة كأنها الصوف المنفوش إذا طيرته الريح ، روى عن الحسن : أنها تسير مع الرياح ثم تنهدّ ، ثم تصير كالعهن ، ثم تنهدّ فتصير هباء منثورا.
(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) أي ولا يسأل قريب مشفق قريبا عن حاله ، ولا يكلمه لابتلاء كل منهما بما يشغله كما جاء فى قوله : « وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى » وقوله : « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (يُبَصَّرُونَهُمْ) من قولك بصّرته بالشيء إذا أو ضحته له حتى يبصره ، أي يتعارفون ثم يفرّ بعضهم من بعض بعد ذلك ثم أرشد إلى هول ذلك اليوم فقال :
(يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ. وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ. وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي يتمنى الكافر لو ينفع أعز الناس إليه فدية ، لينجيه من ذلك العذاب ، فيؤدّ لو كان أبناؤه أو زوجته أو أخوه أو عشيرته التي تضمه إليها ، أو أهل الأرض جميعا فداء له ليخلص من ذلك العذاب.
والخلاصة - يتمنى الكافر لو كان هؤلاء جميعا فى قبضة يده ليبذلهم فدية عن نفسه ، ثم ينجيه ذلك - هيهات.
(كَلَّا) أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض ، أو بأعزّ ما يجده من مال ولو بملء الأرض ذهبا ، أو بولده الذي كان حشاشة كبده فى الدنيا ، أو بزوجته وعشيرته.
(إِنَّها لَظى . نَزَّاعَةً لِلشَّوى . تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى. وَجَمَعَ فَأَوْعى ) أي إنها النار الشديدة الحرارة التي تنزع جلدة الرأس وتفرقها ، ثم تعود إلى ما كانت عليه وأنشدوا قول الأعشى :
قالت قتيلة ماله قد جلّلت شيبا شواته(29/68)
ج 29 ، ص : 69
وهذه النار تجذب إليها أبناءها الذين خلقهم اللّه لها ، وقدّر أنهم فى الدنيا يعلمون عملها ، من بين أهل المحشر ، فدسّوا أنفسهم إذ كذبوا بقلوبهم ، وتركوا العمل بجوارحهم ، وجمعوا المال بعضه على بعض وكنزوه ولم يؤدوا حق اللّه فيه ، وتشاغلوا به عن فرائضه من أوامر ونواه.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
شرح المفردات
الهلع : سرعة الحزن عند مسّ المكروه ، وسرعة المنع عند مسّ الخير ، من قولهم :
ناقة هلوع : إذا كانت سريعة السير. وسأل محمد بن طاهر ثعلبا عن الهلع فقال :
قد فسره اللّه ، ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه - يعنى قوله :
« إِذا مَسَّهُ » الآية. والجزع : حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه ،(29/69)
ج 29 ، ص : 70
والخير : المال والغنى ، حق معلوم : أي نصيب معين يوجبونه على أنفسهم تقرّبا إلى اللّه وإشفاقا على المحتاجين ، المحروم : الفقير الذي لا يسأل الناس فيظن أنه غنىّ ، يصدقون بيوم الدين : أي يصدقون به تصديقا يكون له الأثر فى نفوسهم ، فيسخرونها ويسخرون أموالهم فى طاعة اللّه ومنفعة الناس ، مشفقون : أي خائفون ، حافظون : أي كافّون لها عن الحرام ، راعون : أي لا يخلّون بشىء من حقوقها :
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هو ذو المعارج والدرجات العالية ، والنعم الوفيرة التي يسبغها على عباده الأخيار - أردف هذا بذكر المؤهّلات التي توصل إلى تلك المراتب وتبعد عن ظلمة المادة التي تدخل النفوس فى النار الموقدة التي تنزع الشوى ، وبيّن أنها عشر خصال تفكّه من السلاسل التي تقيده بها غرائزه التي فطر عليها ، وعاداته التي ألفها وركن إليها ، وهى ترجع إلى شيئين : الحرص ، والجزع. وهذه الخصال هى :
(1) الصلاة.
(2) المداومة عليها فى أوقاتها المعلومة.
(3) إقامتها على الوجه الأكمل بحضور القلب ، والخشوع للربّ ، ومراعاة سننها وآدابها.
(4) التصديق بيوم الجزاء بظهور أثر ذلك فى نفسه اعتقادا وعملا (5) إعطاء صدقات من أموالهم للفقراء والمحرومين.
(6) مراعاة العهود والمواثيق.
(7) أداء الأمانات إلى أهلها.
(8) حفظ فروجهم عن الحرام.
(9) أداء الشهادة على وجهها.
(10) الخوف من عذاب اللّه.(29/70)
ج 29 ، ص : 71
الإيضاح
(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) أي إن الإنسان جبل على الهلع ، فهو قليل الصبر ، شديد الحرص ، فإذا افتقر أو مرض أخذ فى الشكاة والجزع ، وإذا صار غنيّا أو سليما معافى منع معروفه وشح بماله ، وما ذاك إلا لاشتغاله بأحواله الجسمانية العاجلة ، وقد كان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة ، فإذا مرض أو افتقر رضى بما قسم له ، علما بأن اللّه يفعل ما يشاء ، ويحكم بما يريد ، وإذا وجد المال والصحة صرفهما فى طلب السعادة الأخروية ، وقد استثنى من هذه الحال من اتصفوا بالصفات الآتية :
(1) (إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي إن الإنسان بطبعه متصف بصفات الذم ، خليق بالمقت إلا من عصمهم اللّه ووفقهم ، فهداهم إلى الخير ويسر لهم أسبابه ، وهم المصلون الذين يحافظون على الصلوات فى أوقاتها ، لا يشغلهم عنها شىء من الشواغل.
وفى هذا إيماء إلى فضيلة المداومة على العبادة ،
أخرج بن حبّان عن أبى سلمة قال : حدثتنى عائشة قالت : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « خذوا من العمل ما تطيقون ، فإن اللّه لا يمل حتى تملّوا ، قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما داوم عليه وإن قلّ ، وكان إذا صلى صلاة داوم عليها ، وقرأ أبو سلمة : الذين هم على صلاتهم دائمون
(2) (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي والذين فى أموالهم نصيب معين لذوى الحاجات والبائسين ، تقربا إلى اللّه وإشفاقا على خلقه ، سواء سألوا واستجدوا ، أو لم يسألوا تعففا منهم.
والمراد بهذا الحق المعلوم : ما يوظفه الرجل على نفسه ، فيؤديه كل جمعة أو كل شهر أو كلما جدت حاجة تدعو إلى بذل المال ، كإغاثة فرد أو إغاثة أمة طرأ عليها(29/71)
ج 29 ، ص : 72
ما يستدعى البذل لمصلحة هامة لها ، كالدفاع عن عدو أو دفع مجاعة أو ضرورة بلحّة مفاجئة.
(3) (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي والذين يوقنون بالمعاد والحساب ، فيعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب وتظهر آثار ذلك فى أفعالهم وأقوالهم ومعتقداتهم ، فينيبون إلى اللّه ويخبتون إليه.
(4) (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي والذين هم خائفون وجلون من تركهم للواجبات ، وإقدامهم على المحظورات ، ومن يدم به الخوف والإشفاق فيما كلف به يكن حذرا من التقصير ، حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ونحو الآية قوله : « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ » وقوله : « الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ » .
ثم ذكر الداعي لهم إلى هذا الخوف فقال :
(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا ينبغى لأحد أن يأمن عذاب اللّه وإن بالغ فى الطاعة ، ومن ثم أثر عن السلف الصالح أنهم كانوا كثيرى الخوف والوجل كما يشعر بذلك قول بعضهم : ليت أمي لم تلدنى. وقول آخر : ليتنى شجرة تعضد ، إلى أشباه ذلك مما يعبر عن شديد الوجل والخشية.
(5) (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) راجع تفسير هذا بتوسّع فى سورة المؤمنين (6) (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا.
(7) (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) أي والذين يقومون بأداء الشهادة عند(29/72)
ج 29 ، ص : 73
الحكام ، ولا يكتمونها ولا يغيرونها ، والشهادة من جملة الأمانات ، وخصها بالذكر لعظم شأنها ، إذ بها تحيا الحقوق ، وبتركها تموت.
(8) (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ)
أي والذين يحافظون على صلاتهم ، ويراعون شرائطها ، ويكملون فرائضها فيجتهدون قبل الدخول فيها فى تفريغ القلب من الوساوس والالتفات إلى ما سوى اللّه ، مع حضور القلب حين القراءة ، وفهم ما يتلى فيها من آي الذكر الحكيم.
ثم وعد هؤلاء بحسن المآل فقال :
(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال فى بساتين يكرمون فيها بأنواع اللذات والمسرات ، وإلى ذلك أشار الحديث « فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » .
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)
عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)(29/73)
ج 29 ، ص : 74
شرح المفردات
قِبَلَكَ : أي فى الجهة التي تليك ، مهطعين : أي مسرعين نحوك ، مادّى أعناقهم إليك ، مقبلين بأبصارهم عليك ، ليظفروا بما يجعلونه هزوا ، وأنشدوا :
بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع
عزين : أي فرقا شتى حلقا حلقا ، قال عبيد بن الأبرص.
فجاءوا يهرعون إليه حتى يكونوا حول منبره عزينا
واحدهم عزة ، وأصلها عزوة ، لأن كل فرقة تعتزى وتنتسب إلى غير من تعتزى إليه الأخرى ، بمسبوقين : أي بمغلوبين ، والأجداث : القبور ، واحدها جدث ، والسّراع : واحدهم سريع ، والنصب (بضمتين) كل شىء منصوب كالعلم والراية وكذا ما ينصب للعبادة ، وهو المراد هنا ، ويوفضون : أي يسرعون ، خاشعة أبصارهم :
أي ذليلة ، ترهقهم : أي تغشاهم.
المعنى الجملي
بعد أن وعد المؤمنين بجنات النعيم مع الكرامة والإجلال - أردف ذلك بذكر أحوال الكافرين مع الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأبان لهم خطأهم فيما يرجون من جنات النعيم على ما هم عليه من كفر وجحود ، ثم توعدهم بالهلاك ، ولن يستطيع أحد دفعه عنهم ، ثم أمر رسوله أن يدعهم وشأنهم حتى يوم البعث ، يوم يخرجون من قبورهم مسرعين كأنهم ذاهبون إلى معبوداتهم الباطلة من الأصنام والأوثان ، (وقد كان من دأبهم أن يسرعوا حين الذهاب إليها) وهم فى هذا اليوم تكون أبصارهم ذليلة ، وترهق وجوههم قترة ، لما تحققوا من عذاب لا منجاة لهم منه ، وقد أوعدوه فى الدنيا فكذبوا به.(29/74)
ج 29 ، ص : 75
روى : أنه عليه السلام كان يصلى عند الكعبة ويقرأ القرآن ، وكان المشركون يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنّ قبلهم ، فنزلت هذه الآيات.
الإيضاح
(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي فما بالهم يسرعون إليك ، ويجلسون حواليك ، عن يمينك وعن شمالك ، جماعات متفرقة ، نافرين منك ، لا يلتفتون إلى ما تلقيه عليهم من رحمة اللّه وهديه ، ونصحه وإرشاده ، وما فيه سعادتهم فى معاشهم ومعادهم.
ونحو الآية قوله : « فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ؟ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ » .
أخرج مسلم وغيره عن جابر قال : دخل علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المسجد ونحن حلق متفرقون ، فقال : « مالى أراكم عزين ، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها ؟ قالوا : وكيف تصفّ الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ويتراصّون فى الصف »
وقد كانت عادتهم فى الجاهلية أن يجلسوا حلقا مجتمعين.
قال شاعرهم :
ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزينا
ثم أيأسهم من نيلهم للسعادة التي يفوز بها من يستمعون القول فيتبعون أحسنه فقال :
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ؟ كَلَّا) أي أ يطمع هؤلاء وهم نافرون من الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، معرضون عن سماع الحق - أن يدخلوا جنتى كما يدخلها المؤمنون المخبتون الذين يدعون ربهم خوفا وطمعا ؟ كلا لا مطمع لهم فى ذلك مع ما هم عليه.(29/75)
ج 29 ، ص : 76
ثم ذكر السبب فى تيئيسهم منها فقال :
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون ، وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يكملها بذلك فهو بمعزل عن أن يتبوأ متبوأ الذين أخلصوا للّه وحده ، وبعدت نفوسهم عن دنس الشرك والمعاصي.
ثم توعدهم بأنهم إن لم يثوبوا إلى رشدهم أهلكهم واستبدل بهم قوما غيرهم خيرا منهم فقال :
(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي أقسم برب الكواكب ومشارقها ومغاربها ، إنا لقادرون على أن نخلق أمثل منهم يستمعون دعوة الداعي ونصح الناصح ، ونهلك هؤلاء ، ولن يعجزنا ذلك ، لكن مشيئتنا اقتضت تأخير عقوبتهم.
والخلاصة - إن هؤلاء المشركين فى تناقض واضطراب فى الرأى ، فكيف ينكرون البعث ثم يطمعون فى دخول الجنة ، وكيف ينكرون الخالق وقد خلقهم أوّلا مما يعلمون ، وهو قادر على خلق مثلهم ثانيا.
وفى هذا تهكم بهم وتنبيه إلى تناقضهم فى كلامهم ، فإن الاستهزاء بالساعة ودخول الجنة مما لا يقبله إلا من عنده دخل فى العقل ، ومجانفة لصواب الرأى.
ثم سلّى رسوله عما يقولون ويفعلون فقال :
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي دعهم فى تكذيبهم وعنادهم إلى يوم البعث ، وحينئذ يعلمون عاقبة وبالهم ، ويذوقون شديد نكالهم ، حين يعرضون للحساب والجزاء ، يوم تجزى كل نفس بما عملت ، لا شفيع ولا نصير ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللّه بقلب سليم.
ثم فصل أحوالهم فى هذا اليوم فقال :
(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي يوم يخرجون من قبورهم إذا دعاهم الداعي لموقف الحساب - سراعا(29/76)
ج 29 ، ص : 77
يسابق بعضهم بعضا ، كما كانوا فى الدنيا يهرولون إلى النّصب إذا عاينوه يبتدرون أيهم يستلمه قبل - مع خشوع الأبصار وذلتها لهول ما تحققوا من العذاب ، تعلو وجوههم القترة ، لما أصابهم من الكآبة والحزن.
ثم ذكر أن ذلك العذاب الذي وقعوا فيه ، كانوا قد أنذروا به ، ولم يأتهم بغتة فقال :
(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي ذلك اليوم وما فيه من أهوال عظام كانوا قد أنذروا فى الدنيا أنهم ملاقوه وكانوا به يكذبون ، فلا عذر لهم فيما سيموا به من سوء العذاب.
خلاصة ما جوته السورة الكريمة من أغراض ومقاصد :
(1) وصف يوم القيامة وأهواله.
(2) وصف النار وعذابها.
(3) صفات الإنسان التي أوجبت له الجحيم ، وكيف يجتهد لإزالة ما به من النقص حتى يرتقى إلى المعارج ، ويخرج من عالم المادة.
(4) وعيد الكافرين على ما يلاقونه فى ذلك اليوم.(29/77)
ج 29 ، ص : 78
سورة نوح عليه السلام
هى مكية ، وعدد آيها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة النحل.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) أنه قال فى السورة السابقة : « إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ » وذكر هنا قصة نوح المشتملة على إغراقهم إلا من قد آمن ، وإبدالهم بمن هم خير منهم ، فكأنها وقعت موقع الاستدلال على تلك الدعوى.
(2) تواخى مطلع السورتين فى ذكر العذاب الموعود به الكفار.
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه أرسل نوحا إلى قومه وأمره أن ينذرهم بأسه قبل حلوله بهم ، فقال نوح : يا قوم إنى نذير لكم ، فعليكم أن تعبدوا اللّه وحده وتطيعوه ، فإن فعلتم ذلك غفر لكم ذنوبكم ومدّ فى أعماركم ، ودرأ عنكم العذاب ، وأمر اللّه إذا جاء لا يردّ ولا يدفع ، فهو العظيم الذي قهر كل شىء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات.(29/78)
ج 29 ، ص : 79
الإيضاح
(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي إنا أرسلنا نوحا رسولا إلى قومه وقلنا له : أنذرهم بأس اللّه وعذابه ، قبل أن يغرقهم الطوفان.
ثم أخبر بأنه لما أمره بذلك امتثل الأمر.
(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي قال نوح لقومه : إنى أنذركم عذاب اللّه فاحذروا أن ينزل بكم على كفركم به.
ثم فصل ما أنذرهم به ، فذكر ثلاثة أشياء :
(1) (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي آمركم بعبادة اللّه وحده ، والأمر بذلك يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح.
(2) (وَاتَّقُوهُ) أي وآمركم بتقواه وخوف عذابه ، بأن تتركوا محارمه ، وتحتنبوا مآثمه.
(3) (وَأَطِيعُونِ) أي وانتهوا إلى ما آمركم به واقبلوا نصيحتى لكم.
ولما كلفهم بهذه الثلاثة الأشياء وعدهم عليها بشيئين :
(1) (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي إذا فعلتم ما أمركم به ، وصدقتم ما أرسلت به إليكم - غفر لكم ذنوبكم وسامحكم فيما فرط منكم من الزلات.
وفى هذا وعد لهم بإزالة مضار الآخرة عنهم ، وأمنهم من مخاوفها.
(2) (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويمدّ فى أعماركم إلى الأمد الأقصى الذي قدره اللّه إذا آمنوا وأطاعوا وراء ما قدره لهم ، على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان.
واستدل العلماء بهذه الآية على أن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها فى العمر(29/79)
ج 29 ، ص : 80
حقيقة كما
جاء فى الحديث : « صلة الرحم تزيد فى العمر »
ولا ريب أن التقوى والطاعة تؤثر هذا الأثر ، إذ طهارة الأرواح ، ونقاء الأشباح تطيل العمر ، فبها يحفظ الأمن ، وتكتسب الفضائل ، وتجتلب المنافع المادية.
والخلاصة - إن الأجل أجلان على ما قاله الزمخشري وعبارته : فقد قضى اللّه مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة فقيل لهم آمنوا : يؤخركم إلى أجل مسمى ، أي إلى وقت سماه اللّه وضربه أمدا تنتهون إليه ، وهو الوقت الأطول ، وهو تمام الألف اه.
ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول فلا بد من الموت فقال :
(إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن أجل اللّه الذي كتبه على خلقه فى أم الكتاب إذا جاء لا يؤخر عن ميقاته لو كنتم من أهل العلم ، لكنكم لستم من أهله ، ولذا لم تسارعوا إلى العمل بما أمركم به.
وفى قوله لو كنتم تعلمون : زجر لهم عن حب الدنيا والتهالك عليها ، والإعراض عن أوامر الدين ونواهيه ، وكأنهم قد بلغ بهم الأمر إلى أنهم شاكون فى الموت.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 20]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)(29/80)
ج 29 ، ص : 81
شرح المفردات
ليلا ونهارا : أي دائما ، جعلوا أصابعهم فى آذانهم : أي سدوا مسامعهم ، استغشوا ثيابهم : أي تغطوا بها لئلا يرونى كراهة النظر إلىّ ، السماء : أي المطر كما جاء فى قوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم فحلّوا حيثما نزل السماء
مدرارا : أي متتابعا ، جنات : أي بساتين ، ترجون : أي تخافون ، وقارا :
أي عظمة وإجلالا ، أطوارا : واحدها طور وهو الحال والهيئة ، فطورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا عظاما ، ثم تكسى العظام لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، طباقا : أي بعضها فوق بعض ، بساطا : أي منبسطة تتقلبون فيها ، فجاجا : أي واسعة ، واحدها فج ، وهو الطريق الواسع قاله الفراء وغيره.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن نوحا أمر أن ينذر قومه قبل أن يحل بهم بأس ربهم ، وعظيم بطشه ، وأنه لبّى نداءه ، فأنذرهم وأمرهم بتقواه وطاعته ، ليغفر ذنوبهم ، ويمدّ فى أعمارهم - أردف ذلك بمناجاته لربه وشكواه إليه ، أنه أنذرهم بما امره به ، فعصوه وردّوا عليه ما أتاهم به من عنده ، ولم يزدهم دعاؤه إلا إدبارا عنه ، وهربا منه ، وأنه كان يدعوهم تارة جهرة ، وتارة سرّا ، وأمرهم أن يطلبوا من ربهم(29/81)
ج 29 ، ص : 82
مغفرة ذنوبهم ، ليرسل المطر عليهم ، ويمدهم بالأموال والبنين ، ويجعل لهم الجنات والأنهار ، ثم نبههم إلى عظمته تعالى ، وواسع قدرته ، ولفت أنظارهم إلى خلقه تعالى لهم أطوارا ، وخلقه للسموات طباقا ، وجعل القمر فيهن نورا ، وجعل الشمس سراجا ، وجعل الأرض كالبساط يتنقلون فيها من واد إلى واد ، ومن قطر إلى قطر.
الإيضاح
(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) أي قال رب إنى أنذرت قومى ولم أترك دعاءهم فى ليل ولا نهار امتثالا لأمرك ، وكلما دعوتهم ليقتربوا من الحق فرّوا منه ، وحادوا عنه.
ثم أخبر عن أحوال أخرى لهم تدل على الفظاظة وجفاء الطبع فقال :
(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) أي وإنى كلما دعوتهم إلى الإقرار بوحدانيتك ، والعمل لطاعتك ، والبراءة من عبادة كل ما سواك ، لتغفر لهم ذنوبهم - سدّوا مسامعهم حتى لا يسمعوا دعائى ، وتغطّوا بثيابهم كراهة النظر إلىّ ، وأكبّوا على الكفر والمعاصي ، وتعاظموا عن الإذعان للحق ، وقبول ما دعوتهم إليه من النصح.
ثم بين أنه ما ترك وسيلة فى الدعوة إلا فعلها فقال :
(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً. ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي ثم إنى كنت أسرّ لهم بالدعوة تارة ، وأجهر لهم بها تارة أخرى ، وطورا كنت أجمع بين الإعلان والإسرار.
والخلاصة - إنه عليه الصلاة والسلام لم يترك سبيلا للدعوة إلا فعلها ، فاستعمل طرقا ثلاثة :
(1) بدأهم بالمناصحة فى السر ، فعاملوه بما ذكر فى الآية من سدّ الآذان(29/82)
ج 29 ، ص : 83
والاستغشاء بالثياب ، والإصرار على الكفر ، والاستعظام عن سماع الدعوة.
(2) جاهرهم بالدعوة ، وأعلنهم على وجه ظاهر لا خفاء فيه.
(3) جمع بين الإعلان والإسرار.
ثم بين ما كان يقول لهم فقال :
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي فقلت لهم : سلوا ربكم غفران ذنوبكم ، وتوبوا إليه من كفركم وعبادة ما سواه من الآلهة ، ووحدوه وأخلصوا له العبادة.
(إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) لذنوب من أناب إليه وتاب منها ، متى صدقت العزيمة ، وخلصت النية ، وصحت التوبة ، فضلا منه وجودا ، وإن كانت كزيد البحر.
ولما كان الإنسان مجبولا على محبة الخيرات العاجلة كما قال : « وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ » لا جرم أعلمهم أن إيمانهم باللّه يجمع لهم إلى الحظ الأوفر فى الآخرة ، الخصب والغنى وكثرة الأولاد فى الدنيا ، ومن ثم وعدهم بخمسة أشياء :
(1) (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي يرسل المطر عليكم متتابعا ، فتزرعون ما تحبون ، ويكثر الخصب والغلات النافعة لكم فى معاشكم ، من حبوب وثمار ، وتحدث لكم طمأنينة وأمن وراحة لتوافر ما تشتهون ، مما هو سبب السعادة والهدى.
(2) (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ) أي ويكثر لكم الأموال والخيرات على سائر ضروبها واختلاف ألوانها.
(3) (وَبَنِينَ) أي ويكثر لكم الأولاد فقد ثبت لدى علماء الاجتماع أن النسل لا يكثر فى أمة إلا إذا استتب فيها الأمن ، وارتفع منها الظلم ، وساد العدل بين الأفراد ، وتوافرت لهم وسائل الرزق.
وأصدق شاهد على هذا الأمة المصرية ، فقد كانت فى عصر المماليك فى القرن السابع عشر الميلادى ، أيام الظلم والعسف والجبروت ، فى فقر وضنك ، وسلب ونهب ، فتدهور عدد سكانها حتى بلغ الثلاثة الملايين.(29/83)
ج 29 ، ص : 84
ولما اعتلى عرش مصر « محمد على » رأس الأسرة المالكة فى مصر فى أوائل القرن الثامن عشر ، وساس البلاد بحكمته ، وسعى جهد طاقته فى تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم ، تكاثر النسل وما زال يزيد ، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده فى عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا.
(4) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) أي ويوجد لكم بساتين عامرة تأخذون من ثمارها ما به تنتفعون ، ولن يطمع الناس فى الفاكهة إلا إذا وجدت لديهم الأقوات ، وكثرت الغلات.
(5) (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) جارية بها يكثر الخصب والزرع بمختلف ألوانه وأشكاله.
لا جرم أن الأمة الكثيرة البساتين والمزارع ، يعمها الرخاء ، وتسعد فى حياتها الدنيوية.
وعن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب فقال له : استغفر اللّه ، وشكا إليه آخر الفقر وقلّة النسل فقال له : استغفر اللّه ، وشكا إليه ثالث جفاف بساتينه. فقال له :
استغفر اللّه ، فقال له بعض القوم : أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة ، فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فقال : ما قلت من نفسى شيئا ، إنما اعتبرت قول اللّه عز وجل حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » الآية.
وبعد أن أدّبهم الأدب الخلقي بطلبه منهم تهذيب نفوسهم واتباعهم مكارم الأخلاق ، شرع يؤدبهم الأدب العلمي بدراسة علم التشريح ، وعلم النفس ، ودراسة أحوال العوالم العلوية والسفلية فقال :
(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي مالكم لا تخافون عظمة اللّه وقد خلقكم على أطوار مختلفة ، فكنتم نطفة فى الأرحام ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ثم كسا عظامكم لحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.(29/84)
ج 29 ، ص : 85
وقد ذكرت هذه الأطوار فى سور كثيرة كسورة آل عمران وسورة المؤمنين وغيرهما.
وبعد أن ذكر النظر فى الأنفس أتبعه بالنظر فى العالم العلوي والسفلى فقال :
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) أي ألم تروا كيف خلق السموات متطابقة بعضها فوق بعض ، وجعل للقمر بروجا ومنازل وفاوت نوره ، فجعله يزداد حينا حتى يتناهى ، ثم يبتدئ ينقص حتى يستسر ليدل ذلك على مضىّ الشهور والأعوام ، وجعل الشمس كالسراج يزيل ظلمة الليل.
ونحو الآية قوله : « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ، يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ » .
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) أي واللّه أنبت أباكم آدم من الأرض كما قال :
« إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ » .
وقد يكون المعنى - إنه أنبت كل البشر من الأرض ، لأنه خلقهم من النطف وهى متوالدة من الأغذية المتوالدة من النبات المتوالد من الأرض.
وجعلهم نباتا لأنهم ينمون كما ينمو النبات ويلدون ويموتون ، وأيديهم وأرجلهم كأفرع النبات : وعروقهم المتشعبة فى الجسم والتي يجرى فيها الدم وينتشر فى الأطراف ، تشبه ما فى الشجر ، وأحوالهم مختلفة كأحوال النبات ، فمنه الحلو والمرّ والطيب والخبيث ، واستعدادهم مختلف كاستعداد النبات ، فلكل امرئ خاصة كما لكل نوع من النبات خاصة.
(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) أي ثم يعيدكم فى الأرض كما كنتم ترابا ، ويخرجكم منها متى شاء أحياء كما كنتم بشرا.(29/85)
ج 29 ، ص : 86
ثم أخذ يعدد النعم التي أعدها للإنسان فى الأرض ، وذكر أن الأرض مهيأة مسخرة لأمره كتسخير البساط للرجل يتقلب عليه كما يشاء ، ويظهر مواهبه لاستخراج ما فى بطنها من المعادن المختلفة ، وخيراتها المنوعة فقال :
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي واللّه بسط لكم الأرض ومهّدها ، وثبتها بالجبال الراسيات.
ثم بين حكمة هذا فقال :
(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً) أي لتستقروا عليها ، وتسلكوا فيها ، أين شئتم من نواحيها وأرجائها وأقطارها المختلفة.
وقصارى ما سلف - إن نوحا عليه السلام أمر قومه بالنظر فى علوم الأنفس والآفاق من معدن ونبات وحيوان وإنسان وسماء وأرض وشموس وأقمار.
[سورة نوح (71) : الآيات 21 الى 24]
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
شرح المفردات
الخسار : الخسران ، كبارا : أي كبيرا عظيما ، لا تذرنّ : أي لا تتركنّ ، ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر : أسماء أصنام كانوا يعبدونها :
المعنى الجملي
أخبر عن نوح أنه أعلم ربه وهو العليم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة أنه مع ما استعمله من الوسائل والأساليب المختلفة المشتملة على الترغيب طورا والترهيب طورا(29/86)
ج 29 ، ص : 87
آخر - كذبوه وعصوه واتبعوا أبناء الدنيا ممن غفل عن أمر ربه ، ومتّع بمال وولد وقالوا : لا نترك آلهتنا التي عبدناها نحن وآباؤنا من قبل ، ولا عجب فقد أضلت الأصنام خلقا كثيرا ، فدعا عليهم : رب اخذل هؤلاء القوم الظالمين ولا تزدهم إلا ضلالا.
الإيضاح
(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي قال نوح : رب إنهم عصونى فيما أمرتهم به ، وأنكروا ما دعوتهم إليه ، واتبعوا رؤساءهم الذين بطروا بأموالهم ، واغتروا بأولادهم ، فكان ذلك زيادة فى خسرانهم وخروجا عن محجة الصواب ، وبعدا من رحمة اللّه.
(وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) أي مكرا كبيرا ، فاحتالوا فى الدين ، وصدّوا الناس عنه بأساليب شتى ، وأغروهم بأذى نوح عليه السلام.
(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) أي وقال بعضهم لبعض : لا تتركوا عبادة آلهتكم وتعبدوا رب نوح ، ولا سيما هذه الأصنام التي هى أكبر المعبودات وأعظمها.
وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب فيما بعد. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : صارت هذه الأوثان فى العرب بعد فكان :
ودّ : لكلب.
سواع : لهذيل.
يغوث : لغطيف بالجرف عند سبأ يعوق : لهمدان.
نسر : لحمير آل ذى الكلاع.
وهناك أصنام أخرى لأقوام آخرين :(29/87)
ج 29 ، ص : 88
اللات : لثقيف بالطائف.
العزّى : لسليم وغطفان وجشم.
مناة : لخزاعة بقديد.
أساف : لأهل مكة.
نائلة : « « هبل : « « وهو أكبر الأصنام وأعظمها عندهم ومن ثم كان يوضع فوق الكعبة.
وليس المراد أن أعيان هذه الأصنام صارت إليهم ، بل المراد أنهم أخذوا هذه الأسماء وسموا بها أصنامهم.
(وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي وقد ضل بعبادة هذه الأصنام التي استحدثت على صور هؤلاء النفر ، كثير من الناس ، فقد استمرت عبادتها قرونا كثيرة كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام فى دعائه : « واجنبنى وبنىّ أن نعبد الأصنام. ربّ إنّهنّ أضللن كثيرا من النّاس » .
ثم دعا على قومه لتمردهم وعنادهم فقال :
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا) أي ولا تزد الظالمين لكفرهم بآياتك إلا ضلالا وطبعا على قلوبهم حتى لا يهتدوا إلى حق ، ولا يصلوا إلى رشد.
وقصارى ما قاله عليه الصلاة والسلام - أن دعا عليهم بالخذلان ، وأن دعا لنفسه بالنصر وظهور دينه كما جاء فى قوله : « رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ » .
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)(29/88)
ج 29 ، ص : 89
شرح المفردات
مما خطيئاتهم : أي من أجل ذنوبهم وآثامهم ، أغرقوا : أي بالطوفان ، نارا :
أي عذابا فى القبر ، ديّارا : أي أحدا ، تبارا. أي هلاكا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر مقالة نوح وشكواه إليه - أردفه بما جازاهم به من الغرق والعذاب ، وأنهم لم يجدوا من يدفعهما عنهم ، ثم أخبر بدعاء نوح على قومه ، وعلل هذا بأنهم يضلون الناس وأنهم لو نسلوا لم يلدوا إلا الكفرة الفجرة ، ثم دعا لنفسه ولوالديه ولمن دخل سفينته من المؤمنين والمؤمنات بالمغفرة ، ودعا على قومه بالتبار والهلاك.
الإيضاح
(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً) أي من أجل معاصيهم وذنوبهم أغرقهم اللّه بالطوفان ، وسيعذبهم فى قبورهم ، ولا يجدون من آلهتهم أنصارا ولا أعوانا يدفعون عنهم ما كتب عليهم ، وبذا ضلّ سعيهم ، وخاب فألهم.
(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي وقال نوح رب لا تدع على وجه الأرض منهم أحدا.(29/89)
ج 29 ، ص : 90
ثم بيّن علة هذا الدعاء بشيئين :
(1) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) أي إنك إن أبقيت منهم أحدا أضلوا عبادك الذين آمنوا بك.
(2) (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) أي وإنهم لا يلدون إلا الكفرة الفجرة.
وقد كان دعاؤه عليهم بعد حبرته لهم ، وتمرّسه بأحوالهم ، ومكثه بين ظهرانيهم ألف سنة إلا خمسين عاما.
روى أن الرجل منهم كان ينطلق بابنه إليه ويقول له : احذر هذا فإنه كذاب ، وإن أبى أوصانى بمثل هذه الوصية ، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك.
وبعد أن دعا على الكفار ، دعا لنفسه ولأبويه وللمؤمنين والمؤمنات بالمغفرة فقال.
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي رب استر على ذنوبى وعلى والدىّ وعلى من دخل مسجدى ومصلاى مصدقا بنبوّتى وبما فرضته علىّ ، وعلى المصدّقين بوحدانيتك ، والمصدقات بذلك من كل أمة إلى يوم القيامة.
ثم أعاد الدعاء على الكافرين مرة أخرى لغيظه منهم فقال :
(وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) أي ولا تزد الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك إلا خسرانا وبعدا من رحمتك.
وصلّ ربنا على محمد وآله ، واغفر لي ولوالدىّ وللمؤمنين والمؤمنات.(29/90)
ج 29 ، ص : 91
مقاصد هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) دعوة نوح قومه إلى الإيمان وقد حوت :
(ا) طلب تركهم للذنوب ، وأنهم إذا فعلوا ذلك أكثر اللّه لهم المال والبنين.
(ب) النظر فى خلق السموات والأرض والأنهار والبحار.
(ح) النظر فى خلق الإنسان وأنه بخلق فى الأرض كما يخلق النبات ، وأن الأرض مسخرة له يتصرف فيها كما يشاء.
(2) كفر قومه وعقابهم فى الدنيا والآخرة :(29/91)
ج 29 ، ص : 92
سورة الجن
هى مكية ، وآيها ثمان وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعراف.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :
(1) أنه جاء فى السورة السابقة : « اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ » وجاء فى هذه السورة : « وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً » .
(2) أنه ذكر فى هذه السورة شىء يتعلق بالسماء كالسورة التي قبلها.
(3) أنه ذكر عذاب من يعصى اللّه فى قوله : « وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً » وذكر هناك مثله فى قوله : « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً » .
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)(29/92)
ج 29 ، ص : 93
شرح المفردات
النفر : ما بين الثلاثة والعشرة ، والجن : واحدهم جنىّ كروم ورومى ، عجبا :
أي عجيبا بديعا مباينا لكلام الناس فى حسن النظم ودقة المعنى ، والجد : العظمة يقال جدّ فلان فى عينى : أي عظم ، قال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فينا : أي جلّ قدره وعظم ، والسفيه : الجاهل ، شططا : أي غلوّا فى الكذب بنسبة الصاحبة والولد إليه ، يعوذون : أي يلتجئون ، وكان الرجل إذا أمسى يقفر قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، رهقا : أي تكبّرا ، وأصل الرهق : الإثم وغشيان المحارم
المعنى الجملي
اعلم أن اللّه سبحانه سمى سور كتابه بأسماء تبعث على النظر والاعتبار وتوجب التفكير ، فسمى بالأنعام وبالحشرات كالنمل والنحل والعنكبوت وبما هو ألطف من ذلك كالنور ، كما سمى ببعض الأنبياء ، كيوسف ويونس وهود ، وببعض الأخلاق كالتوبة ، وببعض الكواكب العلوية كالشمس والقمر والنجم ، وببعض الأوقات كالليل والفجر والضحى ، وببعض المعادن كالحديد ، وببعض الأماكن كالبلد ، وببعض النبات كالتين وكل ذلك مما نراه.
وهنا سمى هذه السورة بعالم لا نراه وهو عالم الجن ، وهو عالم لم يعرف فى الإسلام إلا من طريق الوحى ، وليس للعقل دليل عليه ولقد أصبحت هذه العوالم المستترة عنا الشغل الشاغل اليوم للعلماء والباحثين ، فصار علماء أوربا يدرسون عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الأرواح ، ويطلعون على غوامض هذه العوالم ، فتحدث الناس مع أرواح أصحابهم الذين ماتوا ، واتصل العالم الإنسى بالعالم الجنى ، وبعالم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة وقد خطب السير أو ليفرلوذج من أشهر علماء الطبيعة فى هذا العصر ،(29/93)
ج 29 ، ص : 94
فى بلاد الإنكليز فى مجمع من كبار العلماء قال : إنه حادث الأموات ، وإن هناك عقولا أسمى من عقولنا فى عالم الأرواح ، وإنهم يهتمون بنا ، وإن إخوانى من رجال الجماعة الروحية الذين ماتوا - كلمتهم بعد موتهم ، وبرهنوا بأدلة قاطعة أنهم هم الذين يكلموننى ، وقال : إن كل ما يقوله الأنبياء عن عالم الأرواح وعن اللّه فهو حق بلا تأويل.
وجاء فى كتاب « إخوان الصفا » إن أرواح الأحياء بعد الموت هم الموسوسون إن كانوا أشرارا ، وهم الملهمون الناس الخير إن كانوا أخيارا.
وقال شير محمد الهندي فى كتابه فى المجلس السابع : لقد جمعت بين ما جاء به الدين الإسلامى والكشف الحديث كقولهم : إن كل علم وكل خير وشر حاصل فى الأفئدة منشؤه الأرواح الفاضلة والأرواح الناقصة ، وهو بعينه ما
جاء فى الحديث : « فى القلب لمّتان لمّة من الملك ولمّة من الشيطان »
وهذا مصداق لقوله تعالى : « سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ » . والعجب أن الفرنجة يكشفون هذا ولا يعلمون أنه مصداق دين الإسلام اه.
واعلم أن ما جاء فى هذه السورة من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل قد بقي فى الإسلام حوالى أربعة عشر قرنا تتلقاه الأمة بالقبول جيلا بعد جيل دون بحث عن حقائقه حتى عنى علماء أوربا فى العصر الحديث بالبحث عنه ، فظهر لهم أن الأرواح الناقصة تسمع كلام الناس وتهتدى به ، وأنها لا تعرف ما فوق طاقتها ، فلا تهتدى بهدى الأرواح العالية فالنبىّ صلى اللّه عليه وسلم مثلا قد ارتقى فى العلم إلى حد لا يمكن الأرواح الناقصة أن تتعلم منه فما أشبه حالهم بحال الجهال الذين يسمعون من أبنائهم المتعلمين العلم ولا يفهمونه ، وما مثل حال الأرواح الناقصة بعد الموت إلا مثل حالها المشاهدة فى الدنيا ، فإنا نرى الجهال لا يجلسون فى مجالس العلم إلا قليلا حين يتنزل العلماء لإصلاح حالهم ، ولا يظهر لهم إلا القليل من ثمرات العلم ، فهم فى الحياة الدنيا ممنوعون من السمع ، وقد يشتد المنع إذا كان فى السماع مفسدة(29/94)
ج 29 ، ص : 95
كمعرفة الأسرار الحربية ، والخطط السياسية التي ينبغى أن تبقى سرا مكتوما بين الدول ، وهذا المنع الذي نشاهده أشبه بالمنع من استراق السمع ، لأنه إنما كان لحفظ الدرجات ، وهى المعارج لأربابها.
الإيضاح
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ) أمر اللّه رسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى به إليه من قصص الجن ، لما فى علمه من فوائد ومنافع للناس ، منها :
(1) أن يعلموا أنه كما بعث عليه الصلاة والسلام إلى الإنس فقد بعث إلى الجن.
(2) أن يعلموا أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
(3) أن يعلموا أن الجن مكلفون كالإنس.
(4) أن يعلموا أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
(5) أن تعلم قريش أن الجن على تمردها لما استمعت القرآن عرفت إعجازه وآمنت به.
وظاهر الآية يدل على أنه عليه الصلاة والسلام علم استماعهم له بالوحى لا بالمشاهدة و
فى الصحيحين من حديث ابن عباس ، ما قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ ، وقد حيل بين الجن والسماء بالشهب ، فقالوا : ما ذاك إلا لشىء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ من ذهب منهم إلى تهامة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم وهو يصلى الفجر بأصحابه بنخلة ، فلما استمعوا له قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين السماء ، ورجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إلخ ، فأنزل اللّه عليه : « قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ » الآيات ، وقد كان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقد حكى اللّه عن الجن أشياء :(29/95)
ج 29 ، ص : 96
(1) (فَقالُوا : إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كما جاء فى قولهم : « فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ » إنا سمعنا كتابا بديعا يهدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم ، فصدقنا به ، ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك باللّه.
(2) (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) أي وإنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك باللّه نزهوا ربهم عن الزوجة والولد ، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها ، ولأنها من جنس الزوج كما قال : « خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها » ، والولد للتكثر والاستئناس به ، والحاجة إليه حين الكبر وبقاء الذكر والشهرة كما قال :
وكم أب علا بابن ذر اشرف كما علت برسول اللّه عدنان
واللّه سبحانه منزه عن ذلك ، تعالى ربّنا علوا كبيرا.
والخلاصة - علا ملك ربنا وسلطانه أن يكون ضعيفا ضعف خلقه الذين يضطرهم الشهوة إلى اتخاذ صاحبة أو ملامسة يكون منها الولد.
(3) (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً) أي وإن الجهال من الجن كانوا يقولون قولا بعيدا عن الصواب ، بنسبة الولد والصاحبة إليه تعالى.
(4) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي وأنا كنا نظن أن لن يكذب أحد على اللّه تعالى ، فينسب إليه الصاحبة والولد ، ومن ثم اعتقدنا صحة قول السفيه ، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم كانوا كاذبين ، وهذا منهم بإقرار بأنهم إنما وقعوا فى تلك الجهالات بسبب التقليد ، وأنهم إنما تخلصوا منها الاستدلال والبحث.
(5) (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) أي وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى الفقر برجال من الجن ، فزادوا الجن بذلك طغيانا وغيّا ، بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم.(29/96)
ج 29 ، ص : 97
وخلاصة ذلك - أنهم لما استعاذوا بالجن خوفا منهم ولم يستعيذوا باللّه ، استذلوهم واجترءوا عليهم وزادوهم ظلما.
(6) (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً) أي وأن الجن ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث اللّه رسولا إلى خلقه ، يدعوهم إلى توحيده ، والإيمان برسله واليوم الآخر.
[سورة الجن (72) : الآيات 8 الى 17]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)
شرح المفردات
لمسنا السماء : أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا ، والحرس والحرس ، واحدهم حارس ، وهو الرقيب ، شديدا : أي قويا ، والسمع : الاستماع ، والشهب :
واحدها شهاب ، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب ، رصدا : أي أرصد له ليرمى به(29/97)
ج 29 ، ص : 98
رشدا : أي خيرا وصلاحا ، قددا : أي جماعات متفرقة وفرقا شتى ، ويقال صار القوم قددا : إذا تفرقت أحوالهم ، واحدها قدّة وهى القطعة من الشيء ، هربا : أي هاربين إلى السماء ، والمراد بالهدى القرآن ، والبخس : النقص ، والرهق الظلم والمكروه الذي يغشى المظلوم ، القاسطون : أي الجائرون العادلون عن الحق ، تحرّوا رشدا : أي قصدوا طريق الحق ، حطبا : أي وقودا للنار ، والطريقة : هى طريق الإسلام ، غدقا : أي كثيرا ، يسلكه : أي يدخله ، صعدا : أي شاقا يعلو المعذب ويغلبه ، يقال فلان فى صعد من أمره : أي فى مشقة ، ومنه قول عمر : ما تصعّدنى شىء كما تصعّدنى فى خطبة النكاح ، أي ما شقّ علىّ ، وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما يكون فى الخاطب من أوصاف موروثة ومكتسبة ، فكان يشق عليه أن يقول الصدق فى وجه الخاطب وعشيرته.
الإيضاح
(7) (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) يخبر سبحانه عن مقال الجن حين بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم وأنزل عليه القرآن وحفظ منهم ، إن السماء ملئت حراسا شدادا وشهبا تحرسها من سائر أرجائها وتمنعنا من استرق السمع كما كنا نفعل.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال : كان للشياطين مقاعد فى السماء يسمعون فيها الوحى ، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا ، فأما الكلمة فتكون حقا ، وأما ما زادوا فيكون باطلا ، فلما بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منعوا مقاعدهم ، فذكروا ذلك لإبليس ، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك ، فقال لهم ما هذا إلا من أمر قد حدث فى الأرض ، فبعث جنوده فوجدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قائما يصلى بين جبلين بمكة ، فأتوه فأخبروه ، فقال : هذا هو الحدث الذي حدث فى الأرض.(29/98)
ج 29 ، ص : 99
(8) (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) أي وأنا كنا نقعد قبل ذلك فيها مقاعد خالية من الحرس والشهب ، لنسترق السمع ، فطردنا منها حتى لا نسترق شيئا من القرآن ونلقيه على ألسنة الكهان ، فيلتبس الأمر ولا يدرى الصادق ، فكان ذلك من لطف اللّه بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز.
(فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي فمن يرم أن يسترق السمع اليوم يجد له شهابا مرصدا لا يتخطاه ولا يتعداه ، بل يهلكه ويمحقه.
وإنا لنؤمن بما جاء فى الكتاب الكريم من أن الجن كانوا يسترقون السمع ، ومنعوا من ذلك بعد بعثة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن لا نعرف كيف كانوا يسترقون السمع ، ولا نعرف كنه الحرس الذين منعوهم ، ولا المراد بالشهب التي كانت رصدا لهم والجن أجسام نارية فكيف تحترق من الشهب.
ويرى قوم أن مقاعد السمع هى مواضع الشبه التي يوسوس بها الجن فى صدور الناس ، ليصدوهم عن اتباع الحق ، والحرس : هى الأدلة العقلية التي نصبها سبحانه لهداية عباده ، والشهب الأدلة الكونية التي وضعها فى الأنفس والآفاق.
وعلى هذا يكون المعنى : إن القرآن الكريم بما نصب من الأدلة العقلية والأدلة الكونية حرس للدين من تطرق الشبه التي كان الشياطين يوسوسون بها فى صدور الزائفين ، ويحوكونها فى قلوب الضالين ، ليمنعوهم من تقبل الدين والاهتداء بهديه ، فمن يكفر فى إلقاء الشكوك والأوهام فى نفوس الناس بعدئذ يجد البراهين التي تقتلعها من جذورها.
(9) (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أي وإن السماء لم تحرس إلا لأحد أمرين :
(ا) إما لعذاب يريد اللّه أن ينزله على أهل الأرض بغتة.
(ب) وإما لنبىّ مرشد مصلح.(29/99)
ج 29 ، ص : 100
وكأنهم يقولون : أ عذابا أراد اللّه أن ينزله بأهل الأرض ، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا بالشهب ، أم أراد بهم ربهم الهدى ، بأن يبعث منهم رسولا مرشدا يهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم ؟ .
(10) (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي وأنا منا المسلمون العاملون بطاعة اللّه ، ومنا قوم دون ذلك ، وأنا كنا أهواء مختلفة وفرقا شتى ، فمنا المؤمن والفاسق والكافر كما هى الحال فى الإنس.
(11) (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) أي وأنا علمنا أن لن نعجز اللّه فى الأرض أينما كنا فى أقطارها ، ولن نعجزه هربا إن طلبنا ، فلا نفوته بحال.
والخلاصة - إن اللّه قادر علينا حيث كنا ، فلا نفوته هربا.
(12) (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) أي وأنا لما سمعنا القرآن الذي يهدى إلى الطريق المستقيم صدقنا به وأقررنا بأنه من عند اللّه ، ومن يصدق باللّه وبما أنزله على رسله فلا يخاف نقصا من حسناته ، ولا ذنبا يحمل عليه من سيئات غيره قاله قتادة.
وقصارى ذلك - أنه ينال جزاءه وافرا كاملا.
(13) (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) أي وأنا منا المؤمنون الذين أطاعوا اللّه وأخبتوا إليه وعملوا صالح الأعمال ، ومنا الجائرون عن النهج القويم وهو الإيمان باللّه وطاعته ، ومن آمن باللّه وأطاعه فقد سلك الطريق الموصل إلى السعادة ، وقصد ما ينجيه من العذاب.
ثم ذم الجنّ الكافرين منهم فقالوا :
َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)
أي وأما الجائرون عن سنن الإسلام فكانوا حطبا لجهنم توقد بهم ، كما توقد بكفرة الإنس ، وقد ذكر ثواب المؤمنين منهم بقوله : « فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً » .(29/100)
ج 29 ، ص : 101
وإلى هنا انتهى كلام الجن ثم عاد إلى ذكر الموحى به إلى رسوله فقال :
(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) أي وأوحى إليه أنه لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام ، لوسّعنا عليهم أرزاقهم ، ولبسطنا لهم فى الدنيا.
وإنما خص الماء الغدق بالذكر ، لأنه أصل المعاش ، وكثرته أصل السعة ومن ثم قيل حيثما كان الماء كان المال ، وحيثما كان المال كانت الفتنة ، ولندرة وجوده بين العرب ، ومن ثمّ امتنّ اللّه على نبيّه بقوله : « إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ » على تفسير الكوثر بالنهر الجاري ، ونحو الآية قوله : « وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ » .
وسرّ هذا ما عرفت غير مرة من أن الخصب والسعة لا يوجدان إلا حيث نوجد الطمأنينة والعدل ويزول الظلم ، وتكون الناس سواسية فى نيل الحقوق ، فلا ظلم ولا إرهاق ، ولا محاباة ولا رشا فى الأحكام.
ثم ذكر سبب البسط حينئذ فقال :
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر لنرى هل يشكروننا على هذه النعم ، فإن وفّوها حقها كان لهم منى الجزاء الأوفى ، وإن نكصوا على أعقابهم استدرجناهم وأمهلناهم ، ثم أخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، كما قال : « وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » .
(وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) أي ومن يعرض عن القرآن وعظاته ، فلا يتبع أوامره ولا ينتهى عن نواهيه - يدخله فى العذاب الشاق الذي يعلوه ويغلبه ، ولا يطيق له حملا.(29/101)
ج 29 ، ص : 102
[سورة الجن (72) : الآيات 18 الى 24]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
شرح المفردات
المساجد : واحدها مسجد ، موضع السجود للصلاة والعبادة ، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين ، فلا تدعوا : أي فلا تعبدوا ، يدعوه : أي يعبده ، لبدا : (بكسر اللام وفتح الباء) أي جماعات ، واحدها لبدة ، والمراد متراكمين متزاحمين ، ولا رشدا : أي ولا نفعا ، ملتحدا : أي ملجأ يركن إليه ، قال :
يا لهف نفسى ونفسى غير مجدية عنّى وما من قضاء اللّه ملتحد
بلاغا من اللّه : أي تبليغا لرسالاته.
الإيضاح
(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) أي قل أوحى إلىّ أنه استمع نفر من الجن ، وأن المساجد للّه فلا تعبدوا فيها غير اللّه أحدا ولا تشركوا به فيها شيئا.
وعن قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا باللّه معبودات أخرى لهم ، فأمرنا بهذه الآية أن نخلص للّه تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد.(29/102)
ج 29 ، ص : 103
وقال الحسن : المراد بالمساجد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعدّ لذلك أم لا ، إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة.
وكأنه أخذ ذلك مما
فى الحديث الصحيح « جعلت لى الأرض مسجدا وطهورا » .
(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي ولما قام محمد صلى اللّه عليه وسلم يعبد اللّه ، كاد الجن يكونون جماعات بعضها فوق بعض تعجبا مما شاهدوا من عبادته ، وسمعوا من قراءته ، واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا ، إذ رأوا عالم يروا مثله ، ولا سمعوا مثل ما سمعوا.
وقال الحسن وقتادة : إنه لما قام عبد اللّه بالرسالة يدعو اللّه وحده مخالفا للمشركين فى عبادتهم الأوثان - كاد الكفار لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون متراكمين جماعات جماعات.
قال مقاتل : إن كفار مكة قالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم : إنك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا ، فأنزل اللّه :
(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل لأولئك الذين كادوا يكونون عليك لبدا : إنما أعبد اللّه ربى ولا أشرك به فى العبادة أحدا ، وذلك ليس ببدع ولا مستنكر يوجب العجب والإطباق على عداوتى.
ثم بيّن أنه لا يملك من الأمر شيئا ، فهو لا يستطيع هدايتهم ولا جلب الخير لهم فقال :
(قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي قل أيها الرسول لأولئك المشركين الذين ردوا عليك ما جئتهم به من النصيحة : إنى لا أملك لكم ضرا فى دينكم ولا دنياكم ، ولا نفعا أجلبه لكم ، وإنما الذي يملك ذلك كله هو اللّه الذي له ملك كل شىء ، وهو القادر على ذلك وحده وكأنه عليه السلام أمر أن يقول : ما أردت إلا نفعكم فقابلتمونى بالإساءة ، وليس فى استطاعتي النفع الذي أردت ، ولا الضر الذي أكافئكم به ، إنما ذان للّه.(29/103)
ج 29 ، ص : 104
وفى هذا تهديد عظيم لهم وتوكل على اللّه عز وجل وأنه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه ويجزيهم بسوء صنيعهم ، وفيه إيماء إلى أنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم عليه.
ثم بيّن عجزه عن شئون نفسه بعد عجزه عن شئون غيره فقال :
(قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ، إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ) أي قل : إنى لن يجيرنى من اللّه أحد من خلقه إن أراد بي سوءا ، ولن ينصرنى منه ناصر ، ولا أجد من دونه ملجأ ولا معينا ، لكن إن بلغت رسالته وأطعته أجارنى.
والخلاصة - إنى لن يجيرنى من اللّه أحد إن لم أبلغ رسالاته.
وبعدئذ بيّن جزاء العاصين للّه ورسوله فقال :
(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي ومن يعص اللّه فيما أمر به ، ونهى عنه ، ويكذب برسوله فإن له نارا يصلاها ما كثا فيها أبدا إلى غير نهاية ، ولا محيد عنها ولا خروج منها.
ثم سلى رسوله وسرّى عنه وعيّرهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطنة ، وقلّة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء ، بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء فقال.
(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي ولا يزالون يستضعفون المؤمنين ويستهزئون بهم ، حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب فيستبين لهم من المستضعفون ؟ المؤمنون الموحدون للّه تعالى ، أم المشركون الذين لا ناصر لهم ولا معين ؟ .
وقصارى ذلك - إن المشركين لا ناصر لهم ، وهم أقلّ عددا من جنود اللّه عزّ وجل.
ونظير الآية قوله : « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ » .(29/104)
ج 29 ، ص : 105
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
المعنى الجملي
أمر سبحانه رسوله أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، ولا يدرى أ قريب وقتها أم بعيد ، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب إلا إذا أعلمه اللّه به ، وهو سبحانه يعلم أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويعلم جميع الأشياء إجمالا وتفصيلا.
قال مقاتل : إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى : « حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً » قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به ؟ فأنزل اللّه تعالى : « قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ » إلى آخر الآيات.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ؟ أمر اللّه رسوله أن يقول للناس : إن الساعة آتية لا ريب فيها ، ولكن وقتها غير معلوم ، ولا يدرى أ قريب أم يجعل له ربى أمدا بعيدا ؟
وقد كان صلى اللّه عليه وسلم يسأل عن الساعة فلا يجيب عنها ،
« ولما تبدى له جبريل فى صورة أعرابى كان فيما سأله أن قال : يا محمد أخبرنى عن الساعة ؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل » ولما ناداه ذلك الأعرابى بصوت جهورىّ فقال « يا محمد متى الساعة ؟ قال ويحك إنها كائنة فما أعددت لها ؟ قال أما إنى لم أعدّ لها(29/105)
ج 29 ، ص : 106
كثير صلاة ولا صيام ، ولكنى أحب اللّه ورسوله ، قال صلى اللّه عليه وسلم فأنت مع من أحببت » قال أنس : فما فرح المسلمون بشىء فرحهم بهذا الحديث.
(عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي عالم ما غاب عن أبصار خلقه فلم يروه ، وهذا لا يعلم به أحد إلا من ارتضى من الرسل صلوات اللّه عليهم ، فإنه يطلعهم على ما شاء منه.
ونحو الآية قوله : « وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ » .
وفى الآية إيماء إلى إبطال الكهانة والتنجيم والسحر ، لأن أصحابها أبعد الناس عن الارتضاء وأدخلهم فى السخط وإلى أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بالقرآن ، وفيها أيضا إبطال للكرامات ، لأن من تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا رسلا ، وقد خص اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب.
وقال الرازي : المراد أنه لا يطلع على غيبه المخصوص وهو قيام الساعة ، والذي يدل على ذلك أمور :
(1) أن أرباب الأديان والملل مطبقون على صحة علم التعبير وتفسير الرؤيا ، وأن المعبّر قد يخبر عن الوقائع الآتية فى المستقبل ويكون صادقا فيها.
(2) أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان وسألها عن أحوال آتية ، ذكرت أشياء ثم وقعت وفق كلامها.
(3) أنا نشاهد فى أصحاب الإلهامات الصادقة (وليس ذلك مختصا بالأولياء بل قد يكون فى السحرة) من يكون صادقا فى كثير من أخباره ، وكذلك الأحكام النجومية قد تكون مطابقة موافقة لما سيكون فى كثير من الأحيان ، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا ، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر إلى الطعن فى القرآن الكريم ، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا اه بتصرف.(29/106)
ج 29 ، ص : 107
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) الرصد القوم يرصدون كالحرس ، والراصد للشىء الراقب له ، والترصد الترقب ، والمراد بهم هنا الملائكة الحفظة أي فإنه يسلك من بين يدى من ارتضى من رسله ، ومن خلفهم حفظة من الملائكة يحفظونهم من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم حتى يبلغوا ما أوحى به إليهم ، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونهم ولا يضرونهم.
وعن الضحاك : ما بعث نبى إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين الذين يتشبهون بصورة الملك ، فإذا جاء شيطان فى صورة الملك قالوا هذا شيطان فاحذره ، وإن جاءه الملك قالوا هذا رسول ربك.
والخلاصة - أنه يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم.
ثم علل هذا الحفظ بقوله :
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) أي إنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظوا ما ينزله إليهم من الوحى ، ليعلم أن قد أبلغوا هذه الرسالات والمراد ليعلم اللّه ذلك منهم علم وقوع فى الخارج كما جاء نحو هذا فى قوله :
« وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ » .
(وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي وهو سبحانه قد أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة ، وأحصى ما كان وما سيكون فردا فردا ، فهو عالم بجميع الأشياء منفرد بذلك على أتم وجه ، فلا يشاركه فى ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم.
والخلاصة - أن الرسول المرتضى يعلمه اللّه بوساطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق برسالته ، وهو سبحانه محيط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط ، وعالم بجميع الأشياء على وجه تفصيلى ، فأين علم الوسائط من علمه ؟(29/107)
ج 29 ، ص : 108
ما تضمنته هذه السورة
اشتملت هذه السورة على مقصدين :
(1) حكاية أقوال صدرت من الجن حين سمعوا القرآن كوصفهم له بأنه كتاب يهدى إلى الرشد ، وأن الرب سبحانه تنزه عن الصاحبة والولد ، وأنهم ما كانوا يظنون أن أحدا يكذب على اللّه ، وأن رجالا من الإنس كانوا يستعيذون فى القفر برجال من الجن ، وأن الجن طلبوا خبر العالم العلوي فمنعوا ، وأن الجن لا يدرون ما ذا يحل بالأرض من هذا المنع ، وأن الجن منهم الأبرار ومنهم الفجار ، ومنهم مسلمون وجائرون عادلون عن الحق.
(2) ما أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بتبليغه إلى الخلق ، ككونه لا يشرك بربه أحدا ، وأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، وأنه لا يمنعه أحد من اللّه إن عصاه ، وأنه صلى اللّه عليه وسلم لا يدرى متى يكون وقت تعذيبهم ، فالعلم للّه وحده.(29/108)
ج 29 ، ص : 109
سورة المزمل عليه الصلاة والسلام
هى مكية إلا قوله تعالى : « وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا » . وقوله : « إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ » إلى آخر السورة فمدنية.
وعدد آيها عشرون نزلت بعد سورة القلم.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) أنه سبحانه ختم سورة الجن بذكر الرسل عليهم السلام ، وافتتح هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه السلام.
(2) أنه قال فى السورة السالفة : « وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ » وقال فى هذه : « قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا » .
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)(29/109)
ج 29 ، ص : 110
شرح المفردات
المزمل : أصله المتزمل من قولهم تزمل بثيابه إذا تلفف بها ، ورتل القرآن :
أي اقرأه على تؤدة وتمهل مع تبيين حروفه ، يقال ثغر رتل (بسكون التاء وكسرها) :
إذا كان مفلجا لا تتصل أسنانه بعضها ببعض ، سنلقى عليك : أي سنوحى إليك ، قولا ثقيلا : المراد به القرآن لما فيه من التكاليف الشاقة على المكلفين عامة وعلى الرسول خاصة ، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته ، ناشئة الليل : هى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة : أي تنهض وترتفع من قولهم نشأت السحابة إذا ارتفعت وطأ : أي مواطأة وموافقة من قولهم واطأت فلانا على كذا إذا وافقته عليه ومنه قوله تعالى : « لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ » أي ليوافقوا ، أقوم قليلا : أي أثبت قراءة ، لحضور القلب وهدوء الأصوات ، سبحا طويلا : أي تقلبا وتصرفا فى مهامّ أمورك ، واشتغالا بشواغلك ، فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة ، فعليكها فى الليل ، وأصل السبح : السير السريع فى الماء ، واذكر اسم ربك : أي ودم على ذكره ليلا ونهارا ، وتبتل إليه تبتيلا : أي انقطع عن كل شىء إلى أمر اللّه وطاعته ، واتخذه وكيلا : أي وفوض كل أمر إليه.
المعنى الجملي
قال ابن عباس : أول ما جاء جبريل النبي صلى اللّه عليه وسلم خافه وظن أن به مسّا من الجن ، فرجع من الجبل مرتعدا وقال : زمّلونى زمّلونى ، فبينا هو كذلك إذ جاءه جبريل وناداه. « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ »
ثم أمره بترتيل القرآن وقراءته بتؤدة وتأنّ ، ثم أخبره بأنه سيلقى عليه قرآنا فيه التكاليف الشاقة على المكلفين ، وأن النهوض للعبادة بالليل شديد الوطأة ولكنه أقوم لقراءة القرآن لحضور القلب ، أما قراءته فى النهار فتكون مع اشتغال(29/110)
ج 29 ، ص : 111
النفوس بأحوال الدنيا ، ثم أمره بذكر ربه والانقطاع إليه بالعبادة ، وتفويض أموره كلها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا) أي يا أيها النبي المتزمل بثيابه ، المتهيئ للصلاة ، دم عليها الليل كله إلا قليلا.
ثم فسر هذا القليل بقوله :
(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي إلا قليلا وهو النصف أو انقص من النصف أو زد على النصف إلى الثلثين ، فهو قد خير بين الثلث والنصف والثلثين.
وقصارى ذلك - أنه أمر أن يقوم نصف الليل أو يزيد عليه قليلا أو ينقص منه قليلا ، ولا حرج عليه فى واحد من الثلاثة.
وبعد أن أمره بقيام الليل للصلاة أمره بترتيل القرآن فقال :
(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) أي اقرأه على تمهل ، فإنه أعون على فهمه وتدبره ، وكذلك كان صلوات اللّه عليه ، قالت عائشة رضى اللّه عنها : كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها ،
وجاء فى الحديث : « زيّنوا القرآن بأصواتكم ، ولقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود ، يعنى أبا موسى الأشعري ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتى لحبّرته لك تحبيرا » .
وأخرج العسكري فى كتابه المواعظ عن على كرم اللّه وجهه « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال : بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدّقل :
(أردأ التمر) ولا تهذّه : (لا تسرع به) هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة » .
وعن عبد اللّه بن مغفل قال : « رأيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته يقرأ سورة الفتح فرجّع فى قراءته » أخرجه الشيخان.(29/111)
ج 29 ، ص : 112
وعن جابر قال : « خرج علينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا العربي والعجمي فقال : اقرءوا وكلّ حسن ، وسيجيئ أقوام يقيمونه كما يقام القدح : (السهم) يتعجلونه ولا يتأجلونه ، لا يجاوز تراقيهم » رواه أبو داود.
قال فى فتح البيان : والمقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب عند القراءة لا مجرد إخراج الحروف من الحلقوم بتعويج الوجه والفم وألحان الغناء كما يعتاده قرّاء هذا الزمان من أهل مصر وغيرها فى مكة المكرمة وغيرها ، بل هو بدعة أحدثها البطالون الأكالون والحمقى الجاهلون بالشرائع وأدلتها الصادقة ، وليس هذا بأول قارورة كسرت فى الإسلام اه.
والحكمة فى الترتيل : التمكن من التأمل فى حقائق الآيات ودقائقها ، فعند الوصول إلى ذكر اللّه يستشعر عظمته وجلاله ، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف ويستنير القلب بنور اللّه - وبعكس هذا فإن الإسراع فى القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني ، والنفس تبتهج بذكر الأمور الروحية ، ومن سرّ بشىء أحب ذكره كما أن من أحب شيئا لا يحب أن يمر عليه مسرعا.
ثم أتى بحملة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي ليبين سهولة ما كلّفه من القيام فقال :
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) أي إنا سننزل عليك القرآن وفيه الأمور الشاقة عليك وعلى أتباعك من أوامر ونواه ، فلا تبال بهذه المشقة وامرن عليها لما بعدها.
وقال الحسن بن الفضل : ثقيلا أي لا يحمله إلا قلب مؤيد بالتوفيق ، ونفس مزينة بالتوحيد ، وقال ابن زيد : هو واللّه ثقيل مبارك ، كما ثقل فى الدنيا يثقل فى الميزان يوم القيامة.
وقد يكون المراد - إنه ثقيل فى الوحى
فقد جاء فى حديث البخاري ومسلم : « إن الوحى كان يأتيه صلى اللّه عليه وسلم أحيانا فى مثل صلصلة الجرس ، وهذا أشده(29/112)
ج 29 ، ص : 113
عليه ، فيفصم عنه (يفارقه) وقد وعى ما قال. وأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه فيعى ما يقول ، وكان ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد عرقا »
يجرى عرقه كما يجرى الدم من الفاصد.
ثم علل الأمر بقيام الليل فقال :
(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي لأن قيام الليل أشد مواطأة وموافقة بين القلب واللسان ، وأجمع للخاطر فى أداء القراءة وتفهمها ، وهو أفرغ للقلب من النهار ، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات والبحث عن أمور المعاش ، ومن ثم قال :
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا) أي إن لك فى النهار تقلّبا وتصرفا فى مهامّ أمورك واشتغالا بشواغلك ، فلا تستطيع أن تتفرغ فيه للعبادة ، فعليك بالتهجد ، فإن مناجاة الرب يعوزها الفراغ والتخلي عن العمل.
ثم أمر رسوله بمداومة الذكر والإخلاص له فقال :
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) أي ودم على ذكره ليلا ونهارا بالتسبيح والتهليل والتحميد والصلاة وقراءة القرآن ، وانقطع إليه بالعبادة ، وجرد إليه نفسك وأعرض عما سواه.
ونحو الآية قوله : « فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ » أي فإذا فرغت من شئونك ، فانصب فى طاعته وعبادته ، لتكون فارغ القلب ، خاليا من الهواجس والوساوس الدنيوية.
ثم بين السبب فى الأمر بالذكر والتبتل فقال :
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) أي هو المالك المتصرف فى المشارق والمغارب ، لا إله إلا هو ، فعليك أن تتوكل عليه فى جميع أمورك.
ونحو الآية قوله : « فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ » . وقوله : « إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » .(29/113)
ج 29 ، ص : 114
وجاء فى كلامهم : من رضى باللّه وكيلا ، وجد إلى كل خير سبيلا.
وقد ذكروا أن مقام التوكل فوق مقام التبتل ، لما فيه من الدلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا :
هواى له فرض تعطّف أوجفا ومنهله عذب تكدر أو صفا
وكلت إلى المعشوق أمرى كلّه فإن شاء أحيانى وإن شاء أتلفا
[سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 18]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18)
شرح المفردات
الهجر الجميل : ما لا عتاب معه ، والنعمة (بفتح النون) التنعم (وبكسر النون) الإنعام ، مهّلهم : أي اتركهم برفق وتأنّ ولا تهتم بشأنهم ، والأنكال : واحدها نكل (بكسر النون وفتحها) وهو القيد الثقيل ، قالت الخنساء :
دعاك فقطّعت أنكاله وقد كن قبلك لا تقطع
والجحيم : النار الشديدة الإبقاد ، ذا غصة : أي لا يستساغ فى الحلق فلا يدخل ولا يخرج ، ترجف : أي تضطرب وتتزلزل ، كثيبا : أي رملا مجتمعا ، من قولهم : كثب(29/114)
ج 29 ، ص : 115
الشيء إذا جمعه ، مهيلا : أي رخوا ليّنا إذا وطئته القدم زل من تحتها ، والوبيل :
الثقيل الرديء العقبى ، من قولهم : كلأ وبيل : أي وخيم لا يستمرأ لثقله ، والشيب :
واحدهم أشيب ، منفطر : أي منشق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر معاملة العباد لبارئهم وخالقهم من العدم - أردف ذلك معاملة بعضهم بعضا ، فبيّن أن ذلك يكون بأحد أمرين :
(1) مخالطة فصبر جميل على الإيذاء والإيحاش.
(2) هجر جميل بالمجانبة بالقلب والهوى ، والمخالفة فى الأفعال مع المداراة والإغضاء وترك المكافأة.
ثم أمر رسوله أن يترك أمر المشركين إليه ، فهو الكفيل بمجازاتهم ، ثم ذكر أنه سيعذبهم بالأنكال والنار المستعرة ، والطعام ذى الغصة فى يوم القيامة حين تكون الجبال كثيبا مهيلا.
وبعد أن خوّفهم عذاب يوم القيامة خوفهم أهوال الدنيا ، وأنه سيكون لهم فيها مثل ما كان للأمم المكذبة قبلهم كقوم فرعون حين عصوا موسى فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، ثم عاد إلى تخويفهم بالآخرة مرة أخرى ، وأبان لهم أن أهوالها بلغت حدا تشيب من هوله الولدان ، وأن السماء تتشقق منه.
الإيضاح
(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا) أي واصبر على ما يقول فيك وفى ربك سفهاء قومك المكذبون لك ، واهجرهم هجرا جميلا بأن تداريهم وتجانبهم وتغضى عن زلاتهم ولا تعاتهم.
ونحو الآية قوله : « وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ »(29/115)
ج 29 ، ص : 116
وقوله : « فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا » ، وقوله : « فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً » .
ثم تهدّدهم وتوعّدهم ، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شىء فقال :
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) أي ودعنى والمكذبين المترفين أصحاب الأموال ، فإنى أكفيك أمرهم وأجازيهم بما هم له أهل ، وتمهل عليهم قليلا حتى يبلغ الكتاب أجله ، وسيذوقون العذاب الذي أعددته لهم.
ونحو الآية قوله : « نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ » والخلاصة - خلّ بينى وبينهم ، فسأجازيهم بما يستحقون.
روى أنها نزلت فى صناديد قريش ورؤساء مكة من المستهزئين وقالت عائشة رضى اللّه عنها : لما نزلت هذه الآية لم يكن إلا يسير حتى كانت وقعة بدر.
ثم ذكر من ألوان العذاب التي أعدها لهم أمورا أربعة :
(1) (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا) أي إن لدينا لهؤلاء المكذبين بآياتنا قيودا ثقيلة توضع فى أرجلهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا إذلالا لهم قال الشعبي : أ ترون أن اللّه جعل الأنكال فى أرجل أهل النار خشية أن يهربوا ؟ لا واللّه ، ولكنهم إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم.
(2) (وَجَحِيماً) أي نارا مستعرة تشوى الوجوه.
(3) (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) أي طعاما لا يستساغ ، فلا هو نازل فى الحلق ، ولا هو خارج منه ، كالزقوم والضريع كما قال تعالى : َيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ »
وقال : « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » .
(4) (وَعَذاباً أَلِيماً) أي وألوانا أخرى من العذاب المؤلم الموجع الذي لا يعلم كنهه إلا علام الغيوب.(29/116)
ج 29 ، ص : 117
والخلاصة - إن لدينا فى الآخرة ما يضاد تنعمهم فى الدنيا ، وهو النكال والجحيم والطعام الذي يغصّون به والعذاب الأليم.
وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتى بطعام فعرضت له هذه الآية فقال : ارفعه ، ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال : ارفعه ، وكذلك الليلة الثالثة ، فأخبر ثابت البنّانى ويزيد الضبي ويحيى البكّاء ، فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
وبعد أن وصف العذاب ذكر زمانه فقال :
(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا) أي ذلك العذاب فى يوم تضطرب فيه الأرض ، وتزلزل الجبال وتتفرق أجزاؤها ، وتصير كالعهن المنفوش ، وكالكثيب المهيل بعد أن كانت حجاره صماء ، ثم ينسفها ربى نسفا ، فلا يبقى منها شىء.
وبعد أن خوف المكذبين أولى النعمة بأهوال القيامة خوّفهم بأهوال الدنيا وما لاقته الأمم المكذبة من قبلهم فقال :
(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا ، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا) أي إنا أرسلنا إليكم رسولا يشهد عليكم بإجابة من أجاب منكم دعوتى ، وامتناع من امتنع من الإجابة يوم تلقوننى فى القيامة ، كما أرسلنا إلى فرعون رسولا يدعوه إلى الحق ، فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه فأخذناه أخذا شديدا فأهلكناه ومن معه بالغرق ، فاحذروا أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم مثل ما أصابه.
وقصارى ذلك - كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا ، أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم ، فاحذروا أن تعصوه فيصيبكم مثل ما أصابه.
وبعد أن هددهم بعذاب الدنيا أعاد الكرّة بتخويفهم بعذاب الآخرة فقال :
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ(29/117)
ج 29 ، ص : 118
مَفْعُولًا)
أي كيف يحصل لكم أمان من يوم يحصل فيه هذا الفزع العظيم الذي تشيب من هوله الولدان ، وتتشقق السماء وتنفطر بسبب شدائده وأهواله إن كفرتم ، والعرب تضرب المثل فى الشدة فتقول : هذا يوم تشيب من هوله الولدان ، وهذا يوم يشيب نواصى الأطفال ، ذاك أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على الإنسان أسرع فيه الشيب كما قال المتنبي :
والهمّ يخترم الجسيم نحافة ويشيب ناصية الصبىّ ويهرم
فجعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة ، فاحذروا هذا اليوم فإنه كائن لا محالة كما وعد اللّه.
والخلاصة - كأنه قيل : هبوا أنكم لا تؤاخذون فى الدنيا إخذة فرعون وأضرابه ، فكيف تقون أنفسكم أهوال القيامة وما أعدّ لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه من الكفر.
[سورة المزمل (73) : الآيات 19 الى 20]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)(29/118)
ج 29 ، ص : 119
شرح المفردات
تذكرة : أي موعظة ، سبيلا : أي طريقا توصله إلى الجنة ، أدنى. أي أقلّ ، واللّه يقدّر الليل والنهار. أي يعلم مقادير ساعاتهما ، أن لن تحصوه. أي لا يمكنكم الإحصاء وضبط الساعات ، فتاب عليكم. أي بالترخيص فى ذلك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم ، فاقرءوا ما تيسر من القرءان. أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، يضربون فى الأرض. أي يسافرون للتجارة ، وأقرضوا اللّه. أي أنفقوا فى سبل الخيرات.
المعنى الجملي
بعد أن بدأ السورة بشرح أحوال السعداء وبيّن معاملتهم للمولى ثم معاملتهم للخلق ، ثم هدد الأشقياء بأنواع من العذاب فى الآخرة ، ثم توعدهم بعذاب الدنيا ، وبعدئذ وصف شدة يوم القيامة - ختم السورة بتذكيرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد فمن شاء أن يسلك سبيل ربه بالطاعة والبعد عن المعصية فليفعل ، ثم أخبره بما يقوم به هو والمؤمنون للعبادة من ساعات الليل : ثلثيه أو نصفه أو ثلثه ، ثم خفف ذلك عنهم للأعذار التي تحيط بهم من مرض أو سفر للتجارة ونحوها أو جهاد للعدوّ ، فليصلوا قدر ما يستطيعون ، وليؤتوا زكاة أموالهم ، وليستغفروا اللّه فى جميع أحوالهم ، فهو الغفور الرحيم.
الإيضاح
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن ما تقدم من الآيات التي ذكر فيها يوم القيامة وأهوالها ، وما هو فاعل فيها بأهل الكفر - عبرة لمن اعتبر وادّكر.
(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي فمن شاء اتعظ بها ، واتخذ سبيلا إلى ربه(29/119)
ج 29 ، ص : 120
فآمن به وعمل بطاعته وأخبت إليه ، وذلك هو النهج القويم ، والطريق الموصل إلى مرضاته.
ثم رخص لأمته فى ترك قيام الليل كله للمشقة التي تلحقهم إذا هم فعلوا ذلك فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي إن ربك لعليم بأنك تقوم أقلّ من ثلثى الليل وأكثر من النصف ، وتقوم النصف ، وتقوم الثلث أنت وطائفة من صحبك المؤمنين حين فرض عليكم قيام الليل.
(وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) أي ولا يعلم مقادير الليل والنهار إلا اللّه ، وأما أنتم فلن تستطيعوا ضبط الأوقات ولا إحصاء الساعات ، فتاب عليكم بالترخيص فى ترك القيام المقدر ، وعفا عنكم ورفع هذه المشقة.
قال مقاتل وغيره : لما نزلت « قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا » شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدرى متى نصف الليل من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ ، فانتفخت أقدامهم ، وامتقعت ألوانهم ، فرحمهم اللّه وخفف عنهم فقال تعالى « عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ » .
والخلاصة - اللّه يعلم أنكم لن تحصوا ساعات الليل إحصاء تامّا فإذا زدتم على المفروض ثقل ذلك عليكم وكلفتم ما ليس بفرض ، وإن نقصتم شق هذا عليكم ، فتاب عليكم ورجع بكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى يسر ، وطلب إليكم أن تصلّوا ما تيسر بالليل كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل. قال الحسن. هو ما يقرأ فى صلاة المغرب والعشاء. وقال السدّى. ما تيسر منه هو مائة آية.
وفى بعض الآثار. من قرأ مائة آية فى ليلة لم يحاجّه القرآن ، وعن قيس بن حازم قال :(29/120)
ج 29 ، ص : 121
«
صليت خلف ابن عباس فقرأ فى أول ركعة بالحمد للّه رب العالمين وأول آية من البقرة ثم ركع ، فلما انصرفنا أقبل علينا فقال : إن اللّه يقول : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ » أخرجه الدار قطنى والبيهقي فى سننه.
ثم ذكر أعذارا أخرى تسوّغ هذا التخفيف فقال :
(عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي علم سبحانه أنه سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار لا يستطيعون معها القيام بالليل كمرض وضرب فى الأرض ابتغاء الرزق من فضل اللّه ، وغزو فى سبيل اللّه فهؤلاء إذا لم يناموا فى الليل تتوالى عليهم أسباب المشقة ويظهر عليهم آثار الجهد ، وفى هذا إيماء إلى أنه لا فرق بين الجهاد فى قتال العدوّ والجهاد فى التجارة لنفع المسلمين.
قال ابن مسعود : أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن الإسلام صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه ، كان عند اللّه من الشهداء ، ثم قرأ قوله تعالى :
« وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ » .
وأخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن عمر رضى اللّه عنه قال : ما من حال يأتينى عليه الموت بعد الجهاد فى سبيل اللّه أحب إلىّ من أن يأتينى ، وأنا بين شعبتى جبل ألتمس من فضل اللّه ، وتلا : « وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ » .
ولما ذكر سبحانه ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص ورفع وجوب القيام عن هذه الأمة - ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال :
(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي من القرآن ، والمراد صلّوا كما تقدم.
(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) أي وصلّوا الصلاة(29/121)
ج 29 ، ص : 122
المفروضة وقوّموها فلا تكون قلوبكم غافلة ، ولا أفعالكم خارجة عما رسمه الدين ، وآتوا الزكاة الواجبة عليكم ، وأقرضوا اللّه قرضا حسنا بالإنفاق فى سبل الخير للأفراد والجماعات مما هو نافع لها فى رقيّها المدني والاجتماعى ، وسيبقى لكم جزاء ذلك عند ربكم.
ونحو الآية قوله : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً » .
ثم حبّب فى الصدقة وفعل الخيرات فقال :
(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي وما تقدموا لأنفسكم فى دار الدنيا من صدقة أو نفقة تنفقونها فى سبيل اللّه ، أو فعل طاعة من صلاة أو صيام أو حج أو غير ذلك ، تجدوا ثوابه عند اللّه يوم القيامة خيرا مما أبقيتم فى دار الدنيا ، وأعظم منه عائدة لكم.
(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) أي وسلوا اللّه غفران ذنوبكم يصفح لكم عنها ويسترها يوم الحساب والجزاء.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن اللّه ستّار على أهل الذنوب والتقصير ، ذو رحمة فلا يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
نسأل اللّه تعالى أن يغفر لنا ما فرط منا من الزلات ، بحرمة سيد خليقته ، وسند أهل صفوته. وصلّ ربنا على محمد وشيعته.(29/122)
ج 29 ، ص : 123
ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام
أمر اللّه رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأشياء :
(1) أن يقوم من الليل ثلثه أو نصفه أو ثلثيه.
(2) أن يقرأ القرآن بتؤدة وتمهّل.
(3) أن يذكر ربه ليلا ونهارا بالتحميد والتسبيح والصلاة ، وأن يجرد نفسه عما سواه.
(4) أن يتخذه وكيلا يكل إليه أموره متى فعل ما يجب عليه نحوها.
(5) أن يصبر على ما يقولون فيه : من أنه ساحر أو شاعر ، وفى ربه من أن له صاحبة وولدا ، وأن يهجرهم هجرا جميلا بمجانبتهم ومداراتهم ، وأن يكل أمرهم إلى ربهم فهو الذي يكافئهم ، وسيرى عاقبة أمرهم وأمره.
(6) أن يخفف القيام للصلاة بالليل بعد أن شق ذلك عليهم لأعذار كثيرة والاكتفاء بما تيسر من صلاة الليل ، ففى الصلاة المفروضة غنية للأمة مع إيتاء الزكاة ودوام الاستغفار.(29/123)
ج 29 ، ص : 124
سورة المدثر عليه الصلاة والسلام
هى مكية ، نزلت بعد سورة المزمل ، وعدد آياتها ستّ وخمسون.
وصلتها بما قبلها :
(1) أنها متواخية مع السورة قبلها فى الافتتاح بنداء النبي صلى اللّه عليه وسلم.
(2) أن صدر كلتيهما نازل فى قصة واحدة.
(3) أن السابقة بدئت بالأمر بقيام الليل ، وهو تكميل لنفسه صلى اللّه عليه وسلم بعبادة خاصة ، وهذه بدئت بالإنذار لغيره ، وهو تكميل لسواه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
شرح المفردات
المدثر : أصله المتدثر ، وهو الذي يتدثر بثيابه ، أي يتغطى بها لينام أو ليستدفئ ، والدثار : اسم لما يتدثر به ، أنذر : أي حذّر قومك عذاب اللّه إن لم يؤمنوا ، كبّر :
أي عظم ، فطهر : أي طهر نفسك مما تذم به من الأفعال ، وهذّبها عما يستهجن من الأحوال ، والرجز : العذاب كما قال : « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ » أي اهجر المآثم المؤدية إلى العذاب ، ولا تمنن تستكثر : أي ولا تمنن بعملك على ربك تطلب(29/124)
ج 29 ، ص : 125
كثرته ، نقر : أي نفخ ، الناقور : أي الصور ، عسير. أي شديد ، غير يسير.
أي غير سهل.
المعنى الجملي
روى جابر بن عبد اللّه أنه عليه الصلاة والسلام قال : « كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول اللّه ، فنظرت عن يمينى وعن يسارى ، فلم أر شيئا فنظرت فوقى فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض ، فخفت ورجعت إلى خديجة فقلت :
دثّرونى دثّرونى ، وصبوا علىّ ماء باردا ، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ - إلى قوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) »
وقد أمر اللّه رسوله بالإنذار وتطهير نفسه من دنىء الأخلاق والمآثم والصبر على أذى المشركين ، فإنهم سيلقون جزاءهم يوم ينفخ فى الصور ، وهو يوم شديد الأهوال على الكافرين ليس بالهيّن عليهم.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أيها الذي تدثر بثيابه رعبا وفرقا من رؤية الملك عند نزول الوحى أول مرة : شمّر عن ساعد الجد وأنذر أهل مكة عذاب يوم عظيم ، وادعهم إلى معرفة الحق لينجوا من هول ذلك اليوم الذي تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت.
والداعي إلى ربه الكبير المتعالي لا يتمّ له ذلك إلا إذا كان متخلقا بجميل الخلال وحميد الصفات ، ومن ثم قال :
(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّم ربك ومالك أمورك بعبادته والرغبة إليه دون غيره من الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله : « أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ » .
(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) سئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا تلبسها على معصية(29/125)
ج 29 ، ص : 126
ولا عن غدرة ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن مسلمة الثقفي :
فإنى بحمد اللّه لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنّع
والعرب تقول عن الرجل إذا نكث العهد ولم يف به : إنه لدنس الثياب ، وإذا وفى ولم يغدر ، إنه لطاهر الثوب ، قال السموأل بن عاديا اليهودي.
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
ولا تزال هذه المعاني مستعملة فى ديار مصر وغيرها فيقولون : فلان طاهر الذيل ، يريدون أنه لا يلامس أجنبية.
ويرى جمع من الأئمة أن المراد بطهارة الثياب : غسلها بالماء إن كانت نجسة ، وروى هذا عن كثير من الصحابة والتابعين ، وإليه ذهب الشافعي فأوجب غسل النجاسة من ثياب المصلى.
وقد استبان للمشتغلين بأصول التشريع وعلماء الاجتماع من الأوربيين أن أكثر الناس قذرا فى أجسامهم وثيابهم أكثرهم ذنوبا ، وأطهرهم أبدانا وثيابا أبعدهم من الذنوب ، ومن ثم أمروا المسجونين بكثرة الاستحمام ونظافة الثياب ، فحسنت ؟ ؟ ؟ ، وخرجوا من السجون ، وهم أقرب إلى الأخلاق الفاضلة منهم إلى الرذائل.
وقال الأستاذ (بتنام) فى كتابه أصول الشرائع : إن كثرة الطهارة فى دين الإسلام مما تدعو معتنقيه إلى رقىّ الأخلاق والفضيلة إذا قاموا باتباع أوامره خير قيام.
ومن هذا تعلم السر فى قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اهجر المعاصي والآثام الموصلة إلى العذاب فى الدنيا والآخرة فإن النفس متى طهرت منها كانت مستعدة للإفاضة على غيرها ، وأقبلت بإصغاء وشوق إلى سماع ما يقول الداعي.(29/126)
ج 29 ، ص : 127
وقد جرت العادة أن الداعي تصادفه عقبتان :
(1) الغرور والفخر والعظمة ، فيقول أنا مسد للنعم إليكم ، ومفيض للخير عليكم.
(2) الأعداء ، وهؤلاء يؤذونه ويتربصون به الدوائر ، ويتتبعونه فى كل مكان ويتألّبون عليه ليل نهار ، وذلك من أكبر العوامل المثبطة للدّعاة التي تجعلهم يكرّون راجعين ويقولون : ما لنا ولقوم لا يسمعون قولنا ، ولنبتعد عن الناس ، فإنهم لا يعرفون قدر النعم ، ولا يشكرون المنعمين ، ومن ثم قال تعالى :
(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أي ولا تمنن على أصحابك بما علّمتهم وبلغتهم من الوحى مستكثرا ذلك عليهم. وقد يكون المعنى : لا تضعف ، من قولهم : حبل منين أي ضعيف ، ومنّه السير : أي أضعفه ، فالمراد لا تضعف أن تستكثر من الطاعات التي أمرت بها قبل هذه الآية.
وقد يكون المراد كما قال ابن كيسان : لا تستكثر عملا فتراه من نفسك ، إنما عملك منّه من اللّه عليك ، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.
(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) على طاعته وعبادته ، وقال مقاتل ومجاهد : اصبر على الأذى والتكذيب.
والخلاصة - لا تجزع من أذى من خالفك.
ولما أتمّ إرشاد رسوله أردفه بوعيد الأشقياء فقال :
(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي اصبر على أذاهم فإن بين أيديهم يوما عسيرا يذوقون فيه عاقبة كفرهم وأذاهم حين ينفخ فى الصور ، ويومئذ تنال الجزاء الحسن والنعيم المقيم.
ثم أكد هذا بقوله :
(عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي يومهم عسير لا يسر فيه ولا فيما بعده ، على خلاف ما جرت به العادة من أن كل عسر بعده يسر ، وعسره عليهم أنهم يناقشون(29/127)
ج 29 ، ص : 128
الحساب ، ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسوّد وجوههم ، وتتكلم جوارحهم ، فيفتضحون على رءوس الأشهاد.
وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لا يناقشون فيه حسابا ، ويمشون بيض الوجوه.
أخرج ابن أبى شيبة عن ابن عباس قال : لما نزلت « فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ » قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ؟ قال أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما تأمرنا يا رسول اللّه ؟ قال : قولوا : حسبنا اللّه ونعم الوكيل ، على اللّه توكلنا » .
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 30]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
شرح المفردات
ذرنى ومن خلقت وحيدا : أي دعنى وإياه ، فإنى أكفيكه ، ممدودا : أي كثيرا ، شهودا : أي حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم ، ومهدت له تمهيدا : أي بسطت له الرياسة والجاه العريض ، سأرهقه : أي سأكلفه ، صعودا : أي عقبة(29/128)
ج 29 ، ص : 129
شاقة لا تطاق ، فقتل كيف قدر : أي لعنه اللّه كيف وصل بقوة خياله وسرعة خاطره إلى رميه الغرض الذي كانت تنتحيه قريش ، عبس : أي قطب ما بين عينيه ، بسر : أي كلح وجهه كما قال توبة بن الحميّر.
وقد رابنى منها صدود رأيته وإعراضها عن حاجتى وبسورها
لوّاحة ، من لوّحته الشمس : إذا سودت ظاهره وأطرافه ، قال :
تقول ما لا حك يا مسافر يا بنة عمّى لا حنى الهواجر
والبشر : واحدها بشرة ، وهى ظاهر الجلد :
المعنى الجملي
روى « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قام فى المسجد يصلى والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، وهو يقرأ : « حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ، ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ » فلما فطن النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى استماعه أعاد القراءة ، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه من بنى مخزوم فقال : واللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، واللّه إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو وما يعلى عليه ، ثم انصرف إلى منزله ، فقالت قريش : صبأ واللّه الوليد ، ولتصبونّ قريش كلهم ، فقال أبو جهل :
أنا أكفيكموه ، فانطلق حتى جلس إلى جنب الوليد حزينا ، فقال الوليد : ما لى أراك حزينا يا ابن أخى ؟ فقال : وما يمنعنى أن أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينونك على كبر سنك ، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وأنك تدخل على ابن أبى كبشة وابن أبى قحافة لتنال من فضل طعامهم ؟ فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أنى من أكثرهم مالا وولدا ؟ وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام حتى يكون(29/129)
ج 29 ، ص : 130
لهم فضل طعام ؟ ثم أتى مجلس قومه مع أبى جهل فقال لهم : تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه قط تكهّن ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟
قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كذاب ، فهل جربتم عليه شيئا من الكذب ؟
قالوا : اللهم لا (وكان رسول اللّه يسمى الأمين قبل النبوة لصدقه) ثم قالوا :
(فما هو ؟ قال : ) ما هو إلا ساحر ، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ، فهو ساحر وما يقوله سحر يأثره عن مسيلمة وأهل بابل ، فارتج النادي فرحا ، وتفرقوا معجبين بقوله ، متعجبين منه فنزلت هذه الآيات » .
وقد كان الوليد يسمى الوحيد ، لأنه وحيد فى قومه ، فماله كثير فيه الزرع والصّرع والتجارة ، وكان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونعم ، وعبيد وجوار ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام وعمارة ، وقد بسط اللّه له الرزق وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة فى قومه ، وكان يسمى ريحانة قريش.
الإيضاح
(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خلّ بينى وبين من أخرجته من بطن أمه وحيدا لا مال له ولا ولد ، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم اللّه عليه.
وقال مقاتل. خلّ بينى وبينه فأنا أنفرد بهلكته.
وفى هذا وعيد شديد على تمرّده وعظيم عناده واستكباره لما أوتيه من بسطة المال والجاه ، وكان يقول : أنا الوحيد بن الوحيد ، ليس لى فى العرب نظير ، ولا لأبى نظير ، وقد تهكم اللّه به وبلقبه ، وصرفه عن الغرض الذي كانوا يقصدونه من مدحه والثناء عليه إلى ذمه وعيبه ، فجعله وحيدا فى الشر والخبث.(29/130)
ج 29 ، ص : 131
(وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً) أي أعطيته مالا كثيرا ، فكان له زرع وضرع وتجارة كثيرة ، قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع ثمره شتاء ولا صيفا.
وقال ابن عباس : كان له مال ممدود بين مكة والطائف من الإبل والخيل والغنم والبساتين الكثيرة التي لا تنقطع ثمارها صيفا ولا شتاء.
(وَبَنِينَ شُهُوداً) أي وبنين حضورا معه بمكة لا يفارقونها لكسب عيش ، ولا ابتغاء رزق ، إذ كانوا فى غنى عن الضرب فى الأرض ، بما لهم من واسع الثراء ، فكان مستأنسا بهم ، طيّب القلب بشهودهم.
(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) التمهيد عند العرب : التوطئة ، ومنه مهد الصبى ، والمراد وسعت له الأرزاق ، وبسطت له الجاه ، فكان من الحق عليه أن يشكر اللّه على ما أنعم عليه ، ولكنه كان لربه كنودا ، فأعرض عن الداعي واستكبر ، وقابل النعمة بالكفران ، والجود بالجحود والعصيان.
ثم عجّب من حاله وطلبه الزيادة على ما هو فيه فقال :
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي ثم هو بعد ذلك يرجو أن يزيد ماله وولده.
وفى هذا استنكار لشديد حرصه وتكالبه على جمع حطام الدنيا كما هو شأن الإنسان ،
فقد جاء فى الحديث « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا »
وجاء فى الخبر « منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال » .
وروى عن الحسن أنه كان يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لى.
ثم أيأسه تعالى وقطع رجاءه فقال.
(كَلَّا) أي لا أفعل ولا أزيد. قال مقاتل. ما زال الوليد بعد نزول الآية فى نقص من ماله وولده حتى هلك.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي إنه كان معاندا لآيات المنعم ، وهى آيات القرآن(29/131)
ج 29 ، ص : 132
التي نزل بها الوحى على لسان رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ومن ثم قال فيها ما قال ، ومعاندة الحق جديرة بزوال النعم.
وفى الآية إيماء إلى أن كفره كفر عناد ، فهو يعرف الحق بقلبه ، وينكره بلسانه ، وهذا أقبح أنواع الكفر.
ثم بيّن ما يفعله به يوم القيامة فقال :
(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عقبة شاقة الصعود ، والمراد أنه سيلقى العذاب الشديد الذي لا يطاق ، وقد جعل اللّه ما يسوق إليه من المصايب وأنواع المشاق شبيها بمن يكلّف صعود الجبال الوعرة الشاقة.
قال قتادة : سيكلف عذابا لا راحة فيه.
ثم حكى كيفية عناده فقال :
(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنه فكر وزوّر فى نفسه كلاما فى الطعن فى القرآن ، وما يختلق فيه من المقال ، وقدره تقديرا ، أصاب به ما فى نفوس قريش ، وما به وافق غرضهم.
والخلاصة - إنه فكر وتروّي ماذا يقول فيه ، وبماذا يصفه به ، حين سئل عن ذلك ؟
ثم عجّب من تقديره وإصابته المحز فقال :
(فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) هذا أسلوب يراد به التعجيب والثناء على المحدّث عنه تقول العرب : فلان قاتله اللّه ما أشجعه! وأخزاه اللّه ما أشعره! يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ، وعلى هذا النحو جاء قوله تعالى : « قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ » .
وقصارى ذلك - إن هذا تعجيب من قوة خاطره ، وإصابته الغرض الذي كانت ترمى إليه قريش من الطعن الشديد فى القرآن ، فقوله جاء وفق ما كانوا يريدون ، وطبق ما كانوا يتمنون من القدح فيه ، وفيمن جاء به.(29/132)
ج 29 ، ص : 133
ثم كرر هذا الدعاء للتأكيد والمبالغة فقال :
(ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن وعذّب على أي حال قدر ما قدر من الكلام كما يقال فى الكلام : لأضربنه كيف صنع : أي على أي حال كانت منه.
(ثُمَّ نَظَرَ) أي ثم نظر فى أمر القرآن مرة بعد أخرى ، لعله يجول بخاطره ما يحبون ، ويصل إلى ما يرجون.
(ثُمَّ عَبَسَ) أي ثم قطّب وجهه حين ضاقت به الحيل ولم يدر ما يقول.
ثم أكد ما قبله فقال :
(وَبَسَرَ) أي كلح واسودّ وجهه ، قال سعد بن عبادة : لما أسلمت راغمتنى أمي ، فكانت تلقانى مرة بالبشر ، ومرة بالبسر.
وفى هذا إيماء إلى أنه كان مصدّقا بقلبه صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وكان ينكره عنادا ، فإنه لو كان يعتقد صدق ما يقول لفرح باستنباط ما استنبط ، وإدراك ما أدرك ، وما ظهرت العبوسة على وجهه.
(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي ثم صرف وجهه عن الحق ورجع القهقرى مستكبرا عن الانقياد له والإقرار به.
ثم ذكر ما استنبطه من التّرّهات والأباطيل.
(فَقالَ : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي فقال ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن غيره ممن كان قبله من السحرة كمسيلمة وأهل بابل ويحكيه عنهم.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي إنه ملتقط من كلام غيره ، وليس من كلام اللّه كما يدّعى ، ولو صح ما قال لأمكن غيره أن يقول مثله أو يعارضه بأحسن منه ، ففى العرب ذوو فصاحة وذرائة لسان ، وفيهم الخطباء والمقاويل الذين لا يجارون ولا يبارون ، ولم يعلم أن أحدا من أهل الزكانة والمعرفة سوّلت له نفسه أن يعارضه ، بل التجئوا إلى السيف والسّنان ، دون المعارضة بالحجة والبرهان ، وقد رووا فى هذا(29/133)
ج 29 ، ص : 134
الباب مضحكات أغلبها لا يصح ، لأنهم وهم المقاويل ذوو اللسن وقوة العارضة لا ينبغى أن ينسب إلى أحدهم مثل هذا الهذر كقول من نسب إليه أنه عارض سورة الفيل فقال : الفيل ما الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له ذنب طويل ، ومشفر وتيل إلخ.
ثم ذكر ما يلقاه من الجزاء على سوء صنيعه ، وفظيع عمله فقال :
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله جهنم وأغمره فيها من جميع جهاته.
ثم بالغ فى وصف النار وتعظيم شأنها فقال :
(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ ؟ ) تقول العرب : ما أدراك ما كذا : إذا أرادوا المبالغة والتهويل فى الأمر. أي وأىّ شىء أعلمك ما سقر ؟ لأنها قد بلغت فى الوصف حدا لا يمكن معرفته ، ولا يتوصل إلى إدراك حقيقته.
ثم بيّن وصفها بقوله.
(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقى لهم لحما ولا تذر عظما ، فإذا أعيد أهلها خلقا جديدا فلا تذرهم ، بل تعيد إحراقهم كرة أخرى ، وهكذا دواليك كما جاء فى الآية الأخرى. « كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ » .
(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي تلفح الجلد لفحة تدعه أشد سوادا من الليل ، قال ابن عباس : تلوّح الجلد فتحرقه وتغيّر لونه.
(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
عن البراء « أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فقال : اللّه ورسوله أعلم ، فجاء جبريل فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر » رواه البيهقي وابن أبى حاتم وابن مردويه.(29/134)
ج 29 ، ص : 135
[سورة المدثر (74) : الآيات 31 الى 37]
وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
شرح المفردات
فتنة. أي سبب ضلال ، أوتوا الكتاب. هم اليهود والنصارى ، مرض. أي نفاق ، مثلا : أي حديثا ، ومنه قوله تعالى : « مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ » أي حديثها والخبر عنها ، جنود ربك : أي هم خلقه من الملائكة وغيرهم ، ذكرى : أي تذكرة وموعظة للناس ، كلا : أي حقا ، أدبر : أي ولّى ، أسفر : أي أضاء ، الكبر : أي البلايا والدواهي ، واحدها كبرى ، أن يتقدم : أي إلى الخير ، يتأخر :
أي يتخلف عنه.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس « أن أبا جهل لما سمع قوله تعالى :
« عليها تسعة عشر » قال لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمع أن ابن أبى كبشة ، (يعنى محمدا صلى اللّه عليه وسلم) : يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدّهم « الشجعان » أ فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم ، فقال له أبو الأشد(29/135)
ج 29 ، ص : 136
ابن كلدة الجمحي - وكان شديد البطش - أ يهولنّكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة ، وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة - يقول ذلك مستهزئا »
و
فى رواية أن الحرث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين ، فنزل قوله : « وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً » أي لم يجعلهم رجالا فيتعاطون مغالبتهم.
الإيضاح
(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلنا المدبّرين لأمر النار القائمين بعذاب من فيها إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ؟
وهؤلاء : هم النقباء والمدبرون لأمرها.
وإنما كانوا ملائكة لأنهم أقوى الخلق وأشدهم بأسا وأقومهم بحق اللّه والغضب له سبحانه ، وليكونوا من غير جنس المعذّبين حتى لا يرقّوا لهم ويرحموهم.
ثم ذكر الحكمة فى اختيار هذا العدد القليل فقال :
(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي وما جعلنا عددهم هذا العدد إلا محنة وضلالة للكافرين ، حتى قالوا ما قالوا ليتضاعف عذابهم ، ويكثر غضب اللّه عليهم.
وفتنتهم به أنهم استقلوه واستهزءوا به واستبعدوه وقالوا : كيف يتولى هذا العدد القليل تعذيب الثقلين.
(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي إنه سبحانه جعل عدة خزنة جهنم هذه العدة ، ليحصل اليقين لليهود والنصارى بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم لموافقة ما فى القرآن لكتبهم ، قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم.(29/136)
ج 29 ، ص : 137
(وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي وليزداد إيمان المؤمنين حين يرون تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أن العدد كما قال :
ثم أكد الاستيقان وزيادة الإيمان فقال :
(وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي ولا يشك أهل التوراة والإنجيل والمؤمنون باللّه من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم فى حقيقة ذلك العدد.
ولا ارتياب فى الحقيقة من المؤمنين ، ولكنه تعريض بغيرهم ممن فى قلبه شك من المنافقين.
(وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا) أي وليقول الذين فى قلوبهم شك فى صدق الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، والقاطعون بكذبه :
ما الذي أراد اللّه بهذا العدد القليل المستغرب استغراب المثل ؟
ثم بين أن الاختلاف فى الدين سنة من سنن اللّه تعالى فقال :
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي كما أضل اللّه هؤلاء المنافقين والمشركين القائلين عن عدة خزنة جهنم : أىّ شىء أراد اللّه بهذا الخبر حتى يخوّفنا بعدتهم ؟ - يضل اللّه من خلقه من يشاء ، فيخذله عن إصابة الحق ، ويهدى من يشاء منهم ، فيوفقه لإصابة الصواب.
والخلاصة - إن مثل هذا الإضلال يضل من يشاء إضلاله لسوء استعداده ، وتدسيته نفسه ، وتوجيهها إلى سيىء الأعمال ، واجتراح السيئات حين مشاهدة الآيات الناطقة بالهدى - ويهدى من يشاء لتوجيه اختياره إلى الحسن من الأعمال ، وتزكيته نفسه كلما لاح له سبيل الهدى.
(وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي وما يعلم عدد خلقه ، ومقدار جموعه التي من جملتها الملائكة على ما هم عليه إلا اللّه عز وجل.(29/137)
ج 29 ، ص : 138
وهذا ردّ على استهزائهم بكون الخزنة تسعة عشر ، جهلا منهم وجه الحكمة فى ذلك.
قال مقاتل : هو جواب لقول أبى جهل : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر.
وخلاصة ذلك - إن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر فلهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا اللّه سبحانه.
(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر.
(كَلَّا) أي كلا لا سبيل لكم إلى إنكارها لتظاهر الأدلة عليها.
(وَ الْقَمَرِ. وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ. وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ. إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ ، نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي أقسم بالقمر الوضاح ، والليل إذا ولى وذهب ، والصبح إذا أشرق - إن جهنم لإحدى البلايا الكبار والدواهي العظام لإنذار البشر.
ثم بين أصحاب النذارة فقال :
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة أو يتولى عنها ويردّها.
ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ » .
وخلاصة ما سلف - هأنتم أولاء قد علمتم سقر وعذابها وملائكتها ، فمن تقدم إلى الخير أطلقناه ، ومن تأخر عنه سلكناه فيها.
قال ابن عباس : هذا تهديد وإعلام بأن من تقدم إلى الطاعة والإيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم جوزى بثواب لا ينقطع أبدا ، ومن تأخر عن الطاعة وكذب محمدا صلى اللّه عليه وسلم عوقب عقابا لا ينقطع أبدا.
وقال الحسن : هذا وعيد وتهديد وإن أخرج مخرج الخبر كقوله : « فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ » .(29/138)
ج 29 ، ص : 139
[سورة المدثر (74) : الآيات 38 الى 56]
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)
قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)
كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
شرح المفردات
رهينة : أي مرتهنة بعملها مأخوذة به إما خلّصها وإما أوبقها ، أصحاب اليمين :
هم من أعطوا كتبهم بأيمانهم ، ما سلككم : أي ما أدخلكم تقول سلكت الخيط فى ثقب الإبرة : أي أدخلته فيه ، نخوض مع الخائضين : أي نخالط أهل الباطل فى باطلهم فكلما غوى غاو غوينا معه ، اليقين : هو الموت كما فى قوله : « وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ » قاله ابن عباس ، مستنفرة : أي نافرة ، وقسورة : الرماة للصيد واحدهم قسور قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد ، منشّرة : أي منشورة مبسوطة :
تقرأ وتنشر.(29/139)
ج 29 ، ص : 140
الإيضاح
(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي كل نفس مرتهنة بكسبها عند اللّه غير مفكوكة عنه ، كافرة كانت أو مؤمنة ، عاصية أو طائعة.
(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم فكوا رقابهم بحسن أعمالهم ، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحق الذي وجب عليه.
ثم بين مآل أصحاب اليمين فقال :
(فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ؟ ) أي هم فى غرفات الجنات يسألون المجرمين وهم فى الدركات قائلين لهم : ما الذي أدخلكم فى سقر ؟
فأجابوهم بأن هذا العذاب كان لأمور أربعة :
(1) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) أي لم نكن فى الدنيا من المؤمنين الذين يصلون للّه ، لأنا لم نكن نعتقد بفرضيتها.
(2) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ولم نكن من المحسنين إلى خلقه الفقراء بفضل أموالنا ، المتصدقين عليهم بما تجود به نفوسنا.
(3) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي وكنا لا نبالى بالخوض فى الباطل مع من يخوض فيه. قال ابن زيد : نخوض مع الخائضين فى أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم فنقول إنه كاذب ساحر مجنون ، وفى أمر القرآن فنقول إنه سحر وشعر وكهانة إلى نحو أولئك من الأباطيل.
(4) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب.
(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) أي حتى علمنا صحة ذلك عيانا بالرجوع إلى اللّه فى الدار الآخرة.
(فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي فهم بعد اتصافهم بهذه الصفات لا تنفعهم شفاعة شافع ، لأن لهم النار خالدين فيها أبدا.(29/140)
ج 29 ، ص : 141
(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ؟ ) أي فأىّ شىء حصل لأهل مكة حتى أعرضوا عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى ، والموعظة العظمى ، قال مقاتل : إعراضهم عنه من وجهين :
(1) جحودهم وإنكارهم له.
(2) ترك العمل بما فيه.
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأن هؤلاء المشركين فى فرارهم من محمد صلى اللّه عليه وسلم حمر وحشية هاربة من رماة يرمونها ويتعقبونها لصيدها وافتراسها.
وفى هذا إيماء إلى أنهم مع موجبات الإقبال إلى الداعي والاتعاظ بما جاء به يعرضون عنه بغير سبب ظاهر ، فأى شىء حصل لهم حتى أعرضوا عنه ؟
وفى تشبيههم فى إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ ، وشرادهم عنه بحمر وحشية جدّت فى نفارها مما أفزعها - تهجين لحالهم ، وشهادة عليهم بالبله ، فلا ترى مثل نفار حمر الوحش ، واطرادها فى العدو إذا هى خافت من شىء.
ثم بين أنهم بلغوا فى العناد حدا لا يتقبله عقل ، ولا يستسيغه ذو نفس حساسة فقال :
(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي هم قد بلغوا فى العناد حدا لا تجدى معهم فيه التذكرة ، فكل واحد منهم يريد أن ينزل عليه كتاب مفتوح من السماء كما أنزل على نبيه ، وجاء نحو هذا فى قوله تعالى حكاية عنهم : « لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » .
روى أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا : يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتى كل واحد منا بكتاب من السماء ، عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونومر فيه بأتباعك.(29/141)
ج 29 ، ص : 142
وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما : إن المشركين كانوا يقولون إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءته من النار.
(كَلَّا) زجر لهم وتوبيخ على اقتراحهم لتلك الصحف المنشرة ، أي فهم لا يؤتونها.
ثم بين سبحانه سبب هذا التعنت والاقتراح فقال :
(بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما دسّاهم وطبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم أنهم كانوا لا يصدقون بالآخرة ، ولا يخافون أهوالها ومن ثم أعرضوا عن التأمل فى تلك المعجزات الكثيرة ، وقد كانت كافية لهم جدّ الكفاية فى الدلالة على صدق دعوى محمد صلى اللّه عليه وسلم للنبوة ، فطلب الزيادة يكون من التعنت الذي لا مسوّغ له.
ثم وبخهم على إعراضهم عن التذكرة فقال :
(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ليس الأمر كما يقول المشركون فى هذا القرآن من أنه سحر يؤثر ، بل هو تذكرة من اللّه لخلقه ذكّرهم به ، فليس لأحد أن يعتذر بأنه لم يجد مذكّرا ولا معرّفا.
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف فقال :
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء من عباده أن يذكره ولا ينساه ويجعله نصب عينيه فعل ، فإنّ نفع ذلك راجع إليه ، وبه سعادته فى الدارين.
ثم ردّ سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال :
(وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما يذكرون هذا القرآن ولا يتعظون بعظاته ويعملون بما فيه إلا أن يشاء اللّه أن يذكروه ، فلا يستطيع أحد أن يفعل شيئا إلا أن يعطيه اللّه القدرة على فعله ، إذ لا يقع فى ملكه سبحانه إلا ما يشاء كما قال سبحانه :
« وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ » .(29/142)
ج 29 ، ص : 143
ثم ذكر ما هو كالعلة لما سلف فقال :
(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي فاللّه هو الحقيق بأن يتقيه عباده ، ويخافوا عقابه ، فيؤمنوا به ويطيعوه ، وهو القمين بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا به وأطاعوه.
عن أنس رضى اللّه عنه « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال :
قال ربكم : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يجعل معى إله ، فمن اتقاني فلم يجعل معى إلها فأنا أهل أن أغفر له » أخرجه أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة فى خلق كثير غيرهم.
والحمد للّه رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله أجمعين.(29/143)
ج 29 ، ص : 144
سورة القيامة
هى مكية ، وعدد آيها أربعون ، نزلت بعد سورة القارعة.
ووجه اتصالها بما قبلها ، أنه ذكر فى السورة السابقة قوله : « كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ » وكان عدم خوفهم منها لإنكارهم للبعث ، وذكر هنا الدليل عليه بأتمّ وجه ، فوصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ، ثم ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ، ثم ما قبل ذلك من مبدإ الخلق.
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)
شرح المفردات
(لا أُقْسِمُ) تزيد العرب كلمة (لا) فى القسم كما قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنة العامرىّ لا يدّعى القوم أنى أفرّ ويرى قوم أن (لا) نافية ردّ لكلام كان قد تقدم وجواب لهم ، وذلك هو(29/144)
ج 29 ، ص : 145
المعروف فى كلام الناس فى محاوراتهم فإذا قال أحدهم : لا واللّه لا فعلت كذا - قصد بقوله (لا) رد الكلام السابق ، وبقوله واللّه ابتداء يمين ، فهم لما أنكروا البعث قيل لهم : ليس الأمر على ما ذكرتم ثم أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة :
إن البعث حق لا شك فيه.
ويرى جمع من المفسرين أنها للنفى على معنى أنى لا أعظمه بإقسامى به حق إعظامه ، فإنه حقيق بأكثر من هذا وهو يستأهل فوق ذلك.
قال مجاهد : النفس اللوامة هى التي تلوم نفسها على مافات ، وتندم على الشر لم فعلته ؟ وعلى الخير لم لم تستكثر منه ؟ فهى لم تزل لأئمة وإن اجتهدت فى الطاعات (بَلى ) كلمة يجاب بها إذا كان الكلام منفيا ، فالمراد بها هنا نعم نجمعها بعد تفرقها ، والبنان واحده بنانة وهى الأصابع. قال النابغة :
بمخضّب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقد
ليفجر أمامه : أي ليدوم على فجوره فى الحاضر والمستقبل لا ينزع عنه ، برق تحير فزعا من قولهم : برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، قال ذو الرمة :
ولو أنّ لقمان الحكيم تعرّضت لعينيه مىّ سافرا كاد يبرق
وخسف القمر : ذهب ضوءه ، والمفر : الفرار ، والوزر : الملجأ وأصله الجبل المنيع ، ومنه قوله :
لعمرك ما للفتى من وزر من الموت يدركه والكبر
ينبأ : أي يخبر ، بصيرة : أي حجة شاهدة على ما صدر منه ، والمعاذير :
ما يعتذر به.
المعنى الجملي
أقسم تعالى بعظمة القيامة ، وبالنفس الطموحة إلى الرقىّ ، الجانحة إلى العلوّ ، التي لا تصل إلى مرتبة إلا طلبت ما فوقها ، ولا إلى حال إلا أحبت ما تلاها - إن(29/145)
ج 29 ، ص : 146
هناك حالا أخرى للنفس تنال فيها رغائبها ، فى عالم أكمل من هذا العالم ، عالم السعادة الروحية للمطيعين ، وعالم الشقاء للجاحدين المعاندين.
وهذا القسم وأمثاله لم يطرق آذان العرب من قبل ، فهم كانوا يقسمون بالأب والعمر والكعبة ونحو ذلك.
روى أن عدىّ بن أبى ربيعة سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن يوم القيامة متى يكون وما حاله وأمره فأخبره به ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك ولم أومن بك ، أو يجمع اللّه هذه العظام ؟ فنزلت هذه الآيات ، ولهذا كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول : « اللهم اكفنى شر جارى السوء » .
الإيضاح
(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) أقسم سبحانه بيوم القيامة وعظيم أهواله ، وبالنفس التواقة للمعالى التي تندم على الشر لم فعلته ، وعلى الخير لم لم تستكثر منه ، فهى لم تزل لائمة وإن اجتهدت فى الطاعة - لتبعثنّ ولتحاسبنّ على ما تفعلون.
وقال الفرّاء : ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهى تلوم نفسها ، إن كانت عملت خيرا قالت هلّا ازددت ، وإن كانت عملت سوءا قالت ليتنى لم أفعل ، وعلى هذا فهو مدح للنفس ، والقسم بها سائغ حسن اه.
وقسمه سبحانه بيوم القيامة لتعظيمه وتفخيم شأنه ، وللّه أن يقسم بما شاء من خلقه. قال سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ » قال : يقسم ربك بما شاء من خلقه.
(أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ ؟ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي أ يظن ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرقها ؟ بلى نحن قادرون على ذلك وأعظم منه ، فنحن قادرون على أن نسوى بنانه وأطراف يديه ورجليه ، ونجعلهما(29/146)
ج 29 ، ص : 147
شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ، فلا يستطيع أن يعمل بها شيئا مما يعمله بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل والأنامل ، من فنون الأعمال التي تحتاج إلى القبض والبسط ، والتأنى فى عمل ما يراد من الشئون كالغزل والنسج والضرب على الأوتار والعيدان ، إلى نحو أولئك.
والخلاصة - إنا لقادرون على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى مثل التركيب الأول بعد تفرقها وصيرورتها عظاما ورفاتا فى بطون البحار ، وفسيح القفار ، وحيثما كانت ، وعلى أن نسوّى أطراف يديه ورجليه ونجعلهما شيئا واحدا فيكون كالجمل والحمار ونحوهما ، فيأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب ، وفى ذلك خسران كبير له ، وتشويه لخلقه ، وإفساد لوظيفته التي أعدّ لها فى الحياة.
(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على أن يجمع عظامه ، لكنه يريد أن يمضى قدما فى المعاصي لا يثنيه عنها شىء ، ولا يتوب منها ، بل يسوّف بالتوبة فيقول : أعمل ثم أتوب بعد ذلك.
والخلاصة - إنه انتقل من إنكار الحسبان ، إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب ، ليكون ذلك أشد فى لومه وتوبيخه كأنه قيل : دع تعنيفه على ذلك ، فإنه قد بلغ من أمره أنه يريد أن يداوم على فجوره فيما يستأنف من الزمان ولا يتخلى عنه.
ثم علل إرادته دوام الفجور بقوله :
(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ؟ ) أي يسأل سؤال متعنت مستبعد ، متى يكون هذا اليوم ؟ ومن أنكر البعث أشد الإنكار ، ارتكب أعظم الآثام ، وخبّ فيها ووضع غير عابىّ بعاقبة ما يصنع ، ولا مقدّر نتائج ما يكتسب.
ونحو الآية قوله : « وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ؟ » ، وقوله : « هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ » .(29/147)
ج 29 ، ص : 148
وقصارى ما سلف أنهم أنكروا البعث لوجهين :
(1) شبهة تعترض الخاطر : كقولهم إن أجزاء الجسم إذا تفرقت واختلطت بالتراب ، وسارت فى مشارق الأرض ومغاربها ، كيف يمكن تمييزها وإعادتها على النحو الذي كانت عليه أوّلا ، ولهؤلاء جاء الردّ بقوله : « أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ » .
(2) حبّ الاسترسال فى اللذات ، والاستكثار من الشهوات ، فلا يود أن يقرّ بحشر ولا بعث حتى لا تتنغص عليه لذاته ، ولمثل هؤلاء قال : « بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ » .
وقد ذكر سبحانه من علامات يوم القيامة أمورا ثلاثة فقال :
(1) (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) أي إذا تحير البصر ودهش فلم يطرف من شدة الهول ومن عظم ما يشاهد ، قال الفرّاء : تقول العرب للإنسان المتحير المبهوت : قد برق ، وأنشد :
فنفسك فانع ولا تنعنى ودار الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من كثرة الكلوم والجروح التي أصابتك.
ونحو الآية قوله : « لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ » .
(2) (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوءه ، كما نعقله من حاله فى الدنيا ، إلا أن الخسوف فى الدنيا إلى انجلاء ، وفى الآخرة لا يعود ضوءه.
(3) (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي أدرك كل واحد منهما صاحبه وطلعا من المغرب أسودين مكوّرين مظلمين على ما روى عن ابن مسعود ، وقد كان هذا مستحيلا فى الدنيا كما جاء فى قوله سبحانه : « لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ » .(29/148)
ج 29 ، ص : 149
(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ ) أي يقول الإنسان حينئذ لدهشته وحيرته :
أين المفرّ من جهنم ؟ وهل من ملجأ منها ؟ فأجيبوا حينئذ :
(كَلَّا لا وَزَرَ) أي كلا لا شىء يعتصم به من أمر اللّه ، فلا حصن ولا جبل ولا سلاح يقيكم شيئا من أمره ، قال السّدى : كانوا إذا فزعوا فى الدنيا تحصنوا بالجبال ، فقال اللّه لهم : لا وزر يعصمكم منى.
ونحو الآية قوله : « ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ » .
ثم كشف عن حقيقة الحال وبيّنها بقوله :
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ)
أي إلى ربك مرجعك فى جنة أو نار ، وأمر ذلك مفوّض إلى مشيئته ، فمن شاء أدخله الجنة ، ومن شاء أدخله النار.
ونحو الآية قوله : « وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى » .
ثم ذكر أن مآله رهن بما عمل فقال :
(يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)
أي يخبر الإنسان حين العرض والحساب ووزن الأعمال - بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها كما قال : « وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً » .
قال القشيري : وهذا الإنباء يكون يوم القيامة عند وزن الأعمال
وعن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « سبع يجرى أجرها للعبد بعد موته وهو فى قبره ، من علّم علما ، أو أجرى نهرا ، أو حفر بئرا ، أو غرس ظلا ، أو بنى مسجدا ، أو ورّق مصحفا ، أو ترك وليّا يستغفر له بعد موته » .
ثم بيّن أن أعظم شاهد على المرء نفسه ، فهى نعم الشاهد عليه فقال :
(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ)
بل الإنسان حجة بيّنة على نفسه ، فلا يحتاج إلى أن ينبئه غيره ، لأن نفسه شاهدة على ما فعل ، فسمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه شاهدة عليه ، وسيحاسب عليه مهما أنى بالمعاذير وجادل(29/149)
ج 29 ، ص : 150
عنها كما قال : « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً » .
وقال الفراء فى الآية : بل الإنسان على نفسه عين بصيرة ، وأنشا :
كأن على ذى العقل عينا بصيرة بمجلسه أو منظر هو ناظرة
يحاذر حتى يحسب الناس كلّهم من الخوف لا يخفى عليهم سرائرة
[سورة القيامة (75) : الآيات 16 الى 25]
لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)
وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
شرح المفردات
لتعجل به : أي لتأخذه على عجل مخافة أن يتفلت منك ، وقرءانه : أي قراءته أي إثباتها فى لسانك ، قرأناه : أي قرأه جبريل عليك ، فاتّبع قرءانه : أي فاستمع قراءته ، وكررها حتى يرسخ فى نفسك ، بيانه : أي تفسير ما فيه من الحلال والحرام وبيان ما أشكل من معانيه ، والعاجلة : دار الدنيا ، ناضرة : أي متهللة بشرا بما ترى من النعيم ، ناظرة : أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب ، باسرة : أي شديدة العبوس كالحة متغيرة مسودة ، تظن : أي تستيقن ، فاقرة : أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنكر للقيامة والبعث معرض عن آيات اللّه ، منكر لعظيم قدرته ، وأنه سائر فى غلوائه ، غير مكترث بما يصدر منه - أردفه بذكر حال من(29/150)
ج 29 ، ص : 151
يثابر على تعلّم آيات اللّه وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها ، رجاء قبوله إياها ، ليظهر بذلك تباين حال الفريقين : من يرغب فى تحصيل آيات اللّه ، ومن يرغب عنها « وبضدها تتبين الأشياء » ثم عاد إلى ذكر السبب فى إنكار البعث وهو حبّ بنى آدم للعاجلة ، وتركهم للآخرة ، ثم ذكر ما يكون فى ذلك اليوم من استبشار المؤمنين وبسور المشركين وملاقاتهم للشدائد والأهوال ، وظنهم أن ستتراكم عليهم الدواهي التي تكسر فقار ظهورهم.
الإيضاح
علّم اللّه رسوله كيف يتلقى الوحى من الملك ، إذ كان يسابقه فى قراءته فأمره أن يستمع إليه إذا جاء وقد كفل له : (1) أن يحفظه له. (2) أن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه. (3) أن يبينه ويفسره له.
وقد أشار إلى الأول بقوله :
(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ)
أي لا تحرك أيها الرسول الكريم بالقرءان لسانك وشفتيك ، لتأخذه على عجلة مخافة أن يتفلّت منك ، فإن علينا أن نجمعه لك حتى تثبته فى قلبك. وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا نزل عليه الوحى يحرك به لسانه وشفتيه ، فيشتد عليه ويعرف ذلك فى تحريكه شفتيه حتى نزلت الآية ، فكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما أمره اللّه.
عن ابن جبير عن ابن عباس قال : « كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة بتحريك شفتيه ، فقال لى ابن عباس : أنا أحركهما كما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحركهما ، فحرك شفتيه ، فأنزل اللّه عز وجل : « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ »
رواه مسلم.(29/151)
ج 29 ، ص : 152
وأشار إلى الثاني بقوله :
(فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)
أي فإذا تلى عليك فاعمل بما فيه من شرائع وأحكام وقد يكون المراد - فإذا تلاه عليك الملك فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك.
وأشار إلى الثالث بقوله :
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي ثم إنا بعد حفظه وتلاوته ، نبيّنه لك ونلهمك معناه على ما أردنا وشرحنا.
ثم أعاد القول فى توبيخ المشركين على إنكارهم للبعث فقال :
(كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما تقولون أيها المشركون : من أنكم لا تبعثون بعد مماتكم ، ولا تجازون بأعمالكم ، ولكن الذي دعاكم إلى قيل ذلك محبتكم للدنيا العاجلة ، وإيثاركم شهواتها على آجل الآخرة ونعيمها ، فأنتم تؤمنون بالعاجلة وتكذبون بالآجلة.
قال قتادة - اختار أكثر الناس العاجلة إلا من رحم اللّه وعصم.
والخلاصة - إنكم يا بنى آدم خلقتم من عجل وطبعتم عليه ، فتعجلون فى كل شىء ، ومن ثمّ تحبون العاجلة ، وتذرون الآخرة.
ثم بيّن ما يكون من أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين فقال :
(1) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي فوجوه المؤمنين المخلصين حين تقوم القيامة مضيئة مشرقة ، تشاهد عليها نضرة النعيم.
(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تنظر إلى ربها عيانا بلا حجاب ، قال جمهور أهل العلم :
المراد بذلك ما تواترت به الأحاديث الصحيحة من أن العباد ينظرون إلى ربهم يوم القيامة كما ينظرون إلى القمر ليلة البدر.
قال ابن كثير : وهذا بحمد اللّه مجمع عليه من الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام اه.(29/152)
ج 29 ، ص : 153
روى البخاري فى صحيحه « إنكم سترون ربكم عيانا »
وروى الشيخان عن أبى سعيد وأبى هريرة « أن ناسا قالوا : يا رسول اللّه هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال :
هل تضارّون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ؟ قالوا لا ، قال : فإنكم ترون ربكم كذلك » .
وروى ابن جرير عن مجاهد أنه قال : إن النظر هنا انتظار ما لهم عند اللّه من الثواب ، قال الأزهرى : قد أخطأ مجاهد لأنه لا يقال نظر إلى كذا بمعنى انتظر ، فإن قول القائل : نظرت إلى فلان ليس إلا رؤية عين ، فإذا أرادوا الانتظار قالوا نظرته ، وأشعار العرب وكلماتهم فى هذا كثيرة جدا اه.
(2) (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي ووجوه الفجار تكون يوم القيامة : عابسة كالحة مستيقنة أنها ستصاب بداهية عظيمة تقصم فقار ظهرها وتهلكها.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ » وقوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ » .
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(29/153)
ج 29 ، ص : 154
شرح المفردات
التراقى : العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال ، واحدها ترقوة ، من راق :
أي من يرقيه وينجيه مما هو فيه على نحو ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام الذي يعدّ لذلك والمراد هل من طبيب يشفى بالقول أو بالفعل ، الفراق : أي من الدنيا حبيبته ، التفّت الساق بالساق : أي التوت عليها حين هلع الموت وقلقه والمراد أنه اشتد عليه الخطب ، المساق : المرجع والمآب ، فلا صدّق ولا صلى : أي فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه ، يتمطى : أي يتبختر افتخارا ، أولى لك : أي ويل لك ، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره ، فأولى : أي فهو أولى بك من غيرك ، فدلت الأولى على الدعاء عليه بقرب المكروه ، ودلت الثانية على الدعاء عليه بأن يكون أقرب إليه من غيره ، سدى : أي مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يكلف فى الدنيا ولا يحاسب ، نطفة : أي ماء قليلا وجمعها نطاف ونطف ، يمنى : أي يراق ويصب فى الرحم ، علقة : أي قطعة دم جامد.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أحوال يوم القيامة وما يرى فيها من عظيم الأهوال ، ووصف سعادة السعداء ، وشقاوة الأشقياء بيّن أن الدنيا لها نهاية ونفاد ثم تكون مرارة الموت وآلامه ، وأن الكافر قد أضاع الفرصة فى الدنيا ، فلا هو صدّق بأوامر دينه ولا هو أدّى فرائضه ثم أقام الدليل على صحة البعث من وجهين :(29/154)
ج 29 ، ص : 155
(1) أنه لا بد من الجزاء على صالح الأعمال وسيئها ، وثواب كل عامل بما يستحق وإلا تساوى المطيع والعاصي ، وذلك لا يليق بالحكيم العادل جل وعلا.
(2) أنه كما قدر على الخلق الأول وأوجد الإنسان من منىّ يمنى ، فأهون عليه أن يعيده خلقا آخر!
الإيضاح
(كَلَّا) ردع وزجر : أي ازدجروا وتنبهوا إلى ما بين أيديكم من الموت ، فأقلموا عن إيثار الدنيا على الآخرة ، فستنقطع الصلة بينكم وبينها وتنتقلون إلى الدار الآخرة التي ستكونون فيها مخلّدين أبدا.
ثم وصف الحال التي تفارق فيها الروح الجسد فقال :
(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) أي إذا بلغت الروح أعالى الصدر ، وأشرفت النفس على الموت ، قال دريد بن الصّمّة :
وربّ عظيمة دافعت عنها وقد بلغت نفوسهم التراقى
والعرب تحذف من الكلام ما يدل عليه يقولون أرسلت : يريدون أرسلت السماء المطر ، ولا تكاد تسمعهم يقولون : أرسلت السماء ، قال حاتم يخاطب زوجه :
أماوىّ ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
ونحو الآية قوله : « فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ » .
(وَقِيلَ مَنْ راقٍ ؟ )
أي وقال أهله : من يرقيه ليشفيه مما نزل به ؟ قال قتادة :
التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء اللّه شيئا ، وقال أبو قلابة : ومنه قول الشاعر :
هل للفتى من بنات الموت من واقى أم هل له من حمام الموت من راقى
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي وأيقن المحتضر أن ما نزل به نذير الفراق من الدنيا والمال والأهل والولد ، وسمى هذا اليقين ظنّا لأن المرء مادامت روحه معلقة ببدنه(29/155)
ج 29 ، ص : 156
يطمع فى الحياة لشدة حبه لهذه العاجلة كما قال : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) فلا يحصل له يقين الموت ، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة.
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) أي التوت ساقه بساقه فلا يقدر على تحريكهما ، قال قتادة : أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب برجله على الأخرى ، وقال ابن عباس : المراد التفّت شدة فراق الدنيا بشدة خوف الآخرة واختلطتا ، فالتفّ بلاء ببلاء ، والعرب تقول لكل أمر اشتد ، شمّر عن ساقه ، وكشف عن ساقه ، قال النابغة الجعدي :
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا
(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي إلى خالقك يوم القيامة المرجع والمآب ، والمراد إنك صائر إلى جنة أو نار.
وجواب إذا وتمام الجملة يقدر بنحو قولنا - انكشفت للمرء حقيقة الأمر ، أو وجد ما عمله من خير أو شر حاضرا بين يديه.
ثم ذكر ما كان قد فرط منه فى الدنيا فقال :
(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي فما صدّق باللّه ووحدانيته ، بل اتخذ الشركاء والأنداء وجحد كتبه التي أنزلها على أنبيائه ، وما صلى وأدّى فرائضه التي أوجبها عليه ، بل أعرض وتولى عن الطاعة.
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي ليته اقتصر على الإعراض والتولّى عن الطاعة بل هو قد ذهب إلى أهله جذلان فرحا ، يمشى الخيلاء متبخترا.
والخلاصة - إن هذا الكافر كان فى الدنيا مكذبا للحق بقلمه ، متوليا عن العمل بجوارحه ، معجبا بما فعل ، فلا خير فيه لا باطنا ولا ظاهرا ثم هدده وتوعده فقال :
(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) أي ويل لك مرة بعد أحرى ، وأهلكك اللّه هلاكا أقرب لك من كل شر وهلاك(29/156)
ج 29 ، ص : 157
ويرى قوم أن معنى أولى أجمل وأمرى ، فيكون المراد - النار أولى بك وأجمل.
ثم كرر هذا الوعيد فقال :
(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ) أي يتكرر هذا الدعاء عليك مرة بعد أخرى ، فأنت جدير بهذا.
روى قتادة « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذ بيد أبى جهل فقال : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ، فقال عدو اللّه : أ توعدني يا محمد ، واللّه ما تستطيع لى أنت ولا ربك شيئا ، واللّه لأنا أعز من مشى بين جبليها ، فلما كان يوم بدر أشرف عليهم فقال : لا يعبد اللّه بعد هذا اليوم ، فقتل إذ ذاك شرّ قتله » .
وعن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قول اللّه تعالى : « أَوْلى لَكَ فَأَوْلى » أ شيء قاله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من نفسه أم أمره اللّه تعالى به ؟
قال بل قاله من قبل نفسه ، ثم أنزله اللّه تعالى » .
ثم أقام الدليل على البعث من وجهين :
(1) (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يترك الإنسان فى الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك فى قبره مهملا لا يحاسب ، بل هو مأمور منهى محشور إلى ربه ، فخالق الخلق لا يساوى الصالح المزكّى نفسه بصالح الأعمال ، والطالح المدسّى نفسه باجتراح السيئات والآثام كما قال : « إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى » وقال : « أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ » .
وإذا فلا بد من دار للثواب والعقاب والبعث والقيامة.
(2) (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى . ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ؟ ) أي أما كان هذا المنكر قدرة اللّه على إحيائه بعد مماته وإيجاده بعد فنائه - نطفة فى صلب أبيه ، ثم كان علقة ثم سواه بشرا ناطقا سميعا بصيرا ، ثم جعل منه أولادا ذكورا وإناثا بإذنه وتقديره ؟(29/157)
ج 29 ، ص : 158
(أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ ) أي أليس الذي أنشأ هذا الخلق السوىّ من هذه النطفة المذرة بقادر على أن يعيده كما بدأه ؟ فذلك أهون من البدء فى قياس العقل كما قال : « وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » .
وقد جاء من طرق عدة « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : سبحانك اللهمّ وبلى
و
أخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « من قرأ منكم : « وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ، وانتهى إلى آخرها : أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ » فليقل : بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين ، ومن قرأ : « لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ فانتهى إلى : أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى » فليقل بلى ، ومن قرأ المرسلات فبلغ « فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ » فليقل آمنا باللّه »
والحمد للّه رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.(29/158)
ج 29 ، ص : 159
سورة الإنسان
هى مدنية ، وآياتها إحدى وثلاثون ، نزلت بعد سورة الرحمن.
وصلتها بما قبلها ، أنه ذكر فى السابقة الأهوال التي يلقاها الفجار يوم القيامة ، وذكر فى هذه ما يلقاه الأبرار من النعيم المقيم فى تلك الدار.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
شرح المفردات
هل : أي قد ، حين : أي طائفة محدودة من الزمان ، والدهر : الزمان غير المحدود ، أمشاج : أي أخلاط واحدها مشج (بفتحتين) ومشيج ، نبتليه : أي نختبره ، السبيل : الطريق ، أي بنصب الدلائل وإنزال الآيات.
المعنى الجملي
أخبر سبحانه أنه قد جاء على الإنسان حين من الزمان لم يكن شيئا يذكر ويعرف ، ثم ذكر أن أبناء آدم كانوا نطفا فى الأصلاب ، ثم علقا ، ثم مضغا فى الأرحام ، ثم أوضح لهم السبيل ، وبيّن لهم طريقى الخير والشر ، فمنهم الشاكر ومنهم الكفور.
الإيضاح
(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) أي قد أتى على هذا النوع نوع الإنسان زمن لم يكن موجودا حتى يعرف ويذكر.(29/159)
ج 29 ، ص : 160
قال الفراء وثعلب : المراد أنه كان جسدا مصوّرا ترابا وطينا لا يذكر ولا يعرف ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به ، ثم نفخ فيه الروح فصار مذكورا.
وفى الآية ما يشير إلى ما قاله علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) من أن الإنسان لم بوجد على الأرض إلا بعد خلقها بأحقاب طوال ، فقد كانت الأرض أوّلا ملتهبة بعد أن انفصلت من الشمس ، ثم أخذت قشرتها تبرد بالتدريج ، وأمكن أن ينبت فيها النبات ، ثم بعض الطيور ، ثم بعض الحيوان الداجن ، ثم الإنسان وقد بينا ذلك عند تفسير قوله تعالى « هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » وذكرنا هناك أن الأيام هى الأطوار التي مر عليها خلق السموات والأرض إلى آخر ما قلنا هناك.
ثم أتبع ذلك بذكر العناصر الداخلة فى تكوين الإنسان فقال :
(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ) أي إنا خلقنا الإنسان من نطفة اختلط فيها ماء الرجل بماء المرأة ، مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد إذا شبّ وبلغ الحلم. قال الحسن : نختبر شكره فى السراء ، وصبره فى الضراء.
وروى عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال : الأمشاج الحمرة فى البياض والبياض فى الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ، قال الهذلي يصف سهما :
كأن الريش والفوقين منه خلاف النّصل سيط به مشيج
وقال قتادة : هى أطوار الخلق ، طورا نطفة ، وطورا علقة ، وطورا مضغة ، وطورا عظاما ، ثم تكسى العظام لحما كما قال فى سورة المؤمنين : « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » الآية.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء والامتحان ، وهو السمع والبصر فقال :
(فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلناه كذلك ليتمكن من استماع الآيات ومشاهدة الدلائل والتعقل والتفكر.(29/160)
ج 29 ، ص : 161
وهذه من عالم أشرف من عالم المادة التي هى فى أسفل درجات النقص ، والكمال إنما نزل إليه من عالم أرقى منها وهو العالم الروحي الإلهى.
فهو إما أن يرجع إلى حب المادة والاستكانة لهذه المشاهدات ، وإما أن يتفكر ويجدّ بالعلم والعمل ، ليصل إلى عالم الكمال والجمال ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله : « نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » .
والخلاصة - نحن نعامله معاملة المختبر له ، أ يميل إلى أصله الأرضى ، فيكون حيوانا نباتيا معدنيا شهوانيا ، أم يكون إلهيّا معتبرا بالسمع والبصر والفكر ، وهى من عوالم أرقى من عالم المادة التي تكوّن منها.
ثم ذكر أنه بعد أن ركّبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى وسبيل الضلال فقال :
(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي فأعطيناه السمع والبصر والفؤاد ، ونصبنا له الدلائل فى الأنفس والآفاق ، لتكون مسرحا لفكره ، ومغنما لعقله.
ثم بين أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين فقال :
(إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي فبعض اهتدى وعرف حق النعمة فشكر ، وبعض أعرض فكفر.
وإجمال ذلك - إنا هديناه السبيل ليتميز شكره من كفره ، وطاعته من معصيته.
ونحو الآية قوله : « لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا » وقوله : « وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ » .
وروى مسلم عن أبى مالك الأشعري قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها » .(29/161)
ج 29 ، ص : 162
[سورة الإنسان (76) : الآيات 4 الى 12]
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12)
شرح المفردات
أعتدنا : أي هيأنا وأعددنا ، والأغلال : واحدها غلّ (بالضم) وهو القيد ، والسعير : النار الموقدة ، والأبرار : واحدهم برّ. قال فى الصحاح : جمع البر الأبرار ، وجمع البارّ البررة ، والأبرار هم أهل الطاعة والإخلاص والصدق وقال قتادة : هم الذين يؤدون حق اللّه ويوفون بالنذر ، وقيل هم الصادقون فى إيمانهم ، المطيعون لربهم ، الذين سمت همتهم عن المحقرات ، فظهرت فى قلوبهم ينابيع الحكمة ، والكأس : هى الإناء الذي فيه الشراب ، وقد يطلق الكأس على الخمر نفسها وهو للمراد كما قال أبو نواس :
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها
وقال عمرو بن كلثوم :
صبنت الكأس عنا أم عمرو وكان الكأس مجراها اليمينا(29/162)
ج 29 ، ص : 163
والمزاج : ما يمزج به كالحزام لما يحزم به ، أي يكون شوبها وخلطها بماء الكافور كما قال :
كأن سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء
وجعلت كالكافور لما فيه من البياض وطيب الرائحة والبرودة ، بها : أي منها ، يفجرونها : أي يجرونها إلى منازلهم وقصورهم حيث شاءوا ، يوفون بالنذر : أي يؤدون ما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات ، شره : أي شدائده ، مستطيرا : أي فاشيا منتشرا فى الأقطار من قولهم : استطار الحريق والفجر إذا انتشر ، عبوسا :
أي تعبس فيه الوجوه ، قمطريرا : أي شديد العبوس ، تقول العرب يوم قمطرير وقماطر ، وأنشد الفراء :
بنى عمنا هل تذكرون بلاءنا عليكم إذ
وقاهم : أي دفع عنهم ، لقّاهم : أي أعطاهم ، نضرة :
أي حبورا. قال الحسن ومجاهد : نضرة فى وجوههم ، وسرورا فى قلوبهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنه هدى الإنسان لطريق الخير وطريق الشر فى قوله :
« وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » ثم أردفه ببيان أن الناس انقسموا فى ذلك فريقين : فريق وقفه اللّه واعتدى وشكر ، وفريق أضله اللّه وكفر أعقب ذلك بما أعده لكل منهما يوم القيامة ، فأعد للأولين جنات ونعيما ، فهم يشربون الخمر (وهى ألذ شراب لديهم) ممزوجة بماء عذب زلال ، طيب الرائحة ، تأتيهم إلى غرفهم متى شاءوا وكيف أرادوا ، ويلبسون الحرير ويجلسون على الأرائك لا يرون فيها حرّا ولا قرّا ، ثم ذكر ما أعدوه فى الدنيا لنيلهم هذا الثواب العظيم ، فبين أنهم يطعمون الطعام للفقراء البائسين واليتامى والأسارى ، ويؤدون ما وجب عليهم لربهم ، ويخافون عذاب يوم القيامة وأعد للآخرين سلاسل وقيودا ونارا تشوى الوجوه والأجسام.(29/163)
ج 29 ، ص : 164
الإيضاح
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً) أي إنا هيأنا لمن كفروا بنعمتنا وخالفوا أمرنا - سلاسل بها يقادون إلى الجحيم ، وأغلالا بها تشد أيديهم إلى أعناقهم كما يفعل بالمجرمين فى الدنيا ، ونارا بها يحرقون.
ونحو الآية قوله : « إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ » وبعد أن ذكر ما أعده للكافرين بين ما أعده للشاكرين من شراب شهىّ ولباس بهيّ فقال :
(إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي إن الذين بروا بطاعتهم ربهم فأدّوا فرائضه واجتنبوا معاصيه - يشربون من خمر كان مزاج ما فيها من الشراب كالكافور طيب رائحة وبردا وبياضا.
وهذا المراج من عين يشرب منها عباد اللّه المتقون وهم فى غرف الجنات ، يسوقونها إليهم سوقا سهلا إلى حيث يريدون ، وينتفعون بها كما يشاءون ، ويتبعهم ماؤها إلى كل مكان يحبون وصوله إليه.
قال مجاهد : يقودونها حيث شاءوا ، وتتبعهم حيث مالوا.
ثم ذكر ما لأجله استحقوا الكرامة فقال :
(1) (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) أي يوفون بما أوجبوه على أنفسهم ، ومن أوفى بما أوجبه على نفسه فهو على الوفاء بما أوجبه اللّه عليه أولى.
وقضارى ذلك - إنهم يؤدونه ما أوجبه اللّه عليهم بأصل الشرع ، وبما أوجبوه على أنفسهم بالنذر.(29/164)
ج 29 ، ص : 165
(2) (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي ويتركون المحرمات التي نهاهم ربهم عنها خيفة سوء الحساب يوم المعاد ، حين يستطير العذاب ويفشو بين الناس إلا من رحم اللّه.
(3) (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أي ويطعمون الطعام وهم فى محبة له وشغف به - المسكين العاجز عن الاكتساب ، واليتيم : الذي مات كاسبه ، والأسير : المأخوذ من قومه ، المملوكة رقبته ، الذي لا يملك لنفسه قوة ولا حيلة.
والمراد من إطعام الطعام الإحسان إلى المحتاجين ومواساتهم بأى وجه كان ، وإنما خص الطعام لكونه أشرف أنواع الإحسان ، لا جرم أن عبر به عن جميع وجوه المنافع.
ونحو الآية قوله : « فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ » .
وقد وصّى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقّاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول : « الصلاة وما ملكت أيمانكم » .
وبعد أن ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين - بيّن أن لهم فى ذلك غرضين :
(1) رضا اللّه عنهم ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ) فلا نمنّ عليكم ولا نتوقع منكم مكافأة ولا غيرها مما ينقص الأجر ، وقد كانت عائشة رضى اللّه عنها تبعث الصدقة إلى أهل بيت من البيوت ثم تسأل المبعوث ، فإن ذكر دعاء دعت بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند اللّه.
ثم أكد هذا ووضحه بقوله :
(لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ،(29/165)
ج 29 ، ص : 166
ولا أن تشكرونا لدى الناس : قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما واللّه ما قالوه بألسنتهم ولكن علم اللّه به من قلوبهم فأثنى عليهم به ، ليرغب فى ذلك راغب (2) خوف يوم القيامة ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنا نفعل ذلك ليرحمنا ربنا ويتلقانا بلطفه فى ذلك اليوم العبوس القمطرير.
وبعد أن حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعة لغرضين : طلب رضا اللّه ، والخوف من يوم القيامة - بيّن أنه أعطاهم الغرضين فأشار إلى الثاني بقوله :
(فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي فدفع اللّه عنهم ما كانوا فى الدنيا يحذرون من شر ذلك اليوم العبوس بما كانوا يعملون مما يرضى ربهم عنهم.
وأشار إلى الأول بقوله :
(وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) أي وأعطاهم نضرة فى وجوههم وسرورا فى قلوبهم ونحو الآية قوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ » .
وقد جرت العادة أن القلب إذا سرّ استنار الوجه ،
قال كعب بن مالك : وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه فلقة قمر ، وقالت عائشة رضى اللّه عنها : دخل علىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه - الحديث.
(وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدى إليه من الجوع والعرى بستانا فيه مأكول هنى ، وحريرا منه ملبس بهى ، ونحو الآية قوله : « وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ »
[سورة الإنسان (76) : الآيات 13 الى 22]
مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17)
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)(29/166)
ج 29 ، ص : 167
شرح المفردات
الأرائك : واحدتها أريكة ، وهو السرير فى الحجلة (الناموسية) والزمهرير :
البرد الشديد ، دانية : أي قريبة ، ظلالها : أي ضلال أشجارها ، وذلّلت : أي سخرت ثمارها وسهل أخذها وتناولها ، والقطوف : الثمار ، واحدها قطف (بكسر القاف) وآنية : واحدها إناء ، وهو ما يوضع فيه الشراب ، والأكواب : واحدها كوب ، وهو كوز لا عروة له ، والقوارير : واحدتها قارورة ، وهى إناء رقيق من الزجاج ، قدّروها تقديرا : أي قدرها السقاة على قدر رىّ شاربها ، كأسا : أي خمرا ، والزنجبيل : نبت فى أرض عمّان وهو عروق تسرى فى الأرض وليس بشجر ، ومنه ما يأتى من بلاد الزنج والصين وهو الأجود ، قاله أبو حنيفة الدينوري ، وكانت العرب تحبه فى الشراب ، لأنه يحدث لذعا فى اللسان إذا مزج بالشراب ، قال الأعشى.
كأن القرنفل والزنجبيل باتا بفيها وأريا مشورا والسلسبيل : الشراب اللذيذ ، تقول العرب : هذا شراب سلسل وسلسال وسلسبيل :
أي طيب الطعم لذيذه ، وتسلسل الماء فى الحلق : جرى ، مخلدون : أي دائمون على(29/167)
ج 29 ، ص : 168
البهاء والحسن لا يهرمون ولا يتغيرون ، نمّ : أي هناك ، والسندس : ما رقّ من الديباج ، والإستبرق : ما غلظ منه ، والأساور : واحدها سوار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر طعام أهل الجنة ولباسهم - أردفه وصف مساكنهم ، ثم وصف شرابهم وأوانيه وسقاته ، ثم أعاد الكلام مرة أخرى بذكر ما تفضل به عليهم من فاخر اللباس والحلي ، ثم ألمع إلى أن هذا كان جزاء لهم على ما عملوا ، وما زكوا به أنفسهم من جميل الخصال ، وبديع الخلال.
الإيضاح
(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي متكئين فى الجنة على السرر فى الحجال ، ليس لديهم حرّ مزعج ولا برد مؤلم ، بل جوّ واحد معتدل دائم سرمدى ، فهم لا يبغون عنها حولا.
والخلاصة - إنهم لا يرون فى الجنة حر الشمس ، ولا برد الزمهرير ، ومنه قول الأعشى :
منعّمة طفلة كالمها لم تر شمسا ولا زمهريرا
وفى الحديث : « هواء الجنة سجسج لا حرّ ولا قرّ » .
(وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي إن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار ، مظلة عليهم زيادة فى نعيمهم.
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا) أي سخرت للقائم والقاعد والمتكئ ، قال مجاهد :
إن قام ارتفعت منه بقدر ، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها ، وكذلك إذا اضطجع ، لا يردّ اليد عنها بعد ولا شوك.(29/168)
ج 29 ، ص : 169
وعن البراء بن عازب قال : إن أهل الجنة يأكلون من ثمار الجنة قياما وقعودا ومضطجعين وعلى أي حال شاءوا.
وبعد أن وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم - وصف شرابهم وأوانيه فقال :
(وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا. قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي يدير عليهم خدمهم كؤوس السراب والأكواب من الفضة.
وقد تكوّنت وهى جامعة لصفاء الزجاجة وشفيفها ، وبياض الفضة ولينها ، وقد قدّرها لهم السقاة الذين يطوفون عليهم للسقيا على قدر كفايتهم وريهم ، وذلك ألذّ لهم وأخف عليهم ، فهى ليست بالملأى التي تفيض ، ولا بالناقصة التي تغيض.
والخلاصة - إن آنية أهل الجنة من فضة بيضاء فى صفاء الزجاج ، فيرى ما فى باطنها من ظاهرها.
أخرج ابن أبى حاتم عن ابن عباس أنه قال : « ليس فى الجنة شىء إلا قد أعطيتم فى الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة » . ولا منافاة بين كون الأوانى من الفضة ، وبين كونها من الذهب كما ذكر فى قوله : « يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ » لأنهم تارة يسقون بهذه ، وتارة يسقون بتلك.
وبعد أن وصف أوانى مشروبهم وصف المشروب نفسه فقال :
(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا) أي ويسقى الأبرار فى الجنة خمر ممزوجة بالزنجبيل ، وقد كانوا يحبون ذلك ويستطيبونه ، كما قال المسيّب بن علس يصف رضّاب امرأة :
وكأن طعم الزنجبيل به إذ ذقته بسلاقة الخمر
(عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا) أي ويسقون من عين فى الجنة غاية فى السلاسة وسهولة الانحدار فى الحلق ، قال ابن الأعرابى : لم أسمع السلسبيل إلا فى القرآن ، وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها اه ، ومنه ق
و(29/169)
ج 29 ، ص : 170
وقال مقاتل : هو عين يتسلسل عليهم ماؤها فى مجالسهم كيف شاءوا اه.
وهذا كله ما هو إلا أسماء لما هو شبيه بما فى الدنيا ، وهناك ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، فالمعانى غير ما نعهد ، والألفاظ لمجرد تخيل شىء مما نراه كما قال ابن عباس.
ثم ذكر أوصاف السقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب فقال :
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة يأتون على ما هم عليه : من الشباب والطراوة والنضارة ، لا يهرمون ولا يتغيرون ولا تضعف أجسامهم عن الخدمة.
(إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيت هؤلاء الولدان خلتهم لحسن ألوانهم ، ونضارة وجوههم وانتشارهم فى قضاء حوائج سادتهم - كأنهم اللؤلؤ المنثور « واللؤلؤ المنثور أجمل فى النظر من اللؤلؤ المنظوم » ولأنهم إذا كانوا كذلك كانوا سراعا فى الخدمة.
وعن المأمون أنه قال ليلة زفّت إليه بوران بنت الحسن بن سهل ، وهو على بساط منسوج من الذهب ، وقد نثرت عليه نساء دار الخلافة اللؤلؤ ، ونظر إليه فاستحسن ذلك المنظر : للّه درّ أبى نواس كأنه أبصر هذا حيث قال :
كأن صغرى وكبرى من قواقعها حصباء در على أرض من الذهب
ولما ذكر نعيم أهل الجنة بما تقدم ذكر أن هناك أمورا أعلى وأعظم من ذلك فقال :
(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي وإذا نظرت فى الجنة رأيت نعيما عظيما وملكا كبيرا لا يحيط به الوصف.
وقد اختلفوا فى المراد من هذا الملك الكبير ، فقيل إن أدناهم منزلة من ينظر(29/170)
ج 29 ، ص : 171
ملكه فى مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل هو استئذان الملائكة عليهم ، فلا يدخلون إلا بإذنهم ، وقيل هو الملك الدائم الذي لا زوال له.
ولم يجىء فى الأخبار الصحيحة ما يفسر هذا الملك الكبير ، فأولى بنا أن نؤمن به ونترك تفصيله إلى علام الغيوب.
وبعد أن وصف شرابهم وآنيته وما هم فيه من النعيم ، وصف ملابسهم فقال :
(عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي إن لباس أهل الجنة فى الجنة الحرير ، ومنه سندس ، وهو رفيع الديباج للقمصان والغلائل ونحوها مما يلى أبدانهم ، وإستبرق : وهو غليظ الديباج لا معه مما يلى الظاهر كما هو المعهود فى لباس الدنيا.
وبعدئذ ذكر حليّهم فقال :
(وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وقد حلوا أساور من فضة ، وجاء هنا « مِنْ فِضَّةٍ » وفى سورة فاطر « يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ » لأنهم قد يجمعون بينهما ، أو يلبسون الذهب تارة والفضة أخرى.
وقال سعيد بن المسيّب : لا أحد من أهل الجنة إلا وفى يده ثلاثة أسورة واحدة من ذهب ، وأخرى من فضة ، وثالثة من لؤلؤ.
والتحلّي مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ، ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ، ومن المشاهد فى الدنيا أن بعض الملوك يتحلّون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي ، ولا يرون فى ذلك بأسا لمكان الإلف والعادة فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة فى الجنة حبّ التحلي دائما.
ثم ذكر أنهم يسقون شرابا آخر يفوق النوعين السابقين ، وهما ما يمزج بالكافور وما يمزج بالزنجبيل فقال :
(وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي وسقاهم ربهم غير ما سلف شرابا يطهّر شاربه من الميل إلى اللذات الحسية ، والركون إلى ما سوى الحق ، فيتجرد لمطالعة جماله ، والتلذذ بلقائه ، وهذا منتهى درجات الصديقين.(29/171)
ج 29 ، ص : 172
قال أبو فلابة : يؤتون بالطعام والشراب ، فإذا كان فى آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور ، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك.
ولم يذكر الكتاب ما يبين نوع ذلك الشراب ، فلندع أمره إلى اللّه ونؤمن به كما أخبر به فى كتابه.
وبعد أن شرح أحوال السعداء وما يلقونه من وافر النعيم الذي يتجلى فى مشربهم وملبسهم ومسكنهم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما قدموا من صالح الأعمال ، وما زكّوا به أنفسهم من صفات الكمال فقال :
(إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي ويقال لهؤلاء الأبرار حينئذ : إن هذا الذي أعطيناكم من الكرامة كان لكم ثوابا على ما كنتم تعملون من الصالحات ، وكان عملكم فيها مشكورا ، حمدكم عليه ربكم ورضيه لكم ، فأثابكم بما أثابكم به من الكرامة.
والغرض من ذكر هذا القول لهم زيادة سرورهم ، فإنه إذا قيل للمعاقب :
هذا بعملك الرديء ازداد غمه وألم قلبه ، وإذا قيل للمثاب : هذا بطاعتك وعملك الحسن ، ازداد سروره وكان تهنئة له :
ونحو الآية قوله : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ » وقوله : « وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » .
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)
نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)(29/172)
ج 29 ، ص : 173
شرح المفردات
نزّلنا عليك القرآن تنزيلا : أي أنزلناه عليك مفرقا منجما ، حكم ربك : هو أخير نصرك على الكفار إلى حين ، والآثم : هو الفاجر المجاهر بالمعاصي ، والكفور :
هو المشرك المجاهر بكفره ، بكرة وأصيلا : أي أول النهار وآخره ، والمراد بذلك جميع الأوقات ، أسجد : أي صلّ ، سبحه : أي تهجد ، وراءهم : أي أمامهم ، شددنا أسرهم : أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق ، بدّلنا أمثالهم : أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم فى شدة الخلق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الآخرة وبيّن عذاب الكفار على سبيل الاختصار وثواب المطيعين على سبيل الاستقصاء ، إرشادا لنا إلى أن جانب الرحمة مقدم على جانب العقاب - أردف ذلك ذكر أحوال الدنيا ، وقدّم أحوال الطيعين ، وهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأمته على أحوال المتمردين والمشركين :
وقبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من الأمر والنهى أمره بالصبر على ما يناله من أذى قومه إزالة لوحشته ، وتقوية لقلبه ، حتى يتم فراغ قلبه ، ويشتغل بطاعة ربه وهو على أتمّ ما يكون سرورا ونشاطا.(29/173)
ج 29 ، ص : 174
الإيضاح
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا) أي إنا أنزلنا عليك القرآن مفرقا منجما فى مدى ثلاث وعشرين سنة ليكون أسهل لحفظه وتفهّمه ودراسته ، ولتكون الأحكام آتية وفق الحوادث التي تجدّ فى الكون ، فتكون تثبيتا لايمان المؤمنين ، وزيادة فى تقوى المتقين.
وقد يكون المعنى : نزلنا عليك ولم تأت به من عندك كما يدعيه المشركون ، ويراد من ذلك تثبيت قلب رسوله صلى اللّه عليه وسلم وشرح صدره ، وأن الذي أنزل عليه وحي لا كهانة ولا سحر ، وبذا تزول الوحشة من قول الكفار : إنه كهانة أو سحر.
(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي فاصبر لما ابتلاك به ربك وامتحنك به من تأخير نصرك على المشركين ، ومقاساة الشدائد فى تبليغ رسالته ووحيه الذي أنزله عليك ، فإن لذلك عاقبة حميدة ، وغاية يثلج لها فؤادك.
(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي ولا تطع كلا من مرتكب الإثم والمتجاوز الحد فى الكفر ، فإذا قال لك الآثم كعتبة بن ربيعة : اترك الصلاة وأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بلا مهر ، أو قال لك الكفور الوليد بن المغيرة : أنا أعطيك من المال حتى ترضى إذا رجعت عن هذا الأمر ، فلا تطع واحدا منهما ولا من غيرهما ، فقد أعددنا لك النصر فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة.
وقصارى ذلك - لا تتبع أحدا من الآثمين إذا دعاك إلى الإثم ، ولا من الكافرين إذا دعاك إلى الكفر ، وهذا ما يفهم من قولك : لا تطع الظالم - من أن المعنى - لا تتبعه فى الظلم إذا دعاك إليه.
ونهيه صلى اللّه عليه وسلم عن طاعة الآثم والكفور وهو لا يطيع واحدا منهما ، إشارة إلى أن الناس محتاجون إلى مواصلة الإرشاد ، لما ركب فى طباعهم من الشهوة الداعية إلى اجتراح السيئات ، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق اللّه وإرشاده لكان(29/174)
ج 29 ، ص : 175
أحق الناس بذلك هو الرسول المعصوم ، ومن ثم وجب على كل مسلم ان يرغب إلى اللّه ويتضرع إليه فى أن يصونه عن اتباع الشهوات ، ويعصمه عن ارتكاب المحرمات ، لينجو من الآفات ، ويسلم من الزلات ، ليلقى ربه أبيض الصحائف من السيئات.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي ودم على ذكره فى جميع الأوقات بقلبك ولسانك.
(وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) أي وصلّ بعض الليل كصلاة المغرب والعشاء.
(وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا) أي وتهجد له طائفة من الليل ، ونحو هذا ما جاء فى قوله :
« وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً » وقوله : « يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا » .
ثم قال منكرا على الكفار وأشباههم حب الدنيا والإقبال عليها ، وترك الآخرة وراءهم ظهريّا.
(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا) أي إن هؤلاء المشركين باللّه يحبون الدنيا وتعجبهم زينتها ، وينهمكون فى لذاتها الفانية ، ويدعون خلف ظهورهم العمل لليوم الآخر وما لهم فيه النجاة من أهواله وشدائده.
والخلاصة - لا تطع الكافرين واشتغل بالعبادة ، لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا ، فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة.
ثم بغى عليهم تركهم للعبادة ، وعفلتهم عن طاعة بارئهم وموجدهم من العدم فقال :
(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) أي كيف يغفلون عنا ونحن الذين خلقناهم ، وأحكمنا ربط مفاصلهم بالعروق والأعصاب ، أ فبعد هذا نتركهم سدى ؟ .(29/175)
ج 29 ، ص : 176
ثم توعّدهم وهدّدهم فقال :
(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا) أي وإذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم.
ونحو الآية قوله : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً » وقوله : « إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ، وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ » وقوله : « عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ »
.
وقد جرت سنة اللّه بأن يزيل ما لا يصلح للرقى من خلقه ، فهو يهلك هؤلاء ويبدل أمثالهم فيجعلهم مكانهم ، كما هى قاعدة بقاء الصلاح والأصلح ، وإهلاك ما لا يصلح للبقاء.
وبعد أن ذكر أحوال السعداء والأشقياء أرشد إلى أن فى هذا الذكر تذكرة وموعظة للخلق ، وفوائد جمة لمن ألقى سمعه ، وأحضر قلبه ، وكانت نفسه مقبلة على ما ألقى إليه سمعه ، فقال :
(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا) أي إن هذه السورة بما فيها من ترتيب بديع ، ونسق عجيب ، ووعد ووعيد ، وترغيب وترهيب ، تذكرة للمتأملين ، وتبصرة للمستبصرين ، فمن شاء الخير لنفسه فى الدنيا والآخرة ، فليتقرب إلى ربه بالطاعة ، ويتبع ما أمره به ، وينته عما نهاه عنه ، ليحظى بثوابه ، ويبتعد عن عقابه.
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) أي وما تشاءون اتخاذ السبيل الموصلة إلى النجاة ولا تقدرون على تحصيلها إلا إذا وفقكم اللّه لاكتسابها ، وأعدّكم لنيلها ، إذ لا دخل لمشيئة العبد إلا فى الكسب ، وإنما التأثير والخلق لمشيئة اللّه عز وجل ، فمشيئة العبد وحدها لا نأتى بخير ، ولا تدفع شرا ، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة ، ويؤجر على قصد الحير كما
فى حديث : « إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى » .(29/176)
ج 29 ، ص : 177
(إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) أي إن اللّه عليم بمن يستحق الهداية فييسّرها له ، ويقيّض له أسبابها ، ومن هو أهل للغواية ، فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.
(يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ) فيهديه ويوفقه للطاعة بحسب استعداده.
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي والذين ظلموا أنفسهم فماتوا على شركهم ، أعدّ لهم فى الآخرة عذابا مؤلما موجعا ، هو عذاب جهنم وبئس المصير.
نسأل اللّه أن يجعلنا من الأبرار ، والمقربين الأخيار ، ويجعل سعينا مشكورا لديه.
ما تضمنته السورة من المقاصد
اشتملت هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :
(1) خلق الإنسان.
(2) جزاء الشاكرين والجاحدين.
(3) وصف الجنة والنار.
(4) أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالصبر وذكر اللّه والتهجد بالليل.(29/177)
ج 29 ، ص : 178
سورة المرسلات
هى مكية إلا آية : « وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ » فمدنية.
وعدد آيها خمسون ، نزلت بعد سورة الهمزة.
ومناسبتها لما قبلها - أنه هنا أقسم على تحقيق ما تضمنته السورة قبلها من وعيد الفجار ، ووعد المؤمنين الأبرار.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
شرح المفردات
المرسلات : هم الملائكة الذين أرسلهم اللّه لإيصال النعمة إلى قوم ، والنقمة إلى آخرين ، عرفا : أي للمعروف والإحسان ، والعاصفات : أي المبعدات للباطل كما تبعد العواصف التراب والتبن والهباء ، والناشرات : أي الناشرات لأجنحتهنّ عند نزولهنّ إلى الأرض ، فالفارقات فرقا : أي فالفارقات بين الحق والباطل ، فالملقيات ذكرا : أي فالملقيات العلم والحكمة إلى الأنبياء ، عذرا أو نذرا : أي للإعذار والإنذار ،(29/178)
ج 29 ، ص : 179
من قولهم : عذره إذا أزال الإساءة ، وأنذر إذا خوّف ، طمست : أي محقت وذهب نورها ، فرجت : أي فتحت وشقت ، نسفت : أي اقتلعت من أماكنها بسرعة من قولهم : انتسفت الشيء إذا اختطفته ، أقّتت : أي عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على أممها ، أجّلت : أي أخرت وأمهلت ، الفصل : أي الفصل بين الخلائق بأعمالهم : إما إلى الجنة ، وإما إلى النار ، ويل : أي عذاب وخزى.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة ، منهم المرسلون إلى الأنبياء بالإحسان والمعروف ليبلغوه للناس ، ومنهم الذين يعصفون ما سوى الحق ويبعدونه كما تبعد العواصف التراب وغيره ، ومنهم الذين ينشرون آثار رحمته فى النفوس الحية ، ومنهم الذين يفرقون بين الحق والباطل ، ومنهم الملقون العلم والحكمة للإعذار والإنذار من اللّه - إن يوم القيامة لا ريب فيه ، وحين تمحق أنوار النجوم ، وتشقق السماء ، وتنسف الجبال ، ويعين للرسل الوقت الذي يشهدون فيه على أممهم ، ويفصل بين الخلائق إبّان العرض والحساب يكون الخزي والعذاب للكافرين المكذبين.
الإيضاح
(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) أي أقسم بملائكتى الذين أرسلتهم بالإحسان والمعروف ، ليبلغوه أنبيائى ورسلى.
(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) أي فالملائكة المبعدين للباطل بسرعة كما تعصف الريح التراب والهباء.
(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) أي والملائكة الذين ينشرون آثارهم فى الأمم والنفوس الحية.(29/179)
ج 29 ، ص : 180
(فَالْفارِقاتِ فَرْقاً) أي فالملائكة النازلين بأمر اللّه للفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغىّ.
(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً. عُذْراً أَوْ نُذْراً) أي فالملائكة الملقيات إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق ، وإنذار لهم بعقاب اللّه إن هم خالفوا أمره.
(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) أي أقسم بهذه الأقسام إن ما وعدتم به من قيام الساعة لكائن لا محالة.
(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي فإذا ذهب ضوء النجوم ، ونحو الآية قوله : « وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ » .
(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي وإذا السماء انفطرت وتشققت ، وهذا كقوله :
« وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً » وقوله : « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » وقوله : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي وإذا الجبال فرقتها الرياح ، فلم يبق لها عين ولا أثر ، وهذا كقوله : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً » .
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم ، وهذا كقوله : « يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ » .
(لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ؟ ) أي ويقال حينئذ : لأى يوم أخّرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفار وإهانتهم ، وتنعيم المؤمنين ورعايتهم ، وظهور ما كانت الرسل تذكره من أمور الآخرة وأحوالها ، وفظاعة أهوالها.
والمراد بهذا تهويل أمر هذا اليوم وتعظيم شأنه كأنه قيل : أي يوم هذا الذي أجّل اجتماع الرسل إليه ؟ إنه ليوم عظيم.
ثم بين ذلك اليوم فقال :(29/180)
ج 29 ، ص : 181
(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي ليوم يفصل اللّه فيه بين الخلائق ، وهو اليوم الذي أجّل اجتماع الرسل له.
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ ؟ ) أي وما أعلمك بيوم الفصل وشدته وعظيم أهواله ؟
ثم صرح بالمراد وأبان من سيقع عليهم النكال والوبال حينئذ فقال :
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب وخزى لمن كذب باللّه ورسله وكتبه وبكل ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 28]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
شرح المفردات
من ماء مهين : أي من نطفة قذرة حقيرة ، فى قرار مكين : أي فى الرحم ، إلى قدر معلوم : أي إلى مقدار معيّن من الوقت عند اللّه ، فقدرنا : أي على خلقه وتصويره كيف شئنا ، والكفات : ما يكفت ، أي يضم ويجمع ، من كفت الشيء.
إذا ضمه وجمعه ، وأنشد سيبويه :
كرام حين تنكفت الأفاعى إلى أجحارهنّ من الصقيع
رواسى : أي جبالا ثوابت ، شامخات : أي مرتفعات ، فراتا : أي عذبا.(29/181)
ج 29 ، ص : 182
المعنى الجملي
بعد أن حذر الكافرين وخوّفهم بأن يوم الفصل كائن لا محالة ، وأقسم لهم بملائكته المقربين ورسله الطاهرين بأنه يوم سيكون ، وأن فيه من الأهوال ما لا يدرك كنهه إلا علّام الغيوب - أردف ذلك بتخويفهم بأنه أهلك الكفار قبلهم بكفرهم فإذا سلكتم سبيلهم فستكون عاقبتكم كعاقبتهم ، وستعذبون فى الدنيا والآخرة ، ثم أعقبه بتخويفهم بنكران إحسانه إليهم ، فإنه قد خلقهم من ماء مهين فى قرار مكين إلى زمن معلوم ، ثم أنشأهم خلقا آخر ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، ليشكروا نعم اللّه عليهم ، فكفروا بها وأنكروا وحدانيته وعبدوا الأصنام والأوثان ، ثم ذكرهم بنعمه فى الآفاق إذ خلق لهم الأرض وجعلها تضمهم أحياء وأمواتا ، وجعل فيها الجبال لئلا تميد بهم وجعل فيها الأنهار والعيون ، ليشربوا منها ماء عذبا زلالا ، فويل لمن كفر بهذه النعم العظام.
الإيضاح
(أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ؟ ) أي ألم نهلك من كذب الرسل قبلكم ، ونعذبهم فى الدنيا بشتى أنواع العذاب ، فتارة بالغرق كما حدث لقوم نوح ، وأخرى بالزلزال كما كان لقوم لوط إلى أشباه ذلك من المثلاث التي حلت بالأمم قبلكم ، جزاء لهم على قبيح أعمالهم وسيئ أفعالهم ، وإن سنننا فى المكذبين لا تبديل فيها ولا تغيير ، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم ، وتندموا ، ولات ساعة مندم.
(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) أي ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين ، ونسلك بهم سبيلهم لأنهم فعلوا مثل أفعالهم.
وفى هذا من شديد الوعيد لأهل مكة ما لا يخفى.(29/182)
ج 29 ، ص : 183
ثم ذكر الحكمة فى إلحاقهم بهم فقال :
(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي إن سنتنا فى جميع المجرمين واحدة ، فكما أهلكنا المتقدمين لإجرامهم وتكذيبهم - نفعل بالمتأخرين الذين حذوا حذوهم ، واستنوا سنتهم ، فسنننا تجرى على وتيرة واحدة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي هؤلاء وإن عذبوا فى الدنيا بأنواع من العذاب ، فالطامة الكبرى معدّة لهم يوم القيامة ، والتكرير للتوكيد شائع فى كلام العرب كما تقدم فى سورة الرحمن.
وقال القرطبي : كرر الويل فى هذه السورة عند كل آية لمن كذب بشىء لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم ، فجعل لكل مكذب بشىء عذابا سوى عذابه بتكذيب شىء آخر اه.
ثم ذكّرهم بجزيل نعمه عليهم فى خلقهم وإيجادهم مما يستدعى جزيل شكرانهم فقال :
(أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ. فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ؟ ) أي ألا تعترفون بأنكم خلقتم من نطفة مذرة منتنة وضعت فى الأرحام إلى حين الولادة ، ونحن قد قدرنا ذلك فنعم المقدرون ، إذ خلقناكم فى أحسن الصور والهيئات - أفلا يستحق ذلك الخالق منكم الشكران لا الكفران والاعتراف بوحدانيته وإرساله للرسل والإقرار بالبعث ؟ لكنكم كفرتم أنعمه ، ونكلتم عن الاعتراف بوحدانيته ، وعبدتم الأصنام والأوثان ، وأنكرتم يوم الفصل والجزاء ، فسترون فى هذا اليوم عاقبة ما اجترحتم (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي خزى وعذاب لمن كذب بهذه المنن العوالي.
وبعد أن ذكّرهم بالنعم التي أنعم بها عليهم فى الأنفس - ذكرهم بما أنعم عليهم فى الآفاق ، وأرشد إلى أمور ثلاثة :(29/183)
ج 29 ، ص : 184
(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً. أَحْياءً وَأَمْواتاً ؟ ) أي ألم نجعل الأرض مهادا لكم ، فتكفتكم وتجمعكم فيها أحياء على ظهرها ، وأمواتا فى بطنها ، فالأحياء يسكنون فى منازلهم ، والأموات يدفنون فى قبورهم.
خرج الشعبي فى جنازة فنظر إلى الجبّان فقال : هذه كفات الأموات ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء.
وكانوا يسمون بقيع الغرقد (مقبرة المدينة) كفتة لأنه مقبرة تضم الموتى.
(2) (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي وجعلنا جبالا ثوابت عاليات على ظهرها ، لئلا تميد بكم.
وهذه الجبال متصلة بالطبقة الصوّانية التي هى أبعد طبقات الأرض عن سطحها وتلك الطبقة تضم فى جوفها كرة النار المشتعلة التي فى باطنها ، وظاهرها هذه القشرة التي نحن عليها.
(3) (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي وأسقيناكم ماء عذبا فراتا تشربون منه ، إما آتيا من السحاب الذي حفظته الجبال بارتفاعها ، وإما من العيون النابعات منها ويمدها الثلج الذي يذوب شيئا فشيئا فوق ظهر الأرض متنزلا إلى بطنها ، متجها إلى عيونها الجارية.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي عذاب عظيم فى الآخرة لمن كفر بهذه النعم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 29 الى 40]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّب
اقعة : « فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ، وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ، لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ » .
ثم وصف النار التي تحدث هذا الظل من الدخان فقال :
(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) أي إن هذه النار يتطاير منها شرر متفرق فى جهات كثيرة كأنه القصر عظما وارتفاعا ، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا اليوم الذي لا يجدون فيه لدفع العذاب عنهم محيصا.(29/184)
ج 29 ، ص : 185(29/185)
ج 29 ، ص : 186(29/186)
ج 29 ، ص : 187
ثم وصف اليوم الذي فيه العذاب فقال :
(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ. وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) أي هذا يوم لا يتكلمون من الحيرة والدهشة ، ولا يؤذن لهم فى الاعتذار ، لأنه ليس لديهم عذر صحيح ، ولا جواب مستقيم.
وقد يكون المراد - إنهم لا ينطقون بما يفيد فكأنهم لا ينطقون ، وتقول العرب لمن ذكر ما لا يفيد : ما قلت شيئا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بما دعتهم إليه الرسل ، فأنذرتهم عاقبته.
(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) أي هذا يوم يفصل فيه بين الخلائق ، ويتميز فيه الحق من الباطل ، فيؤتى كل عامل جزاء عمله من ثواب وعقاب ، ويفصل بين العباد بعضهم مع بعض ، فيقتص من الظالم للمظلوم ، وترد له حقوقه ثم بين كيف يكون الفصل فقال :
(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) أي جمعنا بينكم وبين من تقدمكم من الأمم فى صعيد واحد ليمكن الفصل بينكم ، فيقضى بهذا على هذا ، ولو لا ذلك ما أمكن إذ لا يقضى على غائب.
(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي فإن كان لكم حيلة فى دفع العذاب عنكم فاحتالوا ، لتخلصوا أنفسكم من العذاب.
وفى هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين فى الدنيا ، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بالبعث لأنه قد ظهر لهم عجزهم وبطلان ما كانوا عليه فى الدنيا.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 41 الى 50]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(29/187)
ج 29 ، ص : 188
شرح المفردات
ظلال : واحدها ظل ، وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ، ولكن موضع لم تصل إليه الشمس ظل ، ولا يقال فئ إلا لما زالت عنه الشمس ، ويعبر بالظل أيضا عن الرفاهية ، وعن العزة ، وعيون : أي أنهار ، اركعوا : أي صلوا ، حديث : أي كلام.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه ما يحلّ بالكفار من الخزي والنكال يوم القيامة - أعقبه بذكر ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة حينئذ ، فهم يكونون فى ترف ونعيم ويأكلون فواكه مما يشتهون ، ويقال لهم : كلوا واشربوا هنيئا بما قدمتم فى الأيام الخالية ، وهذا جزاء كل محسن لعمله.
ثم خاطب المكذبين مهدّدا لهم فقال : « كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا » ولا نصيب لكم فى الآخرة ، لأنكم كافرون.
ثم ذكر أن الكفار إذا أمروا بطاعة اللّه والخشوع له أبوا وأصروا على ما هم عليه من الاستكبار فويل لهم مما يعملون ، وإذا لم يؤمنوا بالقرآن والنبي الذي جاء به مع تظاهر الأدلة على صدقه. فبأى كلام بعده يصدقون ؟(29/188)
ج 29 ، ص : 189
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) أي إن المتقين فى ظلال ظليلة ، وكنّ كنين ، وعيون وأنهار ، أي فى ظلال الأشجار وظلال القصور ، فلا يصيبهم أذى حرّ ولا قرّ ، بخلاف الكافرين فإنهم فى ظل ذى ثلاث شعب لا ظليل ولا يغنى من اللهب كما تقدم.
ونحو الآية قوله فى سورة يس : « هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ » .
(وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي ولديهم فواكه يأكلون منها كلما اشتهت نفوسهم لا يخافون ضرها ولا عاقبة مكروهها.
(كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم : كلوا أيها الأبرار من هذه الفواكه ، واشربوا من هذه العيون كلما شئتم أكلا هنيئا خالص اللذة ، لا يشوبه سقم ولا يكدره تنغيص ، وهو دائم لكم لا يزول ولا يورثكم أذى فى أبدانكم حزاء بما عملتم فى الدنيا من طاعة اللّه ، واجتهدتم فيما يقربكم من رضوانه.
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنا كما جزينا هؤلاء المتقين بما وصفنا من الجزاء على طاعتهم إيّانا فى الدنيا - نجزى أهل الإحسان لطاعتهم وعبادتهم لنا ، فلا نضيع لهم أجرا ، كما قال : « إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا » .
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل للذين يكذبون ما أخبر اللّه به من تكريم هؤلاء المتقين بما أكرمهم به يوم القيامة.
ثم خاطب المكذبين مهددا لهم فقال :
(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كلوا بقية آجالكم ، وتمتعوا بقية أعماركم(29/189)
ج 29 ، ص : 190
وهى قليلة المدى ، وسنستنّ بكم سنة من قبلكم من مجرمى الأمم الخالية التي متعت إلى حين ، ثم انتقمنا منهم بكفرهم وتكذيبهم لرسلنا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين عرضوا أنفسهم للعذاب الدائم بالتمتع القليل ، وكذبوا بما أخبرهم اللّه أنه فاعل بهم.
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين اعبدوا اللّه وأطيعوه واخشوا يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، استكبروا وأصروا على عنادهم.
روى أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أمر ثقيفا بالصلاة ، فقالوا لا نحبوا (لا نركع) فإنها سبّة علينا ، فقال عليه السلام « لا خير فى دين ليس فيه ركوع ولا سجود » .
وروى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : إنما يقال هذا فى الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ، من جراء أنهم لم يكونوا يسجدون فى الدنيا.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بأوامر اللّه ونواهيه.
وبعد أن بالغ فى زجر الكفار بما تقدم ذكره ، وحث على الانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجيب من هؤلاء المشركين الذين لم يسمعوا نصيحة الداعي ، ولم يتبعوا عظاته ، وما فيه رشدهم وصلاحهم فى آخرتهم ودنياهم فقال :
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ؟ ) أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها ، فبأىّ كلام بعد هذا يصدقون ؟
فالقرآن الكريم جامع لأخبار الدارين ، مبين لأحوال النشأتين على نمط بديع تؤيده الحجج القاطعة ، وتدعمه البراهين الناطقة.
وقصارى ذلك - إن القرآن قد اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح ، فما بالهم لا يبادرون إلى الإيمان به قبل الفوت وحلول الموت ، وعدم الانتفاع بعسى ولعلّ وليت.
والحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله أجمعين.(29/190)
ج 29 ، ص : 191
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد
حوت هذه السورة المقاصد الآتية :
(1) الإخبار بأن يوم الفصل آت لا شك فيه ، وقد أكد ذلك بالقسم بملائكته الكرام.
(2) وعيد الكافرين بأنه سيستن بهم سنة الأولين من المكذبين.
(3) توبيخ المكذبين على نكران نعم اللّه عليهم فى الأنفس والآفاق.
(4) وصف عذاب الكافرين بما تشيب من هوله الولدان.
(5) وصف نعيم المتقين وما يلقونه من الكرامة فى جنات النعيم ، ويتخلل ذلك وصف خلق الإنسان والأرض والجبال ، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته.
وصل ربنا على عبدك ورسولك محمد النبي الأمى وعلى آله وسلم.
وكان الفراغ من مسودّة هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية فى الثاني من ذى القعدة من السنة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة والألف من الهجرة النبوية المباركة ، فلله الحمد والمنة.(29/191)
ج 29 ، ص : 192(29/192)
ج 29 ، ص : 193
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 تمجيد اللّه نفسه وبيان أنه خالق الخلق والمتصرف فى الملك.
6 نظام الجاذبية البديع بين أجرام الأرضين والسموات.
8 الكواكب زينة للسماء الدنيا وسبب لتكوّن الأرزاق.
10 وصف النار بما تشيب من هوله الولدان.
11 سؤال الزبانية للمشركين بقولهم : ألم يأتكم رسل ينذرونكم ؟ .
13 تهديد المشركين بأنه عليم بما يصدر منهم فى السرّ والعلن.
15 تنبيه العباد على نعمه المتظاهرة عليهم.
فى الحديث « إن اللّه يحب العبد المؤمن المحترف » .
16 تخويف المشركين بحلول العذاب بهم كما حل بمن قبلهم.
19 ضرب المثل المبين لحالى المشرك والموحد.
22 الإنسان كنود لنعمة ربه.
24 أمره صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للكافرين : هلاكى أو رحمتى لا تجيركم من عذاب اللّه.
25 خلاصة ما حوته هذه السورة.
27 الإقسام بالقلم وما يسطر به من الكتب.
28 ما ضرب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خادما ولا امرأة.
30 تقوية قلب الرسول صلى اللّه عليه وسلم ودعوته إلى التشدد مع قومه المشركين.
31 الكذب أسّ المعايب.
33 وعيد الكذاب النمام.
35 فى أىّ أرض كانت الجنة التي ذكرت فى الكتاب الكريم ؟ .
37 جزاء أصحاب الجنة على حرمانهم للفقراء.
41 كيف يسوّى بين المطيع والعاصي ؟ .
42 سدّ طرق الحجاج على المشركين.
44 تخويف المشركين بما فى قدرته تعالى من القهر.
46 ذكر الشبه التي ربما تكون مانعة لهم من قبول الحق.
48 ما جاء من الأحاديث فى الإصابة بالعين.(29/193)
ج 29 ، ص : 194
48 ما تضمنته هذه السورة من موضوعات.
50 بيان أن يوم القيامة حق لا شك فيه.
51 تفصيل ما نزل بكل أمة من العذاب.
53 المشهور أن الناس كلهم من سلائل نوح وذريته.
54 تفاصيل أحوال يوم القيامة.
56 ما أعده اللّه لمن أعطى كتابه بيمينه.
59 ما يتمناه من أوتى كتابه بشماله وجزاؤهم.
60 العرب تكنى بالسبعة والسبعين والسبعمائة عن الكثرة.
61 تعظيم القرآن والرسول المنزل عليه.
62 محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يستطيع أن يفتعل القرآن.
64 ما تضمنته هذه السورة الكريمة.
66 كان المشركون يقولون : ما هذا العذاب الذي يخوّفنا به محمد ؟ .
67 مقام القدس الإلهى بعيد المدى عن مقام العباد.
بيان أن يوم القيامة آت بأهواله لا شك فيه.
68 تمنى الكافر الفداء بالعزيز لديه من مال وولد.
70 المؤهلات التي توصل المرء إلى المراتب العلى.
72 أثر عن السلف أنهم كانوا كثيرى الوجل والخوف من يوم القيامة.
74 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يدع المشركين وشأنهم حتى يأتى اليوم الموعود.
76 يخرج الكافرون من الأجداث سراعا يسابق بعضهم بعضا.
77 خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة.
78 إنذار نوح لقومه وتخويفهم بحلول العذاب بهم.
79 تفصيل ما أنذرهم به.
80 صلة الرحم تزيد فى العمر.
81 شكوى نوح لربه أنه أنذر قومه فعصوه.
83 وعد نوح لقومه بسعادة الدنيا والدين إذا آمنوا 85 توجيه أنظارهم إلى بدء خلقهم.
86 تعداد النعم التي أنعم بها على الإنسان.
87 الأصنام التي كانت تعبدها العرب.
89 جزاء قوم نوح بالغرق على عصيانهم.
91 مقاصد هذه السورة.(29/194)
ج 29 ، ص : 195
93 تسمية السور بأسماء تدعو إلى النظر والاعتبار.
94 ما جاء عن الجن من السمعيات التي لا دليل عليها من العقل.
96 الصاحبة تتخذ للحاجة إليها.
98 مقال الجن حين بعث محمد صلى اللّه عليه وسلم 101 الخصب والسعة فى الرزق لا توجد إلا إذا وجدت الطمأنينة والعدل ويزول الظلم.
105 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم أن يقول للناس لا علم له بقيام الساعة.
106 الآية : فلا يظهر على غيبه أحدا ، تدل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر.
107 الرسول المرتضى يعلم بعض الغيوب بالوحى.
108 ما تضمنته هذه السورة.
110 أول ما جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم خافه وظن أن به مسا من الجن 111 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بقيام الليل وبترتيل القرآن.
112 كيفية مجىء الوحى.
113 أمره صلى اللّه عليه وسلم بمداومة الذكر والإخلاص فى العبادة.
115 حسن معاملة الناس.
116 ألوان العذاب التي أعدت للمكذبين.
119 التخفيف من قيام الليل للأعذار التي تحيط بهم.
121 ما يفعل بعد الترخيص.
123 ما جاء فى هذه السورة من أوامر وأحكام.
125 خوف النبي صلى اللّه عليه وسلم من الملك عند بدء الوحى.
126 ما قاله علماء الاجتماع فى حكمة النظافة فى البدن والثوب 127 ما يصادف الداعي للخير من العقبات.
129 ما قاله الوليد بن المغيرة حين سمع القرآن من النبي صلى اللّه عليه وسلم.
130 تهديد الوليد بن المغيرة.
132 ذكر ما سيفعل به يوم القيامة.
133 ما استنبطه الوليد من الترّهات والأباطيل.
135 ما قاله أبو جهل حين سمع قوله تعالى عليها تسعة عشر.
137 ما يعلم جنود ربك إلا هو.
138 قال أبو جهل : أما لرب محمد أعوان إلا تسعة عشر ؟ .
141 أسباب إعراض المشركين عن القرآن 143 ما كان يقوله النبي صلى اللّه عليه وسلم عند قراءته لآية : هو أهل التقوى وأهل المغفرة.(29/195)
ج 29 ، ص : 196
146 ما قاله عدى بن ربيعة لما أخبر بيوم القيامة.
قال الفرّاء : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا تلوم نفسها.
دليل القدرة على جمع العظام وتأليفها وإعادتها إلى الوضع الأول.
148 علامات يوم القيامة. 149 يخبر المرء يوم القيامة بجميع ما عمل.
151 تعليم اللّه رسوله كيف يتلقى الوحى.
152 تواترت الأحاديث الصحيحة برؤية المولى يوم القيامة.
154 الدليل على صحة البعث.
155 العرب تحذف من الكلام ما يدل عليه.
157 ما قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبى جهل.
158 كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يقول إذا قرأ : أليس ذلك بقادر : سبحانك اللهم وبلى 161 ما قاله علماء طبقات الأرض فى وجود الإنسان على ظهر البسيطة.
الناس فريقان شاكر وكفور. 161 الهداية لطريقى الخير والشر.
163 ما أعده اللّه للشاكرين من شراب شهى ولباس بهى.
165 وصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء.
166 القلب إذا سر استنار الوجه. 169 وصف شراب المتقين وأوانيهم.
170 ما قاله المأمون ليلة زفافه ببوران بنت الحسن بن سهل.
171 التحلي يختلف باختلاف العادات والطبائع.
172 ما يلقاه السعداء من الكرامة كان جزاء لهم على أعمالهم.
174 أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم بالصبر على أذى قومه.
نهيه صلى اللّه عليه وسلم عن اتباع الآثمين والكافرين.
176 جرت سنة اللّه ببقاء الأصلح وإهلاك ما عداه.
تخويف الكفار بما حصل لمن قبلهم من الكفار المكذبين للرسل.
177 ما تضمنته السورة من المقاصد.
179 أقسم اللّه سبحانه بطوائف من الملائكة إن ما وعدتم به حق.
183 تذكير الإنسان بالنعم التي تترى عليه.
186 وصف العذاب الذي يكون للمكذبين يوم القيامة.
189 وصف ما يكون للمؤمنين من السعادة والكرامة فى هذا اليوم.
190 ما قاله النبي صلى اللّه عليه وسلم لثقيف حين أمرهم بالصلاة.
القرآن الكريم اشتمل على البيان الشافي والحق الواضح.
191 ما اشتملت عليه السورة الكريمة من المقاصد.(29/196)
ج 30 ، ص : 1
الجزء الثّلاثون
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثلاثون(30/1)
ج 30 ، ص : 2
الطبعة الرابعة مزيدة ومنقحة 1390 ه - 1970 م حقوق الطبع محفوظة للناشر(30/2)
ج 30 ، ص : 3
الجزء الثّلاثون
سورة النبأ
هى مكية وعدد آيها أربعون ، نزلت بعد سورة المعارج ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي ذكر فى السورة السالفة أن الكافرين كذبوا به.
(2) أن فى هذه وما قبلها تأنيبا وتقريعا للمكذبين ، فهناك قال : « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » وهنا قال : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً » .
(3) أن فى كل منهما وصف الجنة والنار وما ينعم به المتقون ، ويعذب به المكذبون.
(4) أن فى هذه تفصيل ما أجمل فى تلك عن يوم الفصل ، فهناك قال : « لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ. لِيَوْمِ الْفَصْلِ. وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ » وهنا قال : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » إلى آخر السورة.(30/3)
ج 30 ، ص : 4
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)
شرح المفردات
عمّ : أي عن أىّ شىء ، يتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا ، والنبأ : الخبر الذي يعنى به ويهتم بشأنه : والمراد به خبر البعث من القبور والعرض على مالك يوم الدين ، كلا : كلمة تعيد ردّ ما تقدم من الكلام ونفيه ، والمهاد : (بكسر الميم) والمهد فى نحو قوله : « الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً » : المكان الممهد المذلل ، والأوتاد :
واحدها وتد وهو ما يدق فى الأرض ليربط إليه الحبل الذي تشد به الخيمة ، والأزواج واحدها زوج ويطلق على الذكر والأنثى ، والسبات : (بضم السين) قطع الحركة لتحصيل الراحة ، واللباس : ما يلبسه الإنسان ليستر به جسمه ويغطيه ، معاشا :
أي وقتا لتحصيل أسباب المعاش والحياة ، سبعا شدادا : أي سبع سموات قوية محكمة لا فطور فيها ولا تصدّع ، والسراج : ما يضىء وينير ، والوهاج : المتلألئ ، والمراد به الشمس ، والمعصرات : السحائب والغيوم إذا أعصرت : أي حان وقت أن تعصر(30/4)
ج 30 ، ص : 5
الماء فيسقط منها ، والثجاج : كثير الانصباب عظيم السيلان والمراد به المطر ، والثج :
سيلان دم الهدى ،
وفى الحديث « أحب العمل إلى اللّه العجّ والثّجّ »
والعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة دم الهدى ، والحب : ما يقتات به الإنسان كالحنطة والشعير ، والنبات : ما تقتات به الدواب من التبن والحشيش ، والجنات : واحدها جنة ، وهى الحديقة والبستان فيه الشجر أو النخل ، والجنات الألفاف : الملتفة الأغصان ، لتقاربها وطول أفنانها ، ولا واحد لها كالأوزاع والأخياف ، وقيل واحدها لف (بكسر اللام وفتحها) وقال أبو عبيدة : واحدها لفيف كشريف وأشرف.
المعنى الجملي
كان المشركون كلما اجتمعوا فى نادمن أنديتهم أخذوا يتحدثون فى شأن الرسول وفيما جاء به ويسأل بعضهم بعضا ، ويسألون غيرهم فيقولون : أ ساحر هو أم شاعر أم كاهن أم اعتراه بعض آلهتنا بسوء ؟ ، ويتحدثون فى شأن القرآن : أسحر هو أم شعر أم كهانة ؟ ويقول كل واحد ما شاء له هواه ، والرسول سائر قدما فى تبليغ رسالته ، وأمامه مصباحه المنير الذي يضىء للناس سبيل الرشاد ، وهو كتابه الكريم ، كما كانوا يتحدثون فى شأن البعث ، ويأخذ الجدل بينهم كل مأخذ فمنهم من ينكرونه البتة ، ويزعمون أنهم إذا ماتوا انتهى أمرهم ، وما هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر ومنهم من كانوا يزعمون أنهم إنما تبعث أرواحهم لا أجسامهم بعد أن تأكلها الأرض ، وتعبث بها يد البلى.
وربما لقى أحدهم بعض من آمن بالنبي صلى اللّه عليه وسلم فيسائله عن ذلك استهزاء وسخرية.
وفى هؤلاء وأشباههم نزلت هذه السورة ردّا عليهم وتكذيبا لهم ، وإقامة للحجة على أن اللّه قادر على أن يبعثهم بعد موتهم وإن صاروا ترابا ، أو أكلتهم السباع ،(30/5)
ج 30 ، ص : 6
أو احتوتهم البحار فكانوا طعاما للسماك ، أو أحرقتهم النيران فطاروا مع الريح.
وقد ذكر لهم من مظاهر قدرته أمورا تسعة يشاهدونها بأعينهم لا يخفى عليهم شىء منها :
(1) انبساط الأرض وتمهيدها لتصلح لسير الناس والأنعام.
(2) سموق الجبال صاعدة فى الجوّ.
(3) تنوّع الآدميين إلى ذكور وإناث.
(4) جعل النوم راحة للإنسان من عناء الأعمال التي يزاولها عامة نهاره.
(5) جعل الليل ساترا للخلق.
(6) جعل النهار وقتا لشئون الحياة والمعاش.
(7) ارتفاع السموات فوقنا مع إحكام الوضع ودقة الصنع.
(8) وجود الشمس المنيرة المتوهجة.
(9) نزول المطر وما ينشأ عنه من النبات.
فكل ذلك داع لهم أن يعترفوا أن من قدر على كل هذا فلا تعجزه إعادتهم إلى النشأة الآخرة.
الإيضاح
(عَمَّ يَتَساءَلُونَ ؟ ) أي عن أي شىء يتساءل المشركون من أهل مكة وغيرهم ؟
روى عن ابن عباس قال : كانت قريش تجلس لما نزل القرآن فتتحدث فيما بينها فمنهم المصدق ومنهم المكذب به ، فنزلت : عمّ يتساءلون.
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله :
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي عن الخبر العظيم الشأن الذي اختلفوا فى أمره ، فمن قائل إنه مستحيل كما حكى اللّه عنهم بقوله : « إِنْ هِيَ إِلَّا(30/6)
ج 30 ، ص : 7
حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا »
ومن شاكّ فيه بقوله : « ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ » .
وإيراد الكلام بصورة السؤال والجواب أقرب إلى التفهيم والإيضاح ، وتثبيت الجواب فى نفس السائل كما جاء فى قوله : « لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ » .
ثم أخذ سبحانه يردّ عليهم متوعدا لهم فقال :
(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أي ليس الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون الذين يذكرون البعث بعد الموت ، ثم توعدهم بأنهم سيعلمون إذا ما عاينوا بأنفسهم حقيقة ما كانوا ينكرون ، وتنقطع عنهم الريبة ، حين يسأل كل عامل عما عمل ، ويفصل بين الخلائق.
وقصارى ذلك - فليزدجروا عما هم فيه ، فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال ، إذا حلّ بهم العذاب والنكال ، وأن ما يتساءلون عنه ، ويضحكون منه حق لا شك فيه ولا ريب.
ثم أكد هذا الوعيد بقوله :
(ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وفى تكرير الزجر مع الوعيد إيماء إلى غاية التهديد.
ثم شرع يبين عظيم قدرته وآيات رحمته التي غفل عنها هؤلاء المنكرون ، مع أنها بين أعينهم فى كل حين فقال :
(1) (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي كيف تنكرون أو تشكون فى البعث ، وقد عاينتم ما يدل عليه من قدرة تامة ، وعلم محيط ، وحكمة باهرة تقتضى ألا يكون ما خلق من الخلق عبثا ، فمن ينعم بهذه النعم لا يهملها سدى.
انظروا إلى الأرض التي جعلت ممهدة موطأة للناس والدواب ، يقيمون عليها ويفترشونها وينتفعون بخيراتها الظاهرة والباطنة.
(2) (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) أي وجعلنا الجبال لها كالأوتاد كى لا تميل بأهلها ،(30/7)
ج 30 ، ص : 8
وتضطرب بسكانها ، ولولاها لكانت دائمة الاضطراب لما فى جوفها من المواد الدائمة الجيشان ، فلا تتم الحكمة فى كونها مهادا لهم.
(3) (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي وجعلناكم أصنافا ذكورا وإناثا ، ليتم الائتناس والتعاون على سعادة المعيشة ، وحفظ النسل وتكميله بالتربية والتعليم.
ونحو الآية قوله : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » .
(4) (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي وجعلنا نومكم فى الليل قطعا للمتاعب التي تكابدونها فى النهار ، سعيا فى تحصيل أمور المعاش ، فالمشاهد أن فى نوم بضع ساعات فى الليل راحة للقوى من تعبها ، ونشاطا لها من كسلها ، وإعادة لما فقد منها ، ولو لا ذلك لنفدت القوى ، وانقطع المرء عن العمل فى شئون الحياة المختلفة.
(5) (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) أي وجعلنا الليل بظلامه ساترا للأجسام ومغطيا لها كاللباس الذي يغطى الجسم ويستره. ووجه المنة فى ذلك - أن ظلمته تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدوه أو إخفاء لما لا يحب أن يطلع عليه غيره ، وللّه درّ المتنبي :
وكم لظلام الليل عندك من يد تخبّر أنّ المانويّة تكذب « 1 »
(6) (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي وجعلناه وقتا لتحصيل أسباب المعاش ، لأن الناس يتقلبون فيه فى حوائجهم ومكاسبهم.
(7) (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) أي سبع سموات قوية الأسر ، محكمة النسج والوضع ، لا يؤثر فيها كرّ الغداة ولا مر العشى ، ليس بها تصدّع ولا فطور.
(8) (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) أي وأنشأنا الشمس سراجا متلألئا بالغا الغاية فى الضوء والحرارة.
__________________________________________________
(1) المانوية : طائفة تعتقد أن الخير من النهار والشر من الليل.(30/8)
ج 30 ، ص : 9
وقد جعل اللّه فى هذا الكوكب سر الحياة فالحرارة والضوء يطردان الأمراض وينعشان كل حى ، ولا أدلّ على هذا مما نشاهد من فتك الأمراض بمن يكون بمنأى عن ضوئها وحرارتها ، والجراثيم لا تتوالد إلا حيث يحتجب عنهما السكان ، ويبتعدان عن المكان.
(9) (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) أي وأنزلنا من السحائب والغيوم التي تتحلب بالمطر ماء كثير السيلان ، عظيم الانصباب.
ثم بين عظيم نفع الماء وجليل فائدته فقال :
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي لنبدل بوساطته جدب الأرض خصبا ، فنخرج من الأرض حبّا يقتات به الناس كالحنطة والشعير ، ونباتا تقتات به الدواب ، وحدائق ذات أغصان ملتفة.
وقد جمع اللّه فى هذه الآية جميع أنواع ما تنبته الأرض ، فإن ما يخرج منها إما أن يكون ذا ساق أولا والأول إذا اجتمع بعضه إلى بعض وكثر حتى التف فهو الحديقة والثاني إما أن يكون له أكمام فيها حب ، وإما أن يكون بغير ذلك وهو النبات ، وقدّم الحب لأنه غذاء أشرف أنواع الحيوان وهو الإنسان ، وأعقبه بذكر النبات ، لأنه غذاء بقية أنواع الحيوان ، وأخر الحدائق لأن الفاكهة مما يستغنى عنها الكثير من الناس.
وقال الفرّاء : الجنة ما فيه النخيل ، والفردوس ما فيه الكرم.
[سورة النبإ (78) : الآيات 17 الى 30]
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)
لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)
إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)(30/9)
ج 30 ، ص : 10
شرح المفردات
يوم الفصل : هو يوم القيامة ، وسمى بذلك لأن اللّه يفصل فيه بحكمه بين الخلائق ، ميقاتا : أي حدّا تنتهى عنده الدنيا ، والصور فى الأصل : البوق الذي ينفخ فيه فيحدث صوتا ، وقد جرت عادة الناس إذا سمعوه أن يهرعوا إليه ويجتمعوا عند النافخ ، والأفواج : واحدها فوج وهو الجماعة ، وفتحت السماء : أي انشقت وتصدعت ، وسيرت الجبال : أي زالت من أماكنها وتفتت صخورها ، سرابا أي كالسراب ، فهى بعد تفتتها ترى كأنها جبال وليست بجبال ، بل غبارا متراكما ، المرصاد : موضع يرتقب فيه خزنتها المستحقين لها ، للطاغين : أي للذين طغوا فى مخالفة ربهم ومعارضة أوامره ، والمآب : المرجع ، لابثين : أي مقيمين ، أحقابا ، واحدها حقب ، وواحد الحقب حقبة : وهى مدة مبهمة من الزمان. قال متمم ابن نويرة :
وكنا كندمانى جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفرّقنا كأنى ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
والبرد : برد الهواء ، وقد يراد به النوم ، ومن أمثالهم « منع البرد البرد » أي أصابه من شدة البرد ما منعه النوم ، ولا شرابا : أي شرابا يسكن عطشهم ويزيل الحرقة عن بواطنهم ، والحميم : الماء الحار المغلى ، غساقا : أي قيحا وصديدا وعرقا دائم السيلان من أجسادهم ، وفاقا : أي وفق أعمالهم السيئة ، لا يرجون : أي لا يتوقعون(30/10)
ج 30 ، ص : 11
حسابا : أي محاسبة على أعمالهم ، أو ثواب حساب ، كذّابا : أي تكذبنا ، وقرئ بالتخفيف بمعنى كذبا ، وعليه قول الأعشى :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه كتابا : أي إحصاء بالكتابة.
المعنى الجملي
بعد أن نبه عباده إلى هذه الظواهر الباهرة ، ولفت أنظارهم إلى آياته القاهرة ، أخذ يبين ما اختلفوا فيه ونازعوا فى إمكان حصوله وهو يوم الفصل ، ويذكر لهم بعض ما يكون فيه تخويفا لهم من الاستمرار على التكذيب بعد ما وضحت الأدلة واستبان الحق ، ثم أبان لهم أن هذا يوم شأنه عظيم وأمر الكائنات فيه على غير ما تعهدون ، ثم ذكر منزلة المكذبين الذين جحدوا آيات اللّه واتخذوها هزوا ، وأن جهنم مرجعهم الذي ينتهون إليه ، وأنهم سيقيمون فيها أحقابا طوالا لا يجدون شيئا من النعيم والراحة ، ولا يذوقون فيها روحا ينفّس عنهم حر النار ، ولا يذوقون من الشراب إلا الماء الحارّ والصديد الذي يسيل من أجسادهم ، جزاء سيىء أعمالهم ، إذ هم كانوا لا ينتظرون يوم الحساب ، ومن ثم اقترفوا السيئات ، وارتكبوا مختلف المعاصي ، وكذبوا الدلائل التي أقامها اللّه على صدق رسوله أشد التكذيب ، وقد أحصى اللّه كل شىء فى كتاب علمه ، فلم يغب عنه شىء صدر منهم ، وسيوفيهم جزاء ما صنعوا ، وستكون له كلمة الفصل ، فيقول لهم : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » .
الإيضاح
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) أي إن يوم القيامة وقت وميعاد للأولين والآخرين يثابون فيه أو يعاقبون ، ويتمايزون فيه ويكونون مرات ودرجات بحسب أعمالهم كما قال : « وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ » .(30/11)
ج 30 ، ص : 12
وقد جعله اللّه حدا تنتهى عنده الدنيا ، وتجتمع فيه الخلائق ، ليرى كل امرئ ما قدمت يداه ، فيجازى المحسن بإحسانه ، ويعاقب المسيء بإساءته.
ثم بين هذا اليوم وزاد فى تفخيمه وتهويله فقال :
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي يوم ينفخ فى الصور فتحيون وتبعثون من قبوركم وتأتون إلى الموقف من غير تلبث ، وإمام كل أمة رسولها كما قال سبحانه « يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » .
(وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) أي وانشقت السماء وتصدعت. وقد جاء نحو هذا فى آيات كثيرة كقوله : « إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ » . وقوله : « إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ » .
وقوله : « يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » .
ذاك أنه يحصل اضطراب فى نظام الكواكب ، فيذهب التماسك بينها ، ولا يكون فيما يسمى سماء إلا مسالك وأبواب ، لا يلتقى فيها شىء بشىء ، وذلك هو خراب العالم العلوي كما يخرب الكون السفلى.
(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) أي إن الجبال لا تكون فى ذلك اليوم على ثباتها المعروف. بل يذهب ما كان لها من قرار وتعود كأنها سراب يرى من بعد.
فإذا قربت منه لم تجد شيئا. لتفرق أجزائها وانبثاث جواهرها.
والخلاصة - إنه سبحانه ذكر أحوال الجبال بوجوه مختلفة. فذكر أول أحوالها وهو الاندكاك بقوله : « وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً » ثم ذكر أنها تصير كالعهن المنفوش كما قال : « وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ » .
ثم ذكر أنها تصير هباء كما قال : « وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا. فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا » ثم ذكر أنها تنسف وتحملها الرياح كما جاء فى قوله : « وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ » ، ثم ذكر أنها تصير سرابا ، أي لا شىء كما فى هذه الآية.(30/12)
ج 30 ، ص : 13
وبعد أن عدّد وجوه إحسانه ، ودلائل قدرته على إرساله رسوله ، وذكر أن يوم الفصل بين الرسول ومعانديه سيكون يوم القيامة ، وبيّن أهوال هذا اليوم ، وامتياز شئونه وأحواله عن شئون أيام الدنيا وأحوالها - ذكر وعيد المكذبين وبيان ما يلاقونه فقال :
(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) أي إن دار العذاب وهى جهنم مكان يرتقب فيه خزنتها من يستحقها بسوء أعماله ، وخبث عقيدته وفعاله.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن الحسن أنه قال : لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار ، فإن كان معه جواز نجا ، وإلا احتبس.
(لِلطَّاغِينَ مَآباً) أي إنها مرجع للذين طغوا وتكبروا ولم يستمعوا إلى الداعي الذي جاءهم بالهدى ونور الحق.
وبعد أن ذكر أن جهنم مستقرهم بيّن مدة ذلك فقال :
(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) أي إنهم سيمكثون فيها دهورا متلاحقة يتبع بعضها بعضا فكلما انقضى زمن تجدد لهم زمن آخر كما قال : « يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ » .
ثم بين أحوالهم فيها فقال :
(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) أي لا يذقون فى جهنم بردا يبرد حر السعير عنهم إلا الغساق ، ولا شرابا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم ، فهم لا يذوقون مع شدة الحرما يكون فيه راحة من ريح باردة ، أو ظل يمنع من نار ، ولا يجدون شرابا فيسكن عطشهم ، ويزيل الحرقة من بواطنهم ، ولكن يجدون الماء الحار المغلى ، وما يسيل من جلودهم من الصديد والقيح والعرق ، وسائر الرطوبات المستقذرة.
والخلاصة - إنهم لا يذوقون فيها شرابا إلا الحميم البالغ الغاية فى السخونة ، أو الصديد المنتن ، ولا بردا إلا الماء الحار المغلى.(30/13)
ج 30 ، ص : 14
(جَزاءً وِفاقاً) أي إنه تعالى ينزل بهم شديد عقابه من جزاء أنهم أتوا بفظيع المعاصي ، فيكون العقاب وفق الذنب ومقداره كما قال : « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » .
قال مقاتل : وافق العذاب الذنب ، فلا ذنب أعظم من الشرك ، ولا عذاب أعظم من النار. وقال الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأتاهم اللّه ما يسوءهم.
وبعد أن بين على طريق الإجمال أن هذا الجزاء الذي أعد لهم كان وفق جرمهم - فصل أنواع جرائمهم فذكر أنها نوعان فقال :
(1) (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي إنهم فعلوا من القبائح ما فعلوا ، واجترحوا من السيئات ما شاءت لهم أهواؤهم ، لأنهم ما كانوا ينتظرون يوم الحساب ولا يتوقعونه.
ورغبة المرء فى فعل الخيرات ، وترك المحظورات ، إنما تكون غالبا لاعتقاده أنه ينتفع بذلك فى الآخرة ، فمن كان منكرا لها لا يقدم على شىء مما يحسن عمله ، ولا يحجم عن أمر مما يقبح.
(2) (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي وكذبوا لجميع البراهين الدالة على التوحيد والنبوة والمعاد وبجميع ما جاء فى القرآن.
والخلاصة - إنهم أقدموا على جميع المنكرات ، ولم يرعووا عن فعل السيئات وأنكروا بقلوبهم الحق واتبعوا الباطل.
وبعد أن بين فساد أحوالهم العملية والاعتقادية - أرشد إلى أنها فى مقدارها وكيفيتها معلومة له تعالى لا يغيب عنه شىء منها فقال :
(وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) أي إنا علمنا جميع ما عملوا علما ثابتا لا يعتريه تغيير ولا تحريف ، فلا يمكنهم أن يجحدوا شيئا مما كانوا يصنعون فى الحياة الدنيا حين يرون ما أعد لهم من أنواع العقوبات ، لأنا قد أحصينا ما فعلوه إحصاء لا يزول منه شىء ولا يغيب ، وإن غاب عن أذهانهم ونسوه كما قال : « أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ »(30/14)
ج 30 ، ص : 15
وإنما قيل (كِتاباً) دون أن يقال (إحصاء) لأن الكتابة هى النهاية فى قوة العلم بالشيء ، فإن من يريد أن يحصى كلام متكلم حتى لا يغيب منه شىء عمد إلى كتابته ، فكأنه تعالى يقول : « وكل شيء أحصيناه إحصاء يساوى فى ثباته وضبطه ما يكتب » .
وبعد أن بين قبائح أفعالهم لكفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات - رتب عليه هذا الجزاء فقال :
(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) أي فذوقوا ما أنتم فيه من العذاب الأليم ، فلن نزيدكم إلا عذابا من جنسه كما قال : « وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ » .
روى قتادة عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال : لم ينزل على أهل النار آية أشد من هذه الآية : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » .
ذاك أن فيها تقريعا وتوبيخا لهم فى يوم الفصل ، وغضبا من أرحم الراحمين ، وتيئيسا لهم من الغفران.
[سورة النبإ (78) : الآيات 31 الى 36]
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35)
جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36)
شرح المفردات
مفازا : أي فوزا بالنعيم والثواب ، حدائق : أي بساتين فيها أنواع الثمر والشجر وأعنابا. واحدها عنب ، وكواعب : واحدها كاعب ، وهى التي نهد ثدياها وتكعبا ، والأتراب : واحدهنّ ترب ، وهى التي سنها من سن صاحبتها ، والكأس : إناء من بلور للشراب ، دهاقا : أي ممتلئة ، يقال أدهق الحوض : أي ملأه. قال خداش ابن زهير :(30/15)
ج 30 ، ص : 16
أتاتا عامر يبغى قرانا فأقرعنا له كأسا دهاقا
واللغو : الباطل من الكلام ، والكذّاب : التكذيب ، عطاء : أي تفضلا منه وإحسانا ، حسابا : أي كافيا لهم ، تقول أعطانى فلان حتى أحسبنى : أي حتى كفانى بعطائه. قال :
فلما حللت به ضمّنى فأولى جميلا وأعطى حسابا
أي أعطى ما كفى.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال المكذبين ، أردفه ما يفوز به المتقون من الجنات التي وصفها ووصف ما فيها ، وذكر أنها عطاء من اللّه تعالى ، وفى هذا استنهاض لعوالى الهمم ، بدعوتهم إلى المثابرة على أعمال الخير ، وازديادهم من القربات والطاعات ، كما أن فيها إبلاما لأنفس الضالين المكذبين.
الإيضاح
(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي إن لمن اتقى محارم اللّه وخاف عقابه فوزا بالكرامة والثواب العظيم ، فى جنات النعيم.
ثم فسر هذا الفوز وفصله فقال :
(حَدائِقَ وَأَعْناباً) أي بساتين من النخيل والأعناب ومختلف الأشجار لها أسوار محيطة بها ، وفيها الأعناب اللذيذة الطعم ، مما تشتهيها النفوس ، وتقرّ به العيون.
وقد أفردت بالذكر وهى مما يكون فى الحدائق عناية بأمرها كما جاء فى قوله :
« مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ » .
ثم وصف ما فى الحدائق والجنات فقال :(30/16)
ج 30 ، ص : 17
(وَكَواعِبَ أَتْراباً) أي وحورا كواعب لم تتدلّ ثديهن ، وهنّ أبكار عرب أتراب.
والتمتع بالنساء على هذه الشاكلة مما يتمثله المرء فى الدنيا على نحو من اللذة ، وإن كنا لا نعلم كنهه فى الآخرة ، وعلينا أن نؤمن به ، وأنه تمتع يفوق به ما هو مثله من لذات هذه الحياة ، وأنه يشاكل أحوال العالم الأخروى.
(وَكَأْساً دِهاقاً) أي وكأسا من الخمر مترعة ملأى متتابعة على شاربيها.
(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) أي لا يجرى بينهم حين يشربون - لغو الكلام ولا يكذب بعضهم بعضا ، كما يجرى بين الشّرب فى الدنيا ، لأنهم إذا شربوا لم تفتر أعصابهم ، ولم تتغير عقولهم كما قال تعالى : « لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ » ، واللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين المخلصين.
ولما ذكر أنواع النعيم بيّن أن هذا جزاء لهم على ما عملوا ، وتفضل منه سبحانه فقال :
(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جازاهم اللّه به وأعطاهموه بفضله وإحسانه عطاء كافيا وافيا.
[سورة النبإ (78) : الآيات 37 الى 40]
رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)(30/17)
ج 30 ، ص : 18
شرح المفردات
الخطاب : المخاطبة والمكالمة ، الروح : جبريل عليه الصلاة والسلام ، والمآرب :
المرجع ، والإنذار : الإخبار بالمكروه قبل وقوعه ، والمرء الإنسان ذكرا كان أو أنثى ، ما قدمت يداه : أي ما صنعه فى حياته الأولى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن يوم القيامة موعد للفصل بين الخلائق ، وتنتهى به أيام الدنيا ، وأن دار العذاب معدة للكافرين ، وأن الفوز بالنعيم للمتقين أعقب ذلك بأن هذا يوم يقوم فيه جبريل والملائكة صفّا صفا لا يتكلمون إلا إذا أذن لهم ربهم وقالوا قولا صحيحا.
ثم أتبعه بأن هذا اليوم حق لا ريب فيه ، وأن الناس فيه فريقان : فريق بعيد من اللّه ومرجعه إلى النار ، وفريق مآبه القرب من اللّه ومنازل الكرامة ، فمن كانت له مشيئة صادقة ، فليتخذ مآبا إلى ربه ، وليعمل عملا صالحا يقرّبه منه ، ويحلّه محل كرامته.
ثم عاد إلى تهديد المعاندين وتحذيرهم من عاقبة عنادهم ، وأنهم سيعلمون غدا ما قدمته أيديهم ويرونه حاضرا لديهم ، وحينئذ يندمون ، ولات ساعة مندم ، ويبلغ من أمرهم أن يقولوا : ليتنا كنا ترابا لم نصب حظا من الحياة.
الإيضاح
(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) أي إنه سبحانه المالك لشئونهما ، المدبر لأمورهما ، ولا يملك أحد من أهلهما مخاطبته تعالى بالشفاعة إلا بإذنه.
ثم أكد هذا وقرره بقوله :(30/18)
ج 30 ، ص : 19
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) أي إن الملائكة على جلالة أقدارهم ، ورفيع درجاتهم لا يستطيعون أن يتكلموا فى هذا اليوم ، إجلالا لربهم ، ووقوفا عند أقدارهم ، إلا إذا أذن لهم ربهم ، وقالوا قولا صدقا وصوابا.
وفى الآية دلالة على أنهم مع قربهم من ربهم لا يستطيع أحد منهم أن يشفع لأحد أو يطلب منحة إلا بعد أن يأذن له ربه ، ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب ، لأنه يقول الصواب ، وإنما يكون الكلام ضربا من التكريم لمن يأذن له ويختص به ، ولا أثر له فيما أراده البتة.
والملائكة مخلوقات غيّبها اللّه عنا ، ولم يجعل لنا قدرة على رؤيتها. فعلينا أن نؤمن بها وإن لم نرها ، ونصدّق بما جاء فى كتابه من أوصافها غير باحثين عن حقيقتها.
وبعد أن ذكر أحوال المكلفين فى درجات الثواب والعقاب ، وبيّن عظمة يوم القيامة - أردف ذلك بيان أن هذا اليوم حق لا ريب فيه فقال :
(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) أي ذلك اليوم متحقق لا ريب فيه ولا مفر منه ، وأنه يوم تبلى فيه السرائر ، وتنكشف فيه الضمائر ، أما أيام الدنيا فأحوال الخلق فيها مكتوبة ، وضمائرهم غير معلومة.
(فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي فمن شاء عمل صالحا يقربه من ربه ، ويدنيه من كرامته وثوابه ، ويباعد بينه وبين عقابه.
ثم زاد فى تخويف الكفار وإنذارهم فقال :
ِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً)
أي إنا نحذركم عذاب يوم القيامة وهو قريب ، لأن كل ما هو آت قريب كما قال : « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها » .(30/19)
ج 30 ، ص : 20
وإنهم ليجدون مقدماته إذا فارقت الروح البدن ، فإنه يتكشف لهم ما كان ينتظرهم ، ولا يزالون منه فى ألم إلى أن يلاقوا ربهم.
َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ)
أي هذا العذاب القريب يوم ينظر المرء ما صنعه فى حياته الأولى من الأعمال ، فإن كان قد آمن بربه وعمل عمل الأبرار فطوبى له وحسن مآب ، وإن كان قد كذب به وبرسوله فله الويل وأليم العذاب.
ونحو الآية قوله تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ، وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً » .
َ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)
أي ويقول الكافر من شدة ما يلقى ومن هول ما يرى : ليتنى كنت ترابا ، يريد : ليتنى لم أكن من المكلفين ، بل كنت حجرا أو ترابا لا يجرى عليه تكليف حتى لا يعاقب هذا العقاب.
وفى الآية إيماء إلى ما يكون عليه المؤمنون من الاستبشار والسرور بما رأوه.
وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
ما اشتملت عليه هذه السورة
اشتملت هذه السورة الكريمة على الموضوعات الآتية :
(1) سؤال المشركين عن البعث ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
(2) تهديد المشركين على إنكارهم إياه.
(3) إقامة الأدلة على إمكان حصوله.
(4) أحداث يوم القيامة.
(5) ما يلاقيه المكذبون من العذاب.
(6) فوز المتقين بجنات النعيم.
(7) إن هذا اليوم حق لا ريب فيه.
(8) إنذار الكافرين بالعذاب الأليم وتمنيهم فى ذلك اليوم أن لو كانوا ترابا.(30/20)
ج 30 ، ص : 21
سورة النازعات
هى مكية ، وآيها ست وأربعون ، نزلت بعد سورة النبأ.
ووجه اتصالها بما قبلها أنه هناك أنذر بالعذاب يوم القيامة - وهنا أقسم على أن البعث حق لا ريب فيه.
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
شرح المفردات
والنازعات : أي الكواكب الجاريات على نظام معين فى سيرها كالشمس والقمر ، يقال نزعت الخيل : إذا جرت ، غرقا : أي مجدّة مسرعة فى جريها ، لتقطع مسافة فلكها حتى تصل إلى أقصى المغرب ، والناشطات نشطا : أي الخارجات من برج إلى برج ، من قولهم : نشط النور إذا خرج ، والسابحات سبحا : أي السائرات فى أفلاكها سيرا هادئا لا اضطراب فيه ولا اختلال ، وقد جعل مرورها فى جوائها كالسبح فى الماء كما جاء فى قوله : « وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ » والسابقات سبقا :(30/21)
ج 30 ، ص : 22
أي المسرعات عن غيرها فى سبحها ، فتتم دورتها حول ما تدور عليه فى مدة أسرع مما يتم غيرها كالقمر فإنه يتم دورته فى شهر قمرى ، والأرض تتم دورتها فى سنة شمسية ، وهكذا غيرها من السيارات السريعة ، ومنها ما لا يتم دورته إلا فى سنين ، فالمدبرات أمرا : أي فالكواكب التي تدبر بعض الأمور الكونية فى عالمنا الأرضى بظهور بعض آثارها ، فسبق القمر علّمنا حساب شهوره ، وله الأثر العظيم فى السحاب والمطر وفى البحر من المدّ والجزر ، ولضيائه حين امتلائه فوائد فى تصريف منافع الناس والحيوان ، وسبق الشمس فى أبراجها علّمنا حساب الشهور ، وسبقها إلى تتميم دورتها السنوية علمنا حساب السنين ، وخالف بين فصول السنة ، واختلاف الفصول من أسباب حياة النبات والحيوان ، وقد نسب إليها التدبير ، لأنها أسباب ما نستفيده منها ، والمدبر الحكيم : هو اللّه تعالى جل شأنه.
وترجف : أي تضطرب وتتحرك ، والراجفة : الأرض بمن عليها ، والرادفة : السماء وما فيها تردفها وتتبعها ، فإنها تنشق وتنثر كواكبها ، الواجفة : أي الشديدة الاضطراب خاشعة : أي ذليلة ، الحافرة : الحياة الأولى ، أي الحياة بعد الموت وقد ظنوها حياتهم الأولى ، يقال رجع فى حافرته : أي فى طريقه التي جاء فيها ، والنخرة : البالية الجوفاء التي تمر فيها الرياح ، والكرّة : الرجعة من الكرّ ، وهو الرجوع ، والخاسرة : هى التي يخسر أصحابها ولا يربحون ، والزجرة : الصيحة ، والمراد بها النفخة الثانية يبعث بها الأموات ، والساهرة : الأرض البيضاء المستوية ، لأن السراب يجرى فيها ، وسميت بذلك لأن شدة الخوف التي تعترى من عليها تطير النوم من أعينهم فلا يذوقون نوما ، فهى ساهرة : أي ساهر من عليها.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة بالجلف بأصناف من مخلوقاته - إن ما جاء به رسوله صلى اللّه عليه وسلم من أمر البعث وعرض الخلائق على ربهم ، لينال كل عامل جزاء(30/22)
ج 30 ، ص : 23
عمله - حق لا ريب فيه فى يوم تعظم فيه الأهوال ، وتضطرب القلوب ، وتخشع الأبصار ، ويعجب المبعوثون من عودتهم إلى حياتهم الأولى بعد أن كانوا عظاما نخرة تمر فيها الرياح ، ويتحققون أن صفقتهم كانت خاسرة ، إذا أنهم أنكروا فى الدنيا معادهم ، ويجابون على تعجبهم بألا يحسبوا أن الإحياء صعب على اللّه ، فما الأمر عنده إلا صيحة واحدة ، فإذا الناس جميعا ظاهرون فى أرض المعاد.
لو تدبرنا أمر القسم ببعض المخلوقات فى الكتاب الكريم لوجدناه يرجع إلى أحد أمرين :
(1) أن تكون هذه المخلوقات قد عظمت فى أعين بعض الناس ، وقوى سلطانها فى نفوسهم ، حتى عبدوها واتخذوها آلهة من دون اللّه كالشمس والقمر فى نحو قوله :
«
وَالشَّمْسِ وَضُحاها. وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها » وقد ذكر سبحانه بجانب ذلك بعض صفاتها الدالة على أنها مخلوقة له كتغيرها من حال إلى حال ، وما يطرأ عليها من الأفول والزوال ، مما لا يكون من شأن الآلهة المستحقة للعبادة.
(2) أن تكون مما احتقره الناس لغفلتهم عن فائدته ، وذهولهم عن موضع العبرة فيه ، ولو أنهم تدبروا فيما هو عليه من جليل الصنعة ، وبديع الحكمة لاهتدو إلى معرفة خالقة ، ونعتوه بما هو أهل له من صفات الجلال والكمال.
فأقسم سبحانه على التوحيد فى قوله : « وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ » .
وأقسم على أن الرسول حق بقوله : « وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » .
وأقسم إن القرآن حق فى قوله : « فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ » .(30/23)
ج 30 ، ص : 24
وحلف إن الجزاء حق ، وإن الناس سيبعثون إلى ربهم ، وإن كلا منهم سيلاقى جزاء عمله كما قال : « وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ » .
الإيضاح
(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً. وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً. وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً. فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) افتتح سبحانه هذه السورة بالقسم بالكواكب والنجوم والشموس والأقمار ، إظهارا لعظم شأنها ، وإتقان نظامها ، وغزارة فوائدها ، وأنها مسخرة لبارئها ، خاضعة لأمره - لتبثنّ بعد الموت ، ويدل على هذا ما حكاه عنهم بعد من قولهم :
« أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ؟ » أي أنبعث إذا صرنا كذلك ؟ .
(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) أي حين تتحرك الأرض وتضطرب الجبال ، فيسمع لها صوت شديد.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ » .
(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) أي تتلوها السماء بما فيها من كواكب ، إذ تنشق وتنثر كواكبها إثر اضطراب الأرض وميدانها.
عن أبىّ بن كعب قال : كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا ذهب ربع الليل قام فقال : أيها الناس اذكروا اللّه ، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه » أخرجه أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « ترجف الأرض رجفا وتزلزل بأهلها ، وهى التي يقول اللّه فيها - يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ » .
(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي قلوب يومئذ مضطربة قلقة خائفة ، والمراد بها(30/24)
ج 30 ، ص : 25
قلوب الكفار ، ذاك أنهم بعد أن عاينوا ما كان الرسول صلى اللّه عليه وسلم يذكره لهم ويشاهدونه فى دنياهم ولم يؤمنوا به ، تضطرب نفوسهم ، مخافة أن يحل بهم ما أنذروا به ، كما هى حال من تهدده بعقوبة إن لم يقلع عن جرائره - يهلع قلبه إن شاهد بوادر التنفيذ.
(أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحابها خاشعة تظهر فيها الذلة والخوف.
وقد حكى اللّه عنهم أقوالا ثلاثة استبعدوا بها أمر البعث ، واستهزءوا فيها بالرسول والمؤمنين.
(1) (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ ؟ ) أي يقول هؤلاء المكذبون بالبعث من مشركى قريش إذا قيل لهم إنكم مبعوثون من بعد الموت : أ إنا لمردودون إلى حالنا الأولى قبل الممات ، فراجعون أحياء كما كنا قبل مماتنا.
وتقول العرب لكل من كان فى أمر ثم خرج منه ثم عاد إليه : قد رجع إلى حافرته : أي إلى أمره الذي كان فيه أوّلا.
(2) (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً ؟ ) أي أ نردّ إلى الحياة بعد أن نصير عظاما بالية لو لمست لتفتّت ؟
(3) و(قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي إن صح ما قلتم من البعث يوم القيامة بعد أن نصير عظاما نخرة ، فنحن إذا خاسرون ، لأنا كذبنا به ولم نأخذ العدّة له ، فياويلنا فى هذا اليوم! وهذا منهم استهزاء وتهكم ، اعتقادا منهم أن ذلك لن يكون.
وقد ردّ اللّه عليهم مقالتهم بقوله :
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) أي لا تستبعدوا ذلك وتظنوه عسيرا شاقّا علينا ، فإنما هى صيحة واحدة ، وهى النفخة الثانية التي يبعث اللّه بها الموتى فإذا الناس كلهم على سطح الأرض أحياء.(30/25)
ج 30 ، ص : 26
ونحو الآية قوله : « وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ » .
وخلاصة هذا - لا تحسبوا أن هذه الرجعة عسيرة شاقة علينا ، فما إعادتكم التي ظننتموها صعبة إلا أن نأمر ملكا من ملائكتنا أن يصيح صيحة واحدة ، فإذا أنتم جميعا لدينا محضرون ، لا يتخلف منكم أحد ، ولا يستطيع التخلف إن أراد.
[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 26]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)
شرح المفردات
المقدس : أي المبارك المطهر ، والوادي المقدس : هو واد بأسفل جبل طور سينا من برّية الشام ، طوى : واد بين أيلة ومصر ، طغى : أي تجاوز الحد فتكبر على اللّه وكفر به ، هل لك إلى كذا : أي هل ترغب فيه ، وتزكى : أي تتزكى وتتطهر من العيوب ، وأهديك : أي أدلك ، فتخشى : أي فتخاف ، والآية الكبرى : أي العلامة الدالة على صدقه فى دعواه النبوة ، وهى انقلاب العصا حية ، أدبر : أي ترك(30/26)
ج 30 ، ص : 27
موسى ، يسعى : أي فى مكايدته. فحشر : أي فجمع السحرة الذين فى بلاده ، والنكال :
العذاب ، والآخرة : يوم القيامة ، والأولى : الدنيا.
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن كفار مكة إصرارهم على إنكارهم البعث وتماديهم فى العتو والطغيان واستهزاءهم بالرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وكان ذلك يشق عليه ، ويصعب على نفسه ، ذكر له قصص موسى مع فرعون طاغية مصر ، وبين له أنه قد بلغ فى الجبروت حدّا لم يبلغه قومك ، فقد ادعى الألوهية وألبّ قومه على موسى ، وكان موسى مع هذا كله يحتمل المشاق العظام فى دعوته إلى الإيمان - ليكون ذلك تسلية لرسوله عما لاقيه من قومه من شديد العناد وعظيم الإعراض ، يرشد إلى ذلك قوله : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » .
وفى ذلك عبرة أخرى لقومه - وهى أن فرعون مع أنه كان أقوى منهم شكيمة أشد شوكة وأعظم سلطانا ، لما تمرد على موسى وعصا أمر ربه أخذه اللّه نكال لآخرة والأولى ، ولم يعجزه أن يهلكه ويجعله لمن خلفه آية ، فأنتم أيها القوم مهما عظمت حالكم وقوى سلطانكم لم تبلغوا مبلغ فرعون ، فأخذكم أهون على اللّه منه.
وفى هذا تهديد لهم وإنذار بأنهم إن لم يؤمنوا باللّه ورسوله ، فسيصيبهم مثل ما أصاب فرعون وقومه كما قال فى آية أخرى : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ، قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ » .(30/27)
ج 30 ، ص : 28
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي ألم يبلغك حديث موسى مع فرعون وقومه ، وقد أمره اللّه بالتلطف فى القول ، واللين فى الدعوة إلى الحق إقامة للحجة والوصول من أقرب محجة كما جاء فى سورة طه « فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى » .
فاتبع نهجه واسلك سبيله يكن ذلك أقرب للفوز ببغيتك وبلوغ مطلبك كما فاز موسى وانتصر.
وكان ذلك حين ناداه ربه بالوادي المطهر المبارك من طور سيناء من برّية الشام بعد مضى وقت من الليل.
ثم فصل هذه المناجاة بقوله :
(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) أي اذهب له وعظه ، فإنه تجاوز الحد وتكبر على اللّه وكفر به ، وتجبّر على بنى إسرائيل ، واستعبدهم حتى بلغ من أمره أن ذبح أبناءهم واستحيا نساءهم.
ثم طلب إلى موسى أن يلين له القول ليكون ذلك أنجع فى الدعوة فقال :
(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى ) أي فقل له : هل ترغب أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها ، وتعمل بما أدلك عليه من طرق الخير ، وتبعد عما أنت فيه من اجتراح السيئات ، وتخشى عاقبة مخالفة أمر ربك ، حتى تأمن من عقابه ، إذا أديت ما ألزمك به من فرائضه ، واجتنبت ما نهاك عنه من معاصيه.
ثم ذكر أنه لم يخضع للدليل والبرهان ، ولم يقنع بما أدلى إليه موسى من حجة ، فاضطر إلى أن يظهر له دليلا يراه ويشاهده فقال :
(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى ) أي فلما لم يقنع بالدليل القولى أظهر له آية ودليلا يراه بعينه ، وهو انقلاب العصا حية ، ومع ذلك كذب الداعي ، وعصى سلطان البرهان وأظهر تمرده عليه ، كما أشار إلى ذلك بقوله :(30/28)
ج 30 ، ص : 29
(فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى ) أي فكذب موسى ثم ولى معرضا عما دعاه إليه من طاعة ربه وخشيته ، وطفق يخبّ فى المعاصي ويضع ، غير متدبر فى عاقبة أمره ، ولا مفكر فى غده.
(فَحَشَرَ فَنادى . فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى ) أي فجمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه كما جاء فى قوله : « وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ » فقام فيهم يقول : « أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى » فلا سلطان يعلو سلطانى ، ولم يزل فى عتوّه حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر فأغرق فيه هو وجنوده ، وإلى ذلك أشار سبحانه بقوله :
(فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى ) أي فنكل اللّه به ولم يكن ذلك النكال مقصورا على ما عذب به فى الدنيا من الغرق فى البحر ، بل عذبه فى الآخرة أيضا فى جهنم وبئس القرار.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى ) أي إن فيما ذكر لموعظة لمن له عقل يتدبر به فى عواقب الأمور ومصايرها ، فينظر فى حوادث الماضين ، ويقيس بها أحوال الحاضرين ليتعظ بها.
[سورة النازعات (79) : الآيات 27 الى 33]
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31)
وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
شرح المفردات
أشد خلقا : أي أصعب إنشاء ، والبناء : ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة ، والسمك : قامة كل شىء ،(30/29)
ج 30 ، ص : 30
فسواها : أي جعل كل جزء موضوع فى موضعه ، أغطش ليلها : أي أظلمه ، ضحاها :
أي نورها وضياء شمسها ، دحاها : أي مهدها وجعلها قابلة للسكنى ، قال زيد بن عمرو ابن نفيل :
وأسلمت وجهى لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استوت شدها بأيد وأرسى عليها الجبالا
مرعاها : أي نباتها ، متاعا لكم : أي متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم.
المعنى الجملي
بعد أن قص على المشركين قصص موسي عليه السلام مع فرعون وأومأ بهذا القصص إلى أنهم لا يعجزون الذي أخذ من فرعون ونكل به وجعله عبرة للباقين ، وسلى به رسوله حتى لا يحزن لتكذيب قومه له ، وعدم إيمانهم بما جاءهم به ، أخذ يخاطب منكرى البعث ، وينبههم إلى أنه لا ينبغى لهم أن يجحدوه فإن بعثهم هين إذا أضيف إلى خلق السموات التي تدل بحسن نظامها وجلالها ، على حكمة مبدعها وعظيم قدرته ، وواسع حكمته ، وإلى خلق الأرض التي دحاها بعدها وجعلها معدة للسكنى ، وهيأ فيها وسائل المعيشة للإنسان والحيوان ، فأخرج منها الماء الذي به حياة كل شيء وأنبت فيها النبات الذي به قوام الإنسان والحيوان.
الإيضاح
(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ؟ ) أي أ أنتم أيها الناس وقد خلقتم من ماء مهين ضعافا عاجزين لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضرا ، ولا موتا ولا حياة - أصعب إبداعا وإنشاء أم هذه السماء التي ترون خلقها ، وبديع تركيبها وعظمة شأنها ؟
إنكم لا تنازعون فى أنها أشد منكم خلقا ، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها ، فكيف تظنون أنا نعجز عن إعادتكم بعد موتكم ، يرشد إلى ذلك قوله : « لَخَلْقُ(30/30)
ج 30 ، ص : 31
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ »
.
وقوله : « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ؟ » .
وفى هذا من التقريع والتوبيخ ما لا يخفى.
وبعد أن أشار إلى عظم خلق السموات إجمالا شرع يبين ذلك تفصيلا فقال :
(بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) أي ضم أجزاءها المتفرقة وربطها بما يمسكها حتى حصل عن جميعها بنية واحدة ، فقد أبدع فى خلق الكواكب وجعل كل كوكب منها على نسبة من الآخر ، وجعل لكل منها ما يمسكه فى مداره حتى كان من مجموعها ما يشبه البناء وهو ما نسميه بالسماء.
وقد جعلها ذاهبة فى العلوّ صعدا ، وعدّ لها فوضع كل جزء منها فى موضعه الذي يستحقه ويحسن أن يكون فيه.
(وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي وجعل ليلها مظلما بمغيب كواكبها ، وأبرز نهارها ، وعبر عن النهار بالضحى ، لأنه أشرف أوقاته وأطيبها ، وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس فى سائرها.
وتعاقب الليل والنهار واختلاف الفصول التابع لحركة بعض السيارات يهيىء الأرض للسكنى ومن ثم قال :
(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي ومهد الأرض بعد ذلك وبسطها للسكنى ، وسير الناس والأنعام عليها ، وقد كانت مخلوقة غير مدحوّة قبل ذلك ، فلا تخالف هذه الآية ما جاء فى سورة السجدة من قوله : « أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » .(30/31)
ج 30 ، ص : 32
فإن هذه الآية تدل على أن خلق السموات كان بعد خلق الأرض ، والآية التي نحن بصددها تشير إلى أن اللّه تعالى دحا الأرض ومهدها لسكنى الناس بعد أن خلق السماء.
فالآيتان ترشدان إلى أن اللّه تعالى خلق الأرض أوّلا ثم خلق السموات بعد ذلك ، ثم عاد إلى الأرض فمهدها ودحاها ، فآية السجدة حكاية للخلق الأول ومبدئه وهذه الآية حكاية للإصلاح الذي كان بعد الخلق.
ثم فسر التمهيد بما لا بد منه فى تأتى سكناها من أمر المآكل والمشارب وإمكان القرار عليها فقال :
(أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها النبات سواء أ كان قوتا لبنى آدم كالحب والثمر ، أم قوتا للأنعام والماشية كالعشب والحشيش.
(وَالْجِبالَ أَرْساها) أي وثبت الجبال فى أماكنها وجعلها كالأوتاد ، لئلا تميد بأهلها وتضطرب بهم.
ثم بين الحكمة فى ذلك فقال :
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي إنما جعلنا ذلك كله ، ليتمتع به الناس والأنعام من الإبل والغنم والبقر.
ونحو الآية قوله : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ » .
أفلا يكون خالقكم وواهبكم ما به تحيون ، ورافع السماء فوقكم ، وممهد الأرض تحتكم - قادر على بعثكم ؟ وهل يليق به أن يترككم سدى بعد أن دبر أمركم هذا التدبير المحكم ، ووفّر لكم هذا الخير الكثير.(30/32)
ج 30 ، ص : 33
[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 41]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
شرح المفردات
الطامة الكبرى : أي الداهية العظمى التي تطمّ على الدواهي أي تغلب وتعلو ، وهى النفخة الثانية التي يكون معها البعث قاله ابن عباس ، وبرّزت الجحيم : أي كانت فى مكان بارز يراها كل من له عينان ، طغى : أي تكبر وتجاوز الحد ، آثر :
أي قدّم وفضل ، المأوى : المستقر ، مقام ربه : أي جلاله وعظمته ، ونهى النفس عن الهوى : أي زجرها وكفها عن هواها المردي لها بميلها إلى الشهوات.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن أنه تعالى قادر على نشر الأموات كما قدر على خلق الأكوان ، بين صدق ما أوحى به إلى نبيه من أن ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس لرب العالمين ، كائن لا بد منه ، فإذا جاءت طامته الكبرى التي تفوق كل طامة حين تعرض الأعمال على العاملين ، فيتذكر كل امرئ ما عمل ، ويظهر اللّه الجحيم وهى دار العذاب للعيان فيراها كل ذى بصر ، فى ذلك اليوم يوزع الجزاء على العاملين فأما من جاوز الحدود التي حدها اللّه فى شرائعه ، وفضل لذائذ الدنيا على ثواب الآخرة فدار العذاب مستقره ومأواه وأما من خاف مقامه بين يدى ربه فى ذلك اليوم ،(30/33)
ج 30 ، ص : 34
وزجر نفسه عن هواها ، فلم تجر وراء شهواتها فالجنة منزله ومأواه ، جزاء ما قدمت يداه.
الإيضاح
(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى ) أي فإذا حل ذلك اليوم الذي تشيب من هوله الولدان ، وتشاهد فيه النار ، فينسى المرء كل هول دونها - فصل اللّه بين الخلائق ، فأدخل الطائعين الأبرار الجنة ، وأدخل المتمردين العصاة النار.
وقد وصف هذا اليوم بوصفين :
(1) (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ) أي حين يرى الإنسان أعماله مدوّنة فى كتابه وكان قد نسيها فتعاوده الذكرى ، كما قال سبحانه : « أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ » .
(2) (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى ) أي وأظهرت النار حتى يراها كل ذى عينين سواء منهم المؤمن والكافر ، سوى أنها تكون مقرّا للكافرين ، وينجى اللّه المؤمنين.
والخلاصة - إذا جاء ذلك اليوم فصل اللّه بين الخلائق كما فصّله بعد بقوله :
(فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى ) أي فأما من تكبر وتجاوز الحد وآثر لذات الحياة الدنيا ، وشهواتها على ثواب الآخرة ، فالنار مثواه ومستقره.
(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ) أي وأما من حذر وقوفه بين يدى ربه يوم القيامة ، وأدرك مقدار عظمته وقهره ، وغلبة جبروته وسطوته ، وجنب نفسه الوقوع فى محارمه ، فالجنة مثواه وقراره.
وقد ذكر سبحانه من أوصاف السعداء شيئين يضادان أوصاف الأشقياء :
(1) فقوله : « خافَ مَقامَ رَبِّهِ » يقابل قوله : « طَغى » وقوله : « وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى » يضاد قوله : « وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا » وقد مدح الحكماء مخالفة(30/34)
ج 30 ، ص : 35
الهوي فقالوا : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقيل لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصدّيقين. وقيل :
فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه تنزع به كل منزع
ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به فى مصرع أىّ مصرع
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
شرح المفردات
الساعة : هى ساعة يبعث اللّه الخلائق من قبورهم ، وهى يوم القيامة ، أيان : أي متى ، مرساها : أي إرساؤها ، وإقامتها : أي حصولها ، فيم أنت من ذكراها : أي فى أىّ شىء أنت من أن تذكر لهم وقت حصولها ، وتبين لهم الزمان المعين لوقوعها ، إلى ربك منتهاها : أي إن منتهى علم حصولها عند ربك لم يؤته أحدا من خلقه ، واللبث :
الإقامة ، والعشية طرف النهار من آخره ، والضحى : طرفه من أول.
المعنى الجملي
كان المشركون يسألون الرسول عنادا واستهزاء عن الساعة ، ويطلبون إليه أن يعجل بها كما يرشد إلى ذلك قوله : « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها » وربما سألوه عن تحديد وقتها ، فكان النبي صلى اللّه عليه وسلم يردد فى نفسه ما يقولون ، ويتمنى لو أمكن أن يجيب عما يسألون ، كما هو شأن الحريص على الهداية ، المجدّ فى الإقناع - فهاه اللّه عن تمنى ما لا يرجى ، وأبان له أنه لا حاجة لك إلى ذلك ،(30/35)
ج 30 ، ص : 36
فإن علمها عند ربك ، وإنما شأنك أن تنذر من يخافها فتنبهه من غفلته ، حتى يستعد لما يلقاه حينئذ ، أما هؤلاء المعاندون فدعهم فى غوايتهم ، ولا تشغل نفسك بالجواب عما يسألون ، فإذا جاء هذا اليوم خيل إليهم أنهم لم يلبثوا من يوم خلقوا إلى يوم البعث إلا طرفا من نهار أوله أو آخره ، ولم يلبثوا نهارا كاملا لمفاجأتهم لهم على غير استعداد لوقوعها.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ؟ ) أي يسألك أيها الرسول هؤلاء المكذبون بالبعث عن الساعة التي تبعث فيها الموتى من قبورهم ، متى قيامها وظهورها ؟
(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ما هذه الذكرى الدائمة لها ، وما هذا الاهتمام الذي جعلك لا تألو جهدا فى السؤال عنها ؟ .
روى عن عائشة رضى اللّه عنها « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لم يزل يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآية » .
وتلخيص المعنى - لا تشغل نفسك بهذا الأمر ، ولا تكلفها عناء البحث عنه ، واستكناه أسراره ، ومعرفة ما حجبه اللّه عن خلقه من شأنه.
(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي إلى ربك ينتهى علم الساعة ، فلا يعلم وقت قيامها غيره ، ولم يعطه لملك مكرم ، ولا لنبى مرسل.
(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي إنما أنت رسول مبعوث للإنذار والتخويف ، وتحذير الناس من المعاصي والقبائح ، ولم تكلف علم وقتها ، فدع علم ما لم تكلف به ، واعمل ما أمرت به من إنذار من أمرت بإنذاره.
ونحو الآية قوله : « إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ » وقوله : « إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ » ثم قرر ما دل عليه الإنذار من سرعة مجىء المنذر به ، فقال :(30/36)
ج 30 ، ص : 37
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي إن هذا اليوم الذي لجوا فى إنكاره سيقع البتة ، ويرونه بأعينهم ، فإذا عاينوه حسبوا أنهم لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار ثم انقضت.
والخلاصة - إنهم ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية يوم أو ضحى تلك العشية ، وتقول العرب : آتيك العشية أو غداتها ، وآتيك الغداة أو عشيتها ، والمراد أنهم يستقصرون مدة لبثهم ، ويزعمون أنهم لم يلبثوا إلا قدر آخر نهار أو أوله ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
موضوعات السورة الكريمة
(1) إثبات البعث.
(2) مقالة المشركين فى إنكاره والردّ عليهم (3) قصص موسى مع فرعون ، وفيه تسلية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم.
(4) إقامة البرهان على إثبات البعث.
(5) أهوال يوم القيامة.
(6) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء بحسب أعمالهم فى الدنيا.
(7) سؤال المشركين عن الساعة وميقاتها.
(8) نهى الرسول عن البحث عنها واشتغاله بأمرها.
(9) ذهول المشركين من شدة الهول عن مقدار ما يلبثوا فى الدنيا.(30/37)
ج 30 ، ص : 38
سورة عبس
هى مكية ، وآياتها ثنتان وأربعون ، نزلت بعد سورة النجم.
ومناسبتها - لما قبلها - أنه ذكر هناك أنه منذر من يخشاها - وذكر هنا من ينفعه الإنذار.
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
شرح المفردات
عبس : أي قطب وجهه من ضيق الصدر ، وتولى : أي أعرض ، أن جاءه الأعمى : أي لأجل أن جاءه ، وما يدريك : أي أىّ شىء يعرّفك حال هذا الأعمى ؟
يزكى : أي يتطهر بما يلقن من الشرائع ، يذّكر : أي يتعظ ، استغنى : أي بماله وقوته عن سماع القرآن ، تصدى : أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه ، يسعى أي يسرع ، يخشى : أي يخاف من الغواية ، تلهى : أي تتلهى وتتغافل.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة فى ابن أم مكتوم عمرو بن قيس ابن خال خديجة ، وكان أعمى وهو من المهاجرين الأولين. استخلفه صلى اللّه عليه وسلم على المدينة يصلى بالناس مرارا ، وكان يؤذن بعد بلال.(30/38)
ج 30 ، ص : 39
وكان من حديثه أن أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو بمكة ومعه صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، والعباس بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم للإسلام ، ويذكّرهم بأيام اللّه ، ويحذرهم بطشه وجبروته ، ويعدهم أحسن المثوبة إن أسلموا ، وهو شديد الحرص على أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، لأنه يعلم أن سيسلم بإسلامهم خلق كثير ، إذ بيدهم مقادة العرب.
فقال ابن أم مكتوم : يا رسول اللّه أقرئنى وعلمنى مما علمك اللّه ، وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله بالقوم ، فكره الرسول قطعه لكلامه ، وظهرت فى وجهه الكراهة ، فعبس وأعرض عنه.
وقد عاتب اللّه نبيّه بأن ضعف ذلك الأعمى وفقره لا ينبغى أن يكون باعثا على كراهة كلامه والإعراض عنه ، لأن ذلك يورث انكسار قلوب الفقراء ، وهو مطالب بتأليف قلوبهم كما قال : « وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ » وقال : « وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً » .
ولأنه كان ذكىّ الفؤاد إذا سمع الحكمة وعاها ، فيتطهر بها من أو ضار الآثام ، وتصفو بها نفسه ، أو يذكّر بها ويتعظ فتنفعه العظة فى مستأنف أيامه.
أما أولئك الأغنياء فأكثرهم جحدة أغبياء ، فلا ينبغى التصدي لهم ، طمعا فى إقبالهم على الإسلام ، ليتبعهم غيرهم.
وقوّة الإنسان إنما هى فى ذكاء لبّه ، وحياة قلبه ، وإذعانه للحق متى لا حت له أماراته ، أما المال والنشب ، والحشم والأعوان فهى عوار تجىء وترتحل ، وتفرّ حينا ثم تنتقل.(30/39)
ج 30 ، ص : 40
والخلاصة - إنه سبحانه عاتب نبيه وأمره بأن يقبل على ذى العقل الذكي ، ونهاه أن ينصرف عنه إلى ذى الجاه القوى ، فإن الأول حىّ بطبعه والثاني غائب عن حسّه.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن أم مكتوم ويقبل عليه ويتفقده ، ويقول له إذا رآه : أهلا بمن عاتبنى فيه ربى ، ويسأله هل لك حاجة ؟
الإيضاح
(عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى ) أي قطب الرسول صلى اللّه عليه وسلم وجهه وأعرض ، لأن جاءه الأعمى وقطع كلامه.
وفى التعبير عنه بالأعمى إشعار بعذره فى الإقدام على قطع كلامه صلى اللّه عليه وسلم حين تشاغله بالقوم ، وقد يكون ذلك لذكر العلة التي اقتضت الإعراض عنه ، والتعبيس فى وجهه ، فكأنه قيل : إنه بسبب عماه كان يستحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك أن تخصه بالغلظة.
وهذا كما تقول لرجل جاءه فقير فانتهره وآذاه : أ تؤذي هذا المسكين الذي يستحق منك الشفقة ومزيد الحنان والعطف ؟
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ؟ ) أي وأىّ شىء يعلمك حال هذا الأعمى ؟ لعله يتطهر بما يسمعه منك ، ويتلقاه عنك ، فتزول عنه أو ضار الآثام ، أو يتعظ فتنفعه ذكراك وموعظتك.
والخلاصة - إنك لا تدرى ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ، ولو دريت لما كان الذي كان.
وفى هذا إيماء إلى أن من تصدى لتزكيتهم وتذكيرهم من المشركين لا يرجى منهم التزكى ولا التذكر.(30/40)
ج 30 ، ص : 41
ثم ذكر أن أمره مع الحاضرين مجلسه انحصر فى شيئين :
(1) (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أما من استغنى بماله وقوّته عن الإيمان ، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزّل عليك ، فأنت تقبل عليه ، حرصا على إسلامه ، ومزيد الرغبة فى إيمانه.
(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ؟ ) أي وأىّ عيب عليك فى بقائه كذلك ، وألا يتطهر من وسخ الجهالة ؟ فما أنت إلا رسول مبلغ عن اللّه ، وقد أديت ما يجب عليك ، فما بالك يشتد بك الحرص على إسلامه.
وقصا رى ذلك - لا يبلغنّ بك الحرص على إسلامهم ، والاشتغال بدعوتهم ، أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى.
(2) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى . وَهُوَ يَخْشى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي وأما من جاءك مسرعا فى طلب الهداية والقرب من ربه ، وهو يخشاه ويحذر الوقوع فى الغواية ، فأنت تتلهى عنه ، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه.
[سورة عبس (80) : الآيات 11 الى 16]
كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
شرح المفردات
كلا : كلمة يقصد بها زجر المخاطب عن الأمر الذي يعاتب عليه ، لئلا يعاوده ، وهنا هو التصدي للمستغنى والتلهي عن المستهدى ، تذكرة : أي موعظة ، ذكره :
أي اتعظ به ، فى صحف مكرمة : أي مودعة فى صحف شريفة ، مرفوعة : أي عالية القدر ، مطهرة : أي من النقص لا تشوبها الضلالات ، سفرة : واحدهم سافر ، من سفر بين القوم إذا نصب نفسه وسيطا ليصلح من أمورهم ما فسد.(30/41)
ج 30 ، ص : 42
قال شاعرهم :
فما أدع السفارة بين قومى ولا أمشى بغشّ إن مشيت
والمراد هنا الملائكة والأنبياء ، لأنهم وسائط بين اللّه وخلقه فى البيان عما يريد ، كرام : واحدهم كريم ، بررة : واحدهم بارّ ، والمراد أنهم كرام على اللّه ، أطهار لا يقارفون ذنبا.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه ، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها اللّه إلى البشر على ألسنة رسله ، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب ، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه ، وتنازعه إليه نفسه.
فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك ، لتذكر به الناس ، وتنبه الغافل ، أما أن تحابى القوىّ المعاند ، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده ، فذلك ليس من شأنك ، « فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى » .
وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر ، المطهرة من النقائص والعيوب ، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة.
الإيضاح
(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي ما الأمر كما تفعل أيها الرسول ، بأن تعبس فى وجه من جاءك يسعى وهو يخشى ، وتقبل على من استغنى ، بل الهداية المودعة فى الكتب الإلهية وأجلّها القرآن ، تذكير ووعظ وتنبيه لمن غفل عن آيات ربه.
وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على ما لها من عظيم الشأن فقال :(30/42)
ج 30 ، ص : 43
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي إن هذه التذكرة بينة ظاهرة ، فلو أن إنسانا أراد أن يتدبرها ، ويتفهم معناها ، ويتعظ بها ، ويعمل بموجبها - لقدر على ذلك واستطاعه ، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادا واستكبارا.
(2) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة ، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات ، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء ، وهم يبلغونها للناس.
وكل من الملك والنبي سفير ، وكل منهما رسول ، والملائكة كرام على اللّه كما قال : « بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ » وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا ، ولا يجترحون إثما ، كما قال سبحانه : « لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » .
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 23]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)
شرح المفردات
قدره : أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة ، طورا بعد طور ، وحالا بعد حال ، والسبيل : الطريق ، يسره : أي سهل له سلوك سبل الخير والشر ، فأقبره : أي جعل له قبرا يوارى فيه ، أنشره : أي بعثه بعد الموت ، كلا : زجر له عن ترفعه وتكبره.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة ، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد - أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما(30/43)
ج 30 ، ص : 44
كثر ماله ، ونبه شأنه ، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه ، ولا يفكر فى منتهاه ، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد ، وصوّره فى أحسن الصور ، فى أطوار مختلفة ، وأشكال متعددة ، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان ، ويوضع فى لحده ، إلى أمد قدره اللّه فى علمه ، ثم يبعثه من قبره ، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى ، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا ، لكنه ما أكفره بنعمة ربه ، وما أبعده عن اتباع أوامره ، واجتناب نواهيه!
الإيضاح
(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.
يقولون إذا تعجبوا من إنسان : قاتله اللّه ما أحسنه ، وأخزاه اللّه ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله ، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.
(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها ، وأكثر ذهوله عن مسديها ، وعمن غمره بها من حين إيجاده ، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله ، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث :
المبدأ والوسط والمنتهى ، وأشار إلى الأولى بقوله :
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ؟ ) أي من شىء حقير ، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.
وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله :
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين ، وقدره أطوارا وأحوالا ، طورا بعد طور وحالا بعد حال ، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه ، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله ، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.(30/44)
ج 30 ، ص : 45
وقد أثر عن بعضهم : كيف يتكبر الإنسان ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة.
وروى عن علىّ كرم اللّه وجهه قوله : كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.
وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله :
(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر ، فآتاه قدرة العمل ، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال ، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال « وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ » وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر ، والتحذير من الشر ، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.
وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله :
(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع ، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له ، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.
وفى قوله : « إِذا شاءَ » إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو ، فهو الذي استأثر بعلمه ، وهو القادر على تقديمه وتأخيره ، وهو القاهر فوق عباده ، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.
ثم أكد كفرانه بالنعم فقال :
(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات ، وشاهد من جلائل الآثار.(30/45)
ج 30 ، ص : 46
ما يحرك الأنظار ، ويسير بها إلى صواب الآراء ، وصحيح الأفكار - لم يقض ما أمره به من التأمل فى دلائل قدرته ، والتدبر فى معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه ، الناطقة بأن لها موجدا يستحق أن يقصده وحده دون سواه ، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.
والخلاصة - إن الإنسان قد بلغ فى جحده آيات خالقه مبلغا لا ينتهى منه العجب إذ قد رأى فى نفسه وفى السموات والأرض وسائر ما يحيط به من العوالم ، الآيات الناطقة بوحدانية الخالق ، الدالة على عظيم قدرته ، ثم هو لا يزال مستمرا فى نكران نعمته عليه ، فإذا ذكّر لا يتذكر ، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله الأقوم ولا يزال يرتكب ما نهى عنه ، ويترك ما أمر به.
[سورة عبس (80) : الآيات 24 الى 32]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
شرح المفردات
القضب : الرطبة ، وهى ما يؤكل من النبات غضا طريا وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى ، غلبا : واحدها غلباء أي ضخمة عظيمة ، والأبّ : المرعى لأنه يؤب : أي يؤم وينتجع ، متاعا لكم ولأنعامكم : أي أنبتناه لكم لتتمتعوا به وتننفعوا وتنتفع أنعامكم.(30/46)
ج 30 ، ص : 47
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه ، يراها فى يومه بعد أمسه - أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه ، وباهر حكمته.
الإيضاح
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه ، وليفكر فى أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاء صالحا تقوم به بنيته ، ويجد فى تناوله لذة تدفعه إليه ، ليحفظ بذلك قوّته مدى الحياة التي قدرت له.
وقد فصل ذلك بقوله :
(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من المزن إنزالا بعد أن بقي حينا فى جو السماء مع ثقله.
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي ثم شققنا الأرض شقا مشاهدا مرئيا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء.
وقد اقتضت حكمته ذلك ، ليدخل الهواء والضياء فى جوفها ، ويهيئانها لتغذية النبات.
ثم ذكر سبحانه ثمانية أنواع من النبات :
(1) (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير والأرز وهو الأصل فى الغذاء.
(2) (وَعِنَباً) وهو من وجه غذاء ، وفاكهة من وجه آخر.
(3) (وَقَضْباً) وهو كما قال ابن عباس والضحاك ومقاتل واختاره الفراء وأبو عبيدة والأصمعى - الرطبة : هى ما يؤكل من النبات غضّا طريا.
(4 ، 5) (وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا) وقد تقدم بيان منافعهما ، وسيأتى أيضا.(30/47)
ج 30 ، ص : 48
(6) (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها ، وعظم الحدائق إما بالتفاف أشجارها وكثرتها ، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها.
وفى ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة فى الأشجار بجملتها ، وليست فى ثمرها خاصة ، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات ، وكذا الوقود لتدبير الطعام والخبز على ضروب شتى ، وتستعمل فى صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة.
(7) (وَفاكِهَةً) يتمتع بلذتها الإنسان خاصة كالتين والتفاح والخوخ وغيرها.
(8) (وَأَبًّا) أي مرعى للحيوان خاصة.
ثم ذكر الحكمة فى خلق هذه الأشياء فقال :
(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أنبتنا ذلك ، لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم ، منه ما ينتفع به الإنسان ، ومنه ما يأكله الحيوان.
[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
شرح المفردات
الصخّ : الضرب بالحديد على الحديد ، وبالعصا الصّلبة على شىء مصمت ، فيسمع إذ ذاك صوت شديد والمراد هنا بالصاخة هو المراد بالقارعة فى سورتها ،(30/48)
ج 30 ، ص : 49
وهى الطامة الكبرى ، ويكون نذيرها ذلك الصوت الهائل الذي يحدث من تخريب الكون ووقع بعض أجرامه على بعض ، ومن ثمّ سميت صاخة وقارعة ، شأن : أي شغل ، يغنيه : أي يصرفه ويصده عن مساعدة ذوى قرابته ، قال شاعرهم :
سيغنيك حرب بنى مالك عن الفحش والجهل فى المحفل
مسفرة : أي مضيئة مشرقة يقال : أسفر الصبح إذا أضاء ، مستبشرة : أي فرحة بما نالت ، والغبرة : ما يصيب الإنسان من الغبار ، ترهقها : أي تغشاها ، والقترة :
سواد كالدخان ، والفجرة : واحدهم فاجر ، وهو الخارج عن حدود اللّه المنتهك لحرماته.
المعنى الجملي
بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده ، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة ، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام - أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه ، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته ، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله ، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم.
وذكر أن الناس حينئذ فريقان : فريق ضاحك مستبشر ، فرح فرح المحب يلقى حبيبه ، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق ، وفريق تعلو وجهه الغبرة ، وترهقه القترة ، وهو الذي تمرد على اللّه ورسوله ، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال.
الإيضاح
(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك للصوت الهائل الذي يصخّ الأسماع ويصكها بشدته - فما أعظم أسف الكافرين ، وما أشد ندمهم.(30/49)
ج 30 ، ص : 50
ثم فصل بعض أهوال هذا اليوم فقال :
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يوم يشغل كلّ امرئ ما يصيبه من الأهوال ، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به ، ويطلب معونته ، على ما هو فيه ، فيتوارى من أخيه ، بل من أمه وأبيه ، بل من زوجه التي هى ألصق الناس به ، وقد كان فى الدنيا يبذل النفس والنفيس فى الدفاع عنها ، بل من بنيه وهم فلذات كبده ، وقد كان فى الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه ، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً » .
وإنما كان الأمر كذلك ، لأن لكل امرئ منهم من الرهب ، وما يرهب من الهول ، وما يخشى من مناقشة الحساب - شأنا يغنيه ، ويصدّه عن ذوى قرابته ، فليس لديه فضل فكر ولا قوة يمدّ بها غيره.
وقد يكون المعنى - يغنيه ذلك الهم الذي ركبه بسبب نفسه ، وشغله حتى ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر.
وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للناس فى ذلك اليوم ، وأنها لا تسعف أحدا بمواساة أحد ولا الالتفات إليه مهما يكن عطفه واتصاله به - أردفه بيان أن الناس فى ذلك اليوم سعداء وأشقياء ، وأشار إلى الأولين بقوله :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي وجوه يومئذ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ستوفّى ما وعدت به جزاء إيمانها وما قدمت من عمل صالح ، وبشكرها لنعم ربها وآلائه ، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه.
وأشار إلى الآخرين بقوله :
(وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي ووجوه يعلوها غبار الذل وسواد الغم والحزن ، وهى وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا(30/50)
ج 30 ، ص : 51
باللّه ، وبما جاء به أنبياؤه ، وخرجوا عن حدود شرائعه ، واجترحوا السيئات ، واقترفوا المعاصي.
وقصارى ما سلف - إن الناس إذ ذاك فريقان :
(1) فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة ، ويعمل ما استقام عليه الدليل ، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين ، ولا قوة المعاندين ، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا ، ويفرحون بما نالوا ، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور.
(2) فريق احتقر عقله ، وأهمل النظر فى نعم اللّه عليه ، وارتضى الجهل ، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة ، وعقائده الزائفة - وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون ، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل ، وتعلو وجوههم الغبرة ، وترهقها القترة ، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة.
اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة ، وصلّ ربنا على نبيك وآله وصحبه.
ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد
(1) عتاب الرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.
(2) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.
(4) أهوال يوم القيامة.
(5) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء ، وذكر حال كل منهما حينئذ.(30/51)
ج 30 ، ص : 52
سورة التكوير
هى مكية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد المسد.
ومناسبتها لما قبلها - أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها.
أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.
و- إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ. و- إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) » .
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
شرح المفردات
تكوير الشمس : لفها كتكوير العمامة والمراد منه اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها ، وانكدار النجوم : انتثارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها ، وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض ، فتقطّع أوصالها وتفصل منها أجبالها ، وتقذفها فى الفضاء والعشار : واحدها عشراء (بضم العين(30/52)
ج 30 ، ص : 53
وفتح الشين) وهى الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر ، وهى أكرم مال لدى المخاطبين وقت التنزيل ، قال الأعشى فى المدح :
هو الواهب المائة المصطفا ة إما مخاضا وإما عشارا
وتعطيلها : إهمالها وذهابها حيث تشاء ، لعظم الهول وشدة الكرب ، حشرت :
أي ماتت وهلكت ، وتسجير البحار : تفجير الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا ، زوّجت : أي قرنت الأرواح بأجسادها ، الموءودة : هى التي دفنت وهى صغيرة ، وقد كان ذلك عادة فاشية فيهم فى الجاهلية ، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال :
ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيد فلم توءد
يريد جدّه صعصعة ، وكان يشتريهن من آبائهن ، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ، والمراد بالصحف صحف الأعمال التي تنشر على العباد حين يقفون للحساب ، كشطت : أي كشفت وأزيلت عما فوقها كما يكشط جلد الذبيحة عنها ، سعرت : أي أوقدت إيقادا شديدا ، أزلفت : أي أدنيت من أهلها وقربت منهم ، ما أحضرت :
أي ما أعدّ لها من خير أو شر.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة ، وما يكون فيه من حوادث عظام ، ليفخّم شأنه ، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر ، ووجدت ذلك أمامها مائلا ، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه ، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته ، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا ، لا تهويل فيه ولا تضليل.(30/53)
ج 30 ، ص : 54
الإيضاح
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي إذا كورت الشمس وأمحى ضوؤها وسقطت حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحىّ فى حياته الدنيا ، ولا يبقى فى عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شىء من هذه الأجرام.
(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي وإذا النجوم تناثرت وذهب لألاؤها كما جاء فى قوله : « وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ » .
(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي وإذا الجبال قلعت عن الأرض وسيرت فى الهواء حين زلزلة الأرض ، فتقطع أوصالها وتقذف فى الفضاء ، وتمر على الرءوس مرّ السحاب ونحو الآية قوله : « وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً » وقوله : « وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً » .
(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي وإذا النوق العشار وهى أكرم الأموال لديهم ، وأعزها عندهم - أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب ، وفداحة الهول.
وهذا على وجه المثل ، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء ، ولكن مثّل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه قاله القرطبي.
(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي ماتت وهلكت ، تقول العرب إذا أضرّت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجدب ، حشرتهم السنة : أي أهلكتهم ، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.
(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا وهذا على نحو ما جاء فى قوله : « وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ » .
وقد يكون المراد من تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما فى باطن الأرض من النار يظهر بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا ، وحينئذ يصير الماء بخارا ، ولا يبقى إلا النار.(30/54)
ج 30 ، ص : 55
وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين ، وهى جبال النار التي فى باطن الأرض ، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال فى بعض الأطراف كما حدث فى مسّينا بإيطاليا سنة 1909 م ، وحدث فى اليابان بعد ذلك.
وجاء فى بعض الأخبار « إن البحر غطاء جهنم » .
وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء وبطلان الحياة فى الأرض وامتناع المعيشة فيها - أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور فقال :
(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي وإذا زوجت الأرواح بأبدانها حين النشأة الآخرة ، قاله عكرمة والضحاك والشعبي.
وفى هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد ، فبعد أن كانت منفردة عن البدن تعود إليه.
(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ؟ ) أي وإذا سئلت الموءودة بين يدى وائدها عن السبب الذي لأجله قتلت ، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد ، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته.
وقد افتنّ العرب فى الوأد ، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها ، أمسكها مهانة إلى أن تقدر على الرعي ، ثم ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها فى البادية ترعى إبله ، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية قال لأمها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا فى الصحراء حتى إذا بلغها قال لها انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تسوى البئر بالأرض ، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى وأقسى من ذلك.
فياللّه ، ما أعظم هذه القسوة بقتل البريئات بغير جرم سوى خوف الفقر أو العار ، وكيف استبدلت الرحمة بالفظاظة ، والرأفة بالغلظة ، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم ، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم.(30/55)
ج 30 ، ص : 56
(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين فى موقف الحساب حتى لا يرتابوا فيها ، ولا ينبغى أن نبحث عن تلك الصحف ، لنعلم أ هي على مثال الأوراق التي نكتب فيها فى الدنيا ، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله فى الكتابة ، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا ، ولم يجئ نص قاطع عن المعصوم صلى اللّه عليه وسلم يفسر ذلك.
(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فلم يبق غطاء ولا سماء ، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل.
(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا ، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مسّ النيران للأجسام الحية ، وقد جاء فى سورة البقرة : « وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ » .
(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا الجنة أدنيت من أهلها : أي أعدت لنزولهم.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ » .
(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة ، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها ، فكثير من الناس كانوا فى الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين ، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضىّ عنها ، بل هى مبعدة من اللّه مستحقة لغضبه فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة ، ولا تكون متقبلة عند ربهم ، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع ، ونزنها بميزانه الصحيح.
واللّه لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب ملىء بالإيمان ، عامر بحبه والرغبة فى رضاه ، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.(30/56)
ج 30 ، ص : 57
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
تفسير المفردات
الخنس : واحدها خانس ، وهو المنقبض المستخفى يقال خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى ، والكنّس واحدها كانس أو كانسة من قولهم : كنس الظبى إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بالخنس الجوار الكنس : جميع الكواكب ، وخنوسها : غيبوبتها عن البصر نهارا ، وكنوسها : ظهورها للبصر ليلا ، فهى تظهر فى أفلاكها ، كما تظهر الظباء فى كنسها.
وعسعس : أي أدبر ، وتنفس : أسفر وظهر نوره ، قال علقمة بن قرط :
حتى إذا الصبح لها تنفّسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا
والرسول : هو جبريل عليه السلام ، وكريم : أي عزيز على اللّه ، ذى قوة :
أي فى حفظه ، مكين : أي ذى مكانة وجاه عند ربه يعطيه ما سأله يقال مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة ، ثمّ (بفتح الثاء) أي هناك ، أمين :
أي على وحيه ورسالاته ، صاحبكم : هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بالأفق المبين :(30/57)
ج 30 ، ص : 58
أي بالأفق الواضح ، وضنين : أي بخيل ، رجيم : أي مرجوم مطرود من رحمة اللّه ، فأين تذهبون : أي أىّ مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة ، أن يستقيم :
أي على الطريق الواضح.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر ، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم فى النشأة الأولى ، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم - أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول صلى اللّه عليه وسلم هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى ، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم : إنه ساحر أو مجنون ، أو كذاب ، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء ، وأن لجاجكم فى عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار ، وأنكم فى قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره ، ودخيلة دعوته.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب فى القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم ، وكأنه يقول : أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره ، ولا على وجوده فهو واضح جلىّ ليس فى حاجة إلى الحلف والمراد به القسم المؤكد.
(بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها ، وهى تخنس بالنهار فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل : أي تطلع فى أماكنها كالوحش فى كنسها وقد أقسم بها سبحانه ، لما فى حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها ، وبديع صنعه ، وإحكام نظامه.(30/58)
ج 30 ، ص : 59
ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدرارىّ الخمسة وهى : عطارد ، والزّهرة ، والمرّيخ ، والمشترى ، وزحل ، لأنها تجرى مع الشمس ، ثم ترى راجعة حتى تختفى فى ضوئها ، فرجوعها فى رأى العين هو خنوسها ، واختفاؤها هو كنوسها.
(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى ، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء ، بانسدال الظلمة وانحسارها.
(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره ، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة فى نهار جديد ، إذ تنطلق الإرادات ، لتحصيل الرغبات ، وسدّ الحاجات ، واستدراك ما فات ، والاستعداد لما هو آت.
ثم ذكر المحلوف عليه فقال :
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد صلى اللّه عليه وسلم من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق ، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه ، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم : وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف :
(1) (كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه ، إذ أعطاه أفضل العطايا ، وهى الهداية والإرشاد ، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده.
(2) (ذِي قُوَّةٍ) فى الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ ، وقد جاء فى آية أخرى : « عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى » .
(3) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذى جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل.
(4) (مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند اللّه فى ملائكته المقربين ، فهم يصدرون عن أمره ، ويرجعون إلى رأيه.
(5) (أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته ، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به ، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال.
وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال :(30/59)
ج 30 ، ص : 60
(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى اللّه عليه وسلم بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم فى قوله : « أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ » وقوله : « أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ » وقوله : « قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ » .
وفى التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم ، وإقامة للحجة على كذبهم فى دعواهم ، فإنه إذا كان صاحبهم ، وكانوا قد خالطوه وعاشروه ، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة ، وصدق لهجة ، وكمال عقل ، ووفور حلم ، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب فى صفات الخير - لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا.
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا صلى اللّه عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى ، وقد تمثل له جبريل فى مثال يظهر ويبصر ، فتجلى لعينيه ، وأعلم أنه جبريل فعرفه.
وقد ذكرت هذه الرؤية فى سورة النجم فى قوله : « ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى . أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى » .
(وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام ، بل هو ثقة أمين لا يأتى به من عند نفسه ، ولا يبدل منه حرفا بحرف ، ولا معنى بمعنى ، إذ لم يعرف عنه الكذب فى ماضى حياته ، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه.
ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال :
(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه(30/60)
ج 30 ، ص : 61
الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون ، فإنه قد عرف بصحة العقل ، وبالأمانة على الغيب ، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.
وقد حكى اللّه سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال :
« كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ » .
ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر ، وجهلوا سبيل الحكمة فقال :
(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأىّ سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل ، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم ، وبطلت مفتريانكم ، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.
ثم بيّن حقيقة القرآن فقال :
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز فى طباعهم من حب الخير ، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع ، والقدوة السيئة.
ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال :
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته.
والخلاصة - إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية ، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه ، ويجدّ فى كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة فى فعل ما يريد ، وله الاختيار التام فيما يفعل ، وهو منقطع العلاقة فى إرادته من سلطان ربه فقال :
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها اللّه فيكم بقدرته ، الموافقة لإرادته ، فهو الذي يودع فيكم(30/61)
ج 30 ، ص : 62
إرادة فعل الخير فتنصرف هممكم إليه ، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها.
وفى قوله : « رَبُّ الْعالَمِينَ » بيان لعلة هذا ، فإنه لما كان رب العالمين ، وهو الذي منحكم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها ، وهو صاحب السلطان عليكم - كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته ، وخاضعة لسلطانه ، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما وجهت له توجهت ، ولو شاء أن يمحوها محيت ، فله الأمر وله الحكم وهو على كل شىء قدير.
موضوعات هذه السورة الكريمة
(1) أهوال يوم القيامة.
(2) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند اللّه بوساطة ملائكته.
(3) إثبات نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم.
(4) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية ، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.
(5) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه ، وليس لها استقلال بالعمل.(30/62)
ج 30 ، ص : 63
سورة الانفطار
هى مكية ، وآياتها تسع عشرة ، نزلت بعد سورة النازعات.
وهى كسابقتها مبدوءة بوصف أهوال يوم القيامة.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
شرح المفردات
انفطرت : أي انشقت ، انتثرت : أي تساقطت متفرقة ، فجرت : أي فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز واختاط عذبها بملحها ، بعثرت : أي قلب ترابها الذي حثى على موتاها ، وأزيل وأخرج من دفن فيها ، ما قدمت : أي من أعمال الخير ، وما أخرت : أي منها بالكسل والتسويف.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم ، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما : انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور. ثم أبان أنه فى ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها.
فلا ترى خيرا فى صورة شر ، ولا تتخيل شرا فى مثال خير ، كما يقع فى الدنيا لأغلب(30/63)
ج 30 ، ص : 64
النفوس. فيعرف أهل الخير أنهم - وإن نجوا - مقصرون ، فيأسفون على ما تركوا ويستبشرون بما عملوا ، ويعضّ أهل السوء بنان الندم ، ويوقنون بسوء المنقلب ، ويتمنون أن لو كانوا ترابا.
الإيضاح
(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها ، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى ، عند خراب هذا العالم بأسره.
وجاء نحو الآية قوله : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » وقوله : « فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ » وقوله : « وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً » .
(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي سقطت وتفرقت. وهذا يجىء تاليا لما قبله.
إذ متى انشقت السماء وانتقض تركيبها ، واختل نظامها - انتثرت كواكبها.
(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي أزيل ما بينها من حواجز فاختلط عذبها بملحها.
وفاضت على سطح الأرض حينا من الدهر كما قال : « وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ » أي ملئت وفاض ماؤها ، لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد ، ووقوع الخلل فى جميع أجزائها.
والخلاصة - إن هذا العالم تزول صفاته. وتتبدل أحواله. فتكون الأرض غير الأرض. والسماء غير السماء كما قال : « يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ » .
(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي أثيرت وقلب أسفلها أعلاها. وباطنها ظاهرها.
ليخرج من فيها من الموتى أحياء.(30/64)
ج 30 ، ص : 65
(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل ولم يقصر فيه وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن المعصية.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8)
شرح المفردات
ما غرك : أي أىّ شىء خدعك وجرّأك على العصيان ؟ الكريم : أي العلى العظيم فسواك : أي جعل أعضاءك سويّة سليمة معدّة لمنافعها ، فعدلك : أي جعلك معتدلا متناسب الخلق ، فى أي صورة ما شاء ركبك : أي ركبك فى صورة هى من أعجب الصور وأحكمها ، وكلمة (ما) جاءت زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه ، وهى طريقة متبعة فى كلامهم عند إرادة التهويل ، وسلوك سبيل التعظيم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى صدر السورة أنه فى يوم القيامة يبدّل نظام هذا العالم ، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم ، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام ، ويقرّعهم على تكاسلهم فى أداء ما أمروا به ، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح - أردف هذا بخطاب الإنسان واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه ، وتماديه فى فجوره وطغيانه ، واسترساله مع دواعى النفس الأمارة بالسوء مع أنه لو تدبر فى نفسه وفى خلقه لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه ، ومداومته على(30/65)
ج 30 ، ص : 66
طاعته وهو للذى خلقه فسواه وجعله على أحسن صورة. وكمله بالعقل والفهم والتدبر فى عواقب الأمور ومصايرها.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي أيها الإنسان العاقل الذي أوتى من قوة الفكر ، وبسطة القدرة ما أوتى حتى صار بذلك أفضل المخلوقات - أىّ شىء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر. ولا تزال أياديه تتوالى عليك ، ونعمه تترى لديك ؟ ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك ، وجعلك معتدل القامة ، تامّ الخلق.
ووصف نفسه بالكريم دون القهار ، إيذانا بأن ذلك مما لا يصلح أن يكون مدارا لاغتراره ، وإغواء الشيطان له بنحو قوله : افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك فى الدنيا وسيفعل مثل ذلك فى الآخرة ، بل هذا يصلح للمبالغة فى الإقبال على الإيمان والطاعة.
والخلاصة - كأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الذي من صفاته الكرم ، الزاجر لك عن عصيانه ومخالفة أمره ؟
قال عمر بن الخطاب وقد تلا الآية : غرّه جهله وقرأ : « إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا » وقال قتادة : غرّه عدوه المسلّط عليه.
ثم أجمل ما فصله أوّلا بقوله :
(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك فى صورة هى من أبهى الصور وأجملها ، وأدّ لها على بقائك الأبدى فى نشأة أخرى بعد هذه النشأة. فإن الكريم يوفّى كل مرتبة من الوجود حقها ، فمن خص بهذه المنزلة الرفيعة لا ينبغى أن يعيش(30/66)
ج 30 ، ص : 67
كما يعيش سائر الحيوان ، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذرّ ، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها ، ولا فناء بعدها ، يوفّى فيها كل ذى حق حقه ، وكل عامل جزاء عمله.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 9 الى 19]
كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13)
وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18)
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
شرح المفردات
كلا : كلمة تفيد نفى شىء قد تقدم وتحقيق غيره ، والدين : الجزاء ، حافظين أي يحصون أعمالكم خيرا كانت أو شرا ، والأبرار : واحدهم برّ ، وهو من يفعل البر (بكسر الباء) ويتقى اللّه فى كل أفعاله ، والفجار : واحدهم فاجر ، وهو التارك لما شرعه اللّه وحدّه لعباده ، يصلونها : أي يقاسون حرها ، يوم الدين : أي يوم الجزاء ، ما أدراك : أي ما أعلمك وعرفك.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة. وأن ذلك يدل على أن له حياة أخرى غير هذه الحياة : فيها يجازى بما عمل من خير أو شر - أعقب هذا بيان أنه لا شىء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد(30/67)
ج 30 ، ص : 68
والتكذيب ، فالشعور النفسي يوحى به ، والدليل النقلى الذي أتى به الرسول يصدقه ، واللّه لم يترك عملا لعباده إلا أحصاه وحفظه ، ليوفى كل عامل أجره ، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغرض والنسيان بكتابته وضبطه.
ثم ذكر أن الناس فى هذا اليوم فريقان ، بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى ، وهؤلاء يتقلبون فى النعيم ، وفجرة يتركون أوامر الدين ، وأولئك يكونون فى دار العذاب والهوان يقاسون حر النار ، وأنه فى هذا اليوم لا يجد المرء ما يعوّل عليه سوى ما قدمت يداه ، فيجفوه الأولياء ، ويخذله الشفعاء ، ويتبرأ منه الأقرباء فلا شفيع ولا نصير ، ولا وزير ولا مشير ، والحكم للّه وحده ، وهو المهيمن على عباده ، وبيده تصريف أمورهم ، وهو الصادق فى وعده ، العدل الحكيم فى وعيده ، فلا مهرب لعامل مما أعدّ له من الجزاء على عمله.
الإيضاح
(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي ارتدعوا عن الاغترار بكرمى لكم. فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى عليكم ، ويدعوه إرشادى لكم ، بل تجترئون على ما هو أعظم منه. فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير ، يوم تبعثون للفصل بينكم ، فتجازى كل نفس بما عملت ، وما قدمت وأخرت.
ثم حذرهم من تماديهم فى غيهم ببيان أن أعمالهم محصاة عليهم فقال :
(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي إن أعمالكم محصاة عليكم ، فقد وكل بكم ملائكة حفظة ، كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير وشر.
وقد ذكر ذلك فى غير موضع من الكتاب الكريم كقوله : « عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ » وقوله : « وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً » .(30/68)
ج 30 ، ص : 69
وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة ، ولا أن نعرف من أي شىء خلقوا وما عملهم ، وكيف يحفظون الأعمال ، وهل عندهم أوراق وأقلام ، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال ، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال ، فتبقى فيها بقاء المداد فى القرطاس. كل ذلك لم نكلّف العلم به ، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر ، وتفويض الأمر فى حقيقته إلى اللّه.
ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب ، وبين أن العاملين فى ذلك اليوم فريقان ، وبين مآل كل منهما فقال :
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي وإن أهل الثواب وهم الأبرار يكونون فى دار النعيم. وإن أهل العقاب وهم الفجار يكونون فى دار الجحيم ، دار العذاب الأليم يقاسون أهوالها.
ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مهرب فقال :
(وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي إنهم لا يغيبون عن الجحيم ، ولا ينفكون عن عذابها ، بل هم ملازمون لها.
ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره فقال :
(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب ، فأنت لاه عن هذا اليوم غير مبال به ، وقد كنت خليقا أن تتعرف حقيقة حاله ، لتأخذ لنفسك الحيطة ، وتتدبر أمرك ، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه ، فإنك لا تدرى ما قدّر لك.
ثم زاده توكيدا وتعظيما فقال :
(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ؟ ) أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم.
كأنك قد أدركت كنهه. وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال. ولو عرفته حق معرفته للانت قناتك. ورجعت إلى ربك تائبا. وعدت إليه مستغفرا. طالبا الصفح عما قدمت يداك.(30/69)
ج 30 ، ص : 70
ثم بين حقيقة أمره فقال :
(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي يوم لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا اللّه وحده. فكل امرئ مشغول بما هو فيه ، كما قال : « وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً » وقال : « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » .
ثم أكد ما سبق بقوله :
(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده ، فلا أحد يحمى أحدا ، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.
وقد استأثر اللّه بالأمر كله ، فبيده تصريفه ، وإليه المرجع والمآب.
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد.
ما فى هذه السورة من مقاصد
(1) وصف بعض أهوال يوم القيامة.
(2) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران.
(3) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون.
(4) بيان أن الناس فى هذا اليوم : إما بررة منعمون ، وإما فجرة معذبون.(30/70)
ج 30 ، ص : 71
سورة المطففين
آياتها ست وثلاثون ، نزلت بعد سورة العنكبوت ، وهى آخر سورة نزلت بمكة.
ومناسبتها لما قبلها. أنه قال هناك : « وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ » وذكر هنا ما يكتبه الحافظون : « كِتابٌ مَرْقُومٌ » يجعل فى عليين أو فى سجّين.
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
شرح المفردات
ويل : أي هلاك عظيم ، والتطفيف : البخس فى الكيل والوزن وسمى بذلك لأن ما يبخس شىء حقير طفيف ، اكتالوا على الناس : أي اكتالوا من الناس حقوقهم ، يستوفون : أي يأخذونها وافية كاملة ، كالوهم : أي كالوا لهم ، يخسرون :
أي ينقصون الكيل والميزان ، يقوم الناس لرب العالمين : أي يقف الناس للعرض على خالقهم ، ويطول بهم الموقف إجلالا لعظمة ربهم.
المعنى الجملي
فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها ، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان ، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.(30/71)
ج 30 ، ص : 72
الإيضاح
(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف فى المكيال والميزان.
وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد ، من قبل أنه كان فاشيا منتشرا بمكة والمدينة ، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه ولا يوفون حق المشترى.
روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير ، فكان إذا أراد أن يشترى من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير ، وإذا باع للناس كال للمشترى بالكيل الصغير.
هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع ، واستولى على نفوسهم الجثع - هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد ، وهم الذين توعّدهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وتهددهم
بقوله : « خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط اللّه عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر » .
وقد بين سبحانه عمل المطففين الذي استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله :
(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كان لهم عند الناس حق فى شىء من المكيلات لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيا كاملا ، وإذا كان لأحد عندهم شىء وأرادوا أن يؤدوه له أعطوه ناقصا غير واف.
واقتصر النظم على الاكتيال حين الاستيفاء ، وذكر الكيل والميزان فيه حين الإخساء ، لأن التطفيف فى الكيل يكون بشىء قليل لا يعبأ به فى الأغلب ، دون التطفيف فى الوزن ، فإن أدنى حيلة فيه يفضى إلى شىء كثير ، ولأن ما يوزن أكثر(30/72)
ج 30 ، ص : 73
قيمة فى كثير من الأحوال مما يكال ، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم ، علم أنهم لا يبقون عليهم والكثير الذي لا يتسامح فيه إلا نادرا بالطريق الأولى.
وكما يكون التطفيف فى الكيل والميزان يكون فى أشياء أخرى ، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله ، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه فى العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغى أن يقوم به - يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد ، مستوجبا لأليم العذاب ، مهما يكن عمله ، جلّ أو حقر وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن ، بل يسلبونهم ما بأيديهم ، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم ، فيحرمونهم التمتع بها ، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة.
لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا فى عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين ، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.
ثم هوّل فى شأن هذا العمل فقال :
(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة - لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله ، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان.
والخلاصة - إنه لا يجسر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب اللّه فيه عباده على أعمالهم ، فما بالك بمن يستيقن ذلك.
ثم وصف هذا اليوم فقال :
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب ، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.(30/73)
ج 30 ، ص : 74
ولا يخفى ما فى الوصف برب العالمين من الدلالة على عظم الذنب وتفاقم الإثم فى التطفيف ، إذ أن الميزان هو قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض.
وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول : اتق اللّه تعالى وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن ، حتى إن العرق ليلجمهم.
وعن عكرمة أنه قال : أشهد أن كل كيال ووزان فى النار ، فقيل له : إن ابنك كيال ، فقال : أشهد إنه فى النار ، وكأنه أراد المبالغة وبيان أن الغالب فيهم التطفيف.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 13]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
شرح المفردات
سجين : اسم للكتاب الذي دوّنت فيه أعمال الفجرة من الثقلين ، مرقوم : من رقم الكتاب إذا جعل له علامة ، والعلامة تسمى رقما ، معتد : أي متجاوز منهج الحق ، أثيم : أي يكثر من ارتكاب الآثام : وهى المعاصي ، أساطير الأولين : أي أخبار الأولين أخذها محمد عن بعض السابقين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد اللّه به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة - أمرهم بالكف عما هم فيه ، وذكر أن الفجار(30/74)
ج 30 ، ص : 75
قد أعدّ لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها ، فويل للمكذبين بيوم الجزاء ، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين وانتهك حرماته ، وإذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا ما هى إلا أقاصيص الأولين نقلها محمد عن السابقين ، وليست وحيا يوحى كما يدعى.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ازدجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي كفوا عما أنتم عليه ، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم ، وقد أعد اللّه لهم كتابا أحصى فيه أعمالهم يسمى (سجّينا).
(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ ؟ ) أي ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك.
ثم فسره له فقال :
(كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه.
وقصارى ما سلف - إن للشر سجلا دونت فيه أعمال الفجار وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة ، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين. كما تقول :
إن كتاب حساب قرية كذا فى السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى فلكل فاجر من الفجار صحيفة. وهذه الصحائف فى السجل العظيم ، المسمى بسجين.
(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء ، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.(30/75)
ج 30 ، ص : 76
وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم ، والمداومة على اقتراف السيئات.
ثم بين أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال :
(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق ، وعمى عن الإنصاف ، واعتاد ارتكاب الجرائم ، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة ، لأنه يأبى النظر فى أدلتها ، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها ، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار ، ويهوّن عليها الأمر بالتغافل ، أو التعلق بالأمانى من نصرة الأولياء ، أو توسط الشفعاء.
أما من كان ميالا إلى العدل ، واقفا عند ما حدّ اللّه لعباده فى شرائعه وسننه فى نظام الكون. فأيسر شىء التصديق باليوم الآخر ، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.
(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند اللّه ، وزعم أنه أخبار الأولين ، أخذها محمد من غيره من السابقين.
ونحو الآية قوله : « وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً » .
وقد يكون المعنى - إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها ولم تجز عليهم ، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعمون أن تكذيبنا بها يعتبر عجلة منا ، فإنا إنما تأسّينا فى تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.(30/76)
ج 30 ، ص : 77
[سورة المطففين (83) : الآيات 14 الى 17]
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
شرح المفردات
ران على قبله : أي غطى عليه ، قال الزجاج : الرين كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق. وقال أبو عبيدة : ران على قلوبهم غلب عليها ، قال الفرّاء : كثرت منهم المعاصي والذنوب ، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها ، لمحجوبون : أي لمطرودون عن أبواب الكرامة ، لصالوا الجحيم : أي لداخلوا النار وملازموها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم قالوا : إن القرآن أساطير الأولين وليس وحيا من عند اللّه - أردف ذلك بيان أن الذي جرأهم على ذلك هى أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها ، فعمّيت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة.
ثم ردّ عليهم فرية كانوا يقولونها ، ويكثرون من تردادها - وهى إن كان ما يحدّث به محمد صحيحا فنحن سنكون فى منزلة الكرامة عند ربنا ، فأبان لهم أنهم كاذبون ، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه ، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها ، ويقال لهم هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول.
الإيضاح
(كَلَّا) زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين.(30/77)
ج 30 ، ص : 78
ثم بين سبب الذي حملهم على ذلك فقال :
(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين ، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم ، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح ، والصدق الواضح ، والدليل اللائح.
وبعد أن بين منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين - دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة فقال :
(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى اللّه ، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون ر ضاه ، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال : « وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ » .
ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال :
(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي وبعد أن يحجبوا فى عرصات القيامة عن الدنو من ربهم ، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها - يقذف بهم فى النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها.
ثم أرشد إلى أنهم حينئذ يبكّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال :
(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا الذي عوقبتم به - هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق ، كزعمكم أنكم لن تبعثوا ، وأن القرآن أساطير الأولين ، وأن محمدا ساحر أو كذاب ، إلى نحو ذلك من مقالاتكم ، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم ، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.(30/78)
ج 30 ، ص : 79
وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكّر وهو يتألم ، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت فى متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريّا.
[سورة المطففين (83) : الآيات 18 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
شرح المفردات
عليين : أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى ، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين ، وليس علينا أن نعرف ما هما ؟
أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى ، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت : أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور ، ونضرة النعيم : بهجته ورونقه ، ورحيق : أي شراب خالص لا غش فيه ، مختوم : أي ختمت أوانيه وسدت ، ختامه مسك : أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين ، وأصل التنافس : التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه ، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس ، ليلحقوا بالعاملين ، والمزاج والمزج : الشيء الذي يمزج بغيره ، والمزج : خاط أحد الشيئين بالآخر ، والتسنيم : عين من ماء تجرى من أعلى(30/79)
ج 30 ، ص : 80
إلى أسفل ، وهو أشرف شراب فى الجنة ، ويكون صرفا للمقرّبين ممزوجا لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنة ، والمقربون : هم الأبرار الذين سلف ذكرهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين ، وبين منزلتهم عند اللّه يوم القيامة - أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم ، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا ، فذكر أن اللّه قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.
وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.
وفى ذلك ترغيب فى الطاعة ، وحفر لعزائم المحسنين ، ليزدادوا إحسانا ، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم.
الإيضاح
(كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ، ومن أن كتاب اللّه أساطير الأولين.
(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة ، بحيث يشهده المقربون من الملائكة ، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم.
كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين - إذلالهم وتحقير شأنهم ، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم.
ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال :
(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو ؟
ثم فسره وبين المراد منه فقال :(30/80)
ج 30 ، ص : 81
(كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي إن كتابهم فى هذا السجلّ الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة ، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم ، وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار.
وقد يكون المراد - إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار.
وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار - أخذ يفصل حال الأبرار فقال :
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم ، الذين يؤمنون بالبعث والحساب ، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله - لفى لذة ، وخفض عيش ، وراحة بال ، واطمئنان فس.
ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال :
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.
ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال :
(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة ، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك فمن ضحك ، إلى هدوء بال ، إلى استبشار كما قال : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ » .
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها ، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى : « لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ » .
وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين ، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.(30/81)
ج 30 ، ص : 82
وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجرى فى الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله : « وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ » .
ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال :
(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون ، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه.
وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء.
(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال : هذا مما قال اللّه. « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » .
ثم بين هذا التسنيم فقال :
(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا ، وقد وصفهم اللّه بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم.
وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه ، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه ، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر ، إذا شاءوا أن يمزجوه.
وقصارى ما سلف - أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس ، وبما يشوّقها إليه ، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه ، وحثا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك.
إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم ، وبلوغ الغاية فى إيلامهم ، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة ، أو يسمع أن النعمة تنتظره.(30/82)
ج 30 ، ص : 83
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
شرح المفردات
الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء وسخرية ، وقد يراد به العيب فيقال غمز فلان فلانا إذا عابه وذكره بسوء. ويقال فلان لا مغمز فيه : أي ليس فيه ما يعاب به ، فكهين : أي معجبين بما هم فيه من الشرك والضلالة والعصيان ، حافظين : أي رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم ، والتثويب والإثابة : المجازاة. يقال ثوّبه وأثابه إذا جازاه كما قال :
سأجزيك أو يجزيك عنى مثوّب وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله ، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر ، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الحياة الدنيا ، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم فى الحياة الأولى.
روى أن صناديد قريش كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وأضرابهم ، كانوا يؤذون رسول اللّه(30/83)
ج 30 ، ص : 84
صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم.
وهم الذين قال اللّه فيهم : « إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ » .
و
روى أن علىّ بن أبى طالب كرم اللّه وجهه جاء فى نفر من المسلمين فرآه بعض هؤلاء الكفار فسخروا منه وممن معه وضحكوا منهم وتغامزوا بهم ، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن المعتدين الأئمة الذين ضريت نفوسهم على الشر ، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق - كانوا فى الدنيا يضحكون من الذين آمنوا.
ذاك أنه حين رحم اللّه العالم ببعثه محمد صلى اللّه عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأى الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام ، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه الصلاة والسلام ، ثم يهمس بها بعض من يلبى دعوته من الضعفاء فيسرّ بها إلى من يرجو الخير فيه ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه.
ومن شأن القوى المعتزّ بقوته وكثرة ماله وعزة نفره أن يضحك ممن يخالفه فى المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرف ، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش كأبى جهل وشيعته ، وأمثالهم كثيرون فى كل زمان ومكان ، متى عمت البدع وخفى طريق الحق ، وتحكمت الشهوات ، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل ، وإذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعف صوت الحق ، وازدرى السامعون منهم ، بالداعي إليه.
(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ)
أي وإذا مر المؤمنون بهم يعيبونهم ويذكرونهم بالسوء ، ويشيرون إليهم مستهزئين.(30/84)
ج 30 ، ص : 85
(وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي وإذا رجعوا إلى ذوى قرابتهم وبنى جلدتهم وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة - رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان ورميهم بالسّخف وقلة العقل ، ويقولون : عجبا لهم ، إذ يقولون لا تدعوا إلا إلها واحدا ، ولا تتوجهوا بالطلب إلا إليه ، فأين الأولياء والشفعاء ، فكم ضرّوا وكم نفعوا - إلى نحو ذلك مما يتندرون به ويعدونه فكاهة ويتلذذون بحكايته.
(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأوا المؤمنين قالوا إن هؤلاء لضالون ، إذ نبذوا ما عليه الكافة ، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف ، كابرا عن كابر ، وجيلا بعد جيل.
فرد سبحانه على هؤلاء الكفار فقال :
(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي إن اللّه لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين ، ولم يؤتهم سلطة محاسبتهم على أفعالهم ، وتعريف باطلها من صحيحها ، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالا بعقولهم الفاسدة ، وإنما كلفهم أن ينظروا شئون أنفسهم ، فيعدّلوا منها ما اعوجّ ، فإذا فعلوا ذلك قاموا بما يجب عليهم فى هذه الحياة.
ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة ، تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى وتقوية لقلوبهم ، وشدّا لعزائمهم على التذرع بالصبر فقال :
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي إنهم فى يوم الدين يضحك المؤمنون ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به ، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام اللّه لهم وخذلان أعدائهم ، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم ، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم.
(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما صنع اللّه بأعدائهم ، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم ويهزءون بهم.(30/85)
ج 30 ، ص : 86
ثم ذكر ما ينظرون إليه ليستيقنوا من حصوله فقال :
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنهم ينظرون ليتحققوا : هل جوزى الكفار بما كانوا يفعلون بهم فى الدنيا.
وإنما سمى الجزاء على العمل ثوابا ، لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر.
وللّه الحمد على إنعامه ، والشكر على إحسانه وإفضاله.
مقاصد هذه السورة
(1) وعيد المطففين.
(2) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.
(3) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.
(4) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
(5) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.
(6) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
(7) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال.(30/86)
ج 30 ، ص : 87
سورة الانشقاق
هى مكية ، وآياتها خمس وعشرون ، نزلت بعد سورة الانفطار.
ومناسبتها لما قبلها - أنه فى السابقة ذكر مقر كتب الحفظة ، وفى هذه ذكر عرضها يوم القيامة.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
شرح المفردات
انشقت : أي تشقّقت بالغمام كما جاء فى قوله : « وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ » وأذنت لربها : أي استمعت له كما قال :
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا
وحقّت : أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك ، قال كثير :(30/87)
ج 30 ، ص : 88
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت
مدت : أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وألقت ما فيها : أي ألقت ما فى جوفها من الموتى والكنوز ، وتخلت :
أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شىء ، كادح : أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم :
ومضت بشاشة كلّ عيش وبقيت أكدح للحياة وأنصب
فملاقيه : أي فملاق له عقب ذلك ، ينقلب : أي يرجع ، أهله : أي عشيرته المؤمنين ، وراء ظهره : أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره ، والثبور : الهلاك أي ينادى ويقول : وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك ، ويصلى : أي يقاسى ، وسعيرا : أي نارا مستعرة ، مسرورا : أي فرحا ، يحور : أي يرجع قال لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
والمراد أنه لن يرجع إلى اللّه ، بلى : أي بلى يحور ويرجع.
المعنى الجملي
بين سبحانه فى أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة ، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم ، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال ، وتخليها عما فى جوفها - يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه ، وينقسم الناس حينئذ فريقين :
(1) فريق الصالحين البررة ، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.
(2) فريق الكفرة والعصاة ، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم ، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات ، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب ، ولا ثواب ولا عقاب.(30/88)
ج 30 ، ص : 89
الإيضاح
(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لفساد تركيبها واختلال نظامها ، حينما يريد اللّه خراب هذا العالم بحدث من الأحداث ، كأن يمر كوكب فى سيره بالقرب من كوكب آخر ، فيتجاذبان ويتصادمان ، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره ، ويحدث من ذلك غمام يظهر فى مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت وانقادت لتأثير قدرته ، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتثل ما أمر به ،
وفى الحديث : « ما أذن اللّه لشىء إذنه لنبىّ يتغنى بالقرآن » .
(وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تمتثل لأنها مخلوقة من مخلوقاته وهى فى قبضته ، فإن أراد تبديد نظامها فعل ولم يكن لها أن تعصى إرادته.
(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي وإذا اضطربت الأرض ودكت جبالها ، وتقطعت أوصالها ، وفقدت ما بينها من التماسك ، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن بل تمدّ مدّ الأديم العكاظىّ كما روى عن ابن عباس (والأديم : الجلد ، والعكاظي : المدبوغ فى عكاظ) والمراد أنه لا انشقاق فيها ولا اعوجاج.
(وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما فى جوفها من الناس والمعادن ، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها.
ونحو هذا قوله : « إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها » وقوله : « وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ » وقوله « إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ » .
(وَتَخَلَّتْ) أي خلت من جميع ما فى جوفها ، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها ، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها ، وهى فى ذلك خاضعة لأوامر ربها ، منقادة لمشيئته.(30/89)
ج 30 ، ص : 90
(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها فى قبضة القدرة الإلهية تصرّفها فى الفناء ، كما صرفتها فى الابتداء.
وجواب « إِذَا » الذي صدّرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين ، فكأنه قيل : إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره - ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم ، تفوزوا بالنعيم.
وقصارى ذلك - وصف أحوال العالم يوم القيامة « يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها فى هذه الحياة ، فتبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات ، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا فى حياتهم من عمل فيجازيهم على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة السوءى ، وعلينا أن نؤمن بذلك كله ، ونكل علم حقيقته ، ومعرفة كنهه إلى اللّه تعالى الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء.
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أي أيها الإنسان ، إنك عامل فى هذه الحياة ومجدّ فى عملك ، ومبالغ فى إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك ، وإن كنت لا تشعر بجدك ، أو تشعر به وتلهو عنه ، وكل خطوة فى عملك فهى فى الحقيقة خطوة إلى أجلك ، وهناك لقاء اللّه ، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق ، فتعرف من اللّه ما كانت تنكره ، ويوم البعث يرتفع الالتباس.
ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله.
والناس حينئذ صنفان :
(1) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فأما من عرض عليه سجلّ أعماله وتناوله بيمينه ، فإنه يحاسب أيسر الحساب ، إذ تعرض عليه أعماله فيعرّف بطاعته وبمعاصيه ، ثم يثاب على ما كان منها طاعة ، ويتجاوز له عما كان منها معصية.(30/90)
ج 30 ، ص : 91
وقد روى عن عائشة أنها قالت : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « اللهم حاسبنى حسابا يسيرا ، قلت : وما الحساب اليسير ؟ قال : ينظر فى كتابه ويتجاوز عن سيئاته ، فأما من نوقش الحساب فقد هلك » .
ومن حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين مسرورا مبتهجا قائلا :
« هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ » .
(2) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم ، واجتراح المعاصي ، فيؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم ، ومدّ اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة ، وأظهر فى الدلالة على الكراهة والنفور أن يستدبره ويعرض عنه فيكون من وراء ظهره.
وقصارى ما سلف - إن من عرض عليه كتابه وقدم إليه ليأخذه ، فاندفع إليه بعزيمة صادقة ، لشعوره بأنه مستودع الصالحات ، وسجلّ البر والكرامات ، فشأنه كذا وكذا.
ومن قدّم إليه كتابه وعرض عليه عمله ، فخزيت نفسه وخارت عزيمته ، فمد إليه يساره أو أعرض عنه فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات ، وسجّين المخازي فأمره كيت وكيت.
يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل فى سورة الحاقة « فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ » ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.
« وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ » .
ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه.(30/91)
ج 30 ، ص : 92
والخلاصة - إن إيتاء الكتاب باليمين ، أو باليسار أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله فى ذلك اليوم ، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر وتناول كتابه بيمينه ، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر وأعرض عنها وأدبر ، وتمنى لو لم تكشف له ، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر ، وحينئذ يدعو وا ثبوراه ، أي يا هلاك أقبل فإنى لا أريد أن أبقى حيا ، علما منه بأن ذلك داع إلى طول العذاب ، وأنه سيدخل النار ويقاسى سعيرها.
ثم ذكر سبحانه سببين فى استحقاقه للعذاب فى الآخرة فقال :
(1) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي لأنه كان فى حياته الدنيا فرحا بطرا لا يفكر فى أمور الآخرة ، ويقدم على المعاصي ظنا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة ، ولا تورث التردي فى نار الجحيم ، ومن ثم أبدله اللّه بهذا النعيم الزائل عذابا لا ينقطع ، وآلاما لا تنفد.
(2) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إنه ظن أن لن يرجع إلى ربه ، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا ، ولو علم أن اللّه سيبدل سروره هما ، وفرحه حزنا وغما - لأقلع عما هو فيه ، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها ولا يزول سرور أهلها.
وفى الآية إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم ، الساعين وراء لذاتهم ليسوا بظانين فضلا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم ، بل الراجح عندهم أنهم لا يحاسبون ، وأن اللّه مخلف وعده ، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه ، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان باللّه وبوعده ووعيده ، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.
ثم رد عليه ظنه الخاطئ فقال :
(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بلى ليحورنّ وليرجعنّ إلى ربه ، وليحاسبنه على عمله ، فيجزى على الخير خيرا وعلى الشر شرا ، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدّا(30/92)
ج 30 ، ص : 93
لما لا يتناهى من الكمال ، بما وهبه من العقل ، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة لتكون غايته غاية سائر الحيوان ، بل تقضى حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة يثمر فيها أعماله ، ويوافى فيها كماله.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
شرح المفردات
الشفق : هو الحمرة التي تشاهد فى الأفق الغربي بعد الغروب ، وأصله رقة الشيء ، يقال ثوب شفق : أي لا يتماسك لرقته ، ومنه أشفق عليه : أي رق له قلبه قال :
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزّال على الحرم
وسق : أي ضم وجمع ، يقال وسقه فاتسق واستوسق : أي جمعه فاجتمع ، وإبل مستوسقة : أي مجتمعة قال :
إن لنا قلائصا حقائقا مستوسقات لم يجدن سائقا
واتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا ، لتركبنّ : أي لتلاقنّ ، والطبق : الحال المطابقة لغيرها ، قال الأقرع بن حابس :
إنى امرؤ حلبت الدهر أشطره وساقنى طبق منه إلى طبق
والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هى طبقات فى الشدة بعضها أرفع من بعض(30/93)
ج 30 ، ص : 94
وهى الموت وما بعده ، لا يسجدون : أي لا يخضعون ولا يستكينون ، يوعون : أي يجمعون فى صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي ، والبشارة : الإخبار بما يسر ، واستعملت فى العذاب تهكما ، وممنون : أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه ، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات ، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات ، أقسم بآيات له فى الكائنات ، ظاهرات باهرات ، إن البعث كائن لا محالة ، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم ، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.
ونحو الآية قوله : « بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ » وقوله : « يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً » فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به ، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون ، لأن العناد صدهم عن الإيمان ، ومنعهم من الإذعان ، واللّه أعلم بما تكنه صدورهم ، وسيجازيهم بشديد العذاب.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع.
الإيضاح
(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا : إن العرب اعتادت أن تأتى بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد ، فكأنه سبحانه يقول : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر ، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه.
ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر.
عظ الشأن لا يكفى القسم لإثباته. فكأنه سبحانه يقول : لا أقسم بهذه الأشياء(30/94)
ج 30 ، ص : 95
على إثبات ما أريد ، لأن إثباته أعظم وأجلّ من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.
(بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها ، استدل بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.
(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي لتلاقنّ أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال ، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود فى جنة أو نار.
ويدخل فى هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به منذ أن كان نطفة فى بطن أمه إلى أن صار شخصا ، وما مرّ به فى حياته الأولى من طفولة وشيخوخة ثم موته ثم حشره للحساب ، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.
والخلاصة - لتركبنّ حالا بعد حال والحال الثانية تطابق الأولى ، أي لتكونن فى حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها وتطابقها من حيث الحس والإدراك ، والألم واللذة ، وإن خالفت فى بعض شئونها الحياة الأولى.
وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال :
(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ؟ ) أي فأىّ شىء حدث لهم حتى جحدوا قدرة اللّه وأنكروا صحة البعث ، وكل شىء أمامهم ينادى بباهر قدرته ، ويرشد إلى عظيم سلطانه.
وقصارى ذلك - إنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.
(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وماذا حدث لهم حتى صاروا إذا قرئ عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه ، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها فأمرهم عجب ، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة ، وذا يقتضى أن يعلموا إعجازه ، ومتى علموه استكانوا وخضعوا له ، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به ، ووجبت عليهم طاعته.(30/95)
ج 30 ، ص : 96
ثم بين السبب فى عدم إيمانهم به وانقيادهم له فقال :
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي إن الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة ، لكنهم قوم معاندون مصرّون على التكذيب إما لأنهم يحسدون الرسول صلى اللّه عليه وسلم على ما آتاه اللّه من فضله ، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية ، والرياسات التقليدية ، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة ، وأفعال مستهجنة.
(وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي واللّه سبحانه مطلع على ما فى قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك ودواعى العناد والاستمرار على ما هم عليه.
(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء إعراضهم على التكذيب والجحود ، وإصرارهم على سيىء العمل ، وفاسد الاعتقاد.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا باللّه ورسوله وخضعوا للقرآن الكريم وعملوا بما جاء فيه ، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده ، ولا ينقص منه.
وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن المعصية ، والحمد للّه رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
مقاصد السورة
تشتمل هذه السورة على مقصدين :
(1) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة ، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.
(2) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة ، إما فى نعيم مقيم ، وإما فى عذاب أليم.(30/96)
ج 30 ، ص : 97
سورة البروج
هى مكية ، وآياتها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة الشمس.
ومناسبتها لما قبلها :
(1) اشتمالها كالتى قبلها على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين ، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.
(2) أنه ذكر فى السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والإلقاء فى حمارة القيظ. وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم ، ففد عذبوا المؤمنين بالنار كما فعل أصحاب الأخدود.
وفى هذا عظة لقريش ، وتثبيت من يعذبون من المؤمنين.
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
شرح المفردات
البروج : واحدها برج ، ويطلق على الحصن والقصر العالي وعلى أحد بروج السماء الاثني عشر ، وهى منازل الكواكب والشمس والقمر ، فيسير القمر فى كل برج منها(30/97)
ج 30 ، ص : 98
يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين ، وتسير الشمس فى كل برج منها شهرا ، ستة منها فى شمال خط الاستواء وستة فى جنوبه فالتى فى شماله هى :
الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة ، والتي فى جنوبه هى الميزان والعقرب والقوس والجدى والدّلو والحوت. وتقطع الثلاثة الأولى فى ثلاثة أشهر أوّلها اليوم العشرون من شهر مارس ، وهذه المدة هى فصل الربيع ، وتقطع الثلاثة الثانية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه ، وهذه المدة هى فصل الصيف ، وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا ، أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر ، وهذه المدة هى فصل الخريف ، وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر ، وهذه المدة هى فصل الشتاء ، واليوم الموعود : هو يوم القيامة ، لأن اللّه قد وعد به ، والشاهد والمشهود : جميع ما خلق اللّه تعالى فى هذا العالم ، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته وعظيم حكمته.
وفى كل شىء له آية تدل على أنه واحد
وهو مشهود أيضا لكل ذى عينين ، والأخدود : الشق فى الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه أخاديد ، وأصحاب الأخدود : قوم كافرون ذوو بأس وقوة رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم فحملوهم على الكفر فأبوا فشقوا لهم شقا فى الأرض وحشوه بالنار وألقوهم فيه ، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق وما نقموا منهم : أي ما عابوا عليهم ، العزيز : أي الذي لا تغلب قوته ، الحميد : أي الذي يحمد على كل حال.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود ، وهو السماء ذات البروج ، فإن كواكبها مشهود نورها ، مرئىّ ضوؤها ، معروفة حركاتها فى طلوعها وغروبها ، وكذلك البروج(30/98)
ج 30 ، ص : 99
نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس ، وهو حقيقة الكواكب وما أودع اللّه فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.
وأقسم بما هو غيب صرف ، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.
وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد : أي ذو الحس ، والمشهود : وهو ما يفع عليه الحس.
أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم ، واشتدادهم فى إيذائهم ، حتى خدّوا لهم الأخاديد ، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة ، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم ، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم اللّه من أعدائهم وممن أوقع بهم ، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم ، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.
وقد حكى اللّه هذا القصص ، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين ، ووعدا لعباده الصالحين ، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله ، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ - فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا » .
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فى ألف ألف سنة وخمسمائة ألف ، مع أن الضوء يسير فى الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو ، ويصل فى سيره إلى القمر فى قدر ثانية وثلث الثانية ، ولو جرى حول الكرة(30/99)
ج 30 ، ص : 100
الأرضية لدار حولها فى الثانية الواحدة نحو ثمان مرات ، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء فى ثانية واحدة.
فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون ، وإلى أىّ حد هى عظيمة بالنسبة إلى شمسنا.
وقد أقسم اللّه بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة ، وباهر الحكمة ، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس فى هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم ، لنستدل بذلك على عظيم قدرته ، وجليل حكمته.
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد اللّه به على ألسنة رسله ، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم.
(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق اللّه فى هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأى العين ، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه ، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا.
وقصارى ذلك - إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة ، وليعتبروا بما حضر ، ويبذلوا جهدهم فى درك حقيقة ما استتر.
(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم ، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية ، وأعلمهم أن اللّه بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم ، فآمن به قوم منهم ، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير ، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار ، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى(30/100)
ج 30 ، ص : 101
بالرجل منهم فيخيره ، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه ، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن اللّه يجزيه أحسن الجزاء - ألقاه فى النار وكان حولها يشرف على هلاكه.
ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال :
(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، لا جرم يكون حريقها عظيما ، ولهيبها متطايرا.
(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم ، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم.
وفى هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، وتمكن الكفر منهم ، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم ، ورباطة جأشهم ، واستمساكهم بدينهم.
وقد يكون المعنى - يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فى التنكيل بالمؤمنين.
(وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شىء لا يجوز العقاب عليه ، بل ينبغى لكل أحد أن يكون عليه ، ويدعو غيره إلى التمسك به ، وهو الإيمان باللّه تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه ، وتهاب صولته ، المنعم الذي يرجى ثوابه ، وترتقب نعماؤه.
ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله :
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما ، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه ، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض اللّه به أهل طاعته ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.(30/101)
ج 30 ، ص : 102
ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال :
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 11]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
شرح المفردات
فتنوا : أي ابتلوا وامتحنوا ، عذاب الحريق : هو عذاب جهنم ذكر تفسيرا وبيانا له ، الفوز الكبير : أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده ، بما فيها من رغائب لا تفنى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمني ن ، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب فى الدنيا فهو لم يهملهم ، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار - ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم ، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين ، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب ، وعظيم الجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب ، ليردوهم عن دينهم ،(30/102)
ج 30 ، ص : 103
وثبتوا على كفرهم وعنادهم ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت - أعدّ اللّه لهم عذابا فى جهنم بالحريق.
وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه ، حرصا على ما ألفوا من الباطل ، وتشيعا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين ، على غير بصيرة ، ولا استشارة للعقل السليم ، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين.
أنظر إلى أصحاب الأخدود تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار وأحرقوهم بها ، وإلى كفار قريش ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء ، فعذبوا آل ياسر بفنون من العذاب ، وعذبوا بلالا بما لا يحصى من ضروب الأذى ، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين ، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم وألحقوا به كثيرا من العنت والأذى ، فرموه بالحجارة حتى أدموه ، بل فعلوا معه أكثر من هذا فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه ، ويتمنون لو يتمكنون منه ليقتلوه ، ولكن اللّه منعه منهم :
« وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ » .
وفى قوله : « ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا » إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم غفر اللّه لهم ما قدّموا قبل التوبة من ذنب.
وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم - أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم ، ليكون ذلك أنكى للأعداء ، وأشد فى غيظهم ، وأبعث للأسى والحزن فى نفوسهم فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين أقروا بوحدانية اللّه وعملوا صالح الأعمال ائتمارا بأوامره وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه - لهم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، وهذا هو الظفر الكبير لهم ، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.(30/103)
ج 30 ، ص : 104
[سورة البروج (85) : الآيات 12 الى 16]
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)
شرح المفردات
البطش : الأخذ بالعنف والشدة ، يبدئ ويعيد : أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء مرة أخرى ، ليجازيهم بما عملوا فى حياتهم الأولى ، الغفور : أي الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته ، الودود : أي الذي يحب أولياءه ويتودّد إليهم بالعفو عن صغير ذنوبهم ، ذو العرش : أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة ، المجيد : أي السامي القدر المتناهي فى الجود والكرم ، تقول العرب : « فى كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار » : أي تناهيا فى الاحتراق حتى يقتبس منهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم - أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك ، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته فى النفوس إلا بأمرين :
(1) الجود الشامل والإنعام الكامل ، وبذا يرجى خيره.
(2) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم ، وبذلك يهاب جانبه ، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف : « الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ » وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله « إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ » الآية.(30/104)
ج 30 ، ص : 105
الإيضاح
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن انتقامه من الجبابرة والظلمة ، وأخذه إياهم بالعقوبة - لهو الغاية فى الشدة ، والنهاية فى الأذى والألم.
وفى هذا إرهاب لقريش ومن معها ، وتعزية لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ولمن معه.
وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدا فقال :
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه يخلق الخلق ابتداء ، ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا ، وإذا كان قادرا على البدء والإعادة فهو قادر على شديد البطش بهم ، لأنهم تحت قبضته ، وخاضعون لسلطانه.
فكأنه سبحانه يقول : إن مرجعكم إلى ربكم ، فإذا لم يعاقبكم فى هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير فى شأنهم ، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه ، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم.
ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال :
(1) (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يرجع إليه بالتوبة ، فيتجاوز عن سيئاته.
(2) (الْوَدُودُ) لمن خلصت نفسه بالمحبة له.
(3) (ذُو الْعَرْشِ) أي ذو الملك والعظمة ، والسلطان والقدرة النافذة ، والأمر الذي لا يردّ.
(4) (الْمَجِيدُ) أي العظيم الكرم والفضل.
(5) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله وفق إرادته ، فإذا أراد هلاك الجاحدين المعاندين ونصر أهل الحق الصادقين لم يعجزه ذلك ، وأين هم ممن سبقهم ممن كانوا أضل منهم وأشد قوة ؟(30/105)
ج 30 ، ص : 106
[سورة البروج (85) : الآيات 17 الى 22]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
شرح المفردات
الجنود : تطلق تارة على العسكر ، وتطلق أخرى على الأعوان والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء اللّه واجتمعوا على أذاهم ، فرعون : هو طاغية مصر ، ثمود : قبيلة بائدة من العرب لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه اللّه علينا ، محيط : أي هم فى قبضته وحوزته كمن أحيط به من ورائه فانسدت عليه المسالك ، مجيد : أي شريف محفوظ : أي مصون من التحريف ، والتغيير والتبديل.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قصص أصحاب الأخدود وبيّن حالهم ، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين - أردف ذلك ببيان أن حال الكفار فى كل عصر ، وشأنهم مع كل نبىّ وشيعته جار على هذا المنهج ، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم ، ولم يرسل اللّه نبيا إلا لقى من قومه مثل ما لقى هؤلاء من أقوامهم.
والغرض من هذا كله تسلية النبي وصحبه ، وشد عزائمهم على التدرّع بالصبر ، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود : فرعون ، وثمود.
الإيضاح
(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك ما صدر من أولئك الجنود من التمادي فى الكفر والضلال ، وما حل بهم من العذاب والنكال.(30/106)
ج 30 ، ص : 107
والمعنى - إنه قد أتاك خبرهم وعرفت ما فعلوا ، وما جازاهم ربهم به ، فذكر قومك بأيام اللّه ، وأنذرهم أنه سيصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم من أهل الضلال.
ثم بيّن من هم أولئك الجنود فقال :
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وحديث هذين مشهور متعارف بينهم ، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم اللّه موسى من العناد والإصرار على الكفر ، وما كان من عاقبة أمره وأن اللّه أغرقه فى اليمّ هو وقومه ، وأذاقه الوبال فى الآخرة والأولى.
كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام وأنهم عقروا الناقة التي جعلها اللّه لهم آية ، فدمّر بلادهم وأهلكهم ولم يترك لهم من باقية ، وهم يمرّون على ديارهم فى أسفارهم ويسمعون أخبارهم.
وخلاصة ذلك - إن الكفار فى كل عصر متشابهون ، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل ، فهم فى عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط ، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد سبقتهم أمم قبلهم وحلّ بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا ، « فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ » .
وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم فى كل عصر ومصر فقال :
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي إن الكفار فى كل عصر غارقون فى شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالا للنظر ، ولا متسعا للتدبر ، ولا يزالون فى غمرة حتى يؤخذوا على غرة.
ثم سلى رسوله من وجه آخر فقال :
(وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إنه سبحانه مقتدر عليهم وهم فى قبضته لا يجدون مهربا ، ولا يستطيعون الفرار ، إذا أرادوا.
فلا تجزع من تكذيبهم واستمرارهم على العناد ، فلن يفوتونى إذا أردت الانتقام منهم.(30/107)
ج 30 ، ص : 108
ثم رد على تماديهم فى تكذيب القرآن وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال :
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا الذي كذبوا به كتاب شريف متفرد فى النظم والمعنى ، محفوظ من التحريف ، مصون من التغيير والتبديل.
واللوح المحفوظ شىء أخبرنا اللّه به ، وأنه أودعه كتابه ، ولكن لم يعرّفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن به ، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات اللّه عليه وسلامه.
مقاصد هذه السورة
(1) إظهار عظمة اللّه وجليل صفاته.
(2) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين ، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات.(30/108)
ج 30 ، ص : 109
سورة الطارق
هى مكية ، وآياتها سبع عشرة نزلت بعد سورة البلد.
مناسبتها لما قبلها :
(1) أنه ابتدأ هذه بالحلف بالسماء كالسورة قبلها.
(2) أنه ذكر فى السابقة تكذيب الكفار للقرآن ، وهنا وصف القرآن بأنه القول الفصل ، وفيه ردّ على أولئك المكذبين.
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
شرح المفردات
السماء : كل ما علاك فأظلك ، الطارق : هو الذي يجنيئك ليلا ، النجم الثاقب :
هو الذي يثقب ضوؤه الظلام كأن الظلام جلد أسود والنجم يثقبه ، حافظ : أي رقيب يراقبها فى أطوار وجودها ، وهو اللّه تعالى.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة - إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة ، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو اللّه سبحانه.
وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، فكأنه يقول لهم : لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم ، ولا يضق صدركم لأعمالهم ، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى ، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون ، لأنا نحصى عليهم أعمالهم(30/109)
ج 30 ، ص : 110
ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا « فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا » والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء.
الإيضاح
(وَالسَّماءِ) أكثر فى القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل ، لأن فى أحوالها وأشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب - دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقا مدبرا يقوم بشئونها ويحصى أمرها ، لا يشركه سواه فى هذا الإبداع والصنع.
(وَالطَّارِقِ) أي الكوكب البادي ليلا.
(وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ؟ ) يقولون : وما أدراك ما كذا أي وأىّ شىء يعلمك حقيقته ؟ وهو أسلوب من كلامهم يراد به التفخيم والتعظيم ، كأنه فى فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه.
ثم فسر هذا الطارق بقوله :
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب ، بل أقسم بطارق معين هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ونهتدى به فى ظلمات البر والبحر ، ونقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان فى معاشه ، وهو الثريا عند جمهرة العلماء ، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة.
ثم ذكر المقسم عليه فقال :
(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي أحلف بالسماء وبالنجم الثاقب إن للنفوس رقيبا يحفظها ويدبر شئونها فى جميع أطوار وجودها حتى ينتهى أجلها ، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشئونها ، المصرّف لأمورها فى معاشها ومعادها.(30/110)
ج 30 ، ص : 111
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 10]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
شرح المفردات
دافق : أي منصبّ بدفع وسيلان وسرعة ، والصلب : الظهر ، والترائب :
عظام صدر المرأة ، والمراد من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وقال الحسن وروى عن قتادة : يخرج من صلب كل وأحد من الرجل والمرأة ، وترائب كل منهما وهو الموافق لما أثبته العلم حديثا كما سيأتى ، ورجعه : أي إعادته ، تبلى : أي تختبر وتمتحن والمراد تظهر ، والسرائر : ما يسرّ فى القلوب من العقائد والنيات وما خفى من الأعمال ، واحدها سريرة ، قال الأحوص :
سيبقى لها فى مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السرائر
المعنى الجملي
بعد أن بيّن سبحانه أن الإنسان لم يترك سدى ، ولم يخلق عبثا نبهه إلى الدليل الواضح على صحة معاده ، وأنه لا بد أن يرجع إلى ربه ليجازيه على ما عمل ، فذكّره بنفسه ، ولفت نظره إلى كيفية خلقه ومنشئه ، وأنه خلق من الماء الدافق الذي لا تصوير فيه ، ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء وغيرها ، ثم أنشأه خلقا كاملا مملوءا بالحياة والعقل والإدراك ، قادرا على القيام بالخلافة فى الأرض.
فالذى خلقه على هذه الأوضاع قادر أن يعيده إلى الحياة فى يوم تتكشف فيه المستورات ، وتبين الخفايا ، فيكون إبداؤها زينا فى وجوه بعض الناس ، وشينا(30/111)
ج 30 ، ص : 112
فى وجوه بعض آخرين ، وليس للمرء حينئذ قوة يدفع بها عن نفسه ما يحل به من العذاب ، ولا ناصر يعينه على الخلاص من الآلام.
الإيضاح
(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ؟ ) أي فلينظر بعقله ، وليتدبر فى مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه ، وأنه إذا قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو على إعادته أقدر فليعمل بما به يسرّ حين الإعادة.
ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله :
(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة ، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع فى رحم المرأة.
والخلاصة - إن الولد يتكوّن من منىّ مدفوق من الرجل ، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المعظمة (الميكرسكوب) ، ولا تزال تجرى حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة وهى البويضة ، ومتى التقت الجرثومتان اتحدتا وكوّنتا جرثومة الجنين.
وقد استفتيت فى نظرية الحمل وكيفية تكوين الجنين النطاسي البارع عبد الحميد العرابى بك وكيل مستشفى الملك سابقا ، فأجابنى حفظه اللّه بما يأتى :
كيفية حصول الحمل ونمو الجنين فى الرحم
قال اللّه تعالى : « فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ؟ . خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ » وقال أيضا : « وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » .(30/112)
ج 30 ، ص : 113
اعلم أخى وفقك اللّه أن فى هاتين الآيتين وما شاكلهما من الآيات سرّا من أسرار التنزيل ووجها من وجوه إعجازه ، إذ فيهما معرفة حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا.
بيان هذا : أن صلب الإنسان هو عموده الفقرى (سلسلة ظهره) وترائبه هى عظام صدره ، ويكاد معناها يقتصر على حافة الجدار الصدرى السفلى.
وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا فى منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب ، وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى على قدر ما أوتى كل منهم من علم ، وإن كان بعيدا عن الفهم الصحيح والرأى السديد.
ذاك أنه فى الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين فى الرحم ينشأ فيه ما يسمى (جسم وولف وقناته) على كل جانب من جانبى العمود الفقرى ، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى وبعض الجهاز البولى ، ومن جزء آخر تنشأ الخصية فى الرجل والمبيض فى المرأة.
فكل من الخصية والمبيض فى بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصّلب والترائب ، أي ما بين منتصف العمود الفقرى تقريبا ومقابل أسفل الضلوع.
ومما يفسر لنا صحة هذه النظرية أن الخصية والمبيض يعتمدان فى نموهما على الشريان الذي يمدهما بالدم ، وهو يتفرع من الشريان الأورطي فى مكان يقابل مستوى الكلى الذي يقع بين الصلب والترائب ، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلا منهما وتتصل بالضفيرة الأورطية ثم بالعصب الصدرى العاشر ، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر ، وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها فى الجسم فيما بين الصلب والترائب.
فإذا كانت الخصية والمبيض فى نشأتهما وفى إمدادهما بالدم الشرياني وفى ضبط نشئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا فى ذلك كله على مكان فى الجسم يقع بين الصلب والترائب(30/113)
ج 30 ، ص : 114
فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم ، وجاء به رب العالمين ، ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب.
هذا ، وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ فى الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها فى الصفن ، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه فى الحوض بجوار بوق الرحم.
وقد يحدث فى بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه ، فتقف الخصية فى طريقها ولا تنزل إلى الصفن ، فتحتاج إلى عملية جراحية حتى تصل إلى وضعها فى الموضع الطبيعي.
هذا ، والإنسان يبدأ حياته جنينا ، والجنين يتكوّن من تلقيح بويضة تخرج من المبيض مندفعة نحو بوق الرحم بالحيوان المنوي الذي تفرزه خصية الرجل ، ويكون التلقيح فى الغالب فى داخل أحد البوقين أو فيهما معا ، ثم تسير البويضة فى طريقها إلى الرحم حتى تستقر فى قرار مكين إلى أجل مسمى.
هذا إذا صادفها أحد الحيوانات المنوية ، أما إذا أخطأها التلقيح فتكون ضمن الإفرازات الرحمية التي تطرد فى خارج الجسم.
ومما يلاحظ أن إفراز البويضات عند المرأة هو عملية فسيولوجية شهرية لا علاقة لها بالاجتماع الجنسي ، غير أن هذا الاجتماع ضرورى لعملية التلقيح بالحيوان المنوي الذي يسبح فى ماء الرجل.
ومما سبق تعلم أن الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة ، أما ماء الرجل فيتكون من الحيوانات المنوية وسوائل أخرى تفرزها الخصية والبر وستاتة والحويصلات المنوية ، وهذه السوائل كلها جعلت مباءة ومستقرا للحيوان المنوي الذي يدونه لا يتم التلقيح.(30/114)
ج 30 ، ص : 115
وهكذا الحال فى البويضات التي يفرزها مبيض المرأة ، فإنها بعد أن تكون فى المبيض على شكل حويصلة صغيرة تسمى حويصلة (جراف) تنمو وتبلغ أشدها فى نحو شهر حتى تقترب من المبيض ثم تنفجر كما تنفجر الفقاعة وتندفع منها البويضات مع السائل الذي خرج من الفقاعة إلى البوق حيث يقابلها حيوان منوى يقوم بعملية التلقيح - وكلا الماءين ماء الرجل وماء المرأة دافق ، أي ينصبّ مندفعا ، وهذا هو الحاصل فعلا.
ومن هذا يتبين بوضوح أن الإنسان خلق ونشأ من الماء الدافق (ماء الرجل وأ همّ ما فيه الحيوان المنوي وماء المرأة وأ همّ ما فيه البويضة) الذي ينصب مندفعا من عضوين هما الخصية والمبيض ، ومنشؤهما وغذاؤهما وأعصابهما كلها بين الصلب والترائب.
وقد ثبت فى علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة ، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا ، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة فى أول الأمر ، فإذا تمّ نموها كونت جسم الإنسان.
وإذا هدى الفكر إلى كل هذا فى مبدإ خلق الإنسان ، سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث فى اليوم الآخر ، لأن خلق الإنسان من أجزاء منتشرة متفرقة فى الكون فالماء متولد من الأطعمة التي يتناولها الإنسان ، فجمعها اللّه ، ثم جمع الأبوين ، ثم جمع ماءهما فى مكان واحد ، ثم خلق منه الولد ، وليس فى إعادته مثل ذلك ، فهى أهون ، ومن ثم قال :
(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة - قادر أن يرده حيّا بعد أن يموت.
ونحو الآية قوله : « قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ » وأصرح منهما قوله :
« وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » .(30/115)
ج 30 ، ص : 116
ثم بيّن وقت الرجع فقال :
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي هو قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة فى اليوم الذي تنكشف فيه السرائر ، وتتضح الضمائر ، ويتميز الطيب من الخبيث ، فلا يبقى فى سريرة سرّ ، بل تنقلب كل خفيّة إلى الجهر ، ولا يكون جدال ولا حجاج ، ولا يبقى لذوى الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا ، فإما حلول فى نعيم ، وإما مصير إلى عذاب أليم.
(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدّر له جزاء عمله إن كان مسيئا ، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه.
والخلاصة - إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه ، إما من ذاته وقد نفاها بقوله : « فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ » وإما من غيره وقد نفاها بقوله : « وَلا ناصِرٍ » .
[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
شرح المفردات
الرجع : إعادة الشيء إلى حال أو مكان كان فيه أوّلا ، والمراد به المطر ، وسمى بذلك لكونه يعاد إلى الأرض من السماء ، والصدع : الشق الناشئ من تفرق بعض أجزاء الأرض وانفصال بعضها من بعض بالنبات ، فصل : أي يفصل بين الحق والباطل ، ويقطع الجدل والمراء ، يكيدون كيدا : أي يعملون المكايد فى إبطال أمره ، وإطفاء نوره ، وأكيد كيدا : أي أقابلهم بكيدى فى إعلاء أمره ، وانتشار نوره ، رويدا : أي قريبا.(30/116)
ج 30 ، ص : 117
المعنى الجملي
بعد أن بين قدرته تعالى على إعادة الإنسان بعد الموت ، ولفت النظر إلى التدبر فى برهان هذه القدرة - شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس ، وصحة ما يأتيهم به من عند اللّه ، وأهمّ ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه : إنه أساطير الأولين ، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها ، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها ، إنه لقول حق لا ريب فيه.
ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها - قوم ما كرون لا يريدون بك إلا السوء ، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، فلا يحزنك ما ترى منهم ، ولا تستبطئ حلول النكال بهم ، بل أمهلهم قليلا وسترى ما سيحل بهم.
ولا يخفى ما هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب ، سواء أ كان فى الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت ، ووعد للنبى صلى اللّه عليه وسلم ، ولكل داع إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم ، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون.
الإيضاح
(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي قسما بالسماء ذات المطر ، وهو أنفع شىء ينتظره المخاطبون من السماء ، إذ يبدّل جدبهم خصبا ، ويعيد موات أرضهم حيّا ، ويصير به لهب صحرائهم هواء عليلا.
(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي والأرض التي تتصدع بالنبات والشجر والثمار مما به حياتهم وحياة أنعامهم ، وهم فى بلاد قفراء جدباء.
ونظير هذا قوله : « ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا » الآية.
ثم ذكر المقسم عليه فقال :
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي قسما بالسماء والأرض إن هذا القول الذي(30/117)
ج 30 ، ص : 118
جاءكم به محمد صلى اللّه عليه وسلم لقول حق لا مجال للريب فيه ، وهو جدّ لا هزل فيه فمن حقه أن يهتدى به الغواة ، وتخضع له رقاب العتاة.
أخرج الترمذي والدارمي عن علىّ كرم اللّه وجهه قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول اللّه ؟ قال :
كتاب اللّه ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه اللّه ، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله اللّه ، وهو حبل اللّه المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، ولا تنقضى عجائبه. هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا : « إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ » من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم » .
ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين وما تحويه صدورهم من غلّ لهم فقال :
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم : « إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا » قولهم : « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ » أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرا أو مجنونا أو شاعرا ، أو تبييتهم قتله ، كما جاء فى قوله : « وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ » .
بعدئذ ذكر ما قابلهم ربهم به وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال :
(وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأقابل كيدهم بنصر الرسول وإعلاء دينه ، وجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، وقد سمى مجازاتهم كيدا منه ، للتجانس فى اللفظ كما قال : « نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » . وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا(30/118)