ج 22 ، ص : 70
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جل وعلا حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه - أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بنعمه ، المعرضين عن ذكره وشكره من عظيم العقاب ، موعظة لقريش وتحذ المن يكفر بالنعم ، ويعرض عن المنعم.
الإيضاح
(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) أي لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن فى نعمة عظيمة وسعة في الرزق ، وكانت لهم حدائق غناء ، وبساتين فيحاء ، عن يمين الوادي وشماله ، وقد أرسل اللّه إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروه بتوحيده وعبادته كفاء ما أنعم عليهم بهذه المنن ، وأحسن إليهم بتلك النعم ، فكانوا كذلك إلى حين ، ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل عليهم فتفرقوا في البلاد شذر مذر ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) أي فأعرضوا عن طاعة ربهم ، وصدوا عن اتباع مادعتهم إليه الرسل ، فأرسل اللّه عليهم سيلا كثيرا ملأ الوادي وكسر السد وخرّبه وذهب بالجنان والبساتين ، وأهلك الحرث والنسل ، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد ، وبدّلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها كالخمط والأثل وقليل من النبق.
ثم بين سبب ذلك العقاب بقوله :
(ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) أي وجازيناهم ذلك الجزاء الفظيع من جراء كفرهم بربهم وجحودهم بنعمه ، وتكذيبهم بالحق ، وعدو لهم(22/70)
ج 22 ، ص : 71
عنه إلى الباطل ، وما نجازى مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا عظيم الكفران للنعم ، الجحود للفصل والمنن.
سد مأرب - سد العرم
وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة. وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه (وصف جزيرة العرب) قال : فى الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هى شعاب من جبل السراة الشهير ، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي ، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبّر عنه العرب بالميزاب الشرقي وهو أعظم أودية الشرق ، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول وانحدرت حتى تنتهى أخيرا إلى وادي آذنة ، وهو يعلو سطح البحر بنحو 1100 متر ، وتسير فيه المياه نحو الشرق الشمالي حتى تنتهى إلى مكان قبل مأرب بثلاث ساعات ، هو مضيق بين جبلين يقال لكل منهما بلن ، أحدهما بلن الأيمن وثانيهما بلن الأيسر والمسافة بينهما ستمائة ذراع يجرى السيل الأكبر بينهما من الغرب الجنوبي إلى الشرق الشمالي في وادي أذنة.
وقد اختار السبئيون المضيق بين جبلى بلن وبنوا في عرضه سورا عظيما عرف بسد مأرب أو بسد العرم ، لأنه لا أنهار عندهم ، وإنما يستقى أهلها من السيول التي تتجمع من المطر ، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال ، فإذا انقضى فصل المطر ظمئوا وجفّت أغراسهم ، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى فنالهم منه أذى كثير.
وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو 3000 ميل مربع كانت صحراء جرداء قاحلة فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضا وبساتين على سفحى الجبلين وهى المعبر عنها بالجنتين الجنة اليمنى والجنة اليسرى ا ه بتصرف.
وقد ظل الباحثون والمنقبون في العصر الحديث في شك من أمر هذا السد حتى(22/71)
ج 22 ، ص : 72
تمكن المستعرب الفرنسى أرنو من الوصول إلى مأرب سنة 1843 وشاهد آثاره ورسم له مصورا نشر في المجلة الفرنسية سنة 1874 وزار مأرب بعده هاليفى وغلا زر ووافقاه فيما قال وصادقاه فيما وصف وهو يطابق من وجوه كثيرة ما قاله الهمداني فى كتابه ثم عثروا فيما بعد على نقوش كتابية في خرائب السد وغيرها تحققوا بها صدق خبره.
قال الأصفهانى : إن السد تهدم قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة ، وقال ياقوت :
إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد ، وقال ابن خلدون : إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد.
[سورة سبإ (34) : الآيات 18 الى 19]
وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
تفسير المفردات
القرى التي بارك فيها : هى قرى الشام ، قرى ظاهرة : أي مرتفعة على الآكام وهى أصح القرى ، وقدرنا فيها السير : أي كانت القرى على مقادير للراحل ، فمن سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى حين الظهيرة ، ومن سار من بعد الظهر وصل إلى أخرى حين الغروب ، فلا يحتاج إلى حمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ولا سبع ، آمنين : أي من كل ما تكرهون ، وظلموا أنفسهم لأنهم بطروا النعمة ، والأحاديث : واحدها أحدوثة وهى ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب ، ومزقناهم كل ممزق : أي وفرقناهم كل تفريق ، الصبّار : كثير الصبر(22/72)
ج 22 ، ص : 73
عن الشهوات ودواعى الهوى وعلى مشاق الطاعات. والشكور : أي كثير الشكران على النعم.
المعنى الجملي
بعد أن حكى سبحانه ما أوتوا من النعم في مساكنهم ، ثم كفرانهم بها ، وما جوزوا به من الخراب والدمار - قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم ، ثم جحودهم بها ، ثم ماحاق بهم بسبب ذلك.
الإيضاح
(وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) أي وجعلنا بين قراهم وقرى الشام التي باركنا فيها بالتوسعة على أهلها قرى متواصلة يظهر بعضها لبعض ، لأنها مبنية على آكام عالية.
(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي وجعلنا بين بعضها وبعض مقادير متناسبة بحيث يقيل الغادي في قرية ، ويبيت الرائح في أخرى إلى أن يصل إلى الشام وهو لا يحمل معه زادا ولا ماء.
(سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) أي وقلنا لهم سيروا في هذه القرى التي بين قراكم وقرى الشام التي باركنا فيها ليالى وأياما وأنتم آمنون لا تخشون جوعا ولا عطشا ولا عدوا يبطش بكم ، بل تغدون فتقيلون ، وتروحون فتبيتون في قرية ذات جنان ونهر.
وخلاصة هذا - إنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنّى رغد في بلاد مرضية وأماكن آمنة وقرى متواصلة ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها ، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ، فهو يقيل في قرية ويبيت فى أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.(22/73)
ج 22 ، ص : 74
ثم ذكر أنهم بطروا وملّوا تلك النعم وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنوا إسرائيل فطلبوا أن يفصل بين القرى بمفاوز وقفار ، ليظهر القادرون منهم الأزواد والرواحل تكبرا وفخرا على العاجزين كما حكى سبحانه عنهم بقوله :
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز ، لنركب فيها الرواحل ، ونتزود معنا فيها الأزواد ، فأجاب اللّه طلبهم وعاقبهم على بطرهم بالنعمة كما قال :
(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) إذ قد عرّضوها للسخط والعذاب ، بغمط النعمة وعدم الوفاء بشكرها.
ثم ذكر عاقبة أمرهم فقال :
(فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها ويعتبرون بأمرهم ، وكيف مكر اللّه بهم ، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنىّ وصاروا مضرب الأمثال فقيل للقوم يتفرقون تفرقوا أيدى سبأ ، فنزل آل جفنة ابن عمرو الشام ونزل الأوس والخزرج يثرب ، ونزلت أزد السّراة السّراة ، ونزلت أزد عمان عمانا ثم أرسل اللّه على السد السيل فهدمه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، بعد النعمة والعافية ، عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام - لعبرة لكل عبد صبار على المصايب ، شكور على النعم.
روى سعد بن أبى وقاص رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « عجبت من قضاء اللّه تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شىء حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته »
وكان مطرّف بن الشّخّير يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر.(22/74)
ج 22 ، ص : 75
[سورة سبإ (34) : الآيات 20 الى 21]
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
تفسير المفردات
صدق عليهم إبليس ظنه : أي وجد ظنه فيهم صادقا ، لانهما كهم في الشهوات واستفراغ الجهد في اللذات ، سلطان : أي تسلط واستغواء بالوسوسة ، حفيظ : أي وكيل قائم على شئون خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر جلت قدرته قصص سبأ ، وما كان من أمرهم في اتباع الهوى والشيطان - أردف ذلك الإخبار بأنهم صدّقوا ظنّ إبليس فيهم وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال ، إذ تسلط عليهم وانقادوا إلى وسوسته ، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم كما قال سبحانه « إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ » .
الإيضاح
(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذين بدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتى أكل خمط عقوبة منالهم - ظنا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية اللّه ، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم تحقق صدق ظنه فيهم ، إلا فريقا من المؤمنين ثبتوا على طاعة اللّه ومعصية إبليس.
ثم ذكر أنه ابتلاهم ليظهر حال المؤمنين من حال الشاكين في الآخرة فقال :(22/75)
ج 22 ، ص : 76
(وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ) أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها ، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم ليظهر حال من يؤمن بالآخرة ويصدق بالثواب والعقاب ممن هو منها فى شك ، فلا يوقن بمعاد ، ولا يصدق بثواب ولا عقاب.
قال الحسن البصري : واللّه ما ضربهم بعصا ، ولا أكرههم على شىء ، وما كان إلا غرورا وأمانىّ دعاهم إليها فأجابوه.
وخلاصة ذلك : لا سلطان لإبليس على قلوب الناس ، ولكنى أسلطه عليهم كما أسلط الذباب على العيون القذرة ، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم ، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة ، فإذا حل الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض وبقي من هو قادر على المقاومة ولديه قوة المناعة ، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق اللّه بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها ، ومن انقاد لها فلا يلومنّ إلا نفسه وهو المذنب وحده ، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصايب وآلام يثبت لها ذوو العزيمة الصادقة ، ولا يضطرب حين حلولها إلا الضعيف الذي ليس له جلد ولا صبر.
(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) أي وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم ، لا يعزب عن علمه شىء ، وهو يجازيهم جميعا يوم القيامة بما كسبوا فى الدنيا من خير أو شر ، فمن أخبت للّه وأناب إليه لاقى من الثواب مالا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ومن دسّى نفسه الأمارة بالسوء وانهمك فى شهواته لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.(22/76)
ج 22 ، ص : 77
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 23]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
تفسير المفردات
ادعوا : أي نادوا ، زعمتم : أي زعمتموهم آلهة ، من شرك : أي شركة ، والظهير :
المعين ، والتفزيع : إزالة الفزع ، وهو انقباض ونفار يعترى الإنسان من الشيء المخيف.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزت قدرته ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها ، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة وكذبوا الرسل - أعقب ذلك بأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول للمشركين من قومه تهكما بهم وتعجبا من حالهم : ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء للّه ، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام ، فإن لم يستطيعوا ذلك فاعلموا أنهم مبطلون.
ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعا للعابد يخشى بطشه وسطوته ، وهؤلاء ليس لهم شىء من ذلك ، إذ لا تصرف لهم في شىء في السموات والأرض لا استقلالا ولا شركة ، ولا هم معينون للخالق فيهما ، ولا تنفع شفاعتهم لديه ، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم.
الإيضاح
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخا لهم ومبينا لهم سوء ما يصنعون : ادعوا هؤلاء الأصنام في مهامّ أموركم ليدفعوا الضر عنكم أو يجلبوا النفع لكم ، لعلهم يستجيبون لكم إن كان ذلك فى مكنتهم ، وبيدهم مقاليد أموركم.(22/77)
ج 22 ، ص : 78
ثم أبان لهم عظيم خطئهم وكبير جرمهم فقال :
(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي هؤلاء الآلهة لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض من خير أو شر ، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع أو يخشى منهم ضر.
ونحو الآية قوله : « وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ » .
(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ)
أي لا هم يملكون مثقال ذرة فيهما على سبيل الشركة والمراد أنهم لا يملكون شيئا لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل الشركة للخالق لهما.
(وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) أي وما للّه من الآلهة التي يدعون من دونه معين على خلق شىء من ذلك ، ولا على حفظه.
(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى إذ لا شفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع ، وهو لا يأذن أحدا أن يشفع لهؤلاء الكافرين كما قال تعالى : « لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً » . والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدا.
ثم ذكر ما يحدث بعد انتظار الإذن بالشفاعة فقال :
(حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا ؟ قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ) أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة وجلين حتى إذا أذن للشافعين وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين قال بعضهم لبعض ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة ؟ قالوا قال ربنا القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
والآيات تدل على أن المشفوع لهم هم المؤمنون ، والكافرون بمعزل عن موقف الاستشفاع.
والخلاصة - إن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين(22/78)
ج 22 ، ص : 79
والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة.
ثم ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون وقصور كل ما سواه فقال :
(وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي وهو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه فى ذلك أحد من خلقه ، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه.
وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم بالشفاعة ، وفيه أيضا ثناء على اللّه كما لا يخفى.
[سورة سبإ (34) : الآيات 24 الى 27]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
تفسير المفردات
أجرمنا : أي وقعنا في الجرم ، وهو الذنب ، ويفتح : أي يحكم ، والفتاح : الحاكم أرونى الذين ألحقتم به شركاء : أي أعلمونى بالدليل وجه الشركة ، كلا : كلمة للزجر عن كلام أو فعل صدر من المخاطب.
المعنى الجملي
بعد أن سلب سبحانه عن شركائهم ملك شىء من الأكوان ، وأثبت أن ذلك له وحده - أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية ، وأن يخبر بأن أحد الفريقين الموحدين للرازق والمشركين به الجماد - مبطل والآخر(22/79)
ج 22 ، ص : 80
محق ، وقد قام الدليل على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك ، وأن يقول لهم : لا تؤاخذون بما نعمل ولا نؤاخذ بما تعملون ، وأن يقول لهم : إن ربنا هو الذي يحكم بيننا يوم القيامة وهو الحكيم العليم بجلائل الأمور ودقائقها ، وأن يقول لهم :
أعلمونى عما ألحقتم به من الشركاء ، هل يخلقون وهل يرزقون ؟ كلا بل اللّه هو الخالق الرازق الغالب على أمره ، الحكيم في كل ما يفعل.
الإيضاح
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام : من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم ، حياة لحروثكم وصلاحا لمعايشكم ، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم - ومن الأرض بإخراج أقواتكم وأقوات أنعامكم ؟
فإن هم قالوا لا ندرى فأجبهم :
(قُلِ اللَّهُ) هو الذي يرزقكم ، إذ لا جواب عندهم سواه في قرارة أنفسهم ، إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادا مع علمهم بصحته ، ولأنهم لو تفوّهوا به لقيل لهم :
فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق ؟ كما قال سبحانه تبكيتا لهم : « قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ؟ » .
ثم أمر رسوله أن يقول لهم بعد الإلزام الذي ليس بأقل من الاعتراف بأنفسهم.
(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وإن أحد الفريقين منا معشر الذين يوحدون الرزاق لمن في السموات والأرض ، ويفردونه بالعبادة ، والذين يشركون به الجماد العاجز عن دفع الضر وجلب النفع - لعلى الهدى أو في الضلال البين الذي لا شك فيه.(22/80)
ج 22 ، ص : 81
وهذا أسلوب من الكلام المنصف تستعمله العرب في محاورتها لإرخاء العنان للمخاطب حتى إذا سمعه الموافق أو المخالف قال لمن خوطب به لقد أنصفك صاحبك.
ألا ترى الرجل يقول لصاحبه : قد علم اللّه الصادق منى ومنك ، وإن أحدنا لكاذب ، وعليه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يسلّم :
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
وفي ذكر هذا بعد ما تقدمه من الحجج الظاهرة على التوحيد ، دلاله واضحة على تمييز المهتدى من الضالّ ، والإيماء أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينى.
ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة ، فأسند الإجرام إلى أنفسهم والعمل للمخاطبين فقال :
(قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أي قل لهؤلاء المشركين :
أنتم لا تسألون عما اكتسبنا من الآثام وارتكبنا من الذنوب ، ونحن لا نسأل عما تعملون من عمل - خيرا كان أو شرا.
ونحو الآية قوله : « وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » .
ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم إذ أمر رسوله أن يقول لهم :
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) أي قل لهم : إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب ثم يقضى بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم ، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور ، وهنالك يجزى كل عامل بما عمل ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال : « ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون.(22/81)
ج 22 ، ص : 82
فأمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فهم في روضة يحبرون. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ » .
ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتا لهم فقال :
(قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) أي قل لهم : ما الذي عراكم ودخل فى أذهانكم من الشبه حتى جعلتم هؤلاء أندادا للّه وشركاء ، وبأى صفة ألحقتموهم به فى استحقاق العبادة ؟
ثم نبه إلى فاحش غلطهم ، وعظيم خطئهم بقوله :
(كَلَّا ، بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي ليس الأمر كما وصفتم ، فلا نظير له تعالى ولا ندّ ، بل هو اللّه الواحد الأحد ذو العزة التي بها قهر كل شىء ، وهو الحكيم فى أفعاله وأقواله ، وفيما شرع لهم من الدين الحق الذي يسعد من اعتنقه في حياتيه الأولى والآخرة.
[سورة سبإ (34) : الآيات 28 الى 30]
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على التوحيد ، وضرب لذلك الأمثال ، حتى لم يبق بعدها زيادة لمستزيد - شرع يذكر الرسالة ويبين أنها عامة للناس جميعا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، فيحملهم ذلك على مخالفتك ، ثم ذكر سؤال منكرى البعث عن الساعة استهزاء بها ، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.(22/82)
ج 22 ، ص : 83
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة بل أرسلناك إلى الخلق جميعا عربهم وعجمهم ، أسودهم وأحمرهم ، مبشرا من أطاعنى بالثواب العظيم ، ومنذرا من عصانى بالعذاب الأليم.
ونحو الآية قوله : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » وقوله :
« تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً » .
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم فيه من الغى والضلال.
ونحو الآية قوله : « وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ » وقوله : « وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء لفرط تعنتهم وجهلهم : متى هذا الذي توعدوننا به مبشرين ومنذرين إن كنتم أيها الرسول والمؤمنين صادقين فيما تقولون.
ونحو الآية قوله : « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ » .
ثم أمر رسوله أن يجيبهم عن سؤالهم فقال :
(قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة ، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء فتنظروا للتوبة والإنابة ، ولا تستقدمون قبله للعذاب ، لأن اللّه جعل لكم أجلا لا تعدونه.
والخلاصة - دعوا السؤال عن وقت مجىء الساعة ، فإنه كائن لا محالة ، وسلوا عن أحوال أنفسكم حين تكونون مبهوتين متحيرين من هول ما تشاهدون فهذا أليق بكم.(22/83)
ج 22 ، ص : 84
[سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)
المعنى الجملي
لما ذكر الأصول الثلاثة وهى التوحيد والرسالة والحشر وكانوا كافرين بها جميعا - ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة ، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء ، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار وما يسرّونه من الحسرة والندامة حين يرون العذاب ، ثم أعقبه بذكر ما سيحيق بهم من الإهانة بوضع الأغلال في الأعناق ، وأن هذا جزاء لهم على ما عملوا من سيىء الأعمال ، وما دسوا به أنفسهم من قبيح الخلال.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وقال قوم من مشركى العرب : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالكتب التي سبقته ، ولا بما اشتملت(22/84)
ج 22 ، ص : 85
عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء.
روى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن وصف الرسول صلّى اللّه عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم فأغضبهم ذلك وقالوا ما قالوا :
ثم ذكر ما يكون من حوار بين ضاليهم ومضليهم حين الوقوف بين يدى الملك الديان للحساب والجزاء فقال :
(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين وما هم فيه من مهانة وذلّة ، يحاور بعضهم بعضا ، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء الأعمال ، والسبب فيمن أوقعهم في هذا النكال والوبال - لرأيت العجب العاجب ، والمنظر المخزى الذي يستكين منه المرء خجلا ثم فصل ذلك الحوار فقال :
(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أي يقول الأتباع للذين استكبروا في الدنيا واستتبعوهم في الغى والضلال ، لو لا أنتم أيها السادة صدد نمونا عن الهدى لكنا مؤمنين بما جاء به الرسول.
ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله :
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ ؟ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي قال الذين استكبروا في الدنيا وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا فكانوا أتباعا لأهل الضلال منهم : أ نحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند اللّه ؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.
والخلاصة - إننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه ، بل كنتم مجرمين ، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى.
ثم حكى رد المستضعفين على قول المستكبرين بقوله :(22/85)
ج 22 ، ص : 86
(وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي وقال الأتباع للرؤساء في الضلال : صدنا مكركم بنا وخداعكم فى الليل والنهار حين كنتم تأمروننا أن نكفر باللّه ونجعل له أمثالا وأشباها في العبادة وإجمال ذلك - ما صدنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار حتى أزلتمونا عن عبادة اللّه ، فأنتم كنتم تغروننا وتمنوننا وتخبروننا أننا على الهدى وأنّا على شىء ، وكل ذلك باطل وكذب.
ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم فقال :
(وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين - الندم على ما فرط منهم في الدنيا حين رأوا العذاب ، إذ هم بهتوا مما عاينوا ، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة.
والخلاصة - إنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة اللّه في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعده لهم.
(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وجعلنا أغلال الحديد في أعناق هؤلاء في النار.
ثم ذكر أنه لا جزاء لأمثالهم إلا هذا فقال :
(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي وما يفعل ذلك بهم إلا جزاء لما اجترحوا من الكفر والآثام « وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » وقد قالوا في أمثالهم : إنك لا تجنى من الشوك العنب :
[سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)(22/86)
ج 22 ، ص : 87
المعنى الجملي
بعد أن ذكر قول المشركين لرسوله لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير كما قال : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » - سلاه على ما ابتلى به من مخالفة مترفى قومه له وعداوتهم إياه بالتأسى بمن قبله من الرسل ، فهو ليس بدعا من بينهم ، فما من نبى بعث في قرية إلا كذّبه مترفوها واتبعه ضعفاؤها كما قال : « وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها » ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به ، فما هم فيه من مال وولد برهان ماطع على محبة اللّه إياهم ، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقنيره كما يكون للبر يكون للفاجر ، لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة ، فمن أحسن استعمالها استفاد منها ، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان وهم في أمن ودعة ، وأن الذين يصدون عن سبيل اللّه في نار جهنم يصلونها أبدا ، ثم وعد المنفقين فى سبيل اللّه بالإخلاف ، وأوعد الممسكين بالإتلاف.
الإيضاح
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا إلا قال(22/87)
ج 22 ، ص : 88
كبراؤها وأولو النعمة والثروة فيها : إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد.
وليس في ذلك من عجب ، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي ، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة ، فالضدان لا يجتمعان : انغماس في الشهوة وعلم وحكمة ، ثروة مادية وثروة روحية.
ثم ذكر تفاخرهم بما هم فيه من بسطة العيش ، وكثرة الولد وأن ذلك سيكون سبب نجاتهم من العذاب في الآخرة بقوله :
(وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي وقال المستكبرون فى كل قرية أرسلنا فيها نذيرا : إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة في الأموال ، فنحن لا نعذب ، لأن ذلك دليل على محبة اللّه لنا ، وعنايته بنا ، وأنه ما كان ليعطينا ما أعطانا ثم يعذبنا في الآخرة.
هيهات هيهات ، إنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا ، وأخطأوا القياس « أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ » .
وخلاصة آرائهم - نحن في نعمة لا تشوبها نقمة ، وذلك دليل على كرامتنا عند اللّه ورضاه عنا ، إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لما يرضيه - لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش وكثرة الأولاد.
فرد اللّه عليهم مقالتهم آمرا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله :
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي قل لهم أيها الرسول : إن ربى يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه ويضيّق على من يشاء ، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك ، ولا لخير فيه ولا زلفى استحق بها ذلك ، ولا لبغض منه لمن قدر عليه ولا لمقت منه له ، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها(22/88)
ج 22 ، ص : 89
لكسب المال في هذه الحياة ، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغى. ومن أخطأها وضل لم ينل شيئا من حظوظها ، ولا رابطة بين الثراء ومحبة اللّه ، ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي وضيق على المطيع ، وربما عكس الأمر ، وقد يوسع على المطيع والعاصي تارة ويضيق عليهما أخرى - يفعل كل ذلك بحسب ما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي قد نعلمها وربما خفى علينا أمرها ، ولو كان البسط دليل الإكرام والرضا لا ختصّ به المطيع ، ولو كان التضييق دليل الإهانة لا ختص به العاصي ، ومن ثم جاء
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما أعطى الكافر منها شيئا » .
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن اللّه يفعل ذلك بحسب السنن التي وضعها فى الكون ، بل يظنون أن ذلك لمحبة منه لمن بسط له ، ومقت منه لمن قدر عليه ، حتى تحير بعضهم واعترض على اللّه في البسط لأناس والتضييق منه على آخرين ، ومن ثمّ قال ابن الراوندي :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة وصيّر العالم التحرير زنديقا
ثم بين سبحانه لعباده أن الزلفى عنده ليست بكثرة المال والولد ، بل بالتقوى وصالح العمل ، فقال :
(وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس ، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى ، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم ، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها أو أكثر إلى سبعمائة ضعف ، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى ومن كل شر يحذر منه.
روى عن على كرم اللّه وجهه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :(22/89)
ج 22 ، ص : 90
« إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها ، وبطونها من ظهورها ، فقال أعرابى لمن هى ؟ قال لمن طيب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلّى بالليل والناس نيام » .
ثم بين حال المسيء الذي يبعده ماله وولده من اللّه فقال :
(وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) أي والذين يصدّون عن آيات كتابنا بالطعن فيها يبتغون إبطالها ، ويريدون إطفاء أنوارها ظانين أنهم يفوتوننا وأننا لن نقدر عليهم ، فأولئك في عذاب جهنم يوم القيامة تحضرهم الزبانية إليها ولا يجدون عنها محيصا ، ولا يجديهم نفعا ما عوّلوا عليه من شفاعة الأصنام والأوثان.
ثم زهّد عباده في الدنيا وحضهم على التقرب إليه بالإنفاق فقال :
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) أي قل لهم أيها الرسول :
إن ربى يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينا ، ويضيّقه عليه حينا آخر ، فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيله وتقرّبوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته.
(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) أي وما أنفقتم من شىء فيما أمركم به ربكم وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم ويعوضكم بدلا منه في الدنيا مالا وفي الآخرة ثوابا ، كلّ خلف دونه ،
وفي الحديث : « أنفق بلالا ، ولا تخش من ذى العرش إقلالا »
وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة إذ قال : إذا كان لأحدكم شىء فليقتصد ، ولا يتأول هذه الآية : « وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ » فإن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له منه قليل ، وهو ينفق نفقة الموسّع عليه.
(وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فترزقون من حيث لا تحتسبون ولا رازق غيره
روى الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا » .(22/90)
ج 22 ، ص : 91
[سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 42]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن حال النبي صلّى اللّه عليه وسلم مع قومه ليس بدعا بين الرسل ، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم ، فكلّهم كذّبوا وكلهم أوذوا في سبيل اللّه ثم أعقب ذلك بأن رد عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة اللّه ، ولا سخطه - أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم : هل هؤلاء كانوا يعبدونكم ؟ فيجيبون بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم ، ثم بين أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام ، ويقال لهم على طريق التوبيخ والتهكم : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
الإيضاح
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ : أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ؟ ) أي واذكر أيها الرسول لقومك : يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم ثم تسأل الملائكة أ أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم ؟
وهذا سؤال وجه إلى الملائكة ظاهرا ، والمراد منه تقريع المشركين وتيئيسهم مما علّقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم فهو وارد على نهج قولهم : إياك أعنى واسمعي يا جاره ،(22/91)
ج 22 ، ص : 92
وعلى نهج قوله تعالى لعيسى « أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ؟ » وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى برآء مما وجّه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير ، ولكن جاء ليقول ويقولوا ، ويسأل ويجيبوا ، فيكون توبيخهم أشد ، وتعييرهم أبلغ ، وخجلهم أعظم.
(قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أي قالت الملائكة : تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله ، نحن عبيدك نبرأ إليك من هؤلاء وأنت الذي نواليه دونهم ، فلا موالاة بيننا وبينهم.
والخلاصة - إننا برآء من عبادتهم والرضا بهم.
ثم بين أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله :
(بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) أي بل هم كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم ، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون ، إذ كانوا يعبدون غير اللّه بوسوستهم ويستغيثون بهم في قضاء حاجتهم كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة.
ونحو الآية قوله : « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً : لَعَنَهُ اللَّهُ » .
ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم زادهم أسى وحسرة فقال :
(فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم ، لأن الأمر في ذلك اليوم للّه الواحد القهار ، لا يملك أحد فيه منفعة لأحد ولا مضرة له.
(وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي ونقول المشركين زجرا لهم وتأنيبا : ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم ،(22/92)
ج 22 ، ص : 93
فهأنتم أولاء قد وردتموها وسمعتم شهيقها وزفيرها ، وليس الخبر كالخبر ، ولا السماع كالمعاينة ، فعضّوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم ، فجنيتم صابه وعلقمه فى أخراكم.
[سورة سبإ (34) : الآيات 43 الى 50]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة وأنه يقال لهم يومئذ : ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون - أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب(22/93)
ج 22 ، ص : 94
وهو صدهم عن دعوة الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقولهم في القرآن : إنه إفك مفترى ، وإنه سحر واضح لا شك فيه ، وقد كان فيما حلّ بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا ، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا ، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم فأخذوا أخذ عزيز مقتدر ، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه وأوصاهم بأن يشمّروا عن ساعد الجدّ طلبا للحق متفرقين اثنين وواحدا واحدا ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون ، بل هو نذير لهم يخوّفهم بأس اللّه وعذابه الشديد يوم القيامة ، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم فى دعوته ، فهو لا يطلب منهم أجرا ولا يريد منهم جزاء ، وإنما مثوبته عند ربه المطّلع على كل شىء ثم أبان لهم أن الحق قد وضح ، وجاءت أعلام الشريعة كفلق الصبح نورا وضياء ، ولا بقاء للباطل ولا قرار له إذا ظهر نور الحق « فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً ، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ » .
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) أي وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك ، قالوا إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد ، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدّعى ، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل.
ثم زادوا إنكارهم توكيدا وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم.
(وَقالُوا ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) أي وقالوا إن القرآن الذي يدّعى محمد أنه وحي من عند ربه - كذب مختلق من عنده ، وقد نسبه إلى ربه ترويجا للدعوة ، واجتلابا لقلوب الكافة.
ثم شددوا في الإنكار فجعلوه سحرا بيّنا لا شك فيه عندهم كما حكى عنهم بقوله :
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقال المشركون(22/94)
ج 22 ، ص : 95
لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه وسلم من عند ربه مشتملا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم وغيّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد - ما هذا إلا سحر بيّن لا خفاء فيه عندنا ، وقد أعمى أبصارنا وأضل أحلامنا فلم نستطع أن ندفعه بكل سبيل ، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها ويداخل النفوس ويستحوذ عليها ، ونحن في حيرة من أمره لا نجد طريقا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها وهى بين أيدينا.
والخلاصة - إنهم نفوا أن يكون وحيا من عند ربه وجعلوه إما كلاما مفترى جاء به لترويج دعوته ، وإما سحرا فعله ليخلب به العقول ويصد الناس عن الدين الحق الذي ورثوه عن الآباء والأجداد.
فرد اللّه سبحانه عليهم منكرا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق بقوله :
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) أي إن الدين الصحيح إنما يأتى بوحي من عند اللّه وبكتاب ينزل على الرسول ليبلغه للناس ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم ، وهم أمة أميّة لم يأتهم كتاب قبل القرآن ، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد ، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك باللّه ، وينفى توحيد الخالق حتى يكون لهم معذرة فيما يدّعون ، وحجة على صحة ما يعتقدون ؟ .
ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم والتجهيل لهم :
ونحو الآية قوله : « أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ » وقوله : « أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ » .
وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم لو كانوا يعقلون ، سلك بهم سبيل التهديد والوعيد وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم ولم تجدها الآيات والنذر ، فحل بها بأس اللّه وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب فقال :(22/95)
ج 22 ، ص : 96
(وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي ولقد كان لهم فيمن قبلهم من الأمم البائدة والقرون الخالية كقوم نوخ وعاد وثمود ، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره ، فكذبوا رسلى حين أرسلوا إليهم فخل بهم النكال والوبال ودمّروا تدميرا ، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا ، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم ، فى غدوّهم ورواحهم كما قال في آية أخرى : « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ »
فليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك.
والخلاصة - إن فيما حل بمن قبلهم من المثلاث نكالا لهم على تكذيبهم رسلهم - لعبرة لهم لو كانوا يعقلون.
ثم أطال لهم الحبل ومدّ لهم الباع وأنصفهم في الخصومة فقال :
(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) أي قل لهم : إنى أرشدكم أيها القوم وأنصح لكم ألا تبادروا بالتكذيب عنادا واستكبارا ، بل اتئدوا وتفكروا مليا فيما دعوتكم إليه وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصا ، إما واحدا فواحدا ، وإما اثنين اثنين لعلكم تصلون إلى الحق وتهتدون إلى قصد السبيل ، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة ، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم ، ورانت على قلوبكم ، فلم تجعل للحق منفذا.
وإنما طلب إليهم التفكر وهم متفرقون اثنين اثنين أو واحدا فواحدا ، لأن فى الازدحام تهويش الخاطر والمنع من إطالة التفكير وتخليط الكلام وقلة الإنصاف ، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة ما يؤيد صدق هذا.
ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدى بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح(22/96)
ج 22 ، ص : 97
(ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) إذا ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم لا يتصدى لادّعائه إلا أحد رجلين : إما مجنون لا يبالى بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه ، وإما نبى مؤيد من عند اللّه بالمعجزات الدالة على صدقه.
وإنكم قد علمتم أن محمدا أرجح الناس عقلا ، وأصدق الناس قولا ، وأزكاهم نفسا ، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي فوجب عليكم أن تصدقوه في دعوته ، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك.
وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم مشهور لديهم ، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم وعلموا ماله من صفات الفضل والنّبل وكرم الخلال مما لم يتهيأ لأحد من أترابه ولداته.
وإذ قد استبان بالدليل أنه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدعى ، اتضح أنه صادق كما قال :
(إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) أي ما هذا الرسول بالكاذب ، بل هو نذير لكم بعقاب اللّه حين تقدمون عليه ، لكفركم به وعصيانكم أمره.
وإنما جعل إنذاره بين يدى العذاب ، لأن محمدا مبعوث قرب الساعة كما جاء
فى الحديث « بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقنى » .
وروى البخاري عن ابن عباس رضى اللّه عنهما قال : « صعد النبي صلّى اللّه عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال : يا صباحاه ، فاجتمعت إليه قريش ، فقالوا : ما لك ؟ فقال :
أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسّيكم أما كنتم تصدقونى ؟ قالوا بلى ، قال صلّى اللّه عليه وسلم : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد. فقال أبو لهب :
تبّا لك. أ لهذا جمعتنا ؟ فأنزل اللّه عز وجل « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ » .
ولما نفى عن رسوله الجنون وأثبت له النبوة - ذكر وجها آخر يؤكد ذلك فقال :(22/97)
ج 22 ، ص : 98
(قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي قل لهم : إنى لا أريد منكم أجرا ولا عطاء على أداء رسالة ربى إليكم ، ونصحى لكم وأمرى بعبادته ، إنما أطلب ثواب ذلك من اللّه ، وهو العليم بجميع الأشياء ، فيعلم صدقى وخلوص نيّتى.
وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرا دنيويا ، ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر اللّه تعالى له وقد صدع به « فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ » وبهذا ثبت أنه نبىّ.
ولما استبان أنه ليس بالمجنون ولا هو بطالب الدنيا - علم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء وقذف به الوحى إليه ، وأمره أن يبلغه إليهم كما أشار إلى ذلك بقوله :
(قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) القذف الرمي بدفع شديد : أي قل لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث : إن ربى يلقى الوحى وينزله على قلب من يجتبيه من عباده ، وهو العليم بمن يصطفيهم كما قال سبحانه : « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » وقال : « يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ » .
وقد يكون المعنى كما روى عن ابن عباس : إن ربى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله ويزيل آثاره ويشيع الحق في الآفاق.
ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإسلام ونشره بين الناس وتبلج نوره فى الكون ، ونحوه « بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ » .
ثم أكد ما سلف بأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يخبر قومه بأن الإسلام سيعلو على سائر الأديان ، وأن غيره سيضمحل ويزول فقال :
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) أي قل جاء الإسلام ، ورفعت رايته ، وعلا ذكره ، وذهب الباطل ، فلم تبق منه بقية تبدى شيئا أو تعيده.(22/98)
ج 22 ، ص : 99
وأصله في هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ، ولا إعادة أي فعله ثانيا ، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص :
أقفر من أهله عبيد فاليوم لا يبدى ولا يعيد
روى البخاري ومسلم « أنه لما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ : وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً - قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ » .
ولما سد عليهم مسالك القول ، لم يبق إلا أن يقولوا عنادا : إنه قد عرض له ما أضله عن محجة الصواب ، فأمر رسوله أن يقول لهم :
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) أي قل أيها الرسول لقومك : إن ضللت عن الهدى وسلكت غير طريق الحق فإنما ضرّ ذلك على نفسى ، وإن استقمت على الحق فبوحى اللّه إلىّ وتوفيقه للاستقامة على محجة الحق وطريق الهدى ، إنه سميع لما أقول وتقولون ، ويجازى كلا بما يستحق ، قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه.
روى الشيخان عن أبى موسى الأشعري قال : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا » .
والخلاصة - إن الخير كله من اللّه وفيما أنزله علىّ من الوحى والحق المبين.
[سورة سبإ (34) : الآيات 51 الى 54]
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)(22/99)
ج 22 ، ص : 100
تفسير المفردات
الفزع : انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف ، التناوش : التناول السهل لشىء قريب يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه ولحيته ، ناشه ينوشه نوشا ، وأنشدوا لغيلان بن حريث في وصف الإبل :
فهى تنوش الحوض نوشا من علا نوشا به تقطع أجواز الفلا
يريد أنها عالية الأجسام طويلة الأعناق ، يقذفون بالغيب : أي يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها ، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه : هو يقذف بالغيب.
بأشياعهم : أي أشباههم ونظرائهم في الكفر جمع شيع ، وشيع جمع شيعة وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأى بعض فهم شيع ، مريب : أي موقع في الريبة والظّنة ، يقال أراب الرجل : أي صار ذا ريبة فهو مريب.
المعنى الجملي
بعد أن أبطل سبحانه شبههم وردّ عليهم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد - هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم ، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون آمنا بالرسول ، وأنّى لهم ذلك وقد فات الأوان ؟ وقد كان ذلك فى مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا ، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلا ولا قطميرا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى ، وتلك سنة اللّه في أشباههم من قبل.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ)
أي ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد - لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه ، فهم لا يمكّنون من الهرب ، ولا يفوتهم ذلك العذاب ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه.(22/100)
ج 22 ، ص : 101
(وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي وأخذوا حين الفزع من الموقف إلى النار ولم يمكّنوا أن يمعنوا في الهرب.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وقالوا حينئذ : آمنا باللّه وملائكته وكتبه ورسله ، وأنّى لهم ذلك وقد صاروا بعيدين عن قبول الإيمان ؟ إذ هذه الدار ليست أهلا لقبول التكاليف من الإيمان باللّه والعمل الصالح.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » .
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي وكيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل ؟ .
(وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أي وهم قد كانوا يرجمون بظنون لا مستند لهم فيها ، فيتكلمون في الرسول بمطاعن ليس لها ما يؤيدها ، فتارة يقولون إنه شاعر ، وأخرى إنه كاهن ، وثالثة إنه ساحر ، إلى نحو ذلك من الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالبعث والنشور والحساب والجزاء.
(وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي وحيل بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعلموا صالحا كما قال : « فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا » .
ثم بين أن هذه سنة اللّه في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم فقال :
(كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) أي فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذبت رسلها فتمنّوا حين رأوا بأس اللّه أن لو آمنوا ولكن لم يقبل منهم.
ثم علل عدم قبول إيمانهم ووصولهم إلى بغيتهم حينئذ بقوله :
(إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) أي لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء ، وقد تغلغل الشك في قلوبهم حتى صاروا لا يطمئنون إلى شىء مما جاءوا به.(22/101)
ج 22 ، ص : 102
ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) حمد اللّه والثناء عليه بما هو أهله.
(2) مقال المشركين في إنكار البعث والرد عليهم بأنه آت لا شك فيه.
(3) الاستهزاء بالرسول وحكمهم عليه بأنه إما مفتر وإما مجنون.
(4) النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.
(5) ما كان لسبأ من النعم ثم زوالها لكفرانهم بها واتباعهم وسوسة الشيطان.
(6) النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئا (7) الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.
(8) بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل ، لا عتزازهم بأموالهم وأولادهم ، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم ثم رده سبحانه عليهم.
(9) سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم ؟ ليكون فى ردهم ما يكفى في تبكيتهم.
(10) مقال المشركين عند سماع القرآن وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند اللّه بل الداعي مفتر ليصدّ الناس عن دين الآباء والأجداد.
(11) عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.
(12) أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.
(13) إثبات أن الرسول نذير مبين ، لا مفتر ولا مجنون.
(14) الرسول لا يطلب أجرا على دعوته ، بل أجره على اللّه.
(15) طلب المشركين يوم القيامة أن يرجعوا إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسول ويعملوا صالح الأعمال ، ثم الرد عليهم بأن ذلك قد فات أوانه وأن لا سبيل إلى تحقيقه.(22/102)
ج 22 ، ص : 103
سورة فاطر - سورة الملائكة
هى مكية نزلت بعد سورة الفرقان وآيها خمس وأربعون.
ومناسبتها لما قبلها :
إنه لما ذكر سبحانه في آخر سابقتها هلاك المشركين وإنزالهم منازل العذاب - لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره كما جاء في قوله : « فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
[سورة فاطر (35) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تفسير المفردات
فطر الشيء : أوجده على غير مثال سابق ، رسلا : أي وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون عنه رسالاته ، مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.
الإيضاح
(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له سبحانه الشكر ، فقد أبدع خلق السموات والأرض وما بينهما على غير مثال سابق وأحكم تدبيرهما على أتم نظام ، كما قيل : ليس في الإمكان أبدع مما كان.
(جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) أي جاعل الملائكة وسائط بينه وبين أنبيائه يبلغون إليهم رسالاته - ذوى أجنحة إما اثنين اثنين ، وإما ثلاثة ثلاثة ، وإما أربعة أربعة.(22/103)
ج 22 ، ص : 104
والأجنحة في العالم المادي تساعد على الطيران ، وكثرتها تومئ إلى السرعة ، وهى فى عالم الأرواح ترشد إلى القدرة على السرعة في تنفيذ أوامر اللّه وتبليغ رسالات ربهم إلى أنبيائه.
وفي هذا إيماء إلى أن الملائكة تتفاوت أقدارهم وقواهم عند اللّه تعالى بحسب استعدادهم الروحي.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح »
وفي هذا رمز إلى قوة استعداده الروحي وقربه من الملأ الأعلى وسرعة تنفيذه ما يؤمر به.
(يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي يزيد في خلق الأجنحة ما يشاء ، كما يزيد في أرجل الحيوان ما يشاء حتى لقد تبلغ فوق العشرين أحيانا ، وهكذا يزيد في تفاوت العقول والنفوس والقوى المادية والمعنوية كما قيل :
والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنا
ثم ذكر ما هو كالدليل لما سبق بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيزيد كل ما هو أهل للزيادة وما هو مستعد لها ، حسية كانت أو معنوية ، فلا يمتنع عليه فعل شىء أراده ، لما له من القدرة والسلطان على كل شىء.
[سورة فاطر (35) : آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
تفسير المفردات
يفتح : يعطى ، ورحمة : أي نعمة حسية كانت أو معنوية ، كرزق وصحة وأمن وعلم وحكمة ، إلى نحو ذلك مما لا يحاط به.(22/104)
ج 22 ، ص : 105
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة - أيد ذلك بما يشاهده كل أحد في نفسه من الضيق حينا والسعة حينا آخر ، مع العجز عن دفع البؤس إن وجد ، وجلب النعمة لو أراد.
الإيضاح
مفاتيح الخير ومغاليقه كلها بيده سبحانه ، فما يعط من خير فلا يستطيع أحد منه ولا إمساكه ، وأي خير يمسكه فلا يبسطه ولا يفتحه لهم فاتح ، لأن الأمور كلها بيده ، ومنه البذل والعطاء ، والمنع والإمساك.
وهو الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي منها الفتح والإمساك ، وهو الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
وفي الآية عظة للناس بالإقبال إلى ربهم والتوجه إليه في قضاء حاجهم ، والتوكل عليه في جميع مآربهم ، والإعراض عما سواه من جميع خلقه.
ونحو الآية قوله : « وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ » .
روى أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال : « سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » .
وروى مسلم عن أبى سعيد الخدرىّ رضى اللّه عنه قال : « إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : سمع اللّه لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء والأرض ، وملء ما شئت من شىء بعد ، اللهم أهل الثناء والمجد ،(22/105)
ج 22 ، ص : 106
أحق ما قال العبد ، وكلنا لك عبد : اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت ، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ » .
وأخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس قال : أربع آيات من كتاب اللّه إذا قرأتهن فما أبالى ما أصبح عليه وأمسى : (1) ما يفتح اللّه للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده. (2) وإن يمسسك اللّه بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله. (3) سيجعل اللّه بعد عسر يسرا. (4) وما من دابة فى الأرض إلا على اللّه رزقها.
[سورة فاطر (35) : آية 3]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
تفسير المفردات
أنى تؤفكون : أي كيف تصرفون عن توحيد الخالق ، مع الاعتراف بأنه وحده هو الرازق. وتشركون المنحوت : بمن له الملك والملكوت.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه - أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر عليها.
الإيضاح
أيها الناس راعوا نعم اللّه ، واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها ، وخصوا خالقها بالعبادة والطاعة فهو الذي بيده أرزاقكم وأقواتكم ، فإلى أىّ وجه تصرفون عنه بعد أن استبان الحق ، ووضح السبيل.(22/106)
ج 22 ، ص : 107
والخلاصة - احفظوا نعم اللّه وأدوا حقها ، ولا تشركوا به سواه من الأصنام والأوثان ، بعد وضوح الدليل وسطوع البرهان.
[سورة فاطر (35) : الآيات 4 الى 6]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأصل الأول وهو التوحيد - ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل فقد كذّب كثير منهم قبله ، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم ، ثم ذكر الأصل الثالث وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه ، وأنه لا ينبغى أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان ، فإنه عدو لبنى آدم ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار ، وبئس القرار.
الإيضاح
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي وإن استمر قومك على تكذيبك فيما بلّغته إليهم من الحق المبين ، بعد أن أقمت لهم الحجج وضربت الأمثال ، فتأسّ بمن سبقك من الرسل فقد صبروا على ما أوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدّل لكلماتنا.
وإلى اللّه مرجع أمرك وأمرهم فيجازيك وإياهم على الصبر والتكذيب.
ثم ذكر أن البعث آت لا ريب فيه فقال :(22/107)
ج 22 ، ص : 108
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) أي إن وعد اللّه بالحشر والجزاء حق لا شك فيه ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فيذهلنّكم التمتع بمتاعها ، ولا يلهينّكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد اتباعا لوساوس الشيطان.
والخلاصة - إنكم لا تغتروا بالحياة الدنيا ، وتتركوا فعل ما أمرتم به ، وتفعلوا ما نهيتم عنه.
ثم ذكر العلة في عدم الاغترار بالشيطان فقال :
(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) أي إن الشيطان معلن عداوته لكم بوسوسته ، فعادوه أنتم أشد العداوة ، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به.
ثم ذكر أعماله ودعوته أتباعه إلى الغواية والضلالة فقال :
(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) أي ما غرضه من دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى لذات الدنيا إلا إضلالهم وإلقاؤهم في العذاب الدائم من حيث لا يشعرون.
[سورة فاطر (35) : الآيات 7 الى 8]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)
تفسير المفردات
الحسرات : واحدها حسرة ، وهى الغم على مافات والندم عليه.(22/108)
ج 22 ، ص : 109
المعنى الجملي
بعد أن أبان أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار - ذكر هنا أن حزب الشيطان له العذاب الشديد ، وأن حزب اللّه له المغفرة والأجر الكبير ، ثم بين أن الضلال والهداية بيد اللّه بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية ، أو تدسيتها وارتكابها الإجرام والمعاصي ، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك وإتباعهم لوساوس الشيطان ، واللّه عليم بحالهم وسيجازيهم بما يستحقون.
أخرج جويبر عن الضحاك أن الآية نزلت في عمر رضى اللّه عنه وأبى جهل حيث هدى اللّه عمر وأضل أبا جهل.
الإيضاح
(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي الذين كفروا باللّه ورسوله لهم عذاب شديد في النار ، من جراء كفرهم وإجابتهم دعوة الشيطان واتباعهم خطواته.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) أي والذين صدقوا اللّه ورسوله وعملوا بما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه - لهم مغفرة من اللّه لذنوبهم وأجر كبير كفاء ما ملئوا به قلوبهم من عامر الإيمان ، وأخبتوا لربهم بصالح الأعمال.
ثم بيّن البعد ما بين الفريقين ، واختلاف حال الفئتين فقال :
(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) أي أ فمن حسّن له الشيطان سيىء الأعمال من معاصى اللّه والكفر به وعبادة مادونه من الآلهة والأوثان ، فحسب سيىء ذلك حسنا ، وظن قبيحه جميلا ، أ لك فيه حيلة ؟
ثم ذكر السبب في اتجاه كل من الفريقين إلى ما اتجه إليه فقال :
(فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فإن ذلك الإضلال بمشيئة اللّه تعالى التابعة لعلمه باستعداد النفوس للخير وللشر ، وقد تقدم ذلك غير مرة ، فلا حاجة إلى الإطناب فيه.(22/109)
ج 22 ، ص : 110
ثم أتى بما هو كالنتيجة لما سلف فقال :
(فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تأسف على عدم إيمانهم وعدم إجابتهم دعوتك ، فإن اللّه حكيم في قدره ، فهو يضل من يضل من عباده ويهدى من يشاء لما له في ذلك من الحجة البالغة ، والعلم التام باستعداد النفوس ، إما بإخباتها لربها ، وإنابتها إليه ، وميلها إلى صالح العمل ، وإما بتدسيتها وحبها لاجتراح السيئات ، وارتكاب الموبقات.
ونحو الآية قوله : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » .
ثم هدد الكافرين على قبيح أعمالهم فقال :
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) أي إن اللّه عليم بما يصنعون من القبائح ، فيجازيهم عليه بما يستحقون ، وفي هذا وعيد تهد منه الجبال وتدك منه الأرض دكا.
[سورة فاطر (35) : الآيات 9 الى 11]
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
تفسير المفردات
أرسل : أي أطلق وأوجد من العدم ، تثير أي تحرك ، ميت وميّت بمعنى قاله محمد بن يزيد وأنشد :(22/110)
ج 22 ، ص : 111
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء
ويرى بعضهم أن الميت بالتخفيف هو الذي مات ، والميت بالتشديد ، والمائت هو الذي لم يمت بعد وأنشد :
ومن يك ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
والمراد أنه لا نبات فيه ، والنشور : إحياء الأموات يقال نشر اللّه الميت وأنشره ، أي أحياه ، العزة : أي الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز : أي صلبة ، والكلم الطيب : هو التوحيد أو الذكر أو قراءة القرآن ، وصعوده إلى اللّه : قبوله ، والعمل الصالح : هو ما كان بإخلاص ، يرفعه : أي يقبله ، يمكرون : أي يعملون على وجه المكر والخديعة ، والسيئات : المكرات السيئات كأن يراءوا المؤمنين في أعمالهم يوهمونهم أنهم في طاعة اللّه ، يبور : أي يفسد من البوار وهو الهلاك ، أزواجا :
أي أصنافا ذكرانا وإناثا ، يعمر من معمر : أي يمدّ في عمر أحد ، فى كتاب :
أي في صحيفة المرء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة ، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم - أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا ريب فيه ، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة ، ثم ذكر أن من يريد العزة فليطع اللّه ورسوله ، ولا يتعزز بعبادة الأصنام والأوثان كما أخبر اللّه عنهم « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا » وأن العمل الطيب يرفع إلى اللّه ويحفظ لديه ويجازى. عليه ، ثم أعقب ذلك بأن من يمكر بالمؤمنين ويريد خداعهم فاللّه يفسد عليه تدبيره ويجازيه بما عمل شر الجزاء ، وبعد أن ذكر دليل البعث بما يشاهد فى الآفاق من دلائل القدرة ، ذكر دليلا عليه بما يرى في الأنفس من اختلاف(22/111)
ج 22 ، ص : 112
أطوارها ، فقد كانت ترابا ثم نطفة ثم وضعت في الأرحام إلى أن صارت بشرا سويا ، ومنها ما يمد في عمرها ، ومنها ما يخترم قبل ذلك ، كما تدل عليه المشاهدة ، وكل ذلك يسير على اللّه.
الإيضاح
(وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ) أي أفلا تتدبرون وتعقلون فتعلموا أن من أوجد الرياح بعد أن لم تكن ، ثم جعلها تسيّر السحاب الثقال ، فتنزل منها الغيث إلى الأرض الجرز التي لا نبات بها ، فتحيا بعد أن كانت ميتة وتهتز وتربو وتنبت كل زوج بهيج - أ فليس ذلك القادر الحكيم الذي أحيا ميت الأرض بقادر على أن يحيى الموتى بعد بلاها ، وبعد أن كانت عظاما نخرة ؟ إنه على كل شىء قدير.
وعن أبى رزين قال : « قلت يا رسول اللّه كيف يحيى اللّه الموتى ؟ وما آية ذلك فى خلقه ؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا ، ثم مررت به يهتز خضرا ؟ قلت بلى ، قال صلّى اللّه عليه وسلم فكذلك يحيى اللّه الموتى » .
(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي من كان يود أن يكون عزيزا فى الدنيا والآخرة فليلزم طاعة اللّه تعالى ، فإن بها تنال العزة إذ للّه العزة فيهما جميعا.
(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي إنه سبحانه يقبل طيب الكلام كالتوحيد والذكر وقراءة القرآن ، ومن الذكر : سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر.
(وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) صلاح العمل بالإخلاص فيه ، وما كان كذلك قبله اللّه وأثاب عليه ، وما لا إخلاص فيه ، وما كان كذلك قبله اللّه وأثاب عليه ، وما لا إخلاص فيه فلا ثواب عليه بل عليه العقاب ، فالصلاة والزكاة وأعمال البر إذا فعلت مراءاة للناس لا يتقبلها اللّه كما قال سبحانه « فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ. الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ » .
وروى عن ابن عباس أنه قال : الكلام الطيب ذكر اللّه ، والعمل الصالح : أداء(22/112)
ج 22 ، ص : 113
فرائضه. وعن الحسن وقتادة : لا يقبل اللّه قولا إلا بعمل ، من قال وأحسن قبل اللّه منه.
والخلاصة - إن القول إذا لم يصحبه عمل لا يقبل ، وأنشدوا :
لا ترض من رجل حلاوة قوله حتى يزيّن ما يقول فعال
وإذا وزنت فعاله بمقاله فتوازنا فإخاء ذاك جمال
وقال ابن المقفّع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر.
وبعد أن ذكر أن العمل الصالح يصعد إلى اللّه ، ذكر أن المرائين لا يتقبل منهم عمل ، ولهم عذاب شديد عند ربهم قال :
(وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يمكرون المكر السيّء بالمسلمين ، بأن يعملوا كل ما يكون سببا في ضعف الإسلام والحطّ من قدره حتى يمّحى أثره من الوجود ، كما فعلت قريش في دار الندوة ، إذ تدارست الرأى في شأن النبي صلى اللّه عليه وسلم يحبسه أو قتله أو إجلائه من مكة - لهم العذاب الشديد يوم القيامة.
(وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) أي ومكر هؤلاء المفسدين يظهر زيفه عن قريب لأولى البصائر ، فإنه ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها اللّه تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه اللّه رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، فالمرائى لا يروج أمره ولا يتفق إلا على غبىّ ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم ، بل ينكشف عن قريب ، ويجازون عليه أشد الخزي والهوان.
ثم ذكر دليلا على صحة البعث بما يرى في الأنفس فقال :
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي واللّه خلق الناس من النطفة ، والنطفة من الغذاء ، والغذاء ينتهى آخرا إلى الماء والتراب ، فهم من تراب صار نطفة ، ثم جعلهم أصنافا ذكرانا وإناثا بقدر معلوم بحيث يكاد الفريقان يستويان عددا ، ولو لم يكن كذلك لفنى الإنسان والحيوان ، إذ حفظ النوع لا يتم(22/113)
ج 22 ، ص : 114
إلا بتلك المساواة على وجه التقريب ، ولا تكون المساواة إلا بتدبير وعلم ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي ولا تحمل الأنثى ولا تضع إلا وهو عليم بذلك لا يخفى عليه ، ولو لم يكن كذلك وكانت المصادفة العمياء هى صاحبة السلطان فى هذا العالم ، لم يتم التوازن في العدد بين الزوجين فيفنى الإنسان والحيوان.
ونحو الآية قوله : « اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ » .
(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) أي لا أحد يقضى له بطول العمر إلا وهو بالغ ما قدّر له ، لا يزيد على ذلك ولا ينقص منه ، ولا أحد مقدّر له قصر العمر بزائد على ما قدّر له في الكتاب الذي كتب له ، وذلك لحفظ الموازين فى الأرض حتى ينتظم العمران ، ولو لم يكن على هذا النحو لاختلط الحابل بالنابل ، وساء حال الكون ، إذ يكثر الناس وتزدحم الأرض ويشتد الكرب ، ومن ثم تفاوتت الأعمار في جميع الأمصار وكانت بمقدار ، واعتدل النظام بالمرض والموت ، والوباء والحرب.
(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) أي إن ذلك النظام البديع للعالم - هيّن على اللّه لعلمه الشامل ، وعدم خفاء شىء عليه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 12 الى 14]
وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)(22/114)
ج 22 ، ص : 115
تفسير المفردات
عذب : أي حلو لذيذ طعمه ، فرات : أي كاسر للعطش مزيل له ، سائغ : أي سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس ، أجاج : أي شديد الملوحة والحرارة ، حلية : أي لؤلؤا ومرجانا ، مواخر : أي شاقات للماء حين جريانها ، يولج : أي يدخل ، والقطمير : لفافة النبواة ، وهى القشرة البيضاء الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة ، يكفرون بشرككم :
أي يجحدون بإشراككم إياهم وعبادتكم لهم ، ولا ينبئك مثل خبير : أي ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل الخبير به.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الأدلة على إثبات البعث وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها - أردف هذا ذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع ، فهذا ماء عذب ذلال يجرى فى الأقاليم والأمصار ، والبراري والقفار ، يسقى منه الإنسان والحيوان وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما ، وهذا ماء ملح أجاج تسير فيه السفن الكبار ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان ، ومن كل منهما نأكل لحما طريّا فيه لذة للآكلين ، وهذان ليل ونهار ، ضياء وظلام ، يدخل أحدهما في الآخر فيأخذ هذا من طول ذاك ، ويزيد هذا في قصر ذاك فيعتدلان ، ثم يتقارضان صيفا وشتاء ، وسخر الشمس والقمر والنجوم(22/115)
ج 22 ، ص : 116
الثوابت والسيارات ، كل يجرى بمقدار معين وعلى نهج ثابت لا يتغير ، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم.
أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان فلا يملكون شروى نقير ، ولا يسمعون لكم دعاء ، ولا يستجيبون لدعوة ، ويوم القيامة يتبرءون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم ، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير وهو ربك العليم بما كان وما سيكون.
الإيضاح
(وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) أي وما يعتدل البحران فيستويان : أحدهما عذب سائغ شرابه يجرى في الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار. وثانيهما ملح ساكن تسير فيه السفن الكبار (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) أي ومن كل البحار تأكلون السمك الغض الطرىّ فضلا من اللّه ومنة.
(وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي وتستخرجون الدر والمرجان من الملح الأجاج ومن العذب الفرات ، وتجرى السفن في كل منهما تشقه شقا بحيازيمها حين جريها ، مقبلة مدبرة حاملة أقواتكم من بلد إلى آخر ، فتدفع عنكم المخمصة وتسدّ العوز.
لعلكم تشكرونه سبحانه على تسخيرها لكم ، تتصرفون فيها كيف شئتم ، وتذهبون فيها إن أردتم.
ولما كان بين الفلك في البحر والشمس والقمر في مدارهما مناسبة ، فإن كلا منهما سارح في تلك العوالم الشاسعة - أردفه ذكر الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر فقال :
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) أي يدخل الليل في النهار فيكون(22/116)
ج 22 ، ص : 117
النهار أطول من الليل ساعة فأكثر ، ويدخل النهار في الليل فيكون الليل أطول من النهار كذلك.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وأجرى لكم الشمس والقمر ، نعمة منه عليكم ورحمة بكم ، لتعلموا عدد السنين والحساب ، ولتسكنوا في الليل ، وتبتغوا فضلا منه في النهار ، ولا يزالان يجريان هكذا لأجل معلوم ، لا يقصران دونه ، ولا يتعديانه ، وهو يوم القيامة.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) أي ذلكم الذي يفعل هذه الأفعال هو معبودكم الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو ربكم الذي له الملك التام والسلطان المطلق والقهر والجبروت ، وكل من في السموات والأرض فهو عبد له وتحت قبضته وبطشه.
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) أي والذين تعبدونهم من الأصنام والأوثان لا يملكون شيئا ولو كان حقيرا ، بل هم ملك لخالق القوى والقدر.
ثم أكد ما سلف مبينا حقارة شأنهم وعظيم ضعفهم بقوله :
(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ، وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) أي وإن تدعوا هذه الآلهة من دون اللّه لا تسمع لكم دعاء ، لأنهم جماد لا أرواح لهم ، ولو سمعوا ما قدروا أن ينفعوكم ويستجيبوا لشىء مما تطلبون.
والخلاصة - كيف تعبدون من لا ينفع ولا يضر ، وتدعون من بيده النفع والضر ، وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون.
وبعد أن نفى المقتضى للعبادة ، وهو مجىء النفع والضر من قبلهم ، ذكر المانع من عبادتهم وهو كفرهم بهم يوم القيامة فقال :
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي وهم يوم القيامة يتبرءون منكم ويقولون :
ما كنتم إيانا تعبدون ، بل كنتم تعبدون أهواءكم وشهواتكم وما زينته لكم شياطينكم ونحو الآية قوله : « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا : كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا » .(22/117)
ج 22 ، ص : 118
ثم أكد صدق ما حكاه عنهم من أحوالهم بقوله :
(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي ولا يخبرك عن أمر هذه الآلهة وعن أمر عبدتها يوم القيامة إلا ذو خبرة بأمرها وأمرهم ، وهو اللّه الذي لا يخفى عليه شىء كان ، أو سيكون في مستأنف الأزمان.
[سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 18]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
تفسير المفردات
ولا تزر : أي ولا تحمل ، وازرة : أي نفس آثمة ، وزر أخرى : أي إثم نفس أخرى ، والمثقلة : النفس التي أثقلتها الذنوب والأوزار ، ذا قربى : أي ذا قرابة من الداعي ، بالغيب : أي غائبا عنهم ، وتزكى : أي تطهر من دنس الأوزار والذنوب ، والمصير : المرجع والعاقبة
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن ملك السموات والأرض له ، وأن ما يدعون من دونه من الأصنام والأوثان لا يملك شيئا ولا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا - أعقب هذا بما هو فذلكة لما تقدم وكالنتيجة له ، بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه ، فهو الذي تجب عبادته وحده ، لأن النفع والضر بيده لا شريك له ثم بين أنه يوم القيامة(22/118)
ج 22 ، ص : 119
لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، ولا تستطيع دفع ضر عنها ولو كانت ذات قرابة منها ، ثم أرشد إلى أن البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى اللّه ويخاف عقابه ، وأن من يتزكى فنفع ذلك عائد إليه ، وإلى اللّه عاقبة الأمور كلها ومردّها إليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ ، وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي أنتم أيها العباد أولو الحاجة والفقر إلى خالقكم ورازقكم ، فإياه فاعبدوا ، وإلى رضاه فسارعوا ، وهو الغنى عن عبادتكم وعن غيرها ، وهو المحمود على نعمه ، فكل نعمة بكم وبسواكم فهى منه ، فله الحمد والشكر على كل حال.
والخلاصة - أنتم في حاجة إليه وهو ذو الغنى وحده لا شريك له ، والمحمود فى جميع ما يقول ويفعل ويشرع لكم ولغيركم من الأحكام.
ثم أرشد إلى غناه وإلى قدرته الكاملة بقوله :
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) أي إن يشأ ربكم أن يهلككم أهلككم ، لأنه هو الذي أنشأكم من غير حاجة به إليكم ، ويأت بخلق سواكم يطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون عما نهاهم عنه ، وما ذلك بصعب على اللّه الخالق لجميع عباده ، بل هو يسير هيّن عليه.
وليس بخاف ما في هذا من تهديد ووعيد ، وزجر وتأنيب.
ثم أخبر عن أحوال يوم القيامة وأهوالها وشدائدها بقوله :
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) أي ولا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى ، بل تحمل كل نفس وزرها فحسّب ، ولا تنافى بين هذا وما جاء في سورة العنكبوت من قوله سبحانه : « وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ » فإن هذا في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم ، وكل ذلك آثامهم لا آثام غيرهم.(22/119)
ج 22 ، ص : 120
(وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ) أي وإن تسأل نفس ذات ثقل من الذنوب ، من يحمل عنها ذنوبها ؟ لم تجد من يجيبها إلى ما تطلب ولو كان المدعو ذا قرابة لها كأب أو ابن ، إذ كلّ مشغول بنفسه ، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ونحو الآية قوله : « لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً » وقوله : « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » قال عكرمة : إن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بنىّ : أىّ والد كنت لك ؟ فيثنى خيرا فيقول له يا بني إنى قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ، ولكنى أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة : أىّ زوج كنت لك ؟ فنثنى خيرا فيقول لها إنى أطلب إليك حسنة واحدة تهبينها لى لعلى أنجو بها مما ترين ، فتقول ما أيسر ما طلبت. ولكنى لا أطيق أن أعطيك شيئا ، إنى أتخوف مثل الذي تتخوف ثم سلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم على عدم قبولهم دعوته وإصرارهم على عنادهم فقال :
(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي إنما يجدى النصح والإنذار لدى من يخشون اللّه ويخافون شديد عقابه يوم القيامة من غير معاينة منهم لذلك ، بل لإيمانهم بما أتيت به وتصديقهم لك فيما أنبأت به عن ربك ، فهؤلاء هم الذين ينفعهم إنذارك ويتعظون بمواعظك ، لا من طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يفقهون - إلى أنهم يؤدون الصلاة المفروضة عليهم ويقيمونها على ما رسمه الدين ،(22/120)
ج 22 ، ص : 121
فهى التي تطهر قلوبهم وتقربهم من ربهم حين مناجاتهم له كما
جاء في الحديث « اعبد اللّه كأنك تزاه فإن لم تكن تراه فإنه يراك »
والخلاصة - إنه إنما ينفع إنذارك وتخويفك من يخشى بأس اللّه وشديد عقابه ، دون من عداهم من أهل التمرد والعناد.
ثم حث على الأعمال الصالحة وأبان أن فائدتها عائدة إليهم فقال :
(وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) أي ومن يتطهر من أدناس الشرك وأوضار الذنوب والمعاصي فنفع ذلك عائد إليه كما أن من يتدسى بالذنوب والآثام فضرّ ذلك راجع إليه ، وإلى اللّه مصير كل عامل وهو مجازيه بما قدم من خير أو شر على ما جنى وأثّل لنفسه.
[سورة فاطر (35) : الآيات 19 الى 26]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
تفسير المفردات
الحرور : السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار ، خلا :
أي سلف ومضى ، ونذير : أي منذر مخوف وهو النبي ، والبينات : أي المعجزات(22/121)
ج 22 ، ص : 122
الدالة على صدقهم فيما يدعون ، والزبر : واحدها زبور وهو الكتاب ، النكير : الإنكار بالعقوبة ..
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه طريق الهدى وطريق الضلالة وذكر أن المستعد للإيمان قد اهتدى بهدى النذير ، والجاحد المعاند قسا قلبه ولم يستفد من هديه - ضرب مثلا به تنجلى حاليهما ، ثم ذكر أن الهداية بيد اللّه يمنحها من يشاء ، وأن هؤلاء المشركين كالموتى لا يسمعون نصيحة ولا يهتدون بعظة ، وأن اللّه لم يترك أمة سدى ، بل أرسل الرسل فمنهم من أجاب دعوة الداعي ونجا ، ومنهم من استكبر وعصى ، وكانت عاقبته الوبال والنكال في الدنيا والنار في العقبى.
الإيضاح
(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) أي وما يستوى الأعمى عن دين اللّه الذي ابتعث به نبيه صلّى اللّه عليه وسلم ، والبصير الذي قد أبصر فيه رشده فاتبع محمدا صلّى اللّه عليه وسلم وصدّقه وقبل عن اللّه ما ابتعثه به ، وما تستوى ظلمات الكفر ونور الإيمان ولا الثواب والعقاب.
ثم ضرب مثلا آخر لهما فقال :
(وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) أي وما يستوى أحياء القلوب بالإيمان باللّه ورسوله ومعرفة كتابه وتنزيله ، وأموات القلوب بغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن اللّه أمره ونهيه ولا تفرق بين الهدى والضلال ، وكل هذه أمثال ضربها اللّه للمؤمن والإيمان والكافر والكفر.
ونحو الآية قوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ؟ » وقوله : « مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ؟ » .(22/122)
ج 22 ، ص : 123
والخلاصة - إن المؤمن بصير سميع نيّر القلب يمشى على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ، والكافر أعمى وأصم يمشى في ظلمات لا خروج له منها ، فهو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة حتى يفضى به ذلك إلى حرور وسموم ، وحميم وظل من يحموم ، لا بارد ولا كريم.
ثم بين أن الهداية والتوفيق بيده سبحانه وحده فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي إن اللّه يهدى من يشاء إلى سماع الحجة وقبولها بخلق الاستعداد فيه للهداية.
ثم ضرب مثلا لهؤلاء المشركين وجعلهم كالأموات لا يسمعون فقال :
(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) أي فكما لا تقدر أن تسمع من في القبور كتاب اللّه ، فتهديهم به إلى سبيل الرشاد ، لا تقدر أن تنفع بمواعظ اللّه وحججه من كان ميت القلب لا يستطيع فهم كتابه ومعرفة مغازى الدين وأسراره.
والخلاصة - كما لا ينتفع الأموات بعد أن صاروا إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها - كذلك هؤلاء المشركون لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم.
ثم بين عمل الرسول فقال :
(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أي ما أنت إلا منذر عقاب اللّه لهؤلاء المشركين الذين طبع على قلوبهم ، ولم تكلّف هدايتهم وقبولهم ما جئتهم به ، فإن ذلك بيده تعالى لا بيدك ولا بيد غيرك ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن هم لم يستجيبوا لك.
ثم بين سبحانه أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه ، بل بإذن ربه وإرادته وأنه ما جاء إلا بالحق فقال :
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً) أي إنا أرسلناك أيها الرسول بالإيمان بي وحدي ، وبالشرائع التي فرضتها على عبادى ، مبشرا بالجنة من صدقك وقبل منك ما جئت به من عندى ، ومنذرا بعقاب من كذبك وردّ عليك ما أوحى به إليك.(22/123)
ج 22 ، ص : 124
ثم بين فضله سبحانه على عباده ورحمته بهم وأنه لم يتركهم دون أن يبين لهم طريق الهدى والضلال فقال :
(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) أي وما من أمة خلت من بنى آدم إلا وقد بعث اللّه إليهم النذر ، وأزاح عنهم العلل ، كما قال : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » وقال : « وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا » وقال :
« وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ » .
ثم سلّى رسوله على ما يلاقيه من قومه من الإصرار على العناد والتكذيب وأبان له أنه ليس ببدع من بين الرسل فقال :
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) أي وإن يكذبك أيها الرسول مشركو قومك فلا تبتئس بما يفعلون ، فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم رسلهم الذين جاءوهم بالمعجزات الباهرة ، والأدلة القاطعة ، وبالكتب الواضحة كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وزبور داود ، وبعد أن سلاه هدد من خالفوه وعصوه بمثل ما فعل بمن قبلهم من الماضين فقال.
(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي وبعد أن أتاهم الرسل بما أتوهم كذبوهم فيما جاءوهم به فأخذتهم بالعقاب والنكال ، فانظر كيف كان شديد عقابى بهم وإنكارى عليهم ، فإن تمادى قومك وأصروا على إنكارهم واستمروا فى عمايتهم حل بهم مثل ما حل بأولئك : فتلك سنة اللّه لا تبديل لها ولا تغيير.
« سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » .
ولا يخفى ما في هذا من شديد التهديد والوعيد.(22/124)
ج 22 ، ص : 125
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 28]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
تفسير المفردات
ألوانها : أي من أحمر إلى أصفر إلى أخضر إلى نحو ذلك ، الجدد : واحدها جدة (بالضم) وهى الطريق المختلفة الألوان في الجبل ونحوه ، والغرابيب : واحدها غربيب وهو شديد السواد يقال أسود غربيب ، وأبيض يقق ، وأصفر فاقع ، وأحمر قان ،
وفي الحديث « إن اللّه يبغض الشيخ الغربيب »
يعنى الذي يخضب بالسواد ، وقال امرؤ القيس في وصف فرسه :
العين طامحة واليد سابحة والرجل لافحة والوجه غربيب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه دلائل وحدانيته وعظيم قدرته التي أعرض عنها المشركون عنادا واستكبارا - أردف ذلك ذكر ما يرونه من المشاهدات الكونية المختلفة الأشكال والألوان ، لعل ذلك يعيد إليهم أحلامهم وينبه عقولهم إلى الاعتبار بما يرون ويشاهدون.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) يقول سبحانه منبها إلى كمال قدرته : ألم تشاهد أيها الرائي أنا خلقنا الأشياء المختلفة من الشيء(22/125)
ج 22 ، ص : 126
الواحد ، فأنزلنا الماء من السماء وأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وطعومها وروائحها كما هو مشاهد من ألوان الثمار من أصفر إلى أحمر إلى أخضر إلى نحو ذلك ونحو الآية قوله : « وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ » .
(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) أي وخلقنا الجبال كذلك مختلفة الألوان من بيض إلى حمر إلى سود غرابيب كما هو مشاهد ، وفي بعضها طرائق مختلفة الألوان أيضا.
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي وكذلك الناس والدواب والأنعام مختلفة الألوان في الجنس الواحد ، بل الحيوان الواحد قد يكون فيه ألوان مختلفة ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
ونحو الآية قوله : « وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ » .
ولما عدد آياته وأعلام قدرته وآثار صنعه بين أنه لا يعرف ذلك حق المعرفة إلا العلماء بأسرار الكون ، العالمون بدقائق صنعه تعالى ، فهم الذين يفهمون ذلك حق الفهم ، ويعلمون شديد بطشه وعظيم قهره فقال :
(إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) أي إنما يخاف اللّه فيتقى عقابه بطاعته - العالمون بعظيم قدرته على ما يشاء من الأشياء وأنه يفعل ما يريد ، لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته فخافه ورهبه خشية أن يعاقبه.
وقد أثر عن ابن عباس أنه قال : العالم بالرحمن من عباده ، من لم يشرك به شيئا ، وأحلّ حلاله ، وحرّم حرامه ، وحفظ وصيته ، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسبه بعمله.(22/126)
ج 22 ، ص : 127
وقال الحسن البصري : العالم من خشى الرّحمن بالغيب ، ورغب فيما رغب اللّه فيه ، وزهد فيما سخط اللّه فيه ثم تلا الآية.
وعن عائشة قالت : « صنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم شيئا فرخّص فيه ، فتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فخطب فحمد اللّه ثم قال : ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ، فو اللّه إنى لأعلمهم باللّه وأشدهم له خشية » ، أخرجه البخاري ومسلم
ثم بين سبب خشيتهم منه فقال :
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) أي إن اللّه عزيز في انتقامه ممن كفر به ، غفور لذنوب من آمن به وأطاعه ، فهو قادر على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، ومن حق المعاقب والمثيب أن يخشى.
[سورة فاطر (35) : الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
تفسير المفردات
يتلون : أي يتّبعون من قولهم تلاه إذا تبعه ، لأن التلاوة بلا عمل لا نفع فيها ،
وقد ورد : « ربّ قارئ للقرآن والقرآن يلعنه »
والمراد من التجارة المعاملة مع اللّه لنيل الثواب ، وتبور : أي تكسد.
المعنى الجملي
لما بين سبحانه أن العلماء هم الذين يخشون اللّه ويخافون عقابه - أردف ذلك ذكر حال العالمين بكتاب اللّه العالمين بما فرض فيه من أحكام كإقامة الصلاة(22/127)
ج 22 ، ص : 128
وإيتاء الزكاة في السر والعلن ، وأبان أن هؤلاء يرجون ثوابا من ربهم كفاء أعمالهم ، بل أضعاف ذلك فضلا من ربهم ورحمة ، ويطمعون في غفران زلاتهم لأنه الغفور الشكور لهم على ما أحسنوا من عمل.
الإيضاح
إن الذين يتبعون كتاب اللّه ويعملون بما فرض فيه من فرائض فيؤدون الصلاة المفروضة لمواقيتها على ما رسمه الدين بإخلاص وخشية من ربهم ، ويتصدقون مما أعطاهم من الأموال سرا وعلانية بلا بسط ولا إسراف - هؤلاء قد عاملوا ربهم راجين ربخ تجارتهم بنيلهم عظيم ثوابه كفاء ما قدموا من عمل مع الإخبات والإنابة إليه ، ويبتغون فضلا منه ورحمة فوق ذلك ، وغفرانا لما فرط من زلاتهم ، وما اجترحوا من سيئاتهم ، فاللّه هو الغفور لما فرّط من المطيعين من الزلات ، الشكور لطاعاتهم ، فمجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
ونحو الآية قوله : « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ » .
[سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 35]
وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)(22/128)
ج 22 ، ص : 129
تفسير المفردات
الكتاب : هو القرآن ، مصدقا لما بين يديه : أي لما تقدمه من الكتب السماوية ، خبير بصير : أي محيط ببواطن أمورهم وظواهرها ، مقتصد : أي عامل به تارة ، ومخالف له أخرى ، سابق : أي متقدم إلى ثواب اللّه راج دخول جنته ، بالخيرات :
أي بسبب ما يعمل من الخيرات والأعمال الصالحة ، بإذن اللّه : أي بتوفيقه وتيسيره ، والحزن : هو الخوف من محذور يقع في المستقبل ، دار المقامة : أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهى الجنة ، نصب : أي تعب ، ولغوب : أي كلال وفتور.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يتلون كتاب اللّه يوفيهم أجرهم - أكد هذا وقرره بأن هذا الكتاب حق وصدق ، وهو مصدق لما بين يديه من الكتب ، فتاليه مستحق لهذا الأجر والثواب ، ثم قسم هؤلاء الذين أورثوا الكتاب أقساما ثلاثة : ظالم لنفسه ومقتصد ، وسابق بالخيرات ، ثم ذكر جزاء هؤلاء السابقين ، وأنهم يدخلون جنات تجرى من تحتها الأنهار وأنهم يحلّون فيها أساور الذهب واللؤلؤ ، ويلبسون الحرير ، ويقولون حينئذ : الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ، ويقولون :
إنه أحلنا دارا لا نصب فيها ولا تعب.
الإيضاح
(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي إن القرآن الذي أنزلناه إليك هو الحق من ربك ، وعليك وعلى أمتك أن تعمل به وتتبع ما فيه ، دون غيره من الكتب التي أوحيت إلى غيرك ، وهو مصدق لما مضى بين يديه مما أنزل إلى الرسل من قبله فصار إماما لها (إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي إن اللّه خبير بأحوال عباده ، بصير بما يصلح(22/129)
ج 22 ، ص : 130
لهم ، فيشرع لهم من الأحكام ما يناسب أحوال الناس في كل زمان ومكان ، ويرسل من الرسل من هو حقيق بتبليغ ذلك للناس « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » .
(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ، فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من اصطفينا من عبادنا ، وهم هذه الأمة التي هى خير الأمم بشهادة الكتاب « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » وجعلناهم أقساما ثلاثة :
(1) ظالم لنفسه ، مفرّط فعل بعض الواجبات ، مرتكب لبعض المحرمات.
(2) مقتصد مؤدّ للواجبات ، تارك للمحرمات ، تقع منه تارة بعض الهفوات ، وحينا يترك بعض المستحسنات.
(3) سابق بالخيرات بإذن اللّه ، يقوم بأداء الواجبات والمستحبات ، ويترك المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
والخلاصة - إن الأمة في العمل أقسام ثلاثة : مقصّر في العمل بالكتاب مسرف على نفسه. ومتردد بين العمل به ومخالفته. ومتقدم إلى ثواب اللّه بعمل الخيرات وصالح الأعمال بتيسير اللّه وتوفيقه.
وقال الحسن : الظالم الذي ترجح سيئاته على حسناته ، والمقتصد الذي استوت حسناته وسيئاته ، والسابق من رجحت حسناته على سيئاته.
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الميراث والاصطفاء فضل عظيم من اللّه لا يقدر قدره.
وبعد أن ذكر سبحانه أحوال السابقين بيّن جزاءهم ومآلهم بقوله :
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ، وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) أي بساتين إقامة يدخلها هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب واصطفيناهم من عبادنا يوم القيامة ، ويحلون فيها أسورة من ذهب ولآلئ ويكون لباسهم حريرا(22/130)
ج 22 ، ص : 131
(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) أي ويقولون حينئذ : الحمد للّه الذي أذهب عنا الخوف من كل ما نحذر ، وأراحنا مما كنا نتخوف من هموم الدنيا والآخرة.
ثم ذكر السبب في ذهاب الحزن عنهم فقال :
(إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) أي إن ربنا لغفور لذنوب المذنبين ، شكور للمطيعين ،
روى عن ابن عمر رضى اللّه عنهما أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « ليس على أهل لا إله إلا اللّه وحشة في قبورهم ولا في نشورهم ، وكأنى بأهل لا إله إلا اللّه ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون : الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور » .
والخلاصة - إنه أذهب عنهم الحزن من خوف العاقبة ومن أجل المعاش والوساوس الشيطانية.
ولما ذكر سرورهم وكرامتهم بتحليتهم بالحلى وإدخالهم الجنات - ذكر سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها فقال :
(الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) أي إن ربنا لغفور شكور ، لأنه أنزلنا الجنة التي لا تحول عنها ولا نقلة ، ولا يصيبنا فيها تعب ولا وجع ولا إعياء ولا فتور.
والخلاصة - إنهم أتعبوا أنفسهم في العبادة في دار الدنيا فاستراحوا راحة دائمة في الآخرة كما قال : « كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ » .
وقيل للربيع بن خيثمة وقد كان يقوم ليله ويصوم نهاره (أتعب نفسك) فقال :
راحتها أطلب.
[سورة فاطر (35) : الآيات 36 الى 37]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)(22/131)
ج 22 ، ص : 132
تفسير المفردات
لا يقضى عليهم : أي لا يحكم عليهم بموت ثان ، يصطرخون : أي يصيحون أشد الصياح للاستغاثة ، نعمركم : أي نمهلكم ، للظالمين : أي للكافرين ، نصير :
أي معين يدفع عنهم العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن بين ما لعباده الذين أورثوا الكتاب من النعمة في دار السرور التي قال فى مثلها القائل :
علياء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سرّاء
أردف ذلك ذكر ما لأضدادهم من النقمة ، زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بما أوتوا من نعيم زائل وحبور لا يدوم.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) أي والذين ستروا ما تدل عليه العقول من شموس الآيات وأنوار الدلالات ، لهم نار جهنم لا يحكم عليهم فيها بموت ثان فيستريحوا من الآلام ، ولا يخفف عنهم العذاب فيها ، بل كلما خبت زيد سعيرها.
ونحو الآية قوله : « وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ » وقوله : « إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ. لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ » وقوله : « كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً » وقوله : « فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً » .
ثم بين أن هذا جزاء كل كافر بنعمة ربه ، جاحد بوحدانيته فقال :(22/132)
ج 22 ، ص : 133
(كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) أي وهكذا نكافى كل جاحد لآلاء اللّه منكر لرسله ، فندخله نار جهنم بما قدم من سيئات في الدنيا.
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) أي وهم يستغيثون ويضجّون في النار يقولون ربنا أخرجنا منها ، وأعدنا إلى دار الدنيا ، نطعك ونعمل غير الذي كنا نعمل من معصيتك ، وقد علم منهم أنه لو ردهم إلى هذه الدار لعادوا إلى ما نهوا عنه.
وحينئذ يقال لهم تقريعا وتوبيخا.
(أَ وَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ؟ ) أي ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفعون بالحق لا نتفعتم به مدة عمركم ؟
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم « هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ؟ » .
والخلاصة - إنه تعالى لا يجيبكم إلى ما طلبتم ، لأنكم كنتم عصاة ، ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه.
روى أحمد عن أبى هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « لقد أعذر اللّه إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين ، لقد أعذر اللّه تعالى إليه ، لقد أعذر اللّه تعالى إليه » .
(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي وجاءكم الرسول ومعه كتاب اللّه ، ينذركم بالعقاب إن خالفتم أمره ، وتركتم طاعته.
والخلاصة - إنه احتج عليهم بأمرين : طول الأمل ، وإرسال الرسل ونحو الآية قوله : « وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ ، قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ » وقوله : « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا : ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ » .(22/133)
ج 22 ، ص : 134
وقد استبان مما تقدم أنهم لا يخرجون منها ، ومن ثم قال :
(فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) أي فذوقوا عذاب النار جزاء مخالفتكم للأنبياء فى حياتكم الدنيا ، ولن تجدوا لكم ناصرا ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والسلاسل والأغلال.
[سورة فاطر (35) : الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)
تفسير المفردات
ذات الصدور : هى المعتقدات والظنون التي في النفوس ، والخلائف : واحدهم خليفة ، وهو الذي يقوم بما كان قائما به سلفه ، مقتا : أي بغضا واحتقارا ، خسارا :
أي خسارة ، فالعمر كرأس مال إذا اشترى به صاحبه رضا اللّه ربح ، وإذا اشترى به سخطه خسر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أنه ليس للظالمين من ينصرهم ويدفع العذاب عنهم - أردف ذلك بيان أنه محيط بالأشياء علما ، فلو كان لهم نصير في وقت ما لعلمه.
إلى أنه تعالى لما نفى النصير على سبيل الاستمرار ، وكان ذلك مظنة أن يقال كيف يخلّدون في العذاب وقد ظلموا في أيام معدودات - أعقب ذلك بذكر أنه عليم بما انطوت عليه ضمائرهم ، وأنهم صمّموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد ، فمهما طالت أعمارهم فلن تتغير حالهم.(22/134)
ج 22 ، ص : 135
الإيضاح
(إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)
أي إن اللّه عالم ما تخفون أيها المشركون فى أنفسكم وما تضمرون ، وما ستنوون أن تفعلوه ، وما هو غائب عن أبصاركم في السموات والأرض ، فاتقوه أن يطلع عليكم وأنتم تضمرون الكيد لرسوله ، وتريدون إطفاء دينه ، وتنصرون آلهتكم التي لا تنفعكم شيئا يوم القيامة.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)
أي لأنه عليم بما تكنه السرائر ، وما تنطوى عليه الضمائر ، وسيجازى كل عامل بما عمل.
وفي هذا إيماء إلى أنه لو مد أعمارهم لم يرجعوا عن الكفر أبدا ، فلا مطمع فى صلاحهم.
ثم ذكر ما هو سبب آخر لعلمه بالغيب فقال :
(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) أي هو الذي ألقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما في الأرض لتشكروه بالتوحيد والطاعة.
(فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي فمن غمط مثل هذه النعمة العظيمة فإنما يعود وبال ذلك إلى نفسه دون غيره ، لأنه هو المعاقب لا سواه.
ثم فصل ذلك وبيّنه بقوله :
(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً) أي وكلما استمروا في كفرهم أبغضهم ربهم وغضب عليهم.
(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً) أي وكلما اطمأنوا إلى كفرهم خسروا أنفسهم يوم القيامة وحق عليهم سوء العذاب.
والتكرير للتنبيه إلى اقتضاء الكفر لكل من الأمرين القبيحين البغض والخسران على سبيل الاستقلال.(22/135)
ج 22 ، ص : 136
[سورة فاطر (35) : الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
تفسير المفردات
أرأيتم : أي أخبرونى ، شرك : أي شركة ، يمسك : أي يحفظ ، وتزول : أي تضطرب وتنتقل من أماكنها
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه هو الذي استخلفهم في الأرض - أكد هذا بأمره صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول لهم ما يضطرهم إلى الاعتراف بوحدانيته وعدم إشراك غيره منه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي أخبرونى أيها المشركون عن شركائكم الذين تدعونهم من دون اللّه من الأصنام والأوثان - أرونى أىّ جزء من الأرض أو من الأناسى والحيوان خلقوا حتى يستحقوا الإلهية والشركة.
والخلاصة - أعلمتم هذه الآلهة ما هى ؟ وعلى أي حال هى ؟ فإن كنتم تعلمون أنها عاجزة ، فكيف تعبدونها ، وإن كنتم توهمتم فيها القدرة فأرونى أثرها ؟ .
(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي أم لهم شركة مع اللّه في خلق السموات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم.(22/136)
ج 22 ، ص : 137
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ ؟ ) أي أم هناك كتاب أوتوه ينطق بأنا اتخذناهم شركاء ، فهم على حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا.
وخلاصة ما تقدم - أخبرونى عمن تعبدونهم من دون اللّه ، هل استبدوا بخلق شىء من الأرض حتى يعبدوا كعبادة اللّه ، أ ولهم شركة معه في خلق السموات ، وآتيناهم برهانا بهذه الشركة ؟
والخلاصة : إن عبادة هؤلاء إما بدليل من العقل ، ولا عقل يحكم بعبادة من لا يخلق شيئا ، وإما بدليل من النقل ، وإنا لم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء.
وبعد أن نفى ما نفى من الحجج أضرب عن ذلك وبين أن الذي حملهم على الشرك هو تقرير السلف للخلف ، وإضلال الرؤساء للأتباع ، وقولهم لهم : إن هؤلاء شفعاء يشفعون لكم عند اللّه إذا أنتم عبدتموهم ، وإلى هذا أشار بقوله :
(بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً) أي بل إنما اتبعوا في ذلك آراء أسلافهم وضلّالهم ، وما هى إلا غرور وأباطيل.
ولما أبان حقارة الأصنام أرشد إلى عظمته تعالى فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) أي إن اللّه يمنع السموات أن تضطرب من أماكنها ، فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض من مثل ذلك ، ويحفظهما برباط خاص ، وهو ما يسميه العلماء نظام الجاذبية ، فجميع العوالم من الأرض والقمر والشمس والسيارات الأخرى تجرى في مدارات خاصة بهذا النظام الذي وضع لها ، ولو لا ذلك لتحطمت هذه الكرات المشاهدة ، وزالت عن أماكنها ، لكنها به ثبتت فى مواضعها ، واستقرت في مداراتها.
(وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) أي وإن أشرفتا على الزوال ما استطاع أحد أن يمسكهما من بعد اللّه.
والخلاصة - إنه لا يقدر على دوامهما وبقائهما على هذا الوضع إلا اللطيف الخبير(22/137)
ج 22 ، ص : 138
ونحو الآية قوله : « وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ » وقوله :
« وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ » .
(إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) ومن ثم حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم على عظيم جرمهم المقتضى تعجيل العقوبة لهم.
والخلاصة - إنه يحلم وينظر ، ويؤجل ولا يعجّل ، ويستر ويغفر.
[سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 43]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)
تفسير المفردات
وأقسموا : أي حلف المشركون ، جهد أيمانهم : أي غاية اجتهادهم فيها ، نذير :
أي رسول منذر أهدى من إحدى الأمم : المراد بها اليهود أو النصارى ، نفورا : أي تباعدا عن الحق ، مكر السيّء : أي المكر السيّء الذي فيه خداع وكيد لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يحيق : أي ولا يصيب ولا ينزل ، سنة الأولين : أي سنة اللّه فيهم بتعذيب مكذبيهم ، تبديلا : بوضع الرحمة موضع العذاب ، تحويلا : بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تكذيبهم للتوحيد بإشراكهم الأوثان والأصنام ، وبكّتهم على هذا أشد التبكيت ، وضرب لهم الأمثال ، ليبين لهم سخف عقولهم ، وقبح معتقداتهم ،(22/138)
ج 22 ، ص : 139
أردف ذلك ذكر إنكارهم للرسالة بعد أن كانوا مترقبين لها ، ناعين على أهل الكتاب تكذيب بعضهم بعضا ، فقالت اليهود : ليست النصارى على شىء ، وقالت النصارى :
ليست اليهود على شىء ، ثم هددهم بأن عاقبتهم ستكون الهلاك الذي لا محيص عنه ، وتلك سنة اللّه في الأولين من قبلهم ، وسنته لا تبديل فيها ولا تحويل.
الإيضاح
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) أي وأقسم المشركون باللّه أغلظ الأيمان ، وبالغوا فيها أشد المبالغة : لئن جاءهم من اللّه رسول ينذرهم بأسه ، ليكونن أسلك لطريق الحق وأشد قبولا له من أىّ أمة من الأمم التي خلت من قبلهم.
(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) أي ولكن حين جاءهم الرسول انعكست الآية ، فما زادهم مجيئه إلا بعدا من الإيمان باللّه ، وانصرافا عن الحق ، واستكبارا عن اتباع آياته ، ومكروا بالناس مكرا سيئا فصدوهم عن سبيله.
والخلاصة - إنه تبين أن لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أو في الناس ، ولا صدق لهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق ، وصار مثلهم مثل الإبل التي نفرت من ربها ، فضلت عن الطريق ، فدعاها فازدادت بدعائه نفرة ، وصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها.
ثم بين أن عاقبة مكرهم عادت عليهم بالوبال بقوله :
(وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي ولا يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
روى الزهري أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « لا تمكروا ولا تعينوا ما كرا فإن اللّه يقول : « وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ » ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا(22/139)
ج 22 ، ص : 140
فإن اللّه سبحانه يقول « إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » ولا تنكثوا ولا تعينوا ناكثا فإن اللّه يقول : « فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ » .
وقد وقع مثل هذا في كلام العرب فقد قالوا : من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا والعبرة في الأمور بالعواقب ، واللّه يمهل ولا يهمل ، ووراء الدنيا الآخرة ، فإن لم يجاز الماكر في هذه الدار فسيلقى الجزاء في الآخرة « وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ » .
ثم هددهم بأن يحل بهم مثل ما أحل بمن قبلهم من العذاب فقال.
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك إلا أن أحل بهم من نقمتى على شركهم بي وتكذيبهم رسولى - مثل ما أحللت بمن قبلهم من أمثالهم الذين كذبوا رسلهم.
ثم علل انتظارهم للعذاب وتهديدهم به بقوله :
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا) أي وهذه سنة اللّه في كل مكذب ، فلا تغير ولا تبدل ، ولن يجعل الرحمة موضع العذاب ، ولن يحوّل العذاب من نفس إلى أخرى كما قال : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » .
[سورة فاطر (35) : الآيات 44 الى 45]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)(22/140)
ج 22 ، ص : 141
المعنى الجملي
بعد أن هدد المشركين بجريان سنته فيهم ، بإهلاكهم كما أهلك المكذبين من قبلهم - نبههم إلى ذلك بما يشاهدونه من آثارهم في رحلاتهم للتجارة في الشام والعراق واليمن ، فقد خلت منهم منازلهم وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد ، وكثرة المال والولد ، وما أغنى ذلك عنهم شيئا ولا دفع عنهم من عذابه لما جاء أمره ، لأنه لا يعجزه شىء إذا أراده.
ثم ذكر حلمه بعباده وأنه لو آخذهم بما اجترحوا من السيئات ما ترك على ظهر الأرض إنسانا يدبّ على وجهها ، لكنه أخّر عقابهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم ويوفى كل عامل جزاء عمله إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، وهو البصير بحال عباده
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) أي أ ولم يسر هؤلاء المشركون باللّه في الأرض التي أهلكنا فيها أهلها ، بكفرهم بنا وتكذيبهم ، رسلنا أثناء رحلاتهم التي يسلكونها إلى طريق الشام فى تجاراتهم ، فينظروا كيف كانت عاقبتهم - ألم نهلكهم ونخرب مساكنهم ونجعلهم مثلا لمن بعدهم ، فيتعظوا بهم ويزدجروا عما هم عليه من الشرك بعبادتهم الآلهة من الأوثان والأصنام ؟
ثم بين أنهم إذا ساروا على تمردهم وعنادهم فهم لا يفلتون من عقابه فقال :
(وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي ولن يعجز اللّه هؤلاء المشركون به المكذبون لرسوله ، فيسبقوه هربا وينجوا من الهلاك إذا هو أراد ذلك بهم ، لأنه لا يعجزه شىء يريده في السموات ولا في الأرض.(22/141)
ج 22 ، ص : 142
وغير خاف ما في هذا من شديد الوعيد وعظيم التهديد لهم.
ثم علل عدم عجزه عن شىء فيهما بقوله :
(إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) أي إنه تعالى عليم بمن يستحق أن تعجّل له العقوبة ومن قد تاب وأناب إلى ربه ورجع عن ضلالته ، قدير على الانتقام ممن شاء منهم ، وعلى توفيق من أراد الإيمان.
ولما كان المشركون يستعجلون بالوعيد استهزاء فيقولون « اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ » بيّن أنه لا يعاجلهم بالعقوبة على ما كسبوا ، لعلهم ينيبون أو ينيب بعضهم إلى ربه ، ويثوب إلى رشده فقال :
(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) أي ولو يعاقب اللّه الناس ويكافئهم بما عملوا من الذنوب واجترحوا من الآثام ما ترك على ظهر الأرض نسمد تدب لشؤم المعاصي التي يفتنّون فيها (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ولكن يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل حدده عنده لا يقصرون دونه ولا يتجاوزونه إذا بلغوه.
(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي فإذا حل ذلك الأجل فإن اللّه يجازى المكلفين بما عملوا من خير أو شر ، لا يخفى عليه شىء من أمرهم ، دقّ أو جلّ ، ظهر أو بطن.
اللهم أحسن أعمالنا ظواهرها وبواطنها ، وتقبل منا ما نعمل مما يرضيك إنك أنت الخبير البصير.(22/142)
ج 22 ، ص : 143
مجمل ما اشتملت عليه السورة الكريمة من حكم وأحكام
(1) الأدلة على قدرة اللّه بإبداعه للكون وأنه المنعم المتفضل.
(2) تذكير الناس بالنعم ليشكروها.
(3) تثبيت فؤاد رسوله بذكر قصص المكذبين للأنبياء والمرسلين.
(4) نداء الناس عامة بأن يتحلّوا بالفضائل ، ويتخلّوا عن الرذائل ، ولا يتبعوا خطوات الشيطان ، وينظروا فيما أبدع الرّحمن ، من الآيات في الأرض والسموات.
(5) ضرب الأمثال لما سلف من القسمين ، وإيضاح الطائفتين المؤمنة والكافرة.
(6) تقسيم المؤمنين إلى علماء محققين ، وصالحين متقين ، ثم تقسيمهم من حيث العمل أقساما ثلاثة.
(7) وصف عاقبة الكافرين والمؤمنين وما يلقاه كل منهما يوم القيامة.(22/143)
ج 22 ، ص : 144
سورة يس
هى مكية إلا قوله : « وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ » فمدنية.
وآيها ثلاث وثمانون ، نزلت بعد سورة الجن.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) إنه لما جاء في السورة السالفة قوله : « وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ » وقوله : « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ » وقد أعرضوا عنه وكذبوه - افتتح هذه السورة بالقسم بصحة رسالته وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم.
(2) إنه قال فيما قبلها « وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى » وقال في هذه : « وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها » وقال : « وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ » .
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)(22/144)
ج 22 ، ص : 145
تفسير المفردات
(يس) : تقدم الكلام في نظائره من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وأن الرأى الرجيح فيها أنها حروف تنبيه نحو ألا ويا ، وينطق بأسمائها فيقال (ياسين).
روى عن ابن عباس أنه قال يس : أي يا إنسان بلغة طيىء.
والحكيم : أي ذى الحكمة ، على صراط مستقيم : أي طريق قويم ، من عقائد صحيحة ، وشرائع حقة ، حق : أي ثبت ووجب ، الأغلال : واحدها غلّ ، وهو ما تشدّ به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد ، والقمح : الذي يرفع رأسه ويغضّ بصره.
قال أبو عبيدة : يقال قمح البعير : إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. من بين أيديهم : أي من أمامهم ، فأغشيناهم : أي فغطّينا أبصارهم ، والذكر : القرآن ، وخشى الرّحمن : أي خشى عقابه ، بالغيب : أي قبل حلوله ومعاينة أهواله ، ما قدّموا :
أي ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة ، وآثارهم : أي ما أبقوه بعدهم من الحسنات كعلم علّموه ، أو كتاب ألّفوه ، أو بناء في سبيل اللّه بنوه ، أو من السيئات كغرس بذور الضلالات بين الناس ، فى إمام مبين : أي في أصل يؤتم به.
الإيضاح
(يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي أقسم بالقرآن المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنك أيها الرسول لمن المرسلين لذين هم على دين قويم ، وشرع مستقيم.(22/145)
ج 22 ، ص : 146
(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) أي هذا الصراط المستقيم ، والدين القويم ، تنزيل من ذى العزة والرحمة بعباده.
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ » .
(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) أي إنا أرسلناك لتنذر العرب الذين لم يأتهم نذير من قبلك ، فهم في غفلة عن معرفة الشرائع التي فيها سعادة البشر ، وإصلاح المجتمع.
وذكرهم وحدهم هنا لأن الخطاب كان معهم ، وهذا لا يمنع أنه مرسل إلى الناس كافة كما قال : « قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً » .
(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي لقد وجب العقاب على أكثرهم ، لأنه سبحانه سجل عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون به ، ولا يصدّقون برسوله ، لما علم من خبث نفوسهم وسوء استعدادهم ، فلا تعمر قلوبهم بالإيمان ، ولا تخبت للّه في أي زمان.
ثم ضرب لهم مثلا فقال :
(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى واصلة إلى الأذقان ملصقة بها ، فهم من جراء ذلك مقمحون أي مرفوعو الرءوس ، إذ أن طوق الغلّ الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود خارجا من الحلقة إلى الذقن ، فلا يمكّنه من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحا.
والمراد منعناهم بموانع عن الإيمان تشبه ما ذكر ، فهم غاضو أبصارهم ، لا يلتفتون إلى الحق ، ولا يعطفون أعناقهم نحوه ، ولا يطأطئون رءوسهم له.
ثم أكد ما سبق وزاده بيانا وتفصيلا فقال :(22/146)
ج 22 ، ص : 147
(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي إنه زيّن لهم سوء أعمالهم ، وأعجبوا بأنفسهم ، واستكبروا عن اتباع الرسول ، وشمخوا بأنوفهم ، ولم يخضعوا لما جاءهم به ، وصدّوا أبواب النظر عما ينفعهم ، ولم يقبلوا شيئا سوى ما هم عليه فما مثلهم إلا مثل من أحاط به سدّان من الأمام والخلف فحجباه عن النظر فهو لا يبصر شيئا.
والخلاصة - إنهم محبوسون في سجن الجهالة ، ممنوعون عن النظر في دلائل الأنفس ودلائل الكون ، محرومون عن التأمل فيما حل بمن قبلهم من الأمم الخالية ، والتفكر فيالعواقب المستقبلة.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال :
(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي وسواء على هؤلاء الذين حق عليهم القول ، إنذارك إياهم وتركه ، فإنه قد طبع اللّه على قلوبهم فهم لا يؤمنون ، إذ قد خبثت نفوسهم ، وساء استعدادهم ، وغشّيت أبصارهم فلا تقدر على النظر في الدلائل المشاهدة ، ولا تستطيع التأمل في جمال الكون.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفمّ طعم الماء من سقم
ثم أعقب ذلك بيان من يتأثر بالإنذار فقال :
(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي إنما ينفع إنذارك من آمن بالقرآن ، واتبع ما فيه من الأحكام ، وخشى عقاب اللّه قبل حلوله ومعاينة أهواله ، فإنه سبحانه عظيم الرحمة ، أليم العذاب كما قال : « نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ » .
فبشّر هذا الذي اتبع أحكام الدين ، وخاف العقاب بمغفرة ما فرط منه من الزلات ، وأجر كريم ، ونعيم مقيم ، لا يستطاع وصفه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.(22/147)
ج 22 ، ص : 148
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ » .
ثم ذكر ما يؤكد الخشية من اللّه وخوف عقابه بقوله :
(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي إنا نحيى الموتى جميعا من قبورهم يوم القيامة ، ونكتب ما أسلفوا من عمل ، وتركوا من أثر حسن بعدهم ، كعلم علّموه ، أو حبيس في سبيل اللّه وقفوه ، أو مستشفى لنفع الأمة أنشئوه ، أو أثر سيىء كغرس الأحقاد والأضغان ، وترتيب مبادئ الشر والعدوان بين الأنام.
روى ابن أبى حاتم عن جرير بن عبد اللّه البجلي قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « من سنّ حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ، ثم تلا : ونكتب ما قدّموا وآثارهم »
والمراد من كتابة ذلك مجازاتهم عليه إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
ثم ذكر أن الضبط والإحصاء لا يخص أعمال بنى آدم ، بل يتناول جميع الأشياء فقال :
(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي وبيّنا كل شىء وحفظناه ، فى أصل عظيم يؤتم به ، ويتبع ولا يخالف ، وهو علمنا الأزلى القديم الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ونحو الآية قوله : « عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى » وقوله : « وكلّ شىء فعلوه في الزّبر. وكلّ صغير وكبير مستطر » .
[سورة يس (36) : الآيات 13 الى 27]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)
قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)(22/148)
ج 22 ، ص : 149
تفسير المفردات
ضرب المثل : يستعمل تارة في تشبيه حال غريبة بأخرى مثلها كما في قوله :
«
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ » الآية ، ويستعمل أخرى في ذكر حال غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تشبيهها بحال أخرى نحو قوله : « وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ » أي وبيّنا لكم أحوالا غاية في الغرابة كالأمثال ، والقرية : هى أنطاكية كما روى عن قتادة وعكرمة ، والمرسلون : هم رسل عيسى من الحواريين ، فعززنا : أي فقوّينا وشددنا ، البلاغ المبين : أي التبليغ الواضح الظاهر للرسالة ،(22/149)
ج 22 ، ص : 150
تطيّرنا : أي تشاء منا ، لنرجمنكم : أي لنرمينكم بالحجارة ، طائركم : أي سبب شؤمكم ، مسرفون : أي مجاوزون الحد في العصيان ، أقصى المدينة : أي أبعد مواضعها ، يسعى :
أي يعدو ويسرع ، لا تغن : أي لا تنفع ، ولا ينقذون : أي لا يخلصونى.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين قد ختم اللّه على قلوبهم فهم لا يؤمنون - أردف ذلك ذكر مثل لقوم حالهم كحالهم في الغلوّ في الكفر والإصرار على التكذيب ، والاستكبار على الرسل ، وصم الآذان عن سماع الوعظ والإرشاد ، وهم أهل قرية أنطاكية ببلاد الشام ، فقد كان قصصهم مع رسل اللّه كقصص قومك معك ، فى العناد والاستكبار والعتوّ والطغيان.
الإيضاح
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) أي واجعل أصحاب قرية أنطاكية مثلا لهؤلاء القوم ، إذ أصروا على تكذيب الرسل الذين أرسلوا إليهم كما أصر قومك على تكذيبك عنادا واستكبارا.
والمشهور لدى المفسرين ومنهم قتادة وغيره أن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام من الحواريين بعثهم إلى أهل أنطاكية ، وكان منهم ما قصه اللّه علينا في كتابه.
ويرى ابن عباس واختاره كثير من جلّة العلماء أن الرسل هم رسل اللّه أرسلهم ردءا لعيسى عليه السلام مقررين لشريعته كهرون لموسى عليه السلام ، ويؤيد ذلك.
(1) قولهمَ بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ. وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)
.
(2) إنهم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).
(3) إن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، فقد كانوا أول أهل مدينة آمنت بالمسيح ومن ثم كانت إحدى المدن الأربع اللاتي فيهن بطارقة ، وهن القدس(22/150)
ج 22 ، ص : 151
وأنطاكية والإسكندرية ورومية ، لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم ووطده ، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البطرين من رومية إليها.
ثم فصل ما تقدم وزاده بيانا فقال :
(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي حين أرسلنا إليهم رسولين من عندنا فأسرعوا في تكذيبهما فقويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث فقالوا لأهل القرية : إنا إليكم مرسلون من ربكم الذي خلقكم ، بأن تخلصوا له العبادة ، وتتبرءوا مما تعبدون من الآلهة والأصنام.
والمشهور أن الرسولين الأولين كانا يوحنا وبولس والرسول الثالث شمعون.
ثم ذكر شبهة ، كثيرا ما تمسك بها المكذبون للرسل من الأمم الماضية.
(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) أي قال أصحاب القرية للثلاثة الذين أرسلوا إليهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا من غير مزية دعية لاختصاصكم بما تدّعون ، وما أنزل الرّحمن إليكم رسالة ولا كتابا ولا أمركم فينا بشىء ، ما أنتم إلا كاذبون في قيلكم إنا مرسلون إليكم.
وفي قولهم « ما أنزل الرّحمن » إيماء إلى أنهم يعترفون بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام. وحينئذ رد عليهم الرسل مؤكدين رسالتهم.
(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أي فأجابهم الرسل قائلين : اللّه يعلم إنا رسله إليكم ولو كنا كذبة عليه لا نتقم منا أشد الانتقام ، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عقبى الدار ؟
ونحو الآية قوله : « قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ » .
ثم ذكر الرسل ما أمروا به فقالوا :(22/151)
ج 22 ، ص : 152
(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، فإن أطعتم ربحتم وكانت لكم سعادة الدارين ، وإن لم تجيبوا فستعلمون عاقبة تكذيبكم حين يحيق بكم الوبال والنكال.
والتبليغ المبين إنما يكون إذا صحبته الآيات الباهرة ، والمعجزات الدالة على أنهم رسل من عند اللّه.
والخلاصة - ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ المعزّز بالآيات البينات وقد فعلنا فأىّ شىء تطلبون منا حتى تصدقوا دعوانا ؟ .
ولما ضاقت بهؤلاء المكذبين الحيل ، وأعيتهم الحجج لجئوا إلى التهديد والوعيد.
(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي قالوا إنا تشاء منا من تبليغكم ودعوتكم ، فقد افتتن بعض القوم بكم ، وتفرقت كلمتنا وانفرط عقد وحدتنا ، ولئن لم تنتهوا عن بثّ هذه الدعوة بيننا لنرجمنكم بالحجارة رجما ، ولنمثلن بكم شر التمثيل أو لنعذبنكم عذابا شديدا وأنتم أحياء.
والخلاصة - إنا إما أن نقتلكم أو نلقيكم في غيابات السجون وننكل بكم تنكيلا عظيما.
حينئذ أجابهم الرسل :
(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي قالوا لهم سبب شؤمكم من أفعالكم لا من قبلنا كما تزعمون ، فأنتم أشركتم باللّه سواه ، وأو لعتم بالمعاصي واجترحتم السيئات ، أما نحن فلا شؤم من قبلنا ، فإنا لا ندعو إلا إلى توحيد اللّه ، وإخلاص العبادة له والإنابة إليه ، وفي ذلك منتهى اليمن والبركة.
(أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي أمن جرّاء أنا ذكرناكم وأمرناكم بعبادة اللّه مخلصين له الدين تقابلوننا بمثل هذا الوعيد ؟ بل أنتم قوم ديدنكم الإسراف ومجاوزة الحد في الطغيان ، ومن ثم جاءكم الشؤم ولا دخل لرسل اللّه في ذلك.(22/152)
ج 22 ، ص : 153
والخلاصة - أنتم قوم مسرفون في ضلالكم ، متمادون في غيكم ، تتشاءمون بمن يجب التبرك بهم من هداة الدين ، فقد جعلتم أسباب السعادة أسبابا للشقاء ولا يخفى ما في ذلك من شديد التوبيخ وعظيم التهديد والتنبيه إلى سوء صنيعهم بحرمانهم من الخيرات.
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عن قوم فرعون « فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ » .
ثم أبان أنّ الحق لا يعدم نصيرا ، وأن اللّه يقيّض له من يدافع عنه فقال :
(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وجاء من أطراف المدينة رجل يعدو مسرعا ، لينصح قومه حين بلغه أنهم عقدوا النية على قتل الرسل ، فتقدم للذبّ عنهم ابتغاء وجه اللّه ونيل ثوابه ، قال يا قوم اتبعوا رسل اللّه الذين لا يطلبون منكم أجرا على تبليغهم ولا يطلبون علوا في الأرض ولا فسادا ، وهم سالكون طريق الهداية التي توصل إلى سعادة الدارين.
روى أن هذا الرجل يسمى حبيبا ، وكان نجارا ، قال ابن أبى ليلى : سباقو الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين : على بن أبى طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون.
ورواه الزمخشري حديثا ، وقال ابن كثير إنه حديث منكر.
ثم أبان لهم أنه ما اختار لهم إلا ما اختاره لنفسه فقال :
(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ؟ ) أي وما يمنعنى من إخلاص العبادة للذى خلقنى ، وإليه المرجع للجزاء يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
وفي هذا تقريع لهم بتركهم عبادة الخالق وعبادة غيره ، وتهديد بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب.(22/153)
ج 22 ، ص : 154
ثم أعاد التوبيخ مرة أخرى مبينا عظيم حمقهم فقال :
(أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ ؟ ) أي أ أعبد من دون اللّه آلهة لا تملك من الأمر شيئا ، وهو لو أرادنى بسوء فلا كاشف له إلا هو ، ولا تملك الآلهة دفعه عنى ولا منعه.
(إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إنى إذا فعلت ذلك واتخذت من دونه آلهة لفى ضلال بيّن لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل ، فإن إشراك من لا يخلق وليس من شأنه النفع والضر ، بمن يخلق وهو القادر على كل شى ء - خطأ ظاهر ، وغلط واضح لدى أرباب الأحلام وذوى الحجا.
ثم التفت إلى الرسل وخاطبهم منيبا إلى ربه فقال :
(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) أي إنى آمنت بربكم الذي أرسلكم فاشهدوا لى بذلك عنده.
روى أنه لما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يجد من يدافع عنه.
قال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون ، فلم يزالوا به كذلك حتى فارق الحياة.
ثم ذكر مآل أمره وما قاله حين وجد النعيم والكرامة ، فقال :
(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ، قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) أي قال اللّه له : ادخل الجنة كفاء ما قدمت من عمل وأسلفت من إحسان ، فلما دخلها وعاين ما أكرمه اللّه به لإيمانه وصبره قال : ليت قومى يعلمون بما أنا فيه من نعيم ، وخير عميم ، لإيمانى بربي وتصديقى برسله وصبرى على أذى قومى ، وإنما تمنى علم قومه بحاله ، ليحملهم ذلك على اكتساب المثوبة مثله بالتوبة عن الكفر والدخول فى حظيرة الإيمان والطاعة اتباعا لسنن أولياء اللّه الذين يكظمون الغيظ ويترحمون على الأعداء.(22/154)
ج 22 ، ص : 155
قال ابن عباس : نصح قومه حيا بقوله : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته بقوله : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).
وإلى هنا وقف القلم في تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم. وكان الفراغ منه بمدينة حلوان من أرباض القاهرة قاعدة الديار المصرية في اليوم الثامن عشر من شعبان سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة النبوية.
والحمد للّه على إحسانه وإنعامه ، وصلّ ربنا على محمد وآله الطيبين الأخيار وصحبه الأبرار.(22/155)
ج 22 ، ص : 156
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث 3 مضاعفة ثواب أمهات المؤمنين رضى اللّه عنهن.
5 مكانتهن بين النساء وأمرهن بالقرار في البيوت.
7 من هم أهل البيت ؟
8 ما أعده اللّه للمسلمين والمسلمات من لأجر والكرامة في الدار الآخرة 9 الأوصاف التي يستحق بها عباده الثواب العظيم.
10 أىّ المجاهدين أعظم للّه أجرا ؟ . 11 قصة زينب بنت جحش 12 الحكمة في زواجه صلّى اللّه عليه وسلم بها.
15 ما كانت تفخر به زينب على أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
16 أبوّة محمد صلّى اللّه عليه وسلم للمؤمنين أبوة تعظيم وإجلال.
17 أولاد النبي عليه الصلاة والسلام.
19 أمره عليه الصلاة والسلام باحتمال أذى المشركين وبالتوكل عليه.
20 لا عدّة للمطلقة قبل الدخول.
23 بعض خصائص النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الزواج.
25 تخييره صلّى اللّه عليه وسلم في مضاجعة من شاء من نسائه.
26 نهيه صلّى اللّه عليه وسلم عن زواج غير الموجودات معه ، وعن استبدال غيرهن بهنّ 27 آية الحجاب وما فيها من أحكام وآداب.
28 النهى عن إزعاج النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا كان في الخلوة.
29 يحرم اللبث على المدعوّ إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت.(22/156)
ج 22 ، ص : 157
30 قال عمر : وافقت ربى في ثلاث.
31 منع المؤمن عن نكاح أزواج النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
33 احترام النبي صلّى اللّه عليه وسلم في الملا الأعلى والملإ الأدنى.
35 من نسب إلى مؤمن أو مؤمنة ما لم يعملا فقد اجترح إثما عظيما.
37 أمر النساء بالتستر وإرخاء الجلابيب صيانة لهن عن الأذى.
38 توعد اللّه أصنافا ثلاثة : بالقتال ، والقتل ، أو النفي من الديار.
41 ندم المشركين يوم القيامة وتمنيهم أن لو كانوا أطاعوا اللّه.
44 الأقوال والأفعال التي تكون سبب الفوز العظيم.
46 فعل التكاليف الشرعية وسيلة الظفر والفلاح.
47 أسباب تعدد زوجاته صلّى اللّه عليه وسلم. 48 الأسباب العامة لذلك.
49 الأسباب الخاصة بزواج كل واحدة من أمهات المؤمنين.
52 أسباب إباحة تعدد الزوجات في الإسلام.
53 ما حوته سورة الأحزاب من أغراض ومقاصد.
55 وجه اتصال سورة سبأ بما قبلها.
56 شمول علمه تعالى لكل ما في السموات والأرض.
57 إثبات البعث والجزاء. 58 الحكمة في البعث والجزاء.
59 أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم يعتقدون قيامها ومجيئها.
60 ما قاله المشركون على سبيل التهكم ممن قال بالبعث.
61 ادعاؤهم أن هذه المقالة لا يقولها إلا مفتر أو مجنون.
62 تنبيههم إلى ما يرون من آثار قدرته تعالى.
63 ما آتى اللّه داود من فضل ونعمة. 64 تسخير الريح لسليمان.
66 تسخير الجن. 67 الأرضة دلت على موت سليمان عليه السلام.(22/157)
ج 22 ، ص : 158
70 عقاب المعرضين عن شكر النعم. 71 سدّ مأرب - سدّ العرم 72 الكشف الحديث دل على صدق ما جاء في القرآن.
73 النعم التي أوتيها السبئيون.
74 عقاب أهل سبأ باتباعهم لوساوس الشيطان.
75 طغيانهم في الأرض وإفسادهم إلا قليلا منهم.
76 تأنيب قريش على عبادتها الأوثان والأصنام.
78 الشفاعة لا تنفع إلا لمن أذن اللّه له بها.
79 أمر الرسول بأن يقول للمشركين : علىّ إجرامى وعليكم إجرامكم ، والحاكم بيننا هو اللّه.
82 رسالة محمد صلّى اللّه عليه وسلم عامة للأسود والأحمر.
83 استعجال المشركين للعذاب تهكما وازدراء.
84 إنكار المشركين للقرآن والكتب التي قبله.
85 الحوار الذي بين المشركين ومعبوديهم يوم القيامة.
86 تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلم على إنكار مترفى قومه له ، وبيان أنهم ليسوا ببدع في ذلك.
88 سعة الرزق لا تدل على رضا اللّه عن المرء ولا غضبه عليه.
89 العمل الصالح مع الإيمان هو الزلفى عند اللّه.
90 في الحديث : « اللهم أعط منفقا خلفا ، وممسكا تلفا » .
91 أكثر المشركين مؤمنون بالجن مصدقون لهم فيما يقولون.
94 قال المشركون : القرآن إفك مفترى وإنه سحر بين.
95 ما ردّ به سبحانه على هذه المقالة.
96 طالب اللّه الكفار بالتريث في هذا الحكم ليعلموا الحق.
97 سبب نزول الآية (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ).(22/158)
ج 22 ، ص : 159
98 العدة بنشر الإسلام وتبلج نوره.
99 « إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا » الحديث.
101 أن لهم الإيمان يوم القيامة وقد كفروا من قبل ؟
104 الأجنحة - فى العالم المادي تساعد على الطيران ، وفي عالم الأرواح ترشد إلى القدرة.
105 ما كان يقوله صلّى اللّه عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة وبعد الرفع من الركوع 106 الأمر بذكر النعم والشكر عليها.
107 تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بأنه ليس ببدع بين الرسل.
109 لحزب الشيطان العذاب الشديد ولحزب اللّه المغفرة.
110 ضرب المثل على تحقق البعث والنشور.
113 لمن سعى في ضعف الإسلام عذاب شديد واللّه يحبط عمله.
114 الآجال والأعمار أحصاها اللّه في كتاب.
115 البراهين الدالة على الوحدانية والقدرة.
117 النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان.
118 من أصول الدين أن لا تزر وازرة وزر - أخرى.
119 البشارة والإنذار إنما تجدى نفعا لدى من يخشى اللّه.
120 تسلية الرسول عن عدم قبول المشركين دعوته.
121 لم يترك اللّه أمة سدى بلا نذير. 123 الهداية والتوفيق بيد اللّه سبحانه.
124 قومك ليسوا ببدع في الأمم. 125 الاعتبار بالآيات الكونية.
126 لا يعلم بديع صنع اللّه إلا العالم بأسرار الكون.
128 الذين يتبعون أحكام الدين لهم تجارة لن تبور.
129 القرآن الكريم مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية.(22/159)
ج 22 ، ص : 160
130 المؤمنون أقسام ثلاثة.
131 المؤمنون حين يدخلون الجنة يقولون : الحمد للّه الذي أذهب عنا الحزن.
132 الكافرون يوم القيامة يطلبون العودة إلى الدنيا ليعملوا صالحا.
133 ما أجيبوا به عن هذا الطلب. 134 علم اللّه تعالى محيط بجميع الأشياء.
136 تبكيت المشركين على عبادة الأوثان.
137 نظام الجاذبية.
139 إنكارهم لرسالة النبي صلّى اللّه عليه وسلم بعد أن كانوا مترقبين لها.
140 تهديد المشركين بحلول العقاب كما حل بمن قبلهم.
141 تنبيهم إلى آثار الغابرين الذين خلوا من قبلهم.
142 لو يؤاخذ اللّه الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة.
143 مجمل ما حوته سورة فاطر من حكم وأحكام.
144 وجه اتصال سورة يس بما قبلها.
145 المراد بياسين.
146 جعل الأغلال في عنق أهل النار.
147 لا فائدة في إنذار هؤلاء المشركين.
148 من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده.
149 ضرب المثل بأهل أنطاكية.
150 من رسل اللّه الذين أرسلوا إلى أهل أنطاكية ؟
151 مقالة أهل القرية للرسل.
152 ما ردّ به الرسل عليهم.
153 الحق لا يعدم نصيرا.
154 مآل أمر ذلك الواعظ.(22/160)
ج 23 ، ص : 1
الجزء الثالث والعشرون
[تتمة سورة يس ]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الثالث والعشرون(23/1)
ج 23 ، ص : 2(23/2)
ج 23 ، ص : 3
الجزء الثالث والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة يس (36) : الآيات 28 الى 32]
وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)
تفسير المفردات
الجند : العسكر ، والمراد بهم الجند من الملائكة ، والخمود : انطفاء النار والمقصود به الموت ، والحسرة على ما قال الراغب : الغم على مافات ، والندم عليه كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء ، وإن : بمعنى ما ، ولما : بمعنى إلا ، محضرون : أي للحساب والجزاء.(23/3)
ج 23 ، ص : 4
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا غير مرة : إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي ، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا ، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة - أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له ، ثم ذكر سنة اللّه في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.
الإيضاح
(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى اللّه ونصيحته لهم - من بعد مهلكه جندا من الملائكة ، بل كان الأمر أيسر من ذلك.
وإجمال المعنى : إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى ، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه ، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة ، بل كان أمرهم أهون من ذلك ، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء.
ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله :
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم ، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود.
وفي هذا إيماء إلى أن الحىّ كشعلة النار ، والميت كالرماد ، وإلى هذا يشير لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع(23/4)
ج 23 ، ص : 5
ويقول أبو العلاء :
وكالنار الحياة فمن رماد أواخرها وأولها دخان
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ، كيف كانت الصيحة ، ولا كيف نزل بهم العذاب ، وتفصيل ذلك لا يعنينا ، فالعبرة تحصل بدون بيانه ، إذ المراد انتقام اللّه وعذابه لمن كذب أولياءه ، على أي نحو كان ذلك العذاب.
وفي هذا ما لا يخفى من تهوين أمرهم ، وتحقير شأنهم ، وتفخيم شأن رسل اللّه.
(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المراد بالعباد هنا مكذّبو الرسل ، أي يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل اللّه ومخالفة أوامره.
ثم بين سبب الحسرة والندامة فقال :
(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما جاءهم رسول إلا استهزءوا به وكذبوه ، وجحدوا ما أرسل به من الحق.
والخلاصة : إن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين ، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم ، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية ، وعرّضوها لعذاب مقيم ، وكأنه قيل : يا حسرة احضرى ، فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها.
ولما بين حال الأولين نبه الحاضرين فقال :
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ؟ ) أي ألم يعتبروا بمن أهلك اللّه قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود ، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا كما يعتقد الدّهريّة ، جهلا منهم بأنهم يعودون إليها كما كانوا.
وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبين طريق ذلك ، أعقب هذا بأن لهم حسابا وعقابا فقال :
(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم ماضيها وحاضرها(23/5)
ج 23 ، ص : 6
وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدى اللّه فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها ، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له ، وما أحسن قوله :
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حىّ
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شىّ
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ » .
والخلاصة - إن الناس يجمعون للحساب والجزاء ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.
[سورة يس (36) : الآيات 33 الى 36]
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل - أردف ذلك ما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل ، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا وتنبت من كل زوج بهيج ، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا.(23/6)
ج 23 ، ص : 7
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها بإنزالنا الماء عليها ، فتهتز وتربو وتنبت نباتا مختلفا ألوانه وأشكاله ، وتخرج حبا هو قوت لكم ولأنعامكم ، وبه قوام حياتكم.
(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها بساتين من نخيل وأعناب ، وجعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة تنتشر فيها ، ليأكلوا من ثمر الجنات ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.
ثم لما عدد النعم طلب منهم الشكر فقال :
(أَفَلا يَشْكُرُونَ ؟ ) أي أفلا يشكرون خالق هذه النعم على ما تفضل به عليهم من نعم لا تعدّ ولا تحصى.
ولما أمرهم سبحانه ، بالشكر وشكره تعالى بعبادته وقد تركوها وعبدوا غيره وأشركوا به سواه قال :
(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات ، وخلق من أولادهم ذكورا وإناثا ، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء التي لم يطلعهم عليها ، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفتها تفصيلا ، بل علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله :
« وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ » ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق وسعة ملكه وجلالة قدره.
والخلاصة - تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم من نبات وحيوان وإنسان ، وخالق ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته وفيه الدليل على عظيم قدرته وواسع ملكه - عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته.(23/7)
ج 23 ، ص : 8
[سورة يس (36) : الآيات 37 الى 40]
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
تفسير المفردات
أصل السلخ : كشط الجلد عن الشاة ونحوها واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل وموضع الفاء ظله ، مظلمون : أي داخلون في الظلام ، لمستقر لها : أي حول مستقر لها وهو مركز مدارها ، وقدرناه : أي صيرنا مسيره في منازل ، والمنازل واحدها منزل :
وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة ، عاد : أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس كالعرجون في رأى العين ، والعرجون : هو العود الذي عليه الشماريخ ، فإذا أتى عليه الحول تقوس ودقّ واصفرّ.
قال أعشى بنى قيس :
شرق المسك والعبير بها فهى صفراء كعرجون القمر
ينبغى لها : أي لا يتيسر لها ، أن تدرك القمر : أي تجتمع معه في وقت واحد فتداخله وتطمس نوره ، لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه سيأتى ذكرها بعد ، والفلك :
مجرى الكواكب ، سمى بذلك لاستدارته ، والسباحة : الجري في الماء للسمك ونحوه ، ثم استعمل في سير الكوكب في الفضاء في مداره الخاص.(23/8)
ج 23 ، ص : 9
المعنى الجملي
بعد أن استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال الأرض وما يطرأ عليها من تغير مما هو دليل القدرة الشاملة - أردف ذلك ذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والأجرام السماوية ، وهى مخلوقات عظيمة واقعة تحت قبضته ، يتصرف فيها بعظيم سلطانه.
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن آيات قدرته الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر ، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء : الليل ينزع عنه النهار ، فتأتى الظلمة ، ويذهب النهار ، فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجىء الليل الذي كان الضياء ساترا له.
وفي الضياء سرور ولذة وراحة للنفس ، وسعى على الرزق ، وفي زواله وحشة وانقباض تشعر بألمه النفوس كما أن فيه تركا للعمل الذي به قوام الحياة ، ومن ثم جعل الآية ظهور الليل ولم يجعلها مجىء النهار ، والآية تحصل بكل منهما.
والخلاصة - إن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه ، وفيه عبرة لمن يعى ويفهم ، وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.
(وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي والشمس تجرى حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمى ، فقد ثبت أن لها حركة رحويّة حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية ، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده ، القابض على زمام مخلوقاته ، العليم بأحوالها الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.(23/9)
ج 23 ، ص : 10
(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي وجعلنا لسير القمر منازل ، وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ، فإذا كان فى آخر منازله دقّ وتقوس ، وهذا ما يشير إليه قوله :
(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي يسير في منازله إلى آخرها حتى يدقّ ويتقوس ويصفرّ ويكون كالعود الذي عليه الشماريخ إذا أتى عليه الحول.
(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره ، لأن الشمس تجرى مقدار درجة في اليوم ، والقمر يسير مقدار 13 درجة في اليوم ، ولأن لكل منهما مدارا خاصا لا يجتمع مع الآخر فيه.
(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا تسبق آية الليل وهى القمر ، آية النهار وهى الشمس فيحل سلطانه محلها ، إذ أنهما يجريان بحساب منتظم لا يتغير ولا يتبدل.
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي وكل من : الأرض والشمس والقمر يسبح فى فلكه كما يسبح السمك في الماء ، فالشمس تجرى في مدارها ، والأرض تجرى حول الشمس في سنة وحول نفسها في يوم وليلة ، والقمر يجرى حول الأرض كل شهر.
وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه ، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به ، وكيف يسبح ما لا حرية له ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره ؟
هكذا كان الرأى عندهم ، ولكن رأى علماء الفلك المحدثين : أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير ، فهى إذا كأنها سمك في بحر لجىّ.
فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت مادل على صحته الكشف(23/10)
ج 23 ، ص : 11
الحديث ، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين.
وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي المصري بحلوان أن يدلى إلىّ بما أثبته علماء الفلك حديثا في النظريات التي تضمنتها الآيات ، فكتب إلىّ مايلى :
الآية الأولى
من آيات اللّه وبديع صنعه تعاقب الليل والنهار دائبين. وقد جاء ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم ، لما لهذه الظاهرة الفلكية من الأهمية العظمى في حياة الجنس البشرى وكافة الأحياء التي على ظهر البسيطة ، فهى من الأمور الجديرة بالتفكير للاستدلال بها على عظمة الخالق جل شأنه فالليل يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل ، نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق ، فتشرق الشمس على بعض الآفاق ، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام تام بديع.
الآية الثانية
وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة - ثبت لدى العلماء أخيرا أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين :
إحداهما : حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا وتدل عليها أرصاد كلف الشمس وهى نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر ، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح ، وتقطع المسافة بين حافتى القرص في زمن قدره 13 يوما.
ثانيتهما : دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومى بسرعة تقدر بنحو مائتى ميل في الثانية ، فالشمس(23/11)
ج 23 ، ص : 12
واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومى ، والذي ثبت أنه يدور حول مركزه ، ونظرا لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية.
والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر لجسم متحرك حركة دورانية ، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله ، أو مركز المدار الدائرى لهذه الحركة ، ففى الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط الواصل بين قطبى الشمس ، وفي الحالة الثانية :
يكون هو مركز النظام النجومى بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى.
وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثا أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم.
الآية الثالثة
قسم الفلكيون القدماء النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر ، وقد جاء ذكرها هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى « هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ » .
ولما كانت الشمس تنتقل باستمرار وسط النجوم ، فتحجب عن الرؤية كل النجوم ومجموعات النجوم التي تكون موجودة فوق الأفق نهارا ، نجد أن ما يكون موجودا من منازل القمر فوق الأفق ليلا يتغير تدريجا من ليلة إلى أخرى ، ومن شهر إلى آخر ، وهكذا نجد في معرفة مواقع القمر بالنسبة لهذه المنازل وسيلة لحساب الأوقات.
وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة والشمس ، وأسماؤها هى : الشّرطان ، البطين ، الثريا ، الدّبران ، الهقعة ،(23/12)
ج 23 ، ص : 13
الهنعة ، الذراع المبسوطة ، النّثرة ، الطرف ، جبهة الأسد ، الزّبرة ، الصّرفة العوّا ، السّماك الأعزل ، الغفر ، الزّبانا ، الإكليل ، قلب العقرب ، الشّولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، الفرع المقدم ، الفرع المؤخر ، الرّشاء أو بطن الحوت.
وبعد أن يتم القمر دورته في مداره متنقلا بين منازله هذه يعود كما بدأ هلالا صغيرا مقوسا في بادئ الشهر ، ويرى في ضوء الشفق بعد مغيب الشمس ، ويكون لونه مصفرا كعرجون النخل ، لأن مركبات ضوئه الأخرى تشتت في الطبقة الهوائية قبل وصولها إلى عين الراصد ، كما نرى لون الشمس مصفرا حين الشروق ، أو حين الغروب.
الآية الرابعة
المقصود هنا أن اللّه سبحانه بديع السموات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه ، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.
فالشمس كما ذكرنا تدور حول الأرض في حركة ظاهرية تنشأ عن دوران الأرض حولها ، وهى تشبه ما يبدو للمسافر في القطار من حركة الأشجار وأعمدة التلغراف والقرى دون أن يحس بحركته المكتسبة من وجوده في القطار. وهكذا تتحرك الشمس وسط النجوم في مدار واسع نسبيا ، نصف قطره 93 مليون ميل وتتم دورة كاملة في زمن مقداره سنة ، ويدل على هذه الحركة تنقلها وسط البروج بمعدّل برج في كل شهر أو درجة واحدة تقريبا في كل يوم.
أما القمر فمداره حول الأرض أصغر نسبيا ، ويقدر طول نصف قطر مداره بحوالى 24 ألف ميل يقطعه في شهر ، أي بمعدل منزل في كل يوم أو 13 درجة(23/13)
ج 23 ، ص : 14
فى اليوم ، وحركته حول الأرض حركة حقيقية ، ويمكن ملاحظتها بسهولة من مراقبة موقعه بين النجوم ليلة بعد أخرى.
وفضلا عن ذلك فالمداران السالفا الذكر ليسا في مستوى واحد ، بل يميل أحدهما على الآخر ، ولو لا ذلك لتكرر كل من الكسوف والخسوف مرة في كل شهر ، وهكذا يتبين كيف إن لكل من : الشمس والقمر فلكا أو مدارا مستقلا يسبح فيه ا ه.
[سورة يس (36) : الآيات 41 الى 44]
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
تفسير المفردات
الذرية : أصلها صغار الأولاد ، ثم استعملت في الصغار والكبار ، ويقع على الواحد والجمع وهى من ذرأ اللّه الخلق فتركت همزته نحو بريّة ، الفلك : السفينة ، المشحون : المملوء ، ما يركبون : هى الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل ، فلا صريخ :
أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه على سبيل المنة على عباده أنه أحيا الأرض وهى مكان الحيوان - أردف ذلك ذكر نعمة أخرى على الإنسان ، وهى أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر ويسير فيه كما يسير في البر جلبا لأرزاقه وتحصيلا لأقواته من أقاصى البلاد فى أنحاء المعمورة.(23/14)
ج 23 ، ص : 15
الإيضاح
(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن آيات قدرته الدالة على رحمته بعباده أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ليستفيدوا مما تحمله من الأقوات وسائر حاجهم المعيشية ، ولو لا ذلك لما بقي للآدمى نسل ولا عقب من بعده.
ونحو الآية قوله : « أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ » .
(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية سفنا برية ، وهى الإبل التي تسير في الصحارى كما قال شاعرهم :
سفائن برّ والسراب بحارها
ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع المختلفة والذخائر الحربية ، ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب ، وهذا من إعجاز الكتاب الكريم.
ونحو الآية : « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ » .
ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن فقال :
(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وينجيهم من الموت ، ولكن رحمة منّا بهم وتمتيعا لهم إلى حين بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم وحفظناهم من الغرق ، وإلى هذا أشار بقوله :
(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).(23/15)
ج 23 ، ص : 16
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 47]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق - أردف هذا ذكر إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم مما فيه تحذيرهم بأن يحلّ بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم ، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق اللّه ، إذ قيل لهم أنفقوا فلم يفعلوا.
الإيضاح
(وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزّل اللّه من الآيات : احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم اللّه ومثلاته التي حلّت بمن قبلكم من الأمم ، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله - وما خلفكم أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه ، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات - أعرضوا نأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.
ثم بين أن الإعراض ديدنهم ، وليس ببدع منهم فقال :
(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجىء هؤلاء المشركين حجة من حجج اللّه الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا(23/16)
ج 23 ، ص : 17
بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدى إلى الإيمان به ، ومعرفة صدق رسوله.
والخلاصة - إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع اللّه وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين ، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها ، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.
وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال :
(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم اللّه على الفقراء والمحاويج من المسلمين قالوا لمن طلب منهم ذلك : لو شاء اللّه لأغناهم وأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة اللّه فيهم.
وفي قوله : مما رزقكم اللّه ، ترغيب في الإنفاق على نهج قوله : « وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ » وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر ، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد اللّه.
وإجمال ذلك - إنهم لم يعظّموا الخالق ولم يشفقوا على المخلوق.
ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الآمر على الإنفاق ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه فقال :
(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم أيها القوم في قيلكم لنا أنفقوا مما رزقكم اللّه على مساكينكم - إلا في جور بيّن وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.
وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر ، إذ تراهم دائما يقولون : لا نعطى من حرمه اللّه ، وتلك فرية منهم ، لأن اللّه أغنى بعض الخلق ، وأفقر بعضا ، ابتلاء منه لعباده ، ولأسباب نحن لا نعلمها لا بخلا منه وشحا ، وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء ليس لحاجة منه إلى ما لهم ، بل ليبلوهم ويرى أ يمتثلون الأمر ويؤدون الواجب ، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين ؟ .(23/17)
ج 23 ، ص : 18
ولا ينبغى لأحد أن يعترض على مشيئة ربه ، لأنه يجهل أسباب ما يشاهد ويرى في الكون.
[سورة يس (36) : الآيات 48 الى 54]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
تفسير المفردات
متى هذا الوعد : أي متى يتحقق ويجىء ما وعدنا به ؟ ينظرون : أي ينتظرون ، صيحة واحدة : هى النفخة الأولى في الصور بها يموت أهل الأرض جميعا ، ونفخ فى الصور : أي النفخة الثانية ، والأجداث : واحدها جدث (بفتحتين) القبر ، ينسلون : أي يسرعون ، والويل : الهلاك ، من مرقدنا : أي موتنا ، محضرون : أي للحساب والجزاء.
المعنى الجملي
بعد أن أمرهم بتقوى اللّه وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات - أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث ، واستعجالهم له ، استهزاء به وسخرية منه ،(23/18)
ج 23 ، ص : 19
ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون ، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ثم ينادون بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ، حين يرون العذاب ويقولون : من أخرجنا من قبورنا ؟ فيجابون بأن ربكم هو الذي قدّر هذا ووعدكم به على ألسنة رسله وسيوفى كل عامل جزاء عمله.
الإيضاح
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء وإنكارا ، متى يحصل هذا البعث الذي تهددوننا به تارة تصريحا وأخرى تلويحا ؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون.
والخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمؤمنين من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه ، الآمرة بالإيمان به.
فأجابهم ربهم :
(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور ، بها يموت أهل الأرض جميعا تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها.
ونحو الآية قوله : « فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » .
روى ابن جرير عن ابن عمر قال : « لينفخنّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه ، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهى التي قال اللّه (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) » .
وأخرج الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنّ(23/19)
ج 23 ، ص : 20
الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه ، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها » .
ثم بين سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر أو هى أقرب فقال :
(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي فلا يستطيعون أن يوصوا فى أموالهم أحدا ، إذ لا يمهلون بذلك ، ولا يستطيع من كان منهم خارجا من أهله أن يرجع إليهم ، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى ربهم.
ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور فقال :
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور ، والخروج من القبور ، فإذا هم جميعا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ » .
ثم ذكر أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث ، كما حكى عنهم بقوله :
(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا ؟ ) أي قالوا يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه ، من بعثنا من قبورنا بعد موتنا ؟ حينئذ يجيبهم المؤمنون فيقولون لهم :
(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا الذي ترون ما وعد به الرّحمن وصدق في الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد اللّه ووعيده.
وهم قد سألوا عن الفاعل للبعث وأجيبوا بالفعل تذكيرا لهم بكفرهم وتقريعا عليه مع تضمن ذلك الإشارة إلى الفاعل.
ثم بين سرعة بعثهم من القبور فقال :
(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت(23/20)
ج 23 ، ص : 21
إعادتهم أحياء بعد مماتهم إلا نفخة واحدة فإذا هم مجتمعون لدينا قد أحضروا للعرض والحساب لم يتخلف منهم أحد.
ونحو الآية قوله : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله :
« وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ » .
ثم بين ما يكون في ذلك اليوم من الحساب بالعدل والقسطاس فقال :
(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ففى هذا اليوم يوم القيامة لا تبخس نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، ولا يحمل عليها وزر غيرها ، بل توفى كل نفس أجر ما عملت من صالح ، ولا تعاقب إلا بما اكتسبت من طالح ، جزاء وفاقا لما عملت في الدنيا.
[سورة يس (36) : الآيات 55 الى 58]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
تفسير المفردات
الشغل : الشأن الذي يصدّ المرء ويشغله عما سواه من شئونه وأحواله لأهميته لديه ، إما لأنه يحصّل مسرة كاملة أو مساءة عظيمة ، الفاكه : الطيب النفس الضحوك قاله أبو زيد ، والظلال : واحدها ظل وهو ضد الضّح (ما تصيبه الشمس) والأرائك :
واحدها أريكة وهى سرير منجّد مزيّن في قبة أو في بيت ، يدّعون : أي يطلبون.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن ذلك اليوم كائن لا محالة ، وأنه سيأتى بغتة من حيث يشعر به أحد ، فما هو إلا صيحة واحدة فإذا الناس خارجون من قبورهم ينسلون -(23/21)
ج 23 ، ص : 22
أردف ذلك بيان ما أعده للمحسن والمسيء في هذا اليوم من ثواب وعقاب ، ليكون فى ذلك ترغيب في صالح الأعمال ، وترهيب من فعل الفجور واجتراح السيئات.
الإيضاح
(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي إن من يدخل الجنة يتمتع بنعيمها ولذاتها ، ويكون بذلك في شغل عما سواه ، إذ يرى ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فأنى له أن يفكر فيما سواه ؟ وهو بذلك فرح مستبشر ضحوك السن هادىء النفس ، لا يرى شيئا يغمه أو ينغّص عليه حبوره وسروره.
ثم ذكر ما يكمل به تفكههم ويزيد في سرورهم فقال :
(هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) أي هم وأزواجهم في ظل لا يضحون لشمس ، لأنه لا شمس فيها (وألذ شىء لدى العربي أن يرى مكانا فيه ظل ظليل ، وأنهار جارية ، وأشجار مورقة) وهم فيها متكئون على السرر عليها الحجال (الناموسيات) وهذا منتهى ما تسمو إليه النفوس من لذة لدى من نزل عليهم التنزيل.
وبعد أن ذكر ما لهم فيها من مجالس الأنس - ذكر ما يتمتعون به من مآكل ومشارب ، ولذات جسمانية وروحية فقال :
(لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي لهم فيها من الفواكه مالذ وطاب ، مما تقرّ به أعينهم ، وتسرّ به نفوسهم ، كما هو شأن المترفين المنعمين في الدنيا ، ولهم فوق ذلك كل ما يتمنون وتشتاق إليه نفوسهم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : ادّع علىّ ما شئت أي تمن علىّ وتقول فلان في خير ما ادّعى أي في خير ما تمنى.
ثم فسر الذي يدّعون بقوله :
(سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) أي ذلك الذي يتمنونه هو التسليم من اللّه عليهم(23/22)
ج 23 ، ص : 23
تعظيما لهم ، وهذا السلام يكون بوساطة الملائكة كما قال سبحانه : « وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ » .
والسلام أمان من كل مكروه ، ونيل لكل محبوب ، وذلك منتهى درجات النعيم الروحي والجسماني الذي تصبو إليه النفوس في دنياها وآخرتها ، فكأن هذا إجمال.
لما تقدم من اللذات التي فصلت فيما سلف.
[سورة يس (36) : الآيات 59 الى 68]
وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)
تفسير المفردات
امتازوا : أي انفردوا وابتعدوا عن المؤمنين ، والعهد : الوصية وعرض ما فيه خير ومنفعة ، وعبادة الشيطان : يراد بها عبادة غير اللّه من الآلهة الباطلة ، وأضيفت إلى(23/23)
ج 23 ، ص : 24
الشيطان لأنه الآمر بها والمزيّن لها ، والجبلّ : الجماعة العظيمة ، اصلوها : أي قاسوا حرها ، والختم على الأفواه : يراد به المنع من الكلام ، والطمس : إزالة الأثر بالمحو ، فاستبقوا الصراط : أي ابتدروا إلى الطريق المألوف لهم ، فأنى يبصرون : أي فكيف يبصرون الحق ، ويهتدون إليه ؟ والمسخ تحويل الصورة إلى صورة أخرى قبيحة ، على مكانتهم :
أي في أماكنهم حيث يجترحون القبائح ، ونعمره : أي نطل عمره ، ننكسه في الخلق :
أي نقلبه فيه فلا يزال ضعفه يتزايد ، وانتقاص بنيته يكثر ، بعكس ما كان عليه في بدء أمره حتى يردّ إلى أرذل العمر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما للمحسنين من نعيم واجتماع بالمحبين والإخوان والأزواج في الجنات - أعقبه بذكر حال المجرمين وأنهم في ذلك اليوم يطلب منهم التفرق وابتعاد بعضهم من بعض ، فيكون لهم عذابان : عذاب النار وعذاب الوحدة ، ولا عذاب فوق هذا ، ثم أردف هذا أنه قد كان لهم مندوحة من كل هذا بما أرسل إليهم من الرسل الذين بلغوهم أوامر ربهم ونواهيه ، ومنها نهيهم عن اتباع خطوات الشيطان وعن اتباعه فيما يوسوس به ، ثم ذكر أنه كان لهم فيمن قبلهم من العظات ما فيه مزدجر لهم لو تذكروا ، لكنهم اتبعوا وساوسه ، فحل بهم من النكال والوبال ما رأوا آثاره بأعينهم في الدنيا ، وفيه دليل على ما سيكون لهم في العقبى ، ثم ذكر مآل أمرهم وأنهم سيصلون نار جهنم خالدين فيها أبدا بما اكتسبت أيديهم ، وهم في هذا اليوم لا ينطقون ببنت شفة ، ولا تقبل منهم معذرة ، بل تتكلم أيديهم بما عملت ، وتشهد أرجلهم بما اكتسبت ، ثم ذكر أنه رحمة منه بعباده لم يشأ أن يعاقبهم في الدنيا بشديد العقوبات ، فلم يشأ أن يذهب أبصارهم حتى لو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه ما قدروا ولا أبصروا ، ولم يشأ أن يمسخ صورهم ويجعلهم كالقردة والخنازير حتى لو أرادوا الذهاب إلى مقاصدهم ما استطاعوا ، ولو أرادوا الرجوع ما قدروا ، ثم دفع معذرة أخرى ربما(23/24)
ج 23 ، ص : 25
احتجوا بها وهى أن ما عمّروه قليل ، ولو طال عمرهم لأحسنوا العمل ، واهتدوا إلى الحق فرد ذلك عليهم بأنهم كلما عمّروا في السن ضعفوا عن العمل وقد عمّروا مقدار ما يتمكنون به من البحث والإدراك كما قال : « أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ » ولكن ذلك ما كفاهم ، فهم مهما طالت أغمارهم لا يجديهم ذلك فتيلا ولا قطميرا.
الإيضاح
(وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار ، فلم يبق لكم اجتماع بالمؤمنين أبدا ، ونحو الآية قوله : « وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ » وقوله : « وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ » وقوله : « احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ » .
ولما أمروا بالامتياز وشخصت منهم الأبصار وكلحت الوجوه وتنكست الرءوس قال سبحانه موبخالهم :
(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) أي أ لم أوصكم بما نصبت من الأدلة ، ومنحت من العقول ، وبعثت من الرسل ، وأنزلت من الكتب بيانا للطريق الموصل إلى النجاة - أن تتركوا طاعة الشيطان فيما يوسوس به إليكم من معصيتى ومخالفة أمرى.
ثم علل النهى عن عبادته بقوله :
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه ظاهر العداوة لكم من جراء عداوته لأبيكم آدم من قبل ، ولأنه يوبقكم في مهاوى الردى ، ويوقعكم في مزالق الهلاك.
ولما منع من عبادة الشيطان أمر بعبادته سبحانه فقال :(23/25)
ج 23 ، ص : 26
(وَأَنِ اعْبُدُونِي) وحدي ، وأطيعونى فيما أمرتكم به ، وانتهوا عما نهيتكم عنه.
ثم بين أن ما أمر به ونهى عنه طريق معبّد واضح لا لبس فيه ولا خفاء فقال :
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي نهيتكم عنه من عبادة الشيطان ، وأمرتكم به من عبادة الرّحمن ، هو الصراط المستقيم ، لكنكم سلكتم غيره فوقعتم في مزالق الضلال وتردّيتم في مهاوى الردى.
وبعد أن نبههم إلى أنهم نقصوا العهد وبخهم على عدم اتعاظهم بغيرهم ممن أوقعهم الشيطان في المهالك ، وكانت عاقبتهم ما يرون من سوء المنقلب في الدنيا والآخرة فقال :
(وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) أي ولقد صد الشيطان منكم خلقا كثيرا عن طاعتى وإفرادى بالألوهية فاتخذوا من دونى آلهة يعبدونها.
ثم زاد في توبيخهم والإنكار عليهم فقال :
(أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ؟ ) أي فلم يكن لكم عقل فترتدعوا عن مثل ما كانوا عليه كى لا يحيق بكم من العذاب مثل ما حاق بهم.
وبعد أن أنّبوا ووبّخوا بما سلف خوطبوا بما يزيدهم حسرة وألما فقيل لهم :
(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه هى جهنم التي كنتم توعدون بها على ألسنة الرسل والمبلّغين عنهم إذا أنتم اتبعتم وساوس الشيطان ، وعصيتم الرّحمن ، وعبدتم من دونه الأصنام والأوثان ، واجترحتم الفسوق والعصيان.
ثم أمرهم أمر إهانة وتحقير لهم بقوله :
(اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي احترقوا بها اليوم ، وقاسوا حرها الشديد بسبب جحودكم بها في الدنيا ، وتكذيبكم إياها ، بعد أن نبهتم فلم تنتبهوا ، وأوقظتم فلم تستيقظوا.
وخلاصة ذلك - إنه قد ذكر ما يوجب الحزن والأسى من وجوه ثلاثة :(23/26)
ج 23 ، ص : 27
(1) إنه أمرهم أمر تنكيل وإهانة نحو قوله لفرعون : « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » .
(2) إنه ذكر لفظ (الْيَوْمَ) الذي يدل على أن العذاب حاضر وأن لذاتهم قد مضت وبقي العذاب اليوم.
(3) إن قوله بما كنتم تكفرون يومئ إلى أن هناك نعمة قد كانت فكفروا بها ، وحياء الكفور من المنعم أشد ألما وأعظم مضاضة كما قيل :
أليس بكاف لذى همة حياء المسيء من المحسن
ثم بين أنهم في هذا اليوم لا يستطيعون دفاعا عن أنفسهم وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم فقال :
(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ففى هذا اليوم ينكر الكافرون ما اجترحوا في الدنيا من الشرور والآثام ، ويحلفون أنهم ما فعلوا كما حكى اللّه عنهم من قولهم : « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » فيختم على أفواههم فلا تنطق ببنت شفة ، ويستنطق جوارحهم بما اجترمت من الفسوق والعصيان الذي لم يتوبوا عنه.
ونسب الكلام إلى الأيدى والشهادة إلى الأرجل ، من قبل أن الأولى لها مزيد اختصاص بمباشرة الأعمال ، ومن ثم كثر نسبة العمل إليها في نحو قوله : َوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ »
وقوله : « وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ » وقوله : « بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ » ولا كذلك الثانية فكانت الشهادة بها أنسب ، إذ هى كالأجنبية منها.
وجاء في الخبر : « يقول العبد يوم القيامة إنى لا أجد علىّ شاهدا إلا من نفسى ، فيختم اللّه على فيه ويقول لأركانه : انطقى ، فتنطق بأعماله. ثم يخلّى بينها وبين الكلام فيقول بعدا لكنّ وسحقا ، فعنكنّ كنت أناضل » .(23/27)
ج 23 ، ص : 28
وإذا كان المرء في دار الدنيا المملوءة أكاذيب ونفاقا يخجل فيحمرّ وجهه ، ويوجل فيصفرّ وجهه ويتخذ القضاة من ذلك أدلة على إدانة المتهم. كما نقصّ آثار أقدام اللصوص والجناة ونتبعهم في السهل والجبل حتى إذا عثرنا عليهم قدمناهم للقضاء بشهادة هذه الآثار التي لا اشتباه فيها ، كذلك نختم بأصابغ المجرمين على الورق (البصمة) فلا تشاكل يد يدا ، مما يجعل لذلك أجلّ قيمة في خدمة العدالة.
وإذا كان هذا في عالمنا الجسماني فما بالك بعالم الأرواح التي يكون فيها لكل ذنب أو عمل حسن أثر في النفوس يولد فيها الخير أو الشر ، حتى إذا انفصلت الأرواح من الأجساد ظهر ما انطبع فيها من خير أو شر ؟ وإلى هذا يشير قوله تعالى ذاكرا حال الحساب يوم القيامة : « اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً » فالنفس إذا هى الكتاب الذي لا غش فيه ولا كذب ، فإذا صمت اللسان نطقت الجوارح كما ننطق آثارها اليوم ، أي تدل على المراد أفصح دلالة ، وترشد إلى المقصود أيما إرشاد ، وهذا هو الذي ينبغى أن يفهم في الآية الكريمة.
ثم بين سبحانه أنه قادر على إذهاب الأبصار ، كما هو قادر على إذهاب البصائر فقال :
(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) أي ولو نشاء لعاقبناهم على كفرهم ، فطمسنا على أعينهم ، فصيرناهم عميا لا يبصرون طريقا ، ولا يهتدون إلى شىء.
وإجمال المراد : لو شئنا لأذهبنا أحداقهم ، فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لم يستطيعوا ذلك.
ثم زاد في تهديدهم وتوبيخهم وبيان أنه قادر على منعهم من الحركة فقال :
(وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي ولو أردنا لحوّلناهم عن تلك الحال إلى ما هو أقبح منها ، فجعلناهم قردة وخنازير وهم(23/28)
ج 23 ، ص : 29
فى مساكنهم التي يجترحون فيها السيئات ، فلا يقدرون على ذهاب ولا مجىء ولا غدوّ ولا رواح.
ثم شرع يقطع معذرة لهم ربما احتجوا بها وهى قولهم : إنهم لو عمّروا لأحسنوا العمل فقال :
(وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي إنه كلما طال عمر المرء رد إلى الضعف بعد القوة ، والعجز بعد النشاط.
(أَ فَلا يَعْقِلُونَ ؟ ) أنهم كلما تقدمت بهم السن ضعفوا وعجزوا عن العمل ، فلو عمّروا أكثر مما عمروا ما ازدادوا إلا ضعفا ، فلا يستطيعون أن يصلحوا ما أفسدوا في شبابهم ، وقد عمرناهم مقدار ما يتمكنون من البحث والتفكير ، والتروّى في عواقب الأمور ومصايرها ، فلم يفعلوا ، وجاءتهم النذر فلم يهتدوا ، فمهما طالت أعمارهم فلن يفيدهم ذلك ، ولن يصلح من حالهم قليلا ولا كثيرا.
[سورة يس (36) : الآيات 69 الى 70]
وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)
تفسير المفردات
وما ينبغى له : أي لا يليق به ولا يصلح له ، ذكر : أي عظة من اللّه وإرشاد للثقلين ، حيّا : أي حىّ القلب مستنير البصيرة ، يحق القول : أي يجب العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أمر الوحدانية في قوله : وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ، وذكر أمر البعث في قوله : اصلوها اليوم - ذكرها الأصل الثالث. وهو الرسالة في هاتين الآيتين ،(23/29)
ج 23 ، ص : 30
الإيضاح
(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) الشعر : ضرب من ضروب الكلام ذو وزن خاص ينتهى كل بيت منه بحرف خاص يسمى قافية ، وهو يسير مع العواطف والأهواء ، ولا يتبع ما يمليه العقل والمنطق الصحيح ومن ثم كان مستقر الأكاذيب والمبالغات في الأهاجى والمدائح والتفاخر والتنافر ، فإذا غضب الشاعر أقذع في القول ، وبالغ في الذم ، وضرب بالحقيقة عرض الحائط ، ولا يرى في ذلك ضيرا ، وإذا هو استرضى بعد قليل رفع من هجاه إلى السمّاكين ، وأدخله في زمرة العظماء الشجعان ، أو الكرماء الأجواد إلى نحو هذا مما تراه في شعر الهجائين المداحين حتى لقد بلغ الأمر بهم أن قالوا :
(أعذب الشعر أكذبه).
والقرآن الكريم آداب وأخلاق ، وحكم وأحكام ، وتشريع فيه سعادة البشر فى دنياهم وآخرتهم ، فرادى وجماعات ، فحاشى أن يكون شعرا! أو أن يمت إليه بنسب.
فالمراد من نفى تعليمه الشعر نفى أن يكون القرآن شعرا ، لأن اللّه علمه القرآن وإذا لم يكن المعلّم شاعرا لم يكن القرآن شعرا البتة.
وهذا رد لقولهم : إن القرآن شعر ، وإن محمدا شاعر ، ومقصدهم بهذا أنه افتراء وتخيلات وأباطيل ، وليس وحيا من عند اللّه.
(وَما يَنْبَغِي لَهُ) أي ولا يليق به الشعر ولا يصلح له ، لأنه مبنى كما علمت على الركون إلى الأهواء تبعا لفائدة ترجى ، أو شفاء للنفس من ضغائن الصدور ، أو كبتا لسورة حقد أو حسد بحق أو باطل ، والشرائع والأحكام تنزه عن مثل هذا.
وما اتفق له عليه الصلاة والسلام دون قصد من نحو قوله يوم حنين وهو راكب بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحرث آخذ بزمامها :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب(23/30)
ج 23 ، ص : 31
فلا يسمى شعرا ، لأن مثل هذا يقع في الكلام المنثور ولا يسمى قائله شاعرا.
وقد صح
« أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم أنشد :
ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك ما لم تزود بالأخبار فقال أبو بكر رضى اللّه عنه : ليس هكذا يا رسول اللّه ، فقال عليه الصلاة والسلام إنى واللّه ما أنا بشاعر ولا ينبغى لى » .
وأخرج ابن سعد وابن أبى حاتم عن الحسن « أنه صلّى اللّه عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت هكذا :
كفى بالإسلام والشيب ناهيا للمرء. والرواية : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال أبو بكر : أشهد إنك رسول اللّه ، ما علمك الشعر وما ينبغى لك » .
والخلاصة - إن اللّه تعالى كما جعل رسوله أمّيّا لتكون الحجة أتم ، والبرهان على المشركين أقوم ، كذلك منعه قول الشعر حتى لا يكون لهم حجة أن يدّعوا عليه أن القرآن من المفتريات التي يتقولها ، والأباطيل التي ينمّقها ، وليس بوحي من عند ربه.
وبعد أن نفى عنه أنه شعر وتخيلات أثبت أنه مواعظ ونصائح فقال :
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) أي وما القرآن إلا مواعظ من ربنا ، يرشد بها عباده إلى ما فيه نفعهم وهدايتهم في معاشهم ومعادهم ، نزل من الملإ الأعلى ، وليس من كلام البشر ، فقد تحدى المخالفين أن يأتوا بمثله فما استطاعوا ، فلجئوا إلى السيف والسنان ، وتركوا المقاولة بالحجة والبرهان.
ثم ذكر من ينتفع به فقال :
(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) أي لينتفع بنذارته من كان حىّ القلب ، مستنير البصيرة ، يعرف مواقع الهدى والرشاد ، فيسترشد بهديه ، وليس له من صوارف الهوى ما يصدّه عن اتباع الحق ، ولا من نوازع الاستكبار والإعراض ما يكون حائلا بينه وبين(23/31)
ج 23 ، ص : 32
الهدى ، فهو يتواثب على الإقرار بالحق إذا لاح له بريق من نوره ، فتمتلىء جوانبه إشراقا وضياء ، ويخرّ له مذعنا مستسلما ، وكأنّ طائفا من السماء نزل عليه فأثلج صدره وألان قلبه ، فاطمأنّ له وركن إليه ، وذلك من رزقه اللّه التوفيق والهداية وكتب له الفوز والسعادة.
وبعدئذ بين عاقبة من أعرض عنه فقال :
(وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين به الذين هم كأنهم أموات لخلوهم من النفوس الحساسة اليقظة التي من دأبها اتباع الحق ومخالفة الهوى.
[سورة يس (36) : الآيات 71 الى 73]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه الأدلة على الأصول الثلاثة : الوحدانية والحشر والرسالة - أعاد الكلام في الوحدانية وذكر بعض دلائلها.
الإيضاح
(أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) أي أو لم يشاهد هؤلاء المشركون باللّه الأصنام والأوثان : أنا خلقنا لهم بقدرتنا وإرادتنا بلا معين ولا ظهير - أنعاما من الإبل والبقر والغنم يصرّفونها كما شاءوا بالقهر والغلبة(23/32)
ج 23 ، ص : 33
فهى ذليلة منقادة لهم ، فالجارية الصغيرة إن شاءت أناخت البازل الكبير ، وإن شاءت ساقته وصرّفته كما تريد ، قال العباس بن مرداس :
وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
ثم ذكر منافعها فقال :
(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) أي وسخرنا لهم هذه الأنعام ، فمنها ما يركبون في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار ، ومنها ما ينحرون ، فيأكلون لحومها وينتفعون بدهنها.
(وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ) أي ولهم فيها منافع أخرى غير الركوب والأكل منها ، كالجلود والأصواف والأوبار والأشعار والحراثة وإدارة المنجنون (الساقية) ولهم منها مشارب من ألبانها ونتاجها.
ثم حثهم على الشكر على هذه النعم وتوحيد صانعها فقال :
(أَفَلا يَشْكُرُونَ) نعمتى عليهم ، وإحسانى إليهم ، بطاعتي وإفرادى بالألوهية والعبادة ، وترك وساوس الشيطان ، بعبادة الأصنام والأوثان ؟
[سورة يس (36) : الآيات 74 الى 76]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم كفروا بأنعم اللّه عليهم وأنكروها - أردف ذلك بيان أنهم زادوا في ضلالهم ، وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه(23/33)
ج 23 ، ص : 34
النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال تعالى حاكيا عنهم « قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ » والحقيقة أنها لا هى ناصرة ولا منصورة.
الإيضاح
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) أي واتخذ هؤلاء المشركون من دون اللّه آلهة يعبدونهم ، طمعا في نصرتهم ، ودفع العذاب عنهم ، وتقريبهم إلى اللّه زلفى ثم بيّن بطلان آرائهم ، وخيبة رجائهم ، وانعكاس تدبيرهم فقال :
(لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) أي لا تقدر هذه الآلهة على نصر عابديها ، فهى أضعف من ذلك وأحقر ، ولا تقدر على الاستنصار لأنفسها ، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء ، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل.
(وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا ، وهم لا يسوقون إليهم خيرا ولا يدفعون عنهم ضرا.
والخلاصة - إن العابدين وهم المشركون كالجند ، لحمايتهم والذبّ عنهم في الدنيا ، والمعبودون يوم القيامة لا يستطيعون أن يقدّموا لهم معونة ، ولا يدفعون عنهم مضرّة.
ثم سلّى رسوله على ما يلقاه من قومه من الأذى بنحو قولهم : هو شاعر ، وهو ساحر ، وهو كاهن إلى نحو ذلك من مقالاتهم التي كانوا يجابهون بها الرسول إرادة تحقيره وإهانته فقال :
(فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي فلا يحزنك أيها الرسول قول هؤلاء المشركين من قومك : إنك شاعر وما جئتنا به شعر ، ولا تكذيبهم بآيات اللّه وجحودهم نبوتك.
ثم ذكر أنه سيجازيهم على ما يضمرون في نفوسهم ويتفوهون به بألسنتهم فقال :
(إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) أي إنا نعلم أن الذي يدعوهم إلى قيل ذلك(23/34)
ج 23 ، ص : 35
إنما هو الحسد ، وأنهم يعتقدون أن الذي جئتهم به ليس بشعر ولا يشبه الشعر ، وأنك لست بكذاب.
والخلاصة - إنا نعلم ما يسرون من معرفتهم حقيقة ما تدعوهم إليه ، وما يعلنون من جحود ذلك بألسنتهم علانية ، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم بما يستحقون يوم يجدون جليل أعمالهم وحقيرها حاضرا لديهم.
[سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83]
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)
إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
تفسير المفردات
أولم ير : أي أ ولم يعلم ، والخصيم : المبالغ في الجدل والخصومة إلى أقصى الغاية ، وضرب لنا مثلا : أي وأورد في شأننا قصة عجيبة هى في غرابتها كالمثل إذ أنكر إحياءنا للعظام النخرة ، والرميم : كالرّمّة والرفات ، وبلى : كلمة جواب كنعم تأتى بعد كلام منفىّ ، أمره : أي شأنه في الإيجاد ، والملكوت : الملك التام كالرحموت والرهبوت والجبروت ، والعرب تقول : جبروتى خير من رحموتى.(23/35)
ج 23 ، ص : 36
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الدلائل على عظيم قدرته ، ووجوب عبادته ، وبطلان إشراكهم به ، بعد أن عاينوا فيما بين أيديهم ما يوجب التوحيد والإقرار بالبعث - أردف ذلك ذكر حجة من أنفسهم دالة على قدرته تعالى ومبطلة لإنكارهم له ، ثم ذكر أن بعض خلقه استبعدوا البعث ونسوا بدء أمرهم وكيف خلقوا ، وقالوا : كيف ترجع الحياة إلى هذه العظام النخرة ؟ ، فأجابهم عن شبهتهم بأن الذي أنشأها أول مرة من العدم هو الذي يحييها ، وهو العليم بتفاصيل أجزائها مهما وزعت وتفرّقت ، ثم ذكر لهم دليلا آخر يرفع هذا الاستبعاد ، وهو أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من الماء ، قادر على إعادة الحياة إلى ما كان غضّا طريا ثم يبس وبلى ، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان وفيه الدليل على قدرته ، وهو خلق السموات والأرض ، ثم أعقب ذلك بما هو كالنتيجة لما سلف ، وفيه بطلان لإنكارهم ، فأبان أن كل شىء هيّن عليه ، فما هو إلا بقول (كُنْ فَيَكُونُ) تنزه ربنا ذو الملك والملكوت عن كل ما يقول المشركون ، فإليه يرجع جميع الخلق للحساب والجزاء.
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير وقتادة : « جاء أبىّ بن خلف إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفي يده عظم رميم وهو يفتّه بيده ويذروه في الهواء ويقول : أ تزعم يا محمد أن اللّه يبعث هذا ؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم « نعم يميتك اللّه ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار ، ونزلت هذه الآيات من سورة يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) إلى آخرهن » .
الإيضاح
(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي أو لا يستدل من أنكر البعث بسهولة المبدإ على سهولة الإعادة ، فإن من بدأ خلق الإنسان من(23/36)
ج 23 ، ص : 37
سلالة من ماء مهين ، ثم جعله بشرا سويا يخاصم ربه فيما قال : إنى فاعل ، فيقول : من يحيى العظام وهى رميم ؟ إنكارا منه لقدرته على إحيائها - قادر على إعادته بعد موته وحسابه وجزائه على أعماله.
ونحو الآية قوله : « أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ. فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ. إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ » وقوله : « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ » أي من نطفة من أخلاط متفرقة.
والخلاصة - إنه تعالى خلق للانسان ما خلق من النعم ليشكر ، فكفر وجحد المنعم والنعم ، وخلقه من نطفة قذرة مذرة ليكون متذللا ، فطغى وبغى وتجبر ، وخاصم ربه واستبعد البعث والإعادة.
(وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ : مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ ) أي وذكر أمرا عجيبا ينفى به قدرتنا على إحياء الخلق ، فقال : من يحيى العظام ؟ ونسى خلقنا له ، أ فلم يكن نطفة فجعلناه خلقا سويا ناطقا ؟ ولا شك أن من فعل ذلك لا يعجزه أن يعيد الأموات أحياء ، والعظام الرميم بشرا كهيئتهم التي كانوا عليها قبل الفناء.
وإجمال ذلك - إن بعض المشركين استبعدوا إعادة اللّه ذى القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض للأجساد والعظام الرميم ، ونسوا أنفسهم وأنه تعالى خلقهم من العدم ، فكيف هم بعد هذا يستعبدون أو يجحدون ؟ .
ونحو الآية حكاية عن المشركين : « وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ؟ » وقوله أيضا على طريق الحكاية « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا ، الْأَوَّلُونَ » .
وقد أمر اللّه رسوله أن يجيبهم عن استبعادهم ويبكّتهم بتذكيرهم بما نسوه من حقيقة أمرهم وخلقهم من العدم فقال :(23/37)
ج 23 ، ص : 38
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي قل أيها الرسول لهذا المشرك القائل لك : من يحيى العظام وهى رميم ؟ يحييها الذي ابتدع خلقها أول مرة ولم تكن شيئا وهو العليم بالعظام ، وأين تفرقت في سائر أقطار الأرض ؟ وأين ذهبت ؟
لا يخفى عليه شىء من أمر خلقه ، فهو يعيده على النمط السابق والأوضاع التي كان عليها مع قواه السالفة.
وكان الفيلسوف الإسلامى الملقّب بالفارابي يقول. وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلىّ في قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها) الآية ، إذ تفصيله : اللّه أنشأ العظام وأحياها أول مرة ، وكل من أنشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا - ونتيجة هذا - اللّه قادر على إنشائها وإحيائها بقواها ثانيا ا ه.
ولا شك أن الفارابي إنما يريد القياس الذي يفهمه اليوناني باصطلاحه المنطقي ، وإلا ففى الآية قياس فهمه العربي على أسلوبه في التخاطب الذي يجرى عليه ويقتنع به ، ولكل أمة أساليب في الإقناع والحجاج تسير عليها وتسلك سبيلها ، وقد اقتنع الكثير من العرب بما جاء به في هذا ، ومن جحد فإنما فعل ذلك عنادا واستكبارا.
ثم ذكر دليلا ثانيا يرفع استبعادهم ويبطل إنكارهم فقال :
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) أي وهو الذي بدأ خلق الشجر من ماء حتى صار أخضر ناضرا ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار ، ومن فعل ذلك فهو قادر على ما يريد لا يمنعه شىء ، إذ من أحدث النار في الشجر الأخضر على ما فيه من المائية المضادة للاحتراق ، فهو أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضّا فيبس وبلى.
ثم زكى ذلك بدليل ثالث على قدرته أعجب من سابقيه فقال :
(أَ وَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يقول تعالى منها هذا الكافر الذي قال : من يحيى العظام وهى رميم ؟(23/38)
ج 23 ، ص : 39
إلى خطأ قوله ، وعظيم جهله ، بأنّ خلق مثلكم من العظام الرميم - ليس بأعظم من خلق السموات والأرض ، وإذا لم يتعذر عليه خلق ما هو أعظم منكم ، فكيف يتعذر عليه إحياء العظام بعد ما قد رمّت وبليت ؟ .
والخلاصة - إنه تعالى نبّه إلى عظيم قدرته على خلق السموات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال وقفار وما بين ذلك ، وإلى أن الذي قدر على إيجاد هذه العوالم العظيمة - قادر على إعادة الأجساد بعد البلى.
ونحو الآية قوله : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ » وقوله :
« أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
ثم ذكر ما هو كالنتيجة لما سلف من تقرير واسع قدرته ، وإثبات عظيم سلطانه فقال :
(إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي إنما شأنه تعالى في إيجاد الأشياء أن يقول لما يريد إيجاده : تكوّن فيتكوّن ويحدث فورا بلا تأخير.
وهذا ولا شك تمثيل لتأثير قدرته فيما يريد ، بأمر المطاع لمن يطيعه في حصول الأمور به بلا توقف ولا افتقار إلى مزاولة عمل ولا استعمال آلة.
وبعد أن أثبت لنفسه القدرة التامة والسلطة العامة ، نزّه نفسه عما وصفوه به ، وعجّب السامعين مما قالوه فقال :
(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي تنزه ربنا الحي القيوم الذي بيده مقاليد السموات والأرض - عن كل سوء.
(وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه يرجع العباد يوم المعاد ، فيجازى كل عامل بما عمل ، وهو العادل المنعم المتفضل.(23/39)
ج 23 ، ص : 40
ونحو الآية قوله : « تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ » وقوله : « قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ » .
واللّه يقول الحق وهو يهدى السبيل ، نسألك يا ذا الجلال والإكرام أن تنير قلوبنا بالتبصر في فهم كتابك ، كما أنزت به قلوب عبادك الأبرار ، وأصفيائك الأطهار.
أهم مقاصد هذه السورة
(1) بيان أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم رسول من عند اللّه حقا ، وأنه نذير للأميين وغيرهم.
(2) المنذرون من النبي صلّى اللّه عليه وسلم صنفان : صنف ميئوس من صلاحه ، وآخر قد سعى لفلاحه.
(3) أعمال الفريقين تحصى عليهم ، فتحفظ أخبارهم ، وتكتب آثارهم.
(4) ضرب المثل لهم بأهل أنطاكية ، إذ كذبوا الناصح لهم وقتلوه فدخلوا النار ودخل الجنة بما قدم من إيمان وعمل صالح وهداية وإرشاد.
(5) الدليل الطبيعي والعقلي على البعث.
(6) تبيان قدرة اللّه ووحدانيته وعلمه ورحمته الشاملة.
(7) جزاء الجاحدين على كفرانهم أنعم اللّه عليهم وسرعة أخذهم وندمهم حين معاينة العذاب.
(8) الجنة ونعيمها وما أعد للمؤمنين فيها.
(9) توبيخ الكافرين على اتباعهم همزات الشياطين.
(10) قدرته تعالى على مسخهم في الدنيا وطمس أعينهم.
(11) الانتفاع بالأنعام في المأكل والمشرب والملبس.
(12) إثبات البعث بما أقامه من أدلة في الآفاق والأنفس.(23/40)
ج 23 ، ص : 41
سورة الصافات
هى مكية بلا خلاف في ذلك. نزلت بعد سورة الأنعام. وآيها ثنتان وثمانون ومائتان ، ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إن فيها تفصيل أحوال القرون الغابرة التي أشير إليها إجمالا في السورة السابقة فى قوله : « أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ » .
(2) إن فيها تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة مما أشير إليه إجمالا في السورة قبلها.
(3) المشاكلة بين أولها وآخر سابقتها ، ذاك أنه ذكر فيما قبلها قدرته تعالى على المعاد وإحياء الموتى ، وعلل ذلك بأنه منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشىء كان ، وذكر هنا ما هو كالدليل على ذلك ، وهو وحدانيته تعالى ، إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا إذا كان المريد واحدا كما يشير إلى ذلك قوله : « لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » .
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5)
تفسير المفردات
الصافات : هم جماعة الملائكة يقفون صفوفا لكل واحد منهم مرتبة معينة في الشرف والفضيلة ، والزاجرات زجرا : أصل الزجر الدفع عن الشيء بتسلط وصياح ثم استعمل(23/41)
ج 23 ، ص : 42
فى السّوق والحث على الشيء ، وفي المنع والنهى والمراد بها هنا الملائكة ، لأن لهم تأثيرا في قلوب بنى آدم بزجرهم عن المعاصي وإلهامهم فعل الخير ، والتاليات ذكرا :
هم الملائكة يجيئون بالكتب من عند اللّه إلى أنبيائه ، والمشارق : هى مشارق الشمس بعدد أيام السنة ، فهى في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب في مغرب ، والمغارب كذلك متعددة تعدد المشارق ، ولم يذكرها اكتفاء بتعدد المشارق.
الإيضاح
أقسم سبحانه بالملائكة يتمون صفوفهم في مقام العبودية ، ويردعون الناس عن الشر بالإلهام ، ويتلون آياته على أنبيائه - إن معبودكم الذي يجب إخلاص العبادة له ، لواحد لا ثانى له ولا شريك ، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالطاعة ، وهو خالق السموات والأرض وما بينهما من الخلق ، ومالك ذلك كله وقائم عليه.
وإجمال ذلك - إنه أقسم بملائكته الذين كملت أرواحهم وتجردوا لعبادته ، يسبحونه الليل والنهار لا يفترون ، ويحضون الناس على فعل الخير ، ويدفعون عنهم وسوسة الشيطان ، ويتلون آياته على أنبيائه حين نزولهم بالوحى - إن ربكم لواحد وهو رب السموات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب.
[سورة الصافات (37) : الآيات 6 الى 10]
إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)(23/42)
ج 23 ، ص : 43
تفسير المفردات
الدنيا : مؤنثة الأدنى أي أقرب السموات من أهل الأرض والمارد والمريد ، المتعرى عن الخير من قولهم : شجر أمرد : إذا تعرى من الورق ، يسمعون : أي يستمعون ، والملأ : الجماعة يجتمعون على رأى ، والمراد بهم هنا الملائكة ، يقذفون :
يرجمون ، والدحور : الطرد والإبعاد ، واصب : أي دائم ، والخطفة : الاختلاس والأخذ بسرعة على غرّة ، والشهاب : الشعلة الساطعة من النار الموقدة ، والثاقب : المضيء.
الإيضاح
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) أي إنا جعلنا الكواكب زينة فى السماء القريبة منكم بما لها من البهجة والجمال ، وتناسب الأشكال وحسن الأوضاع ، ولا سيما لدى الدارسين لنظامها ، المفكرين في حسابها ، إذ يرون أن السيارات منها متناسبة المسافات ، بحيث يكون كل سيار بعيدا من الشمس ضعف بعد الكوكب الذي قبله.
(وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) أي وحفظنا السماء أن يتطاول لدرك جمالها ، وفهم محاسن نظامها ، الجهّال والشياطين المتمردون من الجن والإنس ، لأنهم غافلون عن آياتنا ، معرضون عن التفكر في عظمتها فالعيون مفتحة ، ولكن لا تبصر الجمال ولا تفكر فيه ، حتى تعتبر بما فيه.
(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى ) أي إن كثيرا من أولئك الجهال والشياطين محبوسون فى هذه الأرض ، غائبة أبصارهم عن الملأ الأعلى ، لا يفهمون رموز هذه الحياة وعجائبها ، ولا ترقى نفوسهم إلى التطلع إلى تلك العوالم العليا ، والتأمل في إدراك أسرارها ، والبحث في سر عظمتها.
(وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً) أي وقد قذفتهم شهواتهم وطردتهم من كل جانب ، فهم تائهون في سكراتهم ، تتخطفهم الأهواء والمطامع والعداوات والإحن ،(23/43)
ج 23 ، ص : 44
فلا يبصرون ذلك الجمال الذي يشرق للحكماء ، ويبهر أنظار العلماء ، ويتجلى للنفوس الصافية ويسحرها بعظمته ، وهم ما زالوا يدأبون على معرفة هذا السر حتى ذاقوا حلاوته ، فخروا ركعا سجدا مذهولين من ذلك الجمال والجلال.
(وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) أي وأولئك لهم عذاب دائم ، لتقصيرهم عن البحث فى سر عظمة هذا الكون ، والوصول بذلك إلى عظمة خالقه ، وبديع قدرته.
ثم بين من وفقهم اللّه وأنعم عليهم ممن ظفروا بالمعرفة فقال :
(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) أي إلا من لاحت له بارقة من ذلك الجمال ، وعنّت له سانحة منه ، فتخطفت بصيرته كالشهاب الثاقب ، فحنّ إلى مثلها ، وصبت نفسه إلى أختها ، وهام بذلك الملكوت العظيم باحثا عن سر عظمته ، ومعرفة كنه جماله ، وهم من اصطفاهم اللّه من عباده ، وآتاهم الحكمة من لدنه ، وأيدهم بروح من عنده ، وهم أنبياؤه وأولياؤه الذين أنعم عليهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والخلاصة - إن الدنيا بيت فرشه الأرض ، وسقفه السماء ، وسراجه الكواكب ، والبيوت الرفيعة العماد ، العظيمة البناء كما تزين بالأنوار تزين بالنقوش التي تكسبها لألاء وبهجة في عيون الناظرين ، ولكن لن يصل إلى إدراك تلك المحاسن إلا الملائكة الصافّون ، والأنبياء والعلماء المخلصون ، أما الجهال والشياطين المتمردون من الجن والإنس فأولئك عن معرفة محاسنها غافلون ، فلقد يعيش المرء منهم ويموت وهولاه عن درك هذا الجمال ، إذ لا ينال العلم إلا عاشقوه ، وقد تبدو لهم أحيانا بارقة من محاسن هذا الجمال ، فتخطف بصائرهم كالشهاب الثاقب ، فيخطفون منها خطفة يتبعها قبس من ذلك النور يضىء قلوبهم ، وينير ألبابهم ، فيكونون ممن كتب اللّه لهم السعادة ، وقيض لهم التوفيق والهداية ، وممن اصطفاهم ربهم برضوانه ، والفوز بنعيمه « 1 » .
__________________________________________________
(1) وقد نحونا بهذا نحوا آخر يخالف ما في كثير من التفاسير إذ أنهم قالوا إن خطف الخطفة كان من الشيطان حين أراد أن يسترق السمع ويأخذ أخبار السماء فأتبعه شهاب ثاقب فأحرقه ولم يستطع أخذ شىء منها ، وعصم اللّه وحيه وكتابه.(23/44)
ج 23 ، ص : 45
[سورة الصافات (37) : الآيات 11 الى 19]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)
أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
تفسير المفردات
فاستفهم : أي فاستخبر مشركى مكة من قولهم : استفتى فلانا إذا استخبره وسأله عن أمر يريد علمه ، أشد خلقا : أي أصعب خلقا وأشق إيجادا ، لازب : أي ملتصق بعضه ببعض ، وأنشدوا لعلى بن أبى طالب :
تعلّم فإن اللّه زادك بسطة وأخلاق خير كلّها لك لازب
يسخرون : أي يستهزئون ، وإذا ذكروا لا يذكرون : أي وإذا وعظوا لا يتعظون ، آية : أي معجزة ، يستسخرون : أي يبالغون في السخرية والاستهزاء.
المعنى الجملي
افتتح سبحانه هذه السورة بإثبات وجود الخالق ووحدانيته ، وعلمه وقدرته ، بذكر خلق السموات والأرض وما بينهما ، وخلق المشارق والمغارب - وهنا أثبت الحشر والنشر وقيام الساعة ببيان أن من خلق هذه العوالم التي هى أصعب في الخلق منكم ، فهو قادر على إعادة الحياة فيكم بالأولى كما جاء في السورة السابقة « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ » وجاء في قوله : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ »(23/45)
ج 23 ، ص : 46
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا ؟ ) أي سل هؤلاء المنكرين للبعث : أىّ أصعب إيجادا ، أهم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة ؟
والسؤال للتوبيخ والتبكيت ، فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد منهم خلقا ، أي وإذا فكيف ينكرون البعث وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا ، فأين هم بالنسبة لهذه العوالم التي خلقناها ؟ .
ثم زاد الأمر بيانا وأوضح هذا التفاوت فقال :
(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) أي إنا خلقنا أباهم آدم من طين رخو ملتصق بعضه ببعض ، وفي هذا شهادة عليهم بالضعف والرخاوة دون الصلابة والقوة ، فأين هم من كواكب السماء ، وعالم الملائكة ، وتلك العوالم المشرقة ؟ وإذا قدرنا أن نخلق تلك العوالم العظيمة فهل يعجزنا أن نعيد ما هو مخلوق من طين لا يصلح للحياة إلا بإشراق الأنوار عليه ، ووصول الآثار من العوالم الأخرى إليه.
ثم خاطب الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بقوله :
(بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ، ولا يتعجبون من تلك الدلائل ، بل مثلك من يعجب منها ، وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات.
والخلاصة - إن قلوبهم غلف فلا تنظر فيما حولها من البراهين والآيات الدالة على البعث ، ولا تقدر أن تنفذ إلى الإيقان به ، فحالهم عجب ، ويحق لك أن تكثر التعجب منها ، فلقد بلغ من عنادهم وإصرارهم على إنكارهم أن يسخروا من مقالك ، ومن اهتمامك بإقناعهم في وجوب تسليمهم بالبعث والاعتقاد بحصوله.
(وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ) أي وهم لقسوة قلوبهم إذا وعظوا لا تنفعهم العظة ،(23/46)
ج 23 ، ص : 47
لأنه قد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ، فماذا تفيد العبر أو تجدى الذكرى مع قوم هذه حالهم ؟ .
ثم بالغ في ذمهم وشديد غفلتهم عن النظر في دلائل الحق فقال :
(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) أي وإذا أقيمت لهم الأدلة والمعجزات التي ترشد إلى صدق من يعظهم ويذكّرهم بأيام اللّه ، نادى بعضهم بعضا متضاحكين مستهزئين :
هلمّوا وانظروا إلى ما يفعله ذلك الساحر الذي يخلب ألبابنا ، ويسلب عقولنا ، ويريد أن يصدنا عما كان يعبد آباؤنا ، وهذا ما أشار إليه حاكيا قولهم :
(وَ قالُوا : إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وقالوا ما هذا الذي يأتينا به الفينة بعد الفينة مما يدّعى أنه أدلة ظاهرة على صدق ما يدعيه - إلا ألاعيب ساحر ، وخدعة أريب ماهر ، يريد أن يلفتنا عما كان يعبد آباؤنا ، وما هى من دلائل الحق في شىء ، فإياكم أن تخدعوا بها ، وترجعوا عن الدين الحق الذي عليه آباؤكم ، وقد مرت عليه القرون ، ونحن له متبعون.
ثم خصصوا بعض ما ينكرون مما يدعيه من الحشر والبعث فقالوا :
(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ؟ ) أي إنا لو تقبلنا منه بعض ما يقول وإن كان فيه ما يدهش العقول - لا نتقبل منه تلك المقالة ، وهى إحياء العظام النخرة ، والأجسام التي صارت ترابا ، إن هذه إلا إحدى الكبر ، فلا ينبغى أن نوجه النظر إلى مثل هذه الآراء التي لا يقبلها العقل ، ولا يصل إلى مثلها الفكر.
ثم زادوا في استبعادهم وعظيم تعجبهم قالوا :
(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ ؟ ) أي أ يبعث آباؤنا الأولون أيضا ، وهذا أغرب لأن آباءهم أقدم منهم ، فبعثهم أشد غرابة وأكثر استبعادا.
وبعد أن حكى عنهم هذه الشبهة أجاب عنها بقوله :
(قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : نعم تبعثون يوم القيامة بعد ما تصيرون ترابا وعظاما ، وأنتم صاغرون أذلاء أمام القدرة البالغة.(23/47)
ج 23 ، ص : 48
ونحو الآية قوله : « وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ » وقوله : « إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ » .
ثم بين سهولة ذلك أمام قدرة اللّه فقال :
(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) أي لا تستصعبوا البعث فإنما يكون بصيحة واحدة بالنفخ في الصور ، فإذا الناس قيام من مراقدهم أحياء ينظرون إلى ما كانوا يوعدون به من قيام الساعة.
[سورة الصافات (37) : الآيات 20 الى 26]
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
تفسير المفردات
قال الزجاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة ، والدين : الجزاء كما جاء فى قولهم
« كما تدين تدان »
، والفصل : الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل منهما عن الآخر ، احشروا : أي اجمعوا ، وأزواجهم : أي أمثالهم وأشباههم ، فيحشر أصحاب الخمر معا ، وأصحاب الزنا كذلك ، واهدوهم : أي دلوهم عليها ، والصراط :
الطريق ، والجحيم : النار ، وقفوهم : أي احبسوهم في الموقف ، مسئولون : أي عن عقائدهم وأعمالهم ، لا تناصرون : أي لا ينصر بعضكم بعضا ، مستسلمون : أي منقادون وأصل الاستسلام : طلب السلامة ويلزمه الانقياد عرفا.(23/48)
ج 23 ، ص : 49
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف إنكارهم للبعث في الدنيا وشديد إصرارهم على عدم حدوثه أردف هذا بيان أنهم يوم القيامة يرجعون على أنفسهم بالملامة إذا عاينوا أهوال هذا اليوم ، ويعترفون بأنهم كانوا في ضلال مبين ، ويندمون على ما فرّطوا في جنب اللّه ، ولات ساعة مندم.
الإيضاح
(وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ) أي وقال المنكرون للبعث في الدنيا حين رأوا العذاب : لنا الويل والهلاك فقد حلّ ميعاد الجزاء ، وسنجازى بما قدمنا من عمل كما وعدنا بذلك على أ
ثم أقبل بعض
ء إذ ذاك كما أفصح عن ذلك شاعرهم :
وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على الشراب
ولثمك وجنتى قمر منير يجول بوجهه ماء الشباب
والحديث ذو شجون ، فهم يتحادثون في شتى الفضائل والمعارف وفيما سلف لهم من شئون الدنيا ، وما أحلى تذكر ما فات حين رفاهية الحال ، وفراغ البال ، واطمئنان النفس ، وخلوّها من المخاوف العاجلة والآجلة.
ثم فصل هذا التساؤل وبيّنه فقال :
(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ؟ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ؟ ) أي قال قائل من أهل الجنة : إنى كان لى قرين في الدنيا يوبخنى على التصديق بالبعث والقيامة ، ويستنكره أشد الاستنكار ، ويقول متعجبا :
أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أ إنا لمحاسبون بعد ذلك على أعمالنا وما قدمته أيدينا ؟ ألا إن ذلك لا يدخل في باب الإمكان ولا يقبله عاقل ، فأجدر بمن يصدق بمثل هذا أن يعدّ من البله والمجانين الذين لا ينبغى مخاطبتهم ولا الدخول معهم في باب الجدل والخصام ، فهم ساقطون من درجة الاعتبار لدى العقلاء والمنصفين.(23/49)
صفحات ناقصة ص : 49 ـ ص : 60
ج 23 ، ص : 49(/)
ج 23 ، ص : 60
وبعد أن ذكر مقالته لأهل الجنة أراد أن يؤكد لهم صدق ما قال ، ويريهم ما آل إليه أمره من الدخول في النار فقال :
(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال لجلسائه من أهل الجنة ، ليزيدهم سرورا على أن عصمهم اللّه من مثل حاله ووفقهم إلى العمل بما أرشد إليه أنبياؤه ، هل تودون أن تروا عاقبة ذلك القرين ؟ وكيف خذله اللّه وأوقعه في الهلكة ؟
وإنا لا نخوض في كيفية الاطلاع إذ ذاك مع شاسع المسافات ، واختلاف مراتب أهل الجنة وأهل النار - فإن ذلك من أمور الغيب التي يجب أن نؤمن بها دون بحث فى شأنها ، ولا نقص ولا زيادة فيها.
(فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي فاطلع إلى أهل النار ، فرأى قرينه في وسطها ، يتلظى بحرّها وشديد لهبها.
(قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي قال لقرينه مو بخاله : إنك لقد كدت تهلكنى بدعائك إياى إلى إنكار البعث والقيامة.
(وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي ولو لا فضل ربى بإرشاده لى إلى الحق ، وعصمتى من الباطل ، لكنت مثلك من المحضرين للعذاب.
ثم ذكر ما يقوله ذلك المؤمن لجلسائه تحدثا بنعمة ربه عليه ، واغتباطا لحاله ، بمسمع من قرينه ، ليكون توبيخا له ، فيزيد به تعذيبه.
(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) أي يقول لهم : أ نحن مخلدون منعمون ، فما نحن بميتين ولا بمعذبين إلا موتتنا الأولى ؟ بخلاف الكفار فإنهم يموتون مثلنا ، ثم هم في جهنم يتمنون الموت كل ساعة ، ولا يخفى ما في ذلك من سوء الحال ، وقد قيل لحكيم : ما شرّ من الموت ؟ قال الذي يتمنّى معه الموت.
والخلاصة - إن المؤمن غبط نفسه بما أعطاه اللّه من الخلد في الجنة ، والإقامة فى دار الكرامة ، بلا موت فيها ولا عذاب.(23/50)
ج 23 ، ص : 61
وعلم أهل الجنة أنهم لا يموتون ، جاء من إخبار الأنبياء لهم في الدنيا بذلك وفي نفى العذاب عنهم إيماء إلى استمرار النعيم ، وعدم خوف زواله ، فإن خوف الزوال نوع من العذاب كما قال :
إذا شئت أن تحيا حياة هنية فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا
وإلى نفى الهرم واختلال القوى ، لأنه ضرب من العذاب أيضا.
ثم زاد في تأنيب قرينه وزيادة حسرته فقال :
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي إن ما نحن فيه من نعيم مقيم ، مع تمتع بسائر اللذات ، من مآكل ومشارب فوز أيّما فوز ، ولا سيما الفوز بذلك النعيم الروحي وهو رضا اللّه عنه كما قال : « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
ثم أومأ إلى اغتباطه بما هو فيه ، وبين أن ذلك كان عاقبة كسبه وعمله فقال :
(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) أي لمثل هذا النعيم والفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة ، ولا يعملوا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام ، المشوبة بصنوف الآلام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 70]
أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)(23/51)
ج 23 ، ص : 62
تفسير المفردات
النزل : ما يعدّ للضيف وغيره من الطعام والشراب ، والزقوم : شجرة صغيرة الورق كريهة الرائحة ، سميت بها الشجرة الموصوفة في الآية ، فتنة : أي محنة وعذابا في الآخرة ، وابتلاء في الدنيا ، أصل الجحيم : أي قعر جهنم ، طلعها : أي ثمرها ، رءوس الشياطين :
أي في قبح المنظر ونهاية البشاعة ، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان فيقولون :
وجه كأنه وجه شيطان ، كما يشبهون حسن الصورة بالملك ، والملء : حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه ، والشّوب : الخلط ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، مرجعهم :
أي مصيرهم ، ألفوا : أي وجدوا ، يهرعون : أي يسرعون إسراعا شديدا.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب أهل الجنة ، وذكر ما يتمتعون به من مآكل ، ووصف الجنة ورغب فيها بقوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ).
أتبع ذلك بذكر جزاء أهل النار وما يلاقون فيها من العذاب اللازب الذي لا يجدون عنه محيصا ، وهو عذاب في مآكلهم ومشاربهم وأماكنهم ، جزاء ما دسّوا به أنفسهم من سيىء الأعمال ، وما قلدوا فيه آباءهم بلا حجة ولا برهان ، من الكفر باللّه وعبادة الأصنام والأوثان.
الإيضاح
(أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ؟ ) أي أ هذا الرزق المعلوم الذي أعطيته لأهل الجنة كرامة منى لهم خير ، أم ما أوعدت به أهل النار من الزّقوم المرّ البشع ؟ .
وهذا ضرب من التهكم والسخرية بهم ، وهو أسلوب كثير الورود في القرآن الكريم ، (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) أي إنا جعلنا تلك الشجرة ابتلاء واختبارا للكافرين ،(23/52)
ج 23 ، ص : 63
فهم حين سمعوا في أنها في النار قالوا : كيف يكون ذلك والنار تحرق الشجر ؟ مع أن هذا ليس بالعجيب ولا بالمستحيل ، فإن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار وينعم فيها ، فهو أقدر على خلق الشجر فيها وحفظه من الاحتراق.
ثم وصف هذه الشجرة فقال :
(إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي إنها شجرة تنبت في قعر النار ، وأغصانها ترتفع إلى أركانها.
(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) أي إن ثمرها في قبح منظره ، وكراهة رؤيته ، كأنه رءوس الشياطين والعرب تتخيل رأس الشيطان صورة بشعة لا تعدلها صورة أخرى ، فيقولون لمن يسمونه بالقبح المتناهي : كأن وجهه وجه شيطان ، وكأن رأسه رأس شيطان ، ألا ترى إلى امرئ القيس وقد سلك هذا السبيل ، ونهج هذا النهج فقال :
أيقتلني والمشرفىّ مضاجعى ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وعلى العكس من هذا تراهم يشبهون الصورة الحسنة بالملك ، من قبل أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه ، فارتسم في خيالهم بأبهى صورة ، وعلى هذا جاء قوله تعالى حكاية عن صواحبات يوسف « ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ » .
ثم بين أن مآكل أهل النار من هذه الشجرة فقال :
(فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) أي فإنهم ليأكلون من ثمرها فيملئون بطونهم منه ، وإن كانوا يعرفون مرارة طعمه ونهاية نتنه وبشاعة رائحته ، ولكن ما ذا يعملون وقد غلب عليهم الجوع ؟ والمضطر يركب الصعب والذلول ، ويستروح من الضرّ بما يقار به فيه.
وبعد أن وصف طعامهم وبين شناعته ، أردفه ذكر شرابهم ووصفه بما هو أبشع وأشنع فقال :
(ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي ثم إنهم بعد أن يشبعوا ويغلبهم العطش(23/53)
ج 23 ، ص : 64
يستغيثون منه فيغاثون بماء كالمهل قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم شوى لحوم وجوههم ، وإذا شربوه قطّع أمعاءهم.
ثم ذكر أنهم بعد هذا وذاك لا مأوى لهم إلا نار جهنم وبئس المصير فقال :
(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) أي ثم إن مصيرهم بعد المأكل والمشرب ، لإلى نار تتأجج ، وجحيم تتوقد ، وسعير تتوهج ، فهم تارة في هذه وتارة في تلك كما قال :
« هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ. يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ » .
والخلاصة - إنهم يؤخذون من منازلهم في الجحيم وهى الدركات التي أسكنوها إلى شجرة الزقوم ، فيأكلون إلى أن تمتلىء بطونهم ثم يسقون الحميم ثم يرجعون إلى تلك الدركات.
ثم علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد ، بتقليد الآباء في الدين بلا دليل يستمسكون به فقال :
(إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ. فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) أي ثم إنهم وجدوا آباءهم على الضلالة فاتبعوهم بلا برهان ، وأسرعوا إلى تقليدهم بلا تدبر ولا روية ، وكأنهم استحثّوا على ذلك ، وأزعجوا إزعاجا.
وفي هذا دليل على أن التقليد شؤم على المقلّد وعلى من يتبعه ، فالإنسان لا سعادة له إلا بالنظر والبحث في الحقائق الدنيوية والأخروية ، ولو لم يكن في القرآن آية غير هذه فى ذم التقليد لكفى.
[سورة الصافات (37) : الآيات 71 الى 74]
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)(23/54)
ج 23 ، ص : 65
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين يهرعون على آثار آبائهم الأولين دون نظر ولا تدبر - أردفه ما يوجب التسلية لرسوله على كفرهم وتكذيبهم ، بأن كثيرا من الأمم قبلهم قد أرسل إليهم الرسل فكذبوا بهم وكانت عاقبتهم الدمار والهلاك ، ونجّى اللّه المؤمنين ونصرهم ، فليكن لك فيهم أسوة ، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات إن عليك إلا البلاغ.
الإيضاح
(وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) أي ولقد ضل قبل قريش كثير من الأمم السابقة ، فعبدوا مع اللّه آلهة أخرى كما فعل قوم إبراهيم وقوم هود وقوم صالح.
ثم ذكر رحمته بعباده وأنه لا يؤاخذهم إلا بعد إنذار فقال :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ) أي فأرسلنا فيهم أنبياء ينذرونهم بأس اللّه ويحذرونهم سطوته ونقمته ، لكنهم تمادوا في مخالفة رسلهم وتكذيبهم ولم يستجيبوا دعوتهم كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) أي فانظر كيف كان عاقبة الكافرين المكذبين ، فقد دمرهم اللّه ونجّى المؤمنين ونصرهم.
وهذا خطاب موجه إلى كل من شاهد آثارهم ، وسمع أخبارهم ، فقد سمعت قريش بأنباء قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ، وكيف كان عاقبة أمرهم.
وقد استثنى من هؤلاء المهلكين عباد اللّه المخلصين فقال :
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي لكن عباد اللّه الذين أخلصهم اللّه بتوفيقهم للإيمان والعمل بأوامر دينه ، . أنجاهم من عذابه ففازوا بالنعيم المقيم في جنات عرضها السموات والأرض.(23/55)
ج 23 ، ص : 66
قصص نوح عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر على سبيل الإجمال ضلال كثير من الأمم السالفة - شرع يفصل ذلك فذكر نوحا عليه السلام وما لقى من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول مدة لبثه فيهم ، فلما اشتدوا واشتطوا في العناد دعا ربه أنى مغلوب فانتصر ، فغضب اللّه لغضبه ، وأغرق قومه المكذبين ، ونجاه وأهله أجمعين.
الإيضاح
(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) أي ولقد نادانا نوح واستنصر بنا على كفار قومه لمّا بالغوا في إيذائه وهمّوا بقتله حين دعاهم إلى الدين الحق ، فلنعم المجيبون نحن ، إذ لبّينا نداءه وأهلكنا من كذب به من قومه.
أخرج ابن مردويه عن عائشة رضى اللّه عنها قالت : « كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا صلّى في بيتي فمر بهذه الآية : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) قال صدقت ربنا ، أنت أقرب من دعى ، وأقرب من بغى ، فنعم المدعوّ ، ونعم المعطى ، ونعم المسئول ، ونعم المولى أنت ربنا ، ونعم النصير » .(23/56)
ج 23 ، ص : 67
ثم بين سبحانه أن الإنعام حصل في الإجابة من وجوه :
(1) (وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الكرب : الغم الشديد ، أي فنجيناه من الغرق ومن أذى قومه ومن كل ما يكربه ويسوءه.
(2) (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أي وأهلكنا من كفر بنا استجابة لدعوته :
«
رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً » ولم يعقب أحد ممن كان فى السفينة عقبا باقيا سوى أبنائه الثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس والروم ، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث أبو الترك ، وهذا هو المشهور على ألسنة المؤرخين ، وليس في القرآن ولا في السنة نص قاطع على شىء من هذا ، كما أنه ليس في القرآن ما يشير إلى عموم دعوته لأهل الأرض قاطبة ، ولا أن الغرق عمّ الأرض جميعا ، وأن ما تفيده الآية من جعل ذريته هم الباقين إنما هو بالنسبة لذرية من معه فى السفينة ، وذلك لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وقد كان في بعض الأقطار الشاسعة من لم تبلغهم الدعوة ، فلم يستوجبوا الغرق كأهل الصين وغيرهم من البلاد النائية (3) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ثناء حسنا وذكرا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة.
ثم ذكر سبحانه أنه سلّم عليه ليقتدى به ، فلا يذكره أحد بسوء فقال :
(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) أي وقلنا له : عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ونحو الآية قوله : « قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ » .
ثم علل ما فعله به بأنه جزاء على إحسانه فقال :
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إنه كان في زمرة المحسنين فجازيناه بالإحسان إليه و« هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ » .(23/57)
ج 23 ، ص : 68
وإحسانه أنه جاهد أعداء اللّه بالدعوة إلى دينه ، وصبر طويلا على أذاهم ، إلى نحو من هذا.
ثم بين سبب إحسانه بقوله :
(إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي إن إحسانه كان بإخلاص عبوديته وكمال إيمانه.
وفي هذا إيماء إلى أن أعظم الدرجات ، وأشرف المقامات الإيمان باللّه والانقياد لطاعته.
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي ثم أغرقنا الآخرين من كفار قومه ، ولم نبق لهم عينا ولا أثرا.
قصص إبراهيم عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 94]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
تفسير المفردات
من شيعته : أي ممن سار على دينه ومنهاجه ، سليم : أي سالم من جميع العلل والآفات النفسية كالحسد والغل وغيرهما من النيات السيئة ، والإفك : الكذب ، سقيم :(23/58)
ج 23 ، ص : 69
أي مريض ، فراغ : أي فذهب خفية إلى أصنامهم ، وأصل الروغ والروغان : الميل قال شاعرهم :
ويريك من طرف اللسان حلاوة ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
باليمين : أي بقوة وشدة ، يزفون : أي يسرعون من زفّ النعام ، أي أسرع.
الإيضاح
(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) أي وإن ممن سار على نهج نوح ، وسلك طريقه ، فى اعتقاد التوحيد والبعث ، والتصلب في دين اللّه ، ومصابرة المكذبين - إبراهيم صلوات اللّه عليه.
(إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي إذ أخلص قلبه لربه وجعله خاليا من كل شئون الحياة الدنيا ، فلا غش لديه ولا حقد ، ولا شىء مما يشينه من العقائد الزائفة ، والصفات القبيحة.
ثم فصل ما سلف فقال :
(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ ؟ ) أي جاء بقلب سليم حين قال منكرا على أبيه وقومه عبادة الأصنام والأوثان : أىّ شىء تعبدون ؟
وهذا منه استنكار وتوبيخ لهم على ما يعبدون ، إذ لا ينبغى لعاقل أن يركن إلى مثل هذه المعبودات التي لا تضر ولا تنفع.
ثم بين الإنكار وفسره بقوله :
(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ؟ ) أي أ تريدون آلهة من دون اللّه تعبدونها إفكا وكذبا ، دون أن تركنوا في ذلك إلى دليل من نصّ ، ولا تأييد من نقل ، إن هذا منكم إلا خبال وخطل في الرأى.
(فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي أىّ شىء ظنكم برب العالمين الحقيق بالعبادة ؟ أي أعلمتم أىّ شىء هو ، حتى جعلتم الأصنام شركاء له ؟(23/59)
ج 23 ، ص : 70
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) أخرج ابن أبى حاتم عن قتادة أن العرب تقول للشخص إذا تفكر وأطال الفكرة : نظر في النجوم أي فأطال الفكر فيما هو فيه.
(فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) أي إنى أحس بخروج مزاجى عن حال الاعتدال ، ولا أرى فى نفسى خفة ونشاطا ، وكان مقصده من قولته هذه ألا يخرج معهم في يوم عيدهم ، لينفّذ ما عزم عليه من كسر أصنامهم وإعلان الحرب عليهم ، فى عبادتهم للأوثان والأصنام ، ولم يكن لهم علم بما بيّت عليه النية ، ولا دليل على أنه لم يكن صادقا فيما يقول إذ من يعزم على تنفيذ أمر ذى بال يخاف منه الخطر على نفسه أن يكون مهموما مغموما مفكّرا في عاقبة ما يعمل.
(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي فأعرضوا عنه وذهبوا إلى معبدهم وتركوه في مكانه.
(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ ؟ ) أي فذهب مستخفيا إلى أصنامهم التي يعبدونها وقال لها استهزاء : ألا تأكلون من الطعام الذي يقدّم إليكم ؟ وكانوا يضعون فى أيام أعيادهم طعاما لدى هذه الأصنام لتبارك فيه.
(ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ؟ ) أي أىّ شىء منعكم الإجابة عن سؤلى ، ومراده بذلك التهكم بهم ، واحتقار شأنهم.
(فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي فاتجه إليهم يضربهم بقوة وشدة حتى تركهم جذاذا إلا كبيرهم كما تقدم في سورة الأنبياء.
(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ) أي فأقبل قومه إليه بعد رجوعهم من عيدهم مسرعين يسألون عمن كسرها ، وقد قيل لهم : إنه إبراهيم ، فقالوا له : نحن نعبدها وأنت تكسرها ولما أخذوا يعتبون عليه طفق يؤنبهم ويعيبهم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 95 الى 101]
قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)(23/60)
ج 23 ، ص : 71
الإيضاح
(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ؟ ) أي أ تعبدون من دون اللّه أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم ؟ فما تحدثون فيه الصنعة بأيديكم تجعلونه معبودا لكم ، أفلا عاقل منكم ينهاكم عن مثل هذا ؟
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي واللّه خلقكم وخلق تلك الأصنام التي تعملونها بأيديكم ، والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق ، لا جرم أن عبادتكم لها خطأ عظيم ، وإثم كبير.
ولما أورد عليهم إبراهيم هذه الحجة القوية التي لم يستطيعوا دفعها - عدلوا عن الحجاج إلى الإيذاء واستعمال القوة.
(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) تقدم هذا بمزيد إيضاح في سورة الأنبياء (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي فأرادوا إحراقه في النار فأنجيناه منها ، وجعلناها بردا وسلاما عليه ، وجعلنا كيدهم في نحورهم ، وكتبنا له الغلبة والنصر عليهم.
وبعد أن يئس من إيمانهم أراد مفارقتهم والهجرة من بينهم كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
(وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي وقال إنى مفارق لتلك الديار ، ومهاجر إلى مكان أتفرغ فيه لعبادة ربى ، وإنه سيهدينى إلى ما فيه صلاح دينى ، وهذا المكان هو الأرض المقدسة.
وفي الآية إيماء إلى أن الإنسان إذا لم يتمكن من إقامة دينه على الوجه المرضى فى أرض وجبت عليه الهجرة منها إلى أرض أخرى.(23/61)
ج 23 ، ص : 72
ولما هاجر من وطنه طلب الولد فقال :
(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) أي رب هب لى أولادا مطيعين يعينوننى على الدعوة ، ويؤنسوننى في الغربة ، ويكونون عوضا من قومى وعشيرتى الذين فارقتهم.
فاستجاب ربه دعاءه فقال :
(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي فبشرناه بمولود ذكر يبلغ الحلم ويكون حليما. وقد استفيد بلوغه من وصفه بالحلم ، لأنه لازم لتلك السن ، إذ قلما يوجد في الصبيان سعة الصدر ، وحسن الصبر ، والإغضاء عن كل أمر ، وهذا الغلام هو إسماعيل عليه السلام ، فإنه أول ولد بشّر به إبراهيم عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق العلماء من أهل الكتاب والمسلمين ، بل جاء النص في التوراة على أن إسماعيل ولد لإبراهيم وسنه ست وثمانون سنة ، وولد له إسحاق وعمره تسع وتسعون سنة.
وأي حلم مثل حلمه ، عرض عليه أبوه وهو مراهق أن يذبحه فقال : « سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ » فما ظنك به بعد بلوغه ، وما نعت اللّه نبيا بالحلم غير إبراهيم وابنه إسماعيل عليه السلام.
[سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113]
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)
وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) }(23/62)
ج 23 ، ص : 73
تفسير المفردات
فلما بلغ معه السعى أي فلما بلغ السن التي تساعده على أن يسعى معه في أعماله وحاجات المعيشة ، أسلما : أي استسلما وانقادا لأمر اللّه ، تله : أي كبه على وجهه صدقت الرؤيا : أي حققت ما طلب منك ، البلاء المبين. أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره ، بذبح : أي حيوان يذبح ، باركنا عليه : أي أفضنا عليه البركات.
المعنى الجملي
اعلم أنه بعد أن قال سبحانه : فبشرناه بغلام حليم - أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلوغه سن المراهقة بقوله : فلما بلغ معه السعى ، إذ هو لا يقدر على الكد والعمل إلا بعد بلوغ هذه السن ، ثم أتبعه بقص الرؤيا عليه وإطاعته في تنفيذ ما أمر به وصبره عليه ، ولما حان موعد التنفيذ كبه على وجهه للذبح فأوحى إليه ربه أنه فداه بذبح عظيم ، ثم بشره بإسحاق نبيا من الصالحين ، وبارك عليه وعلى إسحاق وأنه سيكون من ذريتهما من هو محسن فاعل للخيرات ، ومنهم من هو ظالم لنفسه مجترح للسيئات.
الإيضاح
((فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى ؟ ) أي فلما كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويسعى في أشغاله وقضاء حوائجه - قال له يا بنى إنى رأيت في المنام أنى أذبحك فما رأيك ؟ وقد قص عليه ذلك ليعلم ما عنده فيما(23/63)
ج 23 ، ص : 74
نزل من بلاء اللّه ، فيثبت قدمه إن جزع ، وليوطن نفسه على الذبح ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر اللّه.
ثم بين أنه كان سميعا مطيعا منقادا لما طلب منه.
(قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي قال يا أبت سميعا دعوت ، ومن مجيب طلبت ، وإلى راض ببلاء اللّه وقضائه توجهت ، فما عليك إلا أن تفعل ما تؤمر به ، وما على إلا الانقياد وامتثال الأمر ، وعلى اللّه المثوبة ، وهو حسبى ونعم الوكيل.
ولما خاطبه بقوله يا بنى عنى سبيل الترحم ، أجابه بقوله يا أبت على سبيل التوقير والتعظيم وفوض الأمر إليه حيث استشاره ، وأن الواجب عليه إمضاء مارآه.
ثم أكد امتثاله للأمر بقوله :
(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) أي سأصبر على القضاء ، وأحتمل هذه اللأواء ، غير ضجر ولا برم بما قضى وقدر ، وقد صدق فيما وعد ، وبر في الطاعة لتنفيذ ما طلب منه ، ومن ثم قال سبحانه في شأنه مادحا له « وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ » .
ثم ذكر طريق تنفيذ الرؤيا فقال :
(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي فلما استسلما وانقادا لأمر اللّه وفوضا إليه سبحانه الأمر في قضائه وقدره ، وأكب إبراهيم ابنه على وجهه باشارة منه ، حتى لا يرى وجهه فيشفق عليه :
وروى عن مجاهد أنه قال لأبيه : لا تذبحنى وأنت تنظر إلى وجهى ، عسى أن ترحمنى فلا تجهز على ، اربط يدى إلى رقبتى ، ثم ضع وجهى للأرض ، ففعل.
(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) أي ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى : أن قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح. فقد بان امتثالك للأمر ، وصبرك على القضاء : وحينئذ استبشرا وشكرا للّه على ما أنعم به عليهما من(23/64)
ج 23 ، ص : 75
دفع البلاء بعد حلوله ، والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله ، مع إظهار فضلهما ، وإحراز المثوبة من ربهما.
ثم علل رفعه لذلك البلاء وإزالته لتلك الغمة بقوله :
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي إناكما عفونا عن ذبحه لولده ، بعد استبانة إخلاصه في عمله ، حين أعد العدّة ، ولم تتغلب عليه عاطفة البنوة ، فرضى بتنفيذ القضاء منقادا صاغرا - نجزى كل محسن على طاعته ، ونوفيه من الجزاء ما هو له أهل ، وبمثله جدير.
ثم ذكر عظيم صبره على امتثال أمر ربه مع ما فيه من كبير المشقة في مجرى العادة فقال :
(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) أي إن هذا الذي كان لهو محنة أيّما محنة ، واختبار لعباده لا يعدله اختبار ، وللّه عز اسمه أن يبتلى من شاء من عباده بما شاء من التكاليف وهو الفعال لما يريد ، لا رادّ لقضائه ولا مانع لقدره ، وكثير من التكاليف قد تخفى علينا أسرارها وحكمها ، وهو العليم بها وبما لأجله شرعها.
(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) أي وفديناه بوعل أهبط عليه من جبل ثبير قاله الحسن البصري ، ولا علينا أن نزيد على ما جاء به الكتاب ، ومكان نزوله لا يهم في بيان هذه المنة التي امتن بها عليه.
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة أخرى فقال :
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا له ذكرا حسنا بين الناس في الدنيا فصار محبّبا بين الناس جميعا من كل ملة ومذهب ، فاليهود يجلّونه ، والنصارى يعظمونه ، والمسلمون يبّجلونه ، والمشركون يحترمونه ، ويقولون إنا على ملة إبراهيم أبينا ، وذلك استجابة لدعوته حين قال : « وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ. وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ » .(23/65)
ج 23 ، ص : 76
ثم ذكر أنه منّ عليه بمنة ثالثة فقال :
(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) أي وقلنا له : عليك السلام في الملائكة والإنس والجن.
ثم أعقب ذلك بنعمة رابعة وهى نعمة الولد فقال :
(وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي وآتيناه إسحاق ومننّا عليه بنعمة النبوة له وللكثير من حفدته كفاء امتثاله أمرنا وصبره على بلوانا.
(وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) أي وأفضنا عليهما بركات الدنيا والآخرة ، فكثّرنا نسلهما وجعلنا منه أنبياء ورسلا ، وطلبنا من المسلمين في صلواتهم أن يدعوا لهم بالبركة فيقولوا : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) أي ومن ذريتهما من أحسن في عمله فآمن بربه وامتثل أوامره واجتنب نواهيه ، ومن ظلم نفسه ودساها بالكفر والفسوق والمعاصي.
وفي ذلك تنبيه إلى أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، وأن الظلم في الأعقاب لا يعود إلى الأصول بنقيصة ، ولا عيب عليهم في شىء منه كما قال : « وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » .
من الذبيح ؟ أ إسحاق أم إسماعيل ؟
ليس في هذه المسألة دليل قاطع من سنة صحيحة ولا خبر متواتر ، بل روايات منقولة عن بعض أهل الكتاب وعن جماعة من الصحابة والتابعين ، ومن ثم حدث الخلاف فيها.
1 - فمن قائل إنه إسحاق ، ويؤيده :
(ا) ما روى عن يوسف عليه السلام أنه قال لفرعون مصر في وجهه : أترغب(23/66)
ج 23 ، ص : 77
عن أن تأكل معى وأنا واللّه يوسف بن يعقوب نبى اللّه ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه.
(ب) ما روى عن أبى الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال أنا فلان ابن فلان ابن الأشياخ الكرام ، فقال ابن مسعود : ذلك يوسف بن يعقوب ابن إسحاق ذبيح اللّه ابن إبراهيم خليل اللّه.
(ح) ما حكاه البغوي عن عمر وعلىّ وابن مسعود والعباس أنه إسحاق.
ولكعب الأحبار ضلع في هذه الأخبار وأمثالها التي تلقاها المسلمون عنه ، وكان يحدّث بها عن الكتب القديمة وهى جامعة بين الغثّ والسمين ثقة بأن عمر رضى اللّه عنه قد استمع منه ، ومن ثم احتاج الثقات إلى تمحيصها ، وعزل جيدها من بهرجها وصحيحها من سقيمها.
2 - ومن قائل إنه إسماعيل وهو الذي يساوقه صحيح النظر ونصوص القرآن ويؤيده.
ا - رواية ذلك عن ابن عباس ، فقد روى عطاء بن أبى رباح عنه أنه قال : المفدى هو إسماعيل عليه السلام وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود.
(ب) روى مجاهد عن ابن عمر أنه قال : الذبيح إسماعيل.
(ح) أن ابن إسحاق قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : إن الذي أمر اللّه ذبحه من ابنيه هو إسماعيل ، وإنا لنجد ذلك في كتاب اللّه تعالى فإنه بعد أن فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال : « وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » وقال :
« فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ » فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد ما وعده ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل - قال ابن إسحاق سمعته يقول ذلك كثيرا.
وعلى الجملة فظاهر نظم الآية والروايات التي يروونها يؤيد أنه إسماعيل ، ولكن اليهود حسدوا العرب على أن يكون أباهم هو الذي كان من أمر اللّه فيه ما كان ومن(23/67)
ج 23 ، ص : 78
الفضل الذي ذكره اللّه له لصبره لما أمر به ، فجحدوا ذلك وزعموا أنه إسحاق لأنه أبوهم واللّه أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهرا مطيعا لربه.
قصص موسى وهارون عليهما السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122]
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
الإيضاح
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي ولقد أنعمنا عليهما بالخير الكثير ، فآتيناهما النبوة ونصرناهما على أعدائهما من قبط مصر وملكناهما أرضهم وأغرقنا من كان مستذلهما إلى نحو ذلك.
ثم فصل هذه النعم فقال :
(1) (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) أي ونجيناهما ومن آمن معهما من الكرب العظيم الذي كانوا فيه بإساءة فرعون وقومه إليهم من قتل الأبناء ، واستحياء النساء ، واستعمالهم في أخس المهن والصناعات ، ومعاملتهم معاملة العبيد والأرقاء إلى ضروب أخرى من المهانة والمذلة التي لو لا إلفهم لها لكانت كافية في انقراضهم ، ولكنهم شعب لا يأبى الخضوع والاستكانة متى وجد في ذلك السبيل لجمع المال وحيازته ، والتمتع بلذات الحياة الدنيا.(23/68)
ج 23 ، ص : 79
(2) (وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) أي ونصرناهم على أعدائهم فغلبوهم وملكوا أرضهم وأموالهم وما كانوا قد جمعوه طوال حياتهم فكانوا أصحاب الصّولة والسلطان والدولة والرفعة.
(3) (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) أي وأعطيناهما الكتاب الجلىّ الواضح الجامع لما يحتاج إليه البشر في مصالح الدين والدنيا ، وهو التوراة كما قال : « إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ » وقال : « وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ » .
(4) (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي ودللناهما على طريق الحق بالعقل والنقل وأمددناهما بالتوفيق والعصمة.
(5) (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ) أي وأبقينا لهما الذكر الحسن والثناء الجميل فيمن بعدهم ، وهذا ما تصبو إليه النفوس قال شاعرهم :
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال الآخر : الذكر للإنسان عمر ثان.
(6) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي وجعلنا الملائكة والإنس والجن يسلمون عليهما أبد الدهر ، ولا شىء أدعى إلى سعادة الحياة من الطمأنينة وهدوء البال كما
ورد فى الحديث « من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها » .
ثم ذكر سبب هذه النعم فقال :
(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام في هذا نظير ما سلف من قبل.(23/69)
ج 23 ، ص : 80
قصص إلياس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132]
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
الإيضاح
(وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قال ابن جرير : هو إلياس بن ياسين بن فنحاص ابن العيزار بن هرون أخى موسى عليهما السلام ، فهو إسرائيلى من سبط هرون.
(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ ؟ ) أي أنذر قومه وحذرهم بأس اللّه فقال : ألا تخافون اللّه ، فتمتثلوا أوامره ، وتتركوا نواهيه ؟
ثم ذكر سبب الخوف فقال :
(أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ. اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) بعل اسم صنم أي أ تعبدون هذا الصنم. وتتركون عبادة من خلقكم وخلق آباءكم السابقين وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه ؟
ثم بين أن قومه كذبوه واستمروا في غوايتهم فقال :
(فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي فكذبوه فيما تضمنه كلامه من وجوب توحيد الخالق ، وتحريم الإشراك به ، وعقابه تعالى عليه ، فهم لأجل ذلك يحضرون يوم القيامة للعذاب ، ويجازون على سوء أفعالهم وأقوالهم.(23/70)
ج 23 ، ص : 81
ثم أخرج من بينهم جماعة لم يكذّبوا فلم يلحقهم هذا العذاب والهوان فقال :
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي إلا قوما منهم أخلصوا العمل للّه وأنابوا إليه فأولئك يجزون الجزاء الأوفى على ما أسلفوا من عمل صالح ، وقدّموا من ذخر طيب.
(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) الكلام فيه كما تقدم فيما قبله سوى أن إلياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء غير العربية.
قصص لوط عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138]
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138)
الإيضاح
(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي وإنا أرسلنا لوطا إلى قومه أهل سذوم ، وكانوا قد أتوا من المنكرات والفواحش ما لم يأته أحد من العالمين ، فنصحهم فلم ينتصحوا ، فأهلكهم اللّه ونجاه هو وقومه كما قال :
(إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) أي فنجيناه هو وأهله من بين أظهرهم إلا امرأته ، فإنها هلكت مع من هلك من قومها ، وجعلنا محلتهم من الأرض بحيرة ذات ماء ردىء الطعم ، منتن الريح.
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ)
أي ثم أهلكنا عدا من ذكرنا.
ثم أرشد مشركى مكة إلى النظر والاعتبار بما حل بهم وبأمثالهم من المكذبين فقال :(23/71)
ج 23 ، ص : 82
(وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ)
أي وإنكم لتمرون عليهم وأنتم مسافرون إلى الشام حين الصباح ، أو أول الليل فترون آثار ديارهم التي عفت وأضحت خرابا يبابا ، لا أنيس فيها ولا جليس ، ولا ديّار ولا نافخ نار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ ؟ )
أي أ تشاهدون هذا فلا تعتبروا ولا تخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ؟ فإن ما حل بهم من البلاء إنما كان لمخالفة رسولهم كما تفعلون.
قصص يونس عليه السلام
[سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148]
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)
تفسير المفردات
أصل الإباق : هرب العبد من سيده ، والمراد هنا أنه هاجر بغير إذن ربه ، المشحون :
المملوء ، فساهم : أي فقارع من في الفلك أي عمل قرعة ، المدحضين : أي المغلوبين بالقرعة ، فالتقمه : أي فابتلعه ، مليم : أي آت ما يستحق عليه اللوم ، بالعراء : أي بالمكان الخالي ، يقطين : أي دبّاء (القرع العسلي المعروف الآن) وقيل : الموز وهو أظهر لأن أوراقه أعرض(23/72)
ج 23 ، ص : 83
الإيضاح
(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ)
أي وإن يونس لرسول من ربه إلى قومه أهل نينوى بالموصل ، حين هرب إلى الفلك المملوء بغير إذن ربه ، فقارع أهل الفلك فكان من المغلوبين في القرعة وقد رووا في إباقه الرواية الآتية :
إنه لما أوعد قومه بالعذاب خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّه تعالى بالهجرة ، فركب سفينة فوقفت فقالوا هاهنا عبد آبق من سيده ، وكان الملاحون يزعمون أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجرى ، فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ، فقال أنا الآبق وألقى نفسه في الماء.
(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فالتقمه الحوت وهو فاعل ما يلام عليه من الهجرة بغير إذن ربه ، وقد كان عليه أن يصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
ثم ذكر سبحانه أنه أنجاه لما كان له من عمل صالح فقال :
(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي فلو لا أنه كان من الذاكرين اللّه كثيرا والمسبحين بحمده طوال عمره ، للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث ، إذ كان يهضم كبقية أنواع الطعام ويتحول إلى غذاء له كسائر أنواع الأغذية التي يأكلها.
(فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) أي فجعلنا الحوت يلقيه في مكان خال لا نبات فيه ولا شجر ، وهو عليل الجسم سقيم النفس ، لما لحقه من الغم مما حدث من قومه معه ، إذ أعرضوا عن دعوته ولم يصدقوه فيما جاء به ، وقد كان يرجو لهم الخير والسعادة فى دنياهم وآخرتهم ولما وجد من شدة وجهد في ابتلاع الحوت له.
ثم بين لطفه به ورعايته له حتى لا يتعرض لحر الشمس ولا لزمهرير البرد فقال :
(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي فأنبتنا حواليه شجرة موز يتغطى بورقها ،(23/73)
ج 23 ، ص : 84
ويستظل بأغصانها ، فتقيه لفح الشمس ووهجها ، وبرد الصحراء وشديد صرّها ، وكذلك يأكل من ثمارها ، فتغنيه عن طلب الغذاء من أي جهة أخرى.
ثم ذكر أنه لما شفى من سقمه ونجا من الهلاك ورضى ربه عنه عاد إلى قومه ، ليتمّ دعوته ، ويبلغ رسالته كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) أي فأرسلناه مرة أخرى إلى هؤلاء القوم وقد كانوا مائة ألف بل يزيدون ، فاستقامت حالهم وآمنوا به ، لأنه بعد أن خرج من بين أظهرهم رأوا أنهم قد أخطئوا وأنهم إذا لم يتبعوا رسولهم هلكوا كما حدث لمن قبلهم من الأمم ، فلما عاد إليهم ودعاهم إلى ربه لبّوا الدعوة طائعين منقادين لأمر اللّه ونهيه ، فمتعناهم في هذه الحياة حتى انقضت آجالهم وهلكوا فيمن هلك.
تذنيب
هاهنا مسألتان :
(1) إن القرآن الكريم لم يبين لنا ممّ أبق ، ولو كان في بيانه فائدة لذكرها.
(2) إنه لم يذكر مدة لبثه في بطن الحوت وتعيين زمن معين يحتاج إلى نقل صحيح ولم يؤثر ذلك ، وأيّا كان فبقاؤه حيا في بطن الحوت مدة قليلة أو كثيرة معجزة لذلك النبي الكريم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 160]
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)(23/74)
ج 23 ، ص : 85
المعنى الجملي
أمر اللّه رسوله في صدر هذه السورة بتبكيت قريش وتوبيخهم على إنكارهم للبعث مع قيام الأدلة وتظاهرها على وجوده ، ثم ساق الكثير منها مما لا يمكن رده ولا جحده ، ثم أعقبه بذكر ما سيلقونه من العذاب حينئذ ، واستثنى منهم عباد اللّه المخلصين وبين ما يلقونه من النعيم ، ثم عطف على هذا أنه قد ضل قبلهم أكثر الأولين وأنه أرسل إليهم منذرين ، ثم أورد قصص بعض الأنبياء تفصيلا متضمنا وصفهم بالفضل والعبودية له عز وجل :
وهنا أمره بالتنديد عليهم ثانيا بطريق الاستفتاء عن وجه القسمة الجائرة التي عملوها وهى جعل البنات للّه وجعل البنين لأنفسهم بقولهم : الملائكة بنات اللّه ، ثم بالتقريع ثالثا على استهانتهم بالملائكة بجعلهم إناثا ، ثم أبطل كلا من هذين بالحجة التي لا يجد العاقل محيصا عن التصديق بها والإذعان لها.
الإيضاح
(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ؟ ) أي سل قريشا مؤنبا لها ومقرّعا على ضعف أحلامها وسفاهة عقولها ، أ لربى البنات ولكم البنون ؟ فمن أين جاءكم هذا التقسيم ، وإلام تستندون ؟ وإنكم لتكرهون البنات وتبغضونها أشد البغض كما جاء في قوله :
« وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ » .(23/75)
ج 23 ، ص : 86
ونحو الآية قوله في سورة النجم : « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ؟ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى » أي قسمة جائرة.
(أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ؟ ) أي بل أخلقنا الملائكة إناثا وقد شهدوا هذا الخلق ؟
وهذا ترقّ في التوبيخ لهم على هذه المقالة ، إذ أن ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة أو النقل ، ولا سبيل إلى معرفته بالعقل ، حتى يقوم الدليل والبرهان على صحته ، والنقل الصحيح الذي يؤيد ما تدّعون لا يوجد ، فلم تبق إلا المشاهدة ، وهذه لم تحصل ، ونحو الآية قوله : « وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ، أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ؟ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ » .
ثم بين فساد منشأ هذه العقيدة الزائفة فقال :
(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ) أي وما جرأهم على هذا القول الهراء والرأى الخطل إلا اعتقادهم الباطل أن للّه ولدا ، وهو افتراء قبيح وإفك صريح ، لا مستند له ، ولا شبهة ترشد إلى صدقه.
ثم أكد هذا النفي بقوله :
(وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يقولون ، ولا أثرة لهم من علم يصدق ما يعتقدون ، فمن أين جاءهم هذا ؟
ثم نقض الدعوى من أساسها مبينا أن العقل لا يتقبلها فقال :
(أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ؟ ) أي أىّ شىء يحمله على أن يختار البنات ويترك البنين ؟ والعرف والعادة والمنطق السليم شاهد صدق على غير هذا.
ونحو الآية قوله : « أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ؟ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً » .(23/76)
ج 23 ، ص : 87
(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟ ) أي أما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون ، وتتفكرون فى صحة ما تعتقدون ؟ فالعقل يقضى ببطلان مثل هذا.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) فتعرفوا خطأ ما تعتقدون ، وترجعوا على أنفسكم باللائمة فيما تقولون.
ثم زاد في تأنيبهم وتقريهم وطالبهم ببرهان من النقل يؤيد صحة ما يدعون فقال :
(أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ؟ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي بل أ لكم حجة واضحة على هذا نزل بها وحي ؟ إن كان الأمر هكذا فأرونى كتابكم الذي يؤيد ما تقولون إن كنتم صادقين.
ولا يخفى ما في هذه الآيات من الدلالة على السخط العظيم ، والإنكار الشديد لأقاويلهم ، وتسفيه أحلامهم ، مع الاستهزاء بهم ، والتعجيب من جهلهم.
ثم ذكر أن هذه العقيدة ستؤدى بهم إلى ما لا ينبغى أن قال فقال :
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) المراد بالجنة الملائكة ، وسموا جنّا لاجتنانهم واستتارهم عن العيون ، أي وجعلوا بينه وبين الملائكة مشاكلة ومناسبة ، فقالوا الملائكة بنات اللّه.
ثم ذكر أنهم سيندمون على مقالتهم هذه فقال :
(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي ولقد علمت الملائكة الذين ادعى المشركون أن بينه تعالى وبينهم نسبا - إن هؤلاء المشركين محضرون إلى النار ومعذبون فيها لكذبهم وافترائهم في قيلهم هذا.
قال مجاهد ومقاتل : القائل ذلك هم كنانة وخزاعة ، قالوا إن اللّه خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات اللّه من سروات بنات الجن ، وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة اللّه ، فهو النسب الذي جعلوه ، وقال الكلبي وقتادة : قالت اليهود - لعنهم اللّه - : إن اللّه صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم.(23/77)
ج 23 ، ص : 88
والخلاصة - إن هؤلاء سيعذبون في النار على تقوّلهم على اللّه بغير علم بإثبات البنات له دون أن يكون هناك نص على ذلك.
ثم نزه سبحانه نفسه عن كل ما لا يليق به من هذه النقائص فقال :
(سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تقدس ربنا عن أن يكون له ولد ، وعما يصفه به الظالمون علوّا كبيرا.
(إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولكن المخلصين المتبعين للحق المنزّل على الرسل ناجون فلا يحضرون إلى النار ولا يعذبون.
[سورة الصافات (37) : الآيات 161 الى 170]
فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
تفسير المفردات
بفاتنين : أي بمضلين من قولهم فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه ، صال الجحيم : أي داخل في النار ومعذب فيها ، الصافون : أي صافو أنفسهم للعبادة ، ذكرا : أي كتابا
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فساد آراء المشركين ومذاهبهم - أتبع ذلك بما نبه به إلى أن هؤلاء المشركين لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان مستعدا له ، وقد سبق(23/78)
ج 23 ، ص : 89
فى حكم اللّه أنه من أهل النار وأنه لا محالة واقع فيها ، ثم حكى اعتراف الملائكة بالعبودية تنبيها إلى فساد قول من ادعى أنهم أولاد اللّه.
الإيضاح
(فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ. ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) أي فإنكم أيها المشركون مع معبوديكم من الأوثان والأصنام لا يتسهل لكم أن تفتنوا إلا من هو ضالّ مثلكم ، ومن كتب له أنه من أصحاب النار فهو لا محالة يكبكب فيها ، قال لبيد ابن ربيعة فأحسن :
أحمد اللّه فلا ندّ له بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ناعم البال ومن شاء أضلّ
ثم حكى سبحانه اعتراف الملائكة بالعبودية لربهم فقال :
(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) أي وإن لكل منا مرتبة لا يتجاوزها في العبادة والانتهاء إلى أمر اللّه تعالى خضوعا لعظمته ، وخشوعا لهيبته ، وتواضعا لجلاله كما
روى فى الخبر « فمنهم راكع لا يقيم صلبه ، وساجد لا يرفع رأسه » .
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي وإنا لنقف صفوفا في أداء الطاعات ، ومنازل الكرامات ، لكل منا منزلة لا يعدوها ، ومرتبة لا يتخطاها.
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال : « خرج علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ونحن في المسجد فقال : ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربها ، فقلنا : يا رسول اللّه كيف تصفّ الملائكة عند ربها ؟
قال : يتمّون الصفوف الأول ويتراصّون في الصف »
وكان عمر يقول إذا قام للصلاة :
أقيموا صفوفكم واستووا ، إنما يريد اللّه بكم هدى الملائكة عند ربها ويقرأ :
« وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ » تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبّر.
(وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) أي وإنا لننزه اللّه تعالى عما لا يليق به ، فنحن عبيد له ، فقراء إليه ، خاضعون لأوامره.(23/79)
ج 23 ، ص : 90
ثم حكى عن المشركين مقالتهم قبل بعث النبي صلّى اللّه عليه وسلم فقال :
(وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) أي ولقد كانوا يتمنون قبل أن يأتيهم الرسول أن لو كان عندهم من يذكّرهم بأمر اللّه ونهيه ويأتيهم بكتاب من عنده ، ليخلصوا له العبادة ، ويكونوا أهدى سبيلا ممن سبقهم من أهل الكتب السالفة من اليهود والنصارى.
ثم بين أنهم كانوا كاذبين وأن حالهم بعد مجيئه كانت على غير ما قالوا فقال :
(فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي ثم بعد أن جاءهم الذكر والكتاب المهيمن على كل الكتب أعرضوا عنه وكفروا به ، وأنهم سوف يعلمون عاقبة عنادهم وما سيحل يهم من نقمتنا وعذابنا.
ونحو الآية قوله : « وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً » .
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الأكيد ، والتهديد الشديد ، على كفرهم بربهم ، وتكذيبهم برسوله صلّى اللّه عليه وسلم.
[سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182]
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)
أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)(23/80)
ج 23 ، ص : 91
تفسير المفردات
كلمتنا : وعدنا ، المنصورون : أي الغالبون في الحرب وغيرها ، جندنا : أي أتباع رسلنا ، والساحة : المكان الواسع.
المعنى الجملي
لما هدد سبحانه المشركين بقوله : فسوف يعلمون - أردفه ما يقوى قلب رسوله صلى اللّه عليه وسلم بوعده بالنصر والتأييد ، كما جاء في آية أخرى « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » .
الإيضاح
(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) أي ولقد سبق وعدنا أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، فننصرهم على أعدائهم بقهرهم والنيل منهم ، بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن الأوطان أو أسرهم أو نحو ذلك.
ونحو الآية قوله : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » .
(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي وأعرض عنهم ، واصبر على أذاهم ، وانتظر مدة قليلة ، وسنجعل لك العاقبة والنّصرة والتأييد.
(وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وانظر وارتقب ما يحل بهم من العذاب والنكال.
بمخالفتك وتكذيبك ، وسوف يبصرون انتشار دينك وإقبال الناس عليه أفواجا ، زرافات ووحدانا مصداقا لوعده بقوله : « إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً »(23/81)
ج 23 ، ص : 92
ثم وبخهم على استعجالهم العذاب حين قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجّله لنا فنزل.
(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) قبل حلوله ؟ وهم إنما فعلوا ذلك لتكذيبهم به ، وكفرهم بك واللّه منزله عليهم لا محالة.
(فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) أي فإذا نزل العذاب بمحلّتهم فبئس اليوم يومهم لهلاكهم ودمارهم ، و
في الصحيحين عن أنس قال : « صبّح رسول اللّه خيبر فلما خرجوا بفئوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا وهم يقولون : محمد واللّه ، محمد والخميس - الجيش - ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : اللّه أكبر ، خربت خيبر ، إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين » رواه البخاري.
قال صاحب الكشاف : مثّل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه ، بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصاحهم ، فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبّروا أمرهم تدبيرا يبجيهم ، حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ عليهم الغارة وقطع دابرهم ا ه ثم أكد ما سبق من وقوع الميعاد غبّ توكيد مع ما فيه من تسلية لرسوله إثر تسلية فقال :
(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) أي وأعرض أيها الرسول عن هؤلاء المشركين وخلّهم وفريتهم على ربهم إلى أن يأذن بهلاكهم ، وانظر إليهم ، فسوف يرون ما يحل بهم من عقابنا حين لا تنفعهم التوبة.
ثم ختم سبحانه السورة بخاتمة شريفة جامعة لتنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق به مع وصف نفسه بصفات الكمال ومدحه للرسل الكرام فقال :
(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي تنزيها لربك أيها الرسول رب القوة والغلبة عما يصفه به هؤلاء المفترون من مشركى قريش من نحو قولهم : ولد اللّه. وقولهم : الملائكة بنات اللّه. وأمنة(23/82)
ج 23 ، ص : 93
من اللّه للمرسلين الذين أرسلهم إلى أممهم - من العذاب الأكبر ومن أن ينالهم مكروه من قبله تعالى ، والحمد للّه رب الثقلين الجن والإنس خالصا له دون سواه ، لأن كل نعمة لعباده فهى منه.
وهذا تعليم من اللّه للمؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه.
روى البغوي عن على كرم اللّه وجهه أنه قال : « من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد للّه ربّ العالمين » .
وعن أبى سعيد الخدري قال : « سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم غير مرة ولا مرتين يقول في آخر صلاته أو حين ينصرف « سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
مجمل ماحوته السورة من موضوعات
(1) التوحيد ودليله في الآفاق والأنفس.
(2) خلق السموات والأرض ووصفه سبحانه لذلك.
(3) إنكار المشركين للبعث وما يتبع ذلك من محاورة أهل الجنة لأهل النار وهم يطلعون عليهم.
(4) وصف الجنة ونعيمها.
(5) قصص بعض الأنبياء كنوح وإبراهيم وإسماعيل.
(6) دفع فرية قالها المشركون وتوبيخهم عليها إذ قالوا : الملائكة بنات اللّه.
(7) تنزيه اللّه عن ذلك.
(8) بيان أن المشركين لا يفتنون إلا ذوى الأحلام الضعيفة المستعدة للاضلال (9) وصف الملائكة بأنهم صافون مسبحون.
(10) مدح المرسلين وسلام اللّه عليهم.
(11) حمد اللّه وثناؤه على نفسه بأنه رب العزة ورب الخلق أجمعين.(23/83)
ج 23 ، ص : 94
سورة ص
هى مكية ، نزلت بعد سورة القمر ، وعدة آيها ثمان وثمانون ومناسبتها لما قبلها أنها جاءت كالمتممة لها من وجهين :
(1) إنه ذكر فيها من قصص الأنبياء ما لم يذكر في تلك كداود وسليمان.
(2) إنه بعد أن حكى فيما قبلها عن الكفار أنهم قالوا : لو أن عندنا ذكرا من الأولين. لكنا عباد اللّه المخلصين. وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم - بدأ عز اسمه هذه السورة بالقرآن ذى الذكر وفصّل ما أجمله هناك من كفرهم.
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)(23/84)
ج 23 ، ص : 95
تفسير المفردات
الذكر : الشرف كما قال « وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ » الذين كفروا هم رؤساء قريش ، فى عزة : أي في استكبار عن اتباع الحق ومتابعة غيرهم فيه والعزة أيضا الغلبة والقهر كما قالوا في أمثالهم : من « عزّ بزّ » أي : من غلب سلب ، شقاق : أي مخالفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم من قولهم : فلان في شقّ غير شق صاحبه ، فنادوا : أي استغاثوا ، لات : أي ليس الحين ، مناص : أي فرار وهرب ، عجاب : أي بالغ في العجب نحو قولهم طويل وطوال أي إنه من نوائب الدهر فلا حيلة لنا إلا الصبر عليه ، الملة :
الآخرة : هى ملة النصارى ، اختلاق : أي كذب وافتراء ، فليرتقوا : أي فليصعدوا ، فى الأسباب : أي في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش ، قاله مجاهد وقتادة. ومنه قول زهير :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وإن يرق أسباب السماء بسلّم
جند ما : أي جند كثير عظيم كقولهم « لأمر ما جدع قصير أنفه » ، مهزوم : أي مغلوب ، الأحزاب : أي المجتمعين لإيذاء محمد وكسر شوكته وإبطال دينه.
الإيضاح
(ص) تقدم الكلام في مثل هذا مرارا وقلنا إن هذه حروف يراد بها تنبيه المخاطب للاصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته نحو ألا ، ويا ، وينطق بأسمائها فيقال (صاد) بالسكون.
(وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) أي أقسم بالقرآن ذى الشرف والرفعة إنه لمعجز ، وإن محمدا لصادق فيما يدّعيه من النبوة ، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر ، وإن كتابه لمنزل من عنده :
ثم بين السبب الحقيقي في كفرهم فقال :
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) أي إنهم ما كفروا به لأنهم لم يجدوا فيه(23/85)
ج 23 ، ص : 96
ما يصلح حالهم في دينهم ولا دنياهم ، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق ومشاقتهم لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم وحرصهم على مخالفته.
ثم حذرهم وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم فقال :
(كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم فاستغاثوا حين حل بهم العذاب ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا ، فقد فات الأوان وحل البأس ، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب.
ونحو الآية قوله : « فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ » وقوله « حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ » وقوله « فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ. لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ » .
(وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي وما كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعى النبوة ويدعو إلى اللّه وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم ما يجعله يمتاز عنهم ويختص بهذا المنصب وتلك المنزلة الرفيعة ، ومن ثم قالوا ما هو إلا خدّاع كذاب فيما ينسبه إلى اللّه من الأوامر والنواهي ، ثم ذكر شبهتهم فى إثبات كذبه من وجوه ثلاثة :
(1) (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ) أي أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو ؟ وقد أنكروا ذلك وتعجبوا من ترك الشرك باللّه ، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم ، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك وتعجبوا منه وقالوا إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين ويكون محمد وحده محقّا صادقا - ولا شك أن هذا استبعاد فحسب ، ولا مستند له من عقل ولا نقل.
ونحو الآية قوله « أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ(23/86)
ج 23 ، ص : 97
النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ »
.
روى ابن جرير عن ابن عباس قال : « لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويفعل ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ، فبعث أبو طالب إليه فجاء النبي صلّى اللّه عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبى طالب قدر مجلس رجل واحد ، قال فخشى أبو جهل إن جلس إلى جنب أبى طالب أن يكون أرقّ عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مجلسا قرب عمه ، فجلس عند الباب فقال له أبو طالب : أي ابن أخى ما لقومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول ؟ قال وأكثروا عليه من القول ، وتكلم رسول اللّه فقال يا عم : إنى أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدى إليهم بها العجم الجزية ، ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم ما هى وأبيك ، لنعطينّكها وعشرا ، قال صلّى اللّه عليه وسلم (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) فقاموا فزعين ينفضون أثوابهم ويقولون : « أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ؟ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ » فنزل من هذا الموضع إلى قوله : « بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ » .
(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبى طالب بعد ما بكّتهم رسول اللّه وشاهدوا تصلبه في الدين ، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه ، يتحاورون بما جرى ويقلّبون وجوه الرأى فيما يفعلون ، ويقولون : اثبتوا على عبادتها محتملين القدح فيها والغضّ من شأنها والاستهزاء بأمرها.
ثم عللوا الأمر بالصبر بما شاهدوه من تصلبه عليه السلام فقالوا :
(إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ) أي إن هذا لأمر عظيم يريد محمد إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان ،(23/87)
ج 23 ، ص : 98
أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم ، واصبروا على عبادة آلهتكم.
ثم ذكروا أيضا ما ظنوا أن فيه إبطالا لدعواه فقالوا :
(2) (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد من التوحيد في الملة الآخرة وهى ملة النصارى ، فإنهم يقولون بالتثليث ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه ، وإنما خصوا النصرانية لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم.
(إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي ما هذا إلا افتراء وكذب لا حقيقة له ، وليس له مستند من دين سماوى ولا من عقل فيما يزعمون.
ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد صلّى اللّه عليه وسلم بالوحى وهو مثلهم أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون فقالوا :
(3) (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا ؟ ) أي إنه من البعيد أن يختص محمد من بيننا بإنزال القرآن عليه وفينا ذو الجاه والشرف ، والرياسة والكياسة كما حكى اللّه عنهم أنهم قالوا : « لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ » ثم نعى عليهم تعرّضهم لهذا التفضيل وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال : « أ هم يقسمون رحمة ربّك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدّنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات » فهذا منهم دليل على الجهل وقلة العظة.
ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن وميلهم إلى التقليد فقال :
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) أي بل هم في شك من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها لزال هذا الشك عنهم ، إذ هى دالة بأنفسها على صحة نبوته ، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال لم يصلوا إلى الحق في أمره.(23/88)
ج 23 ، ص : 99
ثم ذكر أن سبب هذا الشك هو الحسد لمجىء النبوة إليه من بينهم وسيزول حين مجىء العذاب فقال :
(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي إنهم لما يذوقوا عذابى بعد ، فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك.
والخلاصة - إنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكرى.
ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش فقال :
(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي بل أ يملكون خزائن رحمة اللّه القهار لخلقه ، الكثير المواهب لهم ، المصيب بها مواقعها - فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون ، ويمنحوها من يشاءون ، ويصرفوها عمن لا يحبون ، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم ، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم ؟
والخلاصة - إن أمر النبوة ليس بأيديهم بل بيد العليم بكل شىء « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » .
ونحو الآية قوله : « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً » .
ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار ، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب فقال :
(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشئون الغيبية ويفكروا فى التدابير الإلهية التي يستأنر بها رب العزة والكبرياء ؟ فإن كان الأمر كما يزعمون فليصعدوا في المعارج ويتوصلوا إلى السموات ، وليدبروا شئونها حتى يظن صدق دعواهم ، إذ لا سبيل إلى التصرف فيها إلا بذلك.
والخلاصة - إنه ليس لهم شىء من ذلك ، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة اللّه(23/89)
ج 23 ، ص : 100
بحسب ما يريدون ، وإعطاء النبوة لمن يشاءون ، فذلك من شئونه تعالى فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.
ثم وعد سبحانه نبيه بالنصر والغلبة عليهم فقال :
(جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة ، ويوزعون رحمة ربك بحسب أهوائهم - جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين - مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم ، وستنتصر عليهم كما حدث في بدر وغيرها ، فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية ، والتصرف في الخزائن الربانية ؟ .
وهذا خبر من اللّه لنبيه وهو بمكة ولم يكن له يومئذ جند - أنه سيهزم جند المشركين ، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع - وهذا من أعظم المعجزات وأدل الدلائل على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم وصدق كتابه وأنه من عند اللّه لا من عند البشر.
[سورة ص (38) : الآيات 12 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)
المعنى الجملي
لما ذكر سبحانه أنهم إنما توانوا وتكاسلوا عن النظر والاستدلال لأنهم لم ينزل بهم العذاب - بين في هذه الآيات أن أقوام الأنبياء الماضين كانوا كذلك حتى حاق بهم ما كانوا به يستهزئون.
وفي هذا تخويف لأولئك الكافرين الذين كذبوا الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.(23/90)
ج 23 ، ص : 101
الإيضاح
ذكر سبحانه في هذه الآيات ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه ، فيرعووا عن غيّهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :
(1) (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) أي كذب قوم نوح رسولهم وقالوا إنه مجنون وهزءوا به ، وكلما ألحف في الدعوة زادوا عتوا وعنادا ، فدعا ربه وقال : « رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً » ولما أصروا على تكذيبهم وعنادهم أخذهم الطوفان وهم ظالمون ، ونجّى اللّه نوحا ومن آمن معه كما قال : « فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ » .
(2) (وَعادٌ) وهم قوم هود وقد كذبوه فأهلكهم اللّه بريح صرصر عاتية كما قال فى سورة الحاقة : « وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ » .
(3) (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ) وقد بعث اللّه إليه موسى وأيده بآياته التسع فأصرّ على الجحود والعناد وبغى وتجبر وقال أنا ربكم الأعلى ، فأخذه اللّه أخذ عزيز مقتدر ونجّى موسى وقومه بنى إسرائيل كما قال في سورة يونس : « وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.(23/91)
ج 23 ، ص : 102
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً »
.
وقوله ذو الأوتاد : أي ذو الملك الثابت ، وأصله للبيت المطنب بأوتاد وهو لا يثبت بدونها ، ثم استعمل في إثبات العز والملك كما قال الأسود بن يعفر :
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة فى ظل ملك ثابت الأوتاد
(4) (وَثَمُودُ) وقد جاء ذكرهم في عدة سور أرسل اللّه إليهم صالحا وكانت الناقة له آية فكذبوه فعقروها فأرسل عليهم صاعقة فأهلكتهم وجعلتهم كهشيم المحتظر كما جاء في سورة القمر : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ - إلى أن قال - إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ » .
(5) (وَقَوْمُ لُوطٍ) وقد سبق ذكر قصصهم في عدة سور من الكتاب الكريم وذكر ما حل بهم من العذاب ، فمنها قوله في سورة القمر : « كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ » .
(6) (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) الأيكة : الشجر الملتف بعضه على بعض وأصحابها هم قوم شعيب ، وقد ذكر اللّه قصصهم في كثير من السور ، فمنها ما جاء في سورة الحجر :
« وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ » .
(أُولئِكَ الْأَحْزابُ) أي هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل ، وهم كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.
ثم بين سبب انهزامهم وعقابهم فقال :
(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ) أي إن كل هذه الأمم الخالية والقرون الغابرة ، وقد كانوا أشد منهم قوة كذبوا أنبياءهم فحل بهم العذاب ، فكيف بهؤلاء الضعفاء إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابى ؟ .(23/92)
ج 23 ، ص : 103
ثم بين عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم فقال :
(وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) ينظر أي ينتظر كقوله تعالى : « انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ » وهؤلاء أي كفار مكة ، والفواق : الزمن الذي بين الحلبتين ، والصيحة : النفخة الثانية التي بها تقوم الساعة أي ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا تلك النفخة - بلا توقف مقدار فواق.
والخلاصة - إذا حل هذا الميقات لا يتأخرون عنه أبدا.
[سورة ص (38) : الآيات 16 الى 18]
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)
تفسير المفردات
القط : النصيب والحظ والكتاب بالجوائز والجمع القطوط ، قال الأعشى يمدح النعمان بن المنذر :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطى القطوط ويأفق
ويأفق : أي يصلح.
المعنى الجملي
تقدم أن قلنا إن القوم إنما تعجبوا لشبهات تتعلق بالتوحيد والنبوات والمعاد ، فأشاروا إلى الأولى بقولهم : أجعل الآلهة إلها واحدا ، وإلى الثانية بقولهم : أ أنزل عليه الذّكر من بيننا ، وهنا أشار إلى الثالثة بقوله : وقالوا ربّنا عجّل لنا قطّنا سخرية وتهكما حين سمعوا بالمعاد ، وأن هناك دارا أخرى يحاسبون فيها ويجازون على ما يعلمون ، ثم أمر رسوله بالصبر على أذى المشركين وعلى كل ما يقولون في شأنه من أنه شاعر وأنه مفتر كذاب.(23/93)
ج 23 ، ص : 104
الإيضاح
(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة - ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به ولا تؤخره لى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.
وقائل ذلك على ما روى عن عطاء النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال فيه اللّه تعالى : « سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ » أو أبو جهل على ما روى عن قتادة ، ورضى بهذه المقالة الباقون ، ومن ثم أسندها إليهم جميعا.
ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الغاية ، إذ قالوا إنه ساحر كذاب ، وقالوا ربنا عجل لنا قطنا - أمره سبحانه بالصبر على سفاهتهم فقال :
(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي اصبر على ما يقوله مشركو قومك لك مما تكره ، فإنا ممتحنوك بالمكاره كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك ، ثم جاعلو الظفر لك على من كذبك وشاقّك ، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك.
قصص داود عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 18 الى 20]
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)
تفسير المفردات
الأيد والآد : القوة في العبادة وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، أوّاب : أي رجاع إلى اللّه وإلى طاعته من قولهم آب. إذا رجع ، قال عبيد بن الأبرص :(23/94)
ج 23 ، ص : 105
وكلّ ذى غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
والإشراق : أي وقت الإشراق ، يقال أشرقت الشمس : أضاءت ، وشرقت : طلعت ، محشورة : أي محبوسة في الهواء ، أواب : أي منقاد يسبح تبعا له ، شددنا ملكه : أي قويناه بالهيبة والنصر ، والحكمة : هى إصابة الصواب في القول والعمل ، الفصل : الحاجز بين الشيئين ، وفصل الخطاب : الكلام الذي يفصل بين الحق والباطل.
المعنى الجملي
بعد أن أمر اللّه رسوله بالصبر على أذى المشركين - أردف ذلك ذكر قصص بعض الأنبياء الذين حدث لهم من المشاقّ والأذى مثل ما حدث له فصبروا حتى فرّج اللّه تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم - ترغيبا له في الصبر وإيذانا ببلوغه ما يريد كما كان ذلك عاقبة من قبله.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي واذكر لقومك قصة عبدنا داود ذى القوة في الطاعة والفقه في الدين ، فقد كان يقوم ثلث الليل ويصوم نصف الدهر
وورد في الصحيحين أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « أحب الصلاة إلى اللّه تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى اللّه عز وجل صيام داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ، ولا يفرّ إذا لاقى ، وإنه كان أوّابا »
أي رجاعا إلى اللّه تعالى في جميع شئونه ، فكان كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله استغفر اللّه ،
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم « إنى لأستغفر اللّه في اليوم والليلة مائة مرة » .
وأخرج البخاري في تاريخه عن أبى الدرداء قال : « كان النبي صلّى اللّه عليه وسلم إذا ذكر داود وحدّث عنه قال : كان أعبد البشر » .(23/95)
ج 23 ، ص : 106
وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « لا ينبغى لأحد أن يقول إنى أعبد من داود » .
ثم عدد سبحانه نعمه عليه فقال :
(1) (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْن َ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ)
أي إنه تعالى سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس وآخر النهار ، وتسبيحها معه تقديسها للّه بحال تليق بها ، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما ، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات.
(وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي وسخرنا له الطير حال كونها محبوسة في الهواء تسبح بتسبيحه ، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء وسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف ويسبح معه.
وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل والصوت المتقبّل الذي يعجب به الحيوان الأعجم ، فما بالك بالإنسان ؟
ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال :
(كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل من الجبال والطير مطيع مرجاع إلى أمره يسبح تبعا له (2) (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي قوينا ملكه بكثرة الجند وبسطة الثراء والهيبة ونفوذ الكلمة والنصر على الأعداء (3) (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) أي وأعطيناه العلم الكامل ، والإتقان للعمل ، فهو لا يقدم على عمل إلا إذا عرف موارده ومصادره ، مباديه وغاياته على نحو ما قال الشاعر :
قدّم لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرّة زلجا
(4) (وَفَصْلَ الْخِطابِ) أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف ولا ميل مع الهوى ، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم ، ومزيد فى الحلم ، وتفهم أحوال الخصوم ، ورباطة الجأش ، وعظيم الصبر ، والذكي لذى لا يتوافر لكثير من الناس.(23/96)
ج 23 ، ص : 107
قضية من قضاياه التي حكم فيها
[سورة ص (38) : الآيات 21 الى 25]
{ وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) }
تفسير المفردات
هل : هنا كلمة يراد منها التعجيب والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها ، والخصم :
جماعة المخاصمين ويستعمل للمفرد والجمع مذكرا ومؤنثا قال الشاعر :
وخصم عضاب ينفضون لحاهم كنفض البرازين العراب المخاليا
وتسوروا : أي أتوه من أعلى السور ودخلوا إلى المنزل ، والمحراب : الغرفة التي كان يتعبد فيها ويشتغل بطاعة ربه ، والفزع : انقباض ونفار يعترى الإنسان من شىء مخيف ، بغى : أي جار وظلم ، ولا تشطط : أي لا تبعد عن الحق ولا تجر في الحكومة ، سواء الصراط : أي وسط الطريق ، والنعجة أنثى الضأن ويكنى بها عن المرأة كما قال عنترة :(23/97)
ج 23 ، ص : 108
يا شاة ما قنص لمن حلّت له حرمت علىّ وليتها لم تحرم
فبعث جاريتى فقلت لها اذهبي فتحسّسى أخبارها لى واعلم
قالت رأيت من الأعادى غرّة والشاة ممكنة لمن هو مرتمى
أكفلنيها : أي ملكنيها ، وأصل ذلك اجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى ، وعزّنى : أي غلبنى ، وفي المثل : من عزّ بزّ أي من غلب سلب ، وقال الشاعر :
قطاة عزّها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح
فى الخطاب : أي في مخاطبته إياى ومحاجته ، إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده ، والخلطاء :
هم المعارف أو الأعوان ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج : واحدهم خليط ، فتنّاه : أي ابتليناه ، خر : أي سقط ، راكعا : أي ساجدا وقد يعبر بالركوع عن السجود ، قال الشاعر :
فخرّ على وجهه راكعا وتاب إلى اللّه من كل ذنب
وأناب : أي رجع إلى ربه ، والزلفى : القرب من اللّه ، والمآب : المرجع.
المعنى الجملي
بعد أن مدح سبحانه داود وأثنى عليه بما سلف - أردف ذلك ذكر نبأ عجيب من أنبائه ، مشوّقا إليه السامع ، ومعجّبا له.
الإيضاح
(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ. إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) أي هل علمت ذلك النبأ العجيب ، نبأ الجماعة الذين تسلّقوا سور غرفة داود ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه في غير وقت جلوسه للحكم ، وحين رآهم(23/98)
ج 23 ، ص : 109
فزع منهم ظنا منه أنهم جاءوا لاغتياله ، إذ كان منفردا في محرابه للعبادة ، فقالوا له :
لا تخف منا ، نحن اثنان جار بعضنا على بعض فاحكم بيننا حكما عادلا ولا تجر واهدنا إلى الطريق السوىّ ، ولا تشطط في الحكومة.
ثم فصّلوا موضع الخصومة فقالوا :
(إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) أي إن أخى هذا يملك تسعا وتسعين شاة وأملك شاة واحدة ، فقال ملكنيها وغلبنى في المحاجة ، فجاء بحجج لم أطق لها ردّا ولا دفعا.
ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة فقال :
(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) أي قال داود بعد أن أقرّ المدعى عليه بما قال المدّعى : لقد ظلمك بطلبه منك إضافة نعجتك إلى نعاجه.
ثم استطرد إلى بيان أن الظلم من شيمة الإنسان فقال :
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وإن كثيرا ممن يتعاملون معا يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفّة فلعلّة لا يظلم
إلا من يخافون ربهم ويؤمنون به ويعملون صالح الأعمال ، فإن نفوسهم تعزف عن الظلم ، وترعوى خشية من خالقها ، وما أقل هؤلاء عددا ، وأندرهم وجودا كما قال :
« وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ » .
ثم ذكر أن داود كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال ثم تبين له غير ما كان قد ظن فقال :
(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) أي وظن داود أن دخولهما عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من اللّه تعالى لأجل أن يغتالوه ،(23/99)
ج 23 ، ص : 110
فلم يقع ما كان قد ظنه فاستغفر ربه من ذلك الظن إذ لم يقع ما كان قد ظنه فخرّ ساجدا ورجع إلى ربه طالبا منه المغفرة لما فرط منه.
ثم بين أنه أجاب طلبه وغفر له إنه كان غفورا رحيما فقال :
(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي فغفرنا له ما وقع منه من ذلك الظن ، وإنه لمن المقر بين لدينا وله حسن المرجع وهو النعيم في الجنة.
هذا خلاصة ما رآه أبو حيان في البحر في تفسير هذا القصص ، وهو حسن.
بيد أنا نرى أن ظن داود في الخصمين وقد دخلا عليه في مثل هذا الوقت ومن غير الباب لإرادة الاغتيال - ظن له ما يؤيده من الدلائل وشواهد الحال ، فلا يمكن أن يكون إثما حتى يطلب من ربه المغفرة عليه - إلى أن هذه الخصومة التي ترافعا إليه فيها وطلبا منه الحكومة - ليست من معضلات المشاكل التي يحتاج فيها إلى حكم داود ، إلى أنه قد كان لهما مندوحة منها بأن ينتظرا إلى اليوم التالي حتى يجلس للقضاء ولا يضيع عليهما حق إذا هما تأخرا يوما آخر ، لأن هذه الواقعة إن كانت على الوضع الذي قالاه ، فليس فيها ما يدعو إلى المبادرة والتقاضي فى غير موعد القضاء والوصول إلى القاضي على تلك الحال المريبة - فلا بد أنهما قد كانا يريدان غرضا آخر أخفياه غير ما كان قد ظهر منهما ، ذلك الغرض هو إرادة الاغتيال ، وما منعهما من تنفيذه إلا يقظة الحراس والخدم والحشم وإحاطته بهما ، فاخترعا سببا لمجيئهما إليه وهو مجيئها للاستفتاء فيما خفى عليهما ، ولأجله تسوّرا المحراب ، ومما يرشد إلى هذه النية المبيّتة نية الاغتيال أنّ تهجّم الناس على البيوت للتقاضى ليس بالمألوف ولا المعروف في أي عصر ، إلى أن هذه الفتوى لا تحتاج إلى مثل داود ، فهى فتوى جاءت بنت ساعتها لم يفكرا فيها من قبل ، والذي ألجأهما إليها يقظة الحرس وظنهما أنهما هالكان لا محالة إذا لم يذكرا سببا يسوّغ لهما دخول القصر في ذلك الحين ، ومما يؤيد هذا أن اغتيال الأنبياء كان معروفا في بنى إسرائيل فقد قتلوا أشعيا وزكريا كما يرشد إلى ذلك قوله : « وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ »(23/100)
ج 23 ، ص : 111
وحين علم داود غرضهما وتظاهرت عليه الأدلة همّ أن ينتقم منهما ويجازى السيئة بمثلها « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » ولكنه رأى أن مقام النبوة أمثل به الصفح والعفو كما قال :
« فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ » ومن ثم استغفر ربه لما كان قد عزم عليه من الانتقام تأديبا لهما ولأمثالهما.
وما جاء في بعض كتب التفسير من أن المراد بالنعاج النساء كما جاء كناية عن ذلك
فى كلام العرب كما قال كنعاج الفلا تعسّفن رملا
فذلك يتوقف على أن كلمة
(نعجة) فى اللغة العبرية تستعمل كناية عن المرأة كما هى في العربية ، وتأباه كلمة (الْخُلَطاءِ) وكذلك ما يقال من أن الخصمين كانا ملكين فإن (تَسَوَّرُوا) تأباه لأن الملائكة أجسام نورانية لا أجسام كثيفة فلا حاجة إلى التسوّر ، إلى أنّ ما جاء من القصص عن ذكر السبب في مجىء الملكين مما يخلّ بمنصب النبوة ، وفيه نسبة الكبائر إلى الأنبياء ، فيجب علينا أن نطرحه إذ يبطل الوثوق بالشرائع - إلى ما فيه من مطعن لأرباب الأديان الأخرى على المسلمين ، إذ نسبوا إلى الأنبياء ما يجلّ مقامهم عنه ، ويأباه عامة الناس فضلا عن الأنبياء الذين اصطفاهم اللّه لرسالاته ، ومن ثم أثر عن علىّ رضى اللّه عنه أنه قال : من حدّثكم بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين.
[سورة ص (38) : آية 26]
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)
المعنى الجملي
بعد أن قص سبحانه علينا قصص داود والخصمين - أردف ذلك بيان أنه فوض إلى داود خلافة الأرض وأوصاه بالحكم بين الناس بالحق وعدم اتباع الهوى حتى لا يضل(23/101)
ج 23 ، ص : 112
عن سبيل اللّه ، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب وسوء المنقلب ، إذ قد نسى يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض ، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية ، لك الملك والسلطان ، وعليهم السمع والطاعة ، لا يخالفون لك أمرا ، ولا يقيمون في وجهك عصا.
ثم ذكر ما يستتبع ذلك فقال :
(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) المنزل من عندى ، والذي شرعته لعبادى لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة.
ثم أكد ما سلف بالنهى عن ضده فقال :
(وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى ) فى الحكومة وغيرها من أمور الدين والدنيا.
وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة ، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.
ثم بين سوء عاقبة ذلك فقال :
(فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فيكون اتباعك للهوى سببا في الضلال عن الدلائل التي نصبت ، والأعلام التي وضعت ، للارشاد إلى سبل السلام ، بإصلاح حال المجتمع فى دينه ودنياه ، وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه ، وبينه وبين الناس.
ثم بين غائلة الضلال ووخامة عاقبته فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي إن الذين يتركون الحق ويضلون عن سبيل معالمه - لهم من اللّه العذاب الشديد(23/102)
ج 23 ، ص : 113
يوم الحساب لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال ، وأن اللّه سيحاسب كل نفس بما كسبت ، فمن دسّى نفسه وسلك بها سبيل المعاصي فقد حق عليه العذاب الذي كتبه على العاصين جزاء وفاقا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم.
[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
تفسير المفردات
باطلا : أي عبثا ولعبا ، ويل : أي هلاك ، مبارك : أي كثير المنافع الدينية والدنيوية ، ليدبروا : أي ليتفكروا ، ليتذكر : أي ليتعظ ، الألباب : واحدها لبّ ، وهو العقل ، وقد يجمع على ألبّ ويفك إدغامه في ضرورة الشعر ، قال الكميت :
إليكم ذوى آل النبىّ تطلّعت نوازع من قلبى ظماء وألبب
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم العذاب الشديد يوم الحساب لظنهم أنه ليس بكائن - أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه ، لأنه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ، بل خلقهم لعبادته وتوحيده ، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين ، ويعذب الكافرين ، ثم أردف ذلك ببيان فضل القرآن الذي أنزله على رسوله هاديا للناس ، ومنقذا لهم من الضلالة إلى الهدى ، فإذا هم تدبروا آياته ، واتعظوا بعظاتها ، سعدوا في الدارين ، وبلغوا السماكين ، وكانوا سادة العالم أجمع.(23/103)
ج 23 ، ص : 114
الإيضاح
(وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا) أي وما أوجدنا السماء وما فيها من زينة ومنافع للناس ، والأرض وما فيها من فوائد في ظاهرها وباطنها لهم ، وما بينهما مما يعلمون ومما لا يعلمون - لهوا ولعبا ، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة ، وأسرار بالغة ، ومصالح جمة ، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا ، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا ، فإنا لن نترك الناس سدى ، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير والقطمير والقليل والكثير ، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله : « وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ » .
ثم بين أن هذا الظن الفاسد قد ظنه الذين كفروا باللّه وجحدوا آياته فقال :
(ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن الذين كفروا باللّه وآياته التي نصبها في الأنفس والآفاق ، ولم يتدبروا حق التدبر في خلق هذا الكون البديع الدالّ على قدرة خالقه وعظيم تصرفه - أنكروا الحكمة في خلقه ، وأنه إنما وجد ليكون دليلا على وجود خالقه ، وبرهانا على وحدانيته كما
ورد في الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيّا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبى عرفونى » .
ونحو الآية قوله : « أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » ثم بين أن لهم سوء المنقلب ، على بطلان ما اعتقدوا ، وقبيح ما فعلوا فقال :
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) أي فياويل الكافرين من النار التي أعدت لهم مستقرا ومقاما ، جزاء لهم على ما اجترحوا من الشرك بربهم وخالقهم ، وكفرانهم بنعمه التي أنعم بها عليهم ، وإنكارهم لليوم الذي تجازى فيه كل نفس بما قدمت من صالح العمل وسيئه « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(23/104)
ج 23 ، ص : 115
ثم بين أن مقتضى عدله وحكمته ألا يساوى بين الذين أحسنوا بالحسنى ، والذين اجترحوا السيئات ، ودسّوا أنفسهم بكبير الآثام والذنوب فقال :
(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أ نجعل من آمنوا بربهم واعتقدوا أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا شريك له في ملكه ، وأصلحوا أعمالهم فأدّوا ما يجب للخلق والخالق وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه وانتهوا عما نهوا عنه ، فلم يدسّوا أنفسهم بفعل شىء من كبائر الآثام خوفا من يوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، ولا تقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً » . « يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » كمن كفروا به وعاثوا في الأرض فسادا ، وهاموا فيها على وجوههم ، لا دين يمنعهم ، ولا زاجر يردعهم ، إذ هم ينكرون الجزاء والحساب والإعادة بعد الموتة الأولى ويقولون : ما هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر ، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غىّ ، أو يكفّوا عن معصية ؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات ، ويجترحون السيئات ، بما وسوس إليهم به الشيطان ، أن لا حلال ولا حرام ، ولا جنة ولا نار ، فما هذه إلا أساطير الأولين ، وخزعبلات الموسوسين المتزمّتين.
وإذا كان هذا حقا واقتضته الحكمة وأوجبته العدالة ، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع ، ويثاب على ما عمل ، ويعاقب فيها العاصي على ما دنّس به نفسه من شرك بربه ، واجتراح للاثم والعصيان ومخالفة أمر الواحد الديان.
والعقول السليمة ، والفطر الصحيحة ترشد إلى هذا وتؤيده ، وتدل عليه وتثبته ، فإنا نرى الظالم الباغي قد يزداد في دنياه مالا وولدا ، ويتمتع بصنوف اللذات ، من الدور(23/105)
ج 23 ، ص : 116
والقصور ، والفراش الوثير ، والسكن في الجنات ، ويركب فاره الخيول المطهّمة والمراكب الفاخرة ، ويشار إليه بالبنان ، بينا نرى المطيع لربه ، المظلوم من بنى جنسه قد يعيش عيش الكفاف ، ولا يجد ما يقيم به أوده ، ويسدّ به مخمصته ، أ فيكون من حكمة الحكيم العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة أن يترك الناس سدى يفعلون ما شاءوا بلا حساب ولا عقاب ، أو ينتصف للمظلوم من الظالم ويرجع الحق إلى صاحبه ؟ وربما لا يحصل هذا في الدنيا ، فلا بد من دار أخرى يكون فيها العدل والإنصاف ، والكيل بالقسط والميزان ، وتلك هى الدار التي وعد بها الرّحمن ، على ألسنة رسله الكرام ، صدق ربنا ، وإن وعده الحق ، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، لا ظلم اليوم.
أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال : الذين آمنوا علىّ وحمزة وعبيدة ابن الحارث رضى اللّه عنهم ، والمفسدون في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر.
ولما كان القرآن هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة ، والمآخذ العقلية الصحيحة قال :
(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أنزلنا إليك هذا الكتاب النافع للناس ، المرشد لهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ، فى دينهم ودنياهم ، الجامع لوجوه المصالح ، ليتدبرها أولو الحجا الذين قد أنار اللّه بصائرهم ، فاهتدوا بهديه ، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه ، وتذكروا مواعظه وزواجره ، واعتبروا بمن قبلهم فارعووا عن مخالفته ، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين ، ويستأصلهم كما استأصل السابقين ، ممن بغوا في الأرض فسادا.
وما تدبّره بحسن تلاوته وجودة ترتيله ، بل بالعمل بما فيه ، واتباع أوامره ونواهيه ، ومن ثمّ قال الحسن البصري : قد قرأ القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله ، حفظوا(23/106)
ج 23 ، ص : 117
حروفه ، وضيعوا حدوده حتى إن أحدهم ليقول : واللّه لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا ، وقد واللّه أسقطه كله ، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل ، واللّه ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده ، واللّه ما هؤلاء بالحكماء ولا الوزعة ، لا أكثر اللّه في الناس من مثل هؤلاء.
قصص سليمان عليه السلام حين عرض الصافنات الجياد
[سورة ص (38) : الآيات 30 الى 33]
{ وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِي ِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) }
تفسير المفردات
الصافن من الخيل : الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها كما قال :
ألف الصّفون فما يزال كأنّه مما يقوم على الثلاث كسيرا
وقال النابغة :
لنا قبّة مضروبة بفنائها عتاق المهارى والجياد الصوافن
والجياد : واحدها جواد ، وهو السريع العدو ، كما أن الجواد من الناس السريع البذل قاله المبرد ، والخير هنا : الخيل : توارت : أي غيبت عن البصر ، طفق : شرع ، المسح إمرار اليد على الجسم.(23/107)
ج 23 ، ص : 118
الإيضاح
(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ) أي وآتينا داود ابنا يسمى سليمان.
ونحو الآية قوله : « وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ » .
ثم مدحه سبحانه وأثنى عليه فقال :
(نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي ما أحقه بالمدح والثناء! لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات ، وفي كثير من المهمات ، اعتقادا منه بأن كل شىء من الخير لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
ثم ذكر حالا من أحواله التي تستحق الإطراء والثناء فقال :
(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) أي امدحه حين عرضت عليه الجياد الصافنات من العصر حتى آخر النهار ، لينظر إليها ويتعرف أحوالها ، ومقدار صلاحيتها للقيام بالمهامّ التي توكل إليها حين الغزو وغيره.
وقد وصفها بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية ، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها ، وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها ، وقيل وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن ، بل يكون في العراب الخلّص.
(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قد يحب الإنسان شيئا وهو يتمنى ألا يحبه ، كالمريض الذي يشتهى ما يزيد مرضه ، والوالد الذي يحب ولده السيّء السيرة والخلق ، وقد يحب شيئا وهو يرى أن من المصلحة أن يحبه ، ومن الخير أن يزداد شغفه به ، وتلك هى غاية المحبة ، فسليمان عليه السلام يقول : إنى أحب حبى لهذه الخيل ، وتلك المحبة إنما حصلت عن ذكر ربى وأمره لا عن الشهوة والهوى.
(حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) أي حتى غابت عنى بسبب العثير المتطاير من سنابكها كما قال المتنبي :
أثارت سنابكها عليها عثيرا لو تبتغى عنقا عليه لأمكنا(23/108)
ج 23 ، ص : 119
فالمراد أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة « إنّى أحببت حبّ الخير عن ذكر ربّى » وما زال يرددها حتى غابت عن عينيه بسبب الغبار من جهة ، ولبعد المسافة من جهة أخرى.
وبعد أن اطمأن إلى حالها ، وحمد جميل أمرها قال :
(رُدُّوها عَلَيَّ) فقد كفى ما قامت به من حضر دلت به على نجابتها وفراهتها ، وأنها أهل لأن تقوم بما يطلب منها حين الملمّات ، وفيها الكفاية وفوق الكفاية حين حلول الأزمات ، من غزو وغيره.
ولما ارتاح إليها وسرّ بما بذلته من جهد ، وما ينتظر منها إذا جدّ الجدّ - أظهر استحسانه لها ولفرسانها.
(فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) أي فجعل يمسح سوقها وأعناقها إظهارا لكرامتها لديه ، إذ هى أعظم الأعوان ، فى دفع العدوان ، ولا سيما وقد بلاها وخبر أمرها وعلم قوة أسرها ، وأنها خلو من الأمراض التي قد تعوقها عن عملها حين البأساء.
والخلاصة - إن سليمان احتياطا للغزو أراد أن يعرف قوة خيوله التي تتكوّن منها قوة الفرسان ، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه ، وقال إنى ما أحببتها للدنيا ولذاتها ، وإنما أحببتها لأمر اللّه وتقوية دينه ، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره ، أمر راكضيها بأن يردوها إليه ، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها ، سرورا بها وامتحانا لأجزاء أجسامها ، ليعرف ما ربما يكون فيها من عيوب قد تخفى ، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضى.
[سورة ص (38) : الآيات 34 الى 40]
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38)
هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) }(23/109)
ج 23 ، ص : 120
تفسير المفردات
فتنّا سليمان : أي ابتليناه بمرض ، جسدا : أي جسما ضعيفا كأنه جسد بلا روح ، أناب : أي رجع إلى صحته ، لا ينبغى لأحد من بعدي : أي لا ينتقل منى إلى غيرى ، رخاء : أي لينة ، أصاب : أي قصد وأراد ، فقد حكى الزجاج عن العرب أنها تقول :
أصاب الصواب فأخطأ الجواب ، قال الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل
مقرّنين : أي مربوطين ، والأصفاد : واحدها صفد (بالتحريك) وهو الغلّ الذي يجمع اليدين إلى العنق ، قال عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا وأبنا بالملوك مصفّدينا
والزلفى : الكرامة ، والمآب : المرجع.
الإيضاح
(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أي ولقد ابتلينا سليمان بمرض عضال صار بسببه ملقى على كرسيه ، لشدة وطأته عليه (والعرب تقول فى الضعيف : إنه لحم على وضم ، وجسم بلا روح) ثم رجع بعد إلى حاله الأولى واستقامت له الأمور كما كان.
(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) طلب المغفرة من ربه ، لأنه قد يترك الأفضل والأولى فاحتاج إلى طلب المغفرة من ربه ، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأن(23/110)
ج 23 ، ص : 121
هذا في مقام التذلل والخضوع كما
قال عليه السلام « إنى لأستغفر اللّه في اليوم والليلة سبعين مرة »
وما روى من قصص الخاتم والشيطان ، وعبادة الوثن في بيت سليمان ، فذلك من أباطيل اليهود دسّوها على المسلمين ، وأبى قبولها العلماء الراسخون.
ومن ثم قال الحافظ ابن كثير : وقد رويت هذه القصة مطولة عن جماعة من السلف رضى اللّه عنهم كسعيد بن المسيّب وزيد بن أسلم وجماعة آخرين ، وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب ا ه.
(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) أي هب لى ملكا لا يكون لأحد غيرى لعظمه.
قال صاحب الكشاف : كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة وارثا لهما ، فأراد أن يطلب من ربه عز وجل معجزة فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوته ، قاهرا للمبعوث إليهم ، ولن تكون معجزة حتى تخرق العادة ، فذلك معنى قوله : لا ينبغى لأحد من بعدي ا ه.
وقيل إنه أراد بقوله : لا ينبغى لأحد من بعدي - الدلالة على عظمه وسعته كما تقول : لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك ، ولكنك تريد تعظيم ما عنده.
ثم علل المغفرة والهبة معا فقال :
(إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي إنك أنت الكثير المواهب والعطاء ، فأجب طلبى ، وحقق رجائى.
ثم أخبر سبحانه بأنه أجاب دعاءه ووفقه لتحصيل ما أراد وعدّد نعمه عليه فقال :
(1) (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح تجرى لينة طيّعة له لا تمتنع عليه إلى أىّ جهة قصد.(23/111)
ج 23 ، ص : 122
ولا تنافى بين وصف الريح هنا بالرخاء ، ووصفها في آية أخرى بكونها عاصفة كما قال : « وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً » لأنها تكون بكلتا الحالين بحسب الحاجة إليها ، فهى تشتد حين الحلّ ، وتلين حين السير.
(2) (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغوّاصين في البحار منهم ، يسخرهم فيما يريد من الأعمال ، فإذا أراد بناء العمائر والقصور أو الحصون والقناطر أنجزوها له في الزمن القصير ، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار لجعلهما حلية لمن في قصوره لبّوا طلبه سراعا.
(3) (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وآخرين من الشياطين مردة مشاكسين لا يلبون دعوة الداعي ، ويخالفون ما أمروا به فيوضعون في السلاسل والأغلال ليتقى شرهم.
وخلاصة ما سلف - إن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء ، ومن لم يطع أمره وضعه في السلاسل والأغلال ، كفّا لشره ، وعقابا له ، وعبرة لغيره.
وإنا لا نعلم حقيقة تلك القيود ولا كيف تكون العقوبة ، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين وكيف يبنون أو يغوصون ؟ فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئا من أحواله ، فعلينا أن نؤمن بأن سليمان لعظم ملكه لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله بل سخّر معهم الجن فيما يصعب عليهم ، ونتقبل هذا كما قصه القرآن دون دخول في التفاصيل خوفا من الزلل الذي لا تؤمن مغبّته ، ولا نصل أخيرا إلى معرفة الحق فيه ، ولنكتف بذلك ، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيّد فيه.
ثم ذكر سبحانه أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع كما شاء دون رقيب ولا حسيب فقال :
(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي وقلنا له : إن هذا الذي أعطيناكه(23/112)
ج 23 ، ص : 123
من الملك العظيم والبسطة في الغنى والتسليط على عالم لم يسلط عليه غيرك من العوالم الأخرى - عطاؤنا الخاص بك ، فأعط من شئت ، وامنع من شئت غير محاسب على شىء من ذلك ، فقد فوضنا لك التصرف فيه كما تشاء.
وبعد أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا التي يحار العقل في إدراكها ، أبان ماله فى الآخرة عند ربه من مقام كريم وجنات ونعيم فقال :
(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا فنبوّئه جنات النعيم ، ونؤتيه الإجلال والتعظيم ، فهو كما كان سعيدا في الدنيا يكون سعيدا في الآخرة ، ويفوز برضا ربه ، وعظيم كرامته. جعلنا اللّه ممن كتبت له السعادة فى الدارين والكرامة والمثوبة لديه في جنات النعيم.
قصص أيوب عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44]
{ وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) }
تفسير المفردات
أيوب : هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه السلام ، فهو من بنى إسرائيل قاله ابن جرير. والنّصب : (بضم فسكون) والنّصب (بفتحتين) كالرشد والرشد : المشقة والتعب ، عذاب : أي ألم مضر كما جاء في قوله : « أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ » اركض برجلك : أي اضرب بها على الأرض ، مغتسل : أي ماء تغتسل به(23/113)
ج 23 ، ص : 124
وتشرب منه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من الكلأ والريحان ، ويقال حنث في يمينه :
إذا لم يفعل ما حلف عليه.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر لقومك صبر أيوب حين نادى ربه وقال : رب إنى أصبت بالمرض ، وتفرق الأهل وضياع الولد.
ومن حديث مس الشيطان له ما
روى - إن الشيطان وسوس إليه فأعجب بكثرة ما له وولده ووافر صحته ، فابتلاه اللّه بالأمراض والأسقام ،
وأضاع ماله وتفرق ولده فى أنحاء البلاد ، وهلك منهم من هلك فصبر على ما أصابه من أذى وما ناله من ألم ممضّ ، وحسرة تقطّع نياط القلب.
ولا نعلم على وجه التحقيق قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر ولا نوع هذا الضر ، إذ القرآن لم يصرح بهذا ، ولكنا نعلم على وجه لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفر الناس منه ، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه ، لأن ذلك شرط من شروط النبوة ، كما أنا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى اللّه به إليه أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا له الدواء :
(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي حرك الأرض برجلك واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب ، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا إيماء إلى نوع المرض الذي كان به ، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالإكزيما والحكّة ونحوهما مما يتعب الجسم ويؤذيه أشد الإيذاء لكنه ليس بقتال ، وكلما تقدم الطب أمكن الطبيب أن يبين نوع هذا المرض على وجه التقريب لا على وجه التحديد - كما أن في ذلك إيماء إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض ، وهى كما تفيد بالاستعمال الظاهري ، تفيد بالشرب أيضا(23/114)
ج 23 ، ص : 125
كما نرى في العيون التي في البلاد التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر وغيرها ، واستعملت مشاتى ومصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية كمياه فيشى وسويسرا وحلوان.
وقد أراد بمس الشيطان إياه بالنصب والعذاب - ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء والقنوط من الرحمة ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى اللّه أن يكفيه ذلك بكشف البلاء أو بالتوفيق لدفعه ورده بالصبر الجميل.
وعن أنس بن مالك : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « إن نبى اللّه أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثمانى عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم واللّه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين ، قال له صاحبه وما ذاك ؟ قال منذ ثمانى عشرة سنة لم يرحمه اللّه تعالى فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب : لا أدرى ما تقول ، غير أن اللّه عز وجل يعلم أنى كنت أمرّ على الرجلين يتنازعان فيذكران اللّه تعالى فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر اللّه تعالى إلا في حق » .
ولا شك أن هذا الحديث من أخبار الآحاد التي تصادم أسس الدين الصحيحة من أن الأنبياء يجب ألا يكون فيهم من الأمراض ما ينفر الناس منهم ، لأن وظيفتهم تبليغ ما أرسلوا به إليهم ، وكيف يجتمع الناس بهم ويتحدثون إليهم وهم في تلك الحال وهذا البلاء ، ومن ثم فنحن نقف أمام هذه الأخبار موقف الحذر والاحتياط في قبولها أو نقطع بعدم صحتها لمخالفتها لقطعى لا شك فيه.
وكما دفع عنه سبحانه الضر أجاب لدعائه ، أجاب دعاءه في أهله وولده فقال :
(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي وجمعنا له أهله بعد التفرّق والتشتّت وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه ، رحمة منا(23/115)
ج 23 ، ص : 126
وتذكرة لأولى العقول السليمة ، لنعتبر ونعلم أن رحمة اللّه قريب من المحسنين ، وأن مع العسر يسرا ، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة :
عسى فرج يأتى به اللّه إنه له كل يوم في خليقته أمر
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ماذا كانت حاله في ماله ، فنمسك عن الكلام كما أمسك.
ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه فقال :
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان أو كلأ فاضرب بها ، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها ، والكتاب لم يبين لنا علام حلف ؟ وعلى من حلف ؟ ويذكر الرواة أنه حلف على زوجه رحمة بنت إفرائيم ، وقد كانت ذهبت لحاجة فأبطأت ، فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة ، فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة ويضربها بها ، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به وبها ، لحسن خدمتها له وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج وفرج لمن اتقى اللّه وأناب إليه ، ولهذا قال عز اسمه :
(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي إنا وجدنا أيوب صابرا على ما أصابه فى النفس والأهل والمال من أذى ، فجازيناه بما فرّج كربته ، وأذهب لوعته ، وليس فى الشكوى إلى اللّه إخلال بالصبر ، وليس فيه شىء من الجزع ، فهو كتمنى العافية وطلب الشفاء.
وقد روى أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : اللهم أنت أخذت ، وأنت أعطيت ، وكان يقول في مناجاته : إلهى قد علمت أنه لم يخالف لسانى قلبى ، ولم يتبع قلبى بصرى ، ولم يلهنى ما ملكت يمينى ، ولم آكل إلا ومعى يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعى جائع أو عريان.(23/116)
ج 23 ، ص : 127
قصص إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، واليسع وذى الكفل
[سورة ص (38) : الآيات 45 الى 49]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
تفسير المفردات
الأيدى : أي القوى في طاعة اللّه ، والأبصار : واحدها بصر ويراد به هنا البصيرة والفقه في الدين ومعرفة أسراره ، أخلصناهم : أي جعلناهم خالصين لنا ، بخالصة :
أي بخصلة خالصة لا شوب فيها ، هى تذكّر الدار الآخرة والعمل لها ، المصطفين : أي المختارين من أبناء جنسهم ، والأخيار : واحدهم خيّر وهو المطبوع على فعل الخير ، هذا ذكر : أي هذا المذكور من الآيات فصل من الذكر وهو القرآن.
الإيضاح
(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر صبر عبادنا الذين شرفناهم بطاعتنا ، وقويناهم على العمل لما يرضينا ، وآتيناهم البصيرة فى الدين ، والفقه في أسراره والعمل النافع فيه.
ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات وجليل المدح بقوله :
(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا ، عاملين بأوامرنا ونواهينا ، لا تصافهم بخصلة جليلة الشأن لا يساويها غيرها من الخصال ، وهى(23/117)
ج 23 ، ص : 128
تذكرهم الدار الآخرة ، فهى مطمح أنظارهم ومطّرح أفكارهم في كل ما يأتون وما يذرون ليفوزوا بلقاء ربهم ، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.
(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين الذين جبلت نفوسهم على الخير ، قلا تطمح إلى الأذى ، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد ، ولا ترتكب الشرور والآثام.
(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ) أي واذكر لقومك من هؤلاء الأنبياء الذين تحملوا الشدائد في دين اللّه ، وقد ذكرنا شرح هذه الأسماء ، وأوصاف هؤلاء الأنبياء في سورتى الأنعام والأنبياء.
(وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي وكل منهم ممن اختاره اللّه للنبوة ، واصطفاه من خلقه.
(هذا ذكر) أي هذه الآيات الناطقة بمحاسهم شرف لهم يذكر بين الناس ، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر ، كما يقول الجاحظ في كتبه : فهذا باب ثم يشرع في باب آخر ، ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع فى آخر : هذا وكان كيت وكيت - وعلى هذا جاء قوله : « هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ » كما سيأتى بعد.
[سورة ص (38) : الآيات 50 الى 54]
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54)
تفسير المفردات
الطاغي : المتجاوز للحد في ترك الأوامر وفعل النواهي ، جنات عدن : أي جنات استقرار وثبات ، من قولهم : عدن بالمكان أي أقام به ، متكئين فيها : أي متكئين فيها(23/118)
ج 23 ، ص : 129
على الأرائك كما جاء في الآية الأخرى ، أتراب : أي لدات متساوون في السن حتى لا تحصل الغيرة بينهن ، نفاد : أي انقطاع.
المعنى الجملي
لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم فوصفوه بأنه ساحر كذاب ، وقالوا استهزاء : ربنا عجل لنا قطّنا - أمره بالصبر على أذاهم لوجهين :
(1) إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره فعليه أن يقتدى بهم ويجعلهم أسوة له.
(2) ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها من أن من أطاع اللّه كان له من الثواب كذا وكذا ، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا ، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة وعلى ما يلاقيه من المكاره.
الإيضاح
(وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن اللّه أعطى المتقين الذكر الحسن في الدنيا ، ولهم في الآخرة حسن المرجع.
ثم بين هذا المآب الحسن بقوله :
(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي هو جنات استقرار وإقامة ، أبوابها فتّحت إكراما لهم ، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة وقرة العيون فيها ومشاهدة أحوالها التي تسرّ الناظرين ، ففيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها وتنعمهم بنعيمها فقال :(23/119)
ج 23 ، ص : 130
(مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك ، وإنما خص الشراب والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها ، لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة ، فالنفس إليها أشوق ، وفي ذكرها أرغب ، كما أن في ذلك إيماء إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل ، ولا تحلل فيها.
وبعد أن وصف المسكن والمأكول والمشروب وصف الأزواج فقال :
(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي وعندهم نساء ذوات خفر قصرن طرفهن على أزواجهن ، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن ، وهن متساويات في السن والجمال يجب بعضهن بعضا ، وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج ، إذ في تباغض الضرائر النّصب والتعب والهمّ الكثير للزوج ولهنّ.
(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هو ما وعد اللّه به عباده المتقين ، يصيرون إليه بعد نشورهم ، وقيامهم من قبورهم.
ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم لا يزول ولا ينقطع فقال :
(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا النعيم وتلك الكرامة - لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع.
ونحو الآية قوله : « ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ » وقوله : « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ » أي مقطوع ، وقوله : « لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ » أي منقطع. وقوله :
« أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها » .
[سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64]
هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59)
قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)(23/120)
ج 23 ، ص : 131
تفسير المفردات
الطاغين : هم الكفار الذين تجاوزوا حدود اللّه وكذبوا رسله ، يصلونها : أي يدخلونها ويقاسون حرها ، والمهاد : كالفراش لفظا ومعنى ، والحميم : الماء الشديد الحرارة ، والغساق : شديد البرودة يغسق من صديد أهل النار ، يقال غسقت العين : أي سال دمعها ، من شكله : أي من مثل المذوق في الشدة والفظاعة ، أزواج : أي أجناس ، فوج :
أي جمع كثير من أتباعكم في الضلال ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها ، لا مرحبا بهم. قال أبو عبيدة : العرب تقول لا مرحبا بك : أي لا رحبت عليك الأرض ولا اتسعت ، من الأشرار : أي الأراذل الذين لا خير فيهم ، يريدون بذلك المؤمنين ، زاغت عنهم : أي مالت عنهم ، والتخاصم : مخاصمة بعضهم بعضا ومدافعة كل منهم الآخر.
المعنى الجملي
بعد أن وصف سبحانه ثواب المتقين - أردفه بوصف عقاب الطاغين ، ليكون ذلك متمما له ، فيأتى الوعيد عقب الوعد ، والترهيب إثر الترغيب ، فيكون المرء بين(23/121)
ج 23 ، ص : 132
رجاء في الثواب وخوف من العقاب ، فيزداد في الطاعة وينأى عن المعصية ، وتلك وسيلة التهذيب والتأديب التي ترقى بها النفوس إلى سبيل الكمال في دنياها وآخرتها.
الإيضاح
(هذا) أي هذا الذي تقدم ما يكون جزاء للمؤمنين كفاء ما قدّموا من أعمال صالحة.
(وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي وإن للكافرين الخارجين عن طاعة اللّه المكذبين لرسله سوء المنقلب وشر العاقبة ، ثم فسر ذلك بقوله :
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي هم يدخلون جهنم ويقاسون شديد حرها ، فبئس فراشا هى ونحو الآية قوله : « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ » .
ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية بذوق هذا العذاب فقال :
(هذا فَلْيَذُوقُوهُ) أي العذاب هذا ، فليذوقوه.
ثم فصل أنواعه وبين ألوانه فقال :
(حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي لهم فيها ماء حارّ يشوى الوجوه ، وماء بارد لا يستطاع شر به لبرودته. قال الحسن رضى اللّه عنه : الغساق عذاب لا يعلمه إلا اللّه تعالى ، إن الناس أخفوا للّه طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله : « فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ » وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة.
ثم زاد في التهديد وبالغ في الوعيد فقال :
(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) أي ليس الأمر مقصورا على هذا فحسب ، بل لهم فيها أشباه وأمثال من مثله فظاعة وشدة كالزقوم والصعود والسموم.
وبعد أن وصف مساكنهم ومشاربهم حكى ما يتناجون به ويقوله بعضهم لبعض.
(هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي هم يتلاعنون ويتكاذبون ، فتقول(23/122)
ج 23 ، ص : 133
الطائفة التي تدخل قبل الأخرى حين تقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية : هذا جمع كثيف داخل معكم ، فلا مرحبا بهم.
قال ابن عباس في تفسير الآية : إن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع تقول الخزنة للقادة : هذا فوج داخل النار معكم ، فيقول السادة : لا مرحبا بهم ، والمراد بذلك الدعاء عليهم ، قال النابغة :
لا مرحبا بغد ولا أهلا به إن كان تفريق الأحبّة في غد
ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله :
(إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ) أي إنهم ذائقو حر النار مثلكم.
وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم وأدخلوهم في الكفر ، وحينئذ يردّ عليهم الداخلون من الأتباع ويقولون لهم :
(بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ) أي قال الأتباع وهم الفوج المقتحم للنار لأولئك الرؤساء : بل أنتم أحق منا بما قلتم (لا مرحبا بكم) فإنكم أغويتمونا ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ، وبئس النار المنزل والمستقر.
وهذا كلام يراد به التشفي منهم ، لأنه مشترك بينهم.
ونحو الآية قوله : « كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها » .
ثم ذكر مقالة أخرى للأتباع ذمّا لهم أيضا فقال :
(قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) أي قال الأتباع دعاء على رؤساء الضلال. ربنا آت من قدم لنا هذا العذاب - عذابا مضاعفا في النار ، عذابا للضلال وعذابا للإضلال كما
ورد في الحديث « من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها » .
ونحو الآية قوله : « رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ » وقوله :
« رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً » .(23/123)
ج 23 ، ص : 134
وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا حكى حديثهم عن أعدائهم فيها فقال :
(وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ ؟ ) أي قال المشركون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار : ما بالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم في الدنيا أشرارا لا خير فيهم ؟ .
قال ابن عباس : يريدون أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، يقول أبو جهل : أين بلال : أين صهيب ، أين عمار ، أولئك في الفردوس. وا عجبا لأبى جهل! مسكين ، أسلم ابنه عكرمة وابنته جويرية ، وأسلمت أمه ، وأسلم أخوه ، وكفر هو. قال :
ونورا أضاء الأرض شرقا ومغربا وموضع رجلى منه أسود مظلم
ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم فقالوا :
(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ ؟ ) أي أ لأجل أنا قد اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار ، أم هم معنا ولكن لم تقع عليهم أبصارنا ؟ .
وفي هذا إنكار على أنفسهم وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.
والخلاصة - إن الكفار حين دخلوا النار ونظروا في جوانبها لم يروا المؤمنين الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا فتناجوا وقالوا : ما بالنا لا نرى الذين كنا نتخذهم فى الدنيا سخريا ؟ ألم يدخلوا النار معنا ، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا ؟
ثم بين أن هذا التناجي سيكون يوم القيامة وأنه حق لا مرية فيه فقال :
(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي إن هذا الذي حدثناك عنه أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض ، ولعن بعضهم بعضا - حق لا مرية فيه.
[سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)(23/124)
ج 23 ، ص : 135
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أول السورة أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم دعا إلى التوحيد وأثبت أنه نبىّ ، ودعا إلى الحشر والنشر فقابلوه بالسفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب ، ثم صبّره على ذلك وقص عليه من قصص الأنبياء قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى ، ثم أردف ذلك ذكر ثواب أهل الجنة وعذاب أهل النار - عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب التي ذكرها أول السورة وهى تقرير التوحيد والنبوة والبعث.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ) أي قل أيها الرسول لمشركى مكة : إنما أنا نذير مرسل من ربى لأحذركم مخالفة أوامره حتى لا يحل بكم من العقاب مثل ما حل بالأمم قبلكم كعاد وثمود ، ولست بالساحر ولا الكذاب ، ولا بالمسيطر الجبار على نحو ما جاء في قوله :
« لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله : « وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ » .
وبعد أن ذكر وظيفة الرسول ذكر ما يبلغه للناس فقال :
(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي إنه لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وهو الذي قهر كل شىء وغلبه بعزته وجبروته ، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما ، وهو الذي يغلب ولا يغلب ، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده إذا تاب ، جلت أو حقرت.
ثم توعدهم على مخالفته وترك العمل به وأمر رسوله أن يجلى لهم حقيقة وظيفته ، ليرعووا عن غيهم ويثوبوا إلى رشدهم فقال :(23/125)
ج 23 ، ص : 136
(قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) أي قل لهم : إنّ ما أنبأتكم به من كونى رسولا منذرا ، ومن أن اللّه واحد لا شريك له - خبر عظيم الفائدة لكم ، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال ، لكنكم معرضون عنه ، لا تفكرون فيه ، لتماديكم في الغفلة.
وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ ، علّهم يرجعون عن غيهم.
ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته فقال :
(ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي ولو لا الوحى ما كنت أدرى باختلاف الملإ الأعلى ، يعنى في شأن آدم عليه السلام وامتناع إبليس من السجود له ومحاجته ربه في تفضيله عليه ، وهو ما ذكره بعد.
ثم أكد نبوته بقوله :
(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما يوحى إلىّ إلا للانذار ، لا لأن أكون جبارا ولا مسيطرا.
قصص آدم عليه السلام
[سورة ص (38) : الآيات 71 الى 85]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)(23/126)
ج 23 ، ص : 137
تفسير المفردات
فقعوا له : أي اسجدوا له ، ما منعك : أي ما صرفك وصدك ، واليد : القدرة قال :
تحمّلت من عفراء ما ليس لى به ولا للجبال الراسيات يدان
من العالين : أي المستحقين للترفع عن طاعة اللّه المتعالين عن ذلك ، رجيم : أي مرجوم ومطرود من كل خير ، لعنتى : أي طردى ، أنظرنى : أي أمهلنى ، من المنظرين : أي الممهلين ، لأغوينهم : أي لأضلنهم ، المخلصين : أي الذين أخلصتهم للعبادة.
المعنى الجملي
قد سلف ذكر هذه القصة في سور : البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والإسراء ، والكهف ، كما ذكرت هنا والعبرة منها النهى عن الحسد والكبر ، لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما ، والكفار إنما نازعوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بسببهما ، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما والمواعظ والنصائح باب من أبواب التكرير للمبالغة فى النصح والإرشاد.
الإيضاح
خلاصة هذه القصة - إن اللّه سبحانه أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام أنه سيخلق بشرا من صلصال من حمأ مسنون ، وأمرهم بالسجود له متى فرغ من(23/127)
ج 23 ، ص : 138
خلقه وتسويته ، إجلالا وإعظاما له ، فامتثل الملائكة كلهم ذلك سوى إبليس ، ولم يكن منهم جنسا بل كان من الجن فخانه طبعه ، فاستنكف عن السجود له وخاصم ربه وادعى أنه خير من آدم ، لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين ، والنار خير من الطين في زعمه ، وقد خالف بذلك أمر ربه ، فكفر به فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة فدسه مذموما مدحورا ، فسأل النّظرة إلى يوم البعث ، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه ، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرّد وطغى وقال « فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ » فقال تعالى : « فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ » .
[سورة ص (38) : الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
تفسير المفردات
من المتكلفين : أي المدّعين معرفة ما ليس عندهم ، نبأه : أي ما أنبأ به من وعد ووعيد ، بعد حين : أي بعد الموت.
الإيضاح
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي قل يا أيها الرسول لمشركى قومك : ما أسألكم على تبليغ ما يوحى إلىّ أجرا لا قليلا ولا كثيرا ، وما عرفتمونى أتكلف ما ليس عندى حتى أنتحل النبوة وأتقوّل القرآن.
أخرج ابن عدى عن أبى برزة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « أ لا أنبئكم بأهل الجنة ؟ قلنا بلى يا رسول اللّه ، قال هم الرحماء بينهم ، قال : أ لا أنبئكم بأهل النار ؟ قلنا بلى ، قال هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون » .(23/128)
ج 23 ، ص : 139
وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال : « أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل : اللّه تعالى أعلم ، قال اللّه تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هذا القرآن إلا عظة للثقلين كافة ، وكل ذى عقل سليم ، وطبع مستقيم ، يشهد بصحته وبعده عن البطلان والفساد.
ثم ختم السورة بتهديدهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال :
(وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) أي إنكم إن أصررتم على ما أنتم عليه من الجهل وأبيتم إلا تقليد الآباء والأجداد فستعلمون حين الموت إن كنتم مصيبين في إعراضكم أو مخطئين.
وكان الحس البصري يقول : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
جعلنا اللّه من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ولا يعرضون عن اتباع الذكر وما فيه من صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
ما تضمنته هذه السورة من العبر والمواعظ
(1) صلف المشركين وإعراضهم عن الحق ، مع ضرب المثل لهم بالأمم الماضية التي حادت عن الحق فهلكت.
(2) إنكارهم للوحدانية.
(3) إنكارهم لنبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
(4) إنكارهم للبعث والحساب.
(5) قصص داود وسليمان وأيوب وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من النبيين عليهم السلام.(23/129)
ج 23 ، ص : 140
(6) وصف نعيم أهل الجنة.
(7) وصف عذاب أهل النار ، وتلاعن بعضهم بعضا ، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار ؟
(8) قصص آدم عليه السلام.
(9) قسم إبليس - ليغوينّ بنى آدم أجمعين إلا عباد اللّه المخلصين.
(10) أمر اللّه نبيه أن يقول للمشركين : ما أطلب منكم أجرا على تبليغ رسالتى ولا أنا بالذي يدّعى علم شىء هو لا يعرفه.
(11) إن القرآن أنزل للثقلين كافة.
(12) إن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره.(23/130)
ج 23 ، ص : 141
سورة الزمر
هى مكية إلا الآيات 52 ، 53 ، 54 فمدنيات ، وآياتها خمس وسبعون نزلت بعد سبأ.
ووجه اتصالها بما قبلها :
(1) إنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله : « إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ » ووصفه هنا بقوله : « تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » .
(2) إنه ذكر في ص أحوال الخلق من المبدإ إلى المعاد ، وذكر هنا مثله - إلى نحو ذلك من وجوه للربط تظهر بالتأمل.
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
الإيضاح
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي هذا الكتاب العظيم منزل من عنده تعالى ، فهو الحق الذي لا مرية فيه كما جاء في آية : « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ(23/131)
ج 23 ، ص : 142
الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ »
وجاء في قوله : « وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ. لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » .
وبعد أن بيّن شأن المنزل وأنه من عند اللّه - ذكر ما اشتمل عليه ذلك المنزّل من الحق والعدل فقال :
(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن أيها الرسول آمرا بالحق والعدل الواجب اتباعهما والعمل بهما.
ثم أمر رسوله بعبادته والإخلاص له فقال :
(فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي فاعبده تعالى ممحّضا له العبادة من شوائب الشرك والرياء بحسب ما أنزل في تضاعيف كتابه ، على لسان أنبيائه من تخصيصه وحده بالعبادة وأنه لا ندّ له ولا شريك.
ثم أكّد هذا الأمر بقوله :
(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي ألا للّه العبادة والطاعة وحده لا شركة لأحد معه فيها ، لأن كل ما دونه ملكه ، وعلى المملوك طاعة مالكه ،
وفي حديث الحسن عن أبى هريرة « أن رجلا قال : يا رسول اللّه إنى أتصدق بالشيء وأصنع الشيء أريد به وجه اللّه وثناء الناس. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : والذي نفس محمد بيده ، لا يقبل اللّه شيئا شورك فيه ، ثم تلا : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) » .
وبعد أن أبان أن رأس العبادة الإخلاص للّه - أعقب ذلك بذم طريق المشركين فقال :
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى ) أي والذين اتخذوا من دون اللّه أولياء يعبدونهم ، يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عند اللّه منزلة ويشفعوا لنا عنده في حاجتنا.(23/132)
ج 23 ، ص : 143
ومن حديث عبادتهم للأصنام أنهم جعلوا تماثيل للكواكب ، والملائكة ، والأنبياء ، والصالحين الذين مضوا ، وعبدوها باعتبار أنها رمز إليها ، وقالوا إن الإله الأعظم أجلّ من أن يعبده البشر مباشرة ، فنحن نعبد هذه الآلهة وهى تعبد الإله الأعظم.
وهذه شبهة تمسك بها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءت الرسل مفندة لها ماحية لها من الأذهان العالقة بها ، موجهة العقول إلى إفراد اللّه وحده بالعبادة كما قال : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » وقال :
« وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ » .
قال قتادة : كانوا إذا قيل لهم من ربكم ومن خالقكم ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء ؟ قالوا اللّه. فيقال لهم فلم تعبدونهم ؟ قالوا ليقربونا إلى اللّه زلفى ويشفعوا لنا عنده ، فرد اللّه عليهم بقوله : « فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ » .
ثم هددهم وبيّن لهم عاقبة ما يفعلون فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن اللّه يحكم بينهم وبين خصومهم وهم المحقون فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك يوم القيامة ، ويجازى كلا بما هو أهل له ، فيدخل المخلصين الموحدين الجنة ، ويدخل المشركين النار.
ثم بين نتيجة الحكم قال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي إن اللّه لا يرشد إلى الحق ولا يوفق له من هو كاذب مفتر عليه ، بزعمه أن له ولدا وأن له ندّا وأن الأوثان تشفع لديه إلى غير ذلك من الترّهات والأباطيل التي لا يقبلها العقل ، ولا تجد لها مستندا من نقل.
ثم فصّل ما كذبوا فيه فقال :
(لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي لو أراد اللّه أن يتخذ ولدا - ولا ينبغى له ذلك - لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهم الأبناء ، فكيف نسبتم إليه البنات ؟(23/133)
ج 23 ، ص : 144
ثم نزه سبحانه نفسه عن أن يكون له ولد فقال :
(سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي تقدس اللّه أن يكون له ولد ، فإنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وكل ما سواه مفتقر إليه ، وهو الغنى عما سواه ، قهر الأشياء فدانت له ، وتسلط على المخلوقات بقدرته فذلت له ، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
[سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 6]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
تفسير المفردات
التكوير : فى الأصل اللف واللى من كار العمامة على رأسه وكوّرها والمراد يذهب الليل ويغشى مكانه النهار ، والعكس بالعكس ، وسخر الشمس والقمر جعلهما منقادين له ، والأجل المسمى : يوم القيامة ، والظلمات الثلاث : ظلمة البطن وظلمة الرّحم وظلمة المشيمة ، تصرفون : أي يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه أنه منزه عن الولد بكونه إلها قهارا ، وأن كل المخلوقات فى قبضته وسلطانه - أردف ذلك ما يدل على كمال قدرته بآياته التي أوجدها(23/134)
ج 23 ، ص : 145
فى الأكوان ، وفي خلق الإنسان ، فبسط سلطانه على الشمس والقمر وذللهما ، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت الذي لا يعلم مداه إلا هو ، كما خلق الإنسان الأول وجعل له زوجا من جنسه ، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان ذكر وأنثى فكانت نواة التناسل فى هذه الأنواع ، فهل بعد هذا يجد العاقل معدلا عن الاعتراف بربوبيته ، وعظيم قدرته.
الإيضاح
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي خلق هذا العالم العلوي على ما فيه من بديع الصنع من شموس وأقمار ، تكوّن الليل والنهار ، والعالم السفلى المشتمل على المواليد الثلاثة من حيوان ونبات وجماد ، وسخر كل ما فيه ظاهرا وباطنا لانتفاع الإنسان في سبل معايشه إذا استعمل عقله ، واستخدم فكره في استنباط مرافقه - خلقهما على أكمل وجه ، وأبدع نظام ، قائمين على الحق والصواب ، والحكم والمصالح.
وبعد أن أبان أنه خلقهما ذكر سبيل تصرفه فيهما فقال :
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يغشى كلا منهما الآخر كأنه يلفه عليه لفّ اللباس على اللابس ، أو يجعلهما في تتابعهما أشبه بتتابع أكوار العمامة بعضها على بعض ، ألا ترى إلى الأرض وقد دارت حول نفسها وهى مكورة فأخذ النهار الحادث من مقابلتها للشمس يسير من الشرق إلى الغرب ويلف حولها طاويا الليل ، والليل من الجهة الأخرى يلتف حولها طاويا النهار ، فالأرض كالرأس والظلام والضياء يتتابعان تتابع أكوار العمامة ، ويلتفان متتابعين حولها.
وفي هذا إيماء إلى كروية الأرض أولا ، وإلى دورانها حول نفسها ثانيا ، فتكوير الأرض ظاهر الآية ، ودورانها أتى تابعا بالزمر والإشارة.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي وجعل الشمس والقمر وهما وسيلتا الليل والنهار منقادين له (وأكثر مصالح العالم مرتبطة بهما) يجريان لمنتهى(23/135)
ج 23 ، ص : 146
دورتهما ، ومنقطع حركتهما ، وهو يوم القيامة ، « يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ » .
ثم ذيل الكلام بالجملة الآتية ترغيبا في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص له ، والتحذير من الكفر والمعاصي ، فقال :
(أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) أي ألا إن اللّه الذي فعل هذه الأفعال ، وأنعم على خلقه بهذه النعم - هو القادر على الانتقام ممن عاداه ، الغفار لذنوب عباده التائبين.
ولا يخفى ما في هذا من الدلالة على كمال قدرته ، وكمال رحمته فهو القهار ذو القوة المتين ، الغفار لذنوب التائبين.
وبعد أن ذكر الدلائل التي بثها في العالم العلوي - أردفها ذكر الدلائل التي أودعها في العالم السفلى ، وبدأها بخلق الإنسان ، لأنه أعجب ما فيه ، لما فيه من العقل وقبوله الأمانة الإلهية ، وللّه در من قال :
وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) أي خلقكم على اختلاف ألسنتكم وألوانكم - من نفس واحدة وهى آدم ، ثم جعل من جنسها زوجها وهى حواء ، ثم ثنّى بخلق الحيوان فقال :
(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج وهى التي ذكرها في سورة الأنعام « ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ » أي ذكر وأنثى لكل منها.
ثم ذكر سبيل خلق ما ذكر من الأناسى والأنعام فقال :
(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) أي يبتدىء خلقكم أيها الناس فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، فيكون أحدكم أوّلا نطفة ، ثم يكون علقة ،(23/136)
ج 23 ، ص : 147
ثم يكون مضغة ، ثم يكون لحما وعظما وعصبا ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقا آخر ، فتبارك اللّه أحسن الخالقين.
(فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) أي في ظلمات أغشية ثلاثة جعلها المولى سبحانه وقاية للولد وحفظا له من التعفن ، قال الدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه [الإسلام والطب الحديث ] : يعلمنا القرآن أن الجنين له ثلاثة أغشية سماها ظلمات : هى الغشاء المنبارى ، والخربون ، والغشاء اللفانفى ، وهى لا تظهر إلا بالتشريح الدقيق ، وتظهر كأنها غشاء واحد بالعين المجردة ا ه.
وبعد أن ذكر هذه الأفعال العجيبة ذكر موجدها ومنشئها فقال :
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله - هو اللّه مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ، المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه (لَهُ الْمُلْكُ) على الإطلاق في الدنيا والآخرة.
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا تنبغى العبادة إلا له وحده لا شريك له.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ؟ ) أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها ، وانتفاء ما يصرف عنها - إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة ما يصرف عنها.
والخلاصة - كيف تعبدون معه سواه ؟ أين ذهبت عقولكم ؟ وكيف ضاعت أحلامكم ؟ .
[سورة الزمر (39) : الآيات 7 الى 8]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8)(23/137)
ج 23 ، ص : 148
تفسير المفردات
منيبا : أي راجعا إليه مطيعا له ، خوّله : ملّكه وأنشد أبو عمرو بن العلاء لزهير ابن أبى سلمى :
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
المعنى الجملي
بعد أن أقام الأدلة على وحدانيته تعالى وذكر أن المشركين عبدة الأصنام لا دليل لهم على عبادتها ، وكأنّ عقولهم قد ذهبت حين عبدوها - أعقب ذلك ببيان أنه هو الغنى عما سواه من المخلوقات ، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة ، ولا دفع مضرة ، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده ، بل يرضى لهم الشكر ، وأن كل نفس مطالبة بما عملت ، وبعدئذ تردّ إلى عالم الغيب والشهادة فيجازيها بما كسبت ، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون ، فإذا أصابهم الضر رجعوا في طلب دفعه إلى اللّه ، وإذا ذهب عنهم عادوا إلى عبادة الأوثان ، وقد كان العقل يقضى بأنهم وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه - أن يعبدوه في جميع الحالات ، ثم أمر رسوله أن يقول لهم متهكما موبخا تمتعوا بكفركم قليلا ثم مصيركم إلى النار وبئس القرار.
الإيضاح
(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي إن تكفروا به سبحانه مع مشاهدة ما يوجب الإيمان والشكر فإن ذلك لا يضيره شيئا ، فهو الغنى عن سائر المخلوقات كما قال تعالى حكاية عن موسى : « إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ(23/138)
ج 23 ، ص : 149
لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ »
وجاء في صحيح مسلم « يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا » .
ثم ذكر ما يحبه سبحانه وما يكرهه فقال :
(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) أي لا يحبه ولا يأمر به ، لأنه مانع من ارتقاء النفوس البشرية بجعلها ذليلة خاضعة للأرباب المتعددة والمعبودات الحقيرة من الخشب والنّصب وممن يأكل الطعام ويمشى في الأسواق.
(وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) لأنه على مقتضى السّنن القويم ، والصراط العادل المستقيم كما قال : « لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ » .
ثم ذكر أن كل إنسان يوم القيامة يجازى بما قدم من عمل ، ولا يضيره عمل سواه فقال :
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) أي ولا تحمل أىّ نفس أوزار نفس أخرى ، بل كلّ مطالب بعمل نفسه خيرا كان أو شرا.
ثم بين أن جزاء المرء في الآخرة وفق ما عمل في الدنيا فقال :
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ثم مصيركم يوم القيامة إلى خالقكم البصير بأمركم العليم بالسر والنجوى ، فيخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا ، إذ لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، ثم يجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، فاحذروا أن تلقوا ربكم وقد عملتم في الدنيا ما لا يرضاه فتهلكوا.
ثم بين أن هذه المجازاة ليست بالعسيرة عليه سبحانه فقال :
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى محص جميع أعمالكم حتى ما تضمره صدوركم مما لا تدركه أعينكم فكيف بما رأته العيون ، وأدركته الأبصار ؟ .
ثم بين سبحانه شأن الكافر بالنسبة إلى ربه فقال :
(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ(23/139)
ج 23 ، ص : 150
يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ)
أي وإذا أصاب الكافر بلاء فى جسده ، أو شدة في معيشته ، أو خوف على حياته - استغاث بربه الذي خلقه ورغب إليه في كشف ما نزل به ، تائبا إليه مما كان عليه من قبل ذلك من الكفر به وإشراك الآلهة والأوثان في عبادته ، ثم إذا منحه نعمة منه فأزال ما به من ضرّ ، وأبدله بالسقم صحة ، وبالشدة رخاء - ترك دعاءه الذي كان يدعوه من قبل أن يكشف ما كان به من ضرّ ، فجعل للّه شركاء وأضل الناس ومنعهم من توحيده والإقرار به والدخول في الإسلام له.
ثم أوعده وهدده على ما فعل فقال :
(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي قل أيها الرسول لمن فعل ذلك :
تمتع بما أنت فيه من زخرف الدنيا ولذاتها ، منصرفا عن النظر إلى أدلة التوحيد التي أوجدها اللّه في الأكوان ، وجعلها في نفس الإنسان ، زمنا قليلا إلى أن تستوفى أجلك ، وتأتيك منيّتك ، ثم أنت بعد ذلك من أصحاب النار المخلدين فيها أبدا.
[سورة الزمر (39) : آية 9]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
تفسير المفردات
القانت : القائم بما يجب عليه من الطاعة ، آناء الليل : ساعاته واحدها آن ، يحذر الآخرة : أي يخشى عذابها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان صفات المشركين الضالين ، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة ، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة ويعودون إلى الأوثان حين الرخاء - أردفه ذكر(23/140)
ج 23 ، ص : 151
أحوال المؤمنين القانتين الذين لا يعتمدون إلا على ربهم ، ولا ينيبون إلا إليه ، ويرجون رحمته ، ويخافون عذابه.
الإيضاح
(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي أ أنت أيها المشرك أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بأداء الطاعات ، ودائب على وظائف العبادات ، فى ساعات الليل التي تكون فيها العبادة أشق على النفوس ، وأبعد من الرياء ، فتكون أقرب إلى القبول ، وهو في حال عبادته خائف راج ؟ لا شك أن الجواب لا يحتاج إلى بيان.
والخلاصة - أمن هو مطيع كمن هو عاص ؟ إنهما لا يستويان.
ثم أكد نفى التساوي ونبه إلى فضيلة العلم وشرف العمل به فقال :
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ؟ ) أي قل أيها الرسول لقومك :
هل يستوى الذين يعلمون ما لهم في طاعة ربهم من الثواب ، وما عليهم في معصيتهم إياه من عقاب ، والذين لا يعلمون ذلك ، فهم يخبطون خبط عشواء ، لا يرجون بحسن أعمالهم خيرا ، ولا يخافون من سيئها شرا.
وجاء هذا الكلام بأسلوب الاستفهام للدلالة على أن الأولين بلغوا أعلى معارج الخير ، وأن الآخرين درجوا في دركات الشر ، ولا يخفى ذلك على منصف ولا مكابر.
ثم بين أن ما سلف إنما يفهمه كل ذى لبّ ، فأمثال هؤلاء على قلوبهم غشاوة ، لا يفقهون موعظة ، ولا تنفع فيهم التذكرة فقال :
(إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي إنما يعتبر بحجج اللّه ويتعظ بها ويتدبرها أهل العقول والحجا ، لا أهل الجهل والغفلة.
والخلاصة - إنه إنما يعلم الفرق بين هذا وذاك من له لب وعقل يتدبر به.(23/141)
ج 23 ، ص : 152
[سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 16]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)
المعنى الجملي
بعد أن نفى المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم - أردفه أمر رسوله أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح :
(1) تقوى اللّه وطاعته لما في ذلك من جزيل الفوائد ، فإذا تعذرت طاعته فى بلد تحولوا عنه إلى بلد يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة كما فعل كثير من الأنبياء ، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب ، فلا يقدر بمكيال ولا ميزان.
(2) إنه أمر بعبادة اللّه وحده مخلصا له الدين ، وقد قال كفار قريش للنبى صلّى اللّه عليه وسلم : ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به ؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم وجدّك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى ؟ فأنزل اللّه الآية وأمره أن يكون أول المسلمين ، وفي ذلك تنبيه إلى كونه رسولا من عند اللّه واجب الطاعة.
(3) إنه أمر أن يقول لهم : إنى أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته ، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.(23/142)
ج 23 ، ص : 153
(4) إنه أمر أن يذكر لهم أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه ويخسر أهله ، لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم ، وإنكانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده.
(5) وصف النار وأنها تحيط بهم من كل جانب ، وهذا من أفظع أنواع العذاب التي يخوّف بها عباده.
الإيضاح
(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) أمر سبحانه رسوله أن يعظ المؤمنين ويحملهم على الطاعة والتقوى باجتناب معاصيه واتباع أوامره.
ثم علل وجوب الامتثال بقوله :
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) أي لمن أحسن في هذه الدار ، وعمل صالح الأعمال ، وزكّى نفسه فيها - حسنة من صحة وعافية ونجاح في الأعمال التي يزاولها كفاء ما يتحلى به من تمسك بآداب الدين واتباع فضائله ، وحسنة في الآخرة فيتمتع بجنات النعيم ورضوان اللّه عنه « وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ » .
ثم رغّبهم في الهجرة من مكة إلى المدينة وصبّرهم على مفارقة الأوطان فقال :
(وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ) أي إنكم إذا لم تتمكنوا من التوفر على الإحسان والتقوى وصرف الهمم إلى العبادة في البلد الذي أنتم فيه فتحولوا عنه إلى بلاد تستطيعون فيها ذلك ، واجعلوا أسوتكم الأنبياء والصالحين فقد فعل كثير منهم ذلك.
ثم ذكر ما لهم من رفيع المنزلة وعظيم الأجر على ذلك فقال :
(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) أي ولهم على صبرهم أجر عظيم عند ربهم لا يقدر قدره ، كما وفّى من قبلهم أجورهم على هذه الشاكلة ،
وعن الحسين بن على رضى اللّه عنهما قال : سمعت جدى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : « أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس ، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس ، يا بنى إن في الجنة(23/143)
ج 23 ، ص : 154
شجرة يقال لهال شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا ثم تلا : « إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ »
قال النحاس : من صبر على المعاصي يقال صابر ، ومن صبر على المصيبة يقال صابر على كذا.
ثم ذكر ما أمر به نبيه من الإخلاص في الطاعة فقال :
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك : إن اللّه أمرنى أن أعبده مفردا له الطاعة دون كل ما تدعون من دونه من الآلهة والأنداد.
وفي هذا نعى لهم على تماديهم في عبادة الأوثان ، والكلام عليه من وادي قولهم (إياك أعنى واسمعي يا جاره).
(وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أي وأمرت أن أكون أول المسلمين وسابقهم فى إخلاص التوحيد للّه ، وإخلاص العبادة له ، والبراءة من كل ما دونه من الآلهة.
(قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي قل لهم : إنى أخاف إن عصيت ربى بترك الإخلاص له أو إفراده بالربوبية - عذاب يوم القيامة الكثير الأهوال والآلام.
وفي هذا من التعريض بهم ما لا يخفى.
ثم كرر الأمر مرة أخرى بالإخلاص في الطاعة للتهديد والوعيد فقال :
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) أي قل لهم : اللّه أعبد لا غيره لا استقلالا ولا اشتراكا ، مخلصا له عبادتى مبتعدا من الشرك والرياء ، فاعبدوا ما شئتم أن تعبدوه من دونه من الأوثان والأصنام ، وستعلمون وبال عاقبتكم حينما تلقون ربكم.
ثم أمر رسوله أن يذكر للمشركين حالهم يوم القيامة فقال :
(قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي قل لهم(23/144)
ج 23 ، ص : 155
أيها الرسول : إن الخسران الذي لا خسران بعده - هو خسران النفس وإضاعتها بالضلال ، وخسران الأتباع الذين أضلوهم وأوقعوهم في العذاب السرمدي يوم القيامة إذ أوقعوهم في هلكة ما بعدها هلكة.
(أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الخسران المبين الظاهر لكمال هو له ، وفظاعة شأنه.
ثم فصل ذلك الخسران وبينه بعد إبهامه تهويلا وتعظيما لأمره فقال :
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) أي لهم أطباق متراكمة من النار بعضها فوق بعض كأنها ظلل ، ومن تحتهم مثلها ، والمراد من ذلك أن النار محيطة بهم من كل جانب.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ » وقوله : « لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ » .
(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ) أي إنما يقص عليكم ربكم خبر ما سيكون لا محالة ليزدجر عباده عن المحارم والآثام.
بعد هذا أمرهم بتقواه وحذرهم من عصيانه فقال :
(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) أي يا عبادى بالغوا في الخوف والحذر والتقوى ، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى ، وهذه منة منه تعالى منطوية على نهاية اللطف والرحمة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)(23/145)
ج 23 ، ص : 156
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وعيده لعبدة الأصنام - أردف ذلك وعد من اجتنبوا عبادتها وبعدوا عن الشرك ، ليكون الوعد مقترنا بالوعيد ويحصل بذلك كمال الترهيب والترغيب.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى ) الطاغوت :
الشيطان ، ويطلق على الواحد والجمع ، وسميت عبادة الأوثان عبادة للشيطان ، إذ كان الآمر بها ، والمزيّن لها.
أي والذين اجتنبوا عبادة الأصنام ، وأقبلوا إلى ربهم معرضين عما سواه - لهم البشرى بالثواب العظيم من اللّه على ألسنة رسله حين الموت وحين يحشرون من قبورهم للحساب.
ثم مدحهم بأنهم نقّاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن ، والفاضل والأفضل فقال :
(فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي فبشر هؤلاء الذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وأنابوا إلى ربهم وسمعوا القول فاتبعوا أولاه بالقبول - بالنعيم المقيم فى جنات النعيم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ) أي هؤلاء هم الذين وفقهم اللّه للرشاد ، وإصابة الصواب ، لا الذين يعرضون عن سماع الحق ، ويعبدون ما لا يضر ولا ينفع.
(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة ، والفطر(23/146)
ج 23 ، ص : 157
المستقيمة ، التي لا تطيع الهوى ولا يغلبها الوهم ، فتختار خير الأمرين في دينها ودنياها.
روى أن هاتين الآيتين نزلتا في ثلاثة نفر : زيد بن عمرو وأبى ذر الغفاري وسلمان الفارسي ، كانوا في الجاهلية يقولون « لا إله إلا اللّه » .
ثم بين أضداد المذكورين أولا وسجل عليهم الحرمان من الهداية فقال :
(أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ؟ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ؟ ) أي أ أنت مالك شئون الناس ومصرّف أمورهم ، فمن حقت عليه كلمة العذاب لعدم أهليته للكمال وتدسيته نفسه بولوغها في الآثام والمعاصي - فأنت تنقذ من النار ؟ - كلا ، ليس أمرهم إليك بل أمرهم إلى ربهم يجازيهم بحكمته وعدله.
ثم أعاد جزاء المتقين عناية بأمرهم بعد ذكر أضدادهم فقال :
(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي لكن الذين اتقوا ربهم بأداء فرائضه ، واجتناب محارمه ، لهم في الجنة غرف طباق فوق طباق ، مبنيات محكمات تجرى الأنهار خلال أشجارها.
ثم أكد حصول ذلك لهم فقال :
(وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ) أي وعد اللّه هؤلاء المتقين بذلك ، ووعده الحق ، فهو لا يخلف ما وعدهم ، بل يفى بوعده.
[سورة الزمر (39) : آية 21]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21)
تفسير المفردات
فسلكه : أي فأدخله ، ينابيع : أي عيونا ومجارى ، ألوانه : أي أنواعه وأصنافه ، يهيج : أي يجف ، حطاما : أي فتاتا متكسرا.(23/147)
ج 23 ، ص : 158
المعنى الجملي
بعد أن وصف جلّت قدرته الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها ومزيد الشوق إليها - أعقب ذلك بذكر صفات للدنيا توجب النفرة منها كسرعة زوالها وتقضّيها وشيكا ، تحذيرا من الاغترار بزهرتها ، والركون إلى لذتها ، فمثّل حالها بحال نبات يسقى بماء المطر فيخرج به زرع مختلف الأصناف والأنواع ، وبعد قليل تراه يجف ويصير فتاتا متكسرا ، فما أسرع زواله ، وأيسر تقضيه!.
الإيضاح
إنك أيها الرسول لتشاهد الماء وقد نزل من السماء فجرى عيونا في الأرض ، فسقيت به أنواع مختلفة من النبات من برّ إلى شعير إلى أرز إلى نحو ذلك ، ثم نضجت وجفّت وصارت مصفرة بعد خضرة ونضرة ، ثم صارت فتاتا متكسرة ، فما أشبه حال الدنيا بحالها فهى سريعة التقضّى وشيكة الزوال ، فليعنبر بذلك أولو الحجا ، وليعلموا أن الدنيا كسوق قام ثم انفض ، ولا يغتروا ببهجتها ولا يفتنوا بزخرفها.
ونحو الآية قوله : « وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً » .
[سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 28]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)(23/148)
ج 23 ، ص : 159
تفسير المفردات
شرح مصدر للإسلام : الفرج به والطمأنينة إليه ، والنور : البصيرة والهدى ، والقسوة : جمود وصلابة في القلب يقال قلب قاس : أي لا يرق ولا يلين ، أحسن الحديث : هو القرآن ، متشابها : أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والأحكام ، مثانى :
واحدها مثنى من التثنية : أي التكرير ، تقشعر : أي تضطرب وتتحرك وتشمئز ، تلين :
أي تسكن وتطمئن ، الخزي : الذل والهوان ، يتذكرون : أي يتعظون ، غير ذى عوج :
أي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه ، قال :
وقد أتاك يقين غير ذى عوج من الإله وقول غير مكذوب
المعنى الجملي
بعد أن بالغ في ذكر ما يدل على وجوب الإقبال على طاعته سبحانه والإعراض عن الدنيا - أردف ذلك بيان أنه لا ينتفع بهذا إلا من شرح اللّه صدره ونوّر قلبه وأشعر نفسه حب العمل به ، ثم أعقبه بذكر أن من أضله اللّه فلا هادى له ، وأن من يتقى بيديه المخاوف صيانة لوجهه عن النار ليس حاله كحال من هو آمن لا يفكر في مآل(23/149)
ج 23 ، ص : 160
أمره ، وعاقبة عمله ، وبعدئذ ذكر أن هؤلاء المشركين ليسوا بدعا في الأمم ، فلقد كذّب كثير قبلهم ، فأتاهم العذاب بغتة من حيث لا يشعرون ، فأصيبوا في الدنيا بالذل والصغار والقتل والخسف ، ولعذاب الآخرة أشد نكالا ووبالا ، ثم ذكر أن القرآن قد ضرب الأمثال للناس بلسان عربى مبين لعلهم يرعوون ويزدجرون.
الإيضاح
(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ؟ ) أي أ فمن دخل نور الإسلام قلبه وانشرح صدره له ، لما رأى فيه من البدائع والعجائب المهيئة للحكمة ، الممهدة لقبول الحق والموصلة إلى الرشاد - كمن طبع على قلبه لغفلته وجهالته ؟ وقد روى أن علامة ذلك الانشراح الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت ، قبل حلول الموت.
والخلاصة - هل يستوى من أنار اللّه بصيرته ومن هو قاسى القلب بعيد من الحق ؟
ونحو الآية قوله : « أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها » .
قال ابن عباس : من شرح اللّه صدره للاسلام أبو بكر الصديق رضى اللّه عنه ،
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : « تلا النبي صلّى اللّه عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا نبى اللّه : كيف انشراح صدره ؟ قال إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا فما علامة ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والتأهب للموت قبل نزول الموت » . وأخرج الترمذي عن ابن عمر « أن رجلا قال يا رسول اللّه : أىّ المؤمنين أكيس ؟ قال أكثرهم ذكرا للموت ، وأحسنهم له استعدادا ، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع ، فقالوا : ما آية ذلك(23/150)
ج 23 ، ص : 161
يا نبى اللّه ؟ قال الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول الموت » .
ثم ذكر ما يدل على المحذوف الذي قدر في الجملة السالفة فقال :
(فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) أي فالويل أشد الويل لمن قست قلوبهم من أجل ذكر اللّه الذي من حقه أن تلين منه القلوب ، فهم إذا ذكر اللّه عندهم ، وذكرت دلائل قدرته ، وبدائع صنعه ، اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قسوة.
قال مالك بن دينار : ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب اللّه تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسوة للقلب ، وإن أبعد الناس من اللّه القلب القاسي » .
وعن أبى سعيد الخدري أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « قال اللّه تعالى :
اطلبوا الحوائج من السمحاء ، فإنى جعلت فيهم رحمتى ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإنى جعلت فيهم سخطى » .
ثم بين حالهم فقال :
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أولئك القساة القلوب الذين أعمى اللّه أبصارهم فى غواية ظاهرة لكل أحد لا تحتاج إلى عناء في تفهم حقيقتها ومعرفة كنهها.
وبعدئذ وصف القرآن الذي يشرح الصدر ويلين القلب فقال :
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ) أي اللّه أنزل أحسن الحديث قرآنا كريما يشبه بعضه بعضا في الصدق والبيان والوعظ والحكمة ، كما تتشابه أجزاء الماء والهواء وأجزاء النبات والزهر ، تثنى وتردد قصصه وأنباؤه وأوامره ونواهيه ، ووعده ووعيده ، إذا تليت منه آيات العذاب اقشعرّت الجلود ، ووجلت القلوب ، وإذا تليت آيات(23/151)
ج 23 ، ص : 162
الرحمة والوعد لانت الجلود ، وسكنت القلوب ، واطمأنت النفوس قال الزجاج :
إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين للّه.
(ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) أي ذلك الكتاب يهدى به اللّه من يشاء ويوفقه للإيمان.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله اللّه عن الإيمان بهذا القرآن والتصديق به ، فما له من مخرج من الضلالة ، ولا موفّق لسلوك طريق الحق.
ثم ذكر علة ما تقدم من تباين حال المهتدى والضالّ فقال :
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أكل الناس سواء ؟ فمن شأنه أن يتقى بوجهه الذي هو أشرف أعضائه العذاب الشديد السيئ يوم القيامة (لأن يده التي كان يتقى بها المكاره في الدنيا مغلولة إلى عنقه) ، كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ، ولا يحتاج إلى اتقاء محظور مخوف.
ثم ذكر ما ينال الكفار والعاصين من الإهانة في ذلك اليوم فقال :
(وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي وقيل تهكما واستهزاء لمن ظلموا أنفسهم بالشرك والمعاصي - ذوقوا وبال ما كسبتم في الدنيا ، ودسّيتم به أنفسكم حتى أوقعتموها في الهاوية ، النار الحامية.
ثم ذكر ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الجميع من العذاب الأخروى فقال :
(كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي إن بعض الأمم الماضية التي كذبت رسلها أتاها العذاب بغتة من حيث لا تحتسب ولا يخطر لها بالبال ، فلحقها الذل والصغار في الحياة الدنيا ، فأصيبت تارة بالمسخ ، وأخرى بالخسف ، وثالثة بالقتل أو السبي أو نحو ذلك من ضروب النكال والوبال ، وإن عذاب الآخرة لأنكى عاقبة وأشد أثرا لو علموا ذلك واعتبروا به.(23/152)
ج 23 ، ص : 163
ثم بين أن فيما قصه القرآن عليهم من الأمثال والمواعظ عبرة لهم لو كانوا يعقلون فقال :
(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي ولقد مثلنا لهؤلاء المشركين باللّه أمثال القرون الخالية تخويفا لهم وتحذيرا ، ليتعظوا ويزدجروا ويقلعوا عما هم عليه مقيمون من الكفر بربهم ، بكلام عربى لا لبس فيه ولا اختلاف ، ليفهموا ما فيه من مواعظ ، ويعتبروا بما فيه من حكم ، فيتقوا ما حذّرهم فيه من بأسه وسطوته ، وينيبوا إليه ويفردوه بالعبادة ، ويتبرءوا من الآلهة والأنداد.
[سورة الزمر (39) : الآيات 29 الى 31]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
تفسير المفردات
ضرب المثل : تشبيه حال عجيبة بأخرى وجعلها مثلا لها ، متشاكسون : أي مختلفون يتنازعون لسوء طباعهم وشكاسة أخلاقهم ، سلما لرجل : أي خالصا لسيد واحد ، والميت (بالتشديد) من لم يمت وسيموت ، والميت (بالتخفيف) من قد مات وفارقته الروح ، قال الخليل أنشد أبو عمرو :
وتسألنى تفسير ميت وميّت فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميّت وما الميت إلا من إلى القبر يحمل
تختصمون : أي تحتكمون للقضاء.(23/153)
ج 23 ، ص : 164
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الحكمة في ضرب الأمثال للناس ، وهى أن تكون عظة وذكرى لهم ليتقوا ربهم ، ويرعووا عن غيهم وضلالهم - أردفه ذكر مثل يرشد إلى فساد مذهب المشركين وقبح طريقتهم ووضوح بطلانها ، ثم أعقبه ببيان أن الناس جميعا سيموتون ثم يعرضون على ربهم ، وهناك يستبين المحق والمبطل ، والضال والمهتدى.
فلا داعى إلى الجدل والخلاف بينك وبينهم.
الإيضاح
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ ، هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا ؟ ) أي ضرب اللّه مثلا لقومك وقال لهم : ماذا تقولون في عبد مملوك قد امتلكه شركاء ، بينهم اختلاف وتنازع فهم يتجاذبونه في حاجهم وهو خائر في أمره إذا هو أرضى أحدهم أغضب الباقين ، وإذا احتاج إليهم في مهمّ رده كل منهم إلى الآخرين ، فهو في عذاب دائم وتعب مقيم ، ومملوك آخر له مخدوم واحد يخدمه مخلصا وهو يعينه على مهماته ، ويقضى له سائر حاجاته ، فأىّ العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا ؟
- الجواب لا يحتاج إلى بيان - هكذا حال المشرك الذي يعبد آلهة شتى يبقى ضالّا حائرا لا يدرى أىّ تلك الآلهة يعبد ؟ ولا على أيهم يعتمد ؟ وممن يطلب رزقه ؟ وممن يلتمس رفده ؟ أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلّفه ، عارف ما يرضيه وما يسخطه - لا شك أن البون بين حاليهما شاسع.
وقوله (هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا) أي هل تستوى صفتاهما وحالاهما ؟
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي بعد أن بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد ، وثبت أن لا إله إلا هو - ثبت أن الحمد للّه لا لغيره.
(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي بل أكثر الناس لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره فيشركوا به سواه.(23/154)
ج 23 ، ص : 165
ولما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل ، أخبر سبحانه بأن مصير الجميع إلى اللّه ، وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحكم العدل ، وهناك يتميز المحق من المبطل قال :
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) أي إنك ستموت وهم سيموتون ، ثم تختصمون عند ربكم ، فتحتجّ أنت عليهم بأنك قد بلّغت فكذّبوا ، ويعتذرون هم بما لا طائل تحته ، وبما لا يدفع عنهم لوما ولا تقريعا ، ويقول التابعون للرؤساء : أطعناكم فأضللتمونا ، ويقول السادة : أغوانا الشيطان وآباؤنا الأولون.
عن أبى هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « من كان عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه » رواه البخاري.
وعن أبى هريرة قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « أ تدرون من المفلس ؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
إن المفلس من يأتى يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتى قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا ، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار » أخرجه مسلم.
وعن أبى سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية كنا نقول : ربنا واحد ، وديننا واحد ، ونبينا واحد ، فما هذه الخصومة ؟ فلما كان يوم صفّين ، وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، ووفّقنا لما فيه رضاك.
تم هذا الجزء بمدينة حلوان من أرباض القاهرة لثلاث بقين من ذى القعدة من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وآله وصحبه.(23/155)
ج 23 ، ص : 166
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
الصفحة المبحث 5 جمع الناس للحساب والجزاء 6 البعث ممكن وليس بمستحيل 10 القرآن يدل على أن جميع الكواكب سائرة 13 لكل من الشمس والقمر مدار يسبح فيه 15 السفن البرية والسفن الهوائية 19 تأتى الساعة بغتة والناس لا يشعرون 20 خروج الخلق من الأجداث 22 ما يتمتع به أهل الجنة من مآكل ومشارب 23 شهادة الأيدى والأرجل على المجرمين يوم القيامة 30 ما ينبغى للرسول أن يكون شاعرا 32 عاقبة من أعرض عن النظر في آيات ربه 34 تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه 36 دليل القدرة في الأنفس والآفاق 39 تنزيهه سبحانه عما لا يليق به 42 قسمه تعالى بملائكته بأن الإله واحد 44 الدنيا بيت فرشه الأرض وسقفه السماء 45 الدليل على الحشر والنشر وقيام الساعة(23/156)
ج 23 ، ص : 167
الصفحة المبحث 47 مقالتهم في القرآن 49 يحشر الظالمون مع من على شاكلتهم في المعاصي 51 يوم القيامة يتخاصم الأتباع والرؤساء من أهل الضلال 56 وصف خمور الجنة 59 سمر أهل الجنة في الجنة 60 اغتباط المؤمنين بما آتاهم ربهم من النعيم 63 وصف شجرة الزقوم 64 تقليد الأبناء للآباء 65 تسلية الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بأن قومهم ليسوا ببدع في الأمم 68 تقريع إبراهيم لقومه على عبادة الأصنام 71 عدول قومه عن الحجاج إلى استعمال القوة 73 طاعة إسماعيل لأبيه في ذبحه تنفيذا للرؤيا 76 الذبيح إسحاق أم إسماعيل ؟
78 نعم اللّه على موسى وهارون 81 قصص لوط عليه السلام 82 قصص يونس عليه السلام 84 توبيخ المشركين على نسبة البنات إليه سبحانه 93 مجمل ما حوته هذه السورة 94 سورة ص 96 عجب المشركين من قول الرسول : إن الإله واحد 98 الأسباب التي تمنع في زعمهم أن يكون محمد نبيا 104 قصص داود عليه السلام(23/157)
ج 23 ، ص : 168
107 قضية من قضايا داود التي حكم فيها 110 الرد على المفسرين فيما قالوه في قصص داود 114 الحكمة في خلق هذا الكون 115 ليس من العدل مساواة البرّ بالفاجر في الجزاء 117 عرض سليمان للصافنات الجياد والحكمة في ذلك 119 تسخير الريح لسليمان عليه السلام 123 داء أيوب عليه السلام ودواؤه ورفض ما قيل في ذلك نقلا عن اليهود 130 وصف نعيم المتقين في مآكلهم ومشاربهم 133 محاورة بين رؤساء الضلال وأتباعهم 135 الرسول منذر لا مسيطر 136 الأدلة التي ترشد إلى نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم 141 اعتذار المشركين على عبادة الأصنام 150 تهديد المشركين على أفعالهم القبيحة 152 أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم أن ينصح المؤمنين بنصائح 153 للصابرين أجرهم بغير حساب 156 بشرى من يسمعون القول فيتبعون أحسنه 158 صفات الدنيا الموجبة للنفرة منها 159 وجوب الإقبال على طاعة اللّه 160 ضرب القرآن الأمثال للناس 164 أصيب الأمم الماضية بضروب من العذاب في الدنيا قبل الآخرة(23/158)
ج 24 ، ص : 1
الجزء الرابع والعشرون
[تتمة سورة الزمر]
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء الرابع والعشرون(24/1)
ج 24 ، ص : 1(24/2)
ج 24 ، ص : 3
الجزء الرابع والعشرون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 35]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)
تفسير المفردات
مثوى : مقاما من ثوى بالمكان يثوى ثويّا وثواء : إذا أقام به ، والذي جاء بالصدق : هو الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وصدق به هم أتباعه ، أسوأ الذي عملوا : أي ما عملوه من المعاصي قبل الإسلام ، ويجزيهم أجرهم : أي يثيبهم على الطاعات التي فعلوها في الدنيا.(24/3)
ج 24 ، ص : 4
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف بعض هنات المشركين ، وبعض مقابحهم وأعقبه بمثل يشرح حالهم - أردف ذلك نوعا آخر منها ، وهو أنهم يكذبون فيثبتون للّه ولدا ويثبتون له شركاء ، ويكذّبون القائل المحق ، فيكذبون محمدا بعد قيام الأدلة القاطعة على صدقة ، وبعد أن ذكر وعيد هؤلاء أعقبه بوعد الذي جاء بالصدق ، ووعد المصدقين له ، فذكر أن اللّه يؤتيهم من فضله الثواب ، ويمنع عنهم العقاب.
الإيضاح
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ) أي لا أحد يبلغ ظلمه ظلم من افترى على اللّه الكذب ، فجعل معه آلهة أخرى ، أو ادعى أن الملائكة بنات اللّه ، وهو أيضا كذّب بالحق الذي جاء به رسوله من دعاء الناس إلى التوحيد ، وأمرهم بالقيام بفرائض الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور.
وفي قوله (إِذْ جاءَهُ) بيان لأنهم كذّبوا به من غير وقفة ولا إعمال رويّة بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النّصفة فيما يسمعون.
وبعد أن ذكر حالهم أردفه وعيدهم فقال :
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) أي أليس في النار مأوى ومسكن لمن كفروا باللّه وأبوا تصديق رسوله وامتنعوا عن اتباعه فيما يدعو إليه من التوحيد والشرائع التي أنزلها عليه.
وخلاصة هذا - ألا يكفيهم ذلك جزاء على أعمالهم.
وبعد أن ذكر حال المكذبين ووعيدهم أردفه ذكر الصادقين المصدقين ، ومدحهم على ما فعلوا فقال :
(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) أي والذي جاء بالصدق(24/4)
ج 24 ، ص : 5
وهو الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وصدّق به وهم أتباعه الذين نهجوا نهجه وساروا على طريقه - هم الذين اتقوا اللّه فوحدوه وبرئوا من الأوثان والأصنام وأدّوا فرائضه واجتنبوا نواهيه ، رجاء ثوابه وخوف عقابه.
ثم ذكر ما وعدهم به من ثواب عظيم ونعيم مقيم فقال :
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ) أي لهم من الكرامة عند ربهم ما تشتهيه أنفسهم وتقرّبه أعينهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وذلك جزاء من أحسن عملا ، فأخلص لربه في السر والنجوى ، وراقبه فى أقواله وأفعاله ، وعلم أنه محاسب على النّقير والقطمير ، والجليل والحقير.
ثم بين سبحانه ما هو الغاية لهم عند ربهم فقال :
(لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) وذلك أعظم ما يرجونه من دفع الضر عنهم والنفس إذا علمت زوال المكروه عنها كان لها في ذلك سرور ولذة تعدل السرور واللذة بجلب المنافع لها.
(وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ويثيبهم بمحاسن أعمالهم ولا يجزيهم بمساويها ، وقدّم تكفير السيئات على إعطاء الثواب ، لأن دفع المضار أهم من جلب المسارّ.
وفي ذكر تكفير الأسوإ إشارة إلى استعظامهم للمعصية مطلقا لشدة خوفهم من اللّه ، وإلى أن الحسن الذي يعلمونه هو الأحسن عند اللّه لحسن إخلاصهم فيه.
[سورة الزمر (39) : الآيات 36 الى 40]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40)(24/5)
ج 24 ، ص : 6
تفسير المفردات
بكاف عبده : أي يكفيه وعيد المشركين وكيدهم ، الذين من دونه : هم الأصنام :
ذى انتقام : أي مما عاداه وعادى رسوله.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنه يؤتى المؤمنين ما يشاءون في الجنة ويكفر عنهم سيئاتهم - أردف ذلك بيان أنه يكفيهم في الدنيا ما أهمهم ، ولا يضيرهم ما يخوّفونهم به من غضب الأوثان والأصنام ، فإن الأمور كلها بيده تعالى فمن يضلله فلا هادى له ، ومن يهده فلا مضل له ، وهو ذو العزة المنتقم الجبار. ثم ذكر أن قول المشركين يخالف فعلهم ، فحين تسألهم من خلق السموات والأرض يقولون اللّه ؟ وهم مع ذلك يعبدون غيره ، ثم سألهم سؤال تعجيز : هل ما تعبدونه من وثن أو صنم يستطيع أن يكشف ضرا أراده اللّه بأحد ، أو يمنع خيرا قدره اللّه لأحد ؟ إذا فاللّه حسبى وعليه أتوكل.
وبعد أن أعيت رسوله الحيلة في أمرهم - أمره سبحانه أن يقول لهم : اعملوا كما تشاءون ، وعلى نحو ما تحبون ، إنى عامل على طريقتى ، ويوم الحساب ترون المحق من المبطل ، ومن سيحل به العذاب المقيم الذي سيخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.(24/6)
ج 24 ، ص : 7
الإيضاح
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ؟ ) أي اللّه وحده هو الذي يدفع عن عباده الآفات :
ويزيل عنهم المصايب والويلات ، ويعطيهم جميع المشتهيات ، والمراد أنه يكفى من عبده وتوكل عليه.
وأتى بالكلام على طريق الأسلوب الإنكارى للإشارة إلى كفايته تعالى على أبلغ وجه ، كأنها من الظهور بحيث لا يتيسر لأحد أن ينكرها.
ثم رتب على ذلك ما هو كالنتيجة لما سلف فقال :
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) أي ويخوفك المشركون بغير اللّه من الأوثان والأصنام عبثا وباطلا ، لأن كل نفع أو ضر فلا يصل إلا بإرادته تعالى. وقد روى أنهم خوّفوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم مضرة الأوثان فقالوا : أ تسبّ آلهتنا ؟ لئن لم تكفّ عن ذكرها لتخبلنّك أو تصيبنّك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزّى ليكسرها بالفأس ، فقال له سادتها : أحذّركها يا خالد ، فإن لها شدة لا يقوم لها شىء ، فعمد خالد إلى العزّى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس اه.
وفي الآية إيماء إلى أنه سبحانه يكفى نبيه صلّى اللّه عليه وسلم دينه ودنياه ، ويكفى أتباعه أيضا ، ويكفيهم شر الكافرين.
ونحو الآية قوله : « فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ » وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم :
« وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ؟ » .
ثم أبان شديد جهلهم لتوعدهم بما لا يضر ولا ينفع فقال :
(وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يضلله اللّه لتدسيته نفسه وحبه للاثم والفسوق ومعصية الرسول ، فما له من هاد يهديه إلى الرشاد ويخلّصه من الضلال.
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) أي ومن يوفقه اللّه إلى أسباب السعادة بتزكية(24/7)
ج 24 ، ص : 8
نفسه وتحبيبها إلى صالح العمل ، فلا مضل له يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يغيّر سلوكه إذ لا رادّ لفعله ، ولا معارض لإرادته ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ) أي اللّه عزيز لا يغالب ، ومنيع لا ينازع ولا يمانع ، وذو انتقام من أعدائه لأوليائه ، فهو الذي لا يضام من استند إلى جنابه ، أو لجأ إلى بابه.
ثم أقام الدليل على غفلتهم وشديد جهلهم في عبادتهم للأصنام والأوثان مع تفرده تعالى بالخالقية لكل شىء وعدم خلقها شيئا فقال :
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي إن هؤلاء المشركين يقرون بوجود الإله العالم الحكيم لوجود الدليل ، ووضوح السبيل الذي لا يمكن إنكاره ، فإذا هم سئلوا اعترفوا به ، وإذا كان كذلك فكيف ساغ لهم عبادة غير الخالق أو تشريك مخلوق مع خالقه في العبادة ؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الفطنة ، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم ، وأحسنوا الظن بهم ، هجروا ما يقتضيه العقل ، وعملوا بما هو محض الجهل.
ثم أمر سبحانه رسوله أن يبكتهم ويوبخهم بعد هذا الاعتراف فقال :
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ ؟ ) أي أخبرونى عن آلهتكم هذه ، هل تقدر على كشف ما أراده اللّه بي من الضر أو منع ما أراده لى من الخير ؟ وإذا لم تكن لها قدرة على شىء فلا ينبغى التعويل عليها ولا الكدّ في عبادتها ، بل نعبد الإله القادر الذي تكون عبادته كافية جلب السراء ودفع الضراء.
قال مقاتل : لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلّى اللّه عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا من قدر اللّه ولكنها تشفع فنزل قوله :
(قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) فى جميع أمورى من جلب نفع أو دفع ضر ، فلا أخاف شيئا من أصنامكم التي تخوفوننى بها.(24/8)
ج 24 ، ص : 9
(عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي عليه لا على غيره يعتمد العاملون.
وفي الحديث « من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللّه عز وجل أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه عز وجل » .
وروى عن ابن عباس أنه قال : « احفظ اللّه يحفظك ، احفظ اللّه تجده تجاهك ، تعرّف إلى اللّه في الرخاء يعرفك في الشدة ، وإذا سألت فاسأل اللّه ، وإذا استعنت فاستعن باللّه. واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يكتبه اللّه عليك لم يضروك ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشىء لم يكتبه اللّه لك لم ينفعوك ، رفعت الأقلام وجفّت الصحف ، واعمل للّه بالشكر في اليقين. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ، وأن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا » .
ونحو الآية قول هود عليه السلام : « إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها » حين قال له قومه : « إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ » .
ولما أورد عليهم الحجة التي لا دافع لها أمر رسوله أن يقول لهم على وجه التهديد :
(قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) أي اعملوا على ما أنتم تعتقدون في أنفسكم من القوة والشدة واجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم فإنى عامل أيضا في تقرير دينى والسعى في نشره بين الناس ، فسوف تعلمون أن العذاب والخزي في الدنيا يصيبنى أو يصيبكم ، فيظهر حينئذ أيّنا المبطل أنا أو أنتم ، ويحل علىّ العذاب المقيم الدائم في الآخرة أو عليكم.(24/9)
ج 24 ، ص : 10
[سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 45]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
المعنى الجملي
بعد أن حاجّهم الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على وحدانيته تعالى - سلاه على إصرار هم على الكفر الذي كان يعظم عليه وقعه كما قال :
« فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » وقال :
« لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ » وأزال عن قلبه الخوف فأعلمه أنه أنزل عليه الكتاب بالحق وأنه ليس عليه إلا إبلاغه ، فمن اهتدى فنفع ذلك عائد إليه ، ومن ضل فضير ضلاله عليه ، وما وكل عليهم ليجبرهم على الهدى.
ثم ذكر أنه تعالى يقبض الأرواح حين انقضاء آجالها ويقطع صلتها بها ظاهرا وباطنا ، وظاهرا فقط حين النوم ، فيمسك الأولى ولا يردها إلى البدن ، ويرسل الثانية إلى البدن حين اليقظة ، وفي ذلك دلائل على القدرة لمن يتفكر ويتدبر.(24/10)
ج 24 ، ص : 11
ثم أبان أن هذه الأصنام التي اتخذت شفعاء لا تملك لنفسها شيئا ولا تعقل شيئا ، فكيف تشفع ؟ وبعدئذ ذكر مقابحهم ومعايبهم وأنه إذا قيل لا إله إلا اللّه وحده ظهرت آثار النفرة في وجوههم ، وإذا ذكرت الأصنام ظهرت علامات الفرح والسرور فيها ، وهذا منتهى الجهل والحمق الشديد.
الإيضاح
(إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ) أي إنا أنزلنا إليك القرآن بالحق لتبلّغه للانس والجن مبشرا برحمة اللّه ، ومنذرا بعقابه ، وفيه مناط مصالحهم في معاشهم ومعادهم والهادي لهم إلى الصراط المستقيم.
(فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ) أي فمن عمل بما فيه واتبعه فإنما بغى الخير لنفسه ، إذ أكسبها رضا خالقها ، وفاز بالجنة ونجا من النار.
(وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي ومن حاد عن البيان الذي بيناه لك ، فضّل عن الحجة ، فإنما يجور على نفسه ، وإليها يسوق العطب والهلاك ، لأنه يكسبها سخط اللّه وأليم عقابه في دركات الجحيم « يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .
(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي وما أنت أيها الرسول برقيب على من أرسلت إليهم ترقب أعمالهم وتحفظ عليهم أفعالهم ، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
ونحو الآية قوله : « إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ » وقوله : « فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » .
ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة ، وصفته العجيبة فقال :
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) أي اللّه هو الذي يقبض الأنفس حين انقضاء آجالها بالموت ، ويقطع تعلقها بالأجساد تعلق المتصرّف فيه.(24/11)
ج 24 ، ص : 12
(وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) أي ويتوفى الأنفس التي لم يحضر أجلها ، فيقبضها عن التصرف في الأجساد مع بقاء الأرواح متصلة بها.
(فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي فيمسك التي قضى عليها الموت فلا يردها إلى الأجساد.
(وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي ويرسل النائمة إلى الأجساد حين اليقظة إلى أجل مسمى وهو وقت الموت.
روى عن ابن عباس أنه قال : إن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح هى التي بها النفس والتحريك ، فيتوفيان عند الموت ، وتتوفى النفس وحدها حين النوم.
وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره (طرفه الذي يلى الجسد ويلى الجانب الأيمن) فإنه لا يدرى ما خلفه عليه ، ثم ليقل باسمك ربى وضعت جنبى ، وباسمك أرفعه ، إن أمسكت نفسى فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين » .
وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود وابن أبى شيبة عن أبى قتادة « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي : ان اللّه تعالى قبض أرواحكم حين شاء ، وردّها عليكم حين شاء » .
وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : « كنت مع النبي صلّى اللّه عليه وسلم فى سفر فقال : من يكلؤنا الليلة ؟ فقلت أنا ، فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أيها الناس إن هذه الأرواح عارية فى أجساد العباد ، فيقبضها اللّه إذا شاء ويرسلها إذا شاء » .
وأخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال :(24/12)
ج 24 ، ص : 13
العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء ولم يخطر على باله فتكون رؤياه كأخذ باليد ، ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا! فقال علىّ كرم اللّه وجهه ، أ فلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين ؟ يقول اللّه تعالى : « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى »
فاللّه يتوفى الأنفس كلها ، فما رأت وهى عنده سبحانه في السماء فهى الرؤيا الصادقة ، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهى الكاذبة ، لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها ، وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها ، فعجب عمر من قوله رضى اللّه عنهما اه.
ومن هذا تعلم أن النفس علويّة هبطت من المحل الأرفع ، وشغلت بتدبير منزلها فى ليلها ونهارها ، ولا تزال تنتظر العود إلى ذيّاك الحمى ، فحين النوم تنتهز الفرصة ، فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ، وتستعد لقبول بعض آثاره ، والاستضاءة بشىء من أنواره فمتى رأت وهى في تلك الحال فاضت عليها أنواره فكانت الرؤيا صادقة ، ومتى رأت وهى راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام ، وتزدحم فيه أىّ ازدحام ، كانت رؤياه كاذبة ، وهى في كلتا الحالين متفاوتة بحسب الاستعداد واللّه ولى التوفيق ، ومنه الهداية لأقوم طريق.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي إن فيما ذكر لآيات عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته لمن يتفكر في طريق تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها بانقطاع تصرفها حين الموت مع بقائها في عالم آخر إلى أن يعيد اللّه الخلق ، وفي قطع تصرفها فى الظاهر فقط في حال النوم ، ثم إرسالها حال اليقظة إلى انقضاء آجالها.
ثم أنكر على المشركين اتخاذ الأصنام شفعاء ، فقال :
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ) أي بل اتخذ المشركون آلهتهم التي يعبدونها لتشفع لهم عند اللّه في قضاء حاجاتهم ؟ .(24/13)
ج 24 ، ص : 14
وإجمال المعنى - إنه لا ينبغى لهم ذلك ، إذ لا يخطر على بال عاقل فائدة لهذا ، ومن ثم أمر رسوله أن يتهكم بهم ويحمّقهم على ما يفعلون فقال :
(قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) أي قل لهم أيها الرسول : أ تتخذونهم شفعاء كما تزعمون ، ولو كانوا لا يملكون لكم نفعا ، ولا يعقلون أنكم تعبدونهم.
ثم أمر رسوله أن يخبرهم أن الشفاعة للّه وحده فقال :
(قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) فليس لأحد منها شىء إلا بإذنه لمن ارتضى كما قال :
« مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ؟ » وقال : « وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى » والخلاصة - إنه تعالى مالك الشفاعة كلها ، لا يستطيع أحد أن يشفع لديه إلا أن يكون المشفوع له مرتضى والشفيع مأذونا له ، وكلاهما ليس بموفور لهؤلاء.
ثم بين العلة في أن الشفاعة جميعا له فقال :
(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له السلطان في السموات والأرض ، وكل من فيها ملك له ، ومنها ما تعبدون من دونه ، فاعبدوا مالك الملك كله الذي لا يتصرف أحد فى شىء منه إلا بإذنه ورضاه.
(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي ثم إليه مصيركم بعد البعث وهو معاقبكم على إشراككم به سواه إن أنتم متم على هذه الحال.
وخلاصة ذلك اعبدوا من يقدر على نفعكم في الدنيا وعلى صركم فيها ، وفي الآخرة بعد مماتكم يجازيكم بما قدمتم من عمل ، خيرا كان أو شرا.
ولا يخفى ما في هذا من التهديد والوعيد الذي تقشعرّ منه الجلود خشية.
ثم ذكر هفوة من هفواتهم التي تصدر منهم ، وتدل على غفلة عظيمة وتناقض بين الاعتراف بالألوهية والإنكار لها فقال :
(وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ، وَإِذا ذُكِرَ(24/14)
ج 24 ، ص : 15
الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
الاشمئزاز أن يمتلىء القلب غيظا وغما ينقبض عنهما أديم الوجه كما يرى في وجه العابس المحزون ، والاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا فتنبسط له بشرة الوجه.
أي إنه إذا قيل لا إله في الكون إلا اللّه وحده نفرت قلوب أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالبعث والمعاد بعد الموت ، وإذا ذكرت الآلهة التي يدعونها من دون اللّه فقيل : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى إن استبشروا وفرحوا لفرط افتنانهم بهم ونسيانهم حق اللّه تعالى.
قال ابن عباس في الآية : اشمأزت قست ونفرت قلوب هؤلاء الأربعة الذين لا يؤمنون بالآخرة أبو جهل بن هشام والوليد بن عتبة وصفوان وأبىّ بن خلف اه ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : « وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً » .
قال السيد الآلوسى في تفسيره ناعيا حال المسلمين اليوم : وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف اللّه تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ، ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق أهواءهم ومعتقداتهم فيهم ، ويعظمون من يحكم لهم ذلك ، وينقبضون من ذكر اللّه تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل ، وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله ، وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره ، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات ، وينادى يا فلان أغثنى ، فقلت له : قل يا اللّه فقد قال سبحانه : « وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ » فغضب وبلغني أنه قال : فلان منكر على الأولياء ، وسمعت من بعضهم أنه قال :
الولي أسرع إجابة من اللّه عز وجل ، وهذا من الكفر بمكان ، نسأل اللّه تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان ا ه(24/15)
ج 24 ، ص : 16
[سورة الزمر (39) : الآيات 46 الى 48]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عن المشركين حبهم للشرك ونفرتهم من التوحيد - أمر رسوله بالالتجاء إليه لما قاساه في أمر دعوتهم من شديد مكابرتهم وعنادهم ، تسلية له ، وبيانا لأن سعيه مشكور ، وجدّه معلوم لديه ، وتعليما لعباده أن يلجئوا إليه حين الشدة ، ويدعوه بأسمائه الحسنى ، ثم ذكر أحوالهم يوم القيامة حين يرون الشدائد والأهوال وما ينتظرهم من العذاب.
الإيضاح
(قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي قل : يا اللّه يا مبدع السموات والأرض. ويا عالم ما غاب عنا وما تشهده العيون والأبصار ، أنت تحكم بين عبادك فتفصل بينهم بالحق ، يوم تجمعهم لفصل القضاء فيما كانوا فيه يختلفون في الدنيا من القول فيك وفي عظمتك وسلطانك ، فتقضى بيننا وبين المشركين الذين إذا ذكر اللّه وحده اشمأزت قلوبهم ، وإذا ذكر من دونه استبشروا وفرحوا.
أخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء والصفات عن عائشة قالت : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : اللهم ربّ جبريل(24/16)
ج 24 ، ص : 17
وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم.
وروى أحمد عن عبد اللّه بن عمرو رضى اللّه عنهما قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعلمنا أن نقول : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت رب كل شىء وإله كل شىء ، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك والملائكة يشهدون ، أعوذ بك من الشيطان وشركه ، وأعوذ بك أن أقترف على نفسى إثما أو أجرّه إلى مسلم » .
قال أبو عبد الرّحمن رضى اللّه عنه : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يعلم عبد اللّه بن عمرو رضى اللّه عنهما أن يقول ذلك حين يريد أن ينام.
وقال أبوبكر الصديق : « أمرنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضطجعى من الليل : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شىء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه ، أو أقترف على نفسى سوءا أو أجره إلى مسلم » رواه الترمذي.
وبعد أن ذكر معتقداتهم الفاسدة ذكر في وعيدهم أمورا :
(1) (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ولو أن هؤلاء المشركين ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه ، وقبل ذلك منهم يوم القيامة لافتدوا به أنفسهم من أهوال ذلك العذاب الشديد الذي سيعذبون به ، وقد تقدم إيضاح هذا في سورة آل عمران.
(2) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي وظهر لهم من عذاب اللّه الذي أعدّه لهم ما لم يكن في حسبانهم ولم يحدّثوا أنفسهم به.
وفي هذا وعيد عظيم لهم وتهديد بالغ غاية لاغاية وراءها.
قال مجاهد : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هى سيئات ، وقال عكرمة بن(24/17)
ج 24 ، ص : 18
عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال أخاف آية من كتاب اللّه (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فأنا أخشى أن يبدو لى ما لم أكن أحتسب.
(3) (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر لهم حين تعرض عليهم صحائف أعمالهم ما كانوا اجترحوه من السيئات وارتكبوه من الآثام وعلموا أنهم مجازون على النقير والقطمير ، وأحاط بهم العذاب من كل جانب ، وأيقنوا أنهم مواقعوه لا محالة لاستهزائهم بما كان ينذرهم به الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
[سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن المشركين بعض هنواتهم الفاسدة - حكى عنهم هناة أخرى هى أنهم حين الوقوع في الضر من أفقر ومرض يفزعون إلى اللّه ويلجئون إليه علما منهم أنه لا دافع له إلا هو ، وإذا نالتهم بعض النعم من فضله زعموا أن ذلك بكسبهم ، وحسن صنيعهم ، وجميل تدبيرهم ، والحقيقة أن ما أوتوه إنما هو فتنة لهم واختبار لحالهم ، ليعلم أ يشكرون على ما حباهم به من النعم أم يكفرون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك.(24/18)
ج 24 ، ص : 19
وما هذه المقالة ببدع منهم بل قالها كثير قبلهم فلم ينفعهم ذلك شيئا ، ثم ذكر أن بسط الرزق وتقتيره بيد اللّه يبسطه تارة ويقبضه أخرى ، وليس ذلك لسعة الحيلة وحسن التدبير وحدهما ، فإنا نرى كثيرا من العقلاء وأرباب التدبير للمال وحسن تصريفه فى ضيق شديد ، وكثيرا من الجهلاء والحمقى في بحبوحة من العيش ورغد عظيم منه.
الإيضاح
(فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ، ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ ، بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي إن أمر المشرك عجيب يدعو إلى الدهشة والحيرة ، فإذا هو أصيب بضر من فقر أو مرض جأر إلى اللّه واستعان به لكشف ذلك الضر عنه - وإذا تغيرت الحال ونال شيئا من الرخاء أو زال عنه ما به من العلة قال :
إنما أوتيت هذا لعلمى بوجوه المكاسب وجدى واجتهادي أو لذهابى إلى الأطباء واهتمامي بالعلاج فلم أدخر دواء نافعا إلا بذلت نفيس المال للحصول عليه.
وهذا منه تناقض عجيب ، ففى الحال الأولى يستغيث بربه ، وفي الحال الثانية ينسب السلامة إلى نفسه ويقطع صلتها عن المنعم بها الذي أوجدها وأرادها ، وفي الحق إن ما أعطيه من النعم إنما هو فتنة واختبار لحاله ، أ يشكر أم يكفر ، أ يطيع أم يعصى ؟
ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك استدراج من اللّه وامتحان لهم ، ومن ثم يقولون ما يقولون ، ويدّعون من الدعاوى ما لا يفقهون.
ثم بين أن هذه مقالة ليست وليدة أفكارهم بل سبقهم بها كثير ممن قبلهم فقال :
(قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي قد زعم مثل هذا الزعم وادعى مثل هذه الدعوى كثير ممن سبقهم من الأمم ، فلم يغن عنهم شيئا ما كانوا يكسبون من متاع الدنيا ويجمعون من حطامها حين جاءهم أمر ربهم على تكذيبهم رسله واستهزائهم بهم.(24/19)
ج 24 ، ص : 20
ثم بين ما سلف فقال :
(فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي فحلّ بهم جزاء سيئات ما كسبوا من الأعمال ، فعوجلوا بالخزي في الدنيا كالخسف الذي لحق بقارون ، والصاعقة التي نزلت بقوم لوط ، وسيصيبهم النكال الدائم في الآخرة.
ثم أوعد سبحانه مشركى قومه على ما سينالهم في الدنيا والآخرة فقال :
(وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) أي والذين كفروا باللّه من قومك وظلموا أنفسهم سيصيبهم أيضا وبال السيئات التي اكتسبوها ، كما أصاب الذين من قبلهم ، فأصابهم القحط سبع سنين متوالية وقتل صناديدهم يوم بدر ، وأسر منهم العدد الكثير.
(وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي وما هم بفائتين اللّه هر با يوم القيامة ، بل مرجعهم إليه ويصنع بهم ماشاء من العقوبة.
ثم أقام سبحانه الدليل على عظيم قدرته وبديع حكمته فقال :
(أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ ؟ ) أي أ ولم ير هؤلاء المشركون أن اللّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة ، ويضيق على من يريد أخرى ، كما يشاهد من اختلاف الناس في سعة الرزق وضيقه ، وليس ذلك لجهل في الكاسب أو علم لديه ، فربما كان العاقل القادر ضيق الرزق ، والجاهل أو المريض ذا سعة وبسطة في المال.
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي إن في هذا لدلالات لقوم يؤمنون باللّه ويقرون بوحدانيته ، وهم الدين يعلمون أن الذي يفعل ذلك هو اللّه لا سواه.
وإنما خص المؤمنين بذلك ، لأنهم المنتفعون بالآيات ، المتفكرون فيها.(24/20)
ج 24 ، ص : 21
[سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)
تفسير المفردات
الإسراف : تجاوز الحد في كل ما يفعله المرء ، وكثرة استعماله في إنفاق المال وتبذيره ، والمراد هنا الإفراط في المعاصي ، لا تقنطوا : أي لا تيأسوا ، والإنابة : الرجوع. والإسلام للّه :
لإخلاص له ، أحسن ما أنزل إليكم من ربكم : هو القرآن ، بغتة : أي فجأة ، يا حسرتا :
أي يا حسرتى وندمى ، فرّطت : أي قصرت ، فى جنب اللّه : أي في عبادته وطاعته ، لمن الساخرين : أي المستهزئين ، كرة : أي رجعة.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد الكافرين فيما سلف - أردفه ذكر رحمته وفضله على عباده المؤمنين بغفران ذنوبهم إذا هم تابوا وأنابوا إليه وأخلصوا له العمل ، ليكون في ذلك مطمع لهؤلاء الضالين ومنبهة لهم من ضلالهم.(24/21)
ج 24 ، ص : 22
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال : إن أهل مكة قالوا : يزعم محمد أن من عبد الأوثان ودعا مع اللّه إلها آخر ، وقتل النفس التي حرم اللّه لم يغفر له ، فكيف نهاجر ونسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل اللّه (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية.
الإيضاح
(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) أي قل أيها الرسول للمؤمنين الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود اللّه ، فارتكبوا محارمه وتركوا أوامره : لا تيأسوا من مغفرة اللّه ، فهو يغفر الذنوب جميعا لمن تاب إليه ولجأ إلى جنابه ، وإن كثرت وكانت كز بد البحر.
روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضى اللّه عنهما : أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل : « وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ » ونزل :
« قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » .
والمراد من الآية الأولى قوله : « إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً » الآية :
وروى أحمد عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : ما أحب أن لى الدنيا وما فيها بهذه الآية : « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ » إلى آخر الآية ، فقال رجل يا رسول اللّه فمن أشرك ، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ثم قال :
« ألا ومن أشرك - ثلاث مرات » .(24/22)
ج 24 ، ص : 23
و
روى أحمد أيضا عن عمرو بن عنبسة رضى اللّه عنه قال : « جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم شيخ كبير يتوكأ على عصا له فقال : يا رسول اللّه إن لى غدرات وفجرات ، فهل يغفر لى ؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم : أ لست تشهد أن لا إله إلا اللّه ؟ قال بلى وأشهد أنك رسول اللّه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلم : قد غفر لك غدراتك وفجراتك » .
فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة والإخلاص فى العمل ، ولا يقنطنّ عبد من رحمة اللّه ، فإن باب الرحمة واسع كما قال : « أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ » وقال : « وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً »
.
وروى الطبراني من طريق الشعبي عن سنيد بن شكل أنه قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن أعظم آية في كتاب اللّه « اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ » وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وإن أكثر آية فى القرآن فرجا في سورة الغرف « قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ » وإن أشد آية في كتاب اللّه تفويضا « وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ » فقال له مسروق : صدقت.
وبعد أن نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ، فيحل الرجاء مكانه.
وجاء بما لا يبقى بعده شك ولا يخالج القلب عند سماعه ظن فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) أي إن اللّه يغفر كل ذنب ، كائنا ما كان إلا ما أخرجه النص القرآنى ، وهو الشرك بقوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » .
فيا لها من بشارة ترتاح لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم ، الصادقين في رجائه ، الخالعين ثياب القنوط ، البعيدين عن سوء الظن بمن لا يتعاظمه ذنب ، ولا يبخل(24/23)
ج 24 ، ص : 24
بمغفرته ورحمته على عباده ، المتوجهين إليه في طلب العفو ، الملتجئين إليه في مغفرة ذنوبهم.
ثم ذكر علة ذلك فقال :
(إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد التوبة منها.
فمن أبى هذا التفضل العظيم ، والعطاء الجسيم ، وظن أن تقنيط عباد اللّه وتأييسهم من رحمته - أولى بهم مما بشرهم اللّه به - فقد ركب أعظم الشطط ، وغلط أقبح الغلط ، فإن التبشير هو الذي جاءت به نصوص الكتاب ، وهو المسلك الذي سلكه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كما صح عنه من
قوله : « يسّروا ولا تعسّروا ، وبشّروا ولا تنفّروا » .
وبعد أن وعد سبحانه بالمغفرة أمر بشيئين :
(1) الإنابة إليه بقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) أي أيها الناس أنيبوا إلى ربكم بالتوبة ، وارجعوا إليه بالطاعة ، واستجيبوا إلى ما دعاكم إليه من توحيده وإفراد الألوهية قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تجدوا نصيرا ولا معينا من عذابه النازل بكم.
(2) اتباع الأحسن بقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي واتبعوا ما أمركم به ربكم في تنزيله ، واجتنبوا ما نهاكم عنه فيه ، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة وأنتم لا تعلمون به حتى يغشاكم ، ولا يخفى ما في هذا من تهديد ووعيد.
ولما خوّفهم بالعذاب ذكر علة ذلك فقال :
(1) (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي بادروا إلى العمل واحذروا أن تقول بعض الأنفس : يا حسرتا على تقصيرى فى طاعة اللّه ، وسخريتى واستهزائى بدين اللّه وكتابه ، وبرسوله وبالمؤمنين.(24/24)
ج 24 ، ص : 25
(2) (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي أو تقول : لو أن اللّه أرشدنى إلى دينه وطاعته ، لكنت ممن اتقى اللّه فترك الشرك والمعاصي :
(3) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي أو تقول حين رؤية العذاب : ليت لى رجعة إلى الدنيا فأكون من المهتدين المحسنين لعقيدتهم وأعمالهم.
وخلاصة ذلك - إن هذا المقصر تحسر على التفريط في الطاعة ، وفقد الهداية ثم تمنى الرجعة إلى الدنيا لتدارك ما فات.
فأجابه سبحانه بقوله :
(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي إنه لا فائدة من ذلك ، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولى الذي أرسلته إليك وفي كتابى الذي يتلوه عليك ، ويذكّرك بما فيه من وعد ووعيد ، وتبشير وإنذار فكذبت بها واستكبرت عن قبولها ، وكنت ممن يعمل عمل الكافرين ويستنّ بسنتهم ، ويتّبع مناهجهم.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ » .
[سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 61]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
تفسير المفردات
وجوههم مسودة : أي ما يظهر عليها من آثار الذل والحشرة ، والمثوى : المقام ، والمفازة : الظفر بالبغية على أتمّ وجه.(24/25)
ج 24 ، ص : 26
المعنى الجملي
بعد أن أوعد المشركين فيما سلف بما سيكون لهم من الأهوال يوم القيامة ، ووعد.
المتقين بما يمنحهم من الفوز والنعيم في ذلك اليوم - أردف ذلك ذكر حال لكل منهما تبدو للعيان ، ويشاهدها كل إنسان ، يوم العرض والحساب.
الإيضاح
(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة وجوه الذين كذبوا على اللّه ، فزعموا أن له ولدا وأن له شريكا وعبدوا آلهة من دونه - مجلّلة بالسواد ، لما أحاط بها من الكآبة والحزن الذي علاها ، والغم الذي لحقها.
ثم علل هذا وأكده بقوله :
(أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) أي أ ليست النار كافية لهم سجنا وموئلا ، ولهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وإبائهم عن الانقياد للحق.
وقد بين الرسول صلّى اللّه عليه وسلم معنى الكبر فقال : « هو سفه الحق وغمص (احتقار) الناس »
وفي حديث عبد اللّه بن عمرو عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم « يحشر المتكبرون يوم القيامة كالذرّ ، يلحقهم الصّغار حتى يؤتى بهم إلى سجن جهنم » .
(وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ) أي وينجّى اللّه من عذاب جهنم الذين اتقوا الشرك والمعاصي وينيلهم ما يبتغون ، ويعطيهم فوق ما كانوا يؤملون.
وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم تفسير هذه الآية من حديث أبى هريرة قال : « يحشر اللّه مع كل امرئ عمله ، فيكون عمل المؤمن معه في أحسن صورة وأطيب(24/26)
ج 24 ، ص : 27
ريح ، فكلما كان رعب أو خوف قال له : لا ترع فما أنت بالمراد به ولا أنت المعنىّ به ، فإذا كثر ذلك عليه ، قال فما أحسنك ؟ فمن أنت ؟ فيقول أما تعرفنى ؟ أنا عملك الصالح حملتنى على ثقلى ، فو اللّه لأحملنّك ولأدفعن عنك ، فهى التي قال اللّه : « وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ » .
ثم بين هذه المفازة فقال :
(لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي لا يمسهم أذى جهنم ولا يحزنون على ما فاتهم من مآرب الدنيا ، إذ هم قد صاروا إلى ما هو خير منه ، نعيم مقيم ، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ورضوان من اللّه أكبر.
وخلاصة ذلك - إنهم آمنوا من كل فزع ، وبعدوا من كل شر ، وفازوا بكل خير.
[سورة الزمر (39) : الآيات 62 الى 67]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)(24/27)
ج 24 ، ص : 28
تفسير المفردات
وكيل : أي قيّم بالحفظ والحراسة فيتولى التصرف بحسب الحكمة والمصلحة ، مقاليد :
أي مفاتيح لفظ فارسى معرّب ، واحده إقليد معرب ، إكليد جمع جمعا شاذا ، ليحبطن عملك : أي ليذهبن هباء ولا يكون له أثر ، وما قدروا اللّه حق قدره : أي ما عظموه حق التعظيم على الوجه الذي يليق به ، والقبضة : المرة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض ، بيمينه : أي بقدرته.
المعنى الجملي
بعد أن بسط الوعد والوعيد يوم القيامة لأهل التوحيد وأهل الشرك - عاد إلى ذكر دلائل الألوهية والوحدانية ، ثم انتقل إلى النعي على الكافرين في أمرهم لرسوله بعبادة الأوثان والأصنام ، ثم بين أن الأنبياء جميعا أوحى إليهم ألا يعبدوا إلا اللّه وحده ، وألا يشركوا به سواه ، وأنهم إن فعلوا غير ذلك حبطت أعمالهم وكانوا من الخاسرين ، ثم كرر النعي عليهم مرة أخرى بأنهم لم يعرفوا اللّه حق معرفته إذ لو عرفوه لما جعلوا هذه المخلوقات الخسيسة مشاركة له في العبودية.
الإيضاح
(اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ) أي هو سبحانه الخالق للأشياء جميعا من خير وشر وإيمان وكفر بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما ، وكلها تحت جبروته وقهره.
(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي وهو القائم على كل الأشياء يتولاها بحراسته وحفظه بحسب ما تقتضيه المصلحة ، فهى محتاجة إليه في بقائها كما هى محتاجة إليه فى وجودها.
ثم فصل ذلك بعض التفصيل فقال :(24/28)
ج 24 ، ص : 29
(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي هو حافظ الخزائن ومدبرها ومالك مفاتيحها فله التصرف في كل شىء مخزون فيها.
والخلاصة - هو القادر عليهما والحافظ لهما.
أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان قال : « سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه : « لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فقال لى يا عثمان :
لقد سألتنى عن مسألة لم يسألنى عنها أحد قبلك.
«
مقاليد السموات والأرض : لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، وسبحان اللّه والحمد للّه ، وأستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن يحيى ويميت وهو حىّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير »
وعلى هذا فالمراد أن هذه الكلمات يوحّد بها ويمجّد وهى مفاتيح خير السموات والأرض ، من تكلم بها أصابه خيرهما.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي والذين كفروا بالأدلة التي وضعت في الأكوان وجاءت في القرآن ، دالة على وحدانية اللّه وعظيم قدرته وبديع حكمته - أولئك هم المغبونون حظوظهم من خيرات السموات والأرض ، لأنهم حرموا من ذلك في الآخرة بخلودهم في النار.
ثم أمر رسوله أن يوبخ المشركين على أمره صلّى اللّه عليه وسلم بعبادة الأصنام والأوثان فقال :
(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) أي قل لمشركى قومك الداعين لك إلى عبادة الأصنام والقائلين لك : هودين آبائك : أ فتأمروني أيها الجاهلون بعد مشاهدتى الآيات الدالة على تفرده سبحانه وتعالى بالألوهية - أن أعبد غيره ، والعبادة لا تصلح لشىء سواه.
روى عن ابن عباس « أن قريشا دعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن يعطوه ما لا فيكون أغنى رجل بمكة ، ويزوجوه ما أراد من النساء ويطئون عقبه (أي يغطون دعوته ويزيلونها) وقالوا هذا لك يا محمد وتكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها(24/29)
ج 24 ، ص : 30
بسوء ، قال حتى أنظر ما يأتينى من ربى فنزل : « قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ » إلى آخر السورة ، ونزل (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي - إلى قوله - مِنَ الْخاسِرِينَ) » .
وعنه أيضا : إن المشركين من جهلهم دعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم وهم يعبدون معه إلهه.
ثم بين أنه حذر وأنذر عباده من الشرك بلسان جميع الأنبياء فقال :
(وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) أي ولقد نزل عليك الوحى من ربك بأنه إذا حصل منك إشراك به بعبادة صنم أو وثن ليبطلنّ كل عمل لك من أعمال الخير كصلة رحم وبرّ ببائس فقير ولا تنالنّ به ثوابا ولا جزاء ولتكونن ممن خسروا حظوظهم في الدنيا والآخرة ، وأوحى إلى الرسل من قبلك بمثل هذا.
فاحذر أن تشرك باللّه شيئا فتهلك ، وهذا كلام سيق على سبيل الفرض والتقدير ، لتهييج المخاطب المعصوم ، وللايذان بشناعة الإشراك وقبحه ، حتى لينهى عنه من لا يكاد يفعله فكيف بغيره ؟ والحكم بحبوط عمل المشرك في الآخرة مقيّد بما إذا مات وهو كذلك بدليل قوله في الآية الأخرى : « وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ » .
ثم رد عليهم ما أمروه به من عبادة الأصنام وأمره بعبادته وحده فقال :
(بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) أي لا تعبد ما أمرك به قومك ، بل اللّه فاعبده دون سواه من الأنداد والأوثان.
(وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد والدعاء إلى دينه ، وما اختصك به من الرسالة.
ثم أكد ما سلف بقوله :(24/30)
ج 24 ، ص : 31
(وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق التعظيم ، إذ عبدوا غيره معه ، وهو العظيم الذي لا أعظم منه ، القادر على كل شىء ، المالك لكل شىء ، وكل شىء تحت قهره وقدرته.
روى البخاري عن ابن مسعود قال : « جاء حبر من الأحبار إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال يا محمد : إنا نجد أن اللّه عز وجل يجعل السموات على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والشجر على أصبع ، والماء والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » الآية.
وأخرج الشيخان والنسائي وابن ماجه في جماعة آخرين عن ابن عمر « إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : « وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ » وهو يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر ، يمجّد الرب نفسه ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم ، فرجف برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم المنبر حتى قلنا :
ليخرّنّ به » .
(وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) أي إن الأرض جميعا تحت ملكه يوم القيامة يتصرف فيها كيف يشاء ، ولا يتصرف فيها سواه ، والسموات مطويات طى السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصى معها شىء ، وفي هذا رمز إلى أن ما يشركونه معه في الأرض أو في السماء مقهور تحت سلطانه جل شأنه.
روى البخاري عن أبى هريرة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول : « يقبض اللّه الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟ »(24/31)
ج 24 ، ص : 32
وقد علمت أن السلف يجرون المتشابه على ما هو عليه ، وأن الخلف يؤولونه ، والأول أسلم ، والثاني أحكم.
قال سفيان بن عيينة : كل ما وصف اللّه تعالى به نفسه في كتابه ، فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ا ه.
وقال صاحب الكشاف : والغرض من هذا الكلام إذا أخذته بجملته ومجموعه تصوير عظمته ، والتوقيف على كنه جلاله لا غير ، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز ا ه.
(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء له مع القدرة العظيمة ، والحكمة الباهرة.
[سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 70]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)
تفسير المفردات
الصور : القرن ينفخ فيه ، صعق : أي غشى عليه ، ينظرون : أي ينتظرون ماذا يفعل بهم ؟ وأشرقت الشمس : أضاءت ، وشرقت : طلعت ، بنور ربها : أي عدله ، ووضع الكتاب : أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين ، بالحق : أي بالعدل ، ما عملت : أي جزاء ما عملت.(24/32)
ج 24 ، ص : 33
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عظمته تعالى بأنه خالق كل شىء ، وهو الوكيل على كل شىء ، وبيده مقاليد السموات والأرض - أردف ذلك ذكر دلائل أخرى تدل على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، فبذكر مقدمات يوم القيامة من نفخ الصور النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض جميعا ، ثم النفخة الثانية التي يقوم بها الناس جميعا من قبورهم ، ثم الفصل بينهم للجزاء والحساب ، فتوفى كل نفس جزاء ما عملت من خير أو شر ، وهو سبحانه العليم بأفعالهم جميعا.
الإيضاح
(وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ، فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) بيّن سبحانه ما يكون بعد قبض الأرض وطىّ السماء والنفخ في الصور النفخة الأولى ، إذ هما نفختان يموت الخلق في الأولى منهما ويحيون فى الثانية بعد أن كانوا عظاما ورفاتا.
أخرج ابن ماجه والبزار وابن مردويه عن أبى سعيد الخدري مرفوعا « إن صاحبى الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر ، متى يؤمران » ؟ .
وروى أبو داود عن أبى سعيد الخدري قال : « ذكر رسول اللّه صاحب الصور وقال : عن يمينه جبريل وعن يساره ميكائيل » .
وليس في القرآن ولا في صححيح الأخبار ما يدل على تعيين من استثناهم اللّه من الصعق والفزع ، ومن ثم قال قتادة لا ندرى من هم ؟ .
ونحو الآية قوله : « فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ. فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ » وقوله :
« يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا » .(24/33)
ج 24 ، ص : 34
وقوله : « وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ » .
(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) أي وأضاءت أرض المحشر بما يقيمه فيها من الحق والعدل ، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات.
(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي ووضعت صحائف الأعمال بأيدى العاملين كما قال : « وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً » .
وقال في آية أخرى « ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها » .
(وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليكونوا شهداء على أممهم كما قال : « فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً » .
(وَالشُّهَداءِ) أي الحفظة من الملائكة الذين يقيدون أعمال العباد خيرها وشرها كما يدل على ذلك قوله : « وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ » . فالسائق يسوق للحساب ، والشهيد يشهد عليها.
وبعد أن بيّن أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات - بين أنه يوصل إلى كل أحد حقه كاملا غير منقوص ، ودل على ذلك بأربع عبارات :
(1) (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بينهم بالعدل والصدق.
(2) (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ولا زيادة في عقاب ، ونحو الآية قوله :
« وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ » . وقوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً » .
(3) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي ، وأعطيت كل نفس جزاء ما عملت جزاء كاملا.(24/34)
ج 24 ، ص : 35
(4) (وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فى الدنيا دون حاجة إلى كاتب ولا حاسب ، فلا يفوته شىء من أعمالهم ، ومن ثمّ يكون حكمه بينهم بالقسطاس المستقيم.
والخلاصة - أنه إنما وضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة ، لا لحاجة إليها في علمه تعالى بما يعملون وما يقولون ، ثم جزائهم على ما قدموا من خير أو شر.
[سورة الزمر (39) : الآيات 71 الى 72]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
تفسير المفردات
السوق : الحث على السير بعنف وإزعاج علامة على الاهانة والاحتقار ، والزمر :
الأفواج المتفرقة بعضها في إثر بعض ، والخزنة : واحدهم خازن نحو سدنة وسادن ، وينذرونكم : أي يخوّفونكم ، حقت : أي وجبت.
المعنى الجملي
بعد أن شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال بقوله : « وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ » - فصّل ذلك فذكر ما يحل بالأشقياء من الأهوال ، وما يلقونه من التأنيب والتوبيخ من خزنة جهنم على طريق السؤال والجواب التهكمى وهو أشد وقعا على الأبىّ العيوف الذي تأبى نفسه الهوان والاحتقار.(24/35)
ج 24 ، ص : 36
الإيضاح
(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي وسيق الكافرون بربهم ، المشركون به الأصنام والأوثان ، إلى جهنم سوقا عنيفا ، أفواجا متفرقة بعضها في إثر بعض بحسب ترتب طبقاتهم في الضلال والشر - بزجر وتهديد ووعيد ، كما يساق المجرمون في الدنيا إلى السجون جماعات مع الإهانة والتحقير على ضروب شتى.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا » أي يدفعون إليها دفعا.
(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت لهم أبوابها سريعا ليدخلوها ، كأبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتى أرباب الجرائم الذين يسجنون فيها ، فتفتح ليدخلوها ، فإذا دخلوها أغلقت عليهم.
ثم ذكر سؤال الخزنة لهم على طريق التوبيخ ، والاهانة فقال :
(وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ؟ ) أي ألم يأتكم رسل من جنسكم تفهمون ما ينبئونكم به من طاعة ربكم والاعتراف بوحدانيته وترك الشرك به ، ويسهل عليكم مراجعتهم حين يقيمون عليكم الحجج والبراهين مبينين صدق ما دعوكم إليه ، وينذرونكم أهوال هذا اليوم ؟ .
فأجابوهم معترفين ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لوضوح السبل أمامهم ، ولا سبيل حينئذ إلى الإنكار والجحود.
(قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي قالوا بلى قد أتانا رسل من ربنا فأنذرونا وأقاموا الحجج والبراهين ، ولكنا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشّقوة والضلالة ، فعدلنا بسوء اختيارنا عن الحق إلى الباطل ، وفعلنا الشر دون الخير ، وعبدنا ما لا يضر ولا ينفع ، وتركنا عبادة الواحد القهار.
ونحو الآية قوله : « كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ؟ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ » .(24/36)
ج 24 ، ص : 37
وبعد أن اعترفوا هذا الاعتراف.
(قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي قالت لهم الملائكة الموكلون بعذابهم :
ادخلوا جهنم ماكثين فيها أبدا لا خروج لكم منها ، ولا زوال لكم عنها.
(فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي فبئس المصير ، وبئس المقيل لكم بسبب تكبركم فى الدنيا ، وإبائكم عن اتباع الحق ، فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه ، فبئس الحال وبئس المآل.
[سورة الزمر (39) : الآيات 73 الى 75]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أحوال الأشقياء وما يلاقونه يوم القيامة من الأهوال - أردفها ذكر أحوال السعداء ، وما يلاقونه إذ ذاك من النعيم ، وما يقال لهم وما يقولون.
ثم أخبر بأن ملائكته محدقون حول العرش ، يسبحون بحمد ربهم ، ويعظمونه وينزهونه عن النقائص ، وأنه سيقضى بين الخلائق بالعدل ، وأن أولئك المتقين سيقولون : الحمد للّه رب العالمين على ما تفضل به علينا وأنعم.
الإيضاح
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) أي وسيق المتقون إلى الجنة جماعة إثر جماعة على النجائب وفودا إلى الجنة ، المقربون فالأبرار ثم الذين يلونهم ثم الذين(24/37)
ج 24 ، ص : 38
يلونهم ، كل طائفة منهم مع من يشاكلهم ، الأنبياء مع الأنبياء ، والصديقون مع أشكالهم ، والشهداء مع أضرابهم ، والعلماء مع أقرانهم.
والمراد بالسوق هنا الإسراع بهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يكرّم من الوافدين على بعض الملوك وبالسوق المتقدم طردهم إلى العذاب والهوان كما يفعل بالأسير إذا سبق إلى الحبس أو القتل ، فشتان ما بين السوقين.
(حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) أي حتى إذا وصلوا إليها وقد فتحت لهم أبوابها ، كما تفتح الخدم باب المنزل للضيف قبل قدومه وتقف منتظرة حضوره فرحا بمقدمه - فرحوا بما أفاء اللّه به عليهم من النعيم ، وبما شاهدوا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر روى عن عمر بن الخطاب أنه قال : « ما منكم من أحد يتوضأ فيسّبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » أخرجه مسلم وغيره.
وروى عن أبى هريرة أنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب درىّ فى السماء إضاءة » .
واخرج الشيخان وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « فى الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الريان لا يدخله إلا الصائمون »
ثم أخبر سبحانه أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال :
(وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أي وقال لهم الخزنة : سلام عليكم من جميع المكاره والآلام ، فلا يعتريكم مكروه بعد ذلك.
(طِبْتُمْ) نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم ، وقد يكون المعنى : طبتم في الدنيا فلم تدنسوا أنفسكم بالشرك والمعاصي ، وطاب سعيكم ، وطاب جزاؤكم.(24/38)
ج 24 ، ص : 39
(فَادْخُلُوها خالِدِينَ) أي فادخلوها ما كثين فيها أبدا ، لا زوال ولا فناء ، ولا تحوّل عنها.
(وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي وقال المؤمنون إذا عاينوا ذلك النعيم المقيم ، والعطاء العظيم في الجنة : الحمد للّه الذي صدقنا ما وعدنا به على السنة رسله الكرام ، كما دعوا بذلك في الدنيا وقالوا : « رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ » وقالوا : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ » .
(وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي وجعلنا نتصرف في أرض الجنة تصرف الوارث فيما يرث ، فنتخذ منها مباءة ومسكنا حيث شئنا.
(فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي فنعم الأجر أجرنا على عملنا ، وثوابنا الذي أعطيتنا.
(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي وترى أيها الرائي الملائكة محيطين بجوانب العرش ، قائمين بجميع ما يطلب منهم ، فيسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتقديس ، ويصلّون حول العرش ، شكرا لربهم وتنزيها له عن كل نقص.
(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ) أي وقضى بين العباد بالعدل ، فأدخل بعضهم الجنة وبعضهم النار ، أعاذنا اللّه منها.
(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي وختمت خاتمة القضاء بينهم بالشكر للذي بدأ خلقهم وصوّرهم فأحسن صورهم ، ومن له ملك السموات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي لا يعلم عدّها إلا هو.
وقد بدأ سبحانه هذه الآية بالحمد وختمها بالحمد ، للتنبيه إلى تحميده في بداية كل أمر ونهايته.(24/39)
ج 24 ، ص : 40
وقال قتادة : « افتتح الخلق بالحمد في قوله : « الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ » واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : « وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك خاتم النبيين والمرسلين صلاة دائمة إلى يوم الدين.
مجمل مشتملات هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الأمر بعبادة اللّه وحده والنعي على المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام.
(3) إقامة الأدلة على وحدانية اللّه.
(4) طبيعة المشرك في السراء والضراء.
(5) ضرب الأمثال في القرآن وفائدة ذلك.
(6) تمنى المشركين الفداء حين يرون العذاب.
(7) الوعد بغفران ذنوب من أسرفوا على أنفسهم إذا تابوا.
(8) ما يرى على وجوه أهل النار من الكآبة والحزن.
(9) ذكر أحوال يوم القيامة.
(10) وصف ذهاب أهل النار إلى المحشر وما يشاهد وبه من الأهوال - (11) وصف ذهاب أهل الجنة وما يشاهدونه فيها من النعيم المقيم.
(12) بعد فصل القضاء يقول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).(24/40)
ج 24 ، ص : 41
سورة غافر
هى مكية إلا آيتي 56 ، 57 فمدنيتان ، وآيها خمس وثمانون ، نزلت بعد سورة الزمر.
ومناسبتها اقبلها :
(1) إنه ذكر في سابقتها ما يئول إليه حال الكافر وحال المؤمن ، وذكر هنا أنه غافر الذنب ، ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عن الكفر.
(2) إنه ذكر في كل منهما أحوال يوم القيامة ، وأحوال الكفار فيه وهم في المحشر وهم في النار.
قال عبد اللّه بن مسعود رضى اللّه عنه : آل حم ديباج القرآن. وعنه أيضا : إذا وقعت فى آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنّق فيهن. وقال ابن عباس رضى اللّه عنهما : إن لكل شىء لبابا ، ولباب القرآن آل حم. و
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « لكل شىء ثمرة ، وإن ثمرة القرآن ذوات حم ، هن روضات حسان مخصبات متجاورات ، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم » .
وعنه أيضا « مثل الحواميم في القرآن كمثل الحبرات في الثياب » .
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في أمثال هذه الحروف المقطعة في أوائل السور بما يغنى عن إعادته هنا ، وقد اخترنا هناك أن أحسن الآراء في ذلك أنها كلمات يراد بها التنبيه(24/41)
ج 24 ، ص : 42
فى أول الكلام نحو (ألا) و(يا) وينطق بأسمائها فيقال (حاميم) بتفخيم الألف وتسكين الميم ، ويجمع على حواميم وحواميمات ، وأنكر ذلك الجواليقي والحريري وابن الجوزي وقالوا لا يقال ذلك بل يقال آل حم ، ويؤيد ذلك أن صاحب الصحاح نقل عن الفرّاء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب ، وحديث ابن مسعود وقد تقدم : إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن ، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات :
وجدنا لكم في آل حم آية تأولها منا تقىّ ومعزب
يريد بذلك قوله تعالى : « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي هذا القرآن تنزيل من اللّه الغالب القاهر في ملكه ، الكثير العلم بخلقه ، وبما يقولون وما يفعلون.
وفي هذا إيماء إلى أنه ليس بمتقوّل ولا مما يجوز أن يكذّب به.
(غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) أي وهو الذي يغفر ما سلف من الذنوب ، ويقبل التوبة في مستأنف الأزمنة لمن تاب وخضع ، وهو شديد العقاب لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر اللّه وبغى ، المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والنعم التي لا يطيقون القيام بشكرها ولا شكر واحدة منها كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها).
وذكر (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) لترغيب عباده العاصين ، وذكر (شَدِيدِ الْعِقابِ) لترهيبهم ، وفي مجموع هذا الحثّ على فعل المراد من تنزيل الكتاب وهو التوحيد والإيمان بالبعث والإخلاص للّه في العمل والإقبال عليه ، وقد جمع القرآن هذين الوصفين في مواضع كثيرة منه كقوله : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.(24/42)
ج 24 ، ص : 43
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا نظير له ، فيجب اتباع أوامره وترك نواهيه.
(إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي إليه وحده المرجع والمآب ، فيجازى كل نفس بما كسبت.
أخرج أبو عبيد وابن سعد وابن مردويه والبيهقي في الشّعب عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (من قرأ حم المؤمن إلى - إليه المصير ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسى ، ومن قرأهما حين يمسى حفظ بهما حتى يصبح).
[سورة غافر (40) : الآيات 4 الى 6]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)
تفسير المفردات
الجدل : شدة اللدد في الخصومة ، تقلبهم : أي تصرفهم فيها للتجارة وطلب المعاش ، والأحزاب : الجماعات الذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل ، وهمّت : أي عزمت ، ليأخذوه : أي ليقتلوه ويعذبوه ، ليدحضوا : أي ليزيلوا ، حقت : أي وجبت ، كلمة ربك : أي حكمه بالإهلاك.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن القرآن كتاب أنزله لهداية الناس وسعادتهم في دنياهم وآخرتهم إذا هم عملوا بهديه - ذكر أحوال من يجادل فيه لغرض إبطاله وإخفاء(24/43)
ج 24 ، ص : 44
نوره ، ثم أرشد رسوله ألا يغتر بأحوال أولئك المجادلين وتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتصرفون في البلاد للتجارة ، لسعة الرزق والتمتع بزخرف الدنيا ، فإنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر كما فعل بأمثالهم من الأمم الماضية ممن كذبوا رسلهم فحلّ بهم البوار فى الدنيا ، وسينزل بهم النكال في الآخرة في جهنم وبئس القرار.
الإيضاح
(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ما يخاصم في القرآن بالطعن فيه وتكذيبه كقولهم مرة إنه شعر ، وأخرى إنه سحر وثالثة إنه أساطير الأولين إلى أشباه ذلك من سخيف المقال - إلا الذين جحدوا به وأعرضوا عن الحق مع ظهوره.
وهذا النوع من الجدل هو المذموم ، وإليه الاشارة
بقوله صلّى اللّه عليه وسلم « لا تماروا في القرآن ، فإن المراء فيه كفر »
أما الجدل لتقرير الحق وإيضاح الملتبس ، وكشف المعضل ، واستنباط المعاني ، ورد أهل الزيغ بها ، ورفع اللبس ، ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن ، فهو وظيفة الأنبياء ، ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح لنوح « يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا » .
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : « هاجرت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يوما فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج يعرف في وجهه الغضب ، فقال إنما هلك من كان قبلهم باختلافهم في الكتاب » رواه مسلم.
وقال أبو العالية : آيتان ما أشدهما علىّ : « ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا » الآية ، وقوله : « وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ » ولما حكم سبحانه على المجادلين في آيات اللّه بالكفر نهى رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يغتر بشىء من حظوظهم الدنيوية فقال :
(فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) أي فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة النافعة(24/44)
ج 24 ، ص : 45
فى البلاد ، وما يحصلون عليه من المكاسب في رحلة الشتاء في اليمين ورحلة الصيف فى الشام ، ثم يرجعون سالمين غانمين ، فإنهم معاقبون عما قليل ، وهم وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال الزجاج : لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم ، فإن عاقبتهم الهلاك.
وفي هذا تسلية له صلّى اللّه عليه وسلم ووعيد لهم.
ثم قال مسليا رسوله على تكذيب من كذبه من قومه ، بأن له أسوة في سلفه الأنبياء ، فإن أقوامهم كذبوهم وما آمن منهم إلا قليل فقال :
(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي كذبت قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب ، فحلّت بهم نقمتنا بعد بلوغ أمدهم كما هى سنتنا فى أمثالهم من المكذبين ، كعاد وثمود ومن بعدهم ، وكانوا في جدلهم على مثل الذي عليه قومك.
(وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي وحرصت كل أمة على تعذيب رسولهم بحبسه وإصابة ما أرادوا منه. وقال قتادة والسدى ليقتلوه ، فقد جاء الأخذ بمعنى الإهلاك في قوله تعالى : « أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ » .
(وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ) أي وخاصموا رسولهم بالباطل بإيراد الشبه التي لا حقيقة لها كقولهم : « ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا » ليبطلوا به الحق الذي جاء به من عند اللّه ، وليطفئوا النور الذي أوتيه ، قال يحيى بن سلام : جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا الإيمان.
(فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) أي فأهلكتهم واستأصلت شأفتهم فلم أبق منهم ديّارا ولا نافخ نار وصاروا كأمس الدابر ، وإنكم لتمرون على ديارهم مصبحين وممسين كما قال : « وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ »
وهكذا سأفعل بقومك إن هم أصروا على الكفر والجدل في آيات اللّه ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وكما حق على الأمم التي كذبت رسلها ، وقصصت عليك خبرها أن يحل بها عقابى - وجبت(24/45)
ج 24 ، ص : 46
كلمة ربك على الذين كفروا باللّه من قومك ، لأن الأسباب واحدة وهى كفرهم وعنادهم للحق ، واهتمامهم بإطفاء نور اللّه الذي بثه في الأرجاء لإصلاح نظم العالم وسعادته فى دينه ودنياه ، وارتقاء النفوس البشرية والسموّ بها عن الاستخذاء إلى شجر أو حجر أو حيوان ، طمعا في خير يرجى منه ، وشفاعة تنفع عند اللّه.
[سورة غافر (40) : الآيات 7 الى 9]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
تفسير المفردات
العرش : مركز تدبير العالم كما تقدم إيضاح ذلك في سورة يونس ، وندع أمر وصفه إلى عالم الغيب فهو العليم بعرشه ووصفه ، وقهم : أي احفظهم من وقيته كذا أي حفظته ، السيئات : أي الجزاء المرتب عليها.
المعنى الجملي
بعد أن أبان ما أظهره المشركون للمؤمنين من العداوة ، ومجادلتهم للرسل بالباطل لاطفاء نور دعوتهم - أردف ذلك بيان أن أشرف المخلوقات وهم الملائكة الذين يحملون العرش والحافّون حول العرش - يحبون المؤمنين ويطلبون لهم ولآبائهم(24/46)
ج 24 ، ص : 47
وأزواجهم وذرياتهم المغفرة من ربهم ، فلا تبال أيها الرسول بهؤلاء المشركين ولا تقم لهم وزنا ، وكفاك نصرة حملة العرش والحافين حوله.
الإيضاح
(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي إن الملائكة الذين يحملون عرش ربهم ، والملائكة الذين هم حوله ينزهون اللّه متلبسين بحمده على نعمه ، ويقرون بأن لا إله إلا هو ولا يستكبرون عن عبادته ، ويسألون أن يغفر لمن أقروا بمثل ما أقروا به من توحيد اللّه والبراءة من كل معبود سواه.
ونحن نؤمن بما جاء في الكتاب الكريم من حمل الملائكة للعرش ، ولا نبحث عن كيفيته ولا عن عدد الحاملين له ، فإن ذلك من الشؤون التي لم يفصلها لنا الكتاب ولا السنة المتواترة فنكل أمر علمها إلى ربنا ، وعلينا التسليم بما جاء في كتابه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الحمل يراد به التدبير والحفظ ، وأن الحفيف والطواف بالعرش يراد به القرب من ذى العرش سبحانه ، ومكانة الملائكة لديه ، وتوسطهم في نفاذ أمره.
ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين فقال حاكيا عنهم :
(رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي وسعت رحمتك وعلمك كل شىء من خلقك ، والمراد أن رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك يحبط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم.
(فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي فصفح عن المسيئين إذا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم ، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخيرات ، وترك(24/47)
ج 24 ، ص : 48
المنكرات ، واجعل بينهم وبين عذاب الجحيم وقاية بأن تلزمهم الاستقامة ، وتتم نعمتك عليهم ، فإنك وعدت من كان كذلك بالبعد عن هذا العذاب ، ولا يبدّل القول لديك.
قال مطرّف بن عبد اللّه : وجدنا أنصح عباد اللّه لعباد اللّه الملائكة ، ووجدنا أغش عباد اللّه لعباد اللّه الشيطان ، وتلا هذه الآية.
وقال خلف بن هشام البزّار القارئ : كنت أقرأ على سليم بن عيسى ، فلما بلغت « وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا » بكى ، ثم قال يا خلف : ما أكرم المؤمن على اللّه ، يكون نائما على فراشه والملائكة يستغفرون له.
(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي ربنا وأدخلهم الجنات التي وعدتهم إياها على ألسنة رسلك ، وأدخل معهم في الجنة الصالحين من الآباء والأزواج والذرية ، لتقرّبهم أعينهم ، فإن الاجتماع بالأهل والعشيرة في موضع السرور يكون أكمل للبهجة وأتم للأنس.
قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدي وأمي ؟
وأين ولدي وولد ولدي ؟ وأين زوجاتى ؟ فيقال إنهم لم يعملوا كعملك ، فيقول : يا رب كنت أعمل لى ولهم ، فيقال أدخلوهم الجنة ، ثم تلا : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ » إلى قوله : « وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ » ويقرب من هذه الآية قوله : « وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » .
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي أنت الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور.
ثم عمموا في الدعاء لهم بأن يمنع عنهم العقوبات الدنيوية والأخروية فقالوا :
(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي واصرف عنهم سوء عاقبة سيئاتهم التي كانوا قد أتوها قبل توبتهم ، ولا تؤاخذهم بذلك فتعذبهم بها.(24/48)
ج 24 ، ص : 49
(وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي ومن تصرف عنه سوء عاقبة ما ارتكب من السيئات يوم القيامة فقد رحمته ونجيته من عذابك.
(وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي وهذا هو الفوز الذي لا فوز أجمل منه ، ولا مطمع وراءه لطامع ، إذ وجدوا بأعمال منقطعة نعيما لا ينقطع ، وبأفعال قليلة ملكا لا نصل العقول إلى كنه جلاله.
[سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)(24/49)
ج 24 ، ص : 50
تفسير المفردات
المقت : أشد البغض ، والروح : الوحى ، يوم التلاقي : هو يوم القيامة وسمى بذلك لالتقاء الخالق بالمخلوق ، بارزون : أي ظاهرون لا يسترهم جبل ولا أكمة ولا نحوهما.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أحوال المشركين المجادلين في آيات اللّه - أردف ذلك بيان أنهم يوم القيامة يعترفون بذنوبهم وباستحقاقهم ما سيحل بهم من النكال والوبال ، ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم.
وبعد أن هددهم أعقب ذلك بما يدل على كمال قدرته وحكمته بإظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق ، وأنه أرفع الموجودات ، لأنه مستغن عن كل ما سواه ، وكل ما سواه محتاج إليه ، وأنه ينزل الوحى على من يشاء من عباده ، لينذر بالعذاب يوم الحساب والجزاء.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ) أي إن الكافرين تناديهم الملائكة يوم القيامة وهم يتلظّون النار ويذوقون العذاب ، فيمقتون أنفسهم ويبغضونها أشد البغض ، بسبب ما أسلفوا من سيئ الأعمال التي كانت سبب دخولهم في النار - إن مقت اللّه لكم في الدنيا حين كان يعرض عليكم الإيمان فتكفرون - أشد من مقتكم أنفسكم اليوم وأنتم على هذه الحال.
والخلاصة - إن مقت اللّه لأهل الضلال حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا(24/50)
ج 24 ، ص : 51
فتركوه وأبوا أن يقبلوه - أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذابه يوم القيامة ، قاله قتادة ومجاهد والحسن البصري وابن جرير.
ثم ذكر ما يقولونا حين ينادون بهذا النداء فقال :
(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي قالوا ربنا خلقتنا أمواتا ، وأمتنا حين انقضاء آجالنا ، وأحييتنا أو لا ينفخ الأرواح فينا ونحن في الأرحام ، وأحييتنا بإعادة أرواحنا إلى أبداننا حين البعث نقله ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود ، وجعلوا ذلك نظير آية البقرة : « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ » .
(فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) أي فاعترفنا أننا أنكرنا البعث فكفرنا وفعلنا من الذنوب ما لا يحصى عدّا ، لأن من لم يخش عاقبة يتماد في غيه ، ولكن حين رأينا الإماتة والإحياء قد تكررا علينا علمنا أن اللّه قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها.
ثم طلبوا الرجوع إلى الدنيا لإصلاح ما فاتهم فقالوا :
(فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) أي فهل أنت معيدنا إلى الدنيا لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإنك قادر على ذلك.
وهذا أسلوب يستعمل في التخاطب حين اليأس ، قالوه تحيّرا أو تعللا عسى أن يتاح لهم الفرج.
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ » وقوله : « رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ. قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ » .
فما كان جوابهم عما طلبوا إلا الرفض الباتّ مع ذكر السبب فقال :(24/51)
ج 24 ، ص : 52
(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) أي لا سبيل إلى رجعتكم إلى الدار الدنيا ، لأن طباعكم لا تقبل الحق بل تنفيه ، فإنكم كنتم فيها إن دعى اللّه وحده كفرتم وأنكرتم أن تكون الألوهية له خاصة ، وإن أشرك به مشرك صدقتموه وآمنتم بقوله ، فأنتم هكذا تكونون لو رددتم إلى الدنيا كما قال : « وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » .
ثم ذكر ما ترتب على أعمالهم التي عملوها وما ضرّوا بها إلا أنفسهم فقال :
(فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) أي فالحكم حينئذ للّه الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضى إلا بما تقتضيه الحكمة ، وهو ذو الكبرياء والعظمة الذي ليس كمثله شىء ، ومن ثم اشتدت سطوته بمن أشركوا به ، واقتضت حكمته خلودهم في النار ، فلا سبيل إلى خروجكم منها أبدا إذ أشركتم به سواه.
ثم ذكر ما يدل على كبريائه وعظمته فقال :
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) أي هو الذي يظهر قدرته لخلقه ، بما يشاهدونه في العالم العلوي والسفلى من الآيات العظام الدالة على كمال خالقها وقدرة مبدعها وتفرده بالألوهية كما قال :
وفي كل شىء له آية تدلّ على أنه واحد
ثم خصص من هذه الآيات ما هم في أشد الحاجة إليه وهو المطر فقال :
(وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) أي وهو الذي ينزل لكم المطر الذي يخرج به من الزرع والثمار ما تشاهدونه مما هو مختلف الألوان والطعوم والروائح والأشكال ، مما أبدعته يد القدرة ووشّته بأبدع الحلي والمناظر.
(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي وما يعتبر بتلك الآيات ، ويستدل بها على عظمة خالقها ، إلا من ينيب إلى ربه ، ويتفكر في بديع ما خلق ، وعظيم ما أوجد ، ويترك التقليد واتباع الهوى.(24/52)
ج 24 ، ص : 53
والخلاصة - إن دلائل التوحيد مركوزة في العقول لا يحجبها إلا الاشتغال بعبادة غير اللّه ، فإذا أناب العبد إلى ربه زال الغطاء ، وظفر بالفوز ، وظهرت له سبل النجاة.
ولمّا ذكر ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص الدين له فقال :
(فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) أي إذا علمتم أن التذكر خاص بمن ينيب ، فادعوا اللّه وحده مخلصين له العبادة التي أمركم بها ، وخالفوا المشركين فى مسلكهم ، ولا تلتفتوا إلى كراهتهم لذلك ، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا بحسرتهم.
و
قد ثبت في الصحيح عن عبد اللّه بن الزبير « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبة : لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، لا حول ولا قوة إلا باللّه ، لا إله إلا اللّه ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة ، وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا اللّه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون » .
وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « ادعوا اللّه تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالاجابة ، واعلموا أن اللّه لا يستجيب دعاء قلب غافل لاه » .
وبعد أن ذكر من صفات كبريائه إظهاره للآيات وإنزاله للأرزاق - ذكر ثلاث صفات أخرى تدل على جلاله وعظمته فقال :
(1) (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي إنه أرفع الموجودات وأعظمها شأنا ، لأن كل شىء محتاج إليه ، وهو مستغن عما عداه ، وإنه أزلى أبدىّ ليس لوجوده أول ولا آخر ، وإنه العالم بكل شىء « وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ » .
(2) (ذُو الْعَرْشِ) أي إنه مالك العرش ومدبره ، فهو مستول على عالم الأجسام وأعظمها العرش ، كما هو مستول على عالم الأرواح وهى مسخرة له ، وإلى ذلك أشار قوله :(24/53)
ج 24 ، ص : 54
(3) (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أي يلقى الوحى بفضائه على من يشاء من عباده الذين يصطفيهم لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى من يريد من خلقه.
ونحو الآية قوله : « يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ » وقوله : « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ » .
(لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ. يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) أي لينذر بالعذاب يوم يلتقى العابدون والمعبودون ، يوم هم ظاهرون لا يكنّهم شىء ، ولا يسترهم شىء.
(لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ) فيعلم ما فعله كل منهم ، فيجازيه بحسب ما قدمت يداه ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ » .
ثم ذكر ما يقال عند بروز الخلق للحساب والجزاء فقال :
(لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم ؟
فلا يجيبه أحد ، فيجيب سبحانه فيقول : للّه الواحد القهار أي هو الواحد الذي لا مثل له ، القهار لكل شىء سواه بقدرته ، الغالب بعزته. وقيل : المجيب هم أهل المحشر ، فقد روى أبو وائل عن ابن مسعود قال : يحشر الناس على أرض بيضاء مثل الفضة لم يعص اللّه عز وجل عليها ، فيؤمر مناد ينادى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ ) فيقول العباد مؤمنهم وكافرهم (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) يقول المؤمنون هذا الجواب سرورا وتلذذا ، ويقوله الكافرون غمّا وانقيادا وخضوعا.
وبعد أن ذكر صفات قهره في ذلك اليوم - أردفها بيان صفات عدله وفضله فقال :
(الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) أي اليوم يثاب كل عامل بعمله ، فيلاقى أجره ، ففاعل الخير يجزى الخير وفاعل الشر يجزى بما يستحق ، لا يبخس أحد(24/54)
ج 24 ، ص : 55
ما استوجبه من أجر عمله في الدنيا فينقص منه إن كان محسنا ، ولا يحمل على مسىء إثم ذنب لم يعمله.
روى مسلم عن أبى ذر رضى اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فيما يحكيه عن ربه « يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها عليكم ، ثم أوفّيكم إياها ، فمن وجد خيرا فليحمد اللّه تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه » .
ثم بين سبحانه أنه يصل إلى الخلق في ذلك اليوم ما يستحقون بلا إبطاء فقال :
(إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إن اللّه سريع حسابه لعباده على أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، فيحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفسا نفسا واحدة ، لإحاطة علمه بكل شىء ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة.
أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال : « يجمع اللّه الخلق كلهم يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص اللّه فيها قط ، فأول ما يتكلم أن ينادى مناد لمن الملك اليوم - إلى قوله الحساب » .
ونحو الآية قوله : « ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » وقال :
« وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ » .
[سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 20]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)(24/55)
ج 24 ، ص : 56
تفسير المفردات
يوم الآزفة : يوم القيامة وسميت بذلك لقربها يقال أزف السفر : أي قرب ، قال :
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد
والحناجر : واحدها حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى ، وهى لحمة بين الرأس والعنق ، كاظمين : أي ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج ، والحميم : القريب ، خائنة الأعين : يراد بها النظر إلى ما لا يحل ، ما تخفى الصدور : أي ما تكتمه الضمائر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن الأنبياء ينذرون الناس بيوم التلاقي - أعقب ذلك بذكر أوصاف هائلة تصطك منها المسامع ، وتشيب من هولها الولدان لهذا اليوم المهيب.
الإيضاح
(وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) أي وأنذر أيها الرسول مشركى قومك يوم القيامة ، ليقلعوا عن قبيح أعمالهم ، وذميم معتقداتهم التي يستحقون عليها شديد العذاب ، ذلك اليوم الذي يعظم فيه الخوف حتى ليخيل أن القلوب قد شخصت من الصدور ، وتعلقت بالحلوق ، فيرومون ردها إلى مواضعها من صدورهم ، فلا هى ترجع ولا هى تخرج من أبدانهم فيموتوا.
ثم بين أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال :
(ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك باللّه قريب ينفعهم ، ولا شفيع تقبل شفاعته لهم ، بل تقطعت بهم الأسباب من كل خير.(24/56)
ج 24 ، ص : 57
ثم وصف سبحانه شمول علمه بكل شىء وإن كان في غاية الخفاء فقال :
(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي يعلم ربكم ما خانت أعين عباده وما نظرت به إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الرّيب ، قال ابن عباس في الآية : هى الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغضّ بصره عنها ، وإذا غضوا نظر إليها ، وإذا نظروا غض بصره عنها.
وقد اطّلع اللّه من قلبه أنه ودّ أن ينظر إلى عورتها ، أخرجه ابن أبى شيبة وابن المنذر.
(وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) أي لا يخفى عليه شىء من أمورهم حتى ما يحدّثون به أنفسهم وتضمره قلوبهم.
(وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ) أي واللّه يحكم بالعدل في الذي خانته الأعين بنظرها ، وأخفته الصدور من النوايا ، فيجزى الذين أغمضوا أبصارهم وصرفوها عن محارمه حذار الموقف بين يديه بالحسنى ، ويجزى الذين رددوا النظر ، وعزمت قلوبهم على مواقعة الفواحش جزاءهم الذي أوعدهم به في دار الدنيا.
(وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ) أي والأوثان والآلهة التي يعبدها هؤلاء المشركون من قومك - لا يقضون بشىء لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شىء ، فاعبدوا الذي يقدر على كل شىء ، ولا يخفى عليه شىء.
وغير خاف ما في هذا من التهكم بآلهتهم.
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي إنه تعالى هو السميع لما تنطق به الألسنة ، البصير بما تفعلون من الأفعال ، وهو محيط بكل ذلك ومحصيه عليكم ، فيجازيكم عليه جميعا يوم الجزاء.
ولا يخفى ما في هذا من الوعيد لهم على ما يقولون ويفعلون ، والتعريض بحال ما يدعون من دون اللّه.(24/57)
ج 24 ، ص : 58
[سورة غافر (40) : الآيات 21 الى 22]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
المعنى الجملي
بعد أن بالغ سبحانه في تخويف الكفار بعذاب الآخرة - أردفه تخويفهم بعذاب الدنيا ، فطلب إليهم أن ينظروا إلى من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، إذ كذبوا رسلهم حين جاءوهم بالبينات.
الإيضاح
حذر اللّه هؤلاء المشركين مما حل بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم وأعظم آثارا كعاد وثمود ، (والسعيد من وعظ بغيره) فقال واعظا ومذكرا : ألم يسر هؤلاء المشركون باللّه في البلاد فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم من الأمم ممن سلكوا سبيلهم في الكفر وتكذيب الرسل ، وقد كانوا أشد منهم بطشا ، وأبقى في الأرض آثارا ، فلم تنفعهم شدة قواهم ، ولا عظيم آثارهم إذ جاء أمر اللّه ، فأخذوا بما أجرموا من المعاصي واكتسبوا من الآثام ، فأبيدوا جميعا وصارت مساكنهم خاوية بما ظلموا ، وما كان لهم من عذاب اللّه من حافظ يدفعه عنهم ؟
قصص موسى عليه السلام مع فرعون
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)(24/58)
ج 24 ، ص : 59
تفسير المفردات
السلطان : الحجة والبرهان ، فرعون : ملك القبط بالديار المصرية ، وهامان وزيره ، وقارون كان أكثر الناس في زمانه تجارة ومالا ، عذت : التجأت وتحصنت ، متكبر :
أي مستكبر عن اتباع الحق.
المعنى الجملي
لما سلى رسوله بذكر عاقبة الكفار الذين كذبوا بالأنبياء قبله بمشاهدة آثارهم - سلاه أيضا بذكر قصص موسى مع فرعون مع ما أوتى من الحجج الباهرة ، كذبه فرعون وقومه وأمروا بقتل أبناء بنى إسرائيل ، وأمر فرعون بقتل موسى خوفا أن يبدل دينهم أو يعيث في الأرض فسادا ، فتعوّذ موسى بربه ورب بنى إسرائيل من كل جبار متكبر لا يؤمن بالجزاء والحساب.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) يقول سبحانه مسليا نبيه على تكذيب من كذبه من قومه ، ومبشرا له بأن العاقبة والنصر له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام ، فإن اللّه(24/59)
ج 24 ، ص : 60
أرسله بالآيات البينات إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوه وجعلوه ساحرا مجنونا حين عجزوا عن معارضته.
وخص فرعون وهامان وقارون بالذكر ، لأنهم الرؤساء المكذبون والناس تبع لهم.
ولما عجزوا عن مقارعة الحجة بالحجة لجئوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره ، وإلى هذا أشار بقوله :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ) أي فلما جاءتهم الآيات البينات الدالة على توحيد اللّه ووجوب العمل بطاعته ، قالوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة : اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه من أبناء بنى إسرائيل وأبقوا نساءهم لخدمتنا.
قال قتادة : هذا قتل غير القتل الأول ، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى ، فلما بعث اللّه موسى أعاد القتل على بنى إسرائيل عقوبة لهم فكان يأمر بقتل الذكور وترك الإناث ليمتنعوا من الإيمان ، ولئلا يكثر جمعهم ويشتد عضدهم بالذكور من أولادهم ، لكن اللّه شغلهم عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب كالضفادع والقمّل والدم والطوفان إلى أن خرج بنو إسرائيل من مصر.
وإلى هذا أشار سبحانه بقوله :
(وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي وما مكرهم وقصدهم وهو تقليل عدد بنى إسرائيل لئلا ينصروا عليهم - إلا ذاهب سدى وباطلا ، فالناس لا يمتنعون من الإيمان وإن فعل بهم ما فعل ، وإن القدر المقدور لا محالة نافذ ، والقضاء المحتوم لا بدّ واقع ، والنصر حليف المؤمنين ، كما وعد في كتابه المكنون « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » .
والخلاصة - إن ما أظهروه من الإبراق والإرعاد سيضمحل لا محالة ويذهب هباء أمام تلك القوة القاهرة وسيكون النصر للمتقين.(24/60)
ج 24 ، ص : 61
ثم ذكر أنه ما كفاهم قتل البنين واستحياء البنات من بنى إسرائيل بل أرادوا أن يجتثوا هذه الشجرة من أصلها ، كما أشار إلى ذلك سبحانه بقوله :
(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي وقال فرعون لملئه : دعونى أقتل موسى وليدع ربه الذي أرسله إلينا ليمنعه منا ، وكان إذا همّ بقتله كفوه وقالوا له :
ليس هذا بالذي يخاف منه وهو أضعف من ذلك شأنا ، وما هو إلا ساحر يصاوله ساحر مثله ، وإنك إن قتلته أدخلت الشبهة في نفوس القوم واعتقدوا أنك عجزت عن مقابلة الحجة بالحجة ، وما يزالون به هكذا يحاورونه ويداورونه حتى يكف عن قتله.
وربما يكون قد قال ذلك تمويها على قومه وإيهاما أن حاشيته هم الذين يكفونه عن قتله ، وما يكفه عن ذلك إلا ما في نفسه من هول الفزع الذي استحوذ عليه ، كما يرشد إلى ذلك قوله « وَلْيَدْعُ رَبَّهُ » فإن ظاهره الاستهانة به بدعائه ربه سبحانه كما يقال :
ادع ناصرك فإنى منتقم منك ، وباطنه أن فرائصه كانت ترتعد من دعائه ربه ، فلهذا تكلم بما تكلم به مظهرا أنه لا يبالى بدعائه ربه ، كما يقول القائل ذرونى أفعل كذا وما كان فليكن.
ثم ذكر السبب في قتله فقال :
(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) أي إنى أخاف أن يفسد موسى عليكم أمر دينكم الذي أنتم عليه من عبادة غير اللّه ويدخلكم في دينه الذي هو عبادة اللّه وحده ، أو يوقع بين الناس الخلاف والفتنة ، إذ يجتمع إليه الهمل الشّرّد ويكثرون من الخصومات والمنازعات وإثارة القلاقل والاضطرابات ، فتتعطل المزارع والمتاجر وتعدم المكاسب.
والخلاصة - إنه يقول : إنى أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل ، أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل ، وهما أمران أحلاهما مرّ.(24/61)
ج 24 ، ص : 62
وقد جعل ظهور ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا ، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.
ولما هدد فرعون موسى بالقتل استعاذ باللّه من كل متعظم عن الإيمان به لا يؤمن بالبعث والنشور ، فصانه من كل بليّة ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ) أي إنى استجرت باللّه ربى وربكم ، واستعنت به من شر كل مستكبر لا يذعن للحق ، ولا يؤمن بيوم يحاسب اللّه فيه الخلائق ، فيجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بما أساء ، وإنما خص الاستعاذة بمن جمع بين الاستكبار والتكذيب بالجزاء ، لأنهما عنوان قلة المبالاة بالعواقب ، وعنوان الجرأة على اللّه وعلى عباده ، فمن لم يؤمن بيوم الحساب لم يكن للثواب على الإحسان راجيا ، ولا من العقاب على الإساءة وقبيح ما يأتى من الأفعال خائفا.
وفي قوله (بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) حثّ لهم على موافقته في العياذ به سبحانه ، والتوجه إليه جل شأنه بالأرواح ، فالأرواح الطاهرة إذا تظاهرت كان ذلك أدنى إلى الإجابة ، وأقرب إلى تحقق الغرض ، ومن ثم شرعت صلاة الجماعة ، وإنما قال (مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ) ولم يقل « منه » سلوكا لطريق التعريض ، وتحاشيا مما قد يعرض له من الأذى إذا هو سمع كلامه فهو واف بالغرض ومبين للعلة التي لأجلها أبى واستكبر.
[سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 29]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29)(24/62)
ج 24 ، ص : 63
تفسير المفردات
الرجل المؤمن : هو ابن عم فرعون وولىّ عهده وصاحب شرطته وهو الذي نجامع موسى وهو المراد بقوله : « وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى » ، والبينات : هى الشواهد الدالة على صدقه ، والمسرف : المقيم على المعاصي المستكثر منها ، والكذاب :
المفترى ، ظاهرين : أي غالبين عالين على بنى إسرائيل ، ما أريكم إلا ما أرى : أي ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب.
المعنى الجملي
بعد أن حكى عن موسى أنه مازاد حين سمع مقالة فرعون الداعية إلى قتله ، على أن استعاذ باللّه من شره - أردف ذلك بيان أن اللّه قيّض له من يدافع عنه من آل فرعون أنفسهم ويذبّ عنه على أكمل الوجوه وأحسنها ، ويبالغ في تسكين تلك الفتنة ، ويجتهد فى إزالة ذلك الشر.
الإيضاح
(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ؟ ) أي وقال رجل من آل فرعون يكتم إيمانه منهم خوفا على نفسه : أ ينبغى لكم أن تقتلوا رجلا ما زاد على أن قال : ربى اللّه وقد جاءكم بشواهد دالة على صدقه ؟ ومثل هذه المقالة لا تستدعى قتلا ولا تستحق عقوبة فاستمع فرعون لكلامه ، وأصغى لمقاله وتوقف عن قتله ، قال ابن عباس : لم يكن في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي قال : « إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ » .(24/63)
ج 24 ، ص : 64
وخلاصة ذلك - أ ترتكبون هذه الفعلة الشنعاء ، وهى قتل النفس المحرمة من غير روية ولا تأمل ولا اطلاع على سبب يوجب قتله ؟ وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق ، وهى قوله : ربى اللّه.
أخرج البخاري وغيره من طريق عروة بن الزبير قال : قيل لعبد اللّه بن عمرو ابن العاص : أخبرنا بأشد شىء صنعه المشركون برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال :
بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يصلّى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط فأخذ بمنكب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ثم قال : « أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ؟ » .
وأخرج البزار وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن علىّ بن أبى طالب أنه قال : « أيها الناس أخبرونى من أشجع الناس ؟ قالوا أنت ، قال أما إنى ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ، ولكن أخبرونى عن أشجع الناس ؟ قالوا لا نعلم ، فمن ؟ قال أبو بكر :
رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم وأخذته قريش فهذا يجؤه ، وهذا يتلتله ، وهم يقولون :
أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا ، قال : فو اللّه ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ، ويجأ هذا ويتلتل هذا ، وهو يقول : ويلكم أ تقتلون رجلا أن يقول ربى اللّه ؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته ، ثم قال : أنشدكم : أ مؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ فسكت القوم ، فقال : ألا تجيبون ؟ فو اللّه لساعة من أبى بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون ، ذاك رجل يكتم إيمانه ، فأثنى اللّه عليه في كتابه ، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه » .
ثم ذكر من الحجج ما يؤيد به رأيه فقال :
(1) (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) أي إن كان كاذبا في قيله إن اللّه أرسله إليكم ليأمركم بعبادته وترك دينكم الذي أنتم عليه ،(24/64)
ج 24 ، ص : 65
فإنما إثم كذبه عليه دونكم ، وإن يك صادقا في قيله ذلك أصابكم الذي أوعدكم به من العقوبة على مقامكم على الدين الذي أنتم عليه مقيمون ، فلا حاجة بكم إلى قتله فتسخطوا ربكم سخطين : سخطا على الكفر ، وسخطا على قتل رسوله.
وفي قوله : بعض الذي يعدكم - مبالغة في التحذير ، فإنه إذا حذرهم من بعض العذاب أفاد أنه مهلك مخوف فما بال كله ؟ إلى ما فيه من الإنصاف وإظهار عدم التعصب.
(2) (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) أي إنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه اللّه ، ولما عاضده بتلك المعجزات ، إلى أنه لو كان كذلك لخذله وأهلكه ، فلا حاجة لكم إلى قتله.
وفي هذا تعريض بفرعون بانه مسرف في القتل والفساد ، كذاب في ادعاء الربوبية ، لا يهديه اللّه إلى سبيل الرشاد ، ولا يلهمه طريق الخير والفلاح.
(3) (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا ؟ ) أي يا قوم قد علوتم الناس وقهرتموهم ، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ، ولا تتعرضوا لبأس اللّه وعذابه بقتله ، فإنه لا قبل لكم به ، وإن جاءنا لم يمنعه عنا أحد.
وفي قوله : ينصرنا وجاءنا ، تطييب لقلوبهم ، وإيذان بأنه ناصح لهم ، ساع فى تحصيل ما يجديهم ، ودفع ما يرديهم ، سعيه في حق نفسه ، ليتأثروا بنصحه.
ولما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح جاء بمراوغة يوهم بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين ، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر عنهم كما حكى سبحانه عنه بقوله :
(قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) أي قال فرعون مجيبا هذا المؤمن الناهي عن قتل موسى : لا أشير عليكم برأى سوى ما ذكرته من وجوب قتله حسما للفتنة ، وإنى لأرى أن هذا هو سبيل الرشاد والصلاح ، ولا أعدّ غير هذا صوابا.(24/65)
ج 24 ، ص : 66
[سورة غافر (40) : الآيات 30 الى 35]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34)
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
تفسير المفردات
الأحزاب : أي الأقوام الذين تحزبوا على أنبيائهم وكذبوهم ، والدأب : العادة ، يوم التناد : يوم القيامة ، سمى بذلك لأن الناس ينادى فيه بعضهم بعضا للاستغاثة.
قال أمية بن أبى الصّلت :
وبثّ الخلق فيها إذ دحاها فهم سكانها حتى التّناد
عاصم : أي مانع ، مرتاب : أي شاك في دينه ، ويوسف : هو يوسف بن يعقوب عليه السلام ، وروى عن ابن عباس أنه يوسف بن إفرائيم بن يوسف بن يعقوب ، أقام فيهم نبيا عشرين سنة ، والسلطان : الحجة ، والمقت : أشد الغضب.(24/66)
ج 24 ، ص : 67
المعنى الجملي
بعد أن سمع ذلك المؤمن رأى فرعون في موسى وتصميمه على قتله ، وإقامة البراهين على صحة رأيه ، وأنه لا سبيل إلى العدول عن ذلك - أعاد النصح مرة أخرى لقومه ، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم ، فذكّرهم بأس اللّه وسنته في المكذبين للرسل ، وضرب لهم الأمثال بما حل بالأحزاب من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود ، ثم ذكّرهم بأهوال يوم القيامة ، يوم لا عاصم من عذاب اللّه ، ثم أعقب ذلك بتذكيرهم بما فعل آباؤهم الأولون مع يوسف من قبل من تكذيبهم برسالته ورسالة من بعده ، فأحل اللّه بهم من البأس ما صاروا به مثلا في الآخرين ، وكأنّ لسان حاله يقول : هأنذا قد أسمعت ، ونصحت فما قصرت ، والأمر إليكم فيما تفعلون.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي وقال ناصحا قومه : يا قوم إنى أخاف عليكم إن كذبتم موسى وتعرضتم له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية وكذبوهم كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم ، فقد نزل بهم من بأس اللّه وعذابه ما لم يجدوا له واقيا ولا عاصما ، وهذه سنة اللّه في المكذبين جميعا ، فحذار حذار أيها القوم ، إنى لكم ناصح أمين ، وما أهلكهم إلا بسوء أفعالهم وعظيم ما اجترحوا من الآثام والمعاصي وما ظلمهم اللّه ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. وإلى هذا أشار بقوله :
(وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) أي وما أهلك اللّه هذه الأمم ظلما لهم بغير جرم اجترموه ، بل أهلكهم بإجرامهم وكفرهم ، وتكذيبهم رسله ، بعد أن جاءوهم بالبينات ، فأنفذ فيهم قدره ، وأحل بهم وعيده.(24/67)
ج 24 ، ص : 68
وبعد أن خوفهم العذاب الدنيوي خوفهم العذاب الأخروى فقال :
(وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ. يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ) أي إنى أخاف عليكم عذاب يوم القيامة حين ينادى بعضكم بعضا ، ليستغيث به من شدة الهول ، أو حين ينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم ، وينادى « أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ قالُوا نَعَمْ » وينادى « أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ » .
يوم تولون مدبرين هربا من زفير النار وشهيقها ، فلا يجديكم ذلك شيئا ، ولا تجدون من يعصمكم من العذاب ، فتردّون إليه وينالكم منه ما قدّر لكم وكتب عليكم.
ثم نبه إلى شدة ضلالتهم وعظيم جهالتهم فقال :
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أي ومن يخذله اللّه ولا يلهمه رشده فما له هاد يهديه إلى طريق النجاة ويوفقه إلى الخلاص.
وفي هذا إيماء إلى أنه يئس من قبولهم نصحه.
ثم وبخهم بأنهم ورثوا التكذيب بالرسل من آبائهم الأولين ، وأسلافهم الغابرين فقال :
(وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا) أي ولقد جاء آباءكم يوسف من قبل موسى بالآيات الواضحات ، والمعجزات الباهرات ، فلم يزالوا في ريب من أمره ، وشك من صدقه ، فلم يؤمنوا به ، حتى إذا مات قالوا : لن يبعث اللّه رسولا من بعده يدعو إليه ويحذّر بأسه ، ويخوّف من عقابه ، فالتكذيب متوارث ، والعناد قديم ، والريب دأب آبائكم الغابرين ، وقد نسب تكذيب الآباء إليهم ، لما تقدم من أن الأمم متكافلة فيما بينها ، فينسب ما حدث من بعضها إلى جميعها ، إذا تواطئوا واتفقوا عليه كما جاء في قصص(24/68)
ج 24 ، ص : 69
ثمود حين كذّب قدار فعقر الناقة فنسب التكذيب إلى ثمود جميعها كما قال : « كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها. إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها. فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها. فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها » .
والخلاصة - إنهم كفروا بيوسف في حياته ، وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته ، وظنوا أن ذلك لا يجدد عليهم الحجة.
وقد قالوا هذه المقالة على سبيل التشهي والتمني من غير حجة ولا برهان ، ليكون لهم أساس في تكذيب من بعده ، وليس إقرارا منهم برسالته ، بل هو ضم إلى الشك فى رسالته التكذيب برسالة من بعده.
ثم بين أنه لا عجب في تكذيبهم فقد طمس اللّه بصائرهم ، وران على قلوبهم ، حين دسّوا أنفسهم بقبيح الخصال وعظيم الآثام.
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ) أي مثل هذا الضلال الواضح ، يضل اللّه ويصد عن سبيل الحق ، وقصد السبيل من هو مسرف في معاصيه مستكثر منها ، شاك في وحدانيته ووعده ووعيده ، لغلبة الوهم عليه ، وانهما كه في التقليد.
ثم بين هؤلاء المسرفين المرتابين فقال :
(الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ) أي إن المسرفين المرتابين هم الدين يخاصمون في حجج اللّه التي أتتهم بها رسله ليدحضوها بالباطل من الحجج التي لا مستساغ لها من عقل ولا نقل ، فيتمسكون بتقليد الآباء والأجداد ، ويتمسكون بترّهات الأباطيل التي لا يتقبلها ذوو الحصافة والرأى.
ثم أكد ما سلف وقرره وتعجب من حالهم فقال :
(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي كبر ذلك الجدل بغضا لدى اللّه والمؤمنين ، فمقت اللّه إياهم يكون بما يستتبعه من سوء العذاب ، ومقت المؤمنين تظهر آثاره في هجرهم إياهم ، والاحتراس من التعامل معهم ، وعدم الركون إليهم في الدين والدنيا.(24/69)
ج 24 ، ص : 70
ثم بين أن هذه سنة اللّه فيهم وفي أمثالهم فقال :
(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) أي كما طبع اللّه على قلوب المسرفين الذين يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان أتاهم ، يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين الذين أبوا أن يوحدوا اللّه ويصدقوا رسله ، واستعظموا عن اتباع الحق ، فيصدر عنهم أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والجدل بغير الحق.
ونسب التكبر إلى القلب ، لأنه هو الذي يتكبر وسائر الأعضاء تبع له ، ولهذا
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم « إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب » .
قال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق.
[سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
تفسير المفردات
هامان : وزير فرعون ، الصرح : القصر الشامخ المنيف ، الأسباب : واحدها سبب ، وهو ما يتوصل به إلى شىء من حبل وسلم وطريق ، والمراد هنا الأبواب.
قال زهير بن أبى سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسلم(24/70)
ج 24 ، ص : 71
والتباب : الخسران والهلاك ، ومنه قوله تعالى : « تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ » وقوله سبحانه : « وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ » .
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف تكبر فرعون وجبروته - أبان هنا أنه بلغ من عتوّه وتمرده وافترائه في تكذيب موسى أن أمر وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا من الآجرّ ليصعد به إلى السماء ، ليطلع إلى إله موسى ، ومقصده من ذلك الاستهزاء به ونفى رسالته ، وأكد ذلك بالتصريح بقوله : « وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً » ثم أرشد إلى أن هذا وأمثاله صنيع المكذبين الضالين ، وأن عاقبة تكذيبهم الهلاك والخسران.
الإيضاح
(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ. أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى ) أي وقال فرعون بعد سماعه عظة المؤمن وتحذيره له من بأس اللّه إذا كذب بموسى وقتله : يا هامان ابن لى قصرا منيفا عالى الذّرا رفيع العماد ، علّنى أبلغ أبواب السماء وطرقها ، حتى إذا وصلت إليها رأيت إله موسى ، ولا يريد بذلك إلا الاستهزاء والتهكم ، وتكذيب دعوى الرسالة من رب السموات والأرض.
والخلاصة - إن هذا نفى لرسالته من عند ربه.
ثم أكد هذا النفي الضمنى بالتصريح به بقوله :
(وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي وإنى لأظنه كاذبا فيما يقول ويدّعى من أن له في السماء ربّا أرسله إلينا ، وقد قال هذا تمويها وتلبيسا على قومه ، توصلا بذلك إلى بقائهم على الكفر ، وإلا فهو يعلم أن الإله ليس في جهة العلو فحسب ، وكأنه يقول : لو كان إله(24/71)
ج 24 ، ص : 72
موسى موجودا لكان له محل ، ومحله إما الأرض وإما السماء ، ولم نره في الأرض ، فإذا هو في السماء ، والسماء لا يتوصل إليها إلا بسلم ، فيجب أن نبنى الصرح لنصل إليه.
ثم بين السبب الذي دعاه إلى ما صنع فقال :
(وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) أي وهكذا زين الشيطان لفرعون هذا العمل السيّء ، فانهمك في غيّه ، واستمر في طغيانه ، ولم يرعو بحال ، وصدّ عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات ، وما كان ذلك إلا لسوء استعداده وتدسيته نفسه والسير بها قدما في شهواتها دون أن يكون لها وازع يصدها عن غيها ، ويثوب بها إلى رشدها.
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
ثم ذكر عاقبة مكره وتدليسه وأنه ذاهب سدى وأن اللّه ناصر أولياءه ، ومهلك أعداءه و« مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » وإلى هذا أشار بقوله :
(وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) أي وما احتياله الذي يحتال به ليطّلع على إله موسى إلا في خسار وذهاب مال ، لأنها نفقة تذهب باطلا سدى دون أن يصل إلى شىء مما أراده من القضاء على دعوة موسى ، فالنصر في العاقبة له « وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » .
[سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)(24/72)
ج 24 ، ص : 73
تفسير المفردات
الرشاد : ضد الغى والضلال ، متاع : أي يستمتع به أياما قليلة ثم ينقطع ويزول ، دار القرار : أي دار البقاء والدوام ، إلى النجاة : أي إلى الإيمان باللّه الذي ثمرته وعاقبته النجاة ، إلى النار : أي إلى اتخاذ الأنداد والأوثان الذي عاقبته النار ، ما ليس لى به علم :
أي ما لا وجود له ولم يقم عليه دليل ولا برهان ، لا جرم : أي حقّا ، دعوة : أي استجابة دعوة لمن يدعو إليه ، مردّنا : أي مرجعنا ، وأن المسرفين ، أي الذين يغلب شرهم على خيرهم ، فستذكرون : أي فسيذكر بعضكم بعضا حين معاينة العذاب ، وقاه : حفظه ، يعرضون عليها : أي تعرض أرواحهم عليها.
المعنى الجملي
اعلم أن هذا المؤمن لما رأى تمادى قومه في تمردهم وطغيانهم أعاد إليهم النصح مرة أخرى ، فدعاهم أولا إلى قبول هذا الدين الذي هو سبيل الخير والرشاد ، ثم بين(24/73)
ج 24 ، ص : 74
لهم حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة ، وأنها هى الدار التي لا زوال لها ، ثم ذكر أنه يدعوهم إلى الإيمان باللّه الذي يوجب النجاة والدخول في الجنات ، وهم يدعونه إلى الكفر الذي يوجب الدخول في النار ، ثم أردف هذا بيان أن الأصنام لا تستجاب لها دعوة ، فلا فائدة في عبادتها ، ومردّ الناس جميعا إلى اللّه العليم بكل الأشياء ، وهو الذي يجازى كل نفس بما كسبت ، وأن المسرفين في المعاصي هم أصحاب النار ثم ختم نصحه بتحذيرهم من بأس اللّه وتفويض أمره إلى اللّه الذي يدفع عنه كل سوء يراد به ثم أخبر سبحانه بأنه استجاب دعاءه فوقاه السوء الذي دبروه له وحفظه مما أرادوه من اغتياله ، وأحاط بآل فرعون سوء العذاب فغرقوا في البحر ، ويوم القيامة يكون لهم أشد العذاب في النار.
الإيضاح
(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ) أي يا قوم إن اتبعتمونى فقبلتم منى ما أقول لكم سلكتم الطريق الذي به ترشدون باتباعكم دين اللّه الذي ابتعث به موسى.
ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الآخرة ، فصدوا عن التصديق برسول اللّه فقال :
(يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ) أي يا قوم ما هذا النعيم الذي عجّل لكم في هذه الحياة الدنيا إلا قليل المدى تستمعون به إلى أجل أنتم بالغوه ثم تموتون ، وإن الآخرة هى دار الاستقرار التي لا زوال لها ، ولا انتقال منها ، ولا ظعن عنها إلى غيرها ، وفيها إما نعيم مقيم ، وإما عذاب أليم.
ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة وأشار إلى أن جانب الرحمة فيها غالب على جانب العقاب فقال :
(مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ(24/74)
ج 24 ، ص : 75
فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)
أي من عمل في دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت ، فلا يعذب إلا بقدرها من غير مضاعفة للعقاب ، ومن عمل بطاعة اللّه وائتمر بأمره ، وانتهى عما نهى عنه ، ذكرا كان أو أنثى وهو مؤمن بربه مصدق بأنبيائه ورسله ، فأولئك يدخلون الجنة ويمتعون بنعيمها بلا تقدير ولا موازنة للعمل بل يجازون أضعافا مضاعفة بلا انقضاء ولا نفاد.
ثم كرّر ذلك المؤمن دعاءهم إلى اللّه وصرح بإيمانه ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم وأنه إنما تصدى لتذكيرهم كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقول الرجل المحب لقومه تحذيرا لهم من الوقوع فيما يخاف عليهم من مواضع الهلكة فقال :
(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ ؟ ) أي أخبرونى كيف أنتم وما حالكم ، أدعوكم إلى النجاة من عذاب اللّه بإيمانكم باللّه وإجابة رسوله وتصديق ما جاء به من عند ربه ، وتدعوننى إلى عمل أهل النار بما تريدون منى من الشرك ؟ .
ثم فسر الدعوتين بقوله :
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) أي تدعوننى إلى الكفر باللّه والإشراك به في عبادته ما لم يقم دليل على ألوهيته ، وأنا أدعوكم إلى من استجمع صفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة والعلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) أي حقا إن ما تدعوننى إليه من الأصنام لا يجيب دعوة من يدعوه ، فهو لا ينفع ولا يضر في الدنيا ولا في الآخرة.
ونحو الآية : « إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ » وقوله :(24/75)
ج 24 ، ص : 76
« وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ » .
(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ) أي وأن منقلبنا بعد الموت والبعث إلى اللّه ، وحينئذ يجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
(وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) أي وأن المشركين باللّه المتعدّين حدوده هم أهل الجحيم خالدين فيها أبدا قاله قتادة وابن سيرين ، وقال ابن مسعود ومجاهد والشعبي :
هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها الذين ركبوا أهواءهم ودسّوا أنفسهم بصنوف المعاصي.
ثم ختم نصحه بكلمة فيها تحذير ووعيد لهم ، ليتفكروا في عاقبة أمرهم لعلهم يرعوون عن غيهم فقال :
(فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ) أي فستعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه وتتذكرونه فتندمون حيث لا ينفع الندم ، وإنى قد بالغت في نصحكم وتذكيركم بما لم يبق بعده مستزاد لمستزيد.
ثم ابتدأ كلاما آخر يبين به اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر ويخبئه له الغيب كما هو دأب المؤمنين الصادقين فقال :
(وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ) أي وأتوكل على ربى وأفوض إليه أمرى وأستعين به ليعصمنى من كل سوء. قيل إنه قال ذلك لما أرادوا قتله والإيقاع به. وقال مقاتل :
هرب هذا المؤمن إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه.
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال :
(إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) أي إنه خبير بهم فيهدى من يستحق الهداية ، ويضل من يستحق الإضلال لسوء استعداده وتدسيته نفسه ، وله الحجة الدامغة ، والحكمة البالغة ، والقدرة النافذة.(24/76)
ج 24 ، ص : 77
ثم أخبر سبحانه أنه قد كانت النصرة له والهلاك لعدوه فقال :
(فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ، وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) أي فحفظه اللّه مما أرادوا به من المكر السيئ في الدنيا ، إذ نجاه مع موسى عليه السلام ، وفي الآخرة بإدخاله دار النعيم ، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب في الدنيا بالغرق في اليمّ ، وفي الآخرة بدخول جهنم وبئس القرار.
وفي هذا إيماء إلى أنهم قصدوه بالسوء ، وقد روى عن ابن عباس أنه لما ظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب ونجا.
ثم فصّل ما أجمله من سوء العذاب بقوله :
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) أي تعرض أرواحهم من حين موتهم إلى قيام الساعة على النار بالغداة والعشى وينفّس عنهم فيما بين ذلك ، ويدوم هذا إلى يوم القيامة ، وحينئذ يقال لخزنة جهنم :
أدخلوا آل فرعون النار.
قال بعض العلماء. وفي هذه الآية دليل على عذاب القبر ، ويؤيده ما
روى البخاري ومسلم أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، ويقال هذا مقعدك حين يبعثك اللّه تعالى إليه يوم القيامة ، ثم قرأ : « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا » .
وروى ابن مسعود عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : « ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه اللّه ، قلنا يا رسول اللّه ما إثابة الكافر ، قال المال والولد والصحة وأشباه ذلك ، قلنا وما إثابته في الآخرة ؟ قال : عذابا دون العذاب وقرأ : « أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ » .
وقد أثبت علماء الأرواح حديثا ، نعيم الروح وعذابها ، وشبهوا ذلك بما يراه النائم حين نومه ، فقد نرى نائمين في سرير واحد يقوم أحدهما مذعورا كئيبا وجلا مما شاهد(24/77)
ج 24 ، ص : 78
فى نومه ، بينما نرى الثاني مستبشرا فرحا بما لاقى من المسرة والنعيم ، فيروى أنه كان فى حديقة غناء وشاهد كذا وكذا مما فيها من بهجة وبهاء ، وجمال ورواء.
[سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 50]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
تفسير المفردات
المحاجة : المجادلة والخصام بين اثنين فأكثر ، الضعفاء : الأتباع والمرءوسون ، والمستكبرون : السادة أولو الرأى فيهم ، والتبع : واحدهم تابع كخدم وخادم ، مغنون :
أي دافعون ، نصيبا : أي قسطا وجزءا ، حكم : قضى ، الخزنة : واحدهم خازن وهم القوّام يتعذيب أهل النار ، ضلال : أي في ضياع وخسار.
الإيضاح
(وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي واذكر أيها الرسول لقومك وقت حجاج أهل النار وتخاصمهم وهم في النار ، فيقول الأتباع للقادة السادة : إنا أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، فتكبرتم على الناس بنا.(24/78)
ج 24 ، ص : 79
(فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ ؟ ) أي فهل تقدرون أن تحتملوا عنا قسطا من العذاب فتخففوه عنا ، فقد كنا نسارع إلى محبتكم في الدنيا ، ومن قبلكم جاءنا العذاب ، ولو لا أنتم لكنا مؤمنين.
ومقصدهم من هذا المقال تخجيلهم وإيلام قلوبهم ، وإلا فهم يعلمون أنهم لا قدرة لهم على ذلك التخفيف.
فيرد عليهم أولئك الرؤساء بما حكاه اللّه عنهم بقوله :
(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها) أي قال رؤساؤهم الذين أبوا الانقياد للأنبياء :
إنا جميعا واقعون في العذاب ، فلو قدرنا على إزالته عن أنفسنا لدفعناه عنكم.
وخلاصة مقالهم : إنا وأنتم في العذاب سواء.
(إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) بفصل قضائه ، فلا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، وكل منا كافر ، وكل منا يستحق العقاب ، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.
ولما يئس الأتباع من المتبوعين رجعوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم الدعاء كما حكى اللّه عنهم بقوله :
(وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) أي وقال أهل جهنم لخدمها وقوّامها مستغيثين بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء رجاء أن يجدوا لديهم فرجا من ذلك الكرب الذي هم فيه : ادعوا ربكم أن يخفف عنا مقدار يوم من العذاب.
فرد عليهم الخزنة موبخين لهم على سوء ما كانوا يصنعون مما استحقوا عليه شديد العذاب.
(قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ ؟ ) أي أو ما جاءتكم الرسل بالحجج على توحيد اللّه لتؤمنوا به وتبرءوا مما دونه من الآلهة ؟ .(24/79)
ج 24 ، ص : 80
فأجابوهم :
(قالُوا بَلى ) أي قالوا أتونا فكذبناهم ، ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من البينات الواضحة ، والبراهين الساطعة ، حينئذ تهكم بهم خزنة جهنم.
(قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي قالوا لهم : إذا كان الأمر كما ذكرتم فادعوا أنتم وحدكم ، فإنا لا ندعو لمن كفر باللّه وكذب رسله ، وإن دعاءكم لا يفيدكم شيئا فما هو إلا في خسران وتبار ، وسواء دعوتم أو لم تدعوا فإنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم.
روى الترمذي وغيره عن أبى الدرداء قال : « يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون منه فيغاثون بالضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع ، فيأكلون لا يغنى عنهم شيئا ، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذى غصّة فيغصّون به ، فيذكرون أنهم كانوا في الدنيا يجيزون الغصص بالماء ، فيستغيثون بالشراب فيرفع لهم الحميم بالكلاليب ، فإذا دنا من وجوههم شواها ، فإذا وقع في بطونهم قطّع أمعاءهم وما في بطونهم ، فيستغيثون بالملائكة يقولون : « ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ » فيجيبونهم : « أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ »
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 56]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)(24/80)
ج 24 ، ص : 81
تفسير المفردات
يوم يقوم الأشهاد : هو يوم القيامة ، والأشهاد : واحدهم شهيد بمعنى شاهد ، والهدى : ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع ، والإبكار : أول النهار إلى نصفه ، والعشى : من النصف إلى آخر النهار ، والسلطان : الحجة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه في أول السورة أنه لا يجادل في آيات اللّه إلا القوم الكافرون ، ثم رد على أولئك المبطلين المجادلين تسلية لرسوله وتصبيرا له على تحمل أذى قومه - أردف ذلك وعده له بالنصرة على أعدائه في الدنيا والآخرة ، وتلك سنة اللّه ، فهو ينصر الأنبياء والرسل ويقيّض لهم من ينصرهم على أعدائهم ويملأ قلوبهم بنور اليقين ، ويلهمهم أن النصرة لهم آخرا مهما تقلبت بهم الأمور.
الإيضاح
(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي إنا لنجعل رسلنا هم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم ، وننصر معهم من آمن بهم في الحياة الدنيا إما بإعلائهم على من كذبوهم كما فعلنا بداود وسليمان ، فأعطيناهما من الملك والسلطان ما قهرا به كل كافر ، وكما فعلنا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم بإظهاره على من كذبه من قومه ، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل كما فعلنا بنوح وقومه من إغراقهم وإنجائه ، وكما فعلنا بموسى وفرعون وقومه ، إذ أهلكناهم غرقا ونجينا موسى(24/81)
ج 24 ، ص : 82
ومن آمن معه من بنى إسرائيل - وإما بانتقامنا منهم بعد وفاة رسلنا كما نصرنا شعيبا بعد مهلكه بتسليطنا على من قتله من سلّطنا حتى انتصرنا بهم ممن قتله.
وكذلك ننصرهم عليهم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد من الملائكة والأنبياء والمؤمنين على الأمم المكذبة لرسلها - بالشهادة بأن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم وأن الأمم قد كذبتهم.
(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) أي يوم لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم ، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل كما حكى سبحانه عنهم من قولهم : « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » .
(وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي ولهم في هذا اليوم الطرد من رحمة اللّه ، ولهم شر ما في الآخرة من العذاب الأليم ، والقرار في سواء الجحيم.
ولما بين أنه ينصر الأنبياء والمرسلين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من تلك النصرة فى الدنيا فقال :
(وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ. هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي ولقد أعطينا موسى من المعجزات والشرائع ما يهتدى به الناس في الدنيا والآخرة ، وأنزلنا عليه التوراة هدى لقومه ، فتوارثوها خلفا عن سلف وصارت هداية لهم وتذكرة لأولى العقول السليمة التي بعدت من شوائب التقليد والوهم.
وبعد أن بين سبحانه أنه ينصر رسله والمؤمنين وضرب لذلك مثلا بحال موسى خاطب نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم بقوله :
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي فاصبر أيها الرسول لأمر ربك ، وبلّغ قومك ومن أمرت بإبلاغه ما أنزل إليك ، وأيقن بأن اللّه منجز وعده ، وناصرك وناصر من صدقك وآمن بك ، على من كذبك(24/82)
ج 24 ، ص : 83
وأنكر ما جئت به من عند ربك ، وسل ربك غفران ذنبك وعفوه عنك ، وصلّ شكرا له طرفى النهار كما جاء في الآية الأخرى : « وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ » .
وقد يكون المراد من ذلك المواظبة على ذكر اللّه وألا يفتر اللسان عنه ، ولا يغفل القلب حتى يدخل في زمرة الملائكة الذين قال سبحانه في وصفهم : « يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » .
ولما ابتدأ عزّ اسمه بالرد على الذين يجادلون في آيات اللّه واتصل الكلام بعضه ببعض على النسق المتقدم ، نبه هنا إلى السبب الذي يحملهم على تلك المجادلة فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي إن الذين يخاصمونك أيها الرسول فيما أتيتهم به من عند ربك من الآيات بغير حجة - ما يحملهم على هذا الجدل إلا كبر في صدورهم يمنعهم عن اتباعك وعن قبول الحق الذي جئتهم به ، إذ لو سلموا بنبوتك لزمهم أن يكونوا تحت لوائك وطوع أمرك ونهيك ، لأن النبوة ملك ورياسة ، وهم في صدورهم كبر لا يرضون معه أن يكونوا فى خدمتك ، وما هم ببالغي موجب الكبر وهو دفع الرياسة والنبوة عنك ، فذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء وليس ذلك بالذي يدرك بالأمانى.
والخلاصة - إنه ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والحسد لك ، وما هم ببالغي إرادتهم فيه ، فإن اللّه قد أذلهم.
ثم أمر رسوله أن يستعيذ من هؤلاء المجادلين المستكبرين ، فيقيه من أذاهم وشرهم ويكلؤه ويحفظه منهم فقال :
(فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي فالتجىء إلى اللّه تعالى في دفع كيد من يشنؤك ويبغى عليك ، فهو السميع لأفوالهم ، البصير بأفعالهم ، لا يخفى عليه شىء منها.(24/83)
ج 24 ، ص : 84
[سورة غافر (40) : الآيات 57 الى 59]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أنهم يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان ، وكان من جدلهم أنهم ينكرون البعث ، ويعتقدون استحالته ، ويعملون أقيسة وهمية ، وقضايا جدلية ، كقولهم : « مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ » وقولهم : « أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ » ذكر هنا برهانا يؤيد إمكان حدوثه ويبعد عن أذهانهم استحالته ، وهو خلقه للسموات والأرض ابتداء على عظم أجرامهما ، ومن قدر على ذلك فهو قادر على إعادتكم كما جاء في الآية الأخرى : « أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ » .
الإيضاح
(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) أي لخلق السموات والأرض ابتداء من غير سبق مادة - أعظم في النفوس وأجل في الصدور ، من خلق الناس لكبر أجرامهما ، واستقرارهما من غير عمد ، وجريان الأفلاك بالكواكب بلا سبب ، وقد جرت العادة في مزاولة الأفعال أن علاج الشيء الكبير أشق من علاج الشيء الصغير ، فمن قدر على ذلك قدر على ما دونه كما قال : « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .(24/84)
ج 24 ، ص : 85
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن هؤلاء المشركين لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ولا يعلمون أن اللّه لا يعجزه شىء.
وبعد أن ذكر سبحانه الجدل بالباطل ذكر مثلا للمجادل بالباطل والمحق بين به أنهما لا يستويان فقال :
(وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي وما يستوى الكافر الذي لا يتأمل حجج اللّه بعينيه فيتدبرها ويعتبر بها ، فيعلم وحدانيته وقدرته على خلق ما يشاء ويؤمن بذلك ويصدق به - والمؤمن الذي يرى بعينيه تلك الحجج فيتفكر فيها ويتعظ بها ويعلم ما تدل عليه من توحيده وعظيم سلطانه وقدرته على خلق الأشياء جميعها صغيرها وكبيرها ، وقد ضرب لهما مثل الأعمى والبصير ، ليستبين ذلك الفارق على أتم وجه وأعظم تفصيل ، فما الأمثال إلا وسائل للايضاح تبين للناس المعقولات وهى لابسة ثوب المحسوسات ، فيتضح ما أنبهم منها وخفى من أمرها كما قال : « وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » .
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِي ءُ) أي وكذلك لا يستوى المؤمنون المطيعون لربهم والعاصون المخالفون لأمره ، ونحو الآية قوله : « وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ. وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ » .
(قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ) أي ما أقل ما تتذكرون حجج اللّه فتعتبرون بها وتتعظون ، ولو تذكرتم واعتبرتم لعرفتم خطأ ما أنتم عليه مقيمون من إنكاركم قدرة اللّه على إحياء من فنى من خلقه وإعادته لحياة أخرى غير هذه الحياة.
ولما قرر الدليل على إمكان وجود يوم القيامة والبعث والنشر - أردفه الإخبار بأنه واقع لا محالة فقال :
(إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) أي إن يوم القيامة الذي يحيي فيه اللّه الموتى للثواب والعقاب لآت لا شك فيه ، فأيقنوا بمجيئه ، وأنكم مبعوثون من بعد مماتكم ،(24/85)
ج 24 ، ص : 86
ومجازون بأعمالكم ، فتوبوا إلى ربكم واشكروا له جزيل إنعامه ، ليدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وفيها ترون ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
(وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي ولكن أكثر الناس لا يصدّقون بمجيئه ، ومن ثم ركبوا رءوسهم وعاثوا في الأرض فسادا ، واجترحوا السيئات دون خوف الرقيب الحسيب.
[سورة غافر (40) : الآيات 60 الى 65]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64)
هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
تفسير المفردات
ادعوني : أي اعبدوني ، أستجب لكم : أي أثبكم على عبادتكم إياى ، داخرين :
أي صاغرين أذلاء ، لتسكنوا فيه : أي لتستريحوا فيه ، مبصرا : أي يبصر فيه ،(24/86)
ج 24 ، ص : 87
تؤفكون : أي تصرفون ، قرارا : أي مستقرا ، بناء : أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب للسكنى فيها ، فتبارك : أي تقدس وتنزه ، الدين : الطاعة.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت أن يوم القيامة حق ، وكان المرء لا ينتفع فيه إلا بطاعة اللّه والتضرع له ، وأشرف أنواع الطاعات الدعاء أي العبادة ، لا جرم أمر اللّه تعالى بها في هذه الآية.
ولما كانت العبادة لا تنفع إلا إذا أقيمت الأدلة على وجود المعبود ، ذكر من ذلك تعاقب الليل والنهار وخلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة ورزقه من الطيبات.
الإيضاح
(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي اعبدوني أثبكم ، هكذا روى عن ابن عباس والضحاك ومجاهد في جماعة آخرين ، ويؤيده أن القرآن كثيرا ما استعمل الدعاء بمعنى العبادة كقوله : « إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً » وما
رواه النعمان بن بشير قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الدعاء هو العبادة » ثم قرأ : « وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي إلى قوله : داخِرِينَ » . أخرجه الترمذي والبخاري في الأدب والحاكم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية.
ويجوز أن يراد بالدعاء والاستجابة معناهما الظاهر ، ويرجحه ما
روى عن عائشة قالت : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الدعاء الاستغفار »
وعن أبى هريرة قال :
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « من لم يدع اللّه يغضب عليه » . أخرجه أحمد والحاكم.
وعن معاذ بن جبل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال « لا ينفع حذر من قدر ، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم بالدعاء » أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ،(24/87)
ج 24 ، ص : 88
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الدعاء مخ العبادة » أخرجه الترمذي ،
وعن ابن عباس قال : « أفضل العبادة الدعاء » وقرأ هذه الآية ،
وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة قالت « سئل النبي صلّى اللّه عليه وسلم أي العبادة أفضل ؟ فقال : دعاء المرء لنفسه » .
ثم صرح سبحانه بأن المراد من الدعاء العبادة فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) أي إن الذين يتعظمون عن إفرادى بالعبادة وإفرادى بالألوهة سيدخلون جهنم صاغرين أذلاء.
وفي هذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء اللّه ، وفيه لطف بعباده عظيم ، وإحسان إليهم كبير ، من حيث توعد من ترك طلب الخير منه ، واستدفاع الشر بالدعاء بهذا الوعيد البالغ ، وعاقبه بهذه العقوبة الشديدة ، فيا عباد اللّه وجهوا رغباتكم إليه ، وعوّلوا فى كل مطالبكم على من أمركم بتوجيهها إليه ، وأرشدكم إلى التوكل عليه ، وكفل لكم الإجابة بإعطاء مطالبكم ، وحصول رغباتكم ، فهو الكريم الجواد الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم ، وملكه الواسع ما يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا.
ولما أمر بالدعاء ، والاشتغال به لا بد أن يسبق بمعرفة المدعوّ - ذكر الدليل عليه بذكر بعض نعمه فقال :
(1) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي إن اللّه الذي لا تصلح الألوهة إلا له ، ولا تنبغى العبادة لغيره - هو الذي جعل الليل للسكون والاستراحة من الحركة والتردد في طلب المعاش والحصول على ما يفى بحاجات الحياة.
(2) (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) أي وجعل النهار مضيئا بشمسه ذات البهجة والرواء ، لتتصرفوا فيه بالأسفار ، وجوب الأقطار ، والتمكن من مزاولة الصناعات ، ومختلف التجارات.(24/88)
ج 24 ، ص : 89
ثم ذكر نتيجة لما تقدم فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) أي فهو المتفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى ، ولا يمكن أن تستقصى.
ثم بين أن كثيرا من عباده جحدوا هذه النعم ، واستكبروا عن عبادة المنعم فقال :
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) هذه النعم ، ولا يعترفون بها ، إما لجحودهم وكفرهم بها كما هو شأن الكفار ، وإما لإهمالهم النظر وغفلتهم عما يجب من شكر المنعم كما هو حال الجاهلين.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ » وقوله : « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » .
ثم بين كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده فقال :
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ؟ ) أي ذلكم الذي فعل كل هذا ، وأنعم عليكم بهذه النعم هو اللّه الواحد الأحد خالق جميع الأشياء لا إله غيره ولا رب سواه ، فكيف تنقلبون عن عبادته ، والإيمان به وحده ، مع قيام البرهان الساطع ، والدليل الواضح ، وتعبدون غيره من الأصنام التي لا تخلق شيئا وهى مخلوقة منحوتة بأيديكم.
ثم ذكر أن هؤلاء ليسوا ببدع في الأمم قبلهم ، بل قد سبقهم إلى هذا خلق كثير فقال :
(كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) أي كما ضل هؤلاء بعباده غير اللّه ضل وأفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان ، بل للجهل والهوى.
وبعد أن ذكر من الدلائل تعاقب الليل والنهار ذكر منها خلق الأرض والسماء فقال :
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً) أي اللّه الذي جعل لكم الأرض مستقرا تعيشون عليها ، وتتصرفون فيها ، وتمشون في مناكبها ، وجعل لكم السماء سقفا محفوظا مزينا بنجوم ينشأ عنها الليل والنهار والظلام والضياء.(24/89)
ج 24 ، ص : 90
وبعد أن ذكر دلائل الآفاق والأكوان - ذكر دلائل الأنفس فقال :
(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي وخلقكم فأحسن خلقكم ، إذ خلق كلا منكم منتصب القامة ، بادى البشرة ، متناسب الأعضاء ، مهيأ لمزاولة الصناعات ، واكتساب الكمالات ، ورزقكم من طيبات المطاعم والمشارب.
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم ، هو الذي لا تنبغى الألوهة إلا له ، ولا تصلح الربوبية لغيره ، لا من لا ينفع ولا يضر ، فتقدس سبحانه وتنزه وهو رب العالمين.
ثم نبه إلى وحدانيته وأمر بإخلاص العبادة فقال :
(هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي هو الحي الذي لا يموت ، وما سواه فمنقطع الحياة غير دائمها ، لا معبود بحق غيره ولا تصلح الألوهة إلا له ، فادعوه مخلصين له الطاعة ، ولا تشركوا في عبادته شيئا سواه من وثن أو صنم ، ولا تجعلوا له ندّا ولا عدلا.
ثم أمر عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه وجليل إحسانه فقال :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي احمدوه سبحانه فهو مالك جميع أصناف الخلق من ملك وإنس وجن ، لا الآلهة التي تعبدونها ، ولا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فضلا عن نفع غيرها وضره ، وعن ابن عباس أنه قال : « من قال لا إله إلا اللّه فليقل إثرها :
الحمد للّه رب العالمين » وذلك قوله : « فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
[سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)(24/90)
ج 24 ، ص : 91
المعنى الجملي
بعد أن أثبت سبحانه لنفسه صفات الجلال والكمال - أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يخبرهم بأنه نهى عن عبادة غيره ، وأورد ذلك بألين قول وألطفه ، ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، ثم بين أن سبب النهى هو البينات التي جاءته ، إذ قد ثبت بصريح العقل أن إله العالم الذي تجب عبادته هو الموصوف بصفات العظمة ، لا الأحجار المنصوبة ، والخشب المصوّرة ، ثم ذكر أنه بعد أن نهى عن عبادة غيره أمر بعبادته تعالى ، وقد ذكر من الأدلة على وجوده خلق الأنفس على أحسن الصور ورزقها من الطيبات ، ثم تكوين الجسم من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى الشيخوخة ثم الموت.
الإيضاح
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك من قريش وغيرهم : إنى نهيت أن أعبد ما تعبدون من دون اللّه من وثن أو صنم ، حين جاءتنى الأدلة من عند ربى وهى آيات الكتاب الذي أنزله علىّ وهى مؤيدة لأدلة العقل ومنهة لها.
وجملة ذلك - إن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التي في الأكوان والأنفس.(24/91)
ج 24 ، ص : 92
ولما بين أنه نهى عن عبادة غير اللّه - أردف ذلك أنه أمر بعبادته تعالى فقال :
(وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي وأمرت أن أنقاد له تعالى وأخلص له دينى.
ثم ذكر من الدلائل على وجوده تعالى تكوين الإنسان من ابتداء النطفة إلى وقت الشيخوخة فقال :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو الذي خلقكم من التراب ، إذ كل إنسان مخلوق من المنى ، والمنى مخلوق من الدم ، والدم يتولد من الأغذية ، والأغذية تنتهى إلى النبات ، والنبات يتكون من التراب والماء - ثم ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة إلى مراتب كثيرة حتى ينفصل الجنين من بطن الأم.
وقد رتب سبحانه عمر الإنسان ثلاث مراتب :
(1) الطفولة. (2) بلوغ الأشد. (3) الشيخوخة ، ومن الناس من يتوفى قبل المرتبة الأخيرة. وهو يفعل ذلك لتبلغوا الأجل المسمى وهو يوم القيامة ، ولتعقلوا ما في التنقل في هذه الأطوار المختلفة من فنون العبر والحكم.
وكما استدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر - استدل على ذلك بانتقال الإنسان من الحياة إلى الموت ، ومن الموت إلى الحياة فقال :
(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) أي قل لهم أيها الرسول : هو الذي يحيى من يشاء بعد مماته ، ويميت من يشاء من الأحياء وإذا أراد كون أمر من الأمور التي يريد تكوينها ، فإنما يقول له كن فيكون بلا معاناة ولا كلفة.
وهذا تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات حين تعلق إرادته بوجودها ، وتصوير سرعة ترتب المكوّنات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور.(24/92)
ج 24 ، ص : 93
[سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 76]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
تفسير المفردات
الكتاب : القرآن ، يسحبون : أي يجرّون ، الحميم : الماء الحار ، يسجرون :
أي يحرقون ، يقال سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومنه : « وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ » أي :
المملوء ، ضلوا عنا : أي غابوا ، تفرحون : أي تبطرون ، تمرحون : تختالون أشرارا وبطرا.
المعنى الجملي
عود على بدء بالتعجيب من أحوال المجادلين الشنيعة وآرائهم الفاسدة ، والتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بالقرآن وسائر الكتب والشرائع ، وترتيب الوعيد على ذلك.
الإيضاح
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ؟ ) أي انظر واعجب من هؤلاء المكابرين في آياتنا الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدل فيها ،(24/93)
ج 24 ، ص : 94
كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي على الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها ، وقيام الأدلة على صحتها ، وأنها في نفسها موجبة للتوحيد.
ثم بين صفات هؤلاء المبطلين بقوله :
(الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) أي هم الذين كذبوا بالقرآن وبجميع ما أرسلنا به رسلنا ، من إخلاص العبادة له سبحانه ، والبراءة مما يعبد من دونه من الآلهة والأنداد ، والاعتراف بالبعث بعد الممات.
ثم هددهم وأوعدهم على ما يفعلون فقال :
(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) أي فسوف يعلم هؤلاء المكذبون حقيقة ما نخبرهم به وصدق ما هم به اليوم مكذبون من هذا الكتاب ، حين تجعل الأغلال والسلاسل في أعناقهم ، يسحبون بها فى الحميم ، فينسلخ كل شىء عليهم من جلد ولحم وعروق ، ثم تملأ بهم النار.
ونحو الآية قوله : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ » وقوله : « خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ. ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ، إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ » .
ثم ذكر أنهم يسألون سؤال تبكيت وتوبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها فقال :
(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي ثم يسألون ويقال لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون اللّه ليغيثوكم وينقذوكم مما أنتم فيه من البلاء والعذاب ؟ فيجيبون ويقولون : غابوا عنا وأخذوا طريقا غير طريقنا وتركونا في البلاء - لا ، بل الحق أننا ما كنا ندعوا فى الدنيا شيئا يعتدّ به ، وهذا كما نقول حسبت أن فلانا شىء فإذا هو ليس بشىء ، إذا خبرته فلم تر عنده خيرا.
والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن عبادتهم إياها كانت عبادة باطلة.(24/94)
ج 24 ، ص : 95
(كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ) أي كما أضل اللّه تعالى هؤلاء وأبطل أعمالهم ، كذلك يفعل بأعمال جميع من يدين بالكفر فلا ينتفعون بشىء منها.
ثم بين السبب فيما يأتيهم من هذا العذاب فقال :
(ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) أي هذا الذي فعلنا بكم اليوم من شديد العذاب ، بسبب فرحكم لذى كنتم تفرحونه في الدنيا ، بارتكاب الشرك والمعاصي ، ومرحكم وبطركم فيها بتمتعكم باللذات.
(ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) أي ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم كما قال تعالى : « لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » خالدين فيها أبدا ، فبئس منزل المتكبرين على اللّه في الدنيا أن يوحّدوه ويؤمنوا برسله - جهنم.
[سورة غافر (40) : الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
المعنى الجملي
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في تزييف طرق المجادلين في آيات اللّه ، وهنا أمر رسوله بالصبر على أذاهم وتكذيبهم ، إن اللّه سينجز له ما وعده من النصر والظفر على قومه ، ويجعل العاقبة له ولمن اتبعه من المؤمنين في الدنيا والآخرة.(24/95)
ج 24 ، ص : 96
الإيضاح
(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي فاصبر أيها الرسول على ما يجادلك به هؤلاء المشركون فى آيات اللّه التي أنزلها عليك وعلى تكذيبهم إياك ، فإن اللّه منجز لك فيهم ما وعدك من الظفر بهم ، والعلوّ عليهم ، وإحلال العقاب بهم ، إما في الدنيا وإما في الآخرة كما قال :
(فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) أي فإما نرينّك فى حياتك بعض الذي نعدهم من العذاب والنقمة كالقتل والأسر يوم بدر فذاك ما يستحقونه أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فنجازيهم بأعمالهم وننتقم منهم أشد الانتقام ، ونأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
ونحو الآية قوله : « فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ » .
ثم قال مسلّيا رسوله :
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي ولقد أرسلنا رسلا وأنبياء من قبلك إلى أممهم ، منهم من أنبأناك بأخبارهم في القرآن وبما لا قوه من قومهم وهم خمسة وعشرون ، ومنهم من لم نقصص عليك فيه خبرهم ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينهم وبين أقوامهم.
وعن أبى ذر قال : « قلت يا رسول اللّه كم عدّة الأنبياء ؟ قال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا » رواه الإمام أحمد.
(وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أي وليس في الرسل أحد إلا آتاه اللّه آيات ومعجزات جادله قومه فيها وكذبوه ، وجرى عليه من الإيذاء ما يقارب ما جرى عليك فصبر على ما أوذى ، وكانوا يقترحون عليه المعجزات على سبيل(24/96)
ج 24 ، ص : 97
التعنت والعناد لا للحاجة إليها ، فكان من الحكمة عدم إجابتهم إلى ما طلبوا ، ولم يكن ذلك بقادح في نبوتهم ، فلا عجب أن يقترح قومك عليك المعجزات التي لم يكن إظهارها صلاحا ، ولا جرم إذ لم يجابوا إلى ما طلبوا ، لأن المصلحة في عدم إجابتهم إليه.
(فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي فإذا جاء أمر اللّه وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين قضى بالعدل ، فنجّى رسله والذين آمنوا معهم ، وأهلك الذين افتروا على اللّه الكذب وجادلوا في آياته وزعموا أن له شركاء.
[سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
المعنى الجملي
بعد أن أوعد المبطلين وبالغ في ذلك بما فيه العبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد - عاد إلى ذكر الدلائل على وجوده ووحدانيته بذكر نعمة من نعمه التي لا تحصى ، ثم لفت أنظارهم إلى ما يحيط بهم من أدلة هم عنها معرضون.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) المراد من الأنعام هنا :
الإبل خاصة ، لأنها ذات المنافع التي ذكرت في الآية ، وقد عدد سبحانه لها الفوائد التالية :(24/97)
ج 24 ، ص : 98
(1) أكلها واستعمالها طعاما لهم ولضيفانهم ، وقد كانوا يتفاخرون بنحرها عند قدوم الطارق.
(2) لها منافع أخرى كالأوبار والأصواف التي تتخذ منها بيوت الشّعر والملابس الصوفية وقد كانوا يستعملونها كثيرا ، ولألبان التي تستعمل شربا ويستخرج منها الجبن ليكون إداما لهم في طعامهم وسائر حاجتهم المعيشية والجلود التي تدبغ لتكون نعالا وفرشا على ضروب شتى.
(3) استعمالها للنجعة وطلب مساقط الغيث لحاجتهم إلى الكلأ والقوت لهم ولما شيتهم والسفر من صقع إلى صقع ومن قطر إلى آخر ، وهى لما لها من خفّ مفرطح أنسب حيوان للسير في رمال الصحراء ومن ثم قالوا « الجمل سفينة الصحراء » وقال شاعرهم يصف ذلك :
ما فرّق الألّاف بعد اللّه إلا الإبل وما غراب البين إلّا ناقة أو جمل
وقد كانت من أهم سبل المواصلات في الأزمنة الغابرة في البر كما كانت السفن كذلك في البحر.
ونحو الآية قوله في سورة النحل « وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ » .
ثم ذكر أن هناك آيات من آياته الباهرة التي لا مجال لإنكارها فقال :
َ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ)
أي إنه تعالى له آيات يراها خلقه عيانا ويشاهدونها متجددة كل يوم وفي كل آن.
وفي كل شىء له آية تدل على أنه واحد(24/98)
ج 24 ، ص : 99
فأيّا منها تنكرون وبأيها تعترفون ، وهى ظاهرة بادية للعيان لا سبيل إلى جحدها.
وقصارى ذلك - إنكم لا تقدرون على إنكار شىء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا.
[سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
المعنى الجملي
ختم سبحانه هذه السورة بتهديد الذين يجادلون في آياته ، طلبا للرياسة والجاه ، والحصول على المال ، وكسب حظوظ الدنيا ، وأبان أن هذه الدنيا فانية ذاهبة ، فما فيها من مال وجاه ظل زائل ، لا يغنى عنهم من اللّه شيئا ، وقد ضرب لهم المثل بمن كانوا قبلهم ممن كانوا أكثر عددا وأشد قوة وآثارا في الأرض فلم ينفعهم شىء من ذلك حين حل بهم بأس اللّه ، ثم ذكر أن المكذبين حين رأوا البأس تركوا الشرك وآمنوا باللّه وحده ، وأنّى لهم ذلك ؟ ، وهيهات هيهات.
فذلك لا يحديهم فتيلا ولا قطميرا ، سنة اللّه في عباده ألا ينفع الإيمان حين حلول العذاب.
صاح هل ريت أو سمعت براع ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب ؟(24/99)
ج 24 ، ص : 100
الإيضاح
(أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أ فلم يسر هؤلاء المجادلون في آيات اللّه من مشركى قريش - فى البلاد ، فإنهم أهل سفر إلى الشام واليمن ، فينظروا فيما وطئوا من البلاد - إلى ما حل بالأمم قبلهم ، ويشاهدوا ما أحللنا بهم من بأسنا حين تكذيبهم رسلنا ، وجحودهم بآياتنا ، وكيف كانت عاقبة أمرهم ، وقد كانوا أكثر منهم عددا ، وأشد بطشا ، وأقوى جندا ، وأبقى في الأرض أثرا ، لأنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا ، ويتخذون مصانع ، ويبنون أهراما ضخمة ، فلما جاءهم بأسنا ، وحلت بهم نقمتنا لم يغن ذلك عنهم شيئا ، ولا رد عنهم العذاب الذي حل بهم.
(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي فلما جاء هذه الأمم المكذبة للرسل من أرسلوا إليهم بالأدلة الواضحة ، والبراهين الظاهرة ، فرحوا بما عندهم من شبهات ظنوها علما نافعا كقولهم :
« وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ » وقولهم : « لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا » وقولهم :
(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ؟ » ولكن حل بهم ما كانوا يستعجلون به رسلهم استهزاء وسخرية.
وقد سمى ما عندهم من العقائد الزائفة ، وشبههم الدّاحضة علما ، تهكما واستهزاء بهم.
ثم ذكر حالهم حين عاينوا العذاب فقال :
(فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي فلما عاينوا عذابنا النازل بهم قالوا آمنا باللّه ، وكفرنا بتلك المعبودات الباطلة ، والآلهة الزائفة ، التي لا تجدى فتيلا ولا قطميرا.(24/100)
ج 24 ، ص : 101
ثم بين أن ذلك لا يفيدهم شيئا فقد فات الأوان ، فلا يفيد الندم ولا الاعتراف بالحق شيئا
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فقال سبحانه :
(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي فلم يفدهم إيمانهم عند ما عاينوا عقابنا ، وحين نزل بهم عذابنا ، ومضى فيهم حكمنا ، فمثل هذا الإيمان لا يفيد شيئا كما قال تعالى لفرعون حين الغرق وحين قال : « آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ » - « آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ؟ » .
وبعدئذ ذكر سبحانه أن هذه سنته فيهم وفي أمثالهم من المكذبين فقال :
(سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي وهكذا كانت سنة اللّه في الذين سلفوا إذا عاينوا عذابه ألا ينفعهم إيمانهم حينئذ ، بعد أن جحدوا به وأنكروا وحدانيته ، وعبدوا من دونه من الأصنام والأوثان.
وقصارى ذلك - إن حكم اللّه في جميع من تاب حين معاينة العذاب ألا تقبل منه توبة ،
وقد جاء في الحديث « إن اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرر »
أي فإذا غرغر وبلغت الروح الحلقوم فلا توبة ، ولهذا قال : « وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ » .
اللهم اقبل توبتنا ، واغفر حوبتنا ، وآمن روعتنا : واجعلنا من الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه ، وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله.
مجمل ما حوته السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) الجدل بالباطل في آيات اللّه.
(3) وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله.(24/101)
ج 24 ، ص : 102
(4) طلب أهل النار الخروج منها لشدة الهول ثم رفض هذا الطلب.
(5) إقامة الأدلة على وجود الإله القادر.
(6) إنذار المشركين بأهوال يوم القيامة.
(7) قصص موسى عليه السلام مع فرعون وما دار من الحوار بين فرعون وقومه والذي يكتم إيمانه.
(8) أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالصبر على أذى قومه كما صبر أولو العزم من الرسل.
(9) تعداد نعم اللّه على عباده في البر والبحر.
سورة فصلت
هى مكية وآيها أربع وخمسون ، نزلت بعد غافر.
أخرج ابن أبى سيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال : « اجتمعت قريش يوما فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعاب ديننا ، فليكلمه ولينظر بم يردّ عليه ؟ فقالوا ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة فقالوا ائته يا أبا الوليد ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم عبد اللّه ؟ أنت خير أم عبد المطلب ؟ ، فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. قال عتبة فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك ، أما واللّه ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك ، فرّقت جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا ، وأن في قريش كاهنا ، واللّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى(24/102)
ج 24 ، ص : 103
بعض بالسيوف ، يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : فرغت ؟ قال : نعم ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم :
«
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ » - حتى بلغ - « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » فقال عتبة : حسبك حسبك ، ما عندك غير هذا ؟ قال : لا ، فرجع إلى قريش فقالوا : ما وراءك ؟ قال ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته ، قالوا فهل أجابك ؟ قال والذي نصبها بنية (يريد الكعبة) ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، قالوا ويلك يكلمك الرجل بالعربية وما تدرى ما قال ؟
قال لا واللّه ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة » .
وأخرج أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال : « لما قرأ النبي صلّى اللّه عليه وسلم على عتبة بن ربيعة حم أتى أصحابه فقال يا قوم : أطيعونى في هذا اليوم واعصوني بعده ، فو اللّه لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذنى قط كلاما مثله وما دريت ما أرد عليه » .
وفي هذا الباب روايات كثيرة تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلّى اللّه عليه وسلم أول هذه السورة عليه.
ومناسبتها ما قبلها :
(1) إنهما اشتركتا في تهديد قريش وتقريعهم ، فقد توعدهم في السورة السابقة بقوله : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » إلخ وهددهم هنا بقوله : « فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ » .
(2) إن كلتيهما بدئت بوصف الكتاب الكريم.(24/103)
ج 24 ، ص : 104
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5)
تفسير المفردات
لا يسمعون : أي لا يقبلون ولا يطيعون ، من قولهم : تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولى : أي لم يقبله ولم يعمل به فكأنه لم يسمعه ، والأكنة واحدها كنان كأغطية وغطاء : وهى خريطة السهام والمراد أنها في أغطية متكاثفة ، والوقر : الثقل في السمع.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام في هذا في السورة قبلها.
(تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أي هذا القرآن منزل من اللّه الرّحمن الرّحيم على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، وخص هذين الوصفين (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بالذكر لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى المحتاجين إلى الدواء ، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية ، وعلى ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية ، فكان رحمة لهم ولطفا بهم كما قال : « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » .
ونحو الآية قوله : « وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ » .
(كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) أي هو كتاب بينت آياته ، وميزت لفظا بفواصل ومقاطع ،(24/104)
ج 24 ، ص : 105
ومبادئ للسور وخواتم لها ، وميزت معنى بكونها وعدا ووعيدا ، ومواعظ ونصائح وتهذيب أخلاق ورياضة نفس ، وقصص الأولين ، وتواريخ الماضين.
ونحو الآية قوله : « كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ » .
(قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه بلغة العرب ، ليسهل عليهم فهمه كما قال : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » .
وفي هذا امتنان من اللّه عليهم ، ليسهل عليهم قراءته وفهمه.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه ، لكونه جاء بلسانهم ، فهم أهل اللسان فيفهمونه بلا واسطة ، وغيرهم لا يفهمه إلا بوساطتهم.
(بَشِيراً وَنَذِيراً) أي بشيرا لأوليائه بالجنة والنعيم المقيم إن داوموا على العمل بما فيه من أوامر ونواه ، ونذيرا لأعدائه بالعذاب الأليم إن همأصروا على التكذيب به والجدل فيه بالباطل وترك أوامره وفعل نواهيه.
ثم بين حال المشركين حين أنزل إليهم فقال :
(فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي فاستكبر أكثر المشركين عن الإصغاء إليه ، ولم يقبلوه ولم يطيعوا ما فيه من أوامر ونواه ، إعراضا عن الحق.
ثم صرحوا بنفرتهم منه ، وتباعدهم عنه ، وذكروا لذلك ثلاثة أسباب ، تعللا واحتقارا لدعوته :
(1) (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) أي إن قلوبنا في أغطية متكاثفة مما تدعونا إليه من الإيمان باللّه وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا ، فهى لا تفقه ما تقول من التوحيد ، ولا يصل إليها قولك.
(2) (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) أي وفي آذاننا صمم يمنعها من استماع قولك.
(3) (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) أي ومن بيننا وبينك ستر يمنعنا عن إجابتك.
روى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.(24/105)
ج 24 ، ص : 106
وقصارى ما يقولون : إن قلوبهم نابية عن إدراك ما جئت به من الحق وتقبّله واعتقاده ، كأنها في غلف وأغطية تمنع من نفوذه فيها ، وأسماعهم لا يدخل إليها شىء منه ، كأن بها صمما ، ولتباعد الدينين وتباعد الطريقين كان بينهم وبين رسول اللّه حجاب كثيف ، وحاجز منيع.
ثم بارزوه بالخلاف وشن الغارات الجدلية بما لم يبق بعده مجال للوفاق فقالوا :
(فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) أي فاعمل في إبطال أمرنا جهد طاقتك ، ونحن نعمل جاهدين في فض الناس من حولك وتشتيت شمل من آمن بك حتى تبطل دعوتك.
[سورة فصلت (41) : الآيات 6 الى 8]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
تفسير المفردات
فاستقيموا إليه : أي فأخلصوا له العبادة ، ويل : أي هلاك ، لا يؤتون الزكاة :
أي لا يتصدقون بجزء من مالهم للسائل والمحروم ، ممنون : أي مقطوع من قولهم مننت الحبل إذا قطعته ، ومنه قول ذى الإصبع :
إنى لعمرك ما بابى بذي غلق على الصديق ولا خيرى بممنون
المعنى الجملي
بعد أن ذكر المشركون الأسباب التي تحول بينهم وبين قبول دعوته - أمر رسوله أن يجيب عن كلامهم بأنه لا يقدر على جبرهم على الإيمان وحملهم عليه قسرا ،(24/106)
ج 24 ، ص : 107
فإنه بشر مثلهم ولا ميزة له عليهم إلا بأن اللّه أوحى إليه ولم يوح إليهم ، ثم ذكر أن خلاصة الوحى علم وعمل ، أما العلم فدعامته التوحيد ، وأما العمل فأسه الاستغفار والتوبة مما فرط من الذنوب ، ثم أردف ذلك التهديد لمن يشرك باللّه ولا يزكى نفسه من دنس الشح والبخل ، وينكر البعث والجزاء والحساب يوم القيامة ، وينصرف إلى الدنيا ولذاتها ، وبعد أن ذكر وعيد الكفار أعقبه بوعد المؤمنين الذين يعملون الصالحات بأن لهم عند ربهم أجرا دائما غير مقطوع ولا ممنوع.
الإيضاح
(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) أي قل أيها الرسول لقومك : ما أنا إلا بشر مثلكم في الجنس والصورة والهيئة ، ولست بملك ولا جنّى لا يمكنكم التلقي منى ، ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول ، بل أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه الدلائل الكونية ، وأيده النقل عن الأنبياء جميعا ، من آدم فمن بعده ، فأخلصوا له العبادة ، وسلوه العفو عن ذنوبكم التي سلفت منكم ، بالتوبة من شرككم - يتب عليكم ويغفر لكم.
(وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وخسارة وهلاك لمن أشرك بربه ولم يواس البائس الفقير بشىء من ماله ، يدفع به عوزه ، ويزيل خصاصته ، وأنكر البعث والحساب والجزاء ، وكان يقال : الزكاة قنطرة الإسلام ، فمن قطعها نجا ، ومن تخلف عنها هلك.
وإنما جعل منع الزكاة مقرونا بالكفر بالآخرة ، لأن أحب شىء إلى الإنسان ماله وهو شقيق روحه ، فإذا بذله في سبيل اللّه فذاك أقوى دليل على استقامته وثباته وصدق نيته ، وصفاء طويته وما خدع المؤلّفة قلوبهم إلا بلمظة من الدنيا ، بها لانت شكيمتهم ، وزالت عصبيتهم وما ارتدت بنو حنيفة بعد رسول اللّه إلا بمنعهم للزكاة ،(24/107)
ج 24 ، ص : 108
فعرّضوا أنفسهم للحرب ، والطعن والضرب ، إبقاء على أموالهم ولو ذهبت مهجهم وأرواحهم.
وقصارى ذلك - دمار وهلاك لمن أشرك بربه ، ولم يطهر نفسه من دنس الرذائل التي من أهمها البخل بالمال ودفع غائلة الجوع عن المسكين والفقير ، وأنكر البعث والجزاء.
ونحو الآية قوله : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها » وقوله :
« قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى » .
وبعد أن ذكر وعيد المشركين أردفه وعد المؤمنين فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إن الذين صدقوا اللّه ورسوله وعملوا بما أمر به ، وانتهوا عما نهى عنه - لهم عند ربهم جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.
قال السّدّى : نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى إذا ضعفوا عن الطاعة كتب لهم من الأجر مثل ما كانوا يعملون في الصحة.
ونحو الآية قوله : « ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً » وقوله : « عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ »
[سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)(24/108)
ج 24 ، ص : 109
تفسير المفردات
فى يومين : أي في نوبتين ، والرواسي : الجبال الثوابت ، أقواتها : أي أقوات أهلها ، سواء : أي كاملة لا نقصان فيها ولا زيادة ، للسائلين : أي لطالبى الأقوات المحتاجين إليها ، استوى : أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر ، دخان : أي مادة غازية أشبه بالدخان ، فقضاهن : أي فرغ من تسويتهن ، أمرها : أي شأنها وما هى مستعدة له واقتضت الحكمة أن يكون فيها ، بمصابيح : أي بكواكب ونجوم ، وحفظا : أي وحفظناها حفظا من الآفات.
المعنى الجملي
بعد أن أمر رسوله بأن يقول للمشركين : إن ما تلقيته بالوحى أن إلهكم إله واحد ، فأخلصوا له العبادة - أردف هذا ما يدل على كمال قدرته وحكمته في خلق السموات والأرض على أطوار مختلفة متعاقبة وأكمل لكل منها ما هى مستعدة له ، وزين السماء بالنجوم والكواكب الثوابت والسيارات ، ولا عجب فذلك تقدير العزيز الغالب على أمره ، العليم بكل ما فيهما لا يخفى عليه شىء منهما ، فكيف يسوغ لكم أن تجعلوا الأوثان والأصنام شركاء له ، وليس لها شىء في خلقهما وتقديرهما ، تعالى اللّه عن ذلك.
الإيضاح
(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ ؟ ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك توبيخا وتقريعا. كيف تكفرون باللّه الذي خلق الأرض التي تقلّكم(24/109)
ج 24 ، ص : 110
فى نويتين ؟ فتقولوا إنه لا يقدر على حشر الموتى من قبورهم ، وتنسبوا إليه الأولاد وتقولوا إنه لم يبعث أنبياء - أي كيف تقولون هذا ، مع أنه خلق الأرض في يومين.
(وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً) أي وتجعلون له أندادا وأمثالا من الملائكة والجن والأصنام والأوثان.
ثم شدد عليهم في الإنكار وبين أن مثل هذا لا ينبغى أن يكون فقال :
(ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ذلك الذي خلق الأرض في نوبتين نوبة جعلها جامدة بعد أن كانت كرة غازية ، ومرة جعلها ستا وعشرين طبقة في ستة أطوار كما بين ذلك علماء طبقات الأرض (الجلوجيا) - هو رب العالمين لا ربها وحدها ، فهو مربّى المخلوقات جميعا ، فإن رباها في نوبتين فقد ربى غيرها في نوبات يعلم سبحانه عددها ، فكيف يكون شىء منها ندّا له وضريبا ؟ .
ثم بين إحكام ذلك الخلق وحسن تدبيره فقال :
(وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها) أي وجعل فيها جبالا ثوابت مرتفعة عليها ، أسسها في الأرض وهى الطبقة الصوانية ، وهذه الطبقة هى التي برزت منها الجبال ، فالجبال أساسها بعيدة الغور ضاربة في جميع الطبقات واصلة إلى أول طبقة ، وهى الطبقة الصوانية التي لولاها لم تكن الأرض أرضا ولم نستقر عليها فأرضنا كرة من النار غطيت بطبقة صوّانية فوقها طبقات ألطف منها تكوّن فيها الحيوان والنبات على مدى الزمان ، والجبال نتوءات نتأت من تلك الطبقة وارتفعت فوقها عشرات آلاف الكيلو مترات ، وصارت محازن للمياه والمعادن وهداية للطرق وحافظة للهواء والسحاب.
(وَبارَكَ فِيها) أي وجعلها مباركة كثيرة الخيرات بما خلق فيها من المنافع ، فجعل جبالها مبدأ لجريان الأنهار ، ومخزنا للمعادن كالذهب والفضة والحديد والنحاس.
(وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) أي قدر لأهلها من الأقوات ما يناسب حال كل إقليم من مطاعم وملابس ونبات ، ليكون بعض الناس محتاجا إلى بعض ، فتروج المتاجر بينهم(24/110)
ج 24 ، ص : 111
وتنتقل المحصولات من بلد إلى آخر ومن قطر إلى قطر ، وفي هذا عمار للأرض وانتظام أمور العالم.
ثم ذكر فذلكة لما تقدم فقال :
(فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) أي إن خلق الأرض وجعل الرواسي فيها في نوبتين ، وإكثار خيراتها وتقدير أقواتها في نوبتين فيكون ذلك في أربع نوبات كما يقول القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما : أي في تتمة خمسة عشر يوما.
وقصارى ذلك - إن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وخلق الجبال الرواسي فيها وتقدير الأقوات في أربعة أيام.
(سَواءً لِلسَّائِلِينَ) أي في أربعة أيام كاملة وفق مراد طالب القوت ومن له حاجة إليه وهو كل حيوان على وجه الأرض كما قال : « يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ » فالناس والحيوان جميعا كلهم سائلون ربهم ما يحتاجون إليه من طعام وشراب ولباس ورداء - سؤالا طبيعيا مغروسا في جبلّتهم.
ولما كان الإنسان يهتمّ بحال ما حوله من الأرض قدّم ذكرها وبين أنها هى وما عليها قد كوّنها في أربع نوبات ، فنوبة لتجمد المادة الأرضية بعد أن كانت غازا ، ونوبة لتكميل بقية طبقاتها ويدخل في ذلك معادنها ، ومرة للنبات وأخرى للحيوان.
ولما انتهى من الكلام في الأرض أخذ يذكر السماء ، فالترتيب في الذكر فحسب فقال :
(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) أي ثم دعا داعى الحكمة إلى خلق السماء وهى مادة غازية أشبه بالدخان أو بالسحاب أو بالسديم وتسمى في العلم الحديث (عالم السديم) وقد شاهدوا من تلك العوالم اليوم عوالم كثيرة في عالم السديم آخذة فى البروز كما برزت شمسنا وسياراتها ، وأرضها وكانت في الأصل دخانا.(24/111)
ج 24 ، ص : 112
وعلى الجملة فالتكوين لم يكن في لحظة واحدة ، بل كان وفق الحكمة والنظام فى غير نوبة ، وكفى بكتاب مقدس أن يقول : إنه خلق الأرض في نوبتين ، وما عليها فى نوبتين ، والسموات السبع كذلك.
ثم ذكر ما كان من شأنهما بعد خلقهما فقال :
(فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) أي فقال لتلك العوالم السماوية ، وللأرض التي دارت حولها : ائتيا كيف شئتما طائعتين أو كارهتين فأجابتا قالتا أتينا طائعين ، قال ابن عباس : قال اللّه تعالى للسموات : أطلعى شمسك وقمرك وكواكبك ، وأجرى رياحك وسحابك ، وقال للأرض : شقى أنهارك ، وأخرجى شجرك وثمارك ، طائعتين أو كارهتين : « قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ » .
وفي هذا دلالة على الحركة المستمرة المعبر عن سببها بالجاذبية ، فهى حركة تجرى جرى طاعة لا جرى قسر ، فإنا نشاهد أنا نرمى الحجر إلى أعلى قسرا فيأبى إلا أن ينزل إلى الأرض بطريق الجاذبية إلى جسم أكبر منه وهى الأرض ، وهكذا الأرض مجذوبة إلى الشمس التي هى أصلها بحركة دورية دائمة طوعا لا قسرا ، لأن القسرية كرمى الحجر إلى أعلى سريعة الزوال ، أما حركة الطاعة فهى دائمة ما دام المطيع متخلقا بخلقه الذي هو فيه.
(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي فأتم خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن فى نوبتين سوى الأربعة الأيام التي خلق فيها الأرض ، فوقع خلق السموات والأرض فى ستة كما قال : « خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » على ما اقتضته الحكمة وحسن النظام.
ومن ذلك يفهم وجه الحكمة في قوله - فقال لها وللأرض إلخ ، وهى الدلالة على أن حركة الإتيان منهما كانت معا ، فبينما نرى الأرض دائرة حول نفسها وحول(24/112)
ج 24 ، ص : 113
الشمس نرى الشمس دائرة حول نفسها وحول شموس أخرى أكبر منها ، فهذا هو السبب في ذكرهما معا.
وقصارى ذلك - إنه قال لهما معا وأجابتاه معا ، لأن الأرض لما كانت ضمن المجموعة الشمسية كانت دائرة كبقية أجزائها.
(وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي وخلق في كل منها ما استعدت له ، واقتضت الحكمة أن يكون فيها من بحار وبرد وثلج إلى نحو أولئك مما لا يعلمه إلا اللّه ، قاله السدى وقتادة.
(وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) أي بكواكب مضيئة متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح ، وهى وإن تفاوتت ارتفاعا وانخفاضا فكلها ترى متلألئة.
(وَ حِفْظاً) أي وحفظناها من الاضطراب في سيرها ومن اصطدام بعضها ببعض ، وجعلناها تسير على نهج واحد ما دام هذا النظام باقيا حتى يأتى اليوم الموعود ، فهناك تختل نظمها كما قال سبحانه : « إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ » .
(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي إن ذلك الذي تقدم هو تقدير العزيز الذي قد عزّ كلّ شىء فغلبه وقهره ، العليم بحركات مخلوقاته وسكناتها ، سرها ونجواها ، ظاهرها وباطنها.
[سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18)(24/113)
ج 24 ، ص : 114
تفسير المفردات
صاعقة : أي عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة. قال المبرد : الصاعقة المرة المهلكة لأىّ شىء كان ، وهى في الأصل الصيحة التي يحصل بها الهلاك ، أو قطعة نار تنزل من السماء معها رعد شديد ، من بين أيديهم ومن خلفهم : أي من كل ناحية ، صرصرا :
أي باردة تهلك بشدة بردها. أنشد قطرب قول الحطيئة في المديح :
المطعمون إذا هبّت بصرصرة والحاملون إذا استودوا على الناس
استودوا : أي سئلوا الدية. نحسات واحدها نحسة (بكسر الحاء) أي نكدات مشئومات ، والهون : الذل.
المعنى الجملي
بعد أن أنكر عليهم عبادة الأنداد والأوثان ، وطلب إليهم ألا يعبدوا إلا اللّه الذي خلق السموات والأرض ، وزين السماء الدنيا بالمصابيح ، وأوجد في الأرض جبالا رواسى أن تميد بهم ، ثم أعرضوا عن كل ذلك ، لم يبق حينئذ طريق للعلاج.
ومن ثم أمر رسوله أن ينذرهم بحلول شديد النقم بهم إن هم أصروا على عنادهم ، كما نزل بعاد وثمود من قبلهم.(24/114)
ج 24 ، ص : 115
الإيضاح
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ. إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) أي قل أيها الرسول لمشركى قومك المكذبين لما جئتهم به من الحق : إن أعرضتم عما جئتكم به من عند اللّه فإنى أنذركم بحلول نقمته بكم كما حلت بالأمم الماضية التي كذبت رسلها كعاد وثمود ومن على شاكلتهما ممن فعل فعلهما حين جاءتهم الرسل في القرى المجاورة لبلادكم ، وأمروا أهلها بعبادة اللّه وحده ، فكذبوهم واستكبروا عن إجابة دعوتهم ، واعتذروا بشتى المعاذير كما ذكر ذلك سبحانه بقوله :
(قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا لا نصدق برسالتكم فما أرسل اللّه بشرا ، ولو أرسل رسلا لأنزل ملائكة ، وإذا فلا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا.
وقد تقدم في غير موضع دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها. وقوله :
« بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ » ليس إقرارا منهم بكونهم رسلا ، بل ذكروه استهزاء بهم كما قال فرعون : « إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ » .
أخرج البيهقي في الدلائل وابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال « قال أبو جهل والملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد ، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ، ثم أتانا ببيان من أمره. فقال عتبة بن ربيعة : واللّه لقد سمعت السحر والكهانة والشعر ، وعلمت من ذلك علما ، وما يخفى علىّ إن كان كذلك ، فأتاه فقال : يا محمد أنت خير أم هاشم ، أنت خير أم عبد المطلب ؟ فلم يجبه ، قال : لم تشتم آلهتنا وتضللنا ؟ إن كنت تريد الرياسة عقدنا لك اللواء فكنت رئيسنا ، وإن تكن بك الباءة (الميل إلى قربان النساء) زوجناك عشر نسوة تختارهن ، أىّ بنات من(24/115)
ج 24 ، ص : 116
شئت من قريش ، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغنى به ، ورسول اللّه ساكت ، فلما فرغ قال صلّى اللّه عليه وسلم : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم حم تنزيل من الرّحمن الرّحيم.
كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا - حتى بلغ - فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم ، فرجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش ، فلما احتبس عنهم قالوا لا نرى عتبة إلا قد صبأ ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت ، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا ، ثم قال : واللّه لقد كلمته فأجابنى بشىء ما هو بشعر ولا سحر ولا كهانة ، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته الرحم ، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب ، فخفت أن ينزل بكم العذاب » .
وقد ذكرنا هذا القصص قبل برواية أخرى ، وهذه الرواية أتم من سابقتها فأعدناها تكميلا للفائدة.
ولما بين سبحانه كفر قوم عاد وثمود إجمالا وبين معاذيرهما - أردف ذلك ذكر ما لكل منهما من الجناية وما حل به من العذاب فقال :
(فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ ) أي فأما عاد فبغوا وعصوا ربهم ولم يقبلوا كلام الرسول الذي جاء لهم وقالوا من أشد منا قوة ؟
حتى يستطيع قهرنا وإذلالنا ، وقد كانوا قوما طوال القامة شديدى الأسر ، فاغتروا بأجسامهم حين تهددهم هو بالعذاب ، وقد روى في قوّتهم روايات ليس بنا حاجة إلى تصديقها كقولهم : إن الرجل منهم كان يقتلع الصخرة من الجبل بيده ويجعلها حيث يشاء.
فرد اللّه عليهم موبخا بقوله :
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ؟ ) أي أما يفكرون فيمن يبارزون بالعداوة ؟ إنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها ،(24/116)
ج 24 ، ص : 117
وإن بطشه لشديد ، وإنه لقادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء ، فيقول :
(كُنْ فَيَكُونُ).
(وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) أي وكانوا يعرفون أن آياتنا التي أنزلناها على رسلنا حق لا مرية فيها ، ولكنهم جحدوها وعصوا رسله.
وقد يكون المراد : إنهم جحدوا الأدلة التكوينية التي نصبناها لهم ، وجعلناها حجة عليهم.
ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من عذابه فقال :
(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) أي فأرسلنا عليهم ريحا باردة تهلك بشدة بردها ، وإذا هبت سمع لها صوت قوىّ لتكون عقوبة لهم من جنس ما اغتروا به.
ثم بين سبحانه وقت نزول العذاب عليهم فقال :
(فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ) أي في أيام مشئومات نكدات متتابعات كما قال في آية أخرى :
« سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً » .
ثم بين الغاية التي من أجلها نزل العذاب فقال :
(لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي أنزلنا عليهم هذا العذاب كى نذيقهم الذل والهوان في الحياة الدنيا بسبب ذلك الاستكبار.
ثم أرشد إلى أن هذا العذاب هين يسير إذا قيس بعذاب الآخرة فقال :
(وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ) أي ولعذاب الآخرة أشد إهانة وخزيا من عذاب الدنيا ، وهم لا يجدون إذ ذاك نصيرا ولا معينا يدفعه عنهم.
وبعد أن ذكر قصص عاد أتبعه بقصص ثمود فقال :
(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) أي وأما ثمود فبينا لهم الحق على لسان نبيهم صالح ، ودللناهم على سبل النجاة بنصب الأدلة التكوينية ، وإنزال الآيات التشريعية ، فكذبوه واستحبوا العمى على الهدى ، والكفر على الإيمان.(24/117)
ج 24 ، ص : 118
ثم ذكر جزاءهم على ما اختاروه لأنفسهم فقال :
(فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي فأرسلنا عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا ، بما كانوا يكسبون من الآثام بكفرهم باللّه وتكذيبهم رسله.
(وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي ونجينا صالحا ومن آمن معه من المؤمنين من ذلك العذاب : فلم يمسسهم سوء ولا نزل بهم مكروه ، بإيمانهم وتقواهم وصالح أعمالهم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 24]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
تفسير المفردات
يوزعون : أي يحبسن أولهم ليلحق آخرهم لكثرتهم من قولهم ، وزعته : أي كففته ، جلودهم : أي جوارحهم ، أرداكم : أي أهلككم ، مثوى : أي مقام ، وإن يستعتبوا : أي يطلبوا العتبى والرضا ، من المعتبين : أي المجابين إلى ما يطلبون(24/118)
ج 24 ، ص : 119
يقال أعتبنى فلان : أي أرضانى بعد إسخاطه إياى ، قال الخليل : تقول استعتبته فأعتبنى :
أي استرضيته فأرضانى ، قال النابغة في اعتذار يأته للنعمان بن الم
ِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)
أي ويقال لهم : أبشروا بالجنة التي وعدتم بها على ألسنة الرسل في الدنيا ، فإنكم واصلون إليها ، مستقرون بها ، خالدون في نعيمها.
ثم بشرهم سبحانه بما هو أعظم من هذا كله فقال :
(نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)
أي نحن أعوانكم في أمور دنياكم ، نلهمكم الحق ، ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم في دنياكم ، وكذلك نكون معكم فى الآخرة ، نؤمّنكم من الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ويوم البعث والنشور ، ونجاوز بكم الصراط المستقيم ، ونوصلكم إلى جنات النعيم.(24/119)
ج 24 ، ص : 129
وقصارى ذلك - نحن المتولّون حفظكم وولايتكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ومن كان اللّه وليّه فاز بكل مطلب ، ونجا من كل مخافة.
(وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)
من صنوف اللذات وأنواع النعم.
(وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)
أي ولكم فيها ما تتمنون وتطلبون.
ونحو الآية قوله : « وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ » .
والجملة الأولى باعتبار شهوات أنفسهم ، والثانية باعتبار ما يطلبون سواء أ كان مشتهى لهم أم لا ، إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية ونحوها (نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) أي أعطاكم ربكم ذلك كرامة من لدنه ، وهو الغفور لذنوبكم ، الرّحيم بكم أن يعاقبكم بعد توبتكم.
[سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
تفسير المفردات
دعا إلى اللّه : أي دعا إلى توحيده ، المسلمين : أي الخاضعين ، الحسنة : ما ترضى اللّه ويتقبلها ، والسيئة : ما يكرهها ويعاقب عليها ، ادفع : أي ردّ ، والحميم : الصديق ، وما يلقاها : أي يتقبلها ويحتملها ، حظّ : أي نصيب وافر من الخير ، ينزعنك :
أي يوسوسنّ لك ، وأصل النزغ : النخس ، فاستعذ باللّه : أي التجئ إليه.(24/120)
ج 24 ، ص : 130
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن قرناء السوء يدعون إلى المعاصي - أردف ذلك ذكر حال أضدادهم الذين يدعون الناس إلى توحيد ربهم وطاعته ، ثم أعقب هذا بأن الحسنة والسيئة لا يستويان ثوابا عند اللّه ، تم أمر رسوله بدفع سفاهات المشركين وجهالاتهم بطريق الحسنى ، لما في ذلك من تآلف القلوب ، وارعواء النفوس عن غيّها ، وثوبها إلى رشدها ، وأرشد إلى أن هذه فعلة لا يتقبلها إلى الصابرون على احتمال المكاره ، ومن لهم حظ عظيم من الثواب عند اللّه ، ثم ختم ذلك بتلك النصيحة الذهبية ، وهى أنه إذا صرف الشيطان المرء عن شىء مما شرعه اللّه فليتعوذ من شره ولا يطعه في أمره ، واللّه سميع لما يقول ، عليم بكل ما يفعل ، وهو المجازى له على ذلك.
الإيضاح
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؟ ) أي لا أحد أحسن قولا ممن جمع بين خصال ثلاث :
(1) الدعاء إلى توحيد اللّه وطاعته ، قال ابن سيرين والسّدى وابن زيد والحسن :
والداعي هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان الحسن إذا تلا هذه الآية يقول :
هذا رسول اللّه ، هذا حبيب اللّه ، هذا ولىّ اللّه ، هذا صفوة اللّه ، هذا خيرة اللّه ، هذا واللّه أحب أهل الأرض إلى اللّه ، أجاب اللّه في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه.
(2) العمل الصالح بعمل الطاعات ، واجتناب المحرمات.
(3) أن يتخذ الإسلام دينا ويخلص إلى ربه ، من قولهم : هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده.
وقد يكون المراد أنه يتلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب.(24/121)
ج 24 ، ص : 131
وبعد أن ذكر محاسن الأعمال التي بين العبد وربه - ذكر محاسن الأعمال التي بين العباد بعضهم مع بعض ترغيبا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الصبر على أذى المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان فقال :
(وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي ولا تتساوى الحسنة التي يرضى اللّه بها ويثيب عليها ، والسيئة التي يكرهها ويعاقب عليها.
وقد يكون المعنى - ولا تستوى دعوة الرسول إلى الدين الحق بالطرق المثلى ، والصبر على سفاهة الكفار ، وترك الانتقام منهم - وما أظهروه من الغلظة والفظاظة فى قولهم : « قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » وقولهم : « لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ » .
والخلاصة - إن فعلك أيها الرسول حسنة ، وإن فعلهم سيئة ، فإذا أتيت بهذه الحسنة استحققت التعظيم في الدنيا ، والمثوبة في الآخرة ، وهم بضد ذلك ، فلا ينبغى أن يكون إقدامهم على السيئة مانعا من الاشتغال بالحسنة.
ثم ذكر بعض الحسنات ووضحها بذكر بعض ضروبها فقال :
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق التي هى أحسن الطرق ، فقابل إساءتهم بالإحسان إليهم ، والذنب بالعفو ، والغضب بالصبر والإغضاء عن الهفوات ، واحتمال المكاره ، فإنك إن صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى ولم تقابل سفههم بالغضب ، ولا أذاهم بمثله ، استحيوا من ذميم أخلاقهم ، وتركوا قبيح أفعالهم.
ثم بين نتائج الدفع بالحسنى فقال :
(فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أي إنك إن فعلت ذلك انقلبوا من العداوة إلى المحبة ، ومن البغض إلى المودة ، قال عمر : ما عاقبت من عصى اللّه فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه ، وقال ابن عباس : أمره اللّه تعالى في هذه الآية بالصبر(24/122)
ج 24 ، ص : 132
عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل الناس ذلك عصمهم اللّه من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم.
وروى أن رجلا شتم قنبرا مولى علىّ بن أبى طالب ، فناداه علىّ يا قنبر دع شاتمك ، واله عنه ترض الرّحمن ، وتسخط الشيطان.
وقالوا : ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه ، وللّه در القائل :
وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما أضرّ له من شتمه حين يشتم
وقال آخر :
وما شىء أحبّ إلى سفيه إذا سبّ الكريم من الجواب
متاركة السفيه بلا جواب أشدّ على السفيه من السبّاب
وقال محمود الوراق :
سألزم نفسى الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه لدىّ الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دونى فإن قال صنت عن إجابته عرضى وإن لام لائم
وأما الذي مثلى فإن زلّ أو هفا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم
وقال آخر :
إن العداوة تستحيل مودة بتدارك الهفوات بالحسنات
قال مقاتل : نزلت الآية في أبى سفيان بن حرب كان معاديا للنبى صلّى اللّه عليه وسلم فصار له وليّا في الإسلام ، حميما بالمصاهرة.
ثم نبه إلى عظيم فضل هذه الطريق بقوله :
(وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا الصابرون(24/123)
ج 24 ، ص : 133
على تحمل المكاره وتجرّع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام ، فإن ذلك يشق على النفوس ، ويصعب احتماله في مجرى العادة إلا من عصم اللّه.
وقال أنس في تفسير ذلك : الرجل يشتمه أخوه فيقول : إن كنت صادقا غفر اللّه لى ، وإن كنت كاذبا غفر اللّه لك.
(وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي وما يتقبلها إلا ذو نصيب وافر من السعادة فى الدنيا والآخرة.
قال قتادة : الحظ العظيم الجنة ، أي وما يلقاها إلا من وجبت له الجنة.
ثم ذكر طريقا لمنع تهييج الشر ودفع الغضب إذا بدت بوادره فقال :
(وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي وإن وسوس إليك الشيطان ليحملك على مجازاة المسيء فاستعذ باللّه من كيده وشره ، واعتصم من خطراته ، إنه هو السميع لا ستعاذتك منه ، واستجارتك به من نزغاته ولغير ذلك من كلامك وكلام غيرك ، العليم بما ألقى في روعك من نزغاته ، وحدّثتك به نفسك ، وما قصدت من صلاح ، ونويت من إحسان.
ومن شياطين الإنس من يفعل مثل هذا ، فيصرف عن الدفع بالتي هى أحسن ، فيقول لك : إن فلانا عدوك الذي فعل بك كيت وكيت ، فانتهز الفرصة ، وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ، ولا يظننّ فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى نحو أولئك من العبارات المثيرة للغضب التي ربما لا تخطر ببال شياطين الجن - نعوذ باللّه من شر كل شيطان.
والخلاصة - إن صرفك الشيطان عما شرعت فيه من الدفع بالحسنى ، فاستعذ باللّه من شره ، وامض لشأنك. ولا تطعه.(24/124)
ج 24 ، ص : 134
[سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
تفسير المفردات
الآية : هى البرهان والحجة ، يسأمون : أي يملّون ، خاشعة : أي جامدة يابسة لا نبات فيها ، اهتزت : أي تحركت ، وربت : أي انتفخت.
المعنى الجملي
لما ذكر في الآيات السابقة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى اللّه تعالى - أردفه ذكر الدلائل على وجوده تعالى وقدرته وحكمته ، تنبيها إلى أن الدعوة إلى اللّه هى تقرير الدلائل على ذاته وصفاته ، ثم ذكر منها الدلائل الفلكية وهى الليل والنهار والشمس والقمر ، ثم أتبعها بآية أرضية تشاهد رأى العين في كل حين وهى حال الأرض حين خلوّها من المطر والنبات ، ثم حالها بعد نزول المطر ، فهى تنتعش بعد أن كانت ميتة ، وتهتز بعد أن كانت ساكنة ، والذي أحياها هو الذي يحيى الموتى ، إنه على كل شىء قدير.
الإيضاح
(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ومن حجج اللّه تعالى على خلقه ودلالتها على وحدانيته وعظم سلطانه - الليل والنهار ، ومعاقبة كل منهما صاحبه ،(24/125)
ج 24 ، ص : 135
والشمس ونورها ، والقمر وضياؤه ، وتقدير منازلهما في فلكيهما ، واختلاف سيرهما فى السماء ، ليعرف بذلك مقادير الليل والنهار والأسابيع والشهور والأعوام ، وبذلك تضبط المعاملات وأوقات العبادات.
ولما كانت الشمس والقمر من أجلّ الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلى نبه إلى أنهما مخلوقان مسخران له تعالى وهما تحت قهره وسلطانه ، فلا تعظموهما وعظموا خالقهما فقال :
(لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي لا تسجدوا أيها الناس للشمس والقمر ، فإنهما إنما يجريان بمنافعكم بإجراء اللّه إياهما طائعين له في جريهما وهما لا يستطيعان لكم نفعا ولا ضرا ، فله فاسجدوا ، وإياه فاعبدوا دونهما ، لأنهما لا فضيلة لهما في أنفسهما ، فيستحقا بها العبادة من دون اللّه ، ولو شاء اللّه لأعدمهما أو طمس نورهما.
وفي هذا رد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب والنجوم ، وزعموا أنهم بعبادتهم إياها يعبدون اللّه ، فنهوا عن ذلك.
(فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي فإن استكبر هؤلاء المشركون الذين يعبدون هذه الكواكب وأبوا إلا أن يسجدوا لها وحدها دون اللّه - فاللّه لا يعبأ بهم ، فالملائكة الذين في حضرة قدسه وهم خير منهم لا يستكبرون عن عبادته ، بل يسبحون له ويصلون ليلا ونهارا ، وهم لا يفترون عن ذلك ولا يمّلون.
ولما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل الأرضية فقال :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) أي ومن الدلائل على قدرته تعالى على البعث ، وإحياء الموتى بعد بلاها ، وإعادتها لهيئتها كما كانت من بعد فنائها - أنك ترى الأرض يابسة غبراء لا نبات بها ولا زرع ،(24/126)
ج 24 ، ص : 136
فإذا نزل عليها الغيث من السماء تحركت بالنبات ، وانتفخت ، وأخرجت ألوان الزرع والثمار ، كما يشاهد من ارتفاع الأرض وانتفاخها ، ثم تصدّعها وتشققها إذا حان ظهور النبات منها ، وتراه يسمو في الجوّ ويغطى قشرتها ، ثم تتشعب عروقه ، وتغلظ سوقه.
(إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن الذي أحيا هذه الأرض الدارسة ، وأخرج منها النبات ، وجعلها تهتز بالزرع - قادر على أن يحيى أموات بنى آدم بعد مماتهم ، وهو القدير على كل شىء ، لا يعجزه شىء كائنا ما كان.
[سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)
تفسير المفردات
يقال : ألحد الحافر في الأرض : إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق منها ، والمراد بالملحدين المنحرفون في تأويل الآيات بحملها على المحامل الباطلة ، والذكر : القرآن ، من بين يديه ومن خلفه : أي من جميع جهاته ، حكيم : أي في جميع أفعاله ، حميد :
أي محمود إلى جميع خلقه بكثرة نعمه عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن الدعوة إلى دين اللّه أسمى المقاصد ، وأنها إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد وصحة البعث يوم القيامة - أعقب هذا بتهديد من ينازع(24/127)
ج 24 ، ص : 137
فى تلك الدلائل بإلقاء الشبهات ، ثم هددهم بضروب من التهديد ، فهددهم بقوله :
« لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا » وبقوله : « اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » وبقوله :
« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ » إلخ.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا) أي إن الذين يميلون عن الحق فى حججنا تكذيبا بها وجحودا لها - نحن بهم عالمون لا يخفون علينا ، ونحن لهم بالمرصاد إذا وردوا علينا ، وسنجازيهم بما يستحقون.
ولا يخفى ما في ذلك من شديد الوعيد كما يقول الملك المهيب : إن الذين ينازعوننى فى ملكى أعرفهم ولا شك ، فهو يريد تهديدهم وإلقاء الرعب في قلوبهم.
ثم بين كيفية الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال :
(أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ ؟ ) أي أ فمن يلقى في النار لإلحاده بالآيات ، وتكذيبه للرسول خير أم من آمن بها ، وجاء يوم القيامة من الآمنين حين يجمع اللّه الخلائق للعرض عليه والحكم بينهم بالعدل ؟ لا شك أنهما لا يستويان.
وظاهر الآية العموم وتمثيل حالى المؤمن والكافر ، وقيل المراد بمن يلقى في النار أبو جهل ، وبمن يأتى آمنا النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وعن بشير بن تميم قال : نزلت في أبى جهل وعمار بن ياسر.
وبعد أن أبان لهم عاقبة الملحدين بالآيات والمؤمنين بها ، هددهم بقوله :
(اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) فقد علمتم مصير المسيء والمحسن ، فمن أراد أحد الجزاءين فليعمل له فإنه ملاقيه.
(إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي إنه بأعمالكم ذو خبرة وعلم لا تخفى عليه خافية منها ولا من غيرها ، وهو مجازيكم بحسب أعمالكم.(24/128)
ج 24 ، ص : 138
ثم بين أولئك الملحدين بقوله :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن الملحدين هم الذين جحدوا هذا القرآن وكذبوا به حين جاءهم.
ثم وصف الذكر بقوله :
(1) (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي وإنه لكتاب عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون ، منيع عن كل عيب ، محمىّ بحماية اللّه.
(2) (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي ليس للبطلان إليه سبيل ، فلا تكذبه الكتب السابقة عليه كالتوراة والإنجيل ، ولا يجىء من بعده كتاب يكذبه ، قاله سعيد بن جبير والكلبي.
وقال الزجاج : معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه ، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه ، وبه قال قتادة والسدّى.
وقصارى ذلك - إن الباطل لا يتطرّق إليه ، ولا يجد لديه سبيلا من جهة من الجهات حتى يصل إليه ، فكل ما فيه حق وصدق ، وليس فيه ما لا يطابق الواقع.
(3) (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) أي وهو تنزيل من عند ذى الحكمة بتدبير شئون عباده ، المحمود على ما أسدى إليهم من النعم التي منها تنزيل هذا الكتاب ، بل هى أجلّها.
[سورة فصلت (41) : الآيات 43 الى 46]
ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)(24/129)
ج 24 ، ص : 139
المعنى الجملي
بعد أن هدد الملحدين في آياته - سلّى رسوله على ما يصيبه من أذى المشركين وطعنهم في كتابه ، وحثه على الصبر ، وألا يضيق صدره بما حكاه عنهم من نحو قولهم :
«
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وقولهم : فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ » فما قاله أولئك الكفار في شأنه وشأن ما أنزل إليه من القرآن لا يعدو شأن ما قاله أمثالهم من الأمم السابقة ، ثم أجاب عن شبهة قالوها ، وهى هلا نزل القرآن بلغة العجم - بأنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا ، وقالوا ما لنا ولهذا ؟ . ثم ذكر أن القرآن هداية وشفاء للمؤمنين ، والذين لا يؤمنون به في آذانهم صمم عن سماعه ، ثم ذكر أن الاختلاف فى شأن الكتب عادة قديمة للأمم ، فقومك ليسوا ببدع فيها بين الأمم ، ثم أبان أن المرء وما عمل ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، ولا يظلم ربك أحدا.
الإيضاح
(ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) أي ما يقول لك هؤلاء المشركون المكذبون ما جئتهم به من عند ربك إلا مثل ما قالته الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم ، فاصبر على ما نالك منهم من أذى كما صبر أولو العزم من الرسل ، وقد يكون المعنى - ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة للّه إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك وإن اختلفت في غير هذا ، تبعا للزمان والمكان.(24/130)
ج 24 ، ص : 140
ونحو الآية على المعنى الأول قوله : « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ » .
وعلى المعنى الثاني قوله : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ » .
ثم ذكر علة أمره بالصبر فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ) أي إن ربك لذو مغفرة للتائبين إليه من ذنوبهم بالصفح عنهم ، وذو عقاب مؤلم لمن أصرّ علىكفره ومات على ذلك قبل التوبة.
ثم أجاب عن شبهة قالوها ، وهى : هلا نزل القرآن بلغة العجم فقال :
(وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ؟ ) أي ولو جعلنا هذا القرآن الذي أنزل إليك بلغة العجم - لقال قومك من قريش : هلا بينت أدلته وما فيه من حكم وأحكام بلغة العرب حتى نفقهه ونعلم ما هو وما فيه ، وكانوا يقولون منكرين : أ قرآن أعجمى ولسان المرسل إليهم عربى ؟
وخلاصة ذلك - لو نزل بلسان أعجمى لقالوا هلا بينت آياته باللسان الذي نفهمه ، ولقالوا : أ كلام أعجمى والمرسل إليهم عرب خلّص ؟
ثم بين حال القرآن لدى المؤمنين والكافرين فقال :
(قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) أي قل لهم ردّا على قولهم « وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ » : إن هذا القرآن للذين صدقوا بما جاءهم به من عند ربهم - هاد إلى الحق ، شاف لما في الصدور من ريبة وشك ، ومن ثم جاء بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره.
ونحو الآية قوله : « وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » .
(وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) أي والذين لا يؤمنون باللّه(24/131)
ج 24 ، ص : 141
ورسوله وبما جاءهم به من عنده في آذانهم ثقل عن استماع هذا القرآن فلا يستمعون له بل يعرضون عنه ، وهو عليهم عمى فلا يبصرون حججه ومواعظه.
ونحو الآية قوله في وصفه « وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً » .
ثم مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم له بحال من ينادى من مكان بعيد لا يسمع من يناديه فقال :
(أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) قال الفراء تقول العرب للرجل الذي لا يفهم كلامك : أنت تنادى من مكان بعيد ، ولثاقب الرأى : إنك لتأخذ الأمور من مكان قريب ، شبّهت حال هؤلاء المكذبين في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه ، بحال من ينادى من مسافة نائية لا يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه.
ثم بين أن هؤلاء المكذبين ليسوا بدعا بين الأمم في تكذيبهم بالقرآن ، فقد اختلف من قبلهم في التوراة فقال :
(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي ولقد أرسلنا موسى وآتيناه التوراة فاختلفوا فيها ، فمن مصدّق بها ومن مكذب ، وهكذا شأن قومك معك ، فمن مصدق بكتابك ومن مكذّب به ، فلا تأس على ما فعلوا معك ، واسلك سبيل أولى العزم من الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين فقد أوذوا فصبروا وكان النصر حليفهم ، والتوفيق أليفهم وكتب اللّه لهم الفلج والفوز على أعدائهم المشركين ، وأهلك اللّه القوم الظالمين.
ثم أخبر سبحانه أنه أخر عذابهم إلى حين ولم يعاجلهم بالعقاب على ما اجترحوا من تكذيب الرسول وجحدهم بكتابه فقال :
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا ما سبق من قضاء اللّه وحكمه فيهم من تأخير عذابهم إلى يوم القيامة بنحو قوله : « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ » وقوله :
« وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » لعجّل الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه بإهلاك المكذبين كما فعل بمكذبى الأمم السالفة.(24/132)
ج 24 ، ص : 142
ثم بين ما يقتضى إهلاكهم فقال :
(وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن قومك لفى شك من أمر القرآن موجب لقلقهم واضطرابهم ، فما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم حين قالوا ما قالوا ، بل كانوا شاكين غير محققين لشىء مما كانوا فيه من عنادك ومقاومة دعوتك.
ثم بين أن الجزاء من جنس العمل وأنه لا يظلم ربك أحدا فقال :
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي من عمل بطاعة اللّه في هذه الحياة فأتمر بأمره وانتهى عما نهى عنه فلنفسه عمل ، لأنه يجازى عليه الجزاء الذي هو له أهل ، فينجو من النار ويدخل جنة النعيم.
ومن عصى اللّه فعلى نفسه جنى ، لأنه أكسبها سخطه وأليم عقابه ، وقد قالوا فى أمثالهم (إنك لا تجنى من الشوك العنب) وما ربك أيها الرسول بحامل عقوبة ذنب على غير مكتسبه ، بمعاقب أحدا إلا على جرم اكتسبه.
ونحو الآية قوله : « أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى . وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى » .
اللهم وفقنا لعمل الصالحات ، وأبعدنا عن ارتكاب الآثام والموبقات ، وألهمنا التوفيق لما يرضيك ، والبعد عما يسخطك.
وقد كان الفراغ من تفسير هذا الجزء من الكتاب الكريم قبيل فجر الليلة السادسة عشرة من ذى الحجة سنة أربع وستين وثلاثمائة بعد الألف من هجرة النبي الكريم بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.
والحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلّ ربنا على محمد وآله.(24/133)
ج 24 ، ص : 143
فهرست أهم المباحث العامة التي في هذا الجزء
4 ذكر بعض هفوات للمشركين.
5 ذكر ما أعد للمؤمنين من ثواب.
7 يكفى اللّه المؤمنين ما أهمهم في الدنيا.
7 من يضلل اللّه فلا هادى له.
9 الحديث المأثور عن ابن عباس.
10 قطع صلة الروح بالبدن حين الموت.
11 الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مبلغ لا مسيطر.
13 تفسير على كرم اللّه وجهه للرؤيا الصادقة والكاذبة.
15 نعى السيد الآلوسى في تفسيره حال المسلمين اليوم.
16 دعاه النبي صلّى اللّه عليه وسلم حين افتتاح صلاته بالليل.
17 ما أمر به النبي صلّى اللّه عليه وسلم أبا بكر من الدعاء.
18 كان المشركون يلجأون إلى اللّه حين وقوع الضرر.
20 اللّه يبسط الرزق لبعض عباده ويضيق على بعض.
22 غفران الذنوب لمن تاب وأخلص العمل 23 أجمع آية في القرآن بخير وشر « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ » وأكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف.
24 يسروا ولا تعسروا.
26 وجوه المشركين ووجوه المؤمنين يوم القيامة.
29 مقاليد السموات والأرض.
30 ما أوحى به إلى الأنبياء جميعا.
31 ما أمر به النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
32 يقبض اللّه الأرض ويطوى السماء بيمينه.
33 يصعق الخلق حين النفخ في الصور.
34 يوم القيامة توضع صحائف الأعمال بأيدى العاملين. 35 يساق المجرمون حينئذ زمرا.
36 تقول الخزنة لأهل النار ألم يأتكم الرسل.
37 تقول خزنة الجنة لأهلها سلام عليكم طبتم.
38 أبواب الجنة ثمانية.
39 الملائكة من حول العرش يسبحون بحمد ربهم.
40 ما تحتوى عليه سورة الزمر من موضوعات.
41 آل حم ديباج القرآن.
42 قول العامة : الحواميم ليس من كلام العرب.
43 ذكر حال المجادلين في القرآن لأجل إبطاله.
44 قال أبو العالية : آيتان ما أشدهما على.
45 الأمم جميعا جادلت في كتبها بالباطل لتدحض الحق.
46 الملائكة من حول العرش يستغفرون للمؤمنين.
48 يدخل الرجل الجنة فيقول يا رب أين أبى وجدى وأمي إلخ ؟
51 يوم القيامة يعترف المجرمون بذنوبهم واستحقاقهم للعذاب.
52 الحكم للّه العلى الكبير يوم القيامة.
53 صفات اللّه الدالة على عظمته وجلاله.
55 في الحديث « يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى إلخ » .
56 « ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع » .
57 علمه تعالى شامل لكل شىء.
58 قصص موسى عليه السلام مع فرعون.
60 أمر فرعون بقتل أبناء بنى إسرائيل.
61 قال فرعون لقومه : إنى أخاف أن يبدل موسى دينكم - تبرئة لنفسه من دعوى سفك الدماء.
62 تعوذ موسى بربه من الجبارين المتكبرين.
63 حديث مؤمن آل فرعون وذكر نصائحه.(24/134)
ج 24 ، ص : 144
64 قال على : أشجع الناس أبو بكر.
65 رد فرعون على موسى وتصلبه في رأيه.
67 إعادة النصح كرة أخرى بضرب الأمثال.
68 توبيخهم بأن التكذيب فيهم متوارث.
69 يضل اللّه عن سبيل الحق المسرف في المعاصي 71 أمر فرعون وزيره هامان أن يبنى له قصرا شامخا.
72 السبب في تمرد فرعون وصده عن السبيل.
73 إعادة النصح عليهم مرة ثالثة.
75 الأصنام لا تستجاب لها دعوة.
75 تعجبه من دعوته إياهم إلى الهداية ودعوتهم إياه إلى الضلال.
76 اطمئنانه إلى ما يجرى به القدر.
81 وعد الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالنصر على أعدائه.
82 في التوراة هدى لبنى إسرائيل.
83 ما يحمل قومك على التكذيب بك إلا الكبر والحسد.
84 البراهين الدالة على إمكان البعث.
85 لا يستوى المؤمن والكافر ولا الأعمى والبصير.
88 من الأدلة على وجود المعبود خلق السموات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة 89 قومك أيها الرسول ليسوا ببدع في الأمم.
90 أمر اللّه عباده أن يحمدوه على جزيل نعمه.
91 من الأدلة على وجوده تعالى خلق الأنفس على أحسن الصور.
92 مراتب عمر الإنسان ثلاث.
94 يسأل المجرمون سؤال توبيخ عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها.
95 أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بالصبر على أذى المشركين.
96 قص اللّه سبحانه أخبار بعض الرسل لا جميعهم 97 فوائد الإبل.
99 تهديد الذين يجادلون في آياته طلبا للرياسة.
100 يقول المشركون حين يرون العذاب آمنا باللّه وحده.
101 لا تقبل التوبة حين معاينه العذاب.
102 حديث الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مع صناديد قريش وتلاوته عليهم أول سورة فصلت. 104 القرآن كتاب فصلت آياته بمقاطع وفواصل.
105 ذكر المشركون لنفرتهم من القرآن ثلاثة أسباب.
107 خلاصة الوحى علم وعمل.
109 خلق السموات والأرض على أطوار.
110 الحكمة في خلق الجبال الرواسي.
111 خلق الأرض وجبالها الرواسي وتقدير أقواتها في أربعة أيام.
112 عالم السديم.
115 إنذار المشركين بشديد العقاب إن أصروا على عنادهم.
115 ما دار بين أبى جهل وعتبة بن ربيعة من الحديث بشأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم.
116 ما قيل عن وصف قوم عاد.
117 ما نزل بقوم عاد من العذاب.
119 بيان المراد من شهادة السمع والأبصار والجلود.
121 على المرء في كل حال رقيب.
122 الظن قسمان : منج ومرد.
123 لا تقبل لأهل النار معاذير ولا تقال لهم عثرات.
124 تشاغل المشركين عن سماع القرآن.
126 طلب المشركين الانتقام ممن أضلوهم.
127 بشرى الملائكة للمؤمنين وولايتهم لهم.
128 قال وكيع : البشرى في ثلاثة مواطن.
130 أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلم بدفع سفاهات المشركين بالحسنى.
131 قال عمر : ما عاقبت من عصى اللّه فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه.
132 ما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه.
133 الطريق لدفع الغضب إذا بدت بوادره.
134 الدلائل الفلكية والأرضية على وجوده تعالى.
135 الرد على الصابئة الذين عبدوا الكواكب.
136 تهديد من ينازع في دلائل الوحدانية والقدرة.
138 صفة الكتاب الكريم.
139 قال المشركون : هلا نزل القرآن بلغة العجم.
140 القرآن هدى وشفاء للذين آمنوا.
142 من عمل صالحا فلنفسه ، ومن أساه فعلى نفسه جنى.(24/135)
ج 25 ، ص : 3
الجزء الخامس والعشرون
[تتمة سورة فصلت ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
تفسير المفردات
الساعة : يوم القيامة ، الأكمام : واحدها كمّ (بالكسر) : وعاء الثمرة وقد يطلق على كل ظرف لمال أو غيره ، آذناك : أي أعلمناك يقال آذنه يؤاذنه أي أعلمه كما قال :
آذنتنا بينها أسماء رب ثاو يملّ منه الثّواء
ضل عنهم : أي غاب وزال ، ظنوا : أي أيقنوا وعلموا ، محيص : أي مهرب يقال حاص يحيص حيصا : إذا هرب.(25/3)
ج 25 ، ص : 4
المعنى الجملي
بعد أن هدد الكافرين بأن جزاء كل عامل سيصل إليه يوم القيامة كاملا غير منقوص ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر - أردف ذلك بيان أن هذا اليوم لا سبيل للخلق إلى معرفته ، فلا يعلمه إلا هو ، وأن علم الحوادث المقبلة فى أوقاتها المعينة مما استأثر اللّه به ، فلا يعلم أحد متى تخرج الثمر من الأكمام ، ولا متى تحمل المرأة ولا متى تضع. ثم ذكر أنه سبحانه يوم القيامة ينادى المشركين تهكما وتقريعا لهم : أين شركائى الذين كنتم تزعمون ؟ فيجيبون : الآن لا نشهد لأحد منهم بالشركة فى الألوهية ، وقد غابوا عنهم فلا يرجون منهم نفعا ، ولا يفيدونهم خيرا ، وأيقنوا حينئذ أن لا مهرب لهم من العذاب.
روى أن المشركين قالوا يا محمد إن كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت الآية :
الإيضاح
(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي إذا سئل عنها أحد ردّ علمها إليه تعالى ، فإنه لا يعلم متى قيامها سواه ،
وقد جاء فى الحديث « أن جبريل عليه السّلام سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الساعة فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل » .
ونحو الآية قوله تعالى : « إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها » وقوله : « لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ » .
وبعد أن ذكر أنه استأثر بعلم الساعة بين أنه اختص أيضا بعلم الغيب ومعرفة ما سيحدث فى مستأنف الأزمنة فقال :
(وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي وما تبرز الثمرة من وعائها الذي هى مغلّفة به ، وما تحمل أنثى ولا تضع ولدها إلا يعلم(25/4)
ج 25 ، ص : 5
من اللّه ، فهو لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.
ونحو الآية قوله : « يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ » .
وفى هذا دليل على أن المنجمين لا يمكنهم الجزم بشىء مما يقولون البتة ، وإنما غايته ادعاء ظن ضعيف قد يصيب وربما لا يصيب ، وعلم اللّه هو المقطوع به الذي لا يشركه فيه أحد.
ثم ذكر بعض ما يحدث فى هذا اليوم فقال :
(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم ينادى سبحانه عباده المشركين على رءوس الأشهاد تهكما بهم واستهزاء بأمرهم - أين شركائى الذين عبدتموهم معى ؟ فيجيبون ويقولون : أعلمناك أنه ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكا ، ونفى الشهادة يراد به التبرؤ منهم ، لأن الكفار يوم القيامة ينكرون عبادة غير اللّه كما حكى اللّه عنهم أنهم قالوا : « وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ » .
والخلاصة - إن قوله آذناك إخبار بإعلام سابق علمه اللّه من أحوالهم يوم القيامة ، وأنهم لم يبقوا على الشرك ، وعلى تلك الشهادة ، كأنهم يقولون أنت أعلم به ، ثم يأخذون فى الجواب.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي وغابت عنهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها فى الدنيا ، فأخذ بها طريق غير طريقهم فلم تنفعهم ولم تدفع عنهم شيئا من عذاب اللّه الذي حل بهم.
(وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وأيقنوا حينئذ أنه لا ملجأ لهم من عذاب اللّه.(25/5)
ج 25 ، ص : 6
[سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51]
لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51)
تفسير المفردات
لا يسأم : أي لا يملّ ، والخير : المال والصحة والعزة والسلطان ونحوهما ، والشر :
الفقر والمرض ونحوهما ، واليأس : انقطاع الرجاء من حصول الخير ، والقنوط : (بالفتح) من اتصف بالقنوط (بالضم) وهو ظهور أثر اليأس على الإنسان من المذلة والانكسار ، والرحمة هنا : الصحة وسعة العيش ، والضراء : المرض وضيق العيش ونحوهما ، هذا لى :
أي هذا ما استحقه لما لى من الفضل والعمل ، والحسنى : الكرامة ، والغليظ هنا :
الكثير ، نأى بجانبه : أي تكبر واختال ، وعريض : أي كثير مستمر يقولون أطال فى الكلام ، وأعرض فى الدعاء : إذا أكثر.
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه حال الكافرين فى الآخرة ، وذكر أنهم حينئذ يتبرءون من الشركاء بعد أن كانوا معترفين بهم فى الدنيا - أردف ذلك بيان أن الإنسان متبدّل الأحوال ، متغير الأطوار ، إن أحسّ بخير وقدرة انتفخت أوداجه وصعّر خديه ومشى الخيلاء ، وإن أصابته محنة وبلاء تطامن واستكان ويئس من الفرج ، وهذا دليل على شدة حرصه على الجمع ، وشدة جزعه من الفقد ، إلى ما فيه من طيش يتولد عنه إعجابه واستكباره حين النعمة ، وتطامنه حين زوالها ، وذلك مما يومىء بشغله بالنعمة عن(25/6)
ج 25 ، ص : 7
المنعم فى حالى وجودها وفقدها ، أما فى حال وجودها فواضح ، وأما فى حال فقدها فلأن التضرع جزعا إنما كان على الفقد الدالّ على الشغل عن المنعم بالنعمة.
الإيضاح
(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل الإنسان من دعائه ربه ومسألته إياه أن يؤتيه صحة وعافية وسعة فى الرزق ، فهو مهما أوتى من المال فهو لا يقنع ، وقد جاء فى الأثر « منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال »
وجاء أيضا « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا » .
(وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) أي وإن أصابه بؤس وضيق فى المال أو ابتلى بمرض أنهك قواه واضمحلّ به جسمه - يئس من فضل اللّه ورحمته ، وظهر عليه سيمى الذل والانكسار ، والخنوع والخضوع.
وخلاصة ذلك - إن الإنسان متبدل الأحوال ، متغير الأطوار ، إن أحس بخير بطر وتعظم ، وإن شعر ببؤس ذل وخضع ، فهو شديد الحرص على الجمع ، شديد الجزع على الفقد.
ثم ذكر حال هذا اليئوس القنوط فقال :
(1) (وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي ولئن كشفنا ما أصابه من سقم فى نفسه أو شدة وجهد فى معيشته ، فوهبنا له العافية بعد السقم ، والغنى بعد الفقر - ليقولن هذا حقى قد وصل إلىّ ، لأنى أستوجبه بما حصل لى من ضروب الفضائل وأعمال البر والقرب من اللّه ، لا تفضل منه علىّ - أو لا يعلم أن هذه الفضائل لو وجدت فإنما هى بفضل اللّه وإحسانه ، وهو لا يستحق على اللّه شيئا ؟
(2) (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) أي وما أظن الساعة ستقوم ، فلا رجعة ولا حساب(25/7)
ج 25 ، ص : 8
ولا عقاب على شىء من الآثام التي يقترفها الإنسان فى دنياه ، ويجترمها مدى حياته الدنيوية.
وما نتج هذا إلا من شدة رغبته فى الدنيا ، وعظيم نفرته من الآخرة ، فهو حين ينظر إلى أحوال الدنيا يقول : إنها لى وأنا جدير بها ، لما لى من فضل به استحققتها ، وحين ينظر إلى أحوال الآخرة يقول : وما أظن الساعة قائمة.
(3) (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى ) أي وإن الغالب على ظنى أن لا رجعة ولا بعث ولا قيامة ، ولئن كان البعث حقا فإن لى عنده لكرامة فى الآخرة ، فإن حالها كحال الدنيا ، فما استحققته من النعيم فيها سيكون لى مثله فى الآخرة.
وبعد أن حكى عنهم هذه الأقوال ذكر أنه سيظهر لهم أن الأمر بعكس ما يظنون ، وبضد ما يعتقدون فقال :
(فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) أي فلنخبرن هؤلاء الكافرين يوم يرجعون إلينا بما عملوا من المعاصي ، واجترحوا من الآثام ، وما دسّوا به أنفسهم من الخطايا ، ثم لنجازينّهم عليها ، فيستبين لهم أنهم جديرون بالإهانة والاحتقار لا بالكرامة والإحسان ، ولنذيقنهم عذابا غليظا لا يمكنهم الفكاك منه وهو عذاب جهنم التي لا موت فيها ولا يجدون عنها حولا.
وبعد أن حكى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه فى الجهد الجهيد - حكى أفعاله فقال :
(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) أي وإذا نحن أنعمنا عليه فكشفنا عنه المرض ووهبنا له الصحة والعافية ورزقناه سعة العيش - أعرض عما دعوناه إليه من طاعتنا ، واستكبر عن الانقياد لأمرنا.
ثم ذكر أنه حين الضراء يكون على عكس هذا فيتضرع ويبتهل إلى ربه فقال :
(وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي وإذا أصابته شدة من فقر ومرض ونحوهما(25/8)
ج 25 ، ص : 9
أطال الدعاء والتضرع إلى اللّه ، لعله يكشف عنه تلك الغمة ، ويزيل عنه برحمته هاتيك الملمّة.
ونحو الآية قوله « وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ » الآية.
[سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
تفسير المفردات
أرأيتم : أي أخبرونى ، أضل : أي أكثر ضلالا وبعدا عن الحق ، والشقاق :
الخلاف ، والآفاق : النواحي من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها واحدها أفق (بضمتين وبضم فسكون) وشهيد : أي شاهد على كل ما يفعله خلقه ، لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض ، ومرية : أي شك ، من لقاء ربهم : أي من البعث بعد الممات ، محيط : أي عالم بجميع الأشياء لا تخفى عليه خافية فى الأرض ولا فى السماء.
المعنى الجملي
بعد أن أوعد سبحانه على الشرك وهدد ، وحذر وأنذر ، وذكر أن المشركين ينكرون الشرك يوم القيامة ويتبرءون من الشركاء ، ويظهرون الذل والخضوع ، لاستيلاء الخوف عليهم لما يرون من شديد الأهوال ، وأردف هذا ذكر طبيعة الإنسان وأنه(25/9)
ج 25 ، ص : 10
متبدل لا يثبت على حال واحدة ، فإن أحس القوة تكبر وتعظم ، وإن شعر بالضعف أظهر المسكنة والمذلة - أعقب ذلك بلفت أنظار الطاعنين فى ثبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم إلى التأمل والتفكر فيما بين أيديهم من الدلائل ، ليرعووا عما هم فيه من الغى والضلال ، ويقروا بها لتظاهر الأدلة عليها ، وعلى أن القرآن منزل من عند اللّه حقا ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها وأن اللّه يبعث من فى القبور.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ؟ ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء المكذبين بالقرآن الذي جئتهم به من عند ربك : أخبرونى أيها القوم إن كان هذا الذي أنتم به تكذبون - من عند ربى ثم كفرتم به ، أ فلا تكونون مفارقين للحق بعيدين من الصواب ؟ .
وقد كانوا كلما سمعوا القرآن أعرضوا عنه وبالغوا فى النفرة منه ، حتى قالوا : قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقر ، فلفت أنظارهم إلى أنه يجب عليهم النظر والتأمل فيه ، فإن دل الدليل على صحته قبلوه ، وإن أرشد إلى فساده تركوه ، أما قبل ذلك فالإصرار على الإعراض والإنكار بعيدان عو الصواب وعما يحكم به العقل.
فما أضلكم وأكثر عنادكم ومشاقتكم للحق واتباعكم للهوى.
وخلاصة ذلك - قل لهم : من أشد ذهابا عن قصد السبيل ، وأسلك لغير طريق الصواب ، ممن هو فى فراق لأمر اللّه وخلاف له ، وبعد عنه ؟
وبعد أن ذكر أدلة التوحيد والنبوة أجاب عن شبهات المشركين وتمويهات الضالين قال :
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) أي سنرى هؤلاء المشركين وقائعنا بالبلاد المحيطة بمكة وبمكة بما أجريناه على يدى نبينا وعلى يدى خلفائه وأصحابه من الفتوح الدالة على قوة الإسلام وأهله ، ووهن الباطل وحزبه حتى(25/10)
ج 25 ، ص : 11
يعلموا حقيقة ما أوحينا به إليك وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن وعده صادق وأنه مظهر دينك على الأديان كلها.
والخلاصة - سنيسر لهم من الفتوح ما لم يتيسر لأحد ممن قبلهم ، ونظهرهم على الجبابرة والأكاسرة ، ونجرى على أيديهم من الأمور الخارجة عن المعهود ، الخارقة للعادة ، فيستبين لهم أن هذا القرآن هو الحق ، ومن ثمّ نصر حامليه ، وأظهرهم على أعدائهم فى قليل من الزمان.
ثم وبخهم على إنكارهم تحقق هذه الإراءة وحصولها فقال :
(أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ؟ ) أي كفى باللّه شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم ، وهو يشهد بأن محمدا صادق فيما أخبر به عنه كما قال : « لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ » الآية ، وقوله : « قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً ؟ قُلِ اللَّهُ » .
وقصارى ذلك - أ لم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها سبحانه فى هذه السورة وفى كل سور القرآن ، وفيها البيان الكافي لإثبات وحدانية اللّه وتنزيهه عن كل نقص ، وإثبات النبوة والبعث.
وبعد أن أقام الأدلة ، وأوضح الحجج حتى لم يبق بعدها مقال لمتنعت ولا جاحد - بين سبب عنادهم واستكبارهم فقال :
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) أي إنهم فى شك من البعث والجزاء ، واستبعادهم إحياء الموتى بعد تفرق أجزائهم ، وتبدد أعضائهم ، ومن ثم لا يلتفتون إلى النظر فيما ينفعهم عند لقائه كالتفكر فى صدق نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم وأن القرآن حق لا شك فيه.
ثم دفع مريتهم وشكهم فى البعث وإعادة ما تفرق واختلط ، مما يتوهم منه عدم إمكان تمييزه فقال :(25/11)
ج 25 ، ص : 12
(أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) أي إنه تعالى عليم بجمل الأشياء وتفاصيلها ، مقتدر عليها لا يفوته شىء منها ، فهو يعلم ما تفرق من أجزاء الأجسام ، ويقدر على إعادتها إلى مكنتها ، ثم بعثها وحسابها ، لتستوفى جزاءها على ما قدمت من عمل.
مجمل ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) وصف الكتاب الكريم.
(2) إعراض المشركين عن تدبره.
(3) جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين.
(4) إقامة الأدلة على الوحدانية.
(5) إنذار المشركين بأنه سيحل بهم ما حل بالأمم قبلهم.
(6) شهادة الأعضاء عند الحشر على أربابها.
(7) ما يفعله قرناء السوء من التصليل والصد عن سبيل اللّه.
(8) ما كان يفعله المشركون حين سماع القرآن.
(9) طلب المشركين إهانة من أضلوهم انتقاما منهم.
(10) ما يلقاه المؤمنون من الكرامة يوم العرض والحساب.
(11) إعادة الأدلة على الوحدانية.
(12) القرآن هداية ورحمة.
(13) إحاطة علم اللّه وعظيم قدرته.
(14) من طبع الإنسان التكبر عند الرخاء والتضرع وقت الشدة.
(15) آيات اللّه فى الآفاق والأنفس الدالة على وحدانيته وقدرته.
(16) شك المشركين فى البعث والنشور ثم الرد عليهم.(25/12)
ج 25 ، ص : 13
سورة الشورى
هى مكية إلا الآيات 23 ، 24 ، 25 ، 26 ، 27 فمدنية.
وآيها ثلاث وخمسون ، نزلت بعد فصلت.
ومناسبتها لما قبلها - اشتمال كل منهما على ذكر القرآن ، ودفع مطاعن الكفار فيه ، وتسلية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم على ذلك.
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
تفسير المفردات
حم عسق - تقدم أن قلنا إن الحروف المقطعة التي جاءت فى أوائل السور حروف تنبيه نحو ألا ويا ونحوهما ، يؤتى بها لإيقاظ السامع وتنبيهه إلى ما سيلقى إليه من الأمور العظام المشتملة عليها هذه السورة ، وينطق بأسمائها هكذا (حاميم. عين.
سين. قاف.) يتفطرن : أي يتشققن ، يسبحون : أي ينزهون اللّه عما لا يليق به ، والأولياء : الشركاء والأنداد ، حفيظ : أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم ، بوكيل :(25/13)
ج 25 ، ص : 14
أي بموكول إليك أمورهم حتى تؤاخذهم بها ولا وكل إليك هدايتهم ، وإنما عليك البلاغ فحسب.
المعنى الجملي
بين سبحانه أن ما جاء فى هذه السورة موافق لما فى تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل ، من الدعوة إلى التوحيد ، والإيمان باليوم الآخر ، والتزهيد فى جمع حطام الدنيا ، والترغيب فيما عند اللّه ، ثم ذكر أن ما فى السموات والأرض فهو مهلكه وتحت قبضته ، وله التصرف فيه إيجادا وإعداما وتكوينا وإبطالا ، وأن السموات والأرض على عظمهما تكاد تتشقق فرقا من هيبته وجلاله سبحانه ، وأن الملائكة ينزهونه عما لا يليق به من صفات النقص ، ويطلبون المغفرة لعباده المؤمنين ، ثم أردف هذا تسلية رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بأنه ليس بالرقيب على عبدة الأصنام والأوثان يستطيع أن يردهم إلى سواء السبيل ، بل ليس عليه إلا البلاغ وعلينا حسابهم ، فلا يبخع نفسه عليهم حسرات ، إن اللّه عليم بما يصنعون.
الإيضاح
(كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي بمثل ما فى هذه السورة ، من الدعوة إلى التوحيد ، والنبوة ، والإيمان باليوم الآخر ، وتجميل النفس بفاضل الأخلاق ، وإبعادها عن رذائل الخلال ، والعمل على سعادة المرء والمجتمع ، يوحى إليك اللّه العزيز فى ملكه ، الغالب بقهره ، الحكيم بصنعه ، المصيب فى قوله وفعله ، كما أوحى إلى الأنبياء بمثله من قبلك.
وسيأتى تفصيل هذا فى سورة « سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى » فقد ذكر فى أولها التوحيد ، وفى وسطها النبوة وفى آخرها المعاد. ثم قال : « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى . صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى » أي إن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه(25/14)
ج 25 ، ص : 15
المطالب الثلاثة العالية التي لا تتم السعادة إلا بها ، ولا الفوز بالنعيم فى الدارين إلا بسلوكها.
ثم بين سبحانه عظمته وكبرياءه وحكمته فقال :
(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أي إن ما فى السموات والأرض تحت قبضته وفى ملكه وله التصرف فيه إيجادا وإعداما ، وهو المتعالي فوقه ، العظيم عن مماثلته ، ليس كمثله شىء وهو السميع البصير.
(تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي تكاد السموات يتشققن من هيبة من هو فوقهن بالألوهية والقهر ، والعظمة والقدرة.
وبعد أن بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات ، انتقل إلى ذكر الروحانيات فقال :
(وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي والملائكة ينزهون ربهم عن صفات النقص ، ويسمونه بسمات الجلال والكمال ، شاكرين له على ما أنعم به عليهم من طاعته ، وسخرّهم لعبادته.
ونحو الآية قوله : « لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » .
(وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي يسألون ربهم المغفرة لذنوب من فى الأرض من أهل الإيمان به ، ويلهمونهم سبل الخير الموصلة إلى السعادة ، فمثلهم مثل الضوء يعطى الحياة بحرارته ، ويعطى الهدى بنوره.
ونحو الآية قوله : « الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ » .(25/15)
ج 25 ، ص : 16
ثم بين سبحانه أن من شأنه المغفرة والرحمة لعباده فقال :
(أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فما من مخلوق إلا له حظ من رحمته ، وهو سبحانه ذو مغفرة للناس على ظلمهم.
وفى الآية إيماء إلى قبول استغفار الملائكة ، وهو يزيد على ما طلبوه من المغفرة ، الرحمة بهم ، وتأخير عقوبة الكافرين والعصاة نوع من المغفرة والرحمة ، لعلهم يرعوون عن غوايتهم ، ويثوبون إلى رشدهم ، وينيبون إلى ربهم.
ثم أبان وظيفة الرسل فقال :
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي والمشركون الذين اتخذوا آلهة من الأصنام والأوثان يعبدونها - اللّه هو المراقب لأعمالهم ، المحصى لأفعالهم وأقوالهم ، المجازى لهم يوم القيامة على ما كانوا يفعلون ، ولست أنت أيها الرسول بالحفيظ عليهم ، إنما أنت نذير تبلغهم ما أرسلت به إليهم ، إن عليك إلا البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإنك لست بمدرك ما تريد من هدايتهم إلا إذا شاء ربك.
[سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 8]
وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8)
تفسير المفردات
الإنذار : التخويف : وأم القرى : مكة ، ويوم الجمع يوم القيامة : سمى بذلك لاجتماع الخلائق فيه كما قال تعالى : « يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ » والفريق :
الجماعة ، والسعير : النار المستعرة الموقدة.(25/16)
ج 25 ، ص : 17
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أنه هو الرقيب على عباده ، المحصى لأعمالهم ، وأنه عليه السلام نذير فحسب ، وليس عليه إلا البلاغ - ذكر هنا أنه أنزل كتابه بلغة العرب ليفهمه قومه من أهل مكة وما حولها كما قال : « وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » وينذرهم بأن يوم القيامة آت لا شك فيه ، وأن الناس إذ ذاك فريقان :
فريق يدخل الجنة بما قدم من صالح الأعمال ، وفريق يدخل النار بما دسّى به نفسه من سيىء الفعال ، ثم ذكر أن حكمته اقتضت أن يكون الإيمان بالتكليف اختيارا ولم يشأ أن يكون قسرا وجبرا ، ولو شاء أن يكون كذلك لفعل ، فمن أخبت للّه وأناب وعمل صالحا أفلح وفاز بالسعادة ، ومن عاث فى الأرض فسادا ، واتجهت همته إلى ارتكاب الشرور والآثام خسر وباء بغضبمن اللّه ومأواه جهنم وبئس المهاد ، ولا يجد له من دون اللّه وليا ولا نصيرا.
الإيضاح
(وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) أي ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح ، أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك ، لاخفاء فيه عليك ولا عليهم ، ليفهموا ما فيه من حجج اللّه وذكره ولتنذر به أهل مكة وما حولها من البلاد ، كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه.
وقصارى ذلك - إنا كما أوحينا إليك أنك لست بالحفيظ عليهم ولا بالوكيل ، أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أهل مكة وما حولها.
وخص هؤلاء بالذكر ، لأنهم أول من أنذروا ، ولأنهم أقرب الناس إليه ، فلا دليل فيها على أنه أرسل إليهم خاصة ، كيف وقد جاء فى آية أخرى « وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ » .(25/17)
ج 25 ، ص : 18
وهذا الإنذار يعم شئون الدنيا وشئون الآخرة. ثم خص من بينها أمور الآخرة بيانا لعظيم أهوالها وشديد نكالها فقال :
(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) أي ولتنذر الخلائق كافة عقاب اللّه يوم جمعهم للعرض والحساب ، وهو يوم لا شك فيه ، لتظاهر الأدلة على تحققه عقلا ونقلا ، فالحكمة قاضية بجزاء المحسن على إحسانه ، ومعاقبة المسيء على إساءته ، ولما فيه من نصوص قاطعة على وجوده لا تحتمل تأويلا ولا تفسيرا.
ثم ذكر عاقبة العرض والحساب فقال :
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي إنهم بعد جمعهم وعرضهم للحساب يفرقون ، ففريق منهم يدخل الجنة لإيمانه باللّه ورسوله وبما أحسن من عمل فى دنياه استحق به الكرامة عند ربه ، والنعيم المقيم فى جنته ، وفريق منهم فى نار اللّه الموقدة المسعورة على أهلها ، وهم الذين كفروا باللّه وخالفوا ما جاءهم به رسوله ، فدسّوا أنفسهم بما أساءوا إليها من شرور وآثام ، وبما عبدوه من أوثان وأصنام.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ » .
ثم سلّى رسوله على ما كان يناله من الغم والهم بتولي قومه عنه ، وعدم استجابة دعوته ، وأعلمه أن أمور عباده بيده ، وأنه الهادي إلى الحق من يشاء ، والمضل من أراد فقال :
(وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي ولو شاء اللّه لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ، ولكن حكمته اقتضت أن يكون بعضهم مؤمنين كما تحب ، وبعضهم كفارا وهم الذين اتخذوا من دون اللّه أولياء لأنه سبحانه شاء أن يكون الإيمان مبنيا على التكليف(25/18)
ج 25 ، ص : 19
والاختيار ، يدخل فيه المرء بمحض الرضا والتأمل فى الأدلة الموصّلة إلى الهدى ، وبذلك يتم الفوز والسعادة فى الدارين ، وينفر منه من دنّس نفسه بإدران الشرك ، وركب رأسه وأطاع هواه فكان من الخاسرين.
ولو شاء لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس جميعا أمة واحدة ، ولكن له الحجة البالغة ، والمثل الأعلى ، لم يشأ ذلك ، فلا تأس على عدم إيمان قومك ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات كما قال : « فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً » وقد جاء هذا المعنى فى غير آية سلف كثير منها كقوله :
« وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى » وقوله : « وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها » .
[سورة الشورى (42) : الآيات 9 الى 12]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
تفسير المفردات
الولي : الناصر والمعين ، أنيب : أي أرجع ، فاطر السموات والأرض : أي مبدعهما لا على مثال سابق ، من أنفسكم : أي من جنسكم ، يذرؤكم : أي يكثّركم يقال ذرأ اللّه(25/19)
ج 25 ، ص : 20
الخلق : بثهم وكثّرهم ، مقاليد : واحدها مقلاد أو مقليد أو إقليد ، وهو المفتاح ، يبسط أي يوسع ، يقدر : أي يقتّر ويضيق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنهم اتخذوا من دون اللّه أولياء ، وأن اللّه وكيل عليهم ، ولست أيها الرسول بالحفيظ عليهم - طلب إليه هنا أن يدع الاهتمام بأمرهم ، ويقطع الطمع فى ايمانهم ، مبينا أنهم اتخذوا من دون اللّه أولياء ، وهو سبحانه الولي حقا ، القادر على كل شىء ، فقد عدلوا عنه إلى ما لا نسبة بينه وبينهم بحال.
الإيضاح
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي إن هؤلاء المشركين من قومك ، قد اتخذوا أولياء ينصرونهم من دون اللّه ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا ، فهؤلاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فإن أرادوا وليّا بحق يدفع عنهم الملمات ، ويجلب لهم الخيرات ، فاللّه هو القادر على ذلك ، وهو المحيي الموتى ، ويحشرهم يوم القيامة ، فجدير بمثله أن يتّخذ وليّا ، لا من يستطيع دفع الضر عن نفسه ولا جلب الخير لها.
ونحو الآية قوله : « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ » .
وبعد أن منع رسوله أن يحمل الكفار على الإيمان قسرا - منع المؤمنين أن يتنازعوا معهم فى شأن من شؤون الدين فقال :
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ) أي وما اختلف فيه العباد من أمر الدين فحكمه ومرجعه إلى اللّه ، يحكم فيه يوم القيامة بحكمه ، ويفصل بين المختصمين ، وحينئذ يظهر المحق من المبطل ، ويتميز أهل الجنة وأهل النّار.(25/20)
ج 25 ، ص : 21
وقد يكون المعنى - إن حكمه مردود إلى كتاب اللّه ، فقد اشتمل على الحكم بين عباده فيما فيه يختلفون ، فالآية عامة فى كل اختلاف يتعلق بأمر الدين وأنه مردود إلى كتاب اللّه.
ونحو الآية قوله : « فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ » .
وقد حكم سبحانه فى كتابه ، بأن الدين هو الإسلام ، وأن القرآن حق ، وأن المؤمنين فى الجنة والكافرين فى النار ، ولكن لما كان الكفار لا يذعنون بأن ذلك حق إلا فى الدار الآخرة وعدهم بذلك يوم القيامة.
ثم أمره أن يقول لهم :
(ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أي ذلكم الموصوف بهذه الصفات ، من الإحياء والإماتة ، والحكم بين المختلفين ، هو ربى وحده ، لا آلهتكم التي تدعون من دونه ، عليه توكلت فى دفع كيد الأعداء وفى جميع شئونى ، وإليه أرجع فى كل المهمات ، وإليه أتوب من الذنوب.
وفى هذا تعريض لهم بأن ما هم عليه من اتخاذ غير اللّه وليّا لا يجديهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا ، فالأجدر بهم أن يقلعوا عنه ، إذ من شأن العاقل ألا يفعل إلا ما يفيده فى دين أو دنيا.
ثم بين الأسباب التي تحمله على أن يلتجىء إليه وتجعله الحقيق بذلك فقال :
(فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه الجدير بأن يعتمد عليه ، ويستعان به ، لأنه خالق العوالم جميعها ، علويها وسفليها ، على عظمتها التي ترونها ، لا آلهتكم التي لا تستطيع أن تخلق شيئا.
ثم بين بعض ما خلقه وأنعم به فقال :
(جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي ومن حكمته لبقاء العمران فى هذه الحياة إلى الأجل الذي حدده فى علمه - أن خلق لكم(25/21)
ج 25 ، ص : 22
من جنسكم زوجات ، لتتوالدوا ، ويكثر النسل ، ويستمر بقاء هذا النوع ، وجعل للأنعام مثل هذا ، وبذا تنتظم شئون الحياة لهذا الخليفة الذي جعله اللّه فى الأرض ، وتقضى مآربه الدنيوية من مأكول ومشروب ، وتستمر تغذيته على أتم النظم ، وأكمل الوجوه ، فيشكر ربه على ما أولى ، ويعبده على ما أنعم ، فيفوز بالسعادة فى الحياة الآخرة كما فاز بها فى الدنيا.
وقوله « فيه » أي فى هذا التدبير وهو التزويج ، فهو سبحانه جعل الناس والأنعام أزواجا ليكون بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، فيكون هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير فى النسل.
وبعد أن ذكر بعض صنعه الدال على عظمته أرشد إلى بعض صفاته العظيمة فقال :
(1) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ) أي ليس كخالق الأزواج شىء يزاوجه ، لأنه الفرد الصمد ، وقد يكون المعنى ليس مثله شىء فى شئونه التي يدبرها بمقتضى قدرته الشاملة ، وعلمه الواسع ، وحكمته الكاملة ، ومن ثم جعل هذا التدبير المحكم لإحاطة علمه بكل شىء.
(2) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي وهو السميع لما ينطق به خلقه من قول ، البصير بأعمالهم لا يخفى عليه شىء مما كسبت أيديهم من خير أو شر.
(3) (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له تعالى مفاتيح خزائن السموات والأرض فبيده مقاليد الخير والشر ، فما يفتح من رحمة فلا ممسك لها ، وما يمسك منها فلا مرسل له من بعده ، وقد بين هذا بقوله :
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) أي يوسع رزقه وفضله على من يشاء من خلقه ويقتّر على من يريد ، بحسب السنن والنواميس التي وضعها بين عباده فى هذه الحياة.
ثم ذكر سبب هذا البسط والتقتير فقال :
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى عليم بكل ما يفعله من توسعة على من يوسع(25/22)
ج 25 ، ص : 23
عليه ، وتقتير على من يقتر عليه ، ومن الذي يصلحه البسط فى الرزق ، ومن الذي يفسده ، ومن الذي يصلحه التقتير ، ومن الذي يفسده ، لا يخفى عليه شىء من ذلك ، فيفعل كل ذلك على مقتضى حكمته الكاملة ، وقدرته الواسعة ، وعلمه المحيط.
[سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
تفسير المفردات
أقيموا الدين : أي حافظوا عليه ، ولا تخلّوا بشىء من مقوّماته ، والمراد بالدين دين الإسلام ، وهو توحيد اللّه وطاعته ، والإيمان برسله ، واليوم الآخر ، وسائر ما يكون به العبد مؤمنا ، ولا تتفرقوا فيه : أي ولا تختلفوا فيه ، فتأتوا ببعض وتتركوا بعضا ، كبر : أي عظم وشق عليهم ، يجتبى : أي يصطفى ، ينيب : أي يرجع ، والبغي : الظلم ومجاوزة الحد فى كل شىء ، لقضى بينهم : أي باستئصال المبطلين حين تفرقوا.
المعنى الجملي
بعد أن عظم وحيه إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ، وأبان ماله من كبير الخطر حين نسبه إليه تعالى ، وأنه صادر من عزيز حكيم لا يوحى إلا بما فيه مصلحة البشر ومنفعتهم(25/23)
ج 25 ، ص : 24
فى دينهم ودنياهم - ذكر هنا تفصيل هذا الوحى ، وأرشد إلى أنه هو الدين الذي وصى به أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة وأردف ذلك أن المشركين يشقّ عليهم دعوتهم إلى التوحيد وترك الأنداد والأوثان ، وأن اللّه يهدى من يشاء من عباده لهدى دينه ، وأنهم ما خالفوا الحق إلا بعد إبلاغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وأنه ما حملهم على ذلك إلا البغي والعدوان والحسد ، وأنه لو لا الكلمة السابقة من اللّه بإنظار المشركين بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا ، وأن من اعتنقوا الأديان من بعد الأجيال الأولى ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا برهان ، وهم فى حيرة من أمرهم ، وشك مريب وشقاق بعيد.
الإيضاح
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ) أي شرع لكم من الدين ما شرع لنوح ومن بعده من أرباب الشرائع وأولى العزم من الرسل ، وأمرهم به أمرا مؤكدا وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر ، لعلوّ شأنهم وعظيم شهرتهم ، ولاستمالة قلوب الكفار إلى أتباعه ، لاتفاق كلمة أكثرهم على نبوّتهم ، واختصاص اليهود بموسى عليه السّلام ، والنصارى بعيسى عليه السّلام - وإلا فكل نبى مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد ، وأصول الشرائع والأحكام مما لا يختلف باختلاف الأعصار كالإيمان باللّه واليوم الآخر والملائكة واكتساب مكارم الأخلاق وفاضل الصفات.
وفى الآية إيماء إلى أن ما شرعه لهم صادر عن كامل العلم والحكمة ، وأنه دين قديم أجمع عليه الرسل ، وما أوحاه إليه هو إما ما ذكر فى صدر السورة ، وفى قوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا) الآية.(25/24)
ج 25 ، ص : 25
وإما ما يعمهما وغيرهما مما وقع فى سائر المواضع التي من جملتها قوله تعالى :
«
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وقوله : « إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ » .
ثم فصل ما شرعه بقوله :
(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) أي اجعلوا هذا الدين وهو دين التوحيد والإخلاص للّه قائما دائما مستمرا ، واحفظوه من أن يقع فيه زيغ أو اضطراب ، ولا تتفرقوا فيه ، بأن تأتوا ببعض وتتركوا بعضا ، أو بأن يأتى بعض منكم بهذه الأصول التي شرعت لكم ويتركها بعض آخر.
والنهى إنما هو عن التفرق فى أصول الشرائع ، أما التفاصيل فلم يتحد فيها الأنبياء كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً » .
والخلاصة - إننا شرعنا لكم ما شرعنا للأنبياء قبلكم ، دينا واحدا فى الأصول وهى التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج ، والتقرب بصالح الأعمال ، كالصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحرّمنا عليكم الزنا ، وإيذاء الخلق ، والاعتداء على الحيوان - فكل هذا قد اتحد فيه الرسل وإن اختلفوا فى تفاصيله.
(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي شق على المشركين دعوتهم إلى التوحيد ، وترك عبادة الأصنام والأوثان ، وتقريعهم على ذلك ، لأنّهم توارثوا ذلك كابرا عن كابر ونقلوه عن الآباء والأجداد كما حكى سبحانه عنهم بقوله : « إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ » وبعد أن أرشد المؤمنين إلى التمسك بالدين - ذكر أنه إنما هداهم إلى ذلك ، لأنه اصطفاهم من بين خلقه فقال :
(اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) أي اللّه يصطفى من يشاء من عباده ويقربهم إليه تقريب الكرامة ، ويوفّق للعمل بطاعته واتباع ما بعث به(25/25)
ج 25 ، ص : 26
نبيه عليه من الحق - من راجع التوبة من معاصيه ، وهذا كما
روى فى الخبر « من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا ، ومن أتانى يمشى أتيته هرولة »
أي من أقبل إلىّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتى وإرشادى ، بأن أشرح له صدره ، وأسهّل له أمره.
ثم أجاب عن سؤال قد يخطر بالبال ، لما ذا صار الناس متفرقين فى الدين مع أنهم أمروا بالأخذ به وعدم التفرق فيه فقال :
(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي وما تفرقت الأمم إلا من بعد ما علموا أن الفرقة ضلالة ، وقد فعلوا ذلك بغيا وطلبا للرياسة ، وللحميّة حمية الجاهلية التي جعلت كل طائفة تذهب مذهبا وتدعو إليه وتقبح ما سواه ، طلبا للأحدوثة بين الناس والسيطرة عليهم.
والخلاصة - إن الأمم قديمها وحديثها أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين وبلّغهم أنبياؤهم ذلك ، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بذلك ، بغيا وحسدا ، وعنادا ، وحبا للرياسة ، فدعت كل طائفة إلى مذهب ، وأنكرت ما عداه.
ثم ذكر أن هؤلاء كانوا يستحقون العذاب المعجل على سوء أفعالهم ، ولكن حكمته تعالى اقتضت تأخيره ليوم معلوم فقال :
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ... لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا الكلمة السابقة من ربك بإنظار حسابهم وتأخيره إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة فى الدنيا سريعا بما دسّوا به أنفسهم من كبير الآثام وقبيح المعاصي.
ثم ذكر أن تفرقهم فى الدين باق فى أعقابهم مضافا إليه الشك فى كتابهم مع انتسابهم إليه فقال :
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي وإن أهل الكتاب الذين كانوا فى عهده صلّى اللّه عليه وسلّم وورثوا التوراة والإنجيل عن السابقين لهم فى شك من كتابهم ، إذ لم يؤمنوا به حق الإيمان ، فهم مقلدون أسلافهم بلا حجة ولا برهان ، وهم فى حيرة من أمرهم ، وشك أقضّ مضاجعهم ، وأوقعهم فى اضطراب وقلق.(25/26)
ج 25 ، ص : 27
وقصارى ذلك - إنهم تفرقوا بعد العلم الذي حصل من النبي المبعوث إليهم المصدّق لكتابهم ، لأنهم شكوا فى كتابكم فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه من أمر ونهى.
[سورة الشورى (42) : آية 15]
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
تفسير المفردات
ادع : أي إلى الائتلاف والاتفاق ، واستقم : أي اثبت على الدعاء كما أوحى إليك ، آمنت بما أنزل من كتاب : أي صدقت بجميع الكتب المنزلة ، لا حجة : أي لا احتجاج ولا خصومة :
المعنى الجملي
بعد أن أمرهم سبحانه فيما سلف بالوحدة فى الدين وعدم التفرق فيه ، وذكر أنهم قد تفرقوا فيه من بعد ما جاءهم العلم ، بغيا وحسدا ، وعنادا واستكبارا - أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلّم بالدعوة إلى الاتفاق على الملة الحنيفية والثبات عليها والدعوة إليها وألا يتبع أهواءهم الباطلة ، ثم أمره بالإيمان بجميع الكتب السماوية ، وبالعدل بين الناس والمساواة بينهم وبين نفسه ، فلا يأمرهم بما لا يعمله ، أو يخالفهم فيما نهاهم عنه(25/27)
ج 25 ، ص : 28
ثم أردف ذلك ببيان أن إلههم جميعا واحد ، وأن كل امرئ مسئول عن عمله ، وأن اللّه يجمع الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم.
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على عشرة أوامر ونواه ، كل منها مستقل بذاته ودالّ على حكم برأسه ، ولا نظير لها فى ذلك سوى آية الكرسي فهى عشرة فصول أيضا.
الإيضاح
(فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي فلأجل ذلك التفرق ، ولما حدث بسببه من تشعب الكفر فى الأمم السالفة شعبا - ادع إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ملة إبراهيم (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي واثبت أنت ومن اتبعك على عبادة اللّه كما أمركم.
(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أي ولا تتبع أيها الرسول أهواء الذين شكّوا فى الحق الذي شرعه اللّه لكم ، من الذين أورثوا الكتاب من قبلكم فتشكّوا فيه كما شكّوا.
(وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ) أي وقل : صدّقت بجيمع الكتب المنزلة على الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم ، لا أكذّب بشىء منها.
وفى هذا تعريض بأهل الكتاب ، إذ صدقوا ببعض وكفروا ببعض ، وتأليف لقلوبهم ، إذ آمن بما آمنوا به.
(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أي وأمرنى اللّه بما أمرنى به ، لأعدل بينكم فى الأحكام إذا ترافعتم إلىّ ، ولا أحيف عليكم بزيادة على ما شرعه أو نقصان منه ، ولأبلّغ ما أمرنى تبليغه إليكم كما هو.
(اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) أي اللّه هو المعبود بحق لا إله غيره ، فنحن نقرّ بذلك اختيارا ، وأنتم وإن لم تفعلوه فله يسجد من فى السموات والأرض طوعا وجبرا.
(لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) أي لنا أعمالنا لا يتخطانا جزاؤها ، ثوابا كان أو عقابا ، ولكم أعمالكم لا ننتفع بحسناتكم ولا تضرنا سيئاتكم.(25/28)
ج 25 ، ص : 29
ونحو الآية قوله : « وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ » .
(لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا خصومة بيننا ولا احتجاج ، فإن الحق قد وضح ، وليس للمحاجة مجال ، فما المخالف إلا معاند أو مكابر ، وسيأتى الوقت الذي يستبين فيه الحق ، ويتضح سبيل الرشاد ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) أي اللّه يجمع بيننا يوم القيامة ، فيقضى بيننا بالحق فيما اختلفنا فيه.
ونحو الآية قوله : « قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ » .
(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي وإليه المرجع والمعاد بعد مماتنا يوم الحساب ، فيجازى كل نفس بما كسبت « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » .
وهذه الأوامر والنواهي وإن وجهت فى الظاهر إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فهى له ولأمته كما هى القاعدة : أمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أمر لأمته إلا إذا ورد دليل على التخصيص.
[سورة الشورى (42) : الآيات 16 الى 18]
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)(25/29)
ج 25 ، ص : 30
تفسير المفردات
يحاجون فى اللّه : أي يخاصمون فى دينه ، استجيب له : أي استجاب الناس لدينه ودخلوا فيه لوضوح حجته ، داحضة : أي زائفة باطلة ، والميزان : العدل بين الناس ، يدريك : يعلمك ، الساعة : القيامة ، مشفقون : خائفون منها حذرون من مجيئها ، الحق : أي الأمر المحقق الكائن لا محالة ، يمارون : أي يجادلون وأصله من مريت الناقة : أي مسحت ضرعها للحلب ، إذ كل من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عز اسمه فيما سلف أن لا محاجة بين المشركين والمؤمنين لوضوح الحجة ، بين هنا أن الذين يخاصمون فى دين اللّه من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه أفواجا ، حجتهم فى الصرف عنه زائفة لا ينبغى النظر إليها ، وعليهم غضب من ربهم لمكابرتهم للحق بعد ظهوره ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة.
روى أن اليهود قالوا للمؤمنين : إنكم تقولون إن الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وتوراته مسلّمة بيننا وبينكم ، ونبوة محمد ليست كذلك ، وإذا فالأخذ باليهودية أولى ، فدحض سبحانه هذه الحجة بأن الإيمان بموسى إنما وجب لظهور المعجزات على يديه دالة على صدقه ، وقد ظهرت المعجزات على يدى محمد واليهود قد شاهدوها فوجب الاعتراف بنبوته.
ثم أردف ذلك تخويفهم بيوم القيامة حتى يستعدوا له ويتركوا المماراة بالباطل ، ثم ذكر أن المشركين يستعجلون به استهزاء وإنكارا لوجوده ، والمؤمنون خائفون(25/30)
ج 25 ، ص : 31
منه ، لعلمهم بالجزاء حينئذ ، ثم أعقب ذلك بذكر أن المماراة فى الساعة ضلال بيّن ، لتظاهر الأدلة على حصولها لا محالة.
الإيضاح
(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والذين يجادلون المؤمنين المستجيبين للّه ورسوله ، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى - حجتهم زائفة لا تقبل عند ربهم ، وعليهم غضب منه ، لأنهم ما روا فى الحق بعد ما تبين ، ولهم عذاب شديد يوم القيامة ، لتركهم الحق بعد أن وضحت محجته عنادا واستكبارا.
وقد سمى أباطيلهم التي لا ينبغى التعويل عليها - أدلة مجاراة لهم على زعمهم حتى يعاودوا النظر فيها ، لعلهم يرعوون عن غيهم ويثوبون إلى رشدهم.
(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ) أي اللّه أنزل كتبه على أنبيائه حاوية للحق الذي لا شبهة فيه ، بعيدة من الباطل الذي لا خير فيه ، وأنزل العدل ليقضى بين الناس بالإنصاف ، ويحكم بينهم بحكمه الذي أمر به فى كتابه.
ونحو الآية قوله : « لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ » .
ثم رغب سبحانه فى الآخرة وزهد فى الدنيا فقال :
(وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ؟ ) أي وأىّ شىء يعلمك لعل الساعة التي تقوم فيها القيامة تكون قد أزفت ؟ فعليك أن تتبع الكتاب وتواظب على العدل بين الناس ، واعمل بما أمرت به قبل أن يفجأك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى كل عامل جزاء عمله.
والمراد بذلك حث المؤمنين على اتباع نهج الشرع وترك مخالفته.(25/31)
ج 25 ، ص : 32
روى أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا متى الساعة ؟ استهزاء بها ، وتكذيبا لمجيئها ، فأنزل اللّه الآية ،
ويدل على ذلك قوله :
(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) استعجال استهزاء وإنكار ، وكانوا يقولون متى هى ؟ ليتها قامت حتى يظهر لنا ، أ نحن على الحق فنفوز بالنجاة ، أم محمد وأصحابه فنكون من الخاسرين ؟
وبعد أن بين حال المشركين فى شأنها ذكر حال المؤمنين بها فقال :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) أي والذين آمنوا خائفون منها وجلون من مجيئها ، لأنهم لا يدرون ما اللّه فاعل بهم ، وهم موقنون أنهم محاسبون ومجزيون على أعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كما أنهم يعلمون علم اليقين أن مجيئها حق لا ريب فيه ، فهم يستعدون له ويعملون من أجله.
ونحو الآية قوله : « وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ » .
روى « أن رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصوت جهورى وهو فى بعض أسفاره فقال يا محمد : فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بنحو من صوته (هاؤم) فقال له متى الساعة ؟ فقال له : إنها كائنة فما أعددت لها ؟ فقال حب اللّه ورسوله ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم : أنت مع من أحببت » .
ثم بين ضلال الممارين فيها فقال :
(أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي ألا إن الذين يجادلون فى وجودها ، ويدفعون وقوعها ، لفى جور عن طريق الهدى ، وزيغ عن سبيل الرشاد ، وبعد من الصواب ، لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى كما قال :
« وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ » .(25/32)
ج 25 ، ص : 33
[سورة الشورى (42) : الآيات 19 الى 22]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
تفسير المفردات
لطيف بعباده : أي هو برّ بهم يفيض عليهم من جوده وإحسانه ، حرث الآخرة :
ثمرات أعمالها تشبيها لها بالغلة الحاصلة من البذور ، حرث الدنيا : لذّاتها وطيباتها ، شركاء : أي فى الكفر وهم الشياطين ، شرعوا لهم : أي زينوا لهم ، ما لم يأذن به اللّه :
أي كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا فحسب ، كلمة الفصل : هى القضاء والحكم السابق منه بالنّظرة إلى يوم القيامة ، الروضة : مستنقع الماء والخضرة ، وروضات الجنات :
أطيب بقاعها وأنزهها.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سبق أنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على الدلائل الموصلة إلى السعادة ، وأن المتفرّقين فى الدين استوجبوا شديد العذاب ، لكنه أخره إلى يوم معلوم - أرشد هنا إلى أن ذلك من لطف اللّه بعباده ، ولو شاء لجعلهم فى عماية من أمرهم ، وتركهم فى ضلالهم يعمهون ، ولو شاء لعجل لهم العذاب. ثم بين أن من(25/33)
ج 25 ، ص : 34
يعمل للآخرة يرجو ثوابها يضاعف له فيها الجزاء إلى سبعمائة ضعف ، ومن يعمل للدنيا وجلب لذاتها يؤته ما يريد ، وليس له فى الآخرة نصيب من نعيمها ، ثم أعقب هذا بذكر ما وسوست به الشياطين للمشركين ، وزينت لهم به من الشرك باللّه وإنكار البعث إلى نحو ذلك ، ثم بين أنهم كانوا يستحقون العذاب العاجل على ذلك ، لكنه أجّله لما سبق فى علمه من إنظارهم إلى يوم معلوم ، ثم ذكر مآل كل من الكافرين والمؤمنين يوم القيامة ، فالأولون خائفون وجلون من جزاء ما عملوا ، والآخرون مترفون منعّمون.
الإيضاح
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) أي إنه برّ تعالى برّ بعباده يرسل إليهم أعظم المنافع ، ويدفع عنهم أكبر البلاء ، فيرزق البرّ والفاجر ، لا ينسى أحدا منهم ، ويوسع الرزق حلى من يشاء منهم ، ويقتّره على من يشاء ، ليمتحن الغنى بالفقير والفقير بالغنى ، وليحتاج مضر إلى بعض كما قال : « لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا » .
ونحو الآية قوله : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها » .
ثم ذكر ما هو كالعلة لذلك فقال :
(وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) أي وهو القادر على ما يشاء ، العزيز الذي لا يقدر أحد أن يمنعه عن شىء مما يريده.
وبعد أن أبان أن الرزق ليس إلا فى يده أتبعه بما يزهّد فى التكالب على طلب رزق البدن ، ويرغّب فى الجد فى طلب رزق الروح والسعى فى رفع منزلتها عند ربها ليرضى عنها فقال :
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة نوفقه لصالح الأعمال ونجزه بالحسنة عشر أمثالها إلى ما شاء اللّه.(25/34)
ج 25 ، ص : 35
(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) أي ومن كان سعيه موجها إلى شؤون الدنيا ، وطلب طيباتها واكتساب لذاتها ، وليس له همّ فى أعمال الآخرة - نؤته منها ما قسمناه له ، وليس له فى ثواب الآخرة حظ ، فالأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى ، قال قتادة : إن اللّه يعطى على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطى على نية الدنيا إلا الدنيا.
ونحو الآية قوله : « مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً » .
وقال ابن عباس : من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل اللّه له نصيبا فى الآخرة إلا النار ، ولم يزد بذلك من الدنيا شيئا إلا رزقا فرغ منه وقسم له.
وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وابن حبان عن أبىّ بن كعب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال « بشّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين فى الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له فى الآخرة من نصيب » .
و
أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبى هريرة قال : « تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) لآية ثم قال يقول اللّه : ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك » .
وعن علىّ كرم اللّه وجهه قال : الحرث حرثان : فحرث الدنيا المال والبنون ، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات.
ولما بين القسطاس الأقوم فى أعمال الآخرة وأعمال الدنيا أردفه التنبيه إلى ما هو الأصل فى باب الضلالة والشقاوة فقال :
(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي هم ما اتبعوا ما شرع اللّه(25/35)
ج 25 ، ص : 36
من الدين القويم ، بل اتبعوا ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، فحرّموا عليهم ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة ، وحللوا لهم أكل الميتة والدم والقمار إلى نحو أولئك من الضلالات والجهالات التي كانوا قد اخترعوها فى الجاهلية.
وقد ثبت فى الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « رأيت عمرو بن لحىّ بن قمنعة يجر قصبه - أمعاءه - فى النار »
لأنه أول من سيّب السوائب وحمل قريشا على عبادة الأصنام ، وكان أحد ملوك خزاعة.
وقصارى ذلك - إن الشيطان زين لهم الشرك والمعاصي والشرائع المضلة وإنكار البعث والعمل للدنيا.
ثم بين أنه رحمة بعباده أخّر عذاب المشركين ليوم معلوم ولم يعجله لهم فقال :
(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي ولو لا القضاء السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة لعوجلوا بالعذاب كما قال سبحانه : « بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ » .
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي وإن الظالمين أنفسهم بشرع ما لم يأذن به اللّه مما ابتدعوه من التحليل والتحريم - لهم عذاب شديد الإيلام فى جهنم وبئس المصير.
ثم ذكر أحوال أهل العقاب وأهل الثواب يوم القيامة مبتدئا بالأولين فقال :
(تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ) أي ترى الظالمين خائفين أشد الخوف مما كسبوا من السيئات وهو واقع بهم لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا.
وذكر الآخرين بقوله :
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ) أي والذين آمنوا باللّه وأطاعوه فيما أمر به ونهى عنه - لهم فى الآخرة روضات الجنات متمتعين بمحاسنها ولذاتها.(25/36)
ج 25 ، ص : 37
ثم بين ما يكون من النعيم فى تلك الروضات فقال :
(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي لهم ما يشاءون من فنون اللذات من مآكل ومشارب ومناظر مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
وبعدئذ بين خطر ذلك الفوز الذي ينالونه تفضلا من ربهم ورحمة فقال :
(ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) أي ذلك الذي أعطاهم ربهم من هذا النعيم وتلك الكرامة - هو الفضل الذي منّ به عليهم ، وهو الذي يفوق كل كرامة فى الدنيا من بعض أهلها على بعض.
[سورة الشورى (42) : الآيات 23 الى 26]
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)
تفسير المفردات
البشارة : الإخبار بحصول ما يسرّ فى المستقبل ، والقربى : التقرب ، يقترف :
أي يكتسب ، يختم على قلبك : أي يجعل قلبك من المختوم عليهم حتى تجترىء(25/37)
ج 25 ، ص : 38
على الافتراء ، يمحو : أي يزيل ، يحق : أي يثبت ، وكلماته : هى حججه وأدلته ، يستجيب الذين آمنوا : أي يجيب دعاءهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم فى روضات الجنات ، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرّة أعينهم رحمة من لدنه - ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة ببشارة منه لهم ، ثم أعقب هذا بأن أمر رسوله أن يقول لهم :
إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرا ، وإنما يطلب منهم التقرب إلى اللّه وحسن طاعته ، ثم رد عليهم قولهم : إن القرآن مفترى بأنه لا يفترى الكذب على اللّه إلا من كان مختوما على قلبه ، ومن سنن اللّه إبطال الباطل ونصرة الحق ، فلو كان محمد كذابا مفتريا لفضحه وكشف باطله ، ولكن أيده بالنصر والقوة ، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه للقرآن ، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه ، ويزيدهم من نعمه ، وأوعد الكافرين بشديد العقاب كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام.
الإيضاح
(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا الذي أخبرتكم بأنى أعددته فى الآخرة من النعيم والكرامة لمن آمن باللّه ورسوله وعمل صالح الأعمال - البشرى التي أبشركم بها فى الدنيا ، ليتبين لكم أنها حق وأنها كائنة لا محالة.
والخلاصة - إن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر اللّه به وترك ما نهى عنه - هم المبشرون بتلك البشارة.(25/38)
ج 25 ، ص : 39
وبعد أن ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم من هذه الأحكام التي اشتمل عليها كتابه - أمره أن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرا فقال :
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) أي قل لهم : لا أسالكم على تبليغ ما أبلغكم به من هذا لدين القويم نقعا منكم فى دنياى ، لكن أسألكم أن تودوا اللّه ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح ، قاله الحسن البصري ، ويدخل فى ذلك مودة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومودة قرابته ومودة ذوى القربى من المسلمين.
وقال ابن عباس : إلا أن تودونى فى نفسى لقرابتى منكم ، وتحفظوا القرابة التي بينى وبينكم. وعن الشعبي قال : أكثر الناس علينا فى هذه الآية « قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى » فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان واسط النسب فى قريش ، ليس بطن من بطونهم إلّا وله فيه قرابة فقال اللّه : قل لا أسألكم الآية ، أي أن تودونى لقرابتى منكم وتحفظوني بها.
وروى عن ابن عباس قال : « قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا ، فقال العباس لنا الفضل عليكم ، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأتاهم فى مجالسهم فقال : يا معشر الأنصار أ لم تكونوا أذلة فأعزكم اللّه ؟ قالوا بلى يا رسول اللّه ، قال أ فلا تجيبون ؟ قالوا ما نقول يا رسول اللّه ؟ قال أ لا تقولون : أ لم يخرجك قومك فآويناك ؟
ألم يكذبوك فصدقناك ؟ أ لم يخذلوك فنصرناك ؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب ، وقالوا أموالنا وما فى أيدينا للّه ورسوله فنزلت هذه الآية » ،
وعلى هذه الرواية فالآية مدنية ، والأصح أنها مكية.
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يعمل عملا فيه طاعة للّه ورسوله نزد له فيه أجرا وثوابا ، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما فوق ذلك فضلا منا ورحمة.(25/39)
ج 25 ، ص : 40
ونحو الآية قوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً » .
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي إنه تعالى يغفر الكثير من السيئات ، ويكثّر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر ، قال قتادة : غفور للذنوب ، شكور للحسنات.
ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى الرسول ووبخهم على مقالهم فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي أيقع فى قلوبهم ويجرى على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على اللّه وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها ؟
وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم ، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج الذي يعاضده الدليل ويؤيده البرهان - افتراء على اللّه واختلافا للكذب عليه - وفى ذلك أتم دلالة على بعده صلّى اللّه عليه وسلّم من الافتراء.
وخلاصة ذلك - إنهم قالوا إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه وليس بوحي من عند ربه كما يدّعى.
ثم زاد فى استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام والإنكار له على أتم وجه فقال :
(فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي فإن يشأ اللّه خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه ، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان فى مثل حالهم قد ختم اللّه على قلبه وأعمى بصيرته.
والخلاصة - إنه إن يشأ يجعلك منهم ، لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه.
وما أجمل هذا التعريض بأنهم مفترون ، وأنهم فى نسبة الافتراء إليه مفترون أيضا ، وشبيه بالآية قول أمين نسب إلى الخيانة : لعل اللّه خذلنى ، لعل اللّه أعمى بصيرتى -(25/40)
ج 25 ، ص : 41
لا يريد بمقالة إثبات الخذلان وعمى القلب ، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله ، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططا ، وأتى أمرا إدّا ، وقال قولا نكرا.
ثم أكد استبعاد الافتراء منه وزاده إيضاحا فقال :
(وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي كيف يكون منه الافتراء على اللّه ، وقد جرت سنته تعالى أن يمحو الباطل ويمحقه ويثبت الحق وينشره بين الناس ، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد كل يوم قوة وانتشارا ، فلو كان مفتريا كما تدّعون لكشف افتراءه ومحقه ، وقذف بالحق على باطله فدمغه.
وقد يكون المعنى - إن هذه عدة من اللّه لرسوله بالنصر ويكون المراد - يمحو اللّه باطلهم وما بهتوك به ، ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه الذي لا مرد له ، فيكون هذا كلاما معترضا بين ما قبله وما بعده مؤكدا لما سبق من الكلام من كونهم مبطلين فى نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثا.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تكنّه الضمائر ، وتنطوى عليه السرائر ، وتجرى الأمور بحسب علمه الواسع المحيط بكل شىء.
ثم امتنّ على عباده بقبول توبتهم إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال :
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما فرط منهم من الذنوب ، واقترفوا من السيئات.
والتوبة الندم على المعصية ، والإقلاع عنها ، والعزم على عدم العودة إليها ، وهذه شروط ثلاثة فيما بين العبد وربه ، فإذا كملت صحت التوبة ، وإن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة ، أما فيما يتعلق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حق صاحبها.(25/41)
ج 25 ، ص : 42
ومن علامات التوبة النصوح - صدق العزيمة على ترك الذنب ، وألا يجد له حلاوة فى قلبه عند ذكره.
وقد ورد فى الحضّ على التوبة كثير من الأحاديث فى الصحيحين وغيرهما ، فمن ذلك :
(1) ما رواه أبو هريرة من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم « للّه أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالّته فى المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش » .
(2) ما
رواه جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقال :
اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك وكبّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علىّ كرم اللّه وجهه :
إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة ، فقال :
يا أمير المؤمنين ما التوبة ؟ قال التوبة اسم يقع على ستة معان : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، وإذابتها فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة فى المستقبل ويعفو عن السيئات فى الماضي.
(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي ويعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان خيرا أو شرا ، فيجازى بالثواب والعقاب ، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وفى هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له وإمحاض التوبة.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه ، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء.
وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب أردف ذلك ما أعده للكافرين من العذاب فقال :(25/42)
ج 25 ، ص : 43
(وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) أي والكافرون يوم القيامة لهم عذاب مؤلم موجع ، فالمؤمنؤن قد تقبل دعاءهم وزادهم من فضله ، وهؤلاء لا يستجيب لهم دعاء « وما دعاء الكافرين إلّا فى ضلال » .
[سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 35]
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31)
وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
تفسير المفردات
البسط : السعة ، والبغي : الظلم ومجاوزة الحد ، بقدر : أي بتقدير يقال قدره قدرا وقدرا إذا قدّره ، والغيث : المطر ، وقنط : يئس ، ورحمته : هى منافع الغيث وآثاره التي تعم الحيوان والنبات والسهل والجبل ، والولي : هو الذي يتولى عباده(25/43)
ج 25 ، ص : 44
بالإحسان ، الحميد : أي المستحق للحمد على نعمه ، بث : نشر وفرّق ، والدابة : كل ماله دبيب وحركة ، على جمعهم : أي حين الحشر والحساب : بمعجزين : أي بجاعلين اللّه تعالى عاجزا بالهرب منه ، والجواري : أي السفن الجارية ، والأعلام : واحدها علم : وهو الجبل ، قالت الخنساء فى رثاء أخيها صخر :
وإن صخرا لتأتمّ الهداة به كأنه علم فى رأسه نار
يسكن الريح : أي يجعلها ساكنة لا تموج ، رواكد : أي ثوابت ، والصبار :
كثير الصبر وهو حبس النفس حين الشدائد عن الجزع وعن التوجه إلى من لا ينبغى التوجه إليه ، وشكور : أي كثير الشكر للنعم ، يوبقهن : أي يهلكهن يقال للمجرم أوبقته ذنوبه : أي أهلكته ، محيص : أي مهرب ومخلص.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه فيما سلف أنه يجيب دعاء المؤمنين إذا هم أنابوا إليه وأخبتوا ذكر هنا أنه لا يعظيهم كل ما يطلبون من الأرزاق ، بل ينزلها بقدر بحسب ما يعلم من مصلحتهم ، فإن كثرة الرزق تجعل الناس يتجبرون ويتكبرون ، واللّه هو الخبير بما يصلح حالهم من فقر وغنى.
قال خبّاب بن الأرت : فينا نزلت هذه الآية ، نظرنا إلى أموال بنى قريظة والنضير وبنى قينقاع فتمنيناها.
ثم أعقب هذا بأنهم إذا احتاجوا إلى الرزق لا يمنعه منهم وهو المتولى أمورهم بإحسانه ، المحمود على ما يوصل للخلق من صنوف الرحمة ، ثم أقام الأدلة على ألوهيته يخلقه للسموات والأرض وما فيهما من الحيوان ، ثم جمعهم للحساب يوم القيامة ، ثم ذكر أن ما يصيب الإنسان من نكبات الدنيا من الأمراض والأسقام والفقر والغنى فيكسب الإنسان واختياره كما دلت على صدق ذلك التجارب ، ثم أعقب ذلك بآية أخرى على(25/44)
ج 25 ، ص : 45
ألوهيته وهى جريان السفن فى البحار ، فتارة يجعل الريح ساكنة فتظل السفن على سطحها ، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها أو تنجو بحسب تقديره تعالى.
الإيضاح
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان وطلب ما ليس لهم طلبه ، لأن الغنى مبطرة مأشرة ، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة لمن اعتبر ، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم وهو أعلم بحالهم ، فيغنى من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر بحسب ما يعلم من المصلحة فى ذلك كما
ورد فى الأثر « إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى ، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر ، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه » .
والخلاصة - إنه تعالى خبير بما يصلح عباده من توسيع الرزق وتضييقه ، فيقدر لكل منهم ما يصلحه ، فيبسط ويقبض ، ويعطى ويمنع ، ولو أغناهم جميعا لبغوا ، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.
فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم الجامع بين الأمرين ، فخوف الأغنياء يزعهم عن الظلم ، وخوف الفقراء من الأغنياء يدعوهم إلى التعاون معهم ، ليفوزوا بمبتغاهم ويزعهم عن البغي.
عن أبى هانىء الخولاني قال : سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون : « إنما نزلت هذه الآية فى أهل الصّفّة ، فإنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا » . رواه السيوطي بسند صحيح.(25/45)
ج 25 ، ص : 46
قال قتادة : كان يقال : خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك.
وبعد أن بين أنه لا يعطى عباده ما زاد على حاجتهم ، لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم فى دينهم - ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث فهو لا يمنعه عنهم فقال :
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو الذي ينزل المطر من السماء فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه ، وينشر بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب ، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته.
قال قتادة : ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضى اللّه عنه : قحط المطر وقنط الناس يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : مطرتم ثم قرأ الآية.
ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال :
(وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر - خلق السموات والأرض وما نشر فيهما من دابة تدبّ وتتحرك ، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم.
(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي وهو يجمعهم يوم القيامة ، فيجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل وهو اللطيف الخبير.
وقصارى ذلك - إنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه ، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه.
ثم ذكر دستورا للناس فى أعمالهم إذا تأملوه أفعلوا عما يرتكبونه من الآثام فقال :
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي وما يحل بكم أيها الناس من المصايب فى الدنيا ، فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم(25/46)
ج 25 ، ص : 47
من الآثام ، واقترفتم من الشرور والمعاصي ، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم فلا يعاقبكم بها.
فاللّه سبحانه جعل الذنوب أسبابا لها نتائجها ومسبباتها : فشارب الخمر يصاب بكثير من الأمراض الجسمية والعقلية فى الدنيا وهى أثر من آثار ما اجترح من الذنب. والتاجر غير الأمين أو الكذاب تصاب تجارته بالكساد ويشهر بين الناس بالخيانة فيحجمون عن معاملته. والحكام المرتشون الظلمة الذين يجمعون أموالهم بالسحت يصابون بالفقر والعدم ويصبحون مثلا بين الناس ، وإن لم يصبهم الفقر بصب أولادهم فيصبحوا بحال يرثى لها ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة. والأمم الظالمة التي لا تناصر بين أفرادها ، بل بينها التقاطع ، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر ، تصاب بالمهانة بعد العظمة والذلة بعد العزة ، وما الأمثال فى ذلك بعزيزة ، فها هى ذى الأمم الشرقية إنما أصابها ما أصابها من الضعف والخمول والاضمحلال ثم الزوال من صفحة الوجود بما اجترحت من ظلم وإفساد فى الأرض ، وأكل بعضها أموال بعض واحتجان عظمائها الأموال فى خزائنهم ، وابتزازها من أيدى الضعفاء وقد اقتص اللّه لهم منهم ، فأضاع ملكهم ، وأذهب ريحهم ، وجعلهم لقمة سائغة للمستعمرين الذين تحكموا فيهم وجعلوهم كالعبيد ، يتصرفون فيهم بحسب أهوائهم ، وما تمليه عليهم مصالحهم ، وما يدرّ عليهم الخير لبلادهم وشعوبهم.
وفى هذا عبرة لمن ادّكر ، وقد تقدم أن قلنا فى غير موضع إن عقاب الأفراد فى الدنيا ليس بالمطرد ، إذ كثيرا ما نرى سكيرا عربيدا لا يصاب بأذى مما يفعل ، ونرى تاجرا يخون الأمانة ولا يصاب بكساد فى تجارته ، وحينئذ يكون عقاب كل منهما مؤجلا ليوم الحساب إن شاء ربك عاقب ، وإن شاء عفا بعد التوبة عما فرط منهما من الذنوب والآثام.
أما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات فهو محقق فى الدنيا ، ولدينا عظة التاريخ فى القديم والحديث ، فما من أمة تركت أوامر دينها وخالفت نواميس العمران ،(25/47)
ج 25 ، ص : 48
إلا زالت وصارت كأمس الدابر ، وأصبحت عبرة للباقين ، ومثلا للآخرين ، فالرومان والفرس والعرب فى الشرق وفى الأندلس والترك - مثل ماثلة أمامنا تجلّى لنا تلك القضية « فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ » .
ونحو الآية قوله تعالى : « وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ »
وفى الحديث الصحيح « والذي نفسى بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفر اللّه عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها » .
ولما نزلت هذه الآية
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو اللّه عنه أكثر » .
وروى الترمذي وجماعة عن علىّ كرم اللّه وجهه قال : « أ لا أخبركم بأفضل آية فى كتاب اللّه حدثنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا على : ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت أيديكم ، واللّه أكرم من أن يثّنى عليكم العقوبة فى الآخرة ، وما عفا اللّه تعالى عنه فى الدنيا فاللّه أكرم من أن يعود بعد عفوه »
والآثار فى هذا الباب كثيرة.
والخلاصة - إنه يكفّر عن العبد بما يصيبه من المصايب ، ويعفو عن كثير من الذنوب وقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان فى الدنيا يؤجر عليه أو يكفّر عنه من ذنوبه.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي وإنكم لا تعجزون اللّه حيثما كنتم ، فلا تسبقونه بهربكم منه فى الأرض حتى لا تنالكم المصايب ، بل هى لا حقة بكم أينما تكونوا ، والخلاصة - إن ما قضاه اللّه عليكم واقع بكم لا محالة ولا مفرّ منه.(25/48)
ج 25 ، ص : 49
وبعد أن نفى المهرب مما قدّر نفى النصير والمعين الذي يمنع حلول المقدور فقال :
(وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لكم من دون اللّه ولىّ يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم ، ولا لكم نصير ينصركم إذا هو عاقبكم ، فينتصر لكم ، فاحذروا معاصيه واتقوا مخالفة أوامره ، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده.
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات عظمته الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال :
(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن دلائل قدرته ، وباهر حكمته ، وعظيم سلطانه - تسخيره البحر لتجرى فيه الفلك بأمره كالجبال الشاهقة ، والمدن العالية.
(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ اللّه الذي قد أجرى هذه السفن فى البحر ألا تجرى فيه. أسكن الريح التي تجرى بها ، فتثبت فى موضع واحد وتقف على ظهر الماء لا تتقدم ولا تتأخر.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتى فقال :
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى جرى هذه الجواري فى البحر بقدرته تعالى - لحجة بينة على قدرته على ما يشاء ، لكل ذى صبر على طاعته ، شكور لنعمه وأياديه عنده.
والمؤمن إذا كان فى ضراء كان من الصابرين ، وإذا كان فى سرّاء كان من الشاكرين ، وقال عون بن عبد اللّه : فكم من منعم عليه غير شاكر ، وكم من مبتلى غير صابر ، وقال قطرب : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر ، وإذا ابتلى صبر. وقد قيل : الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق السفن بذنوب راكبيها ، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم ، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها لأهلك كل من ركب البحر ..
(4 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/49)
ج 25 ، ص : 50
والخلاصة - إنه لو شاء أسكن الريح فوقفت السفن رواكد على ظهر البحر ، ولو شاء لأرسلها عاتية قويّة فاخرتها عن سيرها ، وصرّفتها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا تصل إلى مقصد حتى تغرق ، ولكن من رحمته ولطفه يرسلها بقدر الحاجة لينتفع بها الملاحون لقضاء أوطارهم.
(وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي وليعلم الذين ينازعون فى آياتنا على جهة التكذيب لها أنه لا مخلص لهم إذا وقفت السفن أو إذا عصفت الريح ، فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن النافع الضارّ ليس إلا اللّه تعالى.
[سورة الشورى (42) : الآيات 36 الى 39]
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
تفسير المفردات
آتاه الشيء : أعطاه إياه ، والمتاع : ما ينتفع ويتمتع به من رياش وأثاث ونحوهما ، يتوكلون : يفوّضون إليه أمورهم ، كبائر الإثم : هى كل ما يوجب حدّا ، والفواحش :
هى ما فحش وعظم قبحه كالزنا والقتل ونحوهما ، واستجابوا : أي أجابوا داعى اللّه ، فأدّوا فرائضه ، وتركوا نواهيه ، والشّورى والمشاورة : المراجعة فى الآراء ، ليتبين الصواب منها ، والبغي : الظلم ، ينتصرون : أي ينتقمون.(25/50)
ج 25 ، ص : 51
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل توحيده وعظيم قدرته وسلطانه بخلق السموات والأرض وجرى السفن ماخرات فى البحار - أردف ذلك التنفير من الدنيا وزخرفها ، لأن المانع من النظر فى الأدلة إنما هو الرغبة فيها طلبا للرياسة والجاه ، فإذا صغرت الدنيا فى عين المرء لم يلتفت إليها ، وانتفع بالأدلة ووجّه النظر إلى ملكوت السموات والأرض ، ثم أبان أن ما عند اللّه خير لمن آمن به ، وتوكل عليه ، واجتنب كبائر الذنوب والفواحش ، وكان منقادا له مطيعا لأوامره ، تاركا لنواهيه ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، ولم يبرم أمرا إلا بعد مشورة ، وانتصر لنفسه ممن ظلمه.
الإيضاح
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وكل ما تعطونه أيها الناس من الغنى والسعة فى الرزق والمال والبنين ، فهو متاع قليل ، تتمتعون به فى مدى قصير ، يذهب وينقضى ، وللّه در القائل :
إنما الدّنيا فناء ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت نسجته العنكبوت
وفى هذا تحقير لشأن هذه الحياة وزينتها وما فيها من النعيم الزائل.
ثم رغبهم فى ثواب الآخرة وما عند اللّه من النعيم المقيم فقال :
(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي وما عند اللّه من الثواب والنعيم خير من زهرة الدنيا ، لأنه باق سرمدىّ ، وما فيها زائل فان ، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني.
ثم بين أنه لا يكون خيرا إلا لمن اتصف بصفات :
(1) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صدقوا اللّه وآمنوا برسوله.(25/51)
ج 25 ، ص : 52
(2) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وعلى من ربّاهم على إحسانه يعتمدون ، ويفوضون إليه أمورهم ، ولا يلتفتون إلى غيره فى مهامّ أمورهم. روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى اللّه عنه حين تصدق بماله فلامه المسلمون وخطأه الكافرون.
(3) (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي والذين يتباعدون عن ارتكاب كبائر الآثام كالقتل والزنا والسرقة ، وعن الفواحش التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم ، من قول أو فعل.
(4) (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم ، إذ من سجاياهم الصفح والعفو ، وليس من طباعهم الانتقام وقد ثبت فى الصحيح « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تتهك حرمات اللّه » .
(5) (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه ، من توحيده والبراءة من عبارة كل ما يعبد من دونه.
(6) (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة فىأوقاتها على أكمل وجوهها ، وخص الصلاة من بين أركان الدين ، لما لها من الخطر فى صفاء النفوس ، وتزكية القلوب ، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(7) (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم ، ليقتلوه بحثا وتمحيصا ، ولا سيما الحروب ونحوها.
وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يشاور أصحابه فى الكثير من الأمور ، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام ، لأنها منزلة من عند اللّه ، أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها ، ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى تولية أبى بكر ، وتشاوروا فى قتال من ارتدوا بعد وفاة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فاستقرّ رأى أبى بكر على القتال ، وقد كان فيه الخيرة للاسلام والمسلمين ، وشاور عمر رضى اللّه عنه الهرمزان حين وقد عليه مسلّما.(25/52)
ج 25 ، ص : 53
ونحو الآية قوله : « وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن العربي : الشورى ألفة للجماعة ، وصقال للعقول ، وسبب إلى الصواب ، وما تشاور قوم قط إلا هدوا. ولأمر ما أصبحت الحكومات فى العصر الحاضر لا تبتّ فى مهام الأمور إلا إذا عرضت على مجالس الشورى (البرلمان - مجلس الشيوخ والنواب) وكأنى بك قد سمعت قول بشار بن برد فى فوائد الشورى :
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن برأى لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة قريش الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغلّ أختها وما خير كف لم تؤيد بقائم
(8) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما آتاهم ربهم فى سبل الخير ، والبذل فيما فيه منفعة للفرد والمجتمع ، ورفعة الأمة وعلوّ شأنها وعزها.
(9) (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي والذين إذا بغى عليهم باغ ينتصرون ممن ظلمهم من غير تعدّ عليه.
والمؤمنون فريقان :
(1) فريق يعفو اتباعا لقوله تعالى : « وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى » وقوله :
« خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ » وقوله : « وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ » .
(ب) فريق ينتصر ممن ظلمه وهو المذكور فى هذه الآية.
والخلاصة - إن العفو ضربان :
(1) ضرب يكون فيه العفو سببا لتسكين الفتنة ، وتهدئة النفوس ، ومنع استفحال الشر ، وهذا محمود وحثت عليه الآيات الكريمة التي ذكرت آنفا.
(2) ضرب يكون فيه العفو سببا لجراءة الظالم وتماديه فى غيّه ، وهذا مذموم وعليه تحمل الآية التي نحن بصدد تفسيرها.(25/53)
ج 25 ، ص : 54
فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ، والانتصار من المخاصم المصرّ على جرمه والمتمادى فى غيّه محمود ، وإلى هذا أشار المتنبي بقوله :
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فوضع الندى فى موضع السيف بالعلا مضرّ كوضع السيف فى موضع الندى
[سورة الشورى (42) : الآيات 40 الى 43]
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
تفسير المفردات
السيئة : مأخوذة من السوء ، وهو القبيح ، وانتصر : أي سعى فى نصر نفسه بجهده ، من سبيل : أي من عقاب ولا عتاب ، لمن عزم الأمور : أي لمن الأمور المشكورة والأفعال التي ندب إليها عباده ، ولم يرخّص بالتهاون فيها.
المعنى الجملي
بعد أن مدح فيما سلف الذين ينتصرون لأنفسهم ممن بغى عليهم - أردف ذلك ما يدل على أن ذلك الانتصار مقيد بالمثل ، لأن النقصان حيف ، والزيادة ظلم ، والتساوي هو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، ثم ندب إلى العفو والإغضاء(25/54)
ج 25 ، ص : 55
عن الزلات ، ثم ذكر أنه لا مؤاخذة على من ينتصر لنفسه ، وإنما المؤاخذة على من يظلم الناس ، ويبغى فى الأرض بغير الحق ، وأن الصبر وغفران السيئة مما حث عليه الدين ، وأجزل ثواب فاعله.
الإيضاح
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) أي وجزاء سيئة المسيء عقوبته بما شرعه اللّه من عقوبة مماثلة لجرمه ، وسمى هذا الجزاء سيئة مع أنه عقوبة مشروعة من اللّه مأذون بها ، لأنها تسوء من تنزل به كما قال تعالى فى آية أخرى : « وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ » يريد ما يسوءهم من المصايب والبلايا.
وفى الآية حثّ على العفو ، لأن الانتصار إنما يحمد إذا حصلت المماثلة فى الجزاء ، وتقديرها عسر شاقّ ، وربما صار المظلوم حين استيفاء القصاص ظالما.
ونحو الآية قوله : « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » وقوله : « وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ » وقوله « وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها » .
وقد أمر صلّى اللّه عليه وسلّم بردّ الشتم على الشاتم.
أخرج النسائي وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة قالت : « دخلت علىّ زينب وعندى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأقبلت علىّ تسبنى فردعها النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فلم تنته ، فقال لى سبيها ، فسبيتها حتى جفّ ريقها فى فمها ، ووجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يتهلل سرورا » .
وكان هذا بمنزلة التعزيز منه لزينب بلسان عائشة ، لما أن لها حقا فى الرد وقد رأى فيه المصلحة.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : المستبّان ما قالا من شىء فعلى البادي حتى يعتدى المظلوم ثم قرأ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) »(25/55)
ج 25 ، ص : 56
وقصارى ذلك - إن كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا ، لأن إهدارها يوجب فتح باب الشرور والمفاسد ، إذ فى طبع الإنسان الظلم والبغي والعدوان ، فإذا لم يزدجر عنه تمادى فيه ولم يتركه ، والزيادة على قدر الذنب ظلم ، والشرائع تتنزه عن ذلك ، ومن ثم شرع اللّه القصاص ، وندب إلى الفضل وهو العفو فقال :
« وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ » وجاء تتمة لهذه الآية.
(فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي فمن عفا عن المسيء وأصلح ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والإغضاء عما صدر منه ، فأجره على اللّه ، فيجزيه أعظم الجزاء.
وفى إبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه زيادة فى الترغيب فى العفو والحثّ عليه.
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة أمر اللّه مناديا ينادى : ألا ليقم من كان له على اللّه أجر فلا يقوم إلا من عفا فى الدنيا وذلك قوله : (فَمَنْ عَفا) الآية » .
ثم ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هى سبب الفوز والنجاة فقال :
(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أي إنه تعالى لا يحب المتجاوزين الحد فى الانتقام ، وفى هذا تصريح بما تضمنه سالف الكلام من حسن رعاية طريق المماثلة وأنها قلّما تخلو من الاعتداء والتجاوز عن الواجب ، ولا سيما حال الحرد والتهاب الحميّة ، وحينئذ يدخل المنتقمون فى زمرة من لا يحبهم اللّه.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أي واللّه لمن انتصر ممن ظلمه بعد ظلمه إياه ، فأولئك المنتصرون لا سبيل للمنتصر منهم أن يوجهو إليهم عقوبة ولا أذى لأنهم انتصروا منهم بحق ، ومن أخذ حقه ممن وجب له عليه ولم يتعدّ - لم يظلم فلا سبيل لأحد عليه.(25/56)
ج 25 ، ص : 57
ولما نفى السبيل على من انتصر بعد ظلمه بيّن من عليه السبيل فقال :
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) أي إنما الحرج والإثم على الذين يبدءون الناس بالظلم ، أو يزيدون فى الانتقام ويتجاوزون ما حدّ لهم ، أو يتكبرون فى الأرض تجبرا وفسادا.
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي هؤلاء لهم عذاب مؤلم بسبب بغيهم وظلمهم.
ثم رغب سبحانه فى الصبر والعفو فقال :
(وَ لَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي ولمن صبر عن الانتصار من غير انتقام ولا شكوى ، وستر السيئة ، فقد فعل ما يشكر عليه ، ويستحق به الأجر وجزيل الثواب.
روى « أنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لأبى بكر : يا أبا بكر ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها إلا أعزه اللّه تعالى بها ونصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده اللّه بها كثرة. وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده اللّه عزّ وجلّ بها قلة » .
[سورة الشورى (42) : الآيات 44 الى 46]
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)(25/57)
ج 25 ، ص : 58
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق لهم عذاب أليم على ما اجترحوا من البغي والعدوان بغير الحق - أردف ذلك بيان أن من أضله اللّه فلا هادى له ، وأن الكافرين حين يرون العذاب يوم القيامة يطلبون الرجوع إلى الدنيا ، وأنهم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء ينظرون من طرف خفى ، وأن الذين آمنوا يقولون إن الكافرين لفى خسران فقد أضاعوا النفس والأهل ، ولا يجدون لهم ناصرا يخلصهم مما هم فيه من العذاب.
الإيضاح
(وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي إنه ما شاء اللّه كان ولا رادّ له ، وما لم يشأ لم يكن ، فمن هداه اللّه فلا مضل له ، ومن يضلله فلا هادى له.
والخلاصة - إن من خذله اللّه لسوء استعداده وتدسيته نفسه باجتراح الآثام والمعاصي ، فليس له من ولىّ يهديه إلى سبيل الرشاد ، ويوصله إلى طريق الفوز والفلاح.
ونحو الآية قوله : « وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً » .
ثم ذكر تمنى الكافرين الرجوع إلى الدنيا فقال :
(وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ؟ ) أي وترى الكافرين باللّه حين يعاينون العذاب يوم القيامة يتمنّون الرجعة إلى الدنيا ويقولون :
هل من رجعة لنا إليها ؟
ونحو الآية قوله : « وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » .(25/58)
ج 25 ، ص : 59
ثم ذكر حالهم حين يعرضون على النار فقال :
(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) أي وتراهم أيضا فى ذلك اليوم يعرضون على النار وهم خاشعون أذلاء (لأنهم عرفوا ذنوبهم وتكشفت لهم عظمة من عصوه) يسارقون النظر إليها خوفا منها ، وحذرا من الوقوع فيها ، كما ينظر من قدّم للقتل إلى السيف ، فلا يقدر أن يملأ عينيه منه ، وإنما ينظر ببعضها.
ولما وصف حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال :
(وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي ويقول المؤمنون يوم القيامة : إن المغبونين غبنا لا غبن بعده - هم الذين خسروا أنفسهم ، فأدخلوا فى النار ، وحرموا نعيم الأبد ، وفرّق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم وذوى قراباتهم.
ثم صدّقهم ربهم فيما قالوا فقال :
(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) أي ألا إن الكافرين لفى عذاب سرمدىّ ، لا مهرب لهم منه ولا خلاص ، ثم أيأسهم من الفكاك منه بأى سبيل فقال :
(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي ولا يجدون لهم أعوانا وأنصارا ينقذونهم مما حل بهم من العذاب ، فأصنامهم التي كانوا يعبدونها لتشفع لهم لا تستطيع أن تتقدم إليهم بشفاعة.
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) أي ومن يضلله اللّه لما علم من استعداده للشر والفساد وارتكاب الشرور والآثام فلا سبيل له إلى الوصول إلى الحق فى الدنيا ولا إلى الجنة فى الآخرة.(25/59)
ج 25 ، ص : 60
[سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
تفسير المفردات
استجيبوا لربكم : أي أجيبوه إذا دعاكم إلى ما فيه نجاتكم ، لا مردّ له : أي لا يرده أحد بعد ما حكم به ، ملجأ : أي ملاذ تلجئون إليه ، نكير : أي إنكار وجحود لما اقترفتم ، حفيظا : أي محاسبا لأعمالهم رقيبا عليها ، رحمة : أي نعمة من صحة وغنى ، سيئة : أي بلاء من فقر ومرض وخوف ، كفور : نسّاء للنعمة ذكّار للبلية ، يزوجهم أي يجعلهم جامعين بين البنين والبنات ، عقيما : أي لا يولد له.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما سيكون يوم القيامة من الأهوال وعظائم الأمور - حذر من هذا اليوم فبين أن الكافرين لا يجدون حينئذ ملجأ يقيهم من عذاب اللّه ، ولا ينكرون ما اقترفوه ، لأنه مكتوب فى صحائف أعمالهم ، ثم أرشد رسوله إلى أنهم إن أعرضوا عن دعوتك ، فلا تأبه بهم ، ولا تهتم بشأنهم ، ثم أعقب هذا بذكر طبيعة الإنسان ، وأنه يفرح حين النعمة ، ويجحد نعم ربه حين الشدة ، ثم قسم هبته لعباده فى النسل(25/60)
ج 25 ، ص : 61
أربعة أقسام ، فمنهم من وهب الإناث ، ومنهم من وهب الذكران ، ومنهم من أعطى الصّنفين ، ومنهم العقيم الذي لا نسل له.
الإيضاح
(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ) أي أجيبوا داعى اللّه وهو رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، وآمنوا به ، واتبعوه فيما جاءكم به من عند اللّه ، من قبل أن يأتى يوم لا يستطيع أحد أن يرده إذا جاء به اللّه.
(ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا يستطيعون إنكار ما اجترحتموه من السيئات ، لأنه قد كتب فى صحفكم ، وتشهد به ألسنتكم وجوارحكم.
ونحو الآية قوله تعالى : « يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ؟ كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ » .
(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) أي فإن أعرض هؤلاء المشركون عما أتيتهم به من الحق ، ودعوتهم إليه من الرشد ، ولم يستجيبوا لك ، وأبوا قبوله منك ، فدعهم وشأنهم ، فإنا لم نرسلك رقيبا عليهم تحفظ أعمالهم وتحصيها ، فما عليك إلا أن تبلغهم ما أرسلناك به إليهم ، فإذا أنت بلّغته فقد أديت ما كلّفت به.
ونحو الآية قوله : « لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ » وقوله : « لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » وقوله : « فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ » .
وبعدئذ ذكر طبيعة الإنسان وغريزته فى هذه الحياة فقال :
(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) أي وإنا إذا أغنينا ابن آدم فأعطيناه من لدنا سعة فى الرزق أو فى الصحة أو فى الأمن سرّ بما آتيناه ، وإن أصابته فاقة أو مرض بما أسلف من(25/61)
ج 25 ، ص : 62
معصية ربه جحد نعمتنا وأيس من الخير ، والإنسان من طبعه الجحد والكفران بالنعم حين الشدة.
والخلاصة - إن الإنسان إن إصابته نعمة أشر وبطر ، وإن ابتلى بمحنة يئس وقنط.
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه خالق السموات والأرض ومالكهما والمتصرف فيهما ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو يعطى من يشاء ويمنع من يشاء ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع.
(يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) أي يخلق ما يشاء فيرزق من يشاء البنات فحسب ، ويرزق من يشاء البنين فحسب ، ويعطى من يشاء الزوجين الذكر والأنثى ، ويجعل من يشاء لا نسل له.
وفى هذا إيماء إلى أن الملك من غير منازع ولا مشارك ، يتصرف فيه كيف يشاء ، ويخلق ما يشاء ، فليس لأحد أن يعترض أو يدبر بحسب هواه ، وتصرفه لا يكون إلا على أكمل وجه وأتم نظام ، وقد قيل : ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي إنه عليم بمن يستحق كل نوع من هذه الأنواع ، قدير على ما يريد أن يخلق ، فيفعل ما يفعل بحكمة وعلم.
[سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53]
وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)(25/62)
ج 25 ، ص : 63
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه تقسيم النعم الجسمانية التي يهبها لعباده - أردفها تقسيم النعم الروحية ، وأبان أن الناس محجوبون عن ربهم ، لأنهم فى عالم المادة وهو منزه عنها ، ولكن من رقّ حجابه ، وخلصت نفسه ، وأصبح فى مقدوره أن يتصل بالملإ الأعلى يستطيع أن يكلم ربه على أحد أوجه ثلاثة :
(1) أن يحس بمعان تلقى فى قلبه ، أو يرى رؤيا منامية كرؤيا الخليل إبراهيم عليه السلام ذبح ولده.
(2) أن يسمع كلاما من وراء حجاب كما سمع موسى عليه السلام من غير أن يبصر من يكلمه ، فهو قد سمع كلاما ولم ير المتكلم.
(3) أن يرسل إليه ملكا فيوحى ذلك الملك ما يشاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثم ذكر أنه كما أوحى إلى الأنبياء قبله أوحى إليه القرآن وما كان قبله يعلم ما القرآن وما الشرائع التي بها هداية البشر وصلاحهم فى الدارين.(25/63)
ج 25 ، ص : 64
الإيضاح
(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ) أي وما ينبغى لبشر من بنى آدم أن يكلمه ربه إلا بإحدى طرق ثلاث :
(1) (إِلَّا وَحْياً) أي إلا أن يوحى إليه وحيا أي يكلمه كلاما خفيا بغير واسطة بأن يقذف فى روع النبي شيئا لا يتمارى فيه أنه من اللّه عز وجل كما
روى ابن حبان فى صحيحه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إن روح القدس نفث فى روعى :
إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا اللّه وأجملوا فى الطلب » .
(2) (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي أو إلا من طريق لا يرى السامع المتكلم جهرة مع سماعه للكلام كما كلم موسى عليه السلام ربه.
(3) (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي أو يرسل اللّه من ملائكته رسولا إما جبريل أو غيره فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه ما يشاء ربه أن يوحيه إليه من أمر ونهى كما كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى غيره من الأنبياء.
روى البخاري فى صحيحه عن عائشة رضى اللّه عنها أن الحرث بن هشام رضى اللّه عنه سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : « يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحى ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشده علىّ فيفصم عنى وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى فأعى ما يقول » قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه ليتفصد (يسيل) عرقا » .
(إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي إنه علىّ عن صفات المخلوقين يفعل ما تقتضيه حكمته ، فيكلمه تارة بواسطة ، وتارة بغير واسطة إما إلهاما وإما خطابا من وراء حجاب.(25/64)
ج 25 ، ص : 65
وبعد أن بين أقسام الوحى ذكر أنه أوحى إلى رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم كما أوحى إلى الأنبياء قبله فقال :
(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا)
أي وكما أوحينا إلى سائر رسلنا أوحينا إليك هذا القرآن رحمة من عندنا.
ثم بين حال نبيه قبل نزول الوحى بقوله :
(ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) أي ما كنت قبل الأربعين وأنت بين ظهرانى قومك تعرف ما القرآن ولا تفاصيل الشرائع ومعالمها على النهج الذي أوحينا به إليك.
(وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) أي ولكن جعلنا هذا القرآن نورا عظيما نهدى به من نشاء هدايته من عبادنا ، ونرشده إلى الدين الحق.
ونحو الآية قوله : « قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى » الآية.
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي وإنك لتهدى بذلك النور من تشاء هدايته إلى الحق القويم.
ثم فسر هذا الصراط بقوله :
(صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي هذا الطريق هو الطريق الذي شرعه اللّه مالك السموات والأرض والمتصرف فيهما ، والحاكم الذي لا معقّب لحكمه.
(أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي ألا إن أمور الخلائق يوم القيامة تصير إلى اللّه لا إلى غيره ، فيضع كلا منهم فى موضعه الذي يستحقه من نعيم أو جحيم.
وفى هذا وعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم ، ووعيد للظالمين.
(5 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/65)
ج 25 ، ص : 66
خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة من الموضوعات
(1) إنزال الوحى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم.
(2) اختلاف الأديان ضرورى للبشر.
(3) أصول الشرائع واحدة لدى جميع الرسل.
(4) اختلاف المختلفين فى الأديان بغى وعدوان منهم.
(5) إنكار نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم بعد أن قامت الأدلة على صدقه.
(6) استعجال المشركين لمجىء الساعة وإشفاق المؤمنين منها.
(7) من يعمل للدنيا يؤت منها وماله حظ فى الآخرة ، ومن يعمل للآخرة يوفقه اللّه للخير.
(8) ينزل اللّه الرزق بقدر بحسب ما يرى من المصلحة.
(9) من الأدلة على وجود الخالق خلق السموات والأرض وجرى السفن فى البحار.
(10) متاع الآخرة خير وأبقى من متاع الدنيا.
(11) جزاء السيئة سيئة مثلها ، فمن عفا وأصلح فأجره على اللّه.
(12) يتمنى المشركون يوم القيامة العودة إلى الدنيا حين يرون العذاب.
(13) إذا عرض المشركون على النار نظروا إليها من طرف خفىّ وهم خاشعون أذلاء.
(14) ليس على الرسول إلا البلاغ.
(15) يهب اللّه لمن يشاء الإناث ويهب لمن يشاء الذكور ، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما.
(16) أقسام الوحى إلى البشر.
(17) الرسول قبل الوحى ما كان يدرى شيئا من الشرائع.(25/66)
ج 25 ، ص : 67
سورة الزخرف
هى مكية إلا آية 45 فإنها نزلت بالمدينة ، قاله مقاتل ، وآياتها تسع وثمانون ، نزلت بعد الشورى.
ووجه مناسبتها ما قبلها أن مفتتح هذه يشاكل مختتم تلك.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
تفسير المفردات
الكتاب : هو القرآن ، المبين : أي الموضح لطريق الهدى المبعد من الضلالات ، لعلكم تعقلون : أي لكى تفهموه وتحيطوا بما فيه ، أمّ الكتاب : هو علم اللّه الأزلى ، حكيم :
أي ذو حكمة بالغة ، يقال ضربت عنه وأضربت عنه : أي تركته ، والذكر : أي القرآن ، صفحا : أي إعراضا ، مسرفين : أي منهمكين فى كفركم وتوليكم عن الحق ، بطشا :
أي قوة وجلدا ، مضى : أي سلف ، والمثل : الصفة.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بكتابه المبين لطريق الهدى إنه جعل هذا القرآن بلغة العرب لغة قومك ليفقهوا معناه ويحيطوا به خبرا ، وإنه محفوظ فى علمه تعالى فليس هو من عند(25/67)
ج 25 ، ص : 68
محمد كما تدّعون ، وإننا لن نترك تذكيركم به لأجل إعراضكم عنه ، وانهماككم فى الكفر به ، رحمة منا ولطفا بكم ، ثم حذّرهم وأنذرهم بأن كثيرا من الأمم قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة - كذبوا رسلهم فكان عاقبتهم ما رأيتم ، وحل بهم ما تشاهدون آثاره.
الإيضاح
(حم) تقدم الكلام فى مثل هذا من قبل (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) أي والقرآن المبين لطريق الهدى والرشاد ، الموضح لما يحتاج إليه البشر فى دنياهم وآخرتهم ليفوزوا بالسعادة ، فمن سلك سبيله فاز ونجا ، ومن تنكّب عنه خاب سعيه ، وضل سواء السبيل.
(إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي إنا أنزلناه قرآنا عربيا إذ كنتم أيها المنذرون به عربا ، لتعقلوا ما فيه من عبر ومواعظ ، ولتتدبروا معانيه ، ولم ينزله بلسان العجم حتى لا تقولوا نحن عرب ، وهذا كلام أعجمى لا نفقه شيئا مما فيه.
ثم بين شرفه فى الملإ الأعلى تعظيما له ، وليطيعه أهل الأرض فقال :
(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أي وإن هذا الكتاب فى علمه الأزلى رفيع الشأن ، لاشتماله على الأسرار والحكم التي فيها سعادة البشر وهدايتهم إلى سبيل الحق.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ » .
(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ ؟ ) أي أ نترك إنذاركم وتذكيركم بالقرآن ، لانهماككم فى الكفر والإعراض عن أوامره ونواهيه ؟ كلا.(25/68)
ج 25 ، ص : 69
لا نفعل ذلك رحمة بكم ، وقد كانت حالكم تدعو إلى تخليتكم وما تريدون حتى تموتوا على الضلال.
قال قتادة : لو أن هذا القرآن قد رفع حين ردّته أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن اللّه تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليها ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء اللّه اه.
أراد أنه تعالى من رحمته ولطفه بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير وإلى الذكر الحكيم وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل يأمر به ليهتدى من قدّر له الهداية ، وتقوم الحجة على من كتب له الشقاوة.
ثم قال مسلّيا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم على تكذيب قومه ، آمرا له بالصبر ، مهدّد للمشركين ، منذرا لهم بشديد العقاب.
(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وكثيرا ما أرسلنا فى الأمم الغابرة رسلا قبلك كما أرسلناك إلى قومك من قريش ، وكلما أتى نبى أمته يدعوهم إلى الهدى وطريق الحق استهزءوا به وسخروا منه كما يفعل قومك بك - فقومك ليسوا ببدع فى الأمم ، ولا أنت ببدع فى الرسل ، فلا تأس على ما تجد منهم ولا يشقنّ ذلك عليك ، فهم قد سلكوا سبيل من قبلهم ، واحتذوا حذوهم ، ونهجوا نهجهم حذو القذّة بالقذة وكن كما كان أولوا العزم من الرسل ، واصبر كما صبروا على ما أوذوا فى سبيل اللّه.
ثم ذكر عقبى تكذيبهم واستهزائهم برسله تسلية لرسوله وتحذيرا لهم فقال :
(فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ولم يقدروا على دفع بأسنا إذ أتاهم ، وقد كانوا أشد بطشا من قومك وأشد قوة ، فأحر بهؤلاء ألا يعجزونا.
ونحو الآية قوله : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً » الآية.(25/69)
ج 25 ، ص : 70
(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي وقد مضت سنتنا فى المكذبين لرسلهم من قبلكم ، ورأيتم ما حل بهم ، فاحذروا أن يحل بكم مثل ما حل بهم.
ونحو الآية قوله : « فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ » وقوله : « سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ » .
[سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
تفسير المفردات
مهدا : أي فراشا ، وأصله موضع فراش الصبى ، سبلا : واحدها سبيل ، وهى الطريق ، بقدر : أي بمقدار تقتضيه الحكمة والمصلحة ، فأنشرنا : أي أحيينا ، ميتا :
أي خالية من النبات ، الأزواج : أصناف المخلوقات ، لتستووا على ظهوره : أي لتستقروا عليها ، سخر : ذلل ، مقرنين : أي مطيقين ، قال قطرب وأنشد قول عمرو بن معديكرب :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا فى النائبات بمقرنينا(25/70)
ج 25 ، ص : 71
وقول الآخر :
ركبتم صعبتى أشر وحيف ولستم للصعاب بمقرنينا
لمنقلبون : أي راجعون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المشركين منهمكون فى كفرهم وإعراضهم عما جاء به القرآن من توحيد اللّه والبعث - أبان هنا أن أفعالهم تخالف أقوالهم ، فإن سألتهم عن الخالق لهذا الكون من سمائه وأرضه ليقولن : اللّه ، وهم مع اعترافهم به يعبدون الأوثان والأصنام ، ثم ذكر سبحانه جليل أوصافه ، فأرشد إلى أنه هو الذي جعل الأرض فراشا ، وجعل فيها طرقا ، لتهتدوا بها فى سيركم ، ونزّل من السماء ماء بقدر الحاجة يكفى زرع النبات وسقى الحيوان ، وخلق أصناف المخلوقات جميعا من حيوان ونبات ، وسخر لكم السفن والدواب لتركبوها وتشكروا اللّه على ما آتاكم ، وتقولوا : لو لا لطف اللّه بنا ما كنا لذلك بمطيقين ، وإنا يوم القيامة إلى ربنا راجعون ، فيجازى كل نفس بما كسبت ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.
الإيضاح
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء المشركين من قومك : من خلق السموات والأرض ؟
لأجابوك : خلقهن العزيز فى سلطانه وانتقامه من أعدائه ، العليم بهن وما فيهن لا يخفى عليه شىء من ذلك.
والخلاصة - إنهم يعترفون بأنه لا خالق لهما سواه ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأوثان.(25/71)
ج 25 ، ص : 72
ثم دل على نفسه بذكر مصنوعاته فقال :
(1) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي والعزيز العليم هو الذي مهد لكم الأرض وجعلها لكم وطاء تطئونها بأقدامكم ، وتمشون عليها بأرجلكم ، وجعل لكم فيها طرقا تنتقلون فيها من بلد إلى آخر ، ومن إقليم إلى إقليم لمعاشكم ومتاجركم وابتغاء رزقكم.
والخلاصة - إن الخلق كلهم يتربّون على الأرض وهى موضع راحتهم كما يربى الصبى على مهده.
(2) (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي وهو الذي ينزل من السماء ماء بقدر الحاجة ، فلا يجعله كثيرا حتى لا يكون عذابا كالصوفان الذي أنزل على قوم نوح ، ولا قليلا لا يكفى النبات والزرع ، لئلا تهلكوا جوعا ، فتحيا به الأقاليم التي كانت خالية من النبات والشجر.
وكما أحيينا الأرض بعد موتها بالماء نحييكم ونخرجكم من قبوركم أحياء.
(3) (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي وهو الذي خلق سائر الأصناف مما تنبت الأرض من نبات وأشجار وثمار وأزاهير ، ومن الحيوان على اختلاف أجناسها وألوانها ولغاتها.
(4) (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي وهو الذي جعل لكم من السفن ما تركبونه فى البحار إلى حيث تقصدون لمعايشكم ومتاجركم ، ومن الأنعام ما تركبونه فى البر كالخيل والبغال والحمير ، ومما سيجدّ من وسائل المواصلات وطرق النّقلة برّا وبحرا كما جاء فى سورة النحل من قوله تعالى : « وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ » .
(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي لكى تستووا على ظهور ما تركبون من(25/72)
ج 25 ، ص : 73
الفلك والأنعام ، ثم تذكروا نعمة ربكم الذي أنعم به عليكم ، فتعظموه وتمجّدوه وتقولوا تنزيها له عما يصفه المشركون : سبحان الذي سخر لنا هذا الذي ركبناه ، وما كنا لو لا تسخيره وتذليله بمطيقين ذلك ، فالأنعام مع قوّتها ذللها للانسان ينتفع بها حيث شاء وكيفما أراد ، ولو لا ذلك ما استطاع الانتفاع بها ، ولقد أشار إلى نحو من هذا العباس ابن مرداس فقال فى وصف الجمل :
وتضر به الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير
واعلم أنه سبحانه عيّن ذكرا خاصا حين ركوب السفينة وهو قوله : « بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها » وذكرا آخر حين ركوب الأنعام وهو قوله : « سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا » وذكرا ثالثا حين دخول المنازل وهو قوله : « رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ » .
أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال :
(سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ).
قال القرطبي : علّمنا سبحانه وتعالى ما نقول إذا ركبنا الدواب ، وعرّفنا فى آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن ، فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحّمت أو طاح عن ظهرها فهلك ، وكم من راكب سفينة انكسرت به فغرق.
فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور ، واتصالا بسبب من أسباب التلف ، أمر ألا ينسى عند اتصاله به موته وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى اللّه عز وجل غير منقلت من قضائه ، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدّا للقاء اللّه ، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته فى علم اللّه وهو غافل عنه اه.
ولأجل ما تقدم أشار بقوله :
(وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي وإنا لصائرون إلى ربنا بعد مماتنا ، فيجازى(25/73)
ج 25 ، ص : 74
كل نفس بما عملت ، فاستعدوا لهذا اليوم ، ولا تغفلوا عن ذكره فى حلّكم وترحالكم ، يوم ظعنكم ويوم إقامتكم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
تفسير المفردات
جزءا : أي ولدا إذ قالوا الملائكة بنات اللّه ، وعبر عن الولد بالجزء ، لأنه بضعة ممن ولد له كما قال شاعرهم :
إنما أولادنا أكبا دنا تمشى على الأرض(25/74)
ج 25 ، ص : 75
مبين : أي ظاهر الكفر ، من أبان بمعنى ظهر ، أصفاكم : أي اختار لكم ، ضرب :
أي جعل ، مثلا : أي شبها أي مشابها بنسبة البنات إليه ، لأن الولد يشبه الوالد ، كظيم :
أي ممتلىء غيظا وغما ، ينشّأ : أي يربّى ، فى الحلية : أي فى الزينة ، الخصام : أي الجدل ، غير مبين : أي غير مظهر حجته لعجزه عن الجدل ، يخرصون : أي يكذبون ، مستمسكون : أي متمسكون ومعوّلون ، على أمة : أي على طريقة خاصة ، مترفوها :
أي أهل الترف والنعمة فيها الذين أبطرتهم الشهوات ، فلا ينظرون إلى ما يوصلهم إلى الحق ، مقتدون : أي سالكون طريقتهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أنهم يعترفون بالألوهية للّه وأنه خالق السموات والأرض ، أردف هذا ببيان أنهم متناقضون مكابرون ، فهم مع اعترافهم للّه بخلق السموات والأرض يصفونه بصفات المخلوقين المنافية لكونه خالقا لهما ، إذ جعلوا الملائكة بنات له ولا غرو ، فالإنسان من طبعه الكفران وجحود الحق ، ومن عجيب أمرهم أنهم أعطوه أخس صنفى الأولاد ، وما لو بشّر أحدهم به اسودّ وجها وامتلأ غيظا ، ومن يتربى فى الزينة وهو لا يكاد يبين حين الجدل ، فلا يظهر حجة ولا يؤيد رأيا ، واختاروا لأنفسهم الذكران ، ثم أعقبه بالنعي عليهم فى جعلهم الملائكة إناثا ، وزاد فى الإنكار عليهم ببيان أن مثل هذا الحكم لا يكون إلا عن مشاهدة ، فهل هم شهدوا ذلك ؟
ثم توعدهم على هذه المقالة وأنه يوم القيامة يجازيهم بها.
ثم حكى عنهم شبهة أخرى ، قالوا : لو شاء اللّه ألا نعبد الملائكة ما عبدناها ، لكنه شاء عبادتها لأنها هى المتحققة فعلا فتكون حسنة ويمتنع النهى عنها ، ثم رد مقالهم بأن المشيئة إنما هى ترجيح بعض الأشياء على بعض ، ولا دخل لها فى حسن أو قبح وبعد أن أبطل استدلالهم العقلي نفى أن يكون لهم دليل نقلى على صحة ما يدّعون ،(25/75)
ج 25 ، ص : 76
ثم أبان أن ما فعلوه إنما هو بمحض التقليد عن الآباء دون حجة ولا برهان ، وهم ليسوا ببدع فى ذلك ، فكثير من الأمم قبلهم قالوا مثل مقالهم ، مع أن الرسل بينوا لهم الطريق السوىّ فكفروا به واتبعوا سنن من قبلهم حذو القذّة بالقذّة ، فكان عاقبة أمرهم أن حلّ بهم نكالنا كما يشاهدون ويرون من آثارهم.
الإيضاح
(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي وأثبتوا للّه ولدا ، إذ قالوا الملائكة بنات اللّه قاله مجاهد والحسن ، والولد جزء من والده كما قال عليه السّلام « فاطمة بضعة منى » .
وإن مقالهم هذا يقتضى الكفر من وجهين :
(1) كون الخالق جسما محدثا لمشابهة الولد له ، فلا يكون إلها ولا خالقا.
(2) الاستخفاف به ، إذ جعلوا له أضعف نوعى الإنسان وأخسهما.
ثم أكد كفرهم بقوله :
(إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي إن الإنسان لجحود بنعم ربه التي أنعمها عليه ، ظاهر كفره لمن تأمل حاله وتدبر أمره.
ثم زاد فى الإنكار عليهم والتعجب من حالهم فقال :
(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) أي هل اتخذ سبحانه من خلقه أخسّ الصنفين لنفسه ، واختار لكم أفضلهما ؟ وكأنه قيل : هبو أنه اتخذ ولدا فأنتم قد ركبتم شططا فى القسمة فادعيتم أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزأين وأعلاهما وترك لنفسه شرهما وأدناهما ، فما أنتم إلا حمقى جهلاء.
ونحو الآية قوله : « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى . تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى » - جائرة - .
ثم زاد فى التوبيخ والإنكار بقوله :
(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)(25/76)
ج 25 ، ص : 77
أي وإذا بشر أحد هؤلاء بما نسبوه للّه من البنات أنف وعلته الكآبة والحزن من سوء ما بشر به وتوارى من القوم خجلا.
روى أن بعض العرب وضعت امرأته أنثى فهجر البيت الذي ولدت فيه فقالت :
ما لأبى حمزة لا يأتينا يظلّ فى البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلد البنينا وليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا ثم كرر الإنكار وأكده فقال :
(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي أو قد جعلوا للّه الأنثى التي تتربى فى الزينة ، وإذا خوصمت لا تقدر على إقامة حجة ولا تقرير دعوى ، لنقصان عقلها وضعف رأيها ؟ وما كان ينبغى لهم أن يفعلوا ذلك.
وفى قوله (يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) إيماء إلى ما فيهنّ من الدعة ورخاوة الخلق بضعف المقاومة الجسمية واللسانية ، كما أن فيه دلالة على أن النشوء فى الزينة ونعومة العيش من المعايب والمذامّ للرجال ، وهو من محاسن ربات الحجال ، فعليهم أن يجتنبوا ذلك ويأنفوا منه ويربئوا بأنفسهم عنه ، قال شاعرهم :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جرّ الذيول
وروى عن عمر أنه قال : « اخشوشنوا فى الطعام ، واخشوشنوا فى اللباس ، وتمعددوا » أي تزيّوا بزىّ معدّ فى تقشفهم.
(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) أي سموهم وحكموا لهم بذلك ، وفى هذا كفر من وجوه ثلاثة :
(1) إنهم نسبوا إلى اللّه الولد.
(2) إنهم أعطوه أخس النصيبين.
(3) إنهم استخفوا بالملائكة بجعلهم إناثا.(25/77)
ج 25 ، ص : 78
وقد رد اللّه عليهم مقالهم فقال :
(أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ؟ ) أي أحضروا خلق اللّه لهم ، فشاهدوهم بنات حتى يحكموا بأنوثتهم ؟ .
ونحو الآية قوله : « أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ » .
وفى هذا تجهيل شديد لهم ، ورمى لهم بالسفه والحمق.
ثم توعدهم على مقالهم فقال :
(سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها فى الدنيا فى ديوان أعمالهم ، ويسألون عنها يوم القيامة ليأتوا ببرهان على صحتها ، ولن يجدوا لذلك سبيلا.
وفى هذا دليل على أن القول بغير برهان منكر ، وأن التقليد لا يغنى من الحق شيئا.
ثم حكى عنهم فنّا آخر من فنون كفرهم باللّه جاءوا به للاستهزاء والسخرية فقال :
(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) أي وقالوا لو شاء اللّه لحال بيننا وبين عبادة الأصنام التي هى على صورة الملائكة ، فإنه تعالى عالم بذلك وهو قد أقرّنا عليه.
وقد جمعوا فى هذا أفانين من الكفر وضروبا من الترهات والأباطيل ، منها :
(1) إنهم جعلوا للّه ولدا تقدس سبحانه وتنزه عن ذلك.
(2) دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، إذ جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا.
(3) عبادتهم لهم بلا دليل ولا برهان ولا إذن من اللّه ، بل بالرأى والهوى والتقليد للأسلاف.
(4) احتجاجهم بتقدير اللّه ذلك ، وقد جهلوا فى هذا جهلا كبيرا ، فإنه تعالى أنكر ذلك عليهم أشد الإنكار ، وهو منذ أن بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته(25/78)
ج 25 ، ص : 79
وحده لا شريك له ، وينهى عن عبادة سواه كما قال : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ » وقال :
« وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ؟ » .
ثم رد عليهم مقالهم وبيّن جهلهم بقوله :
(ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) أي ما لهم على ما قالوا ، دليل ولا برهان يستندون إليه فى تأييد دعواهم.
ثم أكد هذا الردّ بقوله :
(إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي ما هم إلا كاذبون فيما قالوا ، متمحلون تمحلا باطلا ، متقوّلون على اللّه ما لم يقله.
وبعد أن بين بطلان قولهم بالعقل أتبعه ببطلانه بالنقل فقال :
(أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ) أي بل أ أعطيناهم كتابا من قبل هذا القرآن ينطق بصحة ما يدّعون ، فهم بذلك الكتاب متمسكون ، وعليه معوّلون.
والخلاصة - إنه لا كتاب لهم بذلك.
ولما بين أنه لا حجة لهم على ذلك من عقل ولا نقل - ذكر أن الحامل لهم على ما جنحوا إليه إنما هو التقليد فقال :
(بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) أي ليس لهم مستند على ما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد ، وقد قالوا إنهم أرجح منا أحلاما وأصح أفهاما ، ونحن سائرون على طريقتهم ، وسالكون نهجهم ، ولم نأت بشىء من عند أنفسنا ، ولم نغلط فى الأتباع واقتفاء الآثار ، كما قال قيس بن الخطيم :
كنا على أمّة آبائنا ويقتدى بالأول الآخر(25/79)
ج 25 ، ص : 80
والخلاصة - إنهم اعترفوا بأن لا مستند لهم من حيث العيان ولا من حيث العقل ولا من حيث النقل ، وإنما يستندون إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم.
ثم بين سبحانه أن مقال هؤلاء قد سبقهم إلى مثله أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل فقال :
(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) أي ومثل هذا المقال المتناهي فى الشناعة قالت الأمم الماضية لإخوانك الأنبياء ، فلم نرسل قبلك فى قرية رسولا إلا قال رؤساؤها وكبراؤها :
إنا وجدنا آباءنا على ملة ودين ، وإنا على منهاجهم سائرون ، نفعل مثل ما فعلوا ، ونعبد ما كانوا يعبدون.
فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم ، فهم قد سلكوا نهج من قبلهم من أهل الشرك فى جواباتهم بما أجابوك به ، واحتجاجهم بما احتجوا به لمقامهم على دينهم الباطل.
ونحو الآية قوله : « كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ » .
وإنما قال أولا : مهتدون ، وثانيا : مقتدون ، لأن الأول وقع فى محاجتهم النبي صلى اللّه عليه وسلّم وادعائهم أن آباءهم كانوا مهتدين وأنهم مهتدون كآبائهم ، فناسبه (مُهْتَدُونَ) والثاني وقع حكاية عن قوم ادعوا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء فناسبه (مُقْتَدُونَ).
(وفى هذا تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم ودلالة على أن التقليد فى نحو ذلك ضلال قديم ، وتخصيص المترفين بالذكر للاشعار بأن الترف هو الذي أوجب البطر وصرفهم عن النظر إلى التقليد.(25/80)
ج 25 ، ص : 81
ثم حكى ما قاله كل رسول لأمته :
(قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ ؟ ) أي قال لهم الرسول : أ تبغون ذلك وتسيرون على نهجه ، ولو جئتكم من عند ربكم بدين أهدى إلى طريق الحق ، وأدل على سبيل الرشاد مما وجدتم عليه آباءكم من الدين والملة ؟ .
وتلخيص ذلك - أ تتبعون آباءكم وتقلدونهم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ .
فأجابوه إجابة تيئيس من اتباعهم له على كل حال.
(قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) أي قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه ولو جئتنا بما هو أهدى منه ، فكأنهم يقولون : إنهم لو علموا صحة ما جئتهم به ما انقادوا لك ، لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله.
وحينئذ لم يبق لهم عذر ، ومن ثم قال :
(فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أي فانتقمنا من هؤلاء المكذبين لرسلهم الجاحدين بربهم ، فانظر أيها الرسول كيف كان عاقبة أمرهم حين كذبوا بآياتنا ؟
ألم نهلكهم ونجعلهم عبرة لغيرهم ؟
وفى هذا سلوة لرسوله ، وإرشاد له إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه له ، ووعيد وتهديد لهم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 35]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)(25/81)
ج 25 ، ص : 82
تفسير المفردات
لأبيه : أي آزر ، براء : كلمة لا تثنى ولا تجمع يقولون : أنا منك براء ، ونحن منك براء ، فإن قلت برىء ثنيت وجمعت ، فطرنى : أي خلقنى ، والكلمة : هى كلمة التوحيد فى عقبه : أي فى ذريته ، مبين : أي ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرة ، من القريتين : أي من إحدى القريتين مكة والطائف ، والرجل الذي من مكة : هو الوليد ابن المغيرة المخزومي وكان يسمى ريحانة قريش ، والذي من الطائف : هو عروة بن مسعود الثقفي ، ورحمة ربك : هى النبوة ، والسخرىّ : هو الذي يقهر على العمل ، والسقف بضمتين : واحدها سقف كرهن ورهن ، والمعارج : واحدها معرج كمنبر ، وهو المسمى الآن (أسنسير) وهذا من معجزات القرآن إذ لم يكن معروفا عصر التنزيل ، يظهرون أي يرتقون ، زخرفا : أي نقوشا وتزاويق ، قال الراغب الزخرف : الزينة المزوقة ، ومنه قيل للذهب زخرف ، ولمّا بمعنى إلا ، حكى سيبويه نشدتك اللّه لمّا فعلت كذا :
أي إلا فعلت كذا.(25/82)
ج 25 ، ص : 83
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فى الآية السالفة أن الذي دعا الكفار إلى اعتناق العقائد الزائفة هو تقليد الآباء والأجداد ، وبين أنه طريق باطل ، ونهج فاسد ، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من التقليد - أردف هذا أن ذكر لهم أن أشرف آبائهم وهو إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعتهم ، فيجب عليكم تقليده ، وحين عدل عن طريق آبائه جعل اللّه دينه باقيا فى عقبه إلى يوم القيامة ، وأديان آبائه درست وبطلت.
ثم ذكر أن قريشا وآباءهم مدّ لهم فى العمر والنعمة ، فاغتروا بذلك واتبعوا الشهوات ، وأعرضوا عن توحيد اللّه وشكره على آلائه ، حتى جاءهم الرسول منبها لهم مذكرا بالنظر إلى من فطرهم وفطر السموات والأرض وآتاهم من فضله ما يتمتعون به من زينة هذه الحياة ، فكذبوه وقالوا ساحر كذاب ، ثم حكى عنهم أنهم قالوا : هلا نزّل هذا القرآن على رجل عظيم الجاه كثير المال من إحدى القريتين مكة والطائف ، فرد عليهم مقالهم ، بأنه قسم الحظوظ الدنيوية بين عباده ، فجعل منهم الغنى والفقير ، والسيد والمسود ، والملوك والسّوقة ، والأقوياء والضعفاء ، ولم يغير أحد ما حكم به فى أحوال دنياهم على حقارتها ، فكيف يعترضون على حكمه فيما هو أرفع درجة ، وأشرف غاية ، وأعظم مرتبة ، وهو منصب النبوة ؟ .
ثم ذكر أن التفاوت فى شئون الدنيا هو الذي يتمّ به نظام المجتمع والسير به على النهج القويم ، فلولاه ما صرّف بعضهم بعضا فى حوائجه ، ولا تعاونوا فى تسهيل وسائل المعيشة ، ثم أعقب هذا ببيان أنه لو لا أن يرغب الناس فى الكفر إذا رأوا الكفار فى سعة من الرزق لمتعهم بكل وسائل النعيم ، فجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسقفا وسررا ومصاعد منها وزينة فى كل شىء ، ولكن كل هذا متاع قليل زائل والآخرة هى الباقية وهى لمن يتقى اللّه ويجتنب الكفر والمعاصي.(25/83)
ج 25 ، ص : 84
ولم يفعل ذلك بالمؤمنين فيوسع عليهم جميعا ، ليكون سبب اجتماعهم على الإيمان العقيدة المنبعثة عن الاطمئنان النفسي ، لأنه لو فعل ذلك لاجتمعوا عليه طلبا للدنيا ، وهذا إيمان المنافقين ، ومن ثم ضيّق الرزق على بعض المسلمين ووسع على بعض ليكون من يدخله ، فإنما يدخله للدليل والبرهان وابتغاء رضوان اللّه ومثوبته.
الإيضاح
(وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) أي واذكر لقومك المكبّين على التقليد : كيف تبرأ إبراهيم من أبيه وقومه حين رآهم عاكفين على عبادة الأصنام ؟ قال لهم إنى براء مما تعبدون إلا من عبادة اللّه الذي خلقنى وخلق الناس جميعا ، وأنه سيهدينى إلى سبيل الرشاد ، ويوفقنى إلى اتباع الحق ، وقد جزم بذلك لثقته بربه ، ولقوة يقينه.
(وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وجعل كلمة التوحيد وهى (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) كلمة باقية فى ذريته يقتدى به فيها من هداه اللّه منهم ، لعل أهل مكة يرجعون عما هم عليه إلى دين أبيهم إبراهيم ، فإنهم إذا ذكروا أباهم الأعظم الذي بنى لهم البيت وأورثهم ذلك الفخر ، تبعوه فيما يدين به.
قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد اللّه إلى يوم القيامة. وقال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم فى الأعقاب ، موصولة بالأحقاب ، بدعوتيه المجابتين : إحداهما قوله :
« إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فقد قال إلا من ظلم منهم فلا عهد له. ثانيتهما قوله : « وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ » .
(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) أي ولكنى متعت هؤلاء المشركين وآباءهم من قبل ، ومددت أعمارهم ، وأكثرت نعمهم ، فشغلتهم النعم(25/84)
ج 25 ، ص : 85
والترف والشهوات ، فأطاعوا الشيطان ونسوا كلمة التوحيد ، فجريت على سنتى أن أجعل فى بنى إبراهيم من يوحّد اللّه ويدعو من كفر منهم إلى الإيمان ، فاخترت محمدا وأنزلت معه الكتاب ليدعو هؤلاء إلى ما فيه صلاحهم فى دينهم ودنياهم ، وسعادتهم فى آخرتهم وأولاهم.
ثم وبخهم على إعراضهم عما جاء به من الحق وعدم النظر فيه فقال :
(وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ) أي ولما جاءهم القرآن والرسول الصادق بما معه من المعجزات قالوا إن ما جاءنا به سحر وليس بوحي من عند اللّه وإنا به جاحدون ، فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به.
ثم ذكر ضربا آخر من كفرهم بقوله :
(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) أي وقالوا إن منصب الرسالة منصب شريف ، فلا يليق إلا برجل شريف كثير المال عظيم الجاه ، ومحمد ليس بذاك ، فمن الحق أن يسند هذا المنصب إما إلى الوليد بن المغيرة بمكة أو إلى عروة ابن مسعود الثقفي بالطائف.
فأنكر اللّه عليهم ذلك وجهّلهم وعجّب من حالهم بقوله :
(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي عجبا لهم كيف جهلوا قدر أنفسهم ؟ أو قد بلغ من أمرهم أن يصطفوا من يشاءون للنبوة التي لا يصلح لها إلا من بلغ مرتبة روحانية خاصة ، وكان ذا فضائل قدسية وكمالات خلقية ، مستهينا بالزخارف الدنيوية التي انغمسوا فيها ؟
فهم ليسوا لها بأهل ، فضلا عن أن يهبوها لمن يشاءون.
ثم بين خطأهم فى طلب الاصطفاء بحسب ما يهوون فقال :
(نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي إننا فى هذه الحياة فضلنا بعض العباد على بعض ، فى الغنى والفقر ، والقوة والضعف ، والعلم والجهل ، والشهرة والخمول ، لأنا لوسوّينا بينهم(25/85)
ج 25 ، ص : 86
فيها لم يخدم بعضهم بعضا ولم يسخّر أحد غيره ، وذلك مما يفضى إلى خراب العالم وفساد الدنيا ، ولم يستطع أحد أن يغيّر نظامنا ولا أن يخرج عن حكمنا.
وإذا كانوا قد عجزوا عن ذلك فى أحوال الدنيا فكيف يعترضون علينا فى منصب الرسالة ؟
وقصارى ذلك - إنا قسمنا بينهم أرزاقهم ، أفلا يقنعون بقسمتنا فى أمر النبوة وتفويضها إلى من نشاء من خلقنا ؟ .
ثم علل ما سلف بقوله :
(وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي ورحمة ربك وفضله بالنبوة وما يتبعها من وحي وكتاب ينزل ، خير مما يجمعون من حطام الدنيا ، فالدنيا على شفا جرف هار ، ومظاهرها فانية لا قيمة لها ، فهو قد أغدقها على الدواب والأنعام وكثير من جهلة بنى آدم.
ثم بين حقارة الدنيا وخستها بقوله :
(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ. وَزُخْرُفاً) أي ولو لا أن يعتقد كثير من الجهلة أن إعطاءنا المال للكفار دليل على محبتنا لمن أعطيناه ، فيجتمعوا على الكفر ، ويرغبوا فيه ، إذا رأوا سعة الرزق عندهم - لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة ، ومصاعد من فضة ، وسررا من فضة ، عليها يتكئون ، وزينة فى كل ما يرتفق به من شئون الحياة.
ثم بين أن هذه المتعة قصيرة الأمد ، سريعة الزوال ، فهى متاع الحياة الفانية فقال :
(وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) أي وما كل ذلك إلا متاع قصير زائل ، والآخرة بما فيها من ضروب النعيم التي لا يحيط بها عدّ ولا إحصاء - أعدها اللّه لمن اتقى الشرك والمعاصي ، وعمل بطاعته ، وآثر الآخرة على الدنيا.(25/86)
ج 25 ، ص : 87
أخرج الترمذي وابن ماجه عن سهل بن سعد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « لو كانت الدنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء » .
وكذلك لو أعطيت هذه النعم والسرر والأبواب المصنوعة من الذهب والفضة للمؤمنين ، حتى ليصير الناس كلهم هكذا ، لأخلّت بالمقصود من الإيمان ، لأن الترف والنعيم يحجب العقول عن عالم الروحانيات والرقى العقلي ، فقلّ من يتخلص من شرك هذه الآفات ، فالشهوات والزينة والزخارف للعقول أشبه بالقاذورات للأجسام ، والأجسام القذرة يحوم حولها الذباب ، فيلقى فيها بيوضه لتفرخ فى القروح والعيون ، ويخرج ذباب يعيش من تلك القاذورات ، وهكذا النفوس الضعيفة تعيش فيها النفوس المماثلة لها من عالم الشياطين ، وتلقى إليها بذور الفساد ، فتزرع فيها وتحصدها النفوس خزيا وعارا فى الدنيا والآخرة وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :
[سورة الزخرف (43) : الآيات 36 الى 45]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)(25/87)
ج 25 ، ص : 88
تفسير المفردات
يقال عشى فلان كرضى إذا حصلت له آفة فى بصره ، وعشا : كغزا إذا نظر نظر العشىّ لعارض قال الحطيئة فى المحلّق الكلانى :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خير موقد
أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من كثرة الوقود واتساع الضوء ، فالمراد هنا أنه يتعامى عن ذكر اللّه ، نقيض له : أي نهيىء له ونضم إليه ، والقرين :
الرفيق الذي لا يفارق ، والمشرقين : أي المشرق والمغرب ، وكثيرا ما تسمى العرب الشيئين المتقابلين باسم أحدهما ، قال الفرزدق :
أخذنا بآفاق السماء عليكم لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر ، بعد المشرقين : أي بعد أحدهما من الآخر ، فإما نذهبن بك : أي فإن قبضناك وأمتناك ، لذكر : أي لشرف عظيم ، تسألون : أي عن قيامكم بما أوجه القرآن عليكم من التكاليف من أمر ونهى.
المعنى الجملي
بعد أن بين أن المال متاع الدنيا وهو عرض زائل ، ونعيم الآخرة هو النعيم الدائم الذي أعده اللّه للمتقين - ذكر هنا أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر اللّه وصار من جلساء الشياطين الضالين المضلين الذين يصدونه عن السبيل القويم ، ويظن أنه مهتد ، لأنه يتلقى من الشياطين ما يلائم أخلاقه فيألفه ولا ينكره ، ثم ذكر أنه إذا جاء يوم القيامة تبرأ الكافر من الشيطان قرينه وقال له : ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرقين ، ثم أعقب هذا ببيان أن اشتراك الكافر مع قرينه الشيطان فى العذاب لا يخفف عنه شيئا منه ، لاشتغال كل منهما بنفسه.
ثم ذكر لرسوله أن دعوته لا تؤثر فى قلوبهم ، وقلما تجديهم المواعظ ، فإذا أسمعتهم(25/88)
ج 25 ، ص : 89
القرآن كانوا كالصم ، وإذا أريتهم معجزاتك كانوا كالعمى ، وإنما كانوا كذلك لضلالهم المبين ثم سلى رسوله وبين له أنه لا بد أن ينتقم منهم إما حال حياته أو بعد موته ، ثم أمره أن يستمسك بما أمره اللّه به ، فيعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم النافع فى الدين والدنيا وفيه الشرف العظيم له ولقومه ، وسوف يسألون عما قاموا به من التكاليف التي أمرهم بها ، ثم أرشد إلى أن بغض الأصنام وبغض عبادتها جاء على لسان كل نبى ، فمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم ليس بدعا من بينهم فى الإنكار عليها حتى يعارض ويبغض.
الإيضاح
(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) أي ومن يتعام عن ذكر اللّه وينهمك فى لذات الدنيا وشهواتها نسلط عليه شياطين الإنس والجن يزينون له أن يرتع فى الشهوات ، ويلغ فى اللذات ، فلا يألوا جهدا فى ارتكاب الآثام والمحرمات على ما جرت به سنتنا الكونية ، كما نسلط الذباب على الأجسام القذرة ونخلق الحيات والعقارب والحشرات فى المحال العفنة ، لتلطف الجو وترحم الناس والحيوان ، وهكذا النفوس الموسوسة للضعفاء توقعهم فى الذنوب لاستعدادهم لها ، فينالون جزاءهم من عقاب اللّه وعقوبات البشر واحتقارهم لهم ، إلى ما ينالهم من الأمراض الفتاكة والأدواء التي لا يجدى فيها علاج ، فيكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم وأنى لهم أن تنفعهم تلك الذكرى فقد فات الأوان ، ولا ينفع الندم على فائت :
ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم
قال الزجاج : معنى الآية - إن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكم إلى أباطيل المضلين - يعاقبه اللّه بشيطان يقيضه له حتى يضله ، ويلازمه قرينا له فلا يهتدى ، مجازاة له حين آثر الباطل على الحق المبين اه.(25/89)
ج 25 ، ص : 90
أخرج ابن أبى حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي : أن قريشا قالت قيّضوا لكل رجل من أصحاب محمد رجلا يأخذه ، فقيّضوا لأبى بكر طلحة بن عبيد اللّه ، فأتاه وهو فى القوم فقال أبو بكر : إلام تدعونى ؟ قال : أدعوك إلى عبادة اللات والعزّى قال أبو بكر وما اللات ؟ قال : أولاد اللّه ، قال : وما العزّى ؟ قال : بنات اللّه ، قال أبو بكر :
فمن أمهم ؟ فسكت طلحة فلم يجبه ، وقال لأصحابه أجيبوا الرجل ، فسكت القوم ، فقال طلحة : قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، فأنزل اللّه هذه الآية ،
وثبت فى صحيح مسلم وغيره أن مع كل مسلم قرينا من الجن.
(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) أي وإن هؤلاء الشياطين الذين يقيضهم اللّه لكل من يعشو عن ذكر الرحمن ليحولنّ بينهم وبين سبيل الحق ، ويوسوسنّ لهم أنهم على الجادّة وسواهم على الباطل ، فيطيعنهم ويكرّهنّ إليهم الإيمان باللّه والعمل بطاعته.
ثم ذكر حال الكافر مع القرين يوم القيامة فقال :
(حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ) أي حتى إذا وافى الكافر يوم القيامة إلينا وعرض عليها أعرض عن قرينه الذي وكل به وتبرأ منه وقال : ليت بينى وبينك بعد ما بين المشرق والمغرب ، فبئس القرين أنت أيها الشيطان ، لأنك قد أضللتنى وأوصلتنى إلى هذا العذاب المهين ، والخزي الدائم ، والعيش الضنك ، والمحل المقضّ المضجع.
ثم حكى ما سيقال لهم حينئذ توبيخا وتأنيبا فقال :
(وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي ولن ينفعكم فى هذا اليوم اشتراككم فى العذاب أنتم وقرناؤكم ، كما كان ينفع فى الدنيا الاشتراك فى المهامّ الدنيوية ، إذ يتعاونون فى تحمل أعبائها ، ويتقاسمون شدتها وعناءها ، فإن لكل منهم من العذاب ما لا تبلغه طاقته ، ولا قدرة له على احتماله.(25/90)
ج 25 ، ص : 91
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم ذلك من حيث التأسى ، فإن المكروب فى الدنيا يتأسى ويستروح بوجدان المشارك فى البلوى ، فيقول أحدهم لى فى البلاء والمصيبة أسوة ، فيسكّن ذلك من حزنه كما قالت الخنساء ترثى أخاها صخرا :
يذكّرنى طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل مغيب شمس
فلو لا كثرة الباكين حولى على إخوانهم لقتلت نفسى
وما يكون مثل أخى ولكن أعزّى النفس عنه بالتأسى
وقصارى ذلك - إنه لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شىء من العذاب ، إذ لكل منهم الحظ الأوفر منه.
وقد يكون المعنى - ولن ينفعكم اليوم الاعتذار والندم ، فأنتم وقرناؤكم مشتركون فى العذاب ، كما كنتم مشتركين فى سببه فى الدنيا.
وقد وصفهم فيما سلف بالعشي ووصفهم بالعمى والصمم ، من قبل أن الإنسان لاشتغاله بالدنيا يكون كمن حصل بعينيه ضعف فى البصر ، وكلما زاد انهما كه بها كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل فقال :
(أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ؟ ) أي أ فانت تسمع من قد سلبهم اللّه استماع حججه التي ذكرها فى كتابه ، أو تهدى إلى طريق الحق من أعمى قلوبهم عن إبصارها ، واستحوذ عليهم الشيطان فزين لهم طريق الردى.
والخلاصة - إن ذلك ليس إليك ، إنما ذلك إلى من بيده تصريف القلوب وتوجيهها أنّى شاء ، فعليك البلاغ وعلينا الحساب.
وقد كان صلّى اللّه عليه وسلّم يبالغ فى دعاء قومه إلى الإيمان وهم لا يزيدون إلا غيّا وتعاميا عما يشاهدون من دلائل النبوة وتصامّا عما يسمعون من بينات القرآن.(25/91)
ج 25 ، ص : 92
وبعد أن أيأسه من إيمانهم سلاه بالانتقام منهم لأجله إما حال حياته أو بعد مماته فقال :
(فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ) أي فإن نذهب بك أيها الرسول من بين أظهر المشركين بموت أو غيره فإنا منهم منتقمون كما فعلنا ذلك بغيرهم من الأمم المكذبة لرسلها ، أو نرينك الذي وعدناك من الظفر بهم وإعلائك عليهم فإنا عليهم مقتدرون ، فنظهرك عليهم ونخزيهم بيديك وأيدى المؤمنين.
وفى التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد - إشارة إلى أن ذلك سيقع حتما وهكذا كان ، فإنه لم يقبض رسوله حتى أقر عينيه من أعدائه ، وحكّمه فى نواصيهم ، وملّكه ما تضمنته صياصيهم ، قاله السدى واختاره ابن جرير.
ثم أمر رسوله أن يستمسك بما أوحى به إليه فيعمل به فقال :
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي فخذ بالقرآن المنزل على قلبك ، فإنه هو الحق المفضى إلى الصراط المستقيم ، والموصل إلى جنات النعيم ، والخير الدائم المقيم.
ثم ذكر ما يستحثه على التمسك به فقال :
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) أي وإن القرآن لشرف عظيم لك ولقومك ، لأنه نزل بلغتهم على رجل منهم ، فهم أفهم الناس له ، فينبغى أن يكونوا أسبق الناس إلى العمل به.
أخرج الطبراني وابن مردويه عن عدى بن حاتم قال : « كنت قاعدا عند النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقال : ألا إن اللّه تعالى علم ما فى قلبى من حبى لقومى فبشرنى فيهم فقال سبحانه : وإنّه لذكر لك ولقومك » الآية. فجعل الذكر والشرف لقومى - إلى أن قال - فالحمد للّه الذي جعل الصدّيق من قومى والشهيد من قومى ،(25/92)
ج 25 ، ص : 93
وإن اللّه قلب العباد ظهرا وبطنا ، فكان خير العرب قريش وهى الشجرة المباركة » ثم قال عدىّ ما رأيت رسول اللّه ذكرت عنده قريش بخير إلا سره حتى يتبين ذلك السرور فى وجهه للناس كلهم اه.
ونظير الآية قوله فى سورة الأنبياء « لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ » أي شرفكم ، فالقرآن نزل بلسان قريش ، وإياهم خاطب ، فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم وصاروا عيالا عليهم ، حتى يقفوا على معانيه من أمر ونهى ونبإ وقصص وحكمة وأدب.
روى الترمذي عن معاوية رضى اللّه عنه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « إن هذا الأمر فى قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبّه اللّه تعالى على وجهه ما أقاموا الدين » .
وفى الآية إيماء إلى أن لذكر الجميل والثناء الحسن أمر مرغوب فيه ، ولو لا ذلك ما امتن اللّه على نبيه محمد صلّى اللّه عليه وسلّم به ، ولما طلبه إبراهيم عليه السّلام بقوله :
« وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ » وقال ابن دريد :
وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى
وقال المتنبي :
ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته ما فاته وفضول العيش أشغال
(وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) عن حقه وأداء شكر النعمة فيه.
وخلاصة ما سلف - إن القرآن نزل بلغة العرب ، وقد وعد اللّه بنشر هذا الدين ، وأبناء العرب هم العارفون بهذه اللغة ، فهم الملزمون بنشرها ونشر هذا الدين للأمم الأخرى فمتى قصروا فى ذلك أذلهم اللّه فى الدنيا ، وأدخلهم النار فى الآخرة ، فعسى أن يقرأ هذا أبناء العرب ويعلموا أنهم هم المعلمون للأمم ، فيبشروا هذا القرآن ويكتبوا المصاحف باللغة العربية ، ويضعوا على هوامشها تفاسير بلغات مختلفة كالإنجليزية(25/93)
ج 25 ، ص : 94
والألمانية والروسية حتى تعرف الأمم كلها هذا الدين معرفة حقة خالية من الخرافات التي ألصقها به المبتدعون ، ويعود سيرته الأولى ، وما ذلك على اللّه بعزيز.
ثم وبخ مشركى قريش بأن ما هم عليه من عبادة الأصنام لم يأت فى شريعة من الشرائع فقال :
(وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) أي واسأل أمم من أرسلنا من قبلك من الرسل : هل حكمنا بعبادة غير اللّه ؟ وهل جاء ذلك فى ملة من الملل ؟ والمراد بهذا الاستشهاد بيان إجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه إلى أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم ليس ببدع من بين الرسل فى الأمر به ، حتى يكذّب ويعادى له.
وقصارى ذلك - إن الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه من عبادة اللّه وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام.
ونحو الآية قوله : « وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ » .
[سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)(25/94)
ج 25 ، ص : 95
تفسير المفردات
الآيات : هى المعجزات ، وملئه : أي أشراف قومه ، أخذناهم : أي أخذ قهر بالعذاب فأرسلنا عليهم الجراد والقمّل والضفادع ، الساحر : أي العالم الماهر ، بما عهد عندك : أي بما أخبرتنا من عهده إليك أنا إذا آمنا كشف عنا العذاب الذي نزل بنا ، ينكثون : أي ينقضون العهد ، من تحتى : أي من تحت قصرى وبين يدىّ فى جناتى ، مهين : أي ضعيف حقير ، يبين : أي يفصح عن كلامه. قال ابن عباس كانت بموسى لثغة فى لسانه (واللثغة بالضم : أن تصير الراء غينا أو لاما والسين ثاء وقد لثغ من باب طرب فهو ألثغ) ، والأسورة : واحدها سوار كأخمرة وخمار ، قال مجاهد : كانوا إذا سودوا رجلا سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة سيادته ، مقترنين : أي مقرونين به يعينونه على من خالفه ، فاستخف قومه : أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلال فاستجابوا له ، آسفونا : أي أغضبونا وأسخطونا. قال الراغب : الأسف الحزن والغضب معا ، وقد يقال لكل منهما على الانفراد. وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام ، فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا وسلفا : أي قدرة لمن بعدهم من الكفار ، مثلا : أي حديثا عجيب الشأن يسير سير المثل فيقول الناس مثلكم مثل قوم فرعون.(25/95)
ج 25 ، ص : 96
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن كفار قريش طعنوا فى نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم لكونه فقيرا عديم المال ولجاه - بين هنا أن موسى بعد أن أورد المعجزات الباهرة أورد فرعون هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال : إنى غنى كثير المال عظيم الجاه ، فلى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى ، وموسى فقير مهين وليس له بيان ولا لسان ، وهذا شبيه بما قاله كفار قريش وأيضا فإنه لما قال : واسأل من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا - ذكر هنا قصة موسى وعيسى عليهما السّلام وهما أكثر الأنبياء أتباعا وقد جاءا بالتوحيد ولم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون اللّه.
ثم ذكر سبحانه أن فرعون قال : هلا ألقى ألى موسى مقاليد الملك فطوق بسوار من ذهب إن كان صادقا ، زعما منه أن الرياسة من لوازم الرسالة ، أو جاء معه جمع من الملائكة يعينونه على من خالفه ، وأعقب هذا بأن ذكر أنه حين دعا قومه إلى تكذيب موسى فى دعواه الرسالة أطاعوه لضلالهم وغوايتهم ، ولما لم نجد فيهم المواعظ غضبنا وانتقمنا منهم ، وجعلناهم قدوة للكافرين ، وضربنا بهم الأمثال للناس ليكونوا عبرة لهم.
الإيضاح
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي ولقد بعثنا موسى ومعه حججه الدالة على صدقه إلى فرعون وأشراف قومه ، كما أرسلناك إلى هؤلاء المشركين من قومك ، فقال لهم : إنى رسول من قبل اللّه إليكم ، كما قلت أنت لقومك : إنى رسول اللّه إليكم.(25/96)
ج 25 ، ص : 97
فطالبوه بإحضار البينة على صدق دعواه كما يدل على ذلك قوله :
(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) أي فلما جاءهم بالأدلة على صدق قوله فيما يدعوهم إليه من توحيد اللّه وترك عبادة الآلهة - إذا فرعون وقومه يضحكون من تلك المعجزات ، كما أن قومك يسخرون مما جئتهم به.
وفى هذا تسلية لرسوله على ما كان يلقاه من قومه المشركين ، وإعلام له بأن قومه لن يعدوا أن يكونوا كسائر الأمم الذين كانوا على منهاجهم فى الكفر باللّه وتكذيب رسله ، وندب له أن يستن بسنة أولى العزم من الرسل فى الصبر على أذى أقوامهم وتكذيبهم لهم ، وإخبار بأن عقبى أمرهم الهلاك كسنته فى الكافرين قبلهم ، وظفره بهم ، وعلوّ أمره كما فعل بموسى عليه السّلام وقومه الذين آمنوا به من إظهارهم على فرعون وملئه.
(وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) أي وما أرينا فرعون وملأه حجة من حججنا الدالة على صدق رسولنا فى دعواه الرسالة إلا كانت أعظم من سابقتها فى الحجية عليهم ، وآكد فى الدلالة على صحة ما يأمر به من توحيد اللّه ، ومعنى الأخوّة بين الآيات تشا كلها وتناسبها فى الدلالة على صحة نبوة موسى كما يقال هذه صاحبة هذه أي هما قرينتان فى المعنى.
ثم بين ما جوزوا به على تكذيبهم فقال :
(وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي وأنزلنا عليهم ألوانا من العذاب كنقص الثمرات والجراد والقمل والضفادع.
ثم بين العلة فى أخذه لهم بذلك وهو رجاء رجوعهم فقال :
(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي لكى يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان باللّه وطاعته ، والتوبة مما هم عليه مقيمون من المعاصي.
ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات ، والدلالات الواضحات - ظنوا أن ذلك من قبيل السحر.(25/97)
ج 25 ، ص : 98
(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) أي وقالوا يا أيها العالم الماهر ، وكانوا يسمون العلماء سحرة ، ويوقرونهم ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
وقد يكونون نادوه بذلك فى تلك الحال ، لشدة شكيمتهم ، وفرط حماقتهم.
(ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي ادع لنا ربك ليكشف عنا العذاب بما أخبرتنا من عهده إليك ، أنا إن آمنا به كشفه عنا.
(إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي إنا لمؤمنون بما جئت به إن حدث ذلك.
ونحو ذلك ما جاء فى سورة الأعراف من قولهم : « لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ » .
ثم بين ما حدث منهم بعد دعوة موسى وكشف العذاب فقال :
(فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي فدعانا فكشفنا عنهم العذاب فلم يؤمنوا ونقضوا العهد ، وقد كان هذا ديدنهم مع موسى ، يعدونه فى كل مرة أن يؤمنوا به إذا كشف عنهم الرجز ، ثم ينقضون ما عاهدوا اللّه عليه.
ونحو الآية ما جاء فى سورة الأعراف من قوله : « فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ. وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ » .
ثم أخبر سبحانه عن تمرد فرعون وعتوّه وعناده فقال :
(وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ : يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي إنه جمع قومه ونادى فيهم متبجحا مفتخرا بملك مصر وتصرفه فيها وجرى الأنهار المنبثقة من نهر النيل تحت قصوره وتحت جنانه وضياعه.(25/98)
ج 25 ، ص : 99
ثم أكد هذا بقوله :
(أَفَلا تُبْصِرُونَ ؟ ) ذلك وتستدلون به على قوة ملكى وعظم قدرى وضعف موسى عن مقاومتى لما فيه من فقر وعىّ وحصر.
(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي بل أنا ولا شك خير بما لى من السعة فى المال والجاه والملك العريض - من هذا المهين الحقير الذي لا يكاد يفصح عما يريد ، إذ كان فى لسانه حبسة فى صغره فعابه بها ، وهو لا يعلم أن اللّه استجاب سؤله حين قال : « وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي » فحل عقدة لسانه كما جاء فى قوله : « قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى » .
قال الحسن البصري : إنه قد بقي منها شىء لم يسأل زواله ، وإنما سأل زوال ما يمنع الإبلاغ والإفهام اه.
والأشياء الخلقية لا يعاب المرء بها ولا يذم ، لكنه أراد الترويج على رعيته وصدهم عن الإيمان به.
ونحو الآية قوله : « فَحَشَرَ فَنادى . فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى » .
ثم ذكر شبهة مانعة له من الرياسة ، وهى أنه لا يلبس لبس الملوك ، فلا يكون رئيسا ولا رسولا لتلازمهما فى زعمه فقال :
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي فهلا ألقى ربّ موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا كما جرت عادتهم بذلك ، وهذا شبيه بما قال كفار قريش فى عظيم القريتين.
ثم ذكر شبهة أخرى وهى أنه ليس له خدم من الملائكة تعينه فقال :
(أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) أي هلا جاء معه الملائكة متتابعين متقارنين إن كان صادقا ، يعينونه على أمره ، ويشهدون له بالنبوة ، ويمشون معه ، كما نفعل نحن(25/99)
ج 25 ، ص : 100
إذا أرسلنا رسولا فى أمر هامّ يحتاج إلى دفاع ، وفيه خصام ونزاع - وهو بهذا أوهم قومه أن الرسل لا بد أن يكونوا على هيئة الجبابرة ، أو يكونوا محفوفين بالملائكة.
ثم ذكر أن هذه الخدع قد انطلت عليهم ، وسحرت ألبابهم ، لغفلتهم وضعف عقولهم ، فاعترفوا بربوبيته ، وكذبوا بنبوة موسى فقال :
(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي فاستخف أحلامهم بقوله وكيده ، وبما أبداه من عظمة الملك والرياسة ، وجعلها مناطا للعلم والنبوة ، وأنه لو كانت هناك نبوة لكان أولى بها ، فأطاعوه فيما أمرهم ، لأنهم كانوا قوما ذوى ضلال وغىّ ومن ثم أسرعوا إلى تلبية دعوة ذلك الفاسق الغوىّ.
ثم ذكر جزاءهم على ما اجترحوا من تكذيب رسوله على وضوح الدليل وظهور الحق فقال :
(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) أي فلما أغضبونا بعنادهم وعظيم استكبارهم وبغيهم فى الأرض - انتقمنا منهم بعاجل عذابنا ، فأغرقناهم جميعا.
وإنما أهلكوا بالغرق ليكون هلاكهم بما تعززوا به وهو الماء فى قوله : « وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي » :
وفى هذا إشارة إلى أن من تعزز بشىء دون اللّه أهلكه اللّه به.
أخرج أحمد والطبراني والبيهقي فى الشعب وابن أبى حاتم عن عقبة بن عامر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إذا رأيت اللّه يعطى العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له ، وقرأ : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) » .
(فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) أي فجعلناهم قدوة لمن يعمل عملهم من أهل الضلال ككفار قومك.
(وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) أي وعبرة وموعظة لمن يأتى بعدهم من الكافرين.(25/100)
ج 25 ، ص : 101
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
تفسير المفردات
مثلا : أي حجة وبرهانا ، يصدّون (بكسر الصاد) أي يصيحون ويرتفع لهم ضجيج وفرح ، جدلا : أي خصومة بالباطل ، خصمون : أي شديد والخصومة مجبولون على اللجاج وسوء الخلق ، مثلا : أي أمرا عجيبا ، منكم : أي من بعضكم ، يخلفون :
أي يخلفونكم فى الأرض ، علم : أي علامة وشرط من أشراطها ، فلا تمترنّ :
أي فلا تشكنّ ، البينات : المعجزات ، الحكمة : الشرائع المحكمة التي لا يستطاع نقضها ولا إبطالها.(25/101)
ج 25 ، ص : 102
المعنى الجملي
روى محمد بن إسحاق فى السيرة « أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جلس يوما فى المسجد مع الوليد بن المغيرة ، فجاء النضر بن الحارث وجلس معهم وفى المسجد غير واحد من رجالات قريش ، فتكلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فعرض له النضر فكلمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليهم : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ » الآيات ، ثم قام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وأقبل عبد اللّه بن الزّبعرى التميمي وجلس فقال له الوليد بن المغيرة : واللّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب وما قعد ، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال ابن الزبعرى : أما واللّه لو وجدته لخصمته ، سلوا محمدا ، أ كلّ ما يعبد من دون اللّه فى جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد المسيح عيسى بن مريم ، فعجب الوليد ومن كان معه فى المجلس من قول عبد اللّه بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : كل من أحب أن يعبد من دون اللّه فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته وأنزل اللّه عز وجل : « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » أي عيسى وعزير ومن عبد معهما ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلال أربابا من دون اللّه ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه السّلام وأنه يعبد من دون اللّه « وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) » الآية.
الإيضاح
(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى بن مريم مثلا وجادل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعبادة النصارى له ، إذا(25/102)
ج 25 ، ص : 103
قومك من هذا المثل يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وسرورا كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا أعيوا فى حجة ثم فتحت عليهم.
وقد روى أن عبد اللّه بن الزبعرى قبل إسلامه قال للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم وقد سمعه يقول : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ » أليس النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا صالحا ، فإن كان فى النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم.
(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ؟ ) أي إن آلهتنا ليست خيرا من عيسى ، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون.
(ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) أي ما ضربوا لك المثل إلا لأجل الجدل والغلبة فى القول لا لإظهار الحق ، فإن قوله : « إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ » إنما ينطلق على الأصنام والأوثان ولا يتناول عيسى والملائكة ، ولكنهم قوم ذوو لدد فى الخصومة ، مجبولون على سوء الخلق واللجاج.
قال صاحب الكشاف : إن ابن الزبعرى بخبّه وخداعه وخبث دخلته لما رأى كلام اللّه ورسوله محتملا لفظه وجه العموم مع علمه بأن المراد به أصنامهم لا غير - وجد للحيلة مساغا فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير اللّه ، على طريقة المحك والجدال وحب المغالبة والمكابرة وتوقّح فى ذلك ، فتوفّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أجاب عنه ربه بقوله : « إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ » فدل به على أن الآية خاصة فى الأصنام اه.
أخرج سعيد بن منصور وأحمد فى جماعة عن أبى أمامة قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ، ثم تلا هذه الآية »
ثم بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله :
(إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي ما عيسى بن مريم(25/103)
ج 25 ، ص : 104
إلا عبد أنعمنا عليه بالنبوة وروادفها ، فهو رفيع المنزلة علىّ القدر ، وقد جعلناه آية ، بأن خلقناه من غير أب ، وشرفناه بالنبوة ، وصيرناه عبرة سائرة ، تفتح للناس باب التذكر والفهم ، وليست مخالفة العادة بموجبة لعبادته كما يزعم النصارى ، بل مذكرة بعبادة الخالق الحكيم.
(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي ولو نشاء لجعلنا ذريتكم ملائكة يخلفونكم فى الأرض كما يخلفكم أولادكم ، كما خلقنا عيسى من أنثى بلا ذكر وجعلناه رجلا.
وقد يكون المعنى على التهديد والتخويف لقريش ويكون المراد - لو نشاء لأهلكناكم وجعلنا بدلكم فى الأرض ملائكة يعمرونها ويعبدوننا.
والخلاصة - إننا لو نشاء لجعلنا فى الأرض عجائب كأمر عيسى بحيث يلد الرجل ملكا فيخلفه ، فباب العجائب وتغير السنن لاحد له عندنا ، فكم من نواميس خافية عليكم بيدنا تصريفها.
(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي وإن القرآن ليعلمكم بقيام الساعة ، ويخبركم عنها وعن أهوالها ، فلا تشكّنّ فيها واتبعوا هداى ، فهذا الذي أدعوكم إليه هو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه وهو الموصل إلى الحق.
(وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي ولا تغتروا بوساوس الشيطان وشبهه التي يوقعها فى قلوبكم ، فيمنعكم ذلك عن اتباعى ، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين اللّه الذي اتفق عليه رسله وكتبه.
ثم علل نهيهم عن اتباعه بعداوته لهم فقال :
(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) أي إنه مظهر لعداوته لكم ، غير متحاش ولا متكتم لها كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين أبيكم آدم من امتناعه عن السجود له ، وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بنى آدم إلا عباد اللّه المخلصين.(25/104)
ج 25 ، ص : 105
(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) أي ولما جاء عيسى بالمعجزات الواضحة قال قد جئتكم بالشرائع التي فيها صلاح البشر ، ولأبيّن لكم بعض ما اختلف فيه قوم موسى من أحكام الدين دون أمور الدنيا كطرق الفلاحة والتجارة ، فإن الأنبياء لم يبعثوا لبيانها كما يشير إلى ذلك
قوله عليه الصلاة والسّلام حين نهاهم عن تأبير النخل (تلقيحه بالطلع) ففسد الثمر ولم يغلّ شيئا نافعا « أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم » .
ولما بين لهم أصول الدين وفروعه قال :
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي فاتقوا اللّه فى مخالفتى ، وخافوا أن يحل بكم عقابه ، وأطيعونى فيما أبلغكم عنه من الشرائع والتكاليف.
ثم فصل ما يأمرهم به بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) أي إن اللّه الذي يستحق إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له - ربى وربكم ، فأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه.
(هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم ، وكل الديانات جاءت بمثله ، فما هو إلا اعتقاد بوحدانية اللّه ، وتعبّد بشرائعه.
وقصارى ذلك - إنه علم بحقائق ، وعمل بشرائع.
ولما كان الطريق القويم يجب الاجتماع عليه ، والاتفاق على سلوكه - بين أنهم خالفوا ذلك فاختلفوا فيه فقال :
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي فاختلف النصارى وصاروا شيعا ، من ملكانية إلى نسطورية إلى يعقوبية ، فمنهم من يقر بأنه عبد اللّه ورسوله وهو الحق ، ومنهم من يدعى أنه ابن اللّه ، ومنهم من يقول إنه اللّه ، تعالى اللّه عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ) أي فالويل لهؤلاء المختلفين الذين(25/105)
ج 25 ، ص : 106
أشركوا باللّه وقالوا فى عيسى ما كفروا به - من عذاب يوم القيامة حين يحاسبون على ما قالو وعلى ما عملوا.
ثم حذرهم وأنذرهم على ما هم فيه من الخلاف دون أن يتبينوا وجه الحق فقال :
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي هل ينتظر هؤلاء الأحزاب المختلفون فى شأن عيسى القائلون فيه الباطل من القول - إلا أن تقوم الساعة بغتة وهم غافلون عنها لا يعلمون بمجيئها لاشتغالهم بأمر دنياهم وإنكارهم لها ، فيندمون حين لا ينفعهم الندم ، ولا يدفع ذلك عنهم شيئا.
ونحو الآية قوله تعالى : « تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ » .
روى ابن مردويه عن أبى سعيد قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعمة ، والرجلان يطويان الثوب ، ثم قرأ (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).
[سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 73]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)
تفسير المفردات
الأخلاء : واحدهم خليل ، وهو الصديق الحميم ، مسلمين : أي مخلصين منقادين لربهم ، تحبرون : أي تسرون سرورا يظهر حباره (بفتح الحاء) أي أثره من النضرة(25/106)
ج 25 ، ص : 107
والحسن على وجوهكم ، والصحاف : واحدها صحفة وهى كالقصعة ، قال الكسائي :
أكبر أوانى الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم المئكلة ، والأكواب : واحدها كوب ، وهو كوز لا أذن له.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف أن يوم القيامة سيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون - أردف ذلك بيان أحوال ذلك اليوم ، فمنها أن الأخلاء يتعادون فيه إلا من تخالّوا على الإيمان والتقوى ، ومنها أن المؤمنين لا يخافون من سلب نعمة يتمتعون بها ، ولا يحزنون على فقد نعمة قد فاتتهم ، ومنها أنهم يتمتعون بفنون من الترف والنعيم فيطاف عليهم بصحاف من ذهب فيها ما لذّ وطاب من المآكل ، وبأكواب وأباريق فيها شهنىّ المشارب ، ويقال لهم هذا النعيم كفاء ما قدمتم من عمل بأوامر الشرع ونواهيه ، وأسلفتم من إخلاص للّه وتقوى له.
الإيضاح
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) أي كل صداقة وخلة فإنها تنقلب فى ذلك اليوم إلى عداوة إلا ما كانت فى اللّه وفى سبيله ، فإنها تبقى فى الدنيا والآخرة.
ونحو الآية ما قاله إبراهيم لقومه : « إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ » .
ثم ذكر ما يتلقى به سبحانه عباده المؤمنين المتحابين فى اللّه تشريفا لهم وتسكينا لروعهم مما يرون من الأهوال فقال :
(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) أي ونقول لهم حينئذ : يا عباد(25/107)
ج 25 ، ص : 108
لا تخافوا من عقابى ، فإنى قد أمّنتكم منه برضاى عنكم ، ولا تحزنوا على فراق الدنيا ، فإن الذي تقدمون عليه خير لكم مما فارقتموه منها.
ثم بين من يستحق هذا النداء وذلك التكريم فقال :
(الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) أي الذين آمنت قلوبهم ، وصفت نفوسهم ، وانقادت لشرع اللّه بواطنهم وظواهرهم.
ثم ذكر ما يقال لهم على سبيل البشرى فقال :
(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ) أي ادخلوا الجنة أيها المؤمنون أنتم وأزواجكم مغبوطين بكرامة اللّه ، مسرورين بما أعطاكم من مننه.
وبعدئذ ذكر طرفا مما يتمتعون به من النعيم فقال :
(يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) أي وبعد أن يستقروا فى الجنة ويهدأ روعهم يطاف عليهم بجفان من الذهب مترعة بألوان الأطعمة والحلوى ، وبأكواب فيها أصناف الشراب مما لذّ وطاب.
وبعد أن فصل بعض ما فى الجنة من نعيم ، عمّم فى ذلك فقال :
(وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) أي وفى الجنة ما تشتهيه أنفس أهلها من صنوف الأطعمة والأشربة والأشياء المعقولة والمسموعة ونحوها مما تطلبه النفوس وتهواه كائنا ما كان ، جزاء لهم على ما منعو أنفسهم من الشهوات ، وفيها ما تقرّ أعينهم بمشاهدته ، وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم ، وأنتم لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولا.
أخرج ابن أبى شيبة والترمذي عن عبد الرحمن بن سابط قال : « قال رجل يا رسول اللّه هل فى الجنة خيل فإنى أحب الخيل ؟ قال : إن يدخلك اللّه الجنة فلا تشاء أن تركب فرسا من ياقوتة حمراء فتطير بك فى أىّ الجنة شئت إلا فعلت ، وسأله آخر فقال :
يا رسول اللّه هل فى الجنة من إبل فإنى أحب الإبل ؟ فقال إن يدخلك اللّه الجنة يكن لك ما اشتهت نفسك ولذت عينك » .(25/108)
ج 25 ، ص : 109
ثم ذكر أن هذا كان فضلا من ربكم آتاكموه كفاء أعمالكم التي أسلفتموها فقال :
(وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي وهذه الجنة جعلها اللّه لكم باقية كالميراث الذي يبقى عن المورث ، جزاء ما قدمتم من عمل صالح.
أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « ما من أحد إلا وله منزل فى الجنة ومنزل فى النار ، فالكافر يرث المؤمن منزله فى النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله فى الجنة ، وذلك قوله : « وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها » .
وبعد أن ذكر الطعام والشراب ذكر الفاكهة فقال :
(لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ) أي لكم فيها صنوف من الفواكه لا حصر لها ، تأكلون منها حيثما شئتم ، وكيفما اخترتم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 74 الى 80]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
تفسير المفردات
المراد بالمجرمين هنا الراسخون فى الإجرام وهم الكفار ، يفتّر : أي يخفف ، من قولهم : فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا ، مبلسون : من الإبلاس وهو الحزن المعترض(25/109)
ج 25 ، ص : 110
من شدة اليأس ، والمبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه ، ومن ثم قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته ، قاله الراغب ، مالك : خازن النار ، ليقض علينا ربك : أي ليمتنا ، من قولهم : قضى عليه : أي أماته ، وأبرم الأمر : أحكم تدبيره ، أمرا : هو التحيل فى تكذيب الحق ، والسر : هو ما يحدث به المرء نفسه أو غيره فى مكان خال ، والنجوى : التناجي فيما بينهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما أعدّ لأهل الجنة من النعيم المقيم ، والتمتع بفنون اللذات من المآكل والمشارب والفواكه - أعقب ذلك بذكر ما يكون فيه الكفار من العذاب الأليم الدائم الذي لا يخفّف عنهم أبدا ، وهم فى حزن لا ينقطع ، ثم ذكر أن هذا ليس إلا جزاء وفاقا لما دسّوا به أنفسهم من سييء الأعمال ، ثم أردف ذلك بمقال أهل النار لخزنة جهنم وطلبهم من ربهم أن يموتوا حتى يستريحوا مما هم فيه من العذاب ، ثم إجابته لهم عن ذلك ، ثم وبخهم على ما عملوا فى الدنيا واستحقوا به العذاب ، ثم ذكر ما أحكموا تدبيره من ردّ الحق وإعلاء شأن الباطل ظنا منهم أنا لا نسمع سرّهم ونجواهم ، وقد وهموا فيما ظنوا ، فإن اللّه عليم بذلك ورسله يكتبون كل ما صدر عنهم من قول أو فعل.
الإيضاح
(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) أي إن الذين اجترموا الكفر باللّه فى الدنيا يجازيهم ربهم بعذاب جهنم خالدين فيه أبدا لا ينفك عنهم ولا يجدون عنه حولا.
(لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي لا يخفف عنهم لحظة وهم فيه ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج ، ولا منافاة بين هذا وبين قوله الآتي : ونادوا(25/110)
ج 25 ، ص : 111
يا مالك إلخ لأن تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة ، فتختلف بهم الأحوال ، فيسكتون تارة لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا فرج ، ويشتد عليهم العذاب أخرى فيستغيثون.
ثم ذكر أن ذلك العذاب جزاء ما كسبت أيديهم فقال :
(وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) أي وما ظلمنا هؤلاء المجرمين بفعلنا بهم ما أخبرناكم أننا فاعلون بهم ، ولكن هم الذين أساءوا إلى أنفسهم ، فكذبوا الرسل وعصوهم بعد أن أقاموا الحجة عليهم ، فأتوهم بباهر المعجزات.
ثم ذكر ما يقوله أهل النار وما يجيبهم به خزنتها فقال :
(وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي ونادى المجرمون من شدة العذاب فقالوا : يا مالك ادع لنا ربك أن يقبض أرواحنا ليريحنا مما نحن فيه ، فأجابهم بقوله إنكم ماكثون لا خروج لكم منها ، ولا محيص لكم عنها.
ونحو الآية قوله تعالى : « لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها » وقوله : « وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى . ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى » .
ثم خاطبهم خطاب تقريع وتوبيخ وبين سبب مكثهم فيها بقوله :
(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) أي لقد بيّنا لكم الحق على ألسنة رسلنا وأنزلنا إليكم الكتب مرشدة إليه ، ولكن سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، وتبغض أهله ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة.
وبعد أن ذكر كيفية عذابهم فى الآخرة ، بين سببه وهو مكرهم وسوء طويتهم فى الدنيا فقال :
(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ)
أي بل هم تحيلوا فى رد الحق بالباطل بوجوه من الحيل والمكر ، فكادهم اللّه تعالى ورد عليهم سوء كيدهم بتخليدهم فى النار معذبين فيها أبدا.(25/111)
ج 25 ، ص : 112
وقصارى ذلك - أحكموا كيد النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، وإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد.
ونحو الآية قوله : « وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ » وقوله :
« أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ » .
(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) أي بل أ يظنون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك ، ولا ما يتكلمون به فيما بينهم بطريق التناجي.
(بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) أي بل نسمعهما ونطلع عليهما ، والحفظة يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول وفعل.
والخلاصة - إنا نعلم ذلك ، والملائكة يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها.
قال يحيى بن معاذ : من ستر من الناس ذنوبه ، وأبداها لمن لا تخفى عليه خافية - فقد جعله أهون الناظرين إليه ، وهو من أمارات النفاق.
وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : بينا ثلاثة نفر بين الكعبة وأستارها ، قرشيان وثقفىّ ، فقال أحدهم : أ ترون أن اللّه يسمع كلامنا ، وقال الثاني : إذا جهرتم سمع ، وإذا أسررتم لم يسمع ، وقال الثالث : إن كان يسمع إذا أعلنتم فهو يسمع إذا أسررتم ، فنزلت الآية.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)(25/112)
ج 25 ، ص : 113
تفسير المفردات
سبحان رب السموات : أي تنزيها له عن كل نقص ، يصفون : أي يقولون كذبا بأن له ولدا ، فذرهم : أي فاتركهم ، يخوضوا : أي يسلكوا فى باطلهم مسلك الخائضين فى الماء ، ويلعبوا : أي يفعلوا فى أمورهم الدنيوية فعل اللاعب الغافل عن عاقبة ما يعمل ، يومهم : هو يوم القيامة ، إله : أي معبود بحق لا شريك له ، يدعون : أي يعبدون ، من شهد بالحق : أي من نطق بكلمة التوحيد ، يؤفكون : أي يصرفون ، وقيله : أي قوله :
قال أبو عبيدة : يقال قلت قولا وقالا وقيلا ، وفى الخبر « نهى عن قيل وقال » ، فاصفح عنهم : أي اعف عنهم عفو المعرض ولا تقف عن التبليغ ، سلام : أي سلام متاركة لكم بسلامتكم منى وسلامتى منكم.
المعنى الجملي
أمر اللّه نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول للمشركين إحقاقا للحق : إن مخالفته لهم فى عبادة ما يعبدون لم يكن بغضا منه لهم ولا عداوة لمعبوديهم ، بل لاستحالة نسبة ما نسبوه إليهم وبنوا عليه عبادتهم لهم من كونهم بنات اللّه ، تنزه ربنا عما يقولون ، ثم أمره أن يتركهم وشأنهم حتى يأتى اليوم الذي يلاقون فيه جزاء أعمالهم وأقوالهم (8 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/113)
ج 25 ، ص : 114
ثم أخبر بأن لا معبود فى السماء ولا فى الأرض سواه ، وهو الحكيم العليم بكل شىء وأن من يعبدونهم لا يشفعون لهم حين الجزاء والحساب ، ثم ذكر أن أقوالهم تناقض أفعالهم ، فهم يعبدون غير اللّه ، ويقولون إن الخالق للكون : سمائه ، وأرضه هو اللّه ، ثم أردف هذا أنه لا يعلم الساعة إلا هو ، وأنه يعلم شديد حزنك على عدم إيمانهم ، وعدم استجابتهم لدعوتك ، ثم ختم السورة بأمر رسوله بالإعراض عنهم وتركهم وشأنهم ، سيأتى اليوم الذي يلقون فيه الجزاء على سوء صنيعهم.
الإيضاح
(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) أي قل لهم : إن ثبت ببرهان صحيح توردونه ، وحجة واضحة تدلون بها - أن للرحمن ولدا ، كنت أسبقكم إلى طاعته ، والانقياد له ، كما يعظّم الرجل ابن الملك تعظيما لأبيه - ولا شك أن هذا أبلغ أسلوب فى نفى الولد ، كما يقول الرجل لمن بناظره ويجادله : إن ثبت ما تقول بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به ، وهذا ما اختاره ابن جرير ورجحه.
وخلاصته - إذا كنت لم أعترف بولد ، بدليل أنى لم أعبده مع أنى أقرب الناس إلى اللّه ، فالولد لا وجود له حتما - وكأنه يقول : إن انتفاء الولد مرتب على انتفاء عبادته ، لما علم من أنه إذا انتفى اللازم لشىء انتفى ذلك الشيء ، كما استدل بعدم فساد نظام الكون على وحدانية اللّه فى قوله : « لَوْ كانَ فِيهِما - السماوات والأرض - آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا » .
ثم نزه سبحانه نفسه فقال :
(سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) أي تنزه مالك السموات والأرض وما فيهما من الخلق ، ورب العرش المحيط بذلك كله - عما يصفه(25/114)
ج 25 ، ص : 115
به المشركون كذبا ، وعما ينسبون إليه من الولد ، إذ كيف تكون هذه العوالم كلها ملكا له ، ويكون شى منها جزءا منه ، تعالى ربنا عن ذلك علوّا كبيرا.
ولما ذكر الدليل القاطع على نفى الولد أمره أن يتركهم وشأنهم فيما يقولون فقال :
(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فاترك أيها الرسول هؤلاء المفترين على اللّه ، الواصفيه بأن له ولدا ، يخوضوا فى باطلهم ، ويلعبوا فى دنياهم حتى يأتى ذلك اليوم الذي لا محيص عنه ، وحينئذ يعلمون عاقبة أمرهم ، ويذوقون الوبال والنكال جزاء ما اجترحوه من الشرك والآثام.
ولا يخفى ما فى هذا من شديد الوعيد والتهديد.
ثم أكد هذا التنزيه فقال :
(وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) أي وهو اللّه الذي يعبده أهل السماء وأهل الأرض ، ولا تصلح العبادة إلا له ، وهو الحكيم فى تدبير خلقه وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم ، فالحكمة المقترنة بالعلم تخللت كل رطب ويابس وجليل وحقير ، فمن يشاهد إتقان العالم وحسن تنسيقه وإبداعه يجد الحكمة فيه على أتم وجوهها ، ويعجب مما فيه من جمال وكمال ويدهش لما يجد فيه من غرائب يحار فيها اللب ، فأفردوا له العبادة ، ولا تشركوا به شيئا سواه.
(وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي وتقدس خالق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا ندرى كنهها ولا نعلم حقيقتها ، المتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة من أحد ، وهو العلى العظيم الذي بيده أزمّة الأمور نقضا وإبراما.
(وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي وعنده العلم بميقات الساعة لا يجلّيها لوقتها إلا هو.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي وإليه المرجع فيجازى كل أحد بما يستحق ، إن خيرا فخير ، وإن شرافشر.
(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ولا تقدر الأصنام والأوثان التي يعبدونها على الشفاعة لهم كما زعموا أنهم شفعاء عند ربهم ،(25/115)
ج 25 ، ص : 116
ولكن من نطق بكلمة التوحيد وكان على بصيرة وعلم من ربه كالملائكة وعيسى تنفع شهادتهم عنده بإذنه لمن يستحقها.
وقال سعيد بن جبير : إن معنى الآية - لا يملك هؤلاء الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة.
ثم بين أن هؤلاء المشركين متناقضو الأقوال والأفعال فقال :
(وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ ؟ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) أي ولئن سألت أيها الرسول هؤلاء ، المشركين باللّه العابدين غيره ، من خلق الخلق جميعا ؟ ليعترفنّ بأنه اللّه تعالى وحده لا شريك له فى ذلك ، ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه.
(فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ؟ ) أي فكيف ينقلبون عن عبادة اللّه إلى عبادة غيره ، وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف ، فإن المعترف بأن اللّه خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع اللّه أو عبده وحده - فقد عبد بعض مخلوقات اللّه ، فهم فى غاية الجهل والسفه وضعف العقل.
وفى هذا تعجيب شديد من إشراكهم بعد هذا.
(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) أي ويعلم علم الساعة وقوله لربه شاكيا قومه الذين كذبوه ولقى منهم شديد الأذى : يا رب إن هؤلاء الذين أمرتنى بإنذارهم وأرسلتنى إليهم لتبليغهم دينك الحق - قوم لا يؤمنون.
ولما شكا الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ربه عدم إيمانهم أجابه بقوله :
(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي فأعرض عنهم وأنت آيس من إيمانهم ، ولا تجبهم بمثل ما يخاطبونك به من سيىء الكلام ، بل تألفهم واصفح عنهم قولا وفعلا ، فسوف يعلمون عاقبة كفرهم ، فإنك ستنتصر عليهم ، ويحل بهم بأسنا الذي لا يردّ.
وقد أنجز اللّه وعده ، وأنفذ كلمته ، وأعلى دينه ، وشرع الجهاد والجلاد ، فدخل الناس فى دين اللّه أفواجا ، وانتشر الإسلام فى مشارق الأرض ومغاربها.(25/116)
ج 25 ، ص : 117
فله الحمد والمنة على إظهار الحق وإعلاء مناره ، وإزهاق الباطل وكبح جماحه ، تعاليت ربنا يا ذا الجلال والإكرام ، والطّول والإنعام ، وصلواتك على محمد وآله.
خلاصة ما تضمنته السورة من المقاصد
(1) وصف القرآن الكريم.
(2) الأمر بإنذار قومه صلّى اللّه عليه وسلّم مع غفلتهم وإسرافهم فى لذات الدنيا ، (3) شأن هؤلاء المشركين فى تكذيبهم للرسول شأن غيرهم من المكذبين من قبلهم.
(4) اعترافهم بأن اللّه هو خالق السموات والأرض مع عبادتهم للأصنام والأوثان.
(5) اعتقادهم أن الملائكة بنات اللّه ثم نعى ذلك عليهم.
(6) تمسكهم بتقليد الآباء والأجداد فى شئونهم الدينية.
(7) قصص الأنبياء من أولى العزم كإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام.
(8) وصف نعيم الجنة.
(9) الأهوال التي يلقاها أهل النار حتى يتمنّوا الموت ليستريحوا مما هم فيه.
(10) متاركة أهل الباطل والصفح عنهم حتى يأتى وعد اللّه.(25/117)
ج 25 ، ص : 118
سورة الدخان
هى مكية ، وآيها تسع وخمسون ، نزلت بعد الزخرف.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) إنه تعالى ختم ما قبلها بالوعيد والتهديد ، وافتتح هذه بالإنذار الشديد.
(2) إنه تعالى حكى فيما قبلها قول رسوله صلّى اللّه عليه وسلم : يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، وحكى هنا عن أخيه موسى : « فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ » .
(3) إنه قال فيما سلف « فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ » ، وحكى هنا عن موسى « إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ » ، وهو قريب من ذلك.
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
تفسير المفردات
ليلة مباركة : هى ليلة القدر ، منذرين : أي مخوّفين ، يفرق : أي يفصل ويبين ، حكيم : أي محكم لا يستطاع أن يطعن فيه بحال ، موقنين أي تطلبون اليقين وتريدونه كما يقال منجد متهم : أي يريد نجدا وتهامة.(25/118)
ج 25 ، ص : 119
المعنى الجملي
أقسم جلت قدرته بكتابه الكريم المبين لما فيه صلاح البشر إنه أنزل القرآن فى ليلة القدر لإنذار العباد وتخويفهم من عقابه ، وإن هذه الليلة يفصل فيها كل أمر حكيم ، فيبين فيها التشريع النافع للعباد فى دنياهم وآخرتهم ، وهو رب السموات والأرض وما بينهما فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو الذي بيده إحياؤهم وإماتتهم ، وهو ربهم ورب آبائهم الأولين ، ولكنهم يمترون بعد أن وضح الحق ، وأفصح الصبح لذى عينين.
الإيضاح
(حم) أسلفنا الكلام فى مثل هذا من قبل :
(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أقسم ربنا جلت قدرته بكتابه المجيد إنه بدأ ينزل القرآن فى ليلة مباركة هى ليلة القدر التي هى خير من ألف شهر كما جاء فى قوله « إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ » من شهر رمضان كما قال سبحانه « شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ » .
والخلاصة - إن بدء نزوله كان فى ليلة القدر ثم نزل منجما بعد ذلك فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع حالا فحالا ، وقد عقد السيوطي فى كتابه « الإتقان » أبوابا لنزول القرآن فقال : باب ما نزل منه صيفا. باب ما نزل منه شتاء. باب ما نزل منه سفرا. باب ما نزل منه حضرا. باب ما نزل منه فى الأرض. باب ما نزل منه فى السماء. باب ما نزل منه بين الأرض والسماء. باب ما نزل منه بمكة. باب ما نزل منه بالمدينة. باب ما نزل بين مكة والمدينة - إلى آخر ما قال فليراجع فإن فيه فوائد نفيسة.(25/119)
ج 25 ، ص : 120
ثم بين السبب فى إنزاله فقال :
(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) أي إنا كنا معلمين الناس ما ينفعهم فيعملون به ، وما يضرهم فيجتنبونه ، لتقوم حجة اللّه على عباده.
ثم بين سبب تخصيص نزوله بتلك الليلة فقال :
(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) أي فى هذه الليلة بدأ يبين سبحانه ما ينفع عباده من أمور محكمة لا تغيير فيها ولا تبديل. بإنزاله ذلك التشريع الكامل الذي فيه صلاح البشر وهدايتهم وسعادتهم فى دنياهم وآخرتهم ، ولا غرو فهى من لدن حكيم عليم بما يصلح شئون عباده فى معاشهم ومعادهم.
ثم بيّن السر فى نزول القرآن على لسان رسوله فقال :
(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنا أرسلنا الرسول به رحمة منا لعبادنا حتى يستبين لهم ما يضرهم وما ينفعهم وحتى لا يكون لهم حجة بعد إرسال الرسول به.
ثم أكد ربوبيته بقوله :
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي إنه إنما فعل تلك الرحمة ، لأنه هو السميع لأقوالهم ، العليم بما يصلح أحوالهم ، فلا عجب أن أرسله إليهم لحاجتهم إليه.
ثم أكد العلة فى سمعه للأشياء وعلمه بها فقال :
(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) أي إنه هو السميع لكل شىء العليم به ، لأنه مالك السموات والأرض وما فيهمان كنتم تطلبون معرفة ذلك معرفة يقين لا شك فيه.
وبعد أن أثبت ربوبيته ووحدانيته ذكر فذلكة لذلك فقال :
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو الإله الذي لا تصلح العبادة إلا له ، وهو المحيي المميت ، فيحيى ما يشاء مما يقبل الحياة ، ويميت ما يشاء عند انتهاء ما قدر له من الأجل.(25/120)
ج 25 ، ص : 121
(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو مالككم والمتصرف ؟ ؟ ؟ آبائكم الأولين ومدبر شئونهم ، فاعبدوه دون آلهتكم التي لا تقدر على ضر ولا ؟ ؟ ؟
ثم بيّن أنهم ليسوا بموقنين بالجواب بعد أن تبين لهم الرشد من الغى ؟ ؟ ؟ .
(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) أي بل هم فى شك من التوحيد والبعث والإقرار بأن اللّه خالقهم ، وإن قالوا ذلك فإنما يقولونه تقليدا لآبائهم من غير علم ، إذ هم قابلوه بالهزء والسخرية فعل اللاعب العابث الذي يأخذ الجدّ وما لامرية فيه ، أخذ الهزل الذي لا فائدة فيه.
[سورة الدخان (44) : الآيات 10 الى 16]
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
تفسير المفردات
ارتقب : أي انتظر ، من قولهم : رقبته أي انتظرته وحرسته ، والمراد من الدخان ما أصابهم من الظلمة فى أبصارهم من شدة الجوع حتى كأنهم كانوا يرون دخانا ، فإن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه ورأى الدنيا كالمملوءة دخانا ، يغشى الناس : أي يحيط بهم ، اكشف عنا : أي ارفع ، أنّى : أي كيف يكون ومن أين معلّم أي يعلمه غلام رومى لبعض ثقيف ، وبطش به أخذه بالعنف والسطوة كأبطشه ، والبطش : الأخذ الشديد فى كل شىء والبأس ، قاله صاحب القاموس.(25/121)
ج 25 ، ص : 122
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال كفار قريش إذ قابلوا الرحمة بالكفران ولم ينتفعوا بالمنزّل ولا بالمنزّل عليه - أردف هذا أن أمر نبيّه بالانتظار حتى يحل بهم بأسه ، لأنهم أهل الخذلان والعذاب ، لا أهل الإكرام والغفران.
وفى هذا تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وتهديد للمشركين.
ثم حكى عنهم مقالهم فى شأن لرسول ، فتارة يقولون : إنه معلّم ، وأخرى يقولون إنه مجنون ، ثم أوعدهم بأنه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى وهو يوم القيامة ، ويجازيهم بما قالوا وبما فعلوا ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
الإيضاح
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) أي فانتظر يوم يأتى الجدب والمجاعة التي تجعل الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان المنتشر فى الفضاء.
ومن خبر هذا ما
رواه البخاري عن مسروق قال : إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، فأنزل اللّه تعالى « فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ - إلى أَلِيمٌ » فأتوا النبي صلى اللّه عليه وسلّم فقالوا : يا رسول اللّه : استسق اللّه تعالى ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل اللّه « إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ » فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم الأولى فأنزل اللّه « يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ » فانتقم اللّه منهم يوم بدر.
(يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي يحيط بهم من كل جانب ، فيقولون : هذا عذاب مؤلم يقضّ المضاجع وينتهى إلى موت محقق إن دام.(25/122)
ج 25 ، ص : 123
ثم بين أنهم وعدوا الرسول أن يؤمنوا إذا كشف عنهم العذاب كما كان يحدث من قوم فرعون حين نزول الرجز بهم فقال :
(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)
أي ربنا إنا سنؤمن إن كشفت عنا العذاب ، وهذه هى طبيعة البشر إذا هم وقعوا فى شدة أيا كانت أن يعدوا بالتوبة والإقلاع عما هم فيه ، ولكن النفوس الشريرة ، لاتتجه إلى فعل الخير ، ولا تفعل ما تتقرب به إلى ربها ، انتظارا لمثوبته ، ورجاء فى غفرانه ورحمته.
روى أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم أن يؤمنوا.
ثم نفى صدقهم فى الوعد وبين أن غرضهم كشف العذاب فحسب فقال :
(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ ؟ ) أي كيف يتذكرون ويتعظون ويفون بما وعدوا به من الإيمان حين يكشف عنهم العذاب ، وقد جاءهم الرسول بما هو كاف فى رجوعهم إلى الحق فلم يرجعوا ، بل قال بعضهم :
إن القرآن إنما يعلمه له غلام رومىّ لبعض ثقيف ، وقال آخرون : إنه أصيب بخبل إذ تلقى إليه الجن هذه الكلمات حين يعرض له الغشي.
والخلاصة - إن التوبة إما أن تكون بما ينال الناس من النوائب ، وإما أن تكون بما يتضح لهم من الحقائق ، وهؤلاء قد اتضحت لهم وجوه الصواب فلم يفقهوا ، فأخذناهم بالعذاب ، ولكن كيف يرجعون به وقد ذكرناهم بالآيات وأريناهم الحقائق وهى أنجع أثرا من العقاب فلم يؤمنوا وقالوا ما قالوا.
ثم نبه إلى أنهم لا يوفون بعهدهم ، بل إذا زال الخوف نكصوا على أعقابهم ورجعوا سيرتهم الأولى وعضّوا على الكفر بالنواجذ ، وساروا على طريق الآباء والأجداد فقال :
(إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي إنا رافعو هذا الضر النازل بهم بالخصب الذي نوجده لهم زمنا يسيرا ، وإنا لنعلم أنهم عائدون إلى سيرتهم الأولى من(25/123)
ج 25 ، ص : 124
تمسكهم بالكفر وترك الحق وراءهم ظهريا ، لما فى طباعهم من الميل إلى عبادة الأوثان وتقليد الآباء والأجداد.
ولما كان العذاب الأليم لم يؤثر ، والإصلاح بالعلم والإيمان لم يفد ، أمهلناهم إلى يوم البطشة الكبرى حيث لا توبة بعدها فينتقم اللّه منهم ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي إننا يوم القيامة لنسلطنّ عليهم بأسنا ، وننتقمنّ منهم أشد الانتقام ، ولا يجدنّ شفيعا ولا وليا ولا نصيرا يمنع عنهم عقابنا ، فيندمنّ ، ولات ساعة مندم.
[سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33]
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26)
وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33)(25/124)
ج 25 ، ص : 125
تفسير المفردات
فتنا : أي بلونا وامتحنا ، كريم : أي جامع لخصال الخير والأفعال المحمودة قاله الراغب ، أدّوا إلىّ عباد اللّه : أي أطلقوا وسلموا ، أمين : أي ائتمنه اللّه على وحيه ورسالته ، وأن لا تعلوا على اللّه : أي لا نستكبروا على اللّه بالاستهانة بوحيه ، بسلطان مبين :
أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها ، عذت بربي وربكم : أي التجأت إليه وتوكلت عليه ، أن ترجمون : أي تؤذوني ضربا أو شتما ، فاعتزلون : أي كونوا بمعزل منى لا علىّ ولا لى ولا تتعرضوا لى بسوء ، مجرمون : أي كافرون ، أسر بعبادي : أي سر بهم ليلا ، متبعون : أي يتبعكم فرعون وقومه ، رهوا : أي ساكنا ، يقال عيش راه إذا كان خافضا وادعا ، وافعل ذلك سهوا رهوا : أي ساكنا بغير تشدد ، قال القطامي فى وصف الرّكاب :
يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتّكل
مقام كريم : أي مجالس ومنازل حسنة ، نعمة : أي حسن ونضرة ، قال صاحب الكشاف : النعمة (بالفتح) من التنعم ، (وبالكسر) من الإنعام ، فاكهين : أي طيبى الأنفس ناعمين ، فما بكت عليهم السماء : أي لم تكترث لهلاكهم ولا اعتدّت بوجودهم ، وقد جرى الناس أن يقولوا حين هلاك الرجل العظيم الشأن : إنه قد أظلمت الدنيا لفقده ، وكسفت الشمس والقمر له - وبكت عليه السماء والأرض كما قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز رحمه اللّه :
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم الليل والقمرا
منظرين : أي ممهلين ومؤخرين ، العذاب المهين : أي الشديد الإهانة والإذلال ، عاليا : أي جبارا متكبرا ، من المسرفين : أي فى الشر والفساد ، اخترناهم : أي اصطفيناهم ، على علم : أي عالمين باستحقاقهم ذلك ، على العالمين : أي عالمى زمانهم ، الآيات : أي المعجزات كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المنّ والسلوى ، بلاء مبين : أي اختبار ظاهر.(25/125)
ج 25 ، ص : 126
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن مشركى مكة أصروا على كفرهم ولم يؤمنوا برسولهم - أردف هذا بيان أن هؤلاء ليسوا ببدع فى الأمم ، فكثير قبلهم كذبوا رسلهم ، فهاهم أولاء قوم فرعون قد كان منهم مع موسى مثل ما كان من قومك معك بعد أن أتاهم بالبينات التي كانت تدعو إلى تصديقه ، فكذبوه فنصره اللّه عليهم وأغرق فرعون وقومه وجعلهم مثلا للآخرين.
الإيضاح
(وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) أي ولقد اختبرنا قبل مشركى قومك - قوم فرعون وهم مثال قومك فى جبروتهم وطغيانهم ، وعتوّهم واستكبارهم ، فأرسلنا إليهم الرسول الكريم موسى عليه السلام فقال لهم : أيها القوم أرسلوا معى بنى إسرائيل وأطلقوهم من أسركم وتعذيبكم ، إنى رسول من اللّه مأمون على ما أبلغكم غير متّهم فيه.
ونحو الآية قوله عز اسمه : « فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى » .
(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي وأن لا تطغوا وتبغوا على ربكم فتكفروا به وتعصوه فتخالفوا أمره - لأنى آتيكم بحجة واضحة على حقية ما أدعوكم إليه ، لمن تأملها وتدبّر فيها.
(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أي وإنى ألتجئ إلى اللّه الذي خلقنى وخلقكم أن لا تصلوا إلىّ بسوء من قول أو فعل.
(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي وإن لم تصدقونى فيما جئتكم به من عند(25/126)
ج 25 ، ص : 127
ربكم فخلوا سبيلى ولا ترجمونى باللسان ولا باليد ، ودعوا الأمر بينى وبينكم مسالمة إلى أن يقضى اللّه بيننا ..
ولما طال مقامه صلّى اللّه عليه وسلّم بين أظهرهم ، وأقام حجج اللّه عليهم ، ولم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا دعا عليهم ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) أي فدعا ربه إذ كذبوه ولم يؤمنوا به ولم يؤدوا إليه عباد اللّه وهموا بقتله : بأن هؤلاء قوم مشركون بك مكذبون لرسلك.
ونحو الآية قوله : « وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ، رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ، رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما » .
وحينئذ أمره اللّه أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم بلا أمر فرعون ولا مشورته ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا) أي فسر ببني إسرائيل ومن آمن معك من القبط ليلا.
ثم علل السّرى ليلا فقال :
(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي إن فرعون وقومه سيتبعونكم إذا علموا بخروجكم ، ومسيركم ليلا يؤخر علمهم بذلك ، فلا يدركونكم.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً. لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى » .
(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) أي وإذا قطعت البحر أنت وأصحابك فاتركه ساكنا على حاله التي كان عليها حين دخلته حتى يدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه.(25/127)
ج 25 ، ص : 128
روى أن موسى عليه السلام لما قطع البحر رجع ليضربه بعصاه حتى يلتئم خوفا من فرعون وجنوده أن يتبعوه ، فأمر أن يتركه كما هو حتى يدخلوه.
وإنما أخبر موسى بغرقهم ليطمئن قلبه فيترك البحر كما هو.
ولما أخبر بغرقهم ذكر ما خلفوه فقال :
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ. وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي كم ترك فرعون وقومه بعد مهلكهم من بساتين فيحاء ، وحدائق غنّاء ، وزروع ناضرة ، وقصور شاهقة ، فقد كانوا فى بلهنية من العيش ، وسعة فى الرزق ، وخفض ودعة ، وسرور وحبور.
ثم أكد هذا بقوله :
(كَذلِكَ) أي هكذا فعلنا بهؤلاء الذين كذبوا رسلنا ، وهكذا نفعل بكل من عصانا وخالف أمرنا.
(وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) أي وأورثنا تلك البلاد بما فيها من خير عميم ، ونعيم عظيم ، قوما غير أهلها ممن لا يمتون إليهم بقرابة ولا دين ، فقد تغلب على مصر الآشوريون والبابليون حينا ، والحبش حينا آخر ، ثم الفرس مدة واليونان أخرى ثم الرومان من بعدهم ، ثم العرب ثم الطولونيون والإخشيديون والفاطميون والمماليك البرية والبحرية والترك والفرنسيون والإنكليز. وها نحن أولاء نجاهد لنحظى بخروجهم من ديارنا ونتمكن من استقلال بلادنا ، وللّه الأمر من قبل ومن بعد « قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ » .
ثم سخر منهم واستهزأ بهم حين هلكوا فقال :
(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) كان هؤلاء القوم يستعظمون أنفسهم ويظنون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك على ما جرت به العادة فى مهلك العظيم(25/128)
ج 25 ، ص : 129
أن يقولوا بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ونحو ذلك. قال يزيد بن مفرّغ :
الريح تبكى شجوه والبرق يلمع فى غمامه
فأخبر سبحانه بأن هؤلاء كانوا دون ذلك فما بكت عليهم سماء ولا أرض.
(وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي وما أمهلوا لتوبة أو تدارك تقصير ، بل عجّل لهم العذاب.
ولما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه ، أردف ذلك ذكر إحسانه إلى موسى وقومه فقال :
(وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي ولقد خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد وقتل الأبناء واستحياء النساء وتكليفهم بالأعمال الشاقة ، إلى نحو ذلك من وسائل الخسف والضيم إذ كان جبارا مستكبرا مسرفا فى الشر والفساد ، ولا أدل على ذلك من ادعائه الألوهية ، إذ قال أنا ربكم الأعلى.
ونحو الآية قوله تعالى : « إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً » .
وبعد أن بين طريق دفعه للضّر عنهم ، أردف ذلك ذكر ما أكرمهم به فقال :
(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) أي ولقد اصطفيناهم على عالمى زمانهم بما أنزلنا عليهم من الكتب وأرسلنا فيهم من الرسل ، ونحن عالمون بأنهم أهل لكل مكرمة وفضل.
(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) أي وأعطيناهم من الأمور ذوات الخطر الدالة على كرامتهم عندنا ، ما فيه عبرة لمن تأمل فيه ، فأنجيناهم من عدوهم ، وظللنا عليهم الغمام ، وأنزلنا عليهم المنّ والسلوى ، إلى نحو أولئك.
(9 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/129)
ج 25 ، ص : 130
قال الحسن وقتادة : البلاء المبين النعمة الظاهرة على نحو ما جاء فى قوله : « وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً » وقوله : « وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً » .
[سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 37]
إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37)
تفسير المفردات
بمنشرين : أي بمبعوثين ، يقال نشر اللّه الموتى وأنشرهم إذا أحياهم ، وتبّع : واحد التبابعة ، وهم ملوك اليمن ، وهذا اللقب أشبه بفرعون لدى قدماء المصريين ، وهم طبقتان :
الطبقة الأولى ملوك سبإ وريدان من سنة 115 قبل الميلاد إلى 275 بعده. والطبقة الثانية ملوك سبإ وريدان وحضرموت والشّحر من سنة 275 بعد الميلاد إلى سنة 525 ، وأولهم شمر برعش ، وآخرهم ذو نواس ثم ذو جدن ، ومنهم ذو القرنين أو إفريقش ، ويسمى الصعب. وبعده عمرو زوج بلقيس ثم أبو بكر ابنه ثم ذو نواس ، والذين اشتهروا من هؤلاء الملوك ثلاثة شمر برعش وذو القرنين وأسعد أبو كرب.
المعنى الجملي
عود على بدء - كان الكلام أولا فى كفار قريش ، إذ قال فيهم : بل هم فى شك يلعبون ، أي إنهم فى شك من البعث والقيامة ، ثم بين كيف أصروا على كفرهم ، ثم ذكر أن قوم فرعون كانوا فى إصرارهم على الكفر كهؤلاء ، وقد أهلكهم اللّه وأنجى بنى إسرائيل ، ثم رجع إلى الحديث الأول ، وهو إنكارهم للبعث وقولهم إنه لا حياة بعد هذه الحياة ، فإن كنتم صادقين فاسألوا ربكم يعجل لنا إحياء من(25/130)
ج 25 ، ص : 131
مات حتى يكون ذلك دليلا على صدق دعواكم النبوّة والبعث فى القيامة ، ثم توعدهم بأنه سيستنّ بهم سنة من قبلهم من المكذبين ، فقد أهلك من هم أقوى منهم بطشا وأكثر جندا ، وهم قوم تبع ملوك اليمن من قحطان ، فحذار أن تصرّوا على الكفر حتى لا يحيق بكم بأس ربكم.
الإيضاح
(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي إن هؤلاء المشركين من أهل مكة يقولون : ما ثمّ إلا هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ، ولا بعث ولا نشور.
ثم خاطبوا من وعدوهم بالنشور ، وهم النبي وأصحابه وقالوا لهم :
(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان البعث حقا كما تقولون ، فعجلوا لنا بإحياء آبائنا الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا إن كنتم صادقين فيما تدّعون.
وهذه حجة داحضة ، فإن المعاد يوم القيامة بعد انقضاء الدار الدنيا حين يعيد اللّه العالمين خلقا جديدا ، ومن ثم لم يتعرض الكتاب الكريم لردّ ما قالوا ، بل قال لهم مهددا متوعدا منذرا بأسه الذي لا يرد :
(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) أي إن نظراءهم المشركين المنكرين للبعث كقوم تبع أهلكهم اللّه وخرّب ديارهم وشرّدهم فى البلاد شذر مذر ، وقد كانوا أقوى منهم جندا وأكثر عددا ، وكانت لهم دولة وصولة ، وهؤلاء ليسوا فى شىء من ذلك - وكذلك فعل بمن قبلهم كعاد وثمود إذ كانوا فى خسران مبين بكفرهم وإنكارهم للبعث والنشور ، فليحذر هؤلاء أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك « سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا » .(25/131)
ج 25 ، ص : 132
[سورة الدخان (44) : الآيات 38 الى 42]
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
تفسير المفردات
لاعبين : أي عابثين ، بالحق : أي بسبب الحق وهو الإيمان باللّه والطاعة له ، يوم الفصل : هو يوم القيامة ، سمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الحق والباطل ، ميقاتهم :
أي وقت موعدهم ، يغنى : أي ينفع ، مولى : أي ابن عم أو حليف.
الإيضاح
(وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي وما خلقنا الخلق عبثا بأن نوجدهم ثم نفنيهم بغير امتحان بطاعتنا ، واتباع أمرنا ونهينا ، وبغير مجازاة للمطيع على طاعته ، والعاصي على معصيته ، بل خلقناهم لنبتلى من أردنا امتحانه منهم بما شئنا ، ولنجزى الذين أساءوا بما عملوا ، ونجزى الذين أحسنوا بالحسنى.
وقد سبق نحو هذا فى سورة « يونس » وسورة « المؤمنون » حيث قال :
« أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » وفى سورة ص إذ قال :
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » .
(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالحق ، وهو الدلالة بهما على وحدانية الخالق لهما ، ووجوب طاعته ، والإنابة إليه ، لعظمته وجبروته(25/132)
ج 25 ، ص : 133
كما
جاء فى الحديث القدسي « كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبى عرفونى » .
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر هؤلاء المشركين باللّه لا يعلمون ذلك ، فهم لا يخافون من سخطه عقوبة لهم على ما اجترحوا من السيئات ، ولا يرجون ثوابا على خير فعلوه لتكذيبهم بالميعاد والعودة إلى دار أخرى بعد هذه الدار.
وخلاصة ما تقدم - إن هؤلاء لقلة تدبرهم لا يعتقدون أن الأمر كذلك ، وهم واهمون فيما يظنون ، إذ لو لم توجد دار للجزاء لما امتاز مطيع من عاص ، ولا محسن من مسىء ، والعقل قاض بغير هذا.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إن هذا اليوم الذي يفصل اللّه فيه بين خلقه ، فيحق الحق ، ويبطل الباطل ، لآت لا محالة وهو وقت حسابهم ، وجزائهم على ما كسبت أيديهم من خير أو شر.
ونحو الآية قوله : « لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ » وقوله : « إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً » .
م وصف أهوال هذا اليوم فقال :
(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي إن هذا يوم تنقطع فيه الأسباب بابن آدم فلا تنفع الناس إلا أعمالهم ، فمن أصاب خيرا فى دنياه سعد به ، ومن أصاب شرا شقى به ، ولا يغنى القريب عن القريب ، ولا يدفع عنه شيئا من عذاب اللّه ، ولا يجد الناصر الذي يقيه ذلك العذاب.
وقصارى ذلك - لا يفيد المؤمن الكافر ولا ينصره ولو كان بينهما فى الدنيا علقة من قرابة أو صداقة أو غيرهما.(25/133)
ج 25 ، ص : 134
ونحو الآية قوله : « فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ » وقوله « وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً. يُبَصَّرُونَهُمْ » .
(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ) أي لكن من رحمه اللّه فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ، ولا إلى ناصر ينصره قاله الكسائي.
(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن اللّه هو العزيز فى انتقامه من أعدائه ، الرحيم بأوليائه وأهل طاعته.
[سورة الدخان (44) : الآيات 43 الى 50]
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)
ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
تفسير المفردات
شجرة الزقوم : هى شجرة ذات ثمر مرّ تنبت بتهامة ، شبهت بها الشجرة التي تنبت فى الجحيم ، والأثيم : أي الكثير الآثام والذنوب وهو الكافر ، والمهل : دردىء الزيت ، والجميم : الماء الذي تناهى حره ، والعتل أن تأخذ بمنكبي الرجل فتجره إليك وتذهب به إلى حبس أو محنة. وقال ابن السكيت : عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دفعته دفعا عنيفا ، وسواء الجحيم : وسطها.
الإيضاح
(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ) أي إن الزقوم وهو ثمر هذه الشجرة التي فى الجحيم - طعام للكافر كثير الذنوب والآثام.(25/134)
ج 25 ، ص : 135
(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ. كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي وهذا الطعام الذي يشبه دردىء الزيت الأسود - يغلى فى بطون الكفار ويكون كالماء الحار إذا اشتد غليانه.
(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) أي ويقال للزبانية « خدم جهنم » خذوا هذا المجرم فادفعوه دفعا إلى وسط جهنم ، لينال قسطه من عذابها.
(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي وبعد أن تدخلوه فيها صبّوا فوق رأسه من الماء الساخن الذي ذكرنا صفته.
ونحو الآية قوله تعالى : « يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ » .
ثم ذكر ما يقال له آنئذ تقريعا وتهكما.
(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي ذق هذا الذل والهوان اليوم ، فإنك كنت تزعم أنك أنت العزيز الكريم ، وها هو ذا قد تبين لك أنك أنت الذليل المهين ، فأين ما كنت تقول وتدعى من العز والكرامة ؟ فهلا تمتنع من العذاب بعزتك.
أخرج الأموى فى مغازيه عن عكرمة قال : لفى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أبا جهل فقال له : إن اللّه أمرنى أن أقول لك : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ، فنزع يده من يده وقال بأى شىء تهددنى ، ما تستطيع أنت ولا صاحبك أن تفعلا بي شيئا ، إنى لمن أعز هذا الوادي وأكرمه ، لقد علمت أنى أمنع أهل بطحاء على قومه ، فقتله اللّه يوم بدر وأذله ، وعيّره بكلمته ، فأنزل « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » .
(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي إن هذا العذاب. الذي تعذبون به هو العذاب الذي كنتم تشكّون فيه فى الدنيا ، فتختصمون فيه ، ولا توقنون به ، فقد لقيتموه فذوقوه.
ونحو الآية قوله تعالى « يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا. هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ » .(25/135)
ج 25 ، ص : 136
[سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
تفسير المفردات
فى مقام أمين : أي فى مجلس أمنوا فيه من كل همّ وحزن ، سندس : أي ديباج رقيق ، إستبرق : أي حرير فيه بريق ولمعان ، زوّجناهم : أي قرناهم ، بحور عين :
أي بجوار بيض حسان واسعات العيون ، يدعون : أي يطلبون ، وقاهم : أي حفظهم ارتقب : أي انتظر.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر وعيد الكافرين وما يرونه من الأهوال فى ذلك اليوم - أعقب هذا بوعد المتقين بما يلاقونه فى جنات النعيم من ضروب التكريم فى الملبس والزوجات والمآكل ، ثم ببيان أن هذا النعيم أبدىّ خالد لا يعقبه موت ولا تحوّل ولا انتقال ، ثم ختم السورة بالمنة على العرب فى نزول القرآن بلغتهم لعلهم يعتبرون ويتعظون به ، ثم توعدهم إذا هم كذبوا بما جاء به الرسول بحلول النقمة بهم ، والنصر له عليهم ، كما هى سنته فى أمثالهم من المكذبين « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » .(25/136)
ج 25 ، ص : 137
الإيضاح
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي إن المتقين للّه فى الدنيا الخائفين عقابه ، المنتظرين فضله وثوابه - يكونون فى الآخرة فى مجالس يأمنون فيها من الموت ومن كل ما يحزنهم ويصيبهم من الآفات والآلام.
وقد ذكر سبحانه من ضروب نعيمهم خمسة ألوان :
(1) مساكنهم كما قال « فِي مَقامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ » والمسكن يطيب بأمرين :
(ا) أن يكون من فيه آمنا من جميع ما يخافه ويحذر منه ، وهو المقام الأمين.
(ب) أن يكون فيه أسباب النزهة من الجنات والعيون ، وذلك قوله : ِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ »
.
(2) ملابسهم ، وهى التي عناها سبحانه بقوله :
(يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) وقد تقدم بسط الكلام فى ذلك فى سورة الكهف.
(3) استئناس بعضهم ببعض بجلوسهم على جهة التقابل ، وهو ما أشار إليه بقوله :
(مُتَقابِلِينَ) أي ينظر بعضهم إلى بعض ، وهو أتمّ للأنس.
(4) الأزواج كما قال :
(كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي وهذا العطاء مع ما قد منحناهم من الزوجات الحور العين اللاتي لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جانّ.
(5) المأكول كما قال :
(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون ما يشتهون من أنواع الفاكهة ، وهم آمنون من انقطاعها ، ومن غائلة أذاها ومكروهها ، فهى ليست كفاكهة الدنيا التي نأكلها ونخاف مكروه عاقبتها ، أو نخاف نفادها فى بعض الأحايين.(25/137)
ج 25 ، ص : 138
وبعد أن وصف ما هم فيه من نعيم مقيم ، بيّن أن حياتهم فى هذا النعيم دائمة لا يلحقها موت ولا فناء فقال :
(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى ) أي لا يخشون فى الجنة موتا ولا فناء أبدا.
وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « يؤتى بالموت فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت »
وقد تقدم هذا فى سورة مريم.
وروى أبو هريرة وأبو سعيد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال : يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، وإن لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا » رواه مسلم.
وخلاصة ذلك - لا يذوقون فيها الموت ، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها فى الدنيا كذا قال الزجاج والفرّاء.
(وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي وهم مع هذا النعيم قد نجاهم من العذاب الأليم ، فى دركات الجحيم ، فأعطاهم ما يطلبون ، ونجاهم مما يهزبون.
(فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ) أي نجاهم من ذلك تفضلا منه وإحسانا.
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي ذلك الذي أعطيناه هؤلاء المتقين من الكرامة ، هو الفوز العظيم بما كانوا يطلبون إدراكه فى الدنيا ، بأعمالهم ، وطاعتهم لربهم ، واتقائهم إياه ، فيما امتحنهم به من الطاعات ، واجتنابهم للمحرمات.
ولما أتمّ المقاصد التي أراد ذكرها فى هذه السورة لخصها بقوله :
(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي إنما سهلنا إليك قراءة القرآن الذي أنزلناه إليك بلسانك ، ليتذكر به قومك ويتعظوا بعظاته ، ويتفكروا فى آياته إذا تلوتها عليهم ، فينيبوا إلى ربهم ، ويذعنوا للحق الذي تبيّنوه.
ولما كان القرآن مع هذا الوضوح والبيان قد خالف فيه بعض الناس وعاند ، قال تعالى مسليّا رسوله وواعدا له بالنصر ، ومتوعدا من كذبه بالهلاك.(25/138)
ج 25 ، ص : 139
(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي فانتظر فإنهم منتظرون ، وسيعلمون لمن تكون النصرة والغلبة ، والظفر وعلوّ الكلمة فى الدنيا والآخرة - ولا شك أن النصر سيكون لك كما كان لإخوانك من النبيين والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين كما قال :
« إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ » .
وقصارى ذلك - ارتقب النصرة من ربك ، إن المشركين مرتقبون بك ما يتمنونه من الغوائل ، وما يتربصونه بك من الدوائر ، ولن يضيرك ذلك بفضل ربك عليك ، وسيتم نصرك ، ويفلج حجتك ، ويعلى كلمتك.
اللهم يا من بيدك الخير ، وأنت على كل شىء قدير ، وفقنا لإتمام تفسير كتابك ، واجعله لنا نورا يوم العرض والحساب.
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من المقاصد
(1) بيان بدء نزول القرآن.
(2) وعيد الكافرين بحلول الجدب والقحط بهم.
(3) عدم إيمانهم مع توالى النكبات بهم.
(4) عظة الكافرين بقصص فرعون وقومه مع موسى عليه السلام ، وقد أنجى اللّه المؤمنين ، وأهلك الكافرين.
(5) إنكار المشركين للبعث وقولهم : إن هى إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين (6) إقامة الدليل على نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
(7) وصف أهوال يوم القيامة.
(8) وصف ما يلاقيه المجرمون من النكال والوبال.
(9) وصف نعيم المتقين وحصولهم على كل ما يرغبون.(25/139)
ج 25 ، ص : 140
سورة الجاثية
هى مكية إلا الآية الثامنة فمدنية.
وعدة آيها سبع وثلاثون ، نزلت بعد سورة الدخان.
ومناسبتها لما قبلها : أن أول هذه مشاكل لآخر سابقتها فى الأغراض والمقاصد.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
تفسير المفردات
لآيات : أي لعبرا ، يبث : أي يفرق وينشر ، اختلاف الليل والنهار : أي تعاقبهما ليل بعد نهار ونهار بعد ليل ، من رزق. أي من مطر ، وسمى بذلك لأنه سبب له ، وتصريف الرياح : أي تغييرها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال.
الإيضاح
(حم) قد عرفت الكلام فى أمثالها من قبل.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي إن هذا الكتاب الكريم(25/140)
ج 25 ، ص : 141
أنزله العزيز الغالب القاهر لكل شىء ، الحكيم فى تدبيره لكل ما خلق ، فهو سبحانه مع قهره للعوالم المادية والروحية ، لا يتصرف إلا بالحكمة كما يشاهد فى النبات والحيوان والأجسام الإنسانية ودوران الكواكب وانتظامها فى سيرها ، فكل ذلك من القهر والغلبة لها مع الحكمة فى صنعها ، ومن ثم أعقب ذلك بنتائج العزة والحكمة فقال :
(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي إن فى السموات السبع اللاتي منهن ينزل الغيث ، وفى الأرض التي منها يخرج الخلق - لأدلة واضحة للمصدقين بالحجج إذا تأملوها وفكروا فيها تفكير من يسلك السبيل القويم ، فيرتب المقدمات ، ليصل منها إلى النتائج ، التي هى لازمة لها بحكم النظام الفكرى ، والترتيب العقلي.
وبعد أن ذكر الأدلة الكونية التي فى الآفاق أتبعها بذكر الأدلة التي فى الأنفس فقال :
(وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي وإن فى خلق اللّه إياكم على أطوار مختلفة من تراب ثم من نطفة إلى أن تصيروا أناسىّ ، وفى خلق ما تفرق فى الكون من الدواب - لحججا لقوم يوقنون بحقائق الأشياء فيقررونها بعد العلم بصحتها.
(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي وإن فى تعاقب الليل والنهار عليكم ، هذا بظلمته وسواده ، وذاك بنوره وضيائه ، وفيما أنزل اللّه من السماء من مطر تحيا به الأرض بعد موتها ، فتهتز بالنبات والزرع من بعد جدوبها وقحوطها ، فتخرج أرزاق العباد وأقواتهم ، وفى تصريف الرياح لمنافعكم شمالية مرة وجنوبية أخرى ، صبا مرة ، ودبورا أخرى - لأدلة وحججا للّه على خلقه الذين يعقلون عنه حججه ويفهمون ما وعظهم به من الآيات والعبر.(25/141)
ج 25 ، ص : 142
وقصارى ما سلف - إنكم إذا تأملتم الحكم المنبثة فى السموات والأرض آمنتم بوحدة خالقها وقدرته ، فإذا ازددتم علما ، ازداد تثبتكم وفهمكم ، فصرتم موقنين بها لأن الإيقان يكون بتوافر الأدلة وتكاثرها ، ومتى أيقنتم بجمال هذا الكون وحسن نظامه أصبحتم من ذوى العقول الناضجة ، والأفكار النافذة فى أسرار هذا الكون وبديع صنعه ، فتستطيعون أن تنتفعوا بما فيه وتسخروه لمنافعكم فى هذه الحياة المليئة بالمطالب.
وإجمال ذلك - إن أول المراتب الإيمان باللّه ، فإذا ازداد المرء علما وحكمة وبحثا فى دقائق الأشياء وعظائمها أصبح موقنا به ، وكلما ازداد بحثا ازداد عقله دراية وفهما لأسرار هذا الكون ، فسخره لمنافعه ، واستفاد من نظمه التي وجد عليها وعرف أنه لم يخلق عبثا ، بل خلق للانتفاع بما فى ظاهره وباطنه ، علويّه وسفليه ، أرضه وسمائه ، نوره وظلامه ، فكأنه يقول : إنا أمرناكم بالنظر فى العالم لتؤمنوا ، فإذا ازددتم علما أيقنتم بي ، وذلك كله مما يربى عقولكم ، ويكملها إلى أقصى حدود طاقتها البشرية.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 6 الى 11]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)
هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)(25/142)
ج 25 ، ص : 143
تفسير المفردات
الأفاك : كثير الإفك والكذب ، والأثيم : كثير الإثم والمعاصي ، والإصرار على الشيء : ملازمته ، من ورائهم : أي من بعد آجالهم ، يغنى : أي يدفع ، أولياء :
أي أصناما ، والرجز : أشد العذاب.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر آيات القرآن العظيم - أشار إلى ما لها من علوّ المرتبة ، ورفيع الدرجة ثم أوعد من كذبوا بها بعد سماعها ، وأصروا على كفرهم بها - بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ، ثم بين أن عاقبتهم النار ، وبئس القرار ، ولا تنفعهم أصنامهم شيئا ، ولا تدفع عنهم ما قدّر لهم من العذاب.
الإيضاح
(تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) أي هذه آيات القرآن بما فيها من حجج وبينات ، نتلوها عليك متضمنة للحق.
(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ ؟ ) أي فبأى حديث أيها القوم بعد حديث اللّه الذي يتلوه على رسوله ، وبعد حججه وبرهاناته التي دلكم بها على وحدانيته - تصدقون إن كذبتم به.
والخلاصة - إذا كنتم لا تؤمنون بهذه الآيات ولا تنقادون لها ، فبم تؤمنون ؟
وإلام تنقادون ؟
وبعد أن بين للكفار آياته ، وذكر أنهم إن لم يؤمنوا بها فبأى حديث بعدها يؤمنون ؟ أتبعه بالوعيد العظيم لهم فقال :(25/143)
ج 25 ، ص : 144
(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) أي فالويل أشد الويل ، والعذاب أقسى العذاب ، لكل كذاب فى قوله ، أثيم فى فعله.
وبعد أن وصف هذا الأفاك بالإثم أولا ، أتبعه بوصفه بالاستكبار عن سماع الآيات فقال :
(يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) أي إذا سمع آيات اللّه تقرأ عليه ، وهى مشتملة على الوعد والوعيد ، والإنذار والتبشير ، والأمر والنهى ، والحكم والآداب ، أصرّ على الكفر بها ، وجحدها عنادا كأنه ما سمعها.
ثم أوعده على ما فعل عذابا أليما فى نار جهنم فقال :
(فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي فبشره أيها الرسول بالعذاب المؤلم الموجع فى جهنم وبئس القرار.
وفى تسمية هذا الخبر المحزن بشرى ، وهى لا تكون إلا فى الأمر السار - تهكم بهم ، واحتقار لشأنهم ، فهو من وادي قوله للكافر « ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ » وقول الشاعر :
تحية بينهم ضرب وجيع
نزلت الآية فى النضر بن الحارث وكان يشترى أحاديث الأعاجم ، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن ، وهى عامة فى كل من كان صادّا عن الدين مستكبرا عن اتباع هدايته.
(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) أي وإذا وصل إليه خبرها ، وبلغه شىء منها ، جعلها هزوا وسخرية ، فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى « إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ » دعا بتمر وزبد وقال لأصحابه : تزقّموا من هذا ، ما يعدكم محمد إلا شهدا ، وحين سمع قوله « عليها تسعة عشر » أي على النار قال : إن كانوا تسعة عشر فأنا ألقاهم وحدي.(25/144)
ج 25 ، ص : 145
ثم ذكر ما يصيب هؤلاء من العذاب فقال :
(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي أولئك الأفاكون المتصفون بتلك الصفات لهم العذاب الذي يهينهم ويذلهم فى نار جهنم بما كانوا فى الدنيا يستكبرون عن طاعة اللّه واتباع آياته واتخاذها هزوا.
(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) أي ومن وراء ما هم فيه من التعزز بالدنيا والتكبر جهنم ، والمراد أنها من قدامهم ، لأنهم متوجهون إليها.
(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) أي ولا يدفع العذاب عنهم ما كسبوا من الأموال والأولاد.
(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ) أي ولا تغنى عنهم أصنامهم التي عبدوها من دون اللّه شيئا.
(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولهم من اللّه يومئذ عذاب عظيم لا يقدر قدره.
(هذا هُدىً) أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أيها الرسول هاد إلى الحق وإلى صراط مستقيم لمن اتبعه وعمل بما فيه.
(وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي والذين جحدوا بآياته الكونية فى الأنفس والآفاق وآياته المنزلة على ألسنة رسله لهم العذاب المؤلم الموجع يوم القيامة.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15]
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)(25/145)
ج 25 ، ص : 146
تفسير المفردات
سخر : هيأ ، الفلك : السفينة ، والابتغاء : الطلب ، يغفر : أي يعفو ويصفح ، لا يرجون : أي لا يتوقعون حصولها ، وأيام اللّه : وقائعه بأعداء دينه كما يقال لوقائع العرب أيام العرب ، والقوم هم المؤمنون الغافرون.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فيما سلف الحجج الدالة على ربوبيته ووحدانيته - أردف ذلك ذكر آثارها ، فمن ذلك تسخير السفن فى البحار حاملة للأقوات والمتاجر رجاء أن تشكروا ما أنعم به عليكم ، ومنها تسخيره ما فى السموات والأرض من شموس وأقمار وبحار وجبال ، لتنتفعوا بها فى مرافقكم وشئونكم المعيشية.
ثم أمر المؤمنين بأحاسن الأخلاق ، فطلب إليهم أن يصفحوا عن الكافرين ويحتملوا أذاهم ، وعند اللّه جزاؤهم ، فمن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ، ويوم القيامة يعرضون على ربهم ويجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.
الإيضاح
(اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي إن ذلك الخالق الواحد الذي أقمت لكم الأدلة على وجوده - هو الذي يسّر لكم استخدام البحر لتجرى فيه السفن بإذنه وقدرته ، حاملة أقواتكم ومتاجركم ، لتقوم بشئونكم المعيشية ، ولتطلبوا رزق ربكم منه بالغوص للدرّ تارة والصيد تارة أخرى ،(25/146)
ج 25 ، ص : 147
ولتشكروهعلى ما أفاض عليكم من هذه النعم ، فتعبدوه وتطيعوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي وسخر لكم جميع ما خلقه فى سمواته وأرضه مما تتعلق به مصالحكم ، وتقوم به معايشكم ، فمما سخر لكم من المخلوقات السماوية الشمس والقمر والنجوم النيرات والمطر والسحاب والرياح ، ومن المخلوقات الأرضية الدواب والأشجار والجبال والسفن رحمة منه وفضلا ، وكل هذه أدلة على أنه اللّه الذي لا إله غيره ، لمن تأمل فيها واعتبر بها وتدبرها حق التدبر.
والخلاصة - إن العالم كله كأنه جسم واحد يحتاج كل جزء منه إلى الأجزاء الباقية ، فلا يستقيم مطر بلا حرارة شمس ، ولا تسير سفن إلا بهواء أو فحم أو كهرباء وما شاكل ذلك ، فالعالم كله كساعة منتظمة لا يستقيم سيرها إلا إذا استكملت آلاتها وعددها.
وعن طاوس قال : جاء رجل إلى عبد اللّه بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق فقال من الماء والنور والظلمة والهواء والتراب ، قال فمم خلق هؤلاء ؟ قال لا أدرى ، ثم أتى الرجل عبد اللّه بن الزبير فسأله ، فقال مثل قول عبد اللّه بن عمرو ، فأتى ابن عباس فسأله مم خلق الخلق ؟ فقال من الماء والنور والظلمة والريح والتراب ، قال مم خلق هؤلاء ؟
فقرأ ابن عباس : « وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ » فقال الرجل ما كان ليأتى بهذا إلا رجل من أهل بيت النبوة.
ولما علّم سبحانه عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة - أردفه تعليمهم فضائل الأخلاق فقال :
(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) أي قل للذين صدقوا اللّه ورسوله :
اعفوا واصفحوا عن هؤلاء المشركين الذين لا يخافون بأس اللّه ونقمته ، إذا نالكم منهم أذى ومكروه قاله مجاهد.(25/147)
ج 25 ، ص : 148
روى الواحدي والقشيري عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عمر بن الخطاب مع عبد اللّه بن أبىّ فى غزوة بنى المصطلق ، فإنهم نزلوا على بئر يقال لها المريسيع ، فأرسل عبد اللّه غلامه ليستقى فأبطأ عليه ، فقال ما حبسك ؟ قال غلام عمر قعد على فم البئر ، فما ترك أحدا يستقى حتى ملأ قرب النبي صلى اللّه عليه وسلم وقرب أبى بكر وملأ لمولاه ، فقال عبد اللّه : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل « سمّن كلبك يأكلك » فبلغ عمر قوله ، فاشتمل على سيفه يريد التوجه إليه ليقتله ، فأنزل اللّه هذه الآية :
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس سببا آخر قال : لما نزل قوله تعالى :
« مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً » قال يهودى بالمدينة يسمى فنحاصا ، احتاج رب محمد. قال فلما سمع عمر بذلك اشتمل على سيفه وخرج فى طلبه ، فجاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : إن ربك يقول لك : « قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ » فبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى طلب عمر فلما جاء قال : (يا عمر ضع سيفك) قال يا رسول اللّه صدقت. أشهد إنك أرسلت بالحق ، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الآية. فقال عمر : لا جرم والذي بعثك بالحق لا ترى الغضب فى وجهى.
ثم علل الأمر بالمغفرة فقال :
(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليجزى اللّه تعالى يوم القيامة قوما بما كسبوا فى الدنيا من أعمال طيبة ، من جملتها الصبر على أذى الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه - ما لا يحيط به الوصف من الثواب العظيم فى جنات النعيم.
ولما رغب سبحانه ورهّب وقرر أنه لا بد من الجزاء - أبان أن النفع والضر لا يعدو المحسن والمسيء فقال :
(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) أي من عمل من عباد اللّه بطاعته ، فانتهى إلى أمره وازدجر عن نهيه - فلنفسه عمل ، ولها طلب الخلاص من عذابه ،(25/148)
ج 25 ، ص : 149
واللّه غنى عن كل عامل ، ومن أساء عمله فى الدنيا بمعصية ربه فعلى نفسه جنى ، ولها اكتسب الضر.
ثم بين وقت الجزاء فقال :
(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي ثم تصيرون إلى ربكم حين العرض للحساب ، فيجازى المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 20]
وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
تفسير المفردات
الكتاب : المراد به الكتب التي نزلت على أنبيائهم ، الحكم : الفصل بين الناس فى الخصومات ، لأنهم كانوا ملوكا ، بينات من الأمر : أي دلائل واضحات فى أمر الدين ، ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام ، بغيا : أي حسدا وعنادا ، على شريعة من الأمر : أي على طريقة ومنهاج فى أمر الدين. وأصل الشريعة مورد(25/149)
ج 25 ، ص : 150
الماء فى الأنهار ونحوها ، وشريعة الدين يرد منها الناس إلى رحمة اللّه والقرب منه ، بصائر للناس : أي معالم للدين بمنزلة البصائر فى القلوب.
المعنى الجملي
اعلم أن اللّه سبحانه بين أنه أنعم على بنى إسرائيل بنعم كثيرة ، وقد حصل بينهم الاختلاف بغيا وحسدا ، وجاء ذكر هذا تسلية لرسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى الأمم ، بل طريقهم طريق من تقدمهم ، ثم أمر رسوله بأن يتمسك بالحق ، ولا يكون له غرض سوى إظهاره ، ولا يتبع أهواء الجاهلين الضالين ، ثم ذكر أن القرآن معالم للهداية تهتدى بها القلوب الضالة عن طريق الحق ، فتلزم الجادّة وتصل إلى طريق النجاة.
الإيضاح
(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) امتنّ سبحانه على بنى إسرائيل بما أنعم به عليهم من وافر النعم الدينية والدنيوية وذكر من ذلك :
(1) إنزال التوراة على موسى فيها معالم للهدى وشرائع للناس تهديهم إلى سواء السبيل.
(2) إرسال الرسل ، فكثر فيهم الأنبياء بما لم يكن لأمة مثله.
(3) القضاء بين الناس والفصل فى خصوماتهم ، إذ كان الملك فيهم ، فاجتمع لهم حكم الدين وحكم الدنيا.
(4) إيتاؤهم طيبات الأرزاق ، فكانوا ذوى ترف ونعيم فى معايشهم ، وكان(25/150)
ج 25 ، ص : 151
منهم الملوك ذوو الحظ الأوفر من العظمة والفضل وسعة الجاه والأمر والنهى وبسطة العيش كداود وسليمان عليهما السلام.
(5) تفضيلهم على الناس جميعا ، إذ لم يكن فى أمة أنبياء كما كان فيهم ، ولم يجمع اللّه بين الملك والنبوة فى شعب كما اجتمع فيهم ، فهم أرفع الشعوب منقبة.
قال ابن عباس : لم يكن أحد من العالمين أكرم على اللّه ولا أحب إليه منهم اه.
وقد آتاهم من الآيات المرئية والمسموعة وأكثر فيهم من الأنبياء بما لم يفعله بغيرهم ممن سبق.
(6) إيتاؤهم أحكاما ومواعظ مؤيدة بالمعجزات ، وقد كان هذا مما يستدعى ألفتهم واجتماعهم ، وكانوا كذلك لا يختلفون إلا اختلافا يسيرا لا يضر مثله ، فلما جاءهم العلم اختلفوا كما أشار إلى ذلك بقوله :
(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي فما حدث فيهم هذا الخلاف إلا بعد قيام الحجة طلبا للرياسة وحسدا فيما بينهم ، وقد سبق تفصيله فى سورة حم عسق.
ثم وكل سبحانه أمر المختلفين إليه للقضاء بينهم يوم القيامة فقال :
(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي إن ربك سبحانه يقضى بين المختلفين من بنى إسرائيل بغيا وحسدا فيما كانوا فيه يختلفون فى الدنيا بعد العلم الذي آتاهم ، والبيان الذي جاءهم منه ، ويجعل الفلج للمحقّ على المبطل ، والمقصد من هذا أنه لا ينبغى أن يغترّ المبطل بنعم الدنيا ، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها ، فهو سيرى فى الآخرة ما يسوءه.
وفى هذا تحذير لهذه الأمة أن تسلك مسلكهم ، وأن تسير على نهجهم.
ولما بين أنهم أعرضوا عن الحق بغيا وحسدا - أمر رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يعدل عن هذه الطريقة وأن يستمسك بالحق فقال :(25/151)
ج 25 ، ص : 152
(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي ثم جعلناك بعد بنى إسرائيل الذين وصفت لك صفتهم - على نهج خاص من أمر الدين ، فاتبع ما أوحى إليك ، ولا تتبع ما دعاك إليه الجاهلون الذين لا يعلمون توحيد اللّه ولا شرائعه لعباده وهم كفار قريش ومن وافقهم فتهلك.
ثم علل النهى عن اتباع أهوائهم فقال :
(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي إن هؤلاء الجاهلين بربهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده بك إن اتبعت أهواءهم وخالفت شريعته.
ثم بين أولياء الكافرين وأولياء المؤمنين فقال :
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي وإن الكافرين ليتولى بعضهم شئون بعض فى الدنيا ، أما فى الآخرة فلا ولىّ ولا شفيع ولا نصير يجلب لهم ثوابا ولا يدفع عنهم عقابا.
(وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) أي والمتقون المهتدون وليهم اللّه وهو ناصرهم ومخرجهم من الظلمات إلى النور ، والكافرون أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ، فما أبعد الفرق بين الولايتين :
شتان ما يومى على كورها ويوم حيّان أخى جابر
وقصارى ما سلف - دم على ما أنت عليه من اعتمادك على ولاية ربك ونصرته ، وأعرض عما سواه.
ثم بين فضل القرآن وذكر ما يجلبه التمسك بحبله المتين فقال :
(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي هذا القرآن دلائل للناس فيما يحتاجون إليه من أمر الدين ، وبينات تبصّرهم وجه الفلاح ، وتعرّفهم سبيل الهدى ، وهو هدى ورحمة لقوم يوقنون بصحته ، وهو تنزيل من رب العالمين.
وإنما خص الموقنين بأنه لهم هدى ورحمة ، لأنهم هم الذين ينتفعون بما فيه دون من كذّب به من أهل الكفر فإنه عليهم عمى.(25/152)
ج 25 ، ص : 153
[سورة الجاثية (45) : الآيات 21 الى 23]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23)
تفسير المفردات
الاجتراح : الاكتساب ، ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدى ، والمراد بالسيئات : سيئات الكفر والإشراك باللّه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر الفارق بين الكافرين والمؤمنين فى الولاية ، فأبان أن الأولين بعضهم أولياء بعض ، وأن الآخرين وليهم اللّه - أردف ذلك ذكر الفارق بينهم فى المحيا والممات ، فالمحسنون مرحومون فى الحالين ، ومجترحو السيئات مرحومون فى الدنيا فحسب ، ثم ذكر الدليل على هذا بأن اللّه ما خلق الخلق إلا بالحق المقتضى للعدل والانتصاف للمظلوم من الظالم ، والتفاوت بين المحسن والمسيء فى الجزاء ، وإذا لم يكن هذا فى المحيا كان فى دار الجزاء حتما ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، فلا تظلم بنقص ثواب أو بمضاعفة عقاب.
ثم عجّب سبحانه ممن ركب رأسه واتبع هواه وترك الهدى وأضله اللّه وهو العليم باستعداده وخبث طويته ، وأنه ممن يميل إلى تدسية نفسه واجتراح الآثام والمعاصي ،(25/153)
ج 25 ، ص : 154
فهو ممن ختم اللّه على سمعه وقلبه ، فلا يتأثر بعظة ، ولا يفكر فى آية ، وجعل على بصره غشاوة مانعة من الاستبصار والاعتبار ، فمن بعد اللّه يهديه ؟ أفلا تتذكرون وتتفكرون فى هذا ؟
روى الكلبي فى تفسيره أن عتبة وشيبة والوليد بن عتبة قالوا لعلى وحمزة وجمع من المؤمنين : وللّه ما أنتم على شىء ، ولو كان ما تقولونه حقا ، لكان حالنا أفضل من حالكم فى الآخرة كما هو أفضل فى الدنيا ، فنزلت الآية « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ »
إلخ.
الإيضاح
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ)
أي أ يظن هؤلاء الذين اكتسبوا الإثم والمعاصي فى الدنيا ، فكفروا باللّه وكذبوا الرسل ، وخالفوا أمره ، وعبدوا غيره ، أن نجعلهم كالذين آمنوا به وصدقوا رسله ، فنساوى بينهم فى دار الدنيا وفى الآخرة - كلا لا يستوون فى شىء منهما ، فإن أهل السعادة فى عز الإيمان والطاعة وشرفهما فى المحيا ، وفى رحمة اللّه ورضوانه فى الممات ، وأهل الشقاء فى ذلك الكفر والمعاصي وهوانهما فى المحيا ، وفى لعنة اللّه والعذاب الخالد فى الممات ، فشتان ما بينهما وما أبعد ما بين الثريا والثرى.
ونحو الآية قوله تعالى : « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » وقوله : « أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ » (ساءَ ما يَحْكُمُونَ)
أي ساء ما ظنوا وبعد أن نساوى بين الأبرار والفجار فى الدار الآخرة وفى هذه الدار.
وفى الآية إرشاد إلى تباين حالى المؤمن العاصي والمؤمن الطائع.
وقد أثر عن كثير من الناسكين المخبتين لربهم أنهم كانوا يبكون عند تلاوة هذه الآية حتى سموها مبكاة العابدين.(25/154)
ج 25 ، ص : 155
أخرج عبد اللّه بن أحمد فى زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبى الضحى قال :
قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله « أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ »
الآية لم يزل يكررها ويبكى حتى أصبح وهو عند المقام.
وأخرج ابن أبى شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلى فمرّ بهذه الآية (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ)
فلم يزل يردّدها حتى أصبح.
وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها : ليت شعرى من أي الفريقين أنت ؟ .
ثم أقام الدليل على عدم التساوي وأبان حكمة ذلك فقال :
(وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) أي لم يخلق اللّه السموات والأرض للجور والظلم ، بل خلقهما للحق والعدل ، ومن العدل أن يخالف بين المحسن والمسيء فى العاجل والآجل.
(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي وليثيب كل عامل بما هو له أهل ، فلا يبخس المحسن ثواب إحسانه ، أو يحمل عليه جرم غيره فيعاقبه به ، أو يجعل للمسىء ثواب إحسان غيره.
والخلاصة - كل عامل يجزى بما كسبت يداه ، ولا يظلم بنقص ثواب ، ولا بتضعيف عقاب.
ثم بين أحوال الكافرين وذكر جناياتهم على أنفسهم فقال :
(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ؟ ) أي انظر واعجب من حال من ركب رأسه ، وترك الهدى ، وأطاع الهوى ، فكأنه جعله إلها يعبده من دون اللّه ، فهو لا يهوى شيئا إلا فعله ، لا يخاف ربا ولا يخشى عقابا ، ولا يفكر فى عاقبة ما يعمل.
وفى هذا إيماء إلى ذم اتباع هوى النفس ، ومن ثم قال وهب بن منبّه : إذا شككت فى خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته. وقال سهل التّسترى : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وقال الإشبيلى الزاهد :(25/155)
ج 25 ، ص : 156
فخالف هواها واعصها إنّ من يطع هوى نفسه ينزع به شرّ منزع
ومن يطع النفس اللجوجة تزده وترم به فى مصرع أىّ مصرع
وقال البوصيرى فى بردته :
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
وقال ابن عباس : ما ذكر اللّه هوى فى القرآن إلا ذمّه ، قال تعالى « وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ » وقال : « وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً » وقال « وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » .
وروى عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به »
وقال أبو أمامة : سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول « ما عبد تحت السماء إله أبغض إلى اللّه من الهوى »
وروى شدّاد بن أوس عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم « الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على اللّه »
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال « إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العامة »
وعنه أنه قال « ثلاث مهلكات ، وثلاث منجيات ، فالمهلكات شحّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، والمنجيات خشية اللّه فى السر والعلن ، والقصد فى الغنى والفقر ، والعدل فى الرضا والغضب » .
وحسبك ذمّا لاتباع الهوى قوله تعالى : « وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى » .
(وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ) أي خذله فلم يجعله يسلك سبيل الرشاد ، لأنه قد علم أنه لا يهتدى ولو جاءته كل آية ، لما فى جوهر نفسه من الميل إلى ارتكاب الإجرام ، واتباع الشهوات ، فهو يوغل فى القبائح دون زاجر ولا وازع.(25/156)
ج 25 ، ص : 157
(وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ) أي وقد طبع على سمعه ، فلا يتأثر بالآيات تتلى عليه ليعتبر بها ، ولا يتدبرها ليعقل ما فيها من النور والهدى.
(وَقَلْبِهِ) أي وختم على قلبه ، فلا يعى حقّا ، ولا يسترشد إلى صواب.
(وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) تمنعه أن يبصر حجج اللّه وآياته فى الآفاق والأنفس ، فيستدل بها على وحدانيته ويعلم بها أن لا إله غيره.
قال مقاتل : نزلت فى أبى جهل. ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد ابن المغيرة ، فتحدثا فى شأن النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال أبو جهل : واللّه إنى لأعلم أنه صادق ، فقال له مه ، وما دلك على ذلك ؟ قال : يا أبا عبد شمس كنا نسميه فى صباه الصادق الأمين ، فلما تم عقله وكمل رشده نسميه الكذاب الخائن ، واللّه إنى لأعلم أنه صادق ، قال فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به ؟ قال : تتحدث عنى بنات قريش أنى اتبعت يتيم أبى طالب من أجل كسرة ، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا فنزلت « وختم على سمعه وقلبه » .
ونحو الآية قوله تعالى « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » .
ثم ذكر أن مثل هذا لا أمل فى هدايته فقال :
(فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ؟ ) أي فمن يوفقه لإصابة الحق ، وإبصار محجة الرشد بعد إضلال اللّه إياه ، أي لا أحد يستطيع أن يفعل ذلك ، أفلا تتذكرون أيها القوم فتعلموا أن من فعل اللّه به ما وصفنا ، فلن يهتدى أبدا ، ولن يجد لنفسه وليا ولا مرشدا.(25/157)
ج 25 ، ص : 158
[سورة الجاثية (45) : الآيات 24 الى 26]
وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن المشركين قد اتخذوا إلاههم هواهم ، وأن اللّه قد أضلهم على علم بحالهم ، وأنه ختم على سمعهم وقلبهم وجعل على بصرهم غشاوة - ذكر هنا جناية أخرى من جناياتهم ، وحماقة من حماقاتهم ، تلك أنهم أنكروا البعث وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وما ذلك منهم إلا ظنون وأوهام لا مستند لها من نقل ولا عقل ، ولم يجدوا حجة يقولونها إلا أن قالوا : إن كان ما تقوله حقا فارجعوا آباءنا الموتى إلى الحياة ، فأمر اللّه رسوله أن يجيبهم بأنه هو الذي يحهيهم ثم يميتهم ، ثم يجمعهم فى يوم لا شك فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون حقيقة ذلك.
الإيضاح
(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) أي وقال المشركون الذين سبق ذكر بعض أوصافهم : لا حياة بعد هذه الحياة التي نحن نعيش فيها ، فنموت نحن وتحيا أبناؤنا من بعدنا - وهذا تكذيب صريح منهم للبعث والمعاد.
وقصارى ذلك - ما ثمّ إلا هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وليس هناك بعث ولا قيامة.(25/158)
ج 25 ، ص : 159
(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يفنينا إلا مرّ الليالى والأيام ، فمرورها هو المؤثر فى هلاك الأنفس ، ويضيفون كل حادث إلى الدهر وأشعارهم ناطقة بذلك قال :
أشاب الصغير وأفنى الكبير كرّ الغداة ومرّ العشى وقد كان العرب فى جاهليتهم إذا أصابتهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا يا خيبة الدهر ، وقد جاء النهى عن سبّ الدهر ،
فجاء فى الحديث القدسي « يقول اللّه عز وجل : يؤذينى ابن آدم ، يسبّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أقلّب الليل والنهار » .
وعن أبى هريرة رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال « يقول اللّه تعالى : استقرضت عبدى فلم يعطنى ، وسبّنى عبدى يقول وا دهراه وأنا الدهر » .
قال الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة فى تفسير
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر »
كان العرب فى الجاهلية إذا أصيبوا بشدة أو بلاء قالوا يا خيبة الدهر ، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه ، وإنما فاعلها هو اللّه ، فكأنهم إنما سبوا اللّه عز وجل ، لأنه فاعل ذلك فى الحقيقة ، فلذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار ، لأن اللّه تعالى هو الدهر الذي يعنونه ، ويسندون إليه تلك الأفعال.
ثم نعي عليهم مقالهم هذا الذي لا دليل عليه فقال :
(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي وما لهم بقصر الحياة على حياة الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر - علم يستند إلى عقل أو نقل ، وقصارى أمرهم الظن والتخمين من غير أن يكون لهم ما يتمسكون به من حجة نافذة.
وفى الآية إشارة إلى أن القول بغير بينة ولا حجة - لا ينبغى أن يعوّل عليه ، وأن اتباع الظن منكر عند اللّه.
ثم ذكر شبهتهم على إنكار البعث فقال :
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ(25/159)
ج 25 ، ص : 160
صادِقِينَ)
أي وإذا تلى على هؤلاء المشركين الذين سبق القول فى جرائمهم - آيات الكتاب الدالة على أن البعث حق ، وأن اللّه سيعيد الخلق يوم القيامة وينشئه نشأة أخرى - لم يكن لهم من حجة فى دحض هذا إلا أن قالوا إن كان ما تقولونه حقّا فأنشروا لنا آباءنا الأولين وابعثوهم من قبورهم أحياء حتى نعتقد صحة ما تقولون.
وهذا قول آفن وكلام لا ينبغى أن يصدر من عاقل ، فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء فى الحال كإعادة آبائهم التي طلبوها فى الدنيا - امتناعه فيما بعد إذا قامت القيامة وبعث اللّه الموتى من قبورهم للعرض والحساب.
وتسمية كلامهم الزائف حجة - ضرب من التهكم بهم على نحو قوله :
تحية بيّنهم ضرب وجيع
ثم أمر سبحانه رسوله أن يرد عليهم فقال :
(قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث : اللّه يحييكم ما شاء أن يحييكم فى الدنيا ، ثم يميتكم فيها متى شاء ، ثم يجمعكم جميعا أولكم وآخركم صغيركم وكبيركم يوم القيامة.
ثم أكد ذلك بقوله :
(لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا ريب فى هذا الجمع والبعث ، فإن من قدر على البدء قد على الإعادة ، والحكمة قاضية بذلك ، لتجزى كل نفس بما كسبت ، والأديان جميعا متضافرة على تحققه وحصوله يوم القيامة.
وقصارى ما سلف - إن البعث أمر ممكن أخبر به الأنبياء الصادقون ، والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده ، فهو واقع لا محالة.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي ولكن أكثر الناس ينكرون البعث ويستبعدون عودة الأجساد بعد موتها وحين تكون عظاما نخرة كما قال :(25/160)
ج 25 ، ص : 161
« إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً » أي يرون وقوعه بعيدا والمؤمنون يرونه قريبا ، وما دعاهم إلى ذلك إلا جهلهم وقصر نظرهم ، لا لأن فيه شائبة ريب.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 27 الى 29]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
تفسير المفردات
جاثية : أي باركة على الركب مستوفزة ، وهى هيئة المذنب الخائف المنتظر ما يكره ، إلى كتابها : أي إلى صحيفة أعمالها التي كتبها الحفظة لتحاسب على ما قيّد فيها ، ينطق :
أي يشهد ، نستنسخ : أي نجعل الملائكة تكتب وتنسخ.
المعنى الجملي
بعد أن أثبت فيما سلف أنه تعالى قادر على الإحياء مرة ثانية كما قدر على ذلك فى المرة الأولى - ذكر هنا دليلا آخر على ذلك ، وهو أنه تعالى مالك الكون كله ، فهو قادر على التصرف فيه بالإحياء فى الإعادة كما أحياه فى البدء ، ثم ذكر من أهوال هذا اليوم أن كل أمة تجثو على ركبها وتجلس جلسة المخاصم بين يدى الحاكم ينتظر القضاء ، وكل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب عليها ، ويقال لهم : اليوم تجزون ما كنتم تعملون ، ولا شاهد عليكم أصدق من كتابكم ، فهو صورة أعمالكم قد كتبتها الملائكة فى دنياكم.
(11 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/161)
ج 25 ، ص : 162
الإيضاح
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي إنه تعالى مالك العالم العلوي والسفلى ، جار حكمه فيهما ، دون ما تدعون من دونه من الأوثان والأصنام.
ثم توعد الكافرين أهل الباطل فقال :
(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) أي ويوم تقوم الساعة ويحشر الناس من قبورهم للعرض والحساب - سيظهر خسران أولئك المنكرين الجاحدين بما أنزل اللّه على رسله من الآيات والدلائل - بدخولهم فى جهنم وبئس المستقر.
وقد جعلت الحياة والصحة والعقل كأنها رءوس أموال ، والتصرف فيها بطلب السعادة الأخروية يجرى مجرى تصرف التاجر فى ماله طلبا للريح. أما الكفار فقد أتعبوا أنفسهم وتصرفوا فيها بفعل الآثام والإشراك باللّه تصرف التاجر الذي أساء فى تجارته فوكس فيها ، ولم يجد فى العاقبة إلا الخسران والخذلان والطرد من رحمة اللّه ، وذلك ما لا يرضاه عاقل لنفسه ، يزن الأمور بميزان الحكمة والسداد.
ثم بين حال الأمم فى ذلك اليوم وما تلاقيه من الشدائد انتظارا لفصل القضاء فقال :
(1) (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) على ركبها لشدة الهول والرعب ، واستعدادا لما لعلها تؤمر به حين فصل القضاء.
(2) (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) لذى أنزل عليها لتعبد ربها بهديه ، وكتابها الذي نسخته الحفظة من أعمالها ، ليطبق أحدهما على الآخر ، فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ، ومن خالفه هلك وكان من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ونحو الآية قوله : « وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ » .(25/162)
ج 25 ، ص : 163
ثم ذكر أنهم ينذرون ويبشّرون بما سيبنى عليه حكم القضاء فقال :
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ويقال لهم حال دعائهم : اليوم تجازون بأعمالكم التي عملتموها فى الدنيا خيرها وشرها.
ثم بين مستندات الحكم وأدلته فقال :
(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ) أي هذا كتابنا الذي كتبته الحفظة ودوّنت فيه أعمالكم - يشهد عليكم شهادة حق دون زيادة ولا نقص ، فهو صورة تطابق ما فعلتموه حذو القذّة بالقذّة.
ثم علل مطابقة هذه الشهادة لأعمالهم فقال :
(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي إنا كنا نأمر الحفظة بنسخ أعمالكم وكتابتها وإثباتها عليكم أول فأول فى الدنيا ، فهى وفق ما عملتم بالدقة والضبط.
وفى هذا إجابة عما يخطر بالبال من سؤال فيقال : ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد العهد ؟ فأجيبوا بهذا الجواب.
[سورة الجاثية (45) : الآيات 30 الى 37]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)(25/163)
ج 25 ، ص : 164
تفسير المفردات
فى رحمته : أي فى جنته ، الفوز : هو الظفر بالبغية ، المبين : أي الظاهر أنه لا فوز وراءه ، آياتي : أي آيات كتبى التي جاءت فى الشرائع السماوية ، وعد اللّه : أي بأنه محيى الموتى من قبورهم ، بمستيقنين : أي بمتحققين ، وبدا : أي ظهر ، سيئات ما عملوا :
أي عقوباتها ، وحاق : أي حل ، ننساكم ، أي نترككم ، نسيتم : أي تركتم ، آيات اللّه :
أي حججه ، غرتكم : أي خدعتكم ، الحياة الدنيا : أي زينتها ، يستعتبون : أي يطلب منهم العتبى بالتوبة من ذنوبهم ، والإنابة إلى ربهم ، الكبرياء : العظمة والسلطان.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أهوال العرض والحساب ، وأن أعمال كل أمة تعرض عليها ، ويقال لهم هذا ما كتبته الحفظة فى الدنيا ، فهو شهادة صدق لا شك فيها - أردف هذا بيان أنه بعد انتهاء هذا الموقف يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات النعيم ، ويوبّخ الكافرون على ما فرط منهم فى الدنيا ويقال لهم : لا عذر لكم فى الإعراض عن آياتي حين كانت تتلى عليكم إلا الاستكبار والعناد ، وقد كنتم فى الحياة الأولى إذا قيل لكم إن يوم القيامة آت لا شك فيه ، قلتم لا بقين عندنا به ، وهو موضع حدس وتخمين ، فها هو ذا قد حل بكم جزاء ما اجترحتموه من السيئات ، وما كنتم تستهزئون به(25/164)
ج 25 ، ص : 165
فى دنياكم ، إذ قد خدعتكم بزخارفها ، فظننتم أن لا حياة بعد هذه الحياة - فلا مأوى لكم إلا جهنم فادخلوها ، ولا مخرج لكم منها ، ولا عتبى حينئذ ، فلا تنفع توبة مما فرط منكم من الذنوب.
الإيضاح
فصل سبحانه فى هذه الآيات حالى السعداء والأشقياء فقال :
(1) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي فأما الذين آمنت قلوبهم ، وعملت جوارحهم صالح الأعمال التي أمر بها الدين ، فيكافئهم ربهم على ما عملوا ، ويدخلهم جنات النعيم.
جاء فى الحديث الصحيح أن اللّه تعالى قال للجنة « أنت رحمتى ، أرحم بك من أشاء » .
ثم بين خطر ما نالوا وعظيم ما أوتوا فقال :
(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي هذا هو الظفر بالبغية التي كانوا يطلبونها ، والغاية التي كانوا يسعون فى الدنيا لبلوغها ، وهو فوز لا فوز بعده.
(2) (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) أي وأما الذين جحدوا وحدانية اللّه فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا : ألم تكن تأتيكم رسلى فتتلوا عليكم آيات كتبى ، فتستكبرن عن الإيمان بها ؟ ولا عجب فديدنكم الإجرام ، وارتكاب الآثام ، والكفر باللّه ، لا تصدقون بميعاد ، ولا تؤمنون بثواب ولا عقاب.
(وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ؟ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) أي وكنتم إذا قال لكم المؤمنون : إنه سبحانه وتعالى باعثكم من قبوركم بعد موتكم ، وإن الساعة التي أخبركم أنه سيقيمها لحشركم وجمعكم للحساب والثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، آتية لا ريب فيها ، فاتقوا اللّه وآمنوا به ، وصدقوا برسوله ، واعملوا لما ينجيكم من عذابه - قلتم لعتوّكم واستكباركم متعجبين مستغربين ، ما الساعة ؟ نحن لا علم لنا بها ، وما نظنها آتية إلا ظنا لا يقين فيه.(25/165)
ج 25 ، ص : 166
ثم ذكر أنهم يقفون موقف المتهم المسئول زيادة فى تأنيبهم ثم يحل بهم ما كانوا يستهزئون به من العذاب :
(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهرت لهم قبائح أعمالهم التي عملوها فى الدنيا حين قرءوا كتب أعمالهم التي دونتها الحفظة كى لا يكون لهم حجة إذا نزل بهم العذاب ثم جوزوا بما كانوا يهزءون به فى الدنيا ويقولون ما هو إلا أوهام وأباطيل ، وخرافات قد دونها المبطلون.
ثم ذكر ما يزيد فى تعذيبهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم فقال :
(وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وقيل لهم تغليظا فى العقوبة وإمعانا فى التهكم والسخرية : اليوم نترككم فى العذاب ، كما تركتم العمل للقاء يومكم هذا ، وليس لكم مستنقذ ينقذكم منه ، ولا مستنصر يستنصر لكم ممن يعذبكم.
والخلاصة - إنه تعالى جمع لهم ثلاثة ألوان من العذاب : قطع الرحمة عنهم ، وجعل مأواهم النار ، وعدم وجود الأنصار والأعوان ، من قبل أنهم أتوا بثلاثة ضروب من الإجرام : الإصرار على إنكار الدين الحق ، والاستهزاء به ، والاستغراق فى حب الدنيا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي هذا الذي حل بكم من عذاب اللّه بأنكم فى الدنيا اتخذتم حجج اللّه وآيات كتابه التي أنزلها على رسوله سخرية تسخرون منها ، وخدعتكم زينة هذه الحياة فآثرتموها على العمل لما ينجيكم من عذابه ، ظنا منكم أنه لا حياة بعد هذه الحياة ولا بعث ولا حساب.
(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي فاليوم لا يخرجون من النار ، ولا هم يردون إلى الدنيا ليتوبوا ويراجعوا الإنابة مما عوقبوا عليه.(25/166)
ج 25 ، ص : 167
والخلاصة - إنهم لا يخرجون ولا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم عليهم أي لا يطلب منهم إرضاؤه لفوات أوانه.
وبعد أن ذكر ما حوته السورة من آلائه تعالى وإحسانه ، وما اشتملت عليه من الدلائل التي فى الآفاق والأنفس ، وما انطوت عليه من البراهين الساطعة على المبدأ والمعاد - أثنى على نفسه بما هو له أهل فقال :
(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي فلله الحمد على أياديه على خلقه ، فإياه فاحمدوا ، وله فاعبدوا ، فكل ما بكم من نعمة فهو مصدرها دون ما تعبدون من وثن أو صنم ، وهو مالك السموات السبع ، ومالك الأرضين السبع ، ومالك جميع ما فيهنّ.
(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي وله الجلال والعظمة والسلطان فى العالم العلوي والعالم السفلى ، فكل شىء خاضع له فقير إليه دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
وفى الحديث القدسي : « يقول اللّه تعالى : الكبرياء ردائى ، والعظمة إزارى ، فمن نازعنى واحدا منهما أسكنته نارى » . أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبى شيبة عن أبى هريرة.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي وهو العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب ، الحكيم فى أفعاله وأقواله ، تقدس ربنا جلت قدرته ، وعظمت آلاؤه.
وقصارى ذلك - له الحمد فاحمدوه ، وله الكبرياء فعظّموه ، وهو العزيز الحكيم فأطيعوه.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(25/167)
ج 25 ، ص : 168
خلاصة ما حوته هذه السورة الكريمة من الأغراض والمقاصد
(1) إقامة الأدلة على وجود الخالق سبحانه.
(2) وعيد من كذب بآياته واستكبر عن سماعها.
(3) طلب العفو من المؤمنين عن زلات الكافرين.
(4) الامتنان على بنى إسرائيل بما آتاهم من النعم الروحية والمادية.
(5) أمر رسوله ألا يطيع المشركين ولا يتبع أهواءهم.
(6) التعجب من حال المشركين الذين أضلهم اللّه على علم.
(7) إنكار المشركين للبعث.
(8) ذكر أهوال العرض والحساب ، وشهادة صحائف الأعمال على الإنسان.
(9) حلول العذاب بالمشركين بعد أن تتبين لهم قبائح أعمالهم.
(10) ثناء المولى سبحانه على نفسه وإثبات الكبرياء والعظمة له.
تم تفسير هذا الجزء ليومين بقيا من صفر من سنة خمس وستين وثلاثمائة بعد الألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة كورة الديار المصرية.(25/168)
ج 25 ، ص : 169
فهرست أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث 4 يوم القيامة مما استأثر اللّه سبحانه بعلمه 5 المنجمون لا يجزمون بشىء مما يقولون 7 منهومان لا يشبعان : طالب علم وطالب مال 10 لفت أنظار المشركين إلى التدبر فى الآيات قبل إنكارها 11 كفى باللّه شهيدا على أفعال عباده وأقوالهم 12 مجمل ما اشتملت عليه سورة فصلت 14 ما جاء فى القرآن من الشرائع فهو على نهج ما جاء فى الكتب السالفة من الدعوة إلى التوحيد والإيمان باليوم الآخر 19 لو شاء اللّه لجعل الإيمان بالقسر والإلجاء فكان الناس أمة واحدة 20 نهى الرسول عن الاهتمام بإيمان المشركين 24 هذه الشريعة هى التي وصى بمثلها أكابر الأنبياء 27 نهى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم عن اتباع أهواء المشركين 31 دحض حجة المشركين فى الصد عن الدين 32 المشركون يستعجلون الساعة والمؤمنون مشفقون منها 35 بشر هذه الأمه بالسناء والرفعة ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة 36 فى الحديث « رأيت عمرو بن لحى بن قمعة يجر قصبه (أمعاءه) فى النار » .
(12 - مراغى - الخامس والعشرون)(25/169)
ج 25 ، ص : 170
الصفحة المبحث 41 التوبة وشروط قبولها 45 فى الحديث « إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى » إلخ 46 ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير 48 فى الحديث « ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب اللّه ؟ » 49 الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر 52 المؤمنون أمرهم شورى بينهم 55 حوار بين عائشة رضى اللّه عنها وأم المؤمنين زينب 56 كل جناية على النفس أو المال تقابل بمثلها قصاصا 59 حين يعرض الكفار على النار ينظرون من طرف خفى 62 ليس فى الإمكان أبدع مما كان 63 الأنبياء يكلمون ربهم على وجوه ثلاثة 66 خلاصة ما تضمنته سورة الشورى 68 القرآن مشتمل على الحكم والأسرار التي فيها سعادة البشر 69 ما بعث اللّه نبيا إلا استهزأ به قومه 71 المشركون يعترفون بالإله ويعبدون سواه.
72 دل الإله على نفسه بمصنوعاته 77 قال المشركون : الملائكة بنات اللّه 83 إبراهيم عليه السلام ترك دين الآباء واتبع الدليل 90 محاورة بين أبى بكر وجمع من المشركين 92 القرآن الكريم سرف للرسول وقومه(25/170)
ج 25 ، ص : 171
الصفحة المبحث 94 الرسل جميعا دعوا إلى ما دعا إليه الرسول صلّى اللّه عليه وسلم 97 تسلية الرسول عما يلقاه من أذى قومه 98 ما حدث من فرعون وقومه بعد كشف العذاب عنهم بدعوة موسى 99 شبهة فرعون التي تمنع موسى من الرياسة 102 حديث بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة 108 الأخلاء يتعادون يوم القيامة إلا من تخالوا على الإيمان والتقوى 108 ما يقال لأهل الجنة على سبيل البشرى 110 ما يقوله أهل النار لخزنة جهنم 114 أقوال المشركين تخالف أفعالهم 117 خلاصة ما تضمنته سورة الزخرف 123 مشى أبو سفيان إلى الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وناشده الرحم 134 وصف شجرة الزقوم 135 محاورة بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأبى جهل 144 كان المشركون يتخذون آيات اللّه هزوا 150 ما آتاه اللّه لبنى إسرائيل من النعم 155 ما قاله العلماء فى ذم اتباع الهوى 157 حوار بين أبى جهل والوليد بن المغيرة بشأن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم 159 قال المشركون : إن هى إلا أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر.(25/171)
ج 25 ، ص : 172
الصفحة المبحث 160 البعث ممكن والحكمة تقتضى حصوله والعقل يؤيده 162 يجمع اللّه للكافرين ثلاثة ألوان من العذاب 164 ما يجده المؤمنون بعد انتهاء الموقف من إكرام اللّه لهم 165 ما يلقاه الكافرون من التوبيخ والعذاب الأليم والسبب فى ذلك 168 خلاصة ما تضمنته سورة الجاثية من المقاصد(25/172)
ج 26 ، ص : 1
الجزء السّادس والعشرون
تفسير المراغي تأليف صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير المرحوم أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة الإسلامية واللغة العربية بكلية دار العلوم سابقا الجزء السّادس والعشرون(26/3)
ج 26 ، ص : 2(26/4)
ج 26 ، ص : 3
الجزء السادس والعشرون بسم اللّه الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
هى مكية إلا ثلاث آيات : 10 ، 15 ، 35 فمدنية.
وآياتها خمس وثلاثون ، نزلت بعد الجاثية.
ووجه اتصالها بما قبلها - أنه تعالى ختم السورة السالفة بالتوحيد ، وذمّ أهل الشرك وتوعدهم عليه ، وافتتح هذه بالتوحيد وتوبيخ المشركين على شركهم أيضا.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6)(26/5)
ج 26 ، ص : 4
تفسير المفردات
أجل مسمى : هو يوم القيامة ، أنذروا : أي خوّفوا ، معرضون : أي مولّون لاهون ، تدعون : أي تعبدون ، شرك : أي نصيب ، أثارة : أي بقية ، ومثلها الأثرة (بالتحريك) يقال (سمنت الإبل على أثارة) أي بقية شحم كان قبل ذلك ، حشر :
أي جمع ، كافرين : أي مكذبين.
المعنى الجملي
بدأ سبحانه السورة بإثبات أن هذا القرآن من عند اللّه ، لا من عند محمد كما تدّعون ثم ذكر أن خلق السموات والأرض مصحوب بالحق قائم بالعدل والنظام ، ومن النظام أن تكون الآجال مقدرة معلومة لكل شىء ، إذ لا شىء فى الدنيا بدائم ، ولا بد من يوم يجتمع الناس فيه للحساب ، حتى لا يستوى المحسن والمسيء ، ولكن الذين كفروا أعرضوا عن إنذار الكتاب ولم يفكروا فيما شاهدوا فى العالم من النظام والحكمة ، فلا هم بسماع الوحى متعظون ، ولا هم بالنظر فى العالم المشاهد يعتبرون ثم نعى على المشركين حال آلهتهم وأمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول لهم : أخبرونى ماذا خلق آلهتكم من الأرض ، أم لهم شركة فى خلق السموات حتى يستحقون العبادة ؟ فإن كان لهم ما تدّعون فهاتوا دليلا على هذا الشرك المدّعى بكتاب موحى به من قبل القرآن أو ببقية(26/6)
ج 26 ، ص : 5
من علوم الأولين ، وكيف خطر على بالكم أن تعبدوها وهى لا تستجيب لكم دعاء إلى يوم القيامة وهى غافلة عنكم ، وفى الدار الآخرة تكون لكم أعداء وتجحد عبادتكم لها.
الإيضاح
(حم) الكلام فى مثلها قد تقدم من قبل.
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) اعلم أنّ نظم أول هذه السور كنظم أول سورة الجاثية وقد تقدم إيضاحه وتفسيره.
(ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) أي ما خلقناهما إلا خلقا ملتبسا بالعدل ، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق ، إليه ينتهى بقاؤه فى هذه الحياة الدنيا ، وهذا يستدعى أن يكون خلقه لحكمة وغاية ، وأن يكون هناك يوم معلوم للحساب والجزاء ، لئلا يتساوى من أحسن فى الدار الأولى ومن أساء فيها ، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه ، ومن دسّى نفسه ، وركب رأسه ، واتبع شيطانه وهواه ، وسلك سبل الغواية فلم يترك منها طريقا إلا سلكه ، ولا بابا إلا ولجه.
ثم بين غفلة المشركين وإعراضهم عما أنذروا به فقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) أي مع ما نصبنا من الأدلة ، وأرسلنا من الرسل ، وأنزلنا من الكتب - بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه ، غير ملتفتين إليه ، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا ، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا ، وأنّى لهم ذلك ؟ فهم صم بكم عمى لا يعقلون.
وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية ، وأنه رحيم عادل ، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة ، ردّ على عبدة الأصنام فقال :
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي قل لهم أيها الرسول : أخبرونى عن حال آلهتكم بعد التأمل فى خلق(26/7)
ج 26 ، ص : 6
السموات والأرض وما بينهما ، والنظام القائم فيهما ، المبنى على الحكمة ودقة الصنع ، والإبداع فى التكوين : هل تعقلون لهم مدخلا فى خلق جزء من هذا العالم السفلى ، فيستحقوا لأجله العبادة ؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت فى هذا النظام ، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمد أدناه من أعلاه ، ويرتبط بعضه ببعض ، وكل فرد فى الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيها ، أم هل تظنون أن لهم شركة فى خلق العالم العلوي شموسه وأقماره ، كواكبه ونجومه ، سياراتها وثوابتها.
وقصارى ذلك - نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمّ وجه ، فقد نفى أن لها دخلا فى خلق شىء من أجزاء العالم السفلى استقلالا ، ونفى ثانيا أن لها دخلا على سبيل الشركة فى خلق شىء من أجزاء العالم العلوي ، ونفى ذلك يستلزم نفى استحقاق المعبودية أيضا.
وتخصيص الشركة فى النظم الجليل بقوله سبحانه « فى السّموات » مع أنه لا شركة فيها ولا فى الأرض أيضا - لأن الغرض إلزامهم بما هو مسلّم لهم ، ظاهر لكل أحد ، والشركة فى الحوادث السفلية ليست كذلك ، لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة.
وبعد أن بكّتهم وعجّزهم عن الإتيان بسند عقلى ، عجزهم وبكتهم عن الإتيان بسند نقلى فقال :
(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كان ما تقولونه حقا فائتونى أيها القوم بكتاب من قبل هذا الكتاب كالتوراة والإنجيل يشهد بصحة ما تدّعون لآلهتكم ، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين فى خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة. وتدل على صحة المسلك الذي سلكتموه.
والخلاصة - إن الدليل : إما وحي من اللّه ، أو بقية من كلام الأوائل ، وإما(26/8)
ج 26 ، ص : 7
إرشاد من العقل ، فإن كان الأول فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء ؟ وإن كان الثاني فأين هو ؟
وبعد أن أبطل شركة الأصنام فى الخلق بعدم قدرتها على ذلك - أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة فقال :
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) أي لا أضل ممن يعبد من دون اللّه أصناما ويتخذهم آلهة ، وهم إذا دعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة أي لا يجيبون أبدا ماداموا فى الدنيا ، إذ هم فى غفلة عن دعائهم ، لأنهم أحجار ، فهم صم بكم لا يسمعون ولا يتكلمون.
وما أنكى هذا التوبيخ وما أمضّ ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم وقبح اختيارهم فى عبادتهم ما لا يعقل شيئا ولا يفهم ، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم ، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصايب.
وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم فى الدنيا ولا يستجيبون لهم دعاء - أبان حالهم فى الآخرة فقال :
(وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) أي وإذا جمع الناس لموقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يعبدونها فى الدنيا أعداء لهم ، إذ يتبرءون منهم ، وكانوا بعبادتهم كافرين ، فهم يقولون : ما أمرناهم بعبادتنا ولا شعرنا بهم ، تبرأنا إليك ربنا منها.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا » وقوله حكاية عن إبراهيم عليه السلام « وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ » .(26/9)
ج 26 ، ص : 8
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 9]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
تفسير المفردات
المراد بالحق آيات القرآن ، افتراه : كذب عليه عمدا ، فلا تملكون لى من اللّه شيئا : أي لا تغنون عنى من اللّه شيئا إن أراد عقابى ، تفيضون فيه : أي تخوضون فيه من تكذيب القرآن ، يقال أفاض القوم فى الحديث : أي اندفعوا فيه ، والبدع والبديع من كل شىء : المبتدع المحدث دون سابقة له.
المعنى الجملي
بعد أن تكلم فى تقرير التوحيد ونفى الأضداد والأنداد - أعقب هذا بالكلام فى النبوة ، وبين أنه كلما تلا عليهم الرسول شيئا من القرآن قالوا إنه سحر ، بل زادوا فى الشناعة وقالوا : إنه مفترى ، فرد عليهم بأنه لو افتراه على اللّه فمن يمنعه من عقابه لو عاجله به ؟ وهو العليم بما تندفعون فيه من الطعن فى نبوّتى ، ويشهد لى بالصدق والبلاغ ، وعليكم بالكذب والجحود.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم : إنى لست بأول الرسل حتى تنكروا دعائى لكم إلى التوحيد ، ونهى لكم عن عبادة الأصنام ، وما أدرى ما يفعل بي فى الدنيا ؟(26/10)
ج 26 ، ص : 9
أأموت أم أقتل كما قتل الأنبياء قبلى ، ولا ما يفعل بكم ، أ ترمون بالحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض ، أم يفعل بكم غير ذلك مما عمل مع سائر المكذبين للرسل ؟
وإنى لا أعمل عملا ولا أقول قولا إلا بوحي من ربى ، وما أنا إلا نذير ، لا أستطيع أن آتى بالمعجزات والأخبار الغيبية ، فالقادر على ذلك هو اللّه تعالى.
الإيضاح
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي وإذا تتلى على هؤلاء المشركين حججنا التي أودعناها كتابنا الذي أنزلناه عليك قالوا : هذا خداع وتمويه يفعل فعل السحر فى قلب من سمعه.
ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها فقال :
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) أي دع هذا واسمع القول المنكر العجيب : إنهم يقولون إن محمدا افتراه على اللّه عمدا ، واختلقه عليه اختلاقا.
وقد أمر اللّه رسوله أن يبطل شبهتهم بقوله :
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي قل لهم : لو كذبت على اللّه ، وزعمت أنه أرسلنى إليكم ، ولم يكن الأمر كذلك لعاقبنى أشد العقاب ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرنى منه ، فكيف أقدم على هذه الفرية وأعرّض نفسى لعقابه ، فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه ، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على اللّه فى الرسالة ، وهى الجامعة لأمور عظيمة ، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم فى دينهم ودنياهم.
ونحو الآية قوله : « قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ » وقوله : « وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ » .(26/11)
ج 26 ، ص : 10
ثم علل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله :
(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه ، من التكذيب بالقرآن ، والطعن فى آياته ، وتسميته سحرا تارة وفرية أخرى.
ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى اللّه فقال :
(كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فهو يشهد لى بالصدق فى البلاغ ، ويشهد عليكم بالكذب والجحود.
ولا يخفى ما فى هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم فى الطعن فى الآيات.
ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون ويثوبون إلى الحق فقال :
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء ، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم وصح عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه ، تاب عليكم ، وعفا عنكم ، وغفر لكم ورحمكم.
وبعد أن حكى عنهم طعنهم فى القرآن - أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة ، وهى طلبهم من الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون ، وكلها تدور حول الإخبار بشئون الغيب فقال :
(قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي قل لهم : لست بأول رسول بلّغ عن ربه ، بل قد جاءت رسل من قبلى ، فما أنا بالفذّ الذي لم يعهد له نظير حتى تستنكرونى وتستبعدون رسالتى إليكم ، وما أنا بالذي يستطيع أن يأتى بالمعجزات متى شاء ، بل ذلك باذنه تعالى وتحت قبضته وسلطانه ، وليس لى من الأمر شىء ، وإلى ذلك أشار بقوله :
(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) أي ولا أعلم ما يفعل بي فى الدنيا ، أ أخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلى ، أم أقتل كما قتل منهم من قتل ؟ ولا ما يفعل(26/12)
ج 26 ، ص : 11
بكم أيها المكذبون ، أ ترمون بحجارة من السماء أم تخسف بكم الأرض ؟ كل هذا علمه عند ربى.
وفى صحيح البخاري وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت : « لما مات عثمان ابن مظعون رضى اللّه عنه ، قلت : رحمة اللّه عليك يا أبا السائب ، لقد أكرمك اللّه تعالى ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : وما يدريك أن اللّه أكرمه ؟ أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه ، وإنى لأرجو له الخير ، واللّه ما أدرى - وأنا رسول اللّه - ما يفعل بي ولا بكم ، قالت أمّ العلاء فو اللّه ما أزكى بعده أبدا » .
وفى رواية الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس « أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة : هنيئا لك ابن مظعون الجنة ، فنظر إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نظر مغضب وقال : وما يدريك ؟ واللّه إنى لرسول اللّه ، وما أدرى ما يفعل اللّه بي ، فقالت :
يا رسول اللّه صاحبك وفارسك وأنت أعلم ، فقال : أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه » .
ومن هذا يعلم أن ما ينسب إلى بعض الأولياء من العلم بشئون الغيب ، فهو فرية على اللّه ورسوله ، وكفى بما سلف ردّا عليهم.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :
(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) أي ما أتبع إلا القرآن ، ولا أبتدع شيئا من عندى.
ثم زاد الأمر توكيدا فقال :
(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وما أنا إلا نذير ، أنذركم عقاب اللّه ، وأخوّفكم عذابه ، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتى ، ولست أقدر على شىء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر.(26/13)
ج 26 ، ص : 12
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 10 الى 14]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
المعنى الجملي
لا يزال الكلام موصولا بسابقه ، فبعد أن نعى عليهم استهزاءهم بكتابه وقولهم فيه : إنه سحر مفترى وردّ الرسول عليهم بأنه ليس بأول رسول حتى يستنكرون نبوته ويطلبون منه ما لا قبل له به من المعجزات التي أمرها بيد اللّه لا بيده - أردف هذا أمر رسوله أن يقول لهم : ما ظنكم أن اللّه صانع بكم إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله اللّه علىّ لأبلغكموه فكفرتم به وكذبتموه ؟ وقد شهد شاهد من بنى إسرائيل الواقفين على أسرار الوحى بما أوتوا من التوراة على مثل ما قلت ، فآمن واستكبرتم ؟ ثم حكى عنهم شبهة أخرى بشأن إيمان من آمن منهم من الفقراء كعمار وصهيب وابن مسعود فقالوا : لو كان هذا الدين خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، ثم ذكر أنهم حين لم يهتدوا به قالوا : إنه من أساطير الأولين ، ثم ذكر أن مما يدل على صدق القرآن أن التوراة وهى الإمام المقتدى به ، بشرت بمقدم محمد صلّى اللّه(26/14)
ج 26 ، ص : 13
عليه وسلم فاقبلوا حكمها فى أنه رسول حقا من عند اللّه ، ثم أعقب هذا ببيان أن من آمنوا باللّه وعملوا صالحا لا يخافون مكروها ، ولا يحزنون لفوات محبوب ، وأولئك هم أهل الجنة ، جزاء ما عملوا من عمل صالح ، وما أخبتوا لربهم ، وانقادوا لأمره ونهيه.
الإيضاح
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي قل لهم : أخبرونى إن ثبت أن القرآن من عند اللّه لعجز الخلق عن معارضته ، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون ، ثم كذبتم به وشهد أعلم بنى إسرائيل بكونه من عند اللّه فآمن واستكبرتم - أ فلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم ؟ .
والخلاصة - أخبرونى إن اجتمع كون القرآن من عند اللّه مع كفركم به ، وشهادة منصف من بنى إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت فآمن به مع استكباركم - أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم ؟
وهذا الشاهد هو عبد اللّه بن سلام -
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال : « ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لأحد يمشى على وجه الأرض : إنه من أهل لجنة إلا لعبد اللّه بن سلام وفيه ، نزلت : (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) » .
وأخرج الترمذي وابن جرير وابن مردويه عن عبد اللّه بن سلام قال : نزل فىّ آيات من كتاب اللّه ، نزلت فىّ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) ونزل فىّ : (قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ).
ثم ذكر أن فى استكبارهم عن الإيمان ظلما لأنفسهم وكفرا بآيات ربهم فقال :
(إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي إن اللّه لا يوفق لإصابة الحق وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسهم باستحقاقهم سخط اللّه لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم.(26/15)
ج 26 ، ص : 14
عن عوف بن مالك الأشجعى قال « انطلق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم ، فكرهوا دخولنا عليهم ، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : يا معشر اليهود أرونى اثنى عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه ، يحطّ اللّه عن كل يهودى تحت أديم السماء الغضب الذي عليه ، فسكتوا فما أجابه منهم أحد ، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد ثلاثا ، فقال : أبيتم ، فو اللّه لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفّى ، آمنتم أو كذبتم ، ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا تخرج ، فإذا رجل من خلفه فقال : كما أنت يا محمد فأقبل ، فقال ذلك الرجل : أىّ رجل تعلمونى فيكم يا معشر اليهود ، فقالوا : واللّه ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب اللّه ، ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدّك ، فقال فإنى أشهد باللّه أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا فى التوراة والإنجيل ، قالوا كذبت ، ثم ردوا عليه وقالوا شرّا ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : كذبتم لن يقبل منكم قولكم ، فخرجنا ونحن ثلاثة : رسول اللّه وأنا وعبد اللّه ابن سلام فأنزل اللّه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ - إلى قوله - إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
أخرجه أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه السيوطي.
ثم حكى نوعا آخر من أقاويلهم الباطلة فى القرآن العظيم والمؤمنين به فقال :
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي وقال كفار مكة لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لفّ لفّهم :
لو كان ما أتى به محمد خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، فإن معالى الأمور لا تنالها أيدى الأراذل ، وهؤلاء سقّاط الناس ورعاة الإبل والشاء ، وقد قالوا ذلك زعما منهم أنهم المستحقون للسبق إلى كل مكرمة ، وأن الرياسة الدينية مما تنال بأسباب دنيوية ، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسية وملكات روحية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية(26/16)
ج 26 ، ص : 15
والإقبال على الآخرة ، وأن من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ، ومن حرمها فما له فيها من خلاق ، ولم يعلموا أن اللّه يختص برحمته من يشاء ويصطفى لدينه من يشاء.
وعن قتادة : قال ناس من المشركين نحن أعز ونحن ونحن فلو كان خيرا ما سبقنا إليه فلان وفلان فنزلت هذه الآية.
وروى أنه لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأشجع وأسد : لو كان هذا خيرا ما سبقتنا إليه رعاء البهم والشاء.
فأجابهم اللّه عن هذا بقولهم :
(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) اى وقد ظهر عنادهم واستكبارهم إذ لم يهتدوا به ، وسيقولون الفينة بعد الفينة والحين بعد الحين : هذا كذب مأثور عن الأقدمين ، انتقاصا له ولأهله ، واستكبارا عن اتباع الحق.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « الكبر بطر الحق وغمص (احتقار) الناس » .
ونحو الآية قوله تعالى حكاية عنهم : « وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا » .
ثم رد عليهم طعنهم فى القرآن وأثبت صحته فقال :
(وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) أي ومما يدل على صحة القرآن أنكم لا تنازعون فى أن اللّه أنزل التوراة على موسى وجعلها إماما لبنى إسرائيل ورحمة لهم ، وهى قد اشتملت على البشارة بمقدم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم فلا بد أن يكون محمد صادقا فى رسالته ، وأن يكون القرآن من عند اللّه ، وقد جاء بلسان عربى لينذر الذين ظلموا أنفسهم وهم مشركو مكة وهو بشرى لمن أحسن عملا.
والخلاصة - كيف يكون إفكا قديما وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون(26/17)
ج 26 ، ص : 16
بصدقه ، وهو بلسان عربى ، والتوراة بلسان عبرى ، فتصديق الأول للثانى دليل على اتحادهما صدقا - فبطل كونه إفكا قديما وثبت الصدق القديم.
وبعد أن ذكر طريق المبطلين أرشد إلى طريق المحقين وذكر جزاءهم فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي إن الذين قالوا ربنا اللّه ، لا إله غيره ، ثم استقاموا على تصديقهم بذلك ، ولم يخلطوه بشرك ولم يخالفوا اللّه فى أمر ولا نهى - فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله ، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم.
(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي هؤلاء الذين قالوا هذا القول واستقاموا - هم أهل الجنة ماكثين فيها أبدا ثوابا منا لهم كفاء ما قدموا من صالح الأعمال فى الدنيا.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 16]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16)
تفسير المفردات
الإيصاء والوصية : بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه ، والإحسان : خلاف الإساءة ، والحسن : خلاف القبح ، والمراد أنه يفعل معهما فعلا ذا حسن ، والكره(26/18)
ج 26 ، ص : 17
(بالضم والفتح) كالضعف والضعف : المشقة ، وحمله : أي مدة حمله ، وفصاله : فطامه والمراد به الرضاع التام المنتهى بالفطام ، والأشد : استحكام القوة والعقل ، أوزعنى :
أي رغبنى ووفقني ، من أوزعته بكذا : أي جعلته مولعا به راغبا فى تحصيله ، والقبول :
هو الرضا بالعمل والإثابة عليه ، فى أصحاب الجنة : أي منتظمين فى سلكهم كما تقول أكرمنى الأمير فى أصحابه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى سابق الآيات توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له والاستقامة فى العمل - أردف هذا الوصية بالوالدين ، وقد فعل هذا فى غير موضع من القرآن الكريم كقوله : « وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » وقوله :
« أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ » .
روى أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر إذ أسلم والداه ولم يتفق ذلك لأحد من الصحابة ، فأبوه أبو قحافة عثمان بن عمرو ، وأمه أمّ الخير بنت صخر بن عمرو.
الإيضاح
(وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً) أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنوّ عليهما ، والبر بهما فى حياتهما وبعد مماتهما ، وجعلنا البر بهما من أفضل الأعمال ، وعقوقهما من الكبائر ، والآيات والأحاديث فى هذا الباب كثيرة.
ثم ذكر سبب التوصية وخص الكلام بالأم لأنها أضعف وأولى بالرعاية ، وفضلها أعظم كما ورد فى صحيح الأحاديث ومن ثم كان لها ثلثا البر فقال :
(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي إنها قاست فى حمله مشقة وتعبا من وحم وغثيان وثقل إلى نحو أولئك مما ينال الحوامل ، وقاست فى وضعه مشقة من تعب الطلق وألم الوضع ، وكل هذا يستدعى البر بها واستحقاقها للكرامة وجميل الصحبة.
(2 - مراغى - السادس والعشرون)(26/19)
ج 26 ، ص : 18
ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله فقال :
(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي ومدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا تكابد الأمّ فيها الآلام الجسمية والنفسية ، فتسير الليالى ذوات العدد إذا مرض ، وتقوم بغذائه وتنظيفه وكل شئونه بلا ضجر ولا ملل ، وتحزن إذا اعتل جسمه أو ناله مكروه يؤثّر فى نموّه وحسن صحته.
وفى الآية إيماء إلى أن أقل الحمل ستة أشهر ، لأن أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان لقوله تعالى : « وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ » فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر ، وبذلك يعرف أقل الحمل وأكثر الإرضاع.
وأول من استنبط هذا الحكم منها علىّ كرم اللّه وجهه ووافقه عليه عثمان وجمع من الصحابة رضى اللّه عنهم.
روى محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن معمر بن عبد اللّه الجهني قال : تزوج منا رجل من امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضى اللّه عنه فذكر ذلك له ، فبعث إليها ، فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت لها : وما يبكيك ؟ فو اللّه ما التبس بي أحد من خلق اللّه تعالى غيره قط ، فيقضى اللّه فىّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان أمر برجمها ، فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال ما تصنع ؟ قال ولدت لتمام ستة أشهر وهل يكون ذلك ؟ فقال له علىّ : أما تقرأ القرآن ؟ قال بلى ، قال : أما سمعت اللّه عز وجل يقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال :
« حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ » فلم تجده أبقى إلا ستة أشهر ، فقال عثمان : واللّه ما فطنت لهذا ، علىّ بالمرأة ، فوجدها قد فرغ منها ، قال معمر فو اللّه ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه قال : ابني واللّه لا أشك فيه.
وعن ابن عباس أنه كان يقول : إذا ولدت المرأة لتسعة أشهر كفاها من الرضاع(26/20)
ج 26 ، ص : 19
أحد وعشرون شهرا ، وإذا ولدت لسبعة أشهر كفاها من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرا ، وإذا ولدت لستة أشهر فحولان كاملان لأن اللّه يقول : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً).
(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) أي حتى إذا اكتهل واستوفى السن التي تستحكم فيها قوته وعقله وهى فيما بين الثلاثين والأربعين.
(وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) وهذا نهاية استحصاد العقل واستكماله ، ومن ثم روى عن ابن عباس : من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار ولهذا قيل :
إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه فلا تنفس عليه الذي مضى وإن جرّ أسباب الحياة له العمر
قال المفسرون : لم يبعث اللّه نبيا قط قيل الأربعين إلا ابني الخالة « عيسى ويحيى » (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ) أي رب وفقني لشكر نعمك التي غمرتنى بها فى دينى ودنياى ، بما أتمتع به من سعة فى العيش ، وصحة فى الجسم ، وأمن ودعة ، للإخلاص لك ، واتباع أوامرك ، وترك نواهيك ، وأنعمت بها على والدىّ من تحننهما علىّ حين ربيانى صغيرا.
(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) أي واجعل عملى وفق رضاك لأنال مثوبتك.
(وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي واجعل الصلاح ساريا فى ذريتى ، متمكنا من نفوسهم ، راسخا فى قلوبهم.
قال ابن عباس : أجاب اللّه دعاء أبى بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه عليه ، ودعا فقال : أصلح لى فى ذريتى ، فأجابه اللّه تعالى ، فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا ، فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا ، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبىّ صلّى اللّه عليه وسلم وآمنوا به ، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضى اللّه عنهم أجمعين.(26/21)
ج 26 ، ص : 20
(إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي إنى تبت إليك من ذنوبى التي فرطت منى فى أيامى الخوالى ، وإنى من الخاضعين لك بالطاعة ، المستسلمين لأمرك ونهيك ، المنقادين لحكمك.
روى أبو داود فى سننه « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يعلّمهم أن يقولوا فى التشهد : اللهم ألّف بين قلوبنا ، وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجّنا من الظلمات إلى النور ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا فى أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا ، وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، وأتمها علينا » .
ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم الذين يتقبل اللّه عنهم أحسن ما عملوا فى الدنيا من صالح الأعمال ، فيجازيهم به ، ويثيبهم عليه ، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم فى الدنيا لماما ولم تكن عادة لهم ، بل جاءت بحافز من القوة الشهوانية ، أو القوة الغضبية ، فلا يعاقبهم عليها ، وهم منتظمون فى سلك أصحاب الجنة ، داخلون فى عدادهم.
ثم أكد الوعد السابق بقوله :
(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي وعدهم اللّه الوعد الحق الذي لا شك فيه ، وأنه موفّ به.
وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبى وقاص وعلى أبى بكر الصديق اللذين قيل فى كل منهما إن الآية نزلت فيه تنطبق على كل مؤمن ، فهو موصّى بوالديه ،(26/22)
ج 26 ، ص : 21
مأمور أن يشكر نعمة اللّه عليه وعلى والديه ، وأن يعمل صالحا ، وأن يسعى فى إصلاح ذريته ، ويدعو اللّه أن يوفقه لعمل أهل الجنة.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 17 الى 20]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
تفسير المفردات
أفّ : صوت يصدر من الإنسان حين تضجره ، أخرج : أي أبعث من القبر للحساب ، خلت القرون من قبلى : أي مضت ولم يخرج منها أحد ، يستغيثان اللّه :
أي يقولان الغياث باللّه منك ، يقال استغاث اللّه واستغاث باللّه ، والمراد أنهما يستغيثان باللّه من كفره ، إنكارا واستعظاما له ، حتى لجأ إلى اللّه فى دفعه كما يقال العياذ باللّه من كذا ، ويلك : دعاء عليه بالثبور والهلاك ، ويراد به الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن مرتكبه حقيق بأن يهلك ، فإذا سمع ذلك ارعوى عن غيّه وترك ما هو فيه وأخذ بما ينجيه ، أساطير الأولين : أي أباطيلهم التي سطروها فى الكتب من غير أن يكون لها حقيقة ، حق عليهم القول : أي وجب عليهم قوله لإبليس « لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ(26/23)
ج 26 ، ص : 22
وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ »
من الخاسرين : أي الذين ضيعوا نظرهم الشبيه برءوس الأموال باتباعهم همزات الشياطين ، والدرجات : المنازل واحدها درجة ، وهى المنزلة ، ويقال لها منزلة إذا اعتبرت صعودا ، ودركة إذا اعتبرت حدورا ، ومن ثم يقال درجات الجنة ، ودركات النار ، فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب ، طيباتكم : أي شبابكم وقوتكم يقولون ذهب أطيباه أي شبابه وقوته ، الهون : أي الهوان والذل ، تفسقون :
أي تخرجون من طاعة اللّه.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه حال الداعين للوالدين ، البررة بهما ، ثم ذكر ما أعد لهما من الفوز والنجاة فى الدار الآخرة - أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين ، المنكرين للبعث والحساب ، المحتجين بأن القرون الخوالى لم تبعث ، ثم رد الآباء عليهم بأن هذا اليوم حق لا شك فيه ، ثم بإجابة الأبناء لهم بأن هذه أساطير الأولين وخرافاتهم ، ثم ذكر أن أمثال هؤلاء ممن حق عليهم القول بأن مصيرهم إلى النار.
ثم أردف هذا أن لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم كفاء ما قدموا من عمل وسيجزون عليها الجزاء الأوفى ، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار :
أنتم قد تمتعتم فى الحياة الدنيا ، واستكبرتم عن اتباع الحق ، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي ، فجازاكم اللّه بالإهانة والخزي والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة فى دركات النار.
الإيضاح
(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما ، أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي ؟ ) أي والذي قال لوالديه أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث اللّه خلقه من(26/24)
ج 26 ، ص : 23
قبورهم ومجازاته إياهم بأعمالهم : أفّ لكما : إنى لضجر منكما ، أ تقولان إنى أبعث من قبرى حيا بعد موتى وفنائى ، وما لحقنى من بلى وتفتت عظام ؟ إن هذا لعجب عاجب فها هى ذى قرون مضت ، وأمم قد خلت من قبلى كعاد وثمود ولم يبعث منهم أحد ، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان لبعث من قبلى من القرون الغابرة ألا ترى إلى قول من قال :
ما جاءنا أحد يخبّر أنه فى جنة لمّا مضى أو نار
وزعم مروان بن الحكم أنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه ، وقد ردت عليه عائشة رضى اللّه عنها. أخرج ابن أبى حاتم وابن مردويه عن عبد اللّه قال : إنى لفى المسجد حين خطب مروان فقال : إن اللّه قد رأى لأمير المؤمنين (يعنى معاوية) فى يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه ، فقد استخلف أبوبكر وعمر ، فقال عبد الرحمن بن أبى بكر : سنة هرقل وقيصر « 1 » إن أبا بكر رضى اللّه عنه ما جعلها فى أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : أ لست « الّذى قال لوالديه أفّ لكما » فقال عبد الرحمن : أ لست ابن اللعين الذي لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أباك ، فسمعت عائشة فقالت لمروان : أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا ، كذبت واللّه ما فيه نزلت ، نزلت فى فلان بن فلان.
والحق أن الآية لم ترد فى شخص معين ، بل المراد كل شخص يقول أمثال هذه المقالة فيدعوه أبواه إلى الإيمان بالبعث وإلى الدين الصحيح فيأبى وينكر.
(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) أي ووالداه يستصرخان اللّه عليه ، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث ، ويقولان له حثا وتحريضا : هلاكا لك ، صدّق بوعد اللّه ، وأنك مبعوث بعد وفاتك ، إن وعد اللّه الذي وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.
__________________________________________________
(1) يريد أن البيعة لأولاد الملوك ستة ملوك الروم ، وهرقل : اسم ملك الروم.(26/25)
ج 26 ، ص : 24
والخلاصة - إنهما يستعظمان قوله ، ويلجآن إلى اللّه فى دفعه ، ويدعوان عليه بالويل والثبور ، ليستحثاه على ترك ما هو فيه ، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.
ثم ذكر ردّه عليهما مع الاستهزاء بهما والتعجيب من حالهما.
(فَيَقُولُ : ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي فيقول مجيبا والديه ، رادّا عليهما نصحهما ، مكذبا بوعد اللّه : ما هذا الذي تقولان لى ، وتدعوان إليه ، إلا ما سطره الأولون من الأباطيل ، فأصبتماه أنتما وصدقتما به ، ولا ظلّ له من الحقيقة.
ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم هم الذين وجب عليهم عذاب اللّه ، وحلت عليهم عقوبته وسخطه ، فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل ، وعتوا عن أمر ربهم.
وفى الآية إيماء إلى أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالإنس. قال أبو حيان فى البحر : قال الحسن البصري فى بعض مجالسه : الجن لا يموتون ، فاعترضه قتادة بالآية فسكت.
وفيها ردّ أيضا على من قال : إنها نزلت فى عبد الرحمن بن أبى بكر ، لأنه رضى اللّه عنه أسلم وجبّ عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة ، أما من حق عليه القول فهو من علم اللّه تعالى أنه لا يسلم أبدا.
ثم ذكر العلة فى هذا العذاب المهين فقال :
(إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) لأنهم ضيعوا فطرهم التي فطرهم اللّه عليها واتبعوا الشيطان ، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال ، والنعيم بالعذاب.
ثم ذكر أن لكل من الفريقين الذين قالوا ربنا اللّه ، والذي قال لوالديه مراتب متفاوتة فقال :(26/26)
ج 26 ، ص : 25(26/27)
ج 26 ، ص : 25
(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند اللّه يوم القيامة بحسب أعمالهم من خير أو شر فى الدنيا ، وليوفيهم أجور أعمالهم ، المحسن منهم بإحسانه ، والمسيء منهم بإساءته ، وهم لا يظلمون شيئا ، فلا يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه ، ولا يحمل عليه ذنب غيره ، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.
وبعد أن بين سبحانه أنه يعطى كل ذى حق حقه - بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون فقال :
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي واذكر لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون فى النار ، ويقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : إن كل ما قدر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه فى الدنيا ونلتموه ولم يبق لكم منه شىء ، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم وفسوقكم عن أمر ربكم وخروجكم من طاعته.
وفى هذا تحريض على التقلل من زخرف الدنيا وزينتها والأخذ بالتقشف فيها.
أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر أن عمر رضى اللّه عنه رأى فى يد جابر بن عبد اللّه رضى اللّه عنه درهما فقال ما هذا الدرهم ؟
قال أريد أن أشترى به لأهلى لحما قرموا إليه ، فقال : أ كلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه ؟
أين تذهب عنكم هذه الآية : « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها » وروى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه يقول :
لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء « 1 » وصنابا وصلائق ولكنى
__________________________________________________
(1) الصلاء. الشواء بالمد والكسر ، والصناب : صباغ (سلطة) يتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الحملان المشوية.(26/28)
ج 26 ، ص : 26
أستبقى حسناتى ، فإن اللّه عز وجل وصف أقواما فقال : « أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها » .
وأخرج أحمد والبيهقي فى شعب الإيمان عن ثوبان رضى اللّه عنه قال : « كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا سافر كان آخر عهده من أهله بفاطمة ، وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضى اللّه عنها ، فقدم من غزاة فأتاها فإذا بمسح (بكسر فسكون ، وهو ثوب من شعر غليظ) على بابها ، ورأى على الحسن والحسين قلبين (مثنى قلب بضم فسكون : السوار) من فضة فرجع ولم يدخل عليها ، فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى ، فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا ، فقسمت ذلك بينهما ، فانطلقا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهما يبكيان ، فأخذ ذلك رسول اللّه منهما ، وقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بنى فلان (أهل بيت بالمدينة) واشتر لفاطمة قلادة من عصب (بفتح فسكون خرز أبيض) وسوارين من عاج ، فإن هؤلاء أهل بيتي : ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا » .
وقد كان السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد فى الدنيا رجاء أن يكون ثوابهم فى الآخرة أكمل ، لا أن التمتع بزخارف الدنيا مما يمتنع ، بدليل قوله تعالى « قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » .
نعم إن الاحتراز عن التنعم أولى ، لأن النفس إذا اعتادت ذلك وألفته صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه ، وللّه درّ البوصيرى إذ يقول :
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه : أن على المرء أن يأكل ما وجد ، طيبا كان أو قفارا (الطعام بلا أدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة ، وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلّم يشبع إذا وجد ، ويصبر إذا عدم ، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها(26/29)
ج 26 ، ص : 27
ويشرب العسل إذا اتفق له ، ويأكل اللحم إذا تيسر ، ولا يعتمده أصلا ، ولا يجعله ديدنا له.
قصص هود عليه السلام مع قومه عاد
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)(26/30)
ج 26 ، ص : 28
تفسير المفردات
أخا عاد : هو هود عليه السلام ، والأحقاف : واحدها حقف (بالكسر والسكون) وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء ، سمى به واد بين عمّان ومهرة كانت تسكنه عاد ، وكانوا أهل عمل ، سيارة فى الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وهم من قبيلة إرم ، والنذر : واحدهم نذير أي منذر ، من بين يديه : أي من قبله ، ومن خلفه : أي من بعده ، لتأفكنا : أي لتصرفنا ، عن آلهتنا : أي عن عبادتها ، بما تعدنا : أي من معاجلة العذاب على الشرك : إنما العلم عند اللّه ، أي العلم بوقت نزوله عند اللّه ، والعارض : السحاب الذي يعرض فى أفق السماء قال الأعشى :
يا من رأى عارضا قد بتّ أرمقه كأنما البرق فى حافاته الشّعل
مستقبل أوديتهم : أي متجها إليها ، تدمّر : أي تهلك ، حاق : أي نزل ، صرفنا :
أي بيّنا ونوّعنا ، الآيات : الحجج والعبر ، فلو لا : أي فهلا ، نصرهم : أي منعهم ، قربانا : أي متقربا بها إلى اللّه ، ضلوا عنهم : أي غابوا عنهم ، إفكهم : أي أثر إفكهم وصرفهم عن الحق ، وما كانوا يفترون أي وأثر افترائهم وكذبهم.
المعنى الجملي
بعد أن أورد سبحانه الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة التي أعرض عنها أهل مكة ولم يلتفتوا إليها ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرا ، لاستغراقهم فى الدنيا واشتغالهم بطلبها - أردف هذا ذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ، ويقبلوا على طاعة اللّه ، فقد كانوا أكثر منهم أموالا وأقوى منهم جندا ، فسلط اللّه عليهم العذاب بسبب كفرهم ، ولم يغن عنهم مالهم من اللّه شيئا.(26/31)
ج 26 ، ص : 29
الإيضاح
(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق - هودا أخا عاد ، فقد كذبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس اللّه وشديد عذابه ، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها ألا تشركوا مع اللّه شيئا فى عبادتكم إياه ، بل أخلصوا له العبادة ، وأفردوا له الألوهة ، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون اللّه ، فقال لهم ناصحا : إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول « يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ » .
وحين نصحهم بذلك أجابوه :
(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ؟ فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) أي قال قومه له : أ جئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه ، وإلى اتباعك فيما تقول ؟ هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة إن كنت صادقا فى قولك وعدتك.
والخلاصة - أ تزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها ؟ فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقا فى وعيدك ، وقد استعجلوا عذاب اللّه وعقوبته استبعادا منهم لوقوعه كما قال تعالى. « يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها » .
فردّ هود عليهم مقالهم :
(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ) أي قال : إنما العلم بوقت نزوله عند اللّه وحده لا عندى ، فلا أستطيع تعجيله ولا أقدر عليه ، ثم بين وظيفته فقال :(26/32)
ج 26 ، ص : 30
(وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار ، لا أن آتى بالعذاب ، فليس ذلك من مقدورى ، بل هو من مقدورات ربى.
ثم بين لهم أنهم جاهلون بوظيفة الرسل فقال :
(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) أي وإنى لأعتقد فيكم الجهل ، ومن ثم بقيتم مصرّين على كفركم ، ولم تهتدوا بما جئتكم به ، بل اقترحتم علىّ ما ليس من شأن الرسل ، وهو الإتيان بالعذاب.
ثم ذكر مجىء العذاب إليهم وانتقامه منهم واستئصال شأفتهم فقال :
(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي فلما جاءهم عذاب اللّه الذي استعجلوه ، فرأوا سحابا يعرض فى أفق السماء متجها إلى أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ، ظنا منهم أن غيثا قد أتاهم وفيه حياتهم.
روى أنه قد حبس عنهم المطر أياما ، فساق اللّه إليهم سحابة سوداء ، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له المعتّب ، فلما رأوها تستقبل أوديتهم استبشروا بها خيرا.
ولما سمع هود مقالهم وشام العارض مليا قال :
(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب إذ قلتم « فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ » .
ثم فسر هذا العارض وبين حقيقته فقال :
(رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي بل هو ريح فيها عذاب يهلككم ويجعلكم كأمس الدابر.
ثم وصف هذه الريح فقال :
(تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) أي تهلك كل شىء مرت به من نفوس عاد وأموالها بإذن ربها.
ونحو الآية قوله تعالى : « ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ » أي كالشىء البالي الخلق.(26/33)
ج 26 ، ص : 31
ثم ذكر مآل أمرهم بعدها فقال :
(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي فجاءتهم الريح فدمرتهم ، فصاروا بعد الهلاك لا يرى إلا آثار مساكنهم ، إذ قد اجتاحت الأموال ، وأذهبت الأنفس ، وجعلتها أثرا بعد عين.
روى عن ابن عباس : أن أول ما عرفوا أنه عذاب أليم أنهم رأوا ما كان فى الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلّقوا أبوابهم ، فقلعتها الريح وصرعتهم : وأحال اللّه عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام ، ثم كشفت الريح عنهم الرمال فاحتملتهم فطرحتهم فى البحر.
أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن عائشة رضى اللّه عنها قالت : « كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال : اللهم إنى أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ، فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى اللّه عليه وسلّم وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سرّى عنه ، فسألته فقال عليه السلام لا أدرى لعلّه كما قال قوم عاد (هذا عارض ممطرنا) » .
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت : « ما رأيت رسول اللّه مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته « 1 » وإنما كان يبتسم ، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك فى وجهه ، قلت يا رسول اللّه : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرف فى وجهك الكراهية ، قال : يا عائشة وما يؤمّننى أن يكون فيه عذاب ، عذّب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالوا هذا عارض ممطرنا » .
و
فى صحيح مسلم عن ابن عباس أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال « نصرت بالصّبا ، وأهلكت عاد بالدّبور. « 2 » »
__________________________________________________
(1) واحدها لهاة : وهى اللحمة المشرفة على الحلق فى أقصى سقف الفم.
(2) الصبا : ريح الشمال ، والدبور : ريح الجنوب. [.....](26/34)
ج 26 ، ص : 32
قال شاعرهم يحكى هذا القصص فيما رواه ابن الكلبي :
فدعا هود عليهم دعوة أضحوا همودا
عصفت ريح عليهم تركت عادا خمودا
سخّرت سبع ليال لم تدع فى الأرض عودا
(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما جازينا عادا بكفرهم باللّه ذلك العقاب فى الدنيا ، فأهلكناهم بعذابنا ، كذلك نجزى كل مجرم كافر باللّه متماد فى غيّه.
ولا يخفى ما فى هذا من التهديد والوعيد الشديد.
ثم أخبر سبحانه عن قوة عاد بقوله :
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) أي ولقد مكنا عادا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا ، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبا منه ، من الأموال الكثيرة ، وبسطة الأجسام ، وقوة الأبدان - وهم على ذلك ما نجوا من عقاب اللّه ، فتدبروا أمركم ، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب ، ولا تجدون منه مهربا.
ونحو الآية قوله « كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ » .
(وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ) أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا ، فأعطيناهم سمعا فما استعملوه فى سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا ، وأعطيناهم أبصارا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما انتفعوا بها ، وأعطيناهم قلوبا تفقه حكمة اللّه فى خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم فى آخرتهم ويقرّبهم من جوار ربهم ، بل صرفوها فى طلب الدنيا ولذاتها ، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة ، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم بها ودوام عبادته.(26/35)
ج 26 ، ص : 33
ثم بين العلة فى عدم إغناء ذلك عنهم فقال :
(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ) أي لأنهم كانوا يكذبون رسل اللّه ، وينكرون معجزاتهم.
(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ونزل بهم ما سخروا به فاستعجلوه من العذاب.
وفى هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب اللّه ، ويخافوا عقابه ، فإنّ عادا لما اغتروا بدنياهم ، وأعرضوا عن قول الحق - نزل بهم العذاب ، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئا - فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى.
ولما أخبر بهلاكهم على ما لهم من المكنة العظيمة ، ليتعظ بهم من سمع أمرهم ، أتبعه بذكر من كان مشاركا لهم فى التكذيب ، فأدركه سوء العذاب كما أدركهم فقال :
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ) أي ولقد أهلكنا يا أهل مكة ما حول قريتكم من القرى المكذبة للرسل كعاد ، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت ، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام ، وسبإ باليمن ، ومدين ، وكانت فى طريقهم فى رحلاتهم صيفا وشتاء ، بعد أن أنذرناهم بالمثلات ، فلم يغن ذلك عنهم شيئا فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي وبيّنا لهم دلائل قدرتنا ، وبديع حججنا ليرجعوا عن غيّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد ، أو لشبهة عرضت لهم ، فحلّ بهم سوء العذاب ولم يجدوا لهم نصيرا ولا دافعا لعذاب اللّه ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي فهلا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتهم قربانا يتقربون به إلى ربهم فيما زعموا ، حين جاءهم بأسه فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده ، لكنهم غابوا عنهم ولم يفيدوهم شيئا.
(3 - مراغى - السادس والعشرون)(26/36)
ج 26 ، ص : 34
وفى هذا تقريع لأهل مكة وتأنيب لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون اللّه تغنى عنهم شيئا ، أو تنفعهم عنده - لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أهلكوا بعبادتهم لها ، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم ، أو لشفعت لهم عند ربهم ، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم ، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها ، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأى وسوء التقدير للأمور.
(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي وامتناع نصرة آلهتهم لهم وصلالهم عنهم - أثر من آثار إفكهم الذي هو اتخاذهم إياهم آلهة ، وثمرة افترائهم على اللّه الكذب.
استماع الجن للقرآن
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)
تفسير المفردات
صرفنا : أي وجهنا ، والنفر : ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال ، سموا بذلك :
لأنهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته ، أنصتوا : أي اسكتوا ، قضى : أي فرغ(26/37)
ج 26 ، ص : 35
من تلاوته ، ولّوا : أي رجعوا ، منذرين : أي مخوّفين لهم عواقب الضلال. روى أن هؤلاء الجن كانوا من جنّ نصيبين من دياربكر قريبة من الشام ، أو من نينوى بالموصل ، وكان الاجتماع بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة ، وقد أمر الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى اللّه تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف اللّه إليه نفرا منهم فاستمعوا منه ، حتى إذا انقضى من تلاوته رجعوا إلى قومهم منذريهم عقاب اللّه إذا هم استمروا على الضلال. أجاره من كذا : أنقذه منه ، وداعى اللّه : هو الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فليس بمعجز فى الأرض : أي لا ينجو منه هارب ، ولا يسبق قضاءه سابق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه أن فى الإنس من آمن ومنهم من كفر - أعقب هذا ببيان أن الجن كذلك ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر وأن مؤمنهم معرّض للثواب ، وكافرهم معرض للعقاب ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجن.
واعلم أن عالم الملائكة وعالم الجن لا يقوم عليهما دليل من العقل فهما بمعزل عن ذلك ، وإنما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط ، فعلينا أن نؤمن بما جاء به فحسب ولا نزيد على ذلك شيئا ، ولا نتوسع فى بحثه وتأويله وتفصيله ، فإن ذلك من عالم الغيب الذي لم نؤت من علمه كثيرا ولا قليلا ، فعلينا أن نؤمن بأن اتصالا قد تمّ بين النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعالم الملائكة ، وبه تلقّى الوحى على أيديهم ، وأنه اتصل بعالم الجن ، فعلّمهم وبشرهم وأنذرهم ، لكنا لا ندرى كيف كان الاتصال ولا كيف تلقّوا عنه القرآن ، ولعل تقدم العلوم فى مستأنف الأيام يلقى علينا ضواءا من هذه المعرفة ، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع فى دراسته ينير لنا بعض السر فى ذلك ففى هذه الدراسة معرفة شىء من أحوالنا فى الحياة الأخرى بعد هذه الحياة وسيأتى تفصيل لهذا القصص فى سورة الجن(26/38)
ج 26 ، ص : 36
الإيضاح
(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
أي واذكر أيها الرسول لقومك موبخا لهم على كفرهم بما آمنت به الجن ، لعلهم يتنبهون لجهلهم ، ويرعوون عن غيّهم وقبح ما هم فيه من كفر بالقرآن وإعراض عنه ، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل ، ومن جنس الرسول الذي جاء به ، وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عند اللّه وآمنوا به ، وليسوا من أهل لسانه ، ولا من جنس رسوله - فى ذلك الوقت الذي وجه اللّه إليه جماعة من الجن ، ليستمعوا القرآن ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات ، فلما حضروا الرسول قال بعضهم لبعض : أنصتوا مستمعين ، فلما فرغ من تلاوته رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس اللّه وشديد عذابه.
وذكر الوقت ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها ، لما لها من خطر جليل وشأن عظيم ، فيراد علمه بها ليكون لها فى نفسه الأثر الذي يقصد منها من ترغيب أو ترهيب ، ومسرة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال : سألت ابن مسعود من آذن النبىّ صلى اللّه عليه وسلّم بالجن ليلة استمعوا القرآن ، قال آذنته بهم الشجرة.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال : قلت لابن مسعود : هل صحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منكم أحد ليلة الجن ؟ قال ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا اغتيل. استطير. ما فعل ؟ قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان فى وجه الصبح إذا نحن به يجىء من قبل حراء فأخبرناه فقال : إنه أتانى داعى الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم.(26/39)
ج 26 ، ص : 37
وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرة بعد مرة ، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية.
ثم فصل ما قالوه لهم فى إنذارهم.
(قالُوا : يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) أي قالوا لهم يا قومنا من الجن : إنا سمعنا كتابا أنزله اللّه من بعد توراة موسى ، يصدّق ما قبله من كتب اللّه التي أنزلها على رسله ، ويرشد إلى سبيل الحق ، وإلى ما فيه للّه رضا ، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه.
وخصوا التوراة بالذكر لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين. وقال عطاء لأنهم كانوا على اليهودية ، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح.
(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا قومنا أجيبوا رسول اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى ما يدعوكم إليه من طاعة اللّه ، وصدقوه فيما جاء به من أمر اللّه ونهيه - يغفر لكم بعض ذنوبكم ويسترها لكم ولا يفضحكم بها فى الآخرة بعقوبته لكم عليها ، وينقذكم من عذاب موجع ، إذا أنتم تبتم من ذنوبكم وأنبتم إلى ربكم ، وأخلصتم له العبادة.
وفى الآية إيماء إلى أن حكم الجن حكم الإنس فى الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي.
ثم حذروا قومهم وتوعدوهم وأوجبوا إجابتهم داعى اللّه بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب فقالوا :
(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) أي ومن لا يجب رسول اللّه محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مادعا إليه من التوحيد والعمل بطاعته ، فلا يفوت ربه ولا يسبقه هربا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه ، ولا يجد له نصراء ينصرونه ويدفعون عنه عذابه.(26/40)
ج 26 ، ص : 38
ثم بيّن أن من فعل ذلك فقد بلغ الغاية فى الضلال ، والبعد عن الصراط السوىّ فقال :
(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي وأولئك الذين يفعلون ذلك يكونون فى ضلال بيّن ، وجور عن قصد السبيل ، لأن طريق الحق واضحة وأعلامه منصوبة ، والوصول إليه ميسور ، فمن جانفه وأعرض عنه فقد أجرم واستحق الجزاء الذي هو له أهل.
[سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 35]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)
تفسير المفردات
لم يعى : أي لم يعجز ، قال الكسائي : يقال أعييت من التعب ، وعييت من انقطاع الحيلة والعجز ، قال عبيد بن الأبرص :
عيّوا بأمرهم كما عيّت ببيضتها الحمامه
أولو العزم : أي ذوو الحزم والصبر ، قال مجاهد : هم خمسة نظمهم الشاعر فى قوله :
أولو العزم نوح والخليل الممجّد وموسى وعيسى والحبيب محمد
بلاغ : أي كفاية فى الموعظة.(26/41)
ج 26 ، ص : 39
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى أول السورة ما يدل على وجود الإله القادر الحكيم ، وأبطل قول عبدة الأصنام ، ثم ثنى بإثبات النبوة وذكر شبهاتهم فى الطعن فيها وأجاب عنها - أردف ذلك إثبات البعث وأقام الدليل عليه ، فذكر أن من خلق السموات والأرض على عظمهن فهو قادر على أن يحيى الموتى ، ثم أعقب هذا بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لرسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالصبر على أذى قومه كما صبر من قبله أولو العزم من الرسل ، وبعدم استعجال العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا ، ثم ختم السورة بأن فى هذه العظات كفاية أيّما كفاية ، وما يهلك إلا من خرج عن طاعة ربه ، ولم ينقد لأمره ونهيه.
الإيضاح
(أَ وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ؟ ) أي أ ولم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم ، وبعثه إياهم من قبورهم بعد بلاهم ، فيعلموا أن الذي خلق السموات والسبع والأرض فابتدعهن من غير شىء ، ولم يعى فى إنشائهن - بقادر على أن يحيى الموتى فيخرجهم من بعد بلاهم فى قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم ؟ .
ونحو الآية قوله عز وجل : « لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ » .
والخلاصة - إن من قال للسموات والأرض كونى فكانت لا ممانعة ولا مخالفة ، طائعة خائفة وجلة - أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى ؟(26/42)
ج 26 ، ص : 40
ثم أجاب عن ذلك مقرّرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود فقال :
(بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي بلى إن الذي خلق ذلك - ذو قدرة على كل شىء أراد خلقه ، ولا يعجزه شىء أراد فعله.
وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب إذ لا يختلف فيه أحد ، ولا يعارض فيه ذو لبّ.
ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة ذكر ما يحدث حينئذ من الأهوال فقال :
(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ ؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا) أي ويوم يعرض هؤلاء المكذبون بالبعث وبثواب اللّه لعباده على أعمالهم الصالحة ، وعقابه إياهم على أعمالهم السيئة - على نار جهنم يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ : أليس هذا العذاب الذي تعذّبونه اليوم وقد كنتم تكذبون به فى الدنيا - بالحق الذي لا شك فيه ؟
قالوا من فورهم : بلى وربنا إنه لحق.
(قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي قال آمرا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا عذاب النار الآن جزاء جحودكم به فى الدنيا ، وإبائكم الاعتراف به إذا دعيتم للتصديق به.
ولما قرر التوحيد والنبوة والبعث وأجاب عن شبهاتهم - أردف ذلك ما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه ، لأن الكفار كانوا يؤذونه ويوغرون صدره فقال :
(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أي فاصبر أيها الرسول على ما أصابك فى اللّه من أذى مكذبيك من قومك الذين أرسلناك إليهم منذرا ، كما صبر أولو العزم من الرسل على القيام بأمر اللّه والانتهاء إلى طاعته.
والخلاصة - اصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد كما صبر إخوانك الرسل من قبلك.
وعن عائشة قالت : ظلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صائما ثم طوى ، ثم ظلّ صائما ثم طوى ، ثم ظل صائما قال يا عائشة : « إن الدنيا لا تنبغى لمحمد ولا لآل محمد ،(26/43)
ج 26 ، ص : 41
يا عائشة إن اللّه لم يرض من أولى العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها ، والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض منى إلا أن يكلفنى ما كلفهم فقال : « فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » وإنى واللّه لأصبرنّ كما صبروا جهدى ولا قوة إلا باللّه » أخرجه ابن أبى حاتم والدّيلمى.
ولما أمره بالصبر ، وهو أعلى الفضائل ، نهاه عن العجلة وهى أخسّ الرذائل فقال :
(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي ولا تعجل بمسألة ربك العذاب لهم ، فإنه نازل بهم لا محالة.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا » وقوله : « فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً » .
ثم أخبر بأن العذاب إذا نزل بالكافرين استقصروا مدة لبثهم فى الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال :
(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) أي كأنهم حين يرون عذاب اللّه الذي أوعدهم بأنه نازل بهم - لم يلبثوا فى الدنيا إلا ساعة من نهار - لأن شدة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا فى الدنيا من السنين والأعوام ، فيظنونها ساعة من نهار.
ونحو الآية قوله : « كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ؟ . قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ » وقوله : « كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها » .
(بلاغ) أي هذا القرآن بلاغ لهم ، وكفاية إن فكروا واعتبروا ، ودليله قوله تعالى : « هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ » وقوله : « إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ » .(26/44)
ج 26 ، ص : 42
ثم أوعد وأنذر فقال :
(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ ؟ ) أي وما يهلك بالعذاب إلا الخارجون عن طاعة اللّه ، المخالفون لأمره ونهيه إذ لا يعذب إلا من يستحق العذاب.
قال قتادة : لا يهلك على اللّه إلا هالك مشرك ، وهذه الآية أقوى آية فى الرجاء ومن ثم قال الزجاج : تأويله لا يهلك مع رحمة اللّه وفضله إلا القوم الفاسقون ، وهذا تطميع فى سعة فضل اللّه سبحانه وتعالى.
أخرج الطبراني فى الدعاء عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يدعو :
« اللهم إنى أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والسلامة من كل إثم ، والغنيمة من كل برّ ، والفوز بالجنة ، والنجاة من النار ، اللهم لا تدع لى ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرّجته ، ولا دينا إلا قضيته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين » .
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
(1) إقامة الأدلة على التوحيد والرد على عبدة الأصنام والأوثان.
(2) المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوة والإجابة عنها وبيان فسادها.
(3) ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحدوا اللّه وصدقوا أنبياءه ، وبيان أن جزاءهم الجنة.
(4) ذكر وصايا للمؤمنين من إكرام الوالدين وعمل ما يرضى اللّه.
(5) بيان حال من انهمكوا فى الدنيا ولذاتها.
(6) قصص عاد ، وفيه بيان أن صرف النعم فى غير وجهها يورث الهلاك.
(7) استماع الجن للرسول صلى اللّه عليه وسلّم وتبليغهم قومهم ما سمعوه.
(8) عظة للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين من أمته.
(9) بيان أن القرآن فيه البلاغ والكفاية فى الإنذار.
(10) من عدل اللّه ورحمته ألا يعذب إلا من خرج من طاعته ولم يعمل بأمره ونهيه.(26/45)
ج 26 ، ص : 43
سورة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم
وتسمى سورة القتال هى مدنية إلا آية 13 فقد نزلت فى الطريق أثناء الهجرة.
وآيها ثمان وثلاثون آية. نزلت بعد الحديد.
ولا تخفى قوة ارتباطها بما قبلها ، فإن أولها متلاحم بآخر السورة السابقة ، حتى لو أسقطت البسملة من البين لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه ، ولكان بعضه آخذا بحجز بعض.
أخرج الطبراني فى الأوسط عن ابن عمر رضى اللّه عنهما أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم كان يقرؤها فى صلاة المغرب.
[سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)
تفسير المفردات
صدوا عن سبيل اللّه : أي صرفوا الناس عن الدخول فى الإسلام ، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه ، أضل أعمالهم : أي أبطلها ، وهو الحق من ربهم :(26/46)
ج 26 ، ص : 44
أي وهو الحق الثابت الذي لا مرية فيه ، بالهم : أي حالهم فى الدين والدنيا بالتوفيق لصالح الأعمال ، وأصل البال : الحال التي يكترث بها ، ولذلك يقال ما باليت به : أي ما اكترثت به ، ومنه
قوله صلّى اللّه عليه وسلم « كل أمر ذى بال »
الحديث. يضرب اللّه للناس أمثالهم : أي يبين لهم مآل أعمالهم وما يصيرون إليه فى معادهم.
المعنى الجملي
قسم سبحانه الناس فريقين : أهل الكفر الذين صدوا الناس عن سبيل اللّه ، وهؤلاء يبطل أعمالهم سواء كانت حسنة كصلة الأرحام وإطعام الطعام ، أو سيئة كالكيد لرسول اللّه والصدّ عن سبيل اللّه ، فالأولى يبطل ثوابها ، والثانية يمحو أثرها ، وهكذا كل من قاوم عملا شريفا فإن مآله الخذلان.
وأهل الإيمان باللّه ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم ، وأولئك يغفر اللّه لهم سيئات أعمالهم ويوفقهم فى الدين والدنيا ، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.
ثم علل ما سلف بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنه اللّه فى الخليقة : بأن الحق منصور ، وأن الباطل مخذول سواء كان فى أمور الدين أم فى أمور الدنيا ، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها ويؤثرونها ، لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق ، وهكذا الشأن فى المزروعات والمصنوعات المتقنة الجيدة ، والسياسات الحكيمة.
والصناعات المرذولة والسلع المزجاة لن يكون حظها إلا الكساد والبوار ، لأن الباطل لا ثبات له ، والحق هو الثابت ، واللّه هو الحق فينصر الحق ، والعلم الصحيح والدين الصحيح والصناعات الجيدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة ، وضدها عاقبته الشقاء والبوار.
وقصارى ذلك - إن اللّه سبحانه خلق السموات والأرض بالحق وعلى قوانين ثابتة منظمة ، فكل ما قرب من الحق كان باقيا ، وكل ما ابتعد عنه كان هالكا ، فرجال الجدّ والنشاط مؤيدون ، ورجال الكسل والتواكل مخذولون ، والمحققون فى كل شىء محبوبون منصورون.(26/47)
ج 26 ، ص : 45
الإيضاح
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي الذين جحدوا توحيد اللّه ، وعبدوا غيره ، وصدوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته وتصديق نبيّه عما أراد - جعل اللّه أعمالهم تسير على غير هدى ، لأنها عملت فى سبيل الشيطان لا فى سبيل الرحمن ، وما عمل للشيطان فمآله الخسران.
فما عملوه فى الكفر مما كانوا يسمونه مكارم أخلاق : من صلة الأرحام وفك الأسارى وإطعام الطعام وعمارة المسجد الحرام وإجارة المستجير وقرى الأضياف ونحو ذلك - حكم اللّه ببطلانه ، فلا يرون له فى الآخرة ثوابا ، ويجزون به فى الدنيا من فضله تعالى.
ونحو الآية قوله : « وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً » .
قال ابن عباس : نزلت الآية فى المطعمين ببدر ، وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل ، والحارث بن هشام ، وعتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبىّ ، وأمية ابنا خلف ، ومنبّه ونبيه ابنا الحجاج ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن عامر بن نوفل.
ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر ، أتبعهم بثواب أهل الإيمان فقال :
(وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي والذين صدقوا اللّه ، وعملوا بطاعته ، واتبعوا أمره ونهيه ، وصدقوا بالكتاب الذي نزل على محمد ، هو الحق من ربهم - محا اللّه بفعلهم سيىء ما عملوا فلم يؤاخذهم به ، وأصلح شأنهم فى الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة ، وأصلح شأنهم فى الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم فى جناته.(26/48)
ج 26 ، ص : 46
قال ابن عباس نزلت الآية فى الأنصار.
ثم بين سبب الإضلال ، وإصلاح البال فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي وإنما أبطلنا أعمال الكفار وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شئونهم ، لأن الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق بما وسوس إليهم به الشيطان ، ولأن الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم ، فأنار بصائرهم وهداهم إلى سبل الرشاد.
(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي كما بينت لكم فعلى بفريقى الكفار والمؤمنين. كذلك نمثل للناس الأمثال ، ونشبّه لهم الأشباه ، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.
والخلاصة - إنه جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار ، وإضلال أعمالهم مثلا لخيبتهم ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم ، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال كما ضرب المثل بالنخل والحنظل فى سورة أخرى.
[سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9]
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)(26/49)
ج 26 ، ص : 47
تفسير المفردات
لقيتم من اللقاء : وهو الحرب ، فضرب الرقاب : أي فالقتل ، وعبر به عنه تصويرا له بأشنع صورة وهو حزّ العنق وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجه أعضائه ومجمع حواسه ، وبقاء البدن ملقى على هيئة مستبشعة ، وفى ذلك من الغلظة والشدة ما ليس فى لفظ القتل ، وأثخنتموهم : أي أكثرتم القتل فيهم ، فشدّوا الوثاق : أي فأسروهم ، والوثاق : (بالفتح والكسر) : ما يوثق به ، منّا : أي إطلاقا من الأسر بالمجّان ، فداء : أي إطلاقا فى مقابلة مال أو غيره ، والأوزار فى الأصل : الأحمال ويراد بها آلات الحرب وأثقالها من السلاح والكراع ، قال الأعشى :
وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحىّ عيرا فعيرا
انتصر : أي انتقم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق ، ليبلو :
أي ليختبر ، يضلّ : أي يضيع ، بالهم. أي شأنهم وحالهم ، عرّفها. أي بينها وأعلمها ، إن تنصروا اللّه : أي تنصروا دينه ، يثبت أقدامكم : أي يوفقكم للدوام على طاعته ، فتعسا لهم ، من قولهم : تعس (بفتح العين) الرجل تعسا : أي سقط على وجهه ، وضده انتعش : أي قام من سقوطه ، ويقال تعسا ونكسا (بضم النون) : أي سقوطا على الوجه وسقوطا على الرأس ، أحبط أعمالهم : أي أبطلها.(26/50)
ج 26 ، ص : 48
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه فيما سلف أن الناس فريقان : أحدهما متبع للباطل ، وهو حزب الشيطان ، وثانيهما متبع للحق ، وهو حزب الرحمن - ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول حتى يفىء إلى أمر اللّه ، ويرجع عن غيّه ، وتخضد شوكته.
الإيضاح
(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي فإذا واجهتم المشركين فى القتال فاحصدوهم حصدا بالسيوف حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم وصاروا فى أيديكم أسرى فشدوهم فى الوثاق ، كى لا يقاتلوكم أو يهربوا منكم ، ثم أنتم بعد إنهاء الحرب وانتهاء المعارك - بالخيار فى أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتموهم بلا عوض من مال أو غيره ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم وتشاطرونهم عليه - حتى لا يكون حرب مع المشركين ولا قتال ، بزوال شوكتهم.
ونحو الآية قوله تعالى : « وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ » .
قال ابن عباس رضى اللّه عنهما : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل اللّه تعالى فى الأسارى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وكان عليه عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والخلفاء من بعده.
روى البخاري عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : « بعث النبي صلى اللّه عليه وسلّم خيلا قبل نجد ، فجاءت برجل من بنى حنيفة ، يقال له ثمامة ابن أثال ، فربطوه فى سارية من سوارى المسجد ، فخرج إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندى خير ، إن تقتلنى تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل ما شئت ، حتى كان الغد ، فقال له صلّى اللّه عليه وسلم : ما عندك يا ثمامة ؟ قال : عندى ما قلت لك ، قال : أطلقوا(26/51)
ج 26 ، ص : 49
ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه ، واللّه ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلىّ من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلىّ ، واللّه ما كان من دين أبغض إلىّ من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين إلىّ ، واللّه ما كان من بلد أبغض إلىّ من بلدك ، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلىّ وإن خيلك أخذتنى وأنا أريد العمرة فما ذا ترى ؟
فبشره رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : صبوت ، قال لا ولكن أسامت مع محمد صلّى اللّه عليه وسلم.
وعن عمران بن حصين قال : أسر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا من عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلم ففداه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف.
واعلم أن للحرب فوائد ، وللسلم أخرى ، فالأمم فى حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشاب المراهق الذي لم يبلغ الحلم ، تراه يقاتل الصبيان ويشاجرهم ويوقع الأذى بهم وهم يزيدون فى أذاه ، وينكلون به ، وهذه هى حال الأمم اليوم.
ألا إن الحرب تقوّى الأبدان ، وترقى الصناعات ، وتجعل الأمم تنمو ، وتوقظ الشعور ، وتفتح المغلق ، وتيسر العسير ، قال أرسطو للاسكندر : إن الراحة مضرة للأمم ، ومن ثم قيل : إذا أردت رقىّ أمة فاجعلها تخوض الحروب فذلك يفتح لها باب السعادة والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير معرّضة للزوال فإذا كملت أخلاق الأمم ومواهبها ، فإن نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها ، فكما يفرح الرجل فى الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء وشفاء الغليل وجمع الرجال والسلاح والكراع ، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها وانشراح صدورها بظهور أمم أخرى تكافح معها فى ميدان الحياة ، ويكون كل فرد فى الأمم المقبلة أشبه بالأب يكدح لمساعدة أبنائه ، وهذا الكدح والجد فى العمل لفائدة الجميع بحد فيه العامل لذة وفرحا أشد من فرح المنتصر فى ميادين القتال.(26/52)
ج 26 ، ص : 50
وإن الأمم لا تزال فى الطّور الأول ، فهى تسعى لإسعاد نفسها بإهلاك سواها ، وسيأتى حين تسعى فيه لإسعاد الجميع ، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء ويكون الناس جميعا بعضهم لبعض كالآباء والأبناء.
وإلى حال الكمال أشار سبحانه بقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) وإلى حال النقص أشار سبحانه بقوله :
(ذلِكَ) أي هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم فى حرب ، وشدّ وثاقهم فى أسرهم ، والمنّ والفداء حتى تضع الحرب أوزارها - هو الحق الذي أمركم به ربكم ، وهو السنة التي جرى عليها لإصلاح حال عباده ، وهى التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت فى طور طفولتها ، حتى يتم نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها ، إذ لا يكون هناك حاجة إليها ، لأن العالم كله يكون كأسرة واحدة ، سعادته بسعادة أفراده جميعا ، وشقاؤه بشقائهم.
ثم بين أن هذه هى السنة التي أرادها اللّه من حرب المشركين ، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال ، فقال :
(وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي ولو يشاء ربكم لانتصر من هؤلاء المشركين بعقوبة عاجلة ، وكفاكم أمرهم ، ولكنه أراد أن يبلو بعضكم ببعض فيختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء ، ويتعظ منهم من شاء بمن أهلك بأيديكم حتى ينيب إلى الحق.
وفى الجهاد تقوية لأبدانكم ، ورقىّ لعقولكم ، ونفاذ لكلمتكم ، وجمع لشملكم بما ترون من اتحاد عدوكم ، وبه ترقى الزراعة والتجارة والصناعة وجميع العلوم إذ لا يتم حرب ولا غلبة إلا بها ، وهكذا ترتقى حال الأعداء ، فيتسع العمران ، وتعم المدنية ، ويرقى النوع الإنسانى ، ولا يعيش فى هذا الوسط الصاحب إلا الصالح للبقاء والضعيف من الطرفين هالك ، وهذه هى سنة اللّه فى الكون.(26/53)
ج 26 ، ص : 51
ثم ذكر جزاء المجاهدين فى سبيل اللّه فقال :
(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين جاهدوا أعداء اللّه فى دين اللّه وفى نصرة ما بعث اللّه به رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من الهدى ، فلن يجعل أعمالهم التي عملوها فى الدنيا ضائعة سدى كما أذهب أعمال الكافرين وجعلها عديمة الجدوى.
روى أحمد أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال : « يعطى الشهيد ستّ خصال.
عند أول قطرة من دمه تكفّر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوّج من الحور العين ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ومن عذاب القبر ، ويحلّى حلة الإيمان » .
و
أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن قتادة قال : « ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى الشّعب ، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون : اعل هبل (أكبر أصنامهم) ونادى المسلمون : اللّه أعلى وأجلّ.
وقال المشركون : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : قولوا لاسواء. قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون ، وقتلاكم فى النار يعذبون ، فقال المشركون :
إن لنا العزى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون : اللّه مولانا ولا مولى لكم » .
ثم فسر ما سلف بقوله :
(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ. وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) أي سيوفقهم اللّه للعمل بما يرضيه ويحبه ، ويصونهم مما يورث الضلال ، ويصلح شأنهم فى العقبى ، ويتقبل أعمالهم ، ويجعل لكل منهم مقرّا فى الجنة لا يضل فى طلبه.
لا جرم أن لكل امرئ فى الحياة عملا يستوجب حالا فى الآخرة لا يتعداها ، كما يحصل كل من نال إجازة فى علم أو صناعة على عمل يشاكل إجازته فى قوانين الدولة.(26/54)
ج 26 ، ص : 52
والناس فى الآخرة أشبه بأنواع السمك فى البحر الملح وأنواع الطير فى جوّ السماء لكل منها جوّ لاتتعداه ، هكذا لكل من الصالحين درجة فى الآخرة لا يتعداها ، بل يجد نفسه مقهورا على البقاء فيها كما أن السمك منه ما هو قريب من سطح الماء ، ومنه ما يوجد تحت سطح الماء بمئات الأمتار وآلافها ، وإلى ذلك يشير قوله تعالى « وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا » .
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال : يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم اللّه لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، لا يستدلون عليها.
وفى الخبر : « لأحدكم بمنزله فى الجنة أعرف منه بمنزله فى الدنيا » .
ثم وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه بقوله :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي إن تنصروا دين اللّه ينصركم على عدوكم ، ويثبت أقدامكم فى القيام بحقوق الإسلام ومجاهدة الكفار ، لتكون كلمة اللّه هى العليا ، وكلمة المشركين هى السفلى :
وبعد أن ذكر جزاء المجاهدين أعقبه بجزاء الكافرين فقال :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي والذين كفروا باللّه وجحدوا توحيده فخزيا لهم وشقاء ، وأبطل اللّه أعمالهم وجعلها على غير هدى واستقامة ، لأنها عملت للشيطان ، لا طاعة للرحمن.
ثم بين سبب ذلك الإضلال فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس وإضلال الأعمال ، من أجل أنهم كرهوا كتابنا الذي أنزلناه على نبينا محمد(26/55)
ج 26 ، ص : 53
صلى اللّه عليه وسلّم فكذبوا به وقالوا هو سحر مبين ، فمن ثم أحبط أعمالهم التي عملوها فى الدنيا وأصلاهم سعيرا.
وقصارى ذلك - إن كل ما عملوه فى الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل ، لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال.
[سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)
المعنى الجملي
بعد أن نعى سبحانه على الكافرين مغبّة أعمالهم ، وأن النار مثوى لهم - أردف هذا أمرهم بالنظر فى أحوال الأمم السالفة ورؤية آثارهم ، لما للمشاهدات الحسية من آثار فى النفوس ، ونتائج لدى ذوى العقول ، إذا تدبروها واعتبروا بها.(26/56)
ج 26 ، ص : 54
الإيضاح
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أ فلم يسر هؤلاء المكذّبون بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم ، المنكرون ما أنزلنا عليه من الكتاب - فى الأرض فيروا نقمة اللّه التي أحلها بالأمم الغابرة ، والقرون الخالية ، حين كذبوا رسلهم كعاد وثمود ، ويتعظوا بذلك ، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم.
ثم ذكر ما فعله بهم فقال :
(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) يقال دمّره : أهلكه ، ودمّر عليه : أهلك ما يختص به ، أي أهلك ما يختص بهم من الأهل والولد والمال ، أفلا يعتبر هؤلاء بما حل بمن قبلهم فيعلموا أن ما حاق بهم من سوء المنقلب - لا بد أن يحل بهم مثله بحسب ما وضعه سبحانه من السنن فى الأمم المكذبة لرسلها ، ولن تجد لسنة اللّه تبديلا ، وهذا ما عناه سبحانه بقوله :
(وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي ولهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أمثال هذه العاقبة التي ترون آثارها.
ثم بيّن السبب فى حلول أمثال هذه العاقبة بهم فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) أي هذا الذي فعله بهم من التدمير والهلاك ، ونصر المؤمنين وإظهارهم عليهم بسبب أن اللّه ولىّ من آمن به وأطاع رسوله ، وأن الكافرين لا ناضر لهم ، فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب.
ونفى المولى عنهم هنا لا يخالف إثباته فى قوله : « ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ » لأن المراد به هناك المالك لأمورهم ، المتصرف فى شئونهم.
قال قتادة : نزلت يوم أحد والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى الشّعب ، إذ صاح المشركون : يوم بيوم ، لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلم « قولوا اللّه مولانا ولا مولى لكم »
وقد تقدم هذا برواية أخرى.(26/57)
ج 26 ، ص : 55
وبعد أن بين حالى المؤمنين والكافرين فى الدنيا ، بيّن حاليهم فى الآخرة فقال :
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي إن اللّه ذا الجلال والكمال يدخل يوم القيامة من آمنوا به وصدقوا رسوله وعملوا صالح الأعمال - بساتين تجرى من تحت قصورها الأنهار كرامة لهم على إيمانهم باللّه ورسوله واليوم الآخر.
(وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي والذين جحدوا توحيد اللّه وكذبوا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم يتمتعون فى هذه الدنيا بحطامها ورياشها وزينتها الفانية ، ويأكلون فيها غير مفكرين فى عواقبهم ومنتهى أمورهم ، ولا معتبرين بما نصب اللّه لخلقه فى الآفاق والأنفس من الحجج المؤدية إلى معرفة توحيده وصدق رسوله ، فمثلهم مثل البهائم تأكل فى معالفها ومسارحها ، وهى غافلة عما هى بصدده من النحر والذبح ، فكذلك هؤلاء يأكلون ويتلذذون وهم ساهون لاهون عن عذاب السعير.
(وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي ونار جهنم مسكن ومأوى لهم يصيرون إليها بعد مماتهم والخلاصة - إن المؤمنين عرفوا أن نعيم الدنيا ظل زائل فتركوا الشهوات ، وتفرغوا للصالحات ، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم فى مقام كريم ، وإن الكافرين غفلوا عن ذلك فرتعوا فى الدّمن كالبهائم حتى ساقهم الخذلان ، إلى مقرهم من درك النيران ، أعاذنا اللّه منها.
وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله : « أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ » ولم يعتبروا به وذكر لهم.
ما تقدم من الأدلة على وحدانيته - ضرب المثل لنبيّه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم فقال :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسا وأكثر جمعا ، وأعدّ عديدا من(26/58)
ج 26 ، ص : 56
أهل مكة الذين أخرجوك - أهلكناهم بأنواع العذاب ولم يجدوا ناصرا ولا معينا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا ، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل ، ولا تبخع نفسك عليهم حسرات ، فاللّه مظهرك عليهم ، ومهلكهم كما أهلك من قبلهم إن لم ينيبوا إلى ربهم ، ويثوبوا إلى رشدهم.
وغير خاف ما فى هذا من التهديد الشديد ، والوعيد الأكيد لأهل مكة.
أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن أبى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس « أنّ النبي صلّى اللّه عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال : أنت أحبّ بلاد اللّه إلىّ ، وأنت أحب بلاد اللّه إلىّ. ولو لا أن أهلك أخرجونى لم أخرج منك ، وأعدى الأعداء من عدا على اللّه فى حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذحول (ثارات) الجاهلية فأنزل اللّه سبحانه على نبيّه (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) » الآية.
ثم ذكر الفارق بين حالى المؤمنين والكافرين والسبب فى كون هؤلاء فى أعلى عليين وأولئك فى أسفل سافلين ، فقال :
(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ؟ ) أي أ فمن كان على بصيرة ويقين فى أمر اللّه ودينه بما أنزله فى كتابه من الهدى والعلم ، وبما فطره اللّه عليه من الفطرة السليمة ، فهو على علم بأن له ربّا يجازيه على طاعته إياه بالجنة ، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار - كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله ، وأراه إياه جميلا فهو على العمل به مقيم ، وعلى السير على نهجه دائب ، واتبع هواه وجمحت به شهواته فطفق يعدو فى المعاصي ، ويخبّ فيها ويضع ، غير ملتفت إلى واعظ أو زاجر ؟
والخلاصة - أ يستوى الفريقان : من كان ثابتا على حجة بينة من عند ربه وهى كتابه الذي أنزله على رسوله وسائر الحجج التي أقامها فى الآفاق والأنفس. ومن زين له الشيطان سيىء أعماله من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك ،(26/59)
ج 26 ، ص : 57
واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما يدعيه ، وتطمئن إليها نفسه فى الدفاع عما يدين به ؟ كلّا هما لا يستويان.
ونحو الآية قوله : « أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى » وقوله : « لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ » .
[سورة محمد (47) : آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)
تفسير المفردات
مثل الجنة : أي صفتها ، آسن : أي متغير الطعم والريح لطول مكثه ، وفعله أسن (بالفتح من بابى ضرب ونصر ، وبالكسر من باب علم) لذة تأنيث لذّ ، وهو اللذيذ ، مصفى : أي لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل ولم يمت فيه بعض نحله كعسل الدنيا ، حميما : أي حارّا ، والأمعاء : واحدها معى (بالفتح والكسر) وهو ما فى البطون من الحوايا.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه الفارق بين الفريقين فى الاهتداء والضلال - ذكر الفارق بينهما فى مرجعهما ومآلهما ، فذكر ما للأولين من النعيم المقيم واللذات التي لا يدركها(26/60)
ج 26 ، ص : 58
الإحصاء ، وما للآخرين من العذاب اللازب فى النار وشرب الماء الحارّ الذي يقطّع الأمعاء
الإيضاح
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة التي وعدها اللّه من اتقى عقابه ، فأدى فرائضه واجتنب نواهيه - ما ستسمعونه بعد.
ثم فسر هذه الصفة بقوله :
(1) (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي فيها أنهار جارية من مياه غير متغيرة الطعم والريح ، لطول مكثها وركودها.
(2) (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حازرا كألبان الدنيا ، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم.
(3) (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي وفيها أنهار من خمر لذيذة لهم ، إذ لم تدنسها الأرجل ، ولم ترنّقها (تكدرها) الأيدى كخمر الدنيا ، وليس فيها كراهة طعم وريح ، ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا ، فلا يتكرّهها الشاربون.
(4) (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل قد صفّى من القذى وما يكون فى عسل أهل الدنيا قبل التصفية من الشمع وفضالات النحل وغيرها.
وبدىء بالماء لأنه لا يستغنى عنه فى الدنيا ، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى المطعوم لكثير من العرب فى غالب أوقاتهم ، ثم بالخمر لأنه إذا حصل الرىّ والشبع تشوفت النفس لما يستلذ به ، ثم بالعسل لأن فيه الشفاء فى الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.
أخرج أحمد والترمذي وصححه وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن معاوية ابن حيدة قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول : « فى الجنة بحر اللبن ، وبحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر الخمر ثم تشقق الأنهار منها بعد » .(26/61)
ج 26 ، ص : 59
(5) (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ولهم فيها أنواع من الثمار المختلفة الطعوم والروائح والأشكال.
(6) (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) فهو يرضى عنهم بما أسلفوا من عمل ، ويتجاوز عن هفواتهم التي اقترفوها فى الدنيا.
وبعد أن ذكر ما وعد به المتقين من النعيم - ذكر ما أوعد به الكافرين من العذاب الأليم فقال :
(1) (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي أم من هو خالد فى الجنة بحسب ما جرى به الوعد كمن هو خالد فى النار كما نطق به الكتاب فى قوله : « وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » أي ليس هؤلاء كأولئك فليس من هو فى الدرجات العلى ، كمن هو فى الدركات السفلى.
(2) (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) أي وسقوا ماء حارّا لايستساغ ، وإذا دنوا منه شوى وجوههم وقطّع أمعاءهم.
[سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19)(26/62)
ج 26 ، ص : 60
تفسير المفردات
آنفا : أي قبيل هذا الوقت ، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدم منه ، وأصل ذلك الأنف بمعنى الجارحة ثم سمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه ، آتاهم : أي ألهمهم ، بغتة : أي فجأة ، والأشراط : العلامات ، واحدها شرط (بالسكون والفتح) ومنه أشراط الساعة ، قال أبو الأسود الدؤلي :
فإن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا فقد جعلت أشراط أوله تبد
وفأنى لهم : أي كيف لهم ، ذكراهم : أي تذكرهم ، متقلبكم : أي تقلبكم لأشغالكم فى الدنيا ، ومثواكم : أي مأواكم فى الجنة أو النار.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر حال المشركين وبين سوء مغبتهم - أردف هذا بيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونا واستهزاء به ، حتى إذا خرجوا من عنده قالوا للواعين من الصحابة : ما ذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده ؟ - وهؤلاء قد طبع اللّه على قلوبهم ، واتبعوا أهواءهم ، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه وأقبلوا على جمع حطام الدنيا ، ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا ، وألهمهم ربهم ما يتقون به النار ، ثم عنّف أولئك المكذبين وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجىء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم والذكرى لا تنفع حينئذ ، ثم أمر رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم بالثبات على ما هو عليه من وحدانية اللّه وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه ، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات ، واللّه هو العليم بمتصرفكم فى الدنيا ومصيركم إلى الجنة أو إلى النار فى الآخرة.(26/63)
ج 26 ، ص : 61
الإيضاح
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً ؟ ) أي ومن الناس منافقون يستمعون فلا يعون ما تقول ، ولا يفهمون ما تتلو عليهم من كتاب ربك ، تغافلا عما تدعو إليه من الإيمان ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب اللّه : ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه ؟ .
وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول ، وأنه مما لا ينبغى أن يؤبه به ، أو يلقى لمثله سمع.
روى مقاتل أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كان يخطب ويعيب المنافقين ، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد اللّه ابن مسعود ، استهزاء : ماذا قال محمد آنفا ؟ قال ابن عباس :
وقد سئلت فيمن سئل.
ثم بين سبب استهزائهم وتهاونهم بما سمعوا فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي هؤلاء الذين هذه صفتهم - هم الذين ختم اللّه على قلوبهم ، فلا يهتدون للحق الذي بعث اللّه به رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، واتبعوا شهواتهم وما دعتهم إليه أنفسهم ، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان.
ثم ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله :
(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ
ثم بيّن أنهم فى غفلة عن النظر والتأمل فى عاقبة أمرهم فقال :
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي إنه بعد أن قامت الأدلة على وحدانية اللّه وصدق نبوّة رسوله وأن البعث حق ، وأن اللّه يهلك(26/64)
ج 26 ، ص : 62
من كذب رسله ويحل بهم الوبال والنكال كما شاهدوا ذلك فيمن حولهم من الأمم التي أهلكها اللّه لتكذيبها رسلها ، ولم يبق منها إلا آثارها ، ولم يفدهم كل ذلك شيئا ولم يتعظوا ولم يؤمنوا - فماذا ينتظرون للعظة والاعتبار ؟ لا ينتظرون إلا أن تأتيهم الساعة بغتة إذ جاءت علامتها ، ولم يبق من الأمور الموجبة للتذكر والعظة للإيمان باللّه سوى ذلك.
والخلاصة - إن البراهين قد نصبت ، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان باللّه ، وصدق رسوله ، والبعث والنشور ، وهم لم يؤمنوا - فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذ إلا حين مجىء الساعة بغتة ، وهاهى ذى أشراطها قد ظهرت ، ومقدماتها قد بدأت ، ولم يأبهوا بها ، ولا فكروا فى أمرها ، والمراد بيان أنهم بلغوا الغاية فى العناد ، والنهاية فى الاستكبار.
ثم أظهر خطأهم ، وحكم بأن رأيهم آفن فى تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة ، ببيان أن التذكر لا يجدى نفعا حينئذ فقال :
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ ؟ ) أي فمن أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة ؟
فإن الذكرى لا تنفع حينئذ ، ولا تقبل التوبة ، ولا ينفع الإيمان.
ونحو الآية قوله : « يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى » .
وبعد أن أبان أن الذكرى لا تنفع إذا انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل - أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه ، والاستغفار لأتباعه ، فقال :
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي إذا علمت سعادة المؤمنين وعذاب الكافرين ، فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة ، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك (وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل) وتوجّه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات.
وفى الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول : « اللهم(26/65)
ج 26 ، ص : 63
اغفر لى خطيئتى وجهلى وإسرافى فى أمرى وما أنت أعلم به منى اللهم اغفر لى هزلى وجدّى ، وخطئى وعمدى ، وكل ذلك عندى » .
وثبت أنه كان يقول فى آخر الصلاة : « اللهم اغفر لى ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أسرفت وما أنت أعلم به منى ، أنت إلهى لا إله إلا أنت » .
وجاء أيضا أنه قال « أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فإنى أستغفر اللّه وأتوب إليه فى اليوم أكثر من سبعين مرة » .
وعن أبى بكر الصديق رضى اللّه عنه عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال : « عليكم بلا إله إلا اللّه والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكونى بلا إله إلا اللّه والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون » .
وفى الأثر المروي « قال إبليس وعزّتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم فى أجسادهم ، فقال اللّه عز وجل : وعزتى وجلالى لا أزال أغفر لهم ما استغفرونى » .
ثم رغبهم سبحانه فى امتثال ما يأمرهم به ، ورهّبهم مما ينهاهم عنه فقال :
(وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) أي واللّه يعلم تصرفكم فى نهاركم ومستقركم فى ليلكم ، فاتقوه واستغفروه ، فهو جدير بأن يتقى ويخشى ، وأن يستغفر ويسترحم.
ونحو الآية قوله : « وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ » وقوله : « وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ » .
[سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 23]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23)(26/66)
ج 26 ، ص : 64
تفسير المفردات
لو لا : كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها ، أي هلا أنزلت سورة فى أمر الجهاد ، محكمة : أي بيّنة واضحة لا احتمال فيها لشىء آخر ، مرض : أي ضعف ونفاق ، نظر المغشىّ عليه من الموت : أي كما ينظر المصروع الذي لا يطرف بصره جبنا منه وهلعا ، أولى لهم : أي فويل لهم ، وهو من الولي بمعنى القرب ، والمراد الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه ويقرب منهم ، عزم الأمر : أي جدّ أولو الأمر ، عسى كلمة تدل على توقع حصول ما بعدها ، توليتم أي توليتم أمور الناس. وتأمرتم عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر عزّ اسمه حال المنافقين والكافرين والمؤمنين حين استماع آيات التوحيد والحشر والبعث وغيرها من الأمور التي أوجب الدين علينا اعتقادها بقوله فيما سلف « وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ » وقوله : « وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً » - أردف هذا فذكر حالهم فى الآيات العملية كآيات الجهاد والصلاة والزكاة ونحوها ، فأبان أن المؤمنين كانوا ينتظرون مجيئها ويرجون نزولها ، وإذا تأخرت كانوا يقولون :
هلا أمرنا بشىء من ذلك ، لينالوا ما يقرّبهم من ربهم ويحصلوا على رضوانه والزلفى إليه ، وأن المنافقين كانوا إذا نزل شىء من تلك التكاليف شق عليهم ونظروا نظرة المصروع الذي يشخص بصره خوفا وهلعا. ثم ذكر نتيجة لما سلف ، وفذلكة(26/67)
ج 26 ، ص : 65
لما تقدم ، فأعقب هذا بأن اللّه طرد المنافقين وأبعدهم من الخير ، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين ، وأعمى أبصارهم فلا يسيرون على الصراط المستقيم ، أما المؤمنون فقد رضى عنهم وأرضاهم ، ونالوا محبته ، ودخلوا جنته ، فضلا منه ورحمة ، واللّه ذو الفضل العظيم.
الإيضاح
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) أي إن المؤمنين المخلصين فى إيمانهم يشتاقون للوحى ، ونزول آيات الجهاد حرصا على ثوابه ويقولون : هلا أنزلت سورة تأمرنا به ، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة فى الأمر به فرحوا بها ، وشق ذلك على المنافقين ، وشخصت أبصارهم هلعا وجبنا من لقاء العدو ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره حين الموت.
ونحو الآية قوله « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ، وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ؟ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ » .
ثم هددهم وتوعدهم فقال :
(فَأَوْلى لَهُمْ) أي فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين ، إذ حياتهم ليست فى طاعة اللّه ، فالموت خير منها ، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد والدعاء عليهم بالهلاك ، فكأنه قيل : أهلكهم اللّه هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك ، فهو نحو قولهم فى الدعاء بعدا له وسحقا(26/68)
ج 26 ، ص : 66
قال الأصمعى معناه : قاربه ما يهلكه أي نزل به ، وأنشد :
فعادى بين هاديتين منها وأولى أن يزيد على الثلاث
أي قارب أن يزيد.
(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي طاعة للّه وقول معروف أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدو ، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل ، وظل زائل ، والآخرة خير لمن اتقى.
(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي فإذا حضر القتال كرهوه وتخلّفوا عنه خوفا وفرقا ، ولو صدقوا فى إيمانهم واتباعهم للرسول ، وأخلصوا النية فى القتال لكان خيرا لهم عند ربهم ، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده ويعطيهم ما تقرّ به أعينهم ، ويدخلهم جنات النعيم.
ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب فقال :
(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) أي فلعلّكم لما عهد فيكم من الحرص على الدنيا وزخرفها إذ قد أمرتم بالجهاد الذي هو الوسيلة إلى الثواب فكرهتموه ، وظهر عليكم ما ظهر من الخوف والهلع والتشبث بالبقاء فى هذه الحياة والتكالب على زينتها إن أنتم توليتم أمور الناس وصرتم عليهم أمراء أن تفسدوا فى الأرض بالبغي وسفك الدماء ، وتقطعوا أرحامكم فتعودوا إلى تباغض الجاهلية من إغارة بعضكم على بعض ونهب الأموال وسفك الدماء.
والخلاصة - إنه لاعجب بعد أن صدر منكم ما صدر من كراهة الدفاع عن حوزة الإسلام - أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم.
وبعد أن ذكر هناتهم بين سببها فقال :
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم اللّه من رحمته ، فأصمهم عن الانتفاع بما سمعوا ، وأعمى أبصارهم عن الاستفادة مما(26/69)
ج 26 ، ص : 67
شاهدوا من الآيات المنصوبة فى الأنفس والآفاق ، فلم يكن سماعهم سماع إدراك ، ولا إبصارهم إبصار اعتبار.
عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « إن اللّه تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن فقال مه ، قالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال نعم أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت بلى ، قال : فذلك لك ، ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم اقرءوا إن شئتم (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما
، وقد وردت أحاديث كثيرة فى صلة الرحم.
[سورة محمد (47) : الآيات 24 الى 31]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)(26/70)
ج 26 ، ص : 68
تفسير المفردات
يتدبرون القرآن : أي يتصفحون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يقلعوا عن الوقوع فى الموبقات ، ارتدوا على أدبارهم : أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، سوّل لهم : أي سهّل لهم وزين ، وأملى لهم : أي مدّ لهم فى الأمانى والآمال ، يضربون وجوههم وأدبارهم : أي يتوفونهم وهم على أهوال الأحوال وأفظعها ، والأضغان : واحدها ضغن ، وهو الحقد الشديد ، وتضاغن القوم واضطغنوا إذا أبطنوا الأحقاد ، قال :
قل لابن هند ما أردت بمنطق ساء الصديق وشيّد الأضغانا ؟
لأريناكهم : أي لعرّفناكهم ، والسيمى : العلامة ، ولحن القول : أسلوبه بإمالته عن وجهه من التصريح إلى التعريض والتورية ، ولنبلونّكم : أي لنختبرنّكم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم اللّه عن الخير ، فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا - بين أن حالهم دائرة بين أمرين : إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم ، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه فى قلوبهم لكونها مقفلة ثم ذكر أنهم رجعوا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة ، والمعجزات الباهرة ، وقد زين لهم الشيطان ذلك وخدعهم بباطل الأمانى ، ثم بين سبب ارتدادهم وهو قولهم لبنى قريظة والنّضير من اليهود : سنطيعكم فى بعض أحوالكم وهو ما حكى عنهم فى قوله : « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ » واللّه يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.(26/71)
ج 26 ، ص : 69
ثم أردف هذا ذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهواءهم وعمل ما يغضب ربّهم ، ومن ثم أحبط أعمالهم ، وهل يعتقد هؤلاء المنافقون أن اللّه لا يكشف أمرهم لعباده المؤمنين ؟ بل إنه سيوضح ذلك لذوى البصائر ، ولو نشاء لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عيانا ، ولكن لم نفعل ذلك ، سترا منا على عبادنا ، وحملا للأمور على ظاهر السلامة ، وردّا للسرائر إلى عالمها ، وإنك لتعرفنّهم فيما يبدو من كلامهم الدالّ على مقاصدهم ، بمغامز يضعونها أثناء حديثهم ، وقد كان يفهمها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويفهم مراميها فلا تخفى عليه.
ثم ذكر أنه يبتلى عباده بالجهاد وغيره ، ليعلم الصادق فى إيمانه ، الصابر على مشاقّ التكاليف ، من غيره ، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم فيجازيهم بما قدموا « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » .
الإيضاح
(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) أي أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ اللّه التي وعظ بها فى آي كتابه ، ويتفكرون فى حججه التي بيّنها فى تنزيله فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون ، أم هم قد أقفل اللّه على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل فى كتابه من العبر والمواعظ ؟
والخلاصة - إنهم بين أمرين كلاهما شر ، وكلاهما فيه الدمار ، والمصير إلى النار ، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبرون ، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئا.
ولما أخبر بإقفال قلوبهم بيّن منشأ ذلك فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) أي إن الذين رجعوا القهقرى على أعقابهم كفارا من بعد ما تبين لهم الهدى(26/72)
ج 26 ، ص : 70
وقصد السبيل ، فعرفوا واضح الحجج ، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادا لأمر اللّه - الشيطان زين لهم ذلك وخدعهم بالآمال ، وحسّن لهم ما فى الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى حين ، ثم يعودون كما كانوا مؤمنين ، إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر ، ولا يبلغها العدّ.
ثم ذكر كيف إنهم ضلوا فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) أي ذلك الضلال من قبل أنهم مالئوا اليهود من بنى قريظة والنضير وناصحوهم سرا على المؤمنين كما هو شأن المنافقين فى كل زمان ، واللّه يعلم ما يسرون وما يخفون ، وهو مطلع عليهم وعالم بهم.
ولا يخفى ما فى ذلك من الوعيد وشديد التهديد.
ونحو الآية قوله : « وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ » .
ثم ذكر أن هذه الحيل إن أجدت فى حياتهم فماذا هم فاعلون حين وفاتهم فقال :
(فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها ، وقد مثل ذلك بحال يخافونها فى الدنيا ، ويجبنون عن القتال من أجلها ، وهو الضرب على الوجوه والأدبار ، إذ فى يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفرّ ، فكيف يحترزون من الأذى ، ويبتعدون من العذاب ؟ .
ثم بين سبب التوفى على تلك الحال الشنيعة فقال :
(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) أي ذلك الهول الذي يرونه من أجل أنهم انهمكوا فى المعاصي ، وزينت لهم الشهوات ، وكرهوا ما يرضى اللّه من الإيمان به والعمل على طاعته والإخلاص له فى السر والعلن ، فأحبط ما عملوه من البر والخير ، كالصدقات ، والأخذ بيد الضعيف ، ومساعدة البائس الفقير ،(26/73)
ج 26 ، ص : 71
وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك ، إذ هم فعلوه وهم مشركون فلم تكن للّه ولا بأمره ، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.
ثم بالغ فى توبيخ المنافقين ، وإظهار خباياهم ، وإعلان نواياهم فقال :
(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ) أي بل أحسب أولئك المنافقون الذين فى قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين أن اللّه لا يكشف أستارهم ويبرز أحقادهم ، بلى سيبرزها للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم وللمؤمنين فلا تبقى مستورة ، وقد أنزل اللّه فى فضائحهم وما يبطنون من الأفعال سورة براءة ، ولذا تسمى الفاضحة كقوله فيهم : « وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ » وقوله :
« فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا » .
ثم أكد ما فهم من سالف الكلام وأنه سيظهرها فقال :
(وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا بعلامات هى غالبة عليهم ، ولكنه لم يفعل ذلك فى جميع المنافقين للستر على خلقه ، وردّا للسرائر إلى عالمها ، وحرصا على ألا يؤذى ذوى قرباهم من المخلصين.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي ولتعرفنهم فيما يداورونه من القول ، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة ، وإياه عنى القائل فى مدح محبوبته فقال :
منطق صائب وتلحن أحيا نا وخير الحديث ما كان لحنا
يريد أنها تتكلم بشىء وتريد غيره وتعرّض فى حديثها فتزيله عن جهته ، لفطنتها وذكائها.
وقد كانوا يخاطبون الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم بألفاظ ظاهرها الحسن وهم يعنون بها القبيح. قال الكلبي : فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلّى اللّه عليه وسلّم منافق(26/74)
ج 26 ، ص : 72
إلا عرفه ، وقال أنس : فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، عرّفه اللّه ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف اللّه إياه.
وفى الحديث : « ما أسرّ أحد سريرة إلا كساه اللّه جلبابها ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر » .
وروى أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها اللّه على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه.
وقد ثبت فى الحديث تعيين جماعة من المنافقين ، فقد روى أحمد عن عقبة ابن عامر قال : « خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خطبة فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال :
إن فيكم منافقين فمن سميت فليقم ، ثم قال : قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ، ثم قال : إن فيكم منافقين فاتقوا اللّه ، قال فمرّ عمر رضى اللّه عنه برجل ممن سمى مقنّع قد كان يعرفه ، فقال مالك ؟ فحدّثه بما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقال بعدا لك سائر الدهر » .
ثم وعد سبحانه وأوعد ، وبشر وأنذر فقال :
(وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) فيجازيكم بما قدمتم من خير أو شر ، إذ لا يضيع عمل عامل عدلا منه ورحمة.
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ولنختبرنكم بالأمر بالجهاد وسائر التكاليف الشاقة حتى يتميز المجاهد الصابر من غيره ، ويعرف ذو البصيرة فى دينه من ذى الشك والحيرة فيه ، والمؤمن من المنافق ، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم فى إيمانه من الكاذب.
قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال :
اللهم لا تبتلنا ، فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.(26/75)
ج 26 ، ص : 73
[سورة محمد (47) : الآيات 32 الى 35]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)
تفسير المفردات
شاقوا الرسول : أي عادوه وخالفوه ، وأصله صاروا فى شقّ غير شقه ، فلا تهنوا :
أي فلا تضعفوا عن القتال ، من الوهن وهو الضعف ، وقد وهن الإنسان ووهّنه غيره ، وتدعوا إلى السلم : أي تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا وإظهارا للعجز ، الأعلون : أي الغالبون ، واللّه معكم : أي ناصركم ، لن يتركم أعمالكم : أي لن ينقصكموها من وترت الرجل : إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبت ماله وذهبت به ، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو إضاعة شىء معتد به من الأنفس والأموال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أن المنافقين ستفضح أسرارهم ، وأنهم سيلقون شديد الأهوال حين وفاتهم - أردف ذلك ذكر حال جماعة من أهل الكتاب وهم بنو قريظة والنّضير كفروا باللّه وصدوا الناس عن سبيل اللّه وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته فى التوراة ، وما ظهر على يديه من المعجزات ، فهؤلاء لن يضروا اللّه شيئا بكفرهم ، بل يضرون أنفسهم وسيحبط اللّه مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه ، ثم ذكر قصص بنى سعد(26/76)
ج 26 ، ص : 74
وقد أسلموا وجاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وقالوا : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلينا ، منّا بذلك عليه ، فنهاهم عن ذلك وبين لهم أن هذا مما يبطل أعمالهم ، ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر اللّه لهم ، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط وأن ذنبهم غير مغفور ، وبعدئذ أردف هذا أن اللّه خاذلهم فى الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ، ولا تظهروا ضعفا أمامهم ، فإن اللّه ناصركم ، ولن يضيع أعمالكم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد اللّه ، وصدوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله ، وخالفوا هذا الرسول وحاربوه وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلة الواضحة ، والبراهين الساطعة أنه مرسل من عند ربه - لن يضروا اللّه شيئا ، لأن اللّه بالغ أمره ، وناصر رسوله ، ومظهره على من عاداه وخالفه ، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها ، لإبطال دينه ومشاقة رسوله ، ولا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون له من الغوائل ، وستكون ثمرتها إما قتلهم أو جلاءهم عن أوطانهم.
والمراد بصد الناس عن سبيل اللّه ، منعهم إياهم عن الإسلام بشتى الوسائل ، وعن متابعة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم والانضواء تحت لوائه.
ثم أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أي يا أيها الذين صدقوا بوحدانية اللّه وقدرته وسائر صفات كماله ، وصدقوا رسوله فيما جاء على لسانه من الشرائع - أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فى اتباع أوامرهما والانتهاء عن نواهيهما.(26/77)
ج 26 ، ص : 75
ثم نهاهم عن أن يبطلوا أعمالهم كما أبطل الكفار أعمالهم فقال :
(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) أي ولا تبطلوا حسناتكم بالمعاصي قاله الحسن ، وقال الزهري بالكبائر. وقال مقاتل بالمنّ والأذى وقال عطاء بالنفاق والشرك والأولى أن يراد به النهى عن كل سبب من الأسباب التي تكون سببا فى إبطال الأعمال كائنا ما كان بلا تخصيص بنوع معين.
وعن أبى العالية قال : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا اللّه ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت هذه الآية ، فخافوا أن يبطل الذنب العمل وعن ابن عمر رضى اللّه عنهما قال : كنا معشر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نرى أنه ليس شىء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت : (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا الكبائر الموجبات والفواحش ، فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها ، قلنا قد هلك حتى نزل « إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ » فكففنا عن القول فى ذلك ، وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه ، وإن لم يصب منها رجونا له.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال فى الآية : من استطاع منكم ألا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا باللّه تعالى.
ثم بين سبحانه أنه لا يغفر للمصرّين على الكفر والصدّ عن سبيل اللّه فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) أي إن الذين جحدوا توحيد اللّه وصدوا من أراد الإيمان باللّه ورسوله عن ذلك ، وحالوا بينهم وبين ما أرادوه ، ثم ماتوا وهم على كفرهم فلن يعفو اللّه سبحانه عما صنعوا ، بل يعاقبهم ويفضحهم به على رءوس الأشهاد.(26/78)
ج 26 ، ص : 76
وقيد سبحانه عدم المغفرة بالموت على الكفر ، لأن باب التوبة وطريق المغفرة لا يغلقان على من كان حيا.
ثم ذكر سبحانه أن لا حرمة للكافر فى الدنيا والآخرة ، فأمر بقتالهم وأرشد إلى أن النصر حليف المؤمنين فقال :
(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي فلا تضعفوا أيها المؤمنون عن جهاد المشركين وتجبنوا عن قتالهم ، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورا وإظهارا للعجز ، وأنتم العالون عليهم واللّه معكم بالنصر لكم عليهم ، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها.
[سورة محمد (47) : الآيات 36 الى 38]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)
تفسير المفردات
كل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر فى الحال ولا منفعة فى المآل ولم يمنعك عن مهامّ أمورك فهو لعب ، فإن شغلك عنها فهو لهو ، ومن ثم يقال آلات الملاهي ، لأنها مشغلة عن غيرها ، ويقال لما دون ذلك لعب كاللعب بالشّطرنج والنّرد والحمام ، فيحفكم أي فيجهدكم بطلبها جميعا ، والإلحاف والإحفاء بلوغ الغاية فى كل شىء يقال أحفاه فى المسألة : إذا لم يترك شيئا من الإلحاح ، أضغانكم : أي أحقادكم.(26/79)
ج 26 ، ص : 77
المعنى الجملي
بعد أن أمر المؤمنين بترك المعاصي لأنها محبطة لثواب الأعمال الصالحة ، وأمرهم بالتشمير عن ساعد الجد للجهاد ومقاتلة الأعداء نصرة لدينه ، ووعدهم بأن اللّه ناصرهم وهم الأعلون ، فلا ينبغى لهم أن يطلبوا المهادنة من العدو خورا وجبنا خوفا على الحياة ولذاتها - أكد هذا المعنى فأبان أنه لا ينبغى لكم أيها المؤمنون الحرص على الدنيا ، فإنها ظل زائل ، وعرض غير باق ، وما هى إلا لذات مؤقتة لا تلبث أن تزول ، وهى مشغلة عن صالح الأعمال ، فلا يليق بكم أن تعضّوا عليها بالنواجذ ، بل اعملوا لما يرضى ربكم يؤتكم أجوركم وهو لا يسألكم من أموالكم إلا القليل النزر الذي فيه صلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة ، دنيوية كانت أو دينية ، وهو عليم بأنكم أشحة على أموالكم ، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرت أحقادكم على طالبيها ، واللّه قد طلب إليكم الإنفاق فى سبيله ، والقيام بما تحتاج إليه الدعوة ، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم ، واللّه غنى عن معونتكم ، وإن أعرضتم عن الإيمان والتقوى يأت اللّه بخلق غيركم يقيمون دينه ، وينصرون الدعوة.
الإيضاح
(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) يقول سبحانه حاضّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه والنفقة فى سبيله ، وبذل مهجتهم فى قتال أهل الكفر به : قاتلوا أيها المؤمنون أعداء اللّه وأعداءكم من أهل الكفر ، ولا تدعكم الرغبة فى الحياة إلى ترك قتالهم ، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب إلا ما كان منها من عمل فى سبيل اللّه وطلب رضاه.
ثم رغبهم فى العمل للآخرة فقال :
(وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي وإن تؤمنوا(26/80)
ج 26 ، ص : 78
بربكم وتتقوه حق تقاته ، فتؤدوا فرائضه وتجتنبوا نواهيه - يؤتكم ثواب أعمالكم فيعوضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم ، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها فى الزكاة وسائر وجوه الطاعات ، بل يأمركم بإخراج القليل منها وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء ، ونفع ذلك عائد إليكم.
ثم بين شح الإنسان على ماله وشدة حرصه عليه فقال :
(إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة ويلحف عليكم بطلبها - تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنا منكم بها ، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال.
قال قتادة : قد علم اللّه أن فى سؤال المال خروج الأضغان للاسلام من حيث محبة المال بالجبلّة والطبيعة ، ومن نوزع فى حبيبه ظهرت طويته التي كان يسرّها.
والخلاصة - قد علم اللّه شح الإنسان على المال فلم يطلب منه إلا النزر اليسير فى الصدقات ، وبذل المال فى المرافق العامة لإصلاح شئون المجتمع الإسلامى كسدّ الثغور ، وبناء القناطر والجسور.
ثم أكد ما سلف وقرره بقوله :
(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هأنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة فى جهاد أعداء اللّه ونصرة دينه.
(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) أي فمنكم من يبخل عن النفقة فى هذا السبيل ، ومن يبخل فإنما ضرر ذلك عائد إلى نفسه ، لأنه ينقصها أجرها من الثواب ، ويبعدها من رضا اللّه والقرب منه فى جنات النعيم ، واللّه لا حاجة إليه فى أموالكم ولا نفقاتكم ، فهو الغنى عن خلقه ، وخلقه فقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة فى سبيله ، لتنالوا بذلك الأجر والثواب.
(وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أي وإن تعرضوا(26/81)
ج 26 ، ص : 79
عن طاعة اللّه واتباع شرائعه ، وترتدوا راجعين عنها ، يهلككم ثم يجىء بقوم آخرين غيركم يصدقون بها ، ويعملون بالشرائع التي أنزلها على رسوله ، ويقومون بذلك كله على ما يؤمرون به ، والمراد بهم على ما صح فى الحديث أهل فارس.
أخرج عبد الرازق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي والترمذي عن أبى هريرة قال : « تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم هذه الآية (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) إلخ فقالوا يا رسول اللّه من هؤلاء الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونون أمثالنا ؟
فضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على منكب سلمان ، ثم قال هذا وقومه ، والذي نفسى بيده لو أن هذا الدين تعلق بالثريا لتناوله رجال من فارس » .
وقد طعن بعض رواة الحديث فيه وجرّحوا بعض رواته ، قال ابن كثير وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة اللّه عليهم.
قال الكلبي : شرط فى الاستبدال توّليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم بهم.
وصلّى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله ، ونصر دينه بأتباعه المؤمنين ، وجعلهم للعمل بنشره دائبين.
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد
(1) وصف الكافرين والمؤمنين من أول السورة إلى قوله : « كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ » .
(2) جزاء الفريقين فى الدنيا والآخرة من خذلان ونصر ونار وجنة من قوله :
« فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ - إلى قوله : وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ » .
(3) الوعد والتهديد للمنافقين والمرتدين من قوله : « وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ » إلى آخر السورة.(26/82)
ج 26 ، ص : 80
سورة الفتح
هى مدنية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد سورة الجمعة.
ووجه مناسبتها لما قبلها :
(1) إن الفتح المراد به النصر مرتب على القتال.
(2) إن فى كل منهما ذكرا للمؤمنين والمخلصين والمنافقين المشركين.
(3) إن فى السورة السالفة أمرا بالاستغفار ، وفى هذه ذكر وقوع المغفرة.
[سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3)
تفسير المفردات
أصل الفتح : إزالة الأغلاق ، وفتح البلد : دخله عنوة أو صلحا ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية (والحديبية بئر) على المشهور ، وهو المروي عن ابن عباس وأنس والشعبي والزهري ، وسمى هذا فتحا لأنه كان سببا لفتح مكة ، قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم فى ثلاث سنين خلق كثير كثر بهم سواد الإسلام ، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة فى عشرة آلاف ففتحوها والخلاصة - إنه كان من نتائج هذا الصلح الأمور الآتية :(26/83)
ج 26 ، ص : 81
(1) تمّ فى هذا الصلح ما يسمونه فى العصر الحديث (جسّ النبض) لمعرفة قوة العدو ومقدار كفايته وإلى أىّ حد هى.
(2) معرفة صادقى الإيمان من المنافقين كما علم ذلك من المخلفين فيما يأتى.
(3) إن اختلاط المسلمين بالمشركين حبب الإسلام إلى قلوب كثير منهم فدخلوا فى دين اللّه أفواجا.
مبينا : أي بيّنا ظاهر الأمر مكشوف الحال.
المعنى الجملي
نزلت هذه السورة الكريمة حين منصرفه صلى اللّه عليه وسلّم من الحديبية فى ذى القعدة من سنة ست من الهجرة ، لما صدّه المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام وحالوا بينه وبين قضاء عمرته ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتى من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكرّه من جماعة من الصحابة كعمر ابن الخطاب رضى اللّه عنه ، فلما نحر هديه حيث أحصر ورجع أنزل اللّه تعالى هذه السورة فيما كان من أمره وأمرهم ، وجعل هذا الصلح فتحا لما فيه من المصلحة ، ولما آل إليه أمره فقد روى عن ابن مسعود رضى اللّه عنه أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ونحن نعدّ الفتح صلح الحديبية.
وروى البخاري « أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كان يسير فى بعض أسفاره وعمر بن الخطاب كان يسير معه ليلا ، فسأله عمر عن شىء فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، ثم سأله فلم يجبه ، فقال عمر : ثكلتك أمك يا عمر ، كررت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاث مرات ، كل ذلك لا يجيبك ، قال عمر : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل فىّ قرآن ، فما لبثت أن سمعت صارخا يصرخ بي ، فقلت لقد خشيت أن يكون نزل فىّ قرآن ، فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علىّ سورة لهى أحب إلىّ مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » .(26/84)
ج 26 ، ص : 82
وفى صحيح مسلم عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال : لما نزلت « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً - إلى قوله : فَوْزاً عَظِيماً » مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحروا الهدى بالحديبية ، قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، لقد أنزلت علىّ آية هى أحب إلىّ من الدنيا جميعها » .
هذا ، ولما كان لكل عامل ثمرة يجنيها من عمله ، وغاية يبتغيها منه - كان للنبوّة نهاية مطلوبة فى هذه الحياة وثمرة تتبع هذه النهاية ، فنهاية أمر النبوة أن تلتئم الأمور ويجتمع شملها ، وتكمل نظمها التي تبنى عليها الحياة الهنية حتى يعيش العالم فى طمأنينة وهدوء ، ولن يتم ذلك إلا بعد بث الدعوة والجهاد العلمي والعملي بقتال الأعداء وخضد شوكتهم ، ومتى تمّ هذا وأنقذ المستضعفون ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا كرها ثم طوعا انتظم أمر النبوة ، وأدى الرسول واجبه واستوجب أن يجنى ثمرة أعماله ، وهى :
(1) مغفرة ما فرط من ذنبه مما يعدّ ذنبا بالنظر إلى مقامه الشريف.
(2) تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة بعد أن كانت له النبوة وحدها.
(3) الهداية إلى الصراط المستقيم فى تبليغ الرسالة ، وإقامة مراسم الرياسة.
(4) المنعة والعزة ونفاذ الكلمة ورهبة الجانب وحمى الذمار.
فهذا الفتح كان كفيلا بهذه الشئون الأربعة ، فكأنه سبحانه يقول لرسوله :
لقد بلّغت الرسالة ، ونصبت فى العمل ، وجاهدت بلسانك وسيفك ، وجمعت الرجال والكراع والسلاح ، وتلطفت وأغلظت ، وأخلصت فى عملك ، وفعلت فى وجيز الزمن ما لم ينله مثلك فى طويله ، حتى تمّ ماندبناك له ، فلتجن ثمار عملك ، ولتقرّ عينا بما آل إليه أمرك فى الدنيا والآخرة.
الإيضاح
(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) أي إنا فتحنا لك فتحا ظاهرا لا يختلج فيه شك بذلك الصلح الذي تم على يديك فى الحديبية ، إذ لم يمض إلا القليل من الزمن حتى(26/85)
ج 26 ، ص : 83
دخل الناس فى دين اللّه أفواجا ، وكان هو السّلّم الذي فيه رقيت إلى فتح مكة ، وتسابق العرب إلى الدخول فى الدين زرافات ووحدانا.
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي ليغفر لك ربك جميع ما فرط منك من الهفوات مما يصح أن يسمى ذنبا بالنظر إلى مقامك الشريف ، وإن كان لا يسمى ذنبا بالنظر إلى سواك ، ومن ثم قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.
والمراد غفران الذنوب التي قبل الرسالة والتي بعدها ، قاله مجاهد وسفيان الثوري وابن جرير والواحدي وغيرهم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن المغيرة بن شعبة قال : « كان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يصلى حتى ترم قدماه ، فقيل له : أ ليس قد غفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟
قال : أ فلا أكون عبدا شكورا ؟ » .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة - قلت لم يجعله علة للمغفرة ، ولكنه جعله علة لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة ، وهى المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز ، كأنه قيل : يسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك ، لنجمع لك بين عز الدارين ، وأغراض الآجل والعاجل اه.
(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء شأن دينك ، وانتشاره فى البلاد ، ورفع ذكرك فى الدنيا والآخرة.
(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه ، يستقيم بك إلى رضا ربك.
(وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي وينصرك على من ناوأك من أعدائك نصرا ذا عزّ بالغ ، لا يدفعه دافع ، لما يؤيدك به من بأس ، وينيلك من ظفر.(26/86)
ج 26 ، ص : 84
[سورة الفتح (48) : الآيات 4 الى 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)
تفسير المفردات
أنزل السكينة : أي خلقها وأوجدها ، قال الراغب : إنزال اللّه تعالى نعمته على عبد :
إعطاؤه إياها ، إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن ، أو بإنزال أسبابه بالهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه اه. والسكينة : الطمأنينة والثبات من السكون ، إيمانا مع إيمانهم :
أي يقينا مع يقينهم ، جنود السموات والأرض : أي الأسباب السماوية والأرضية ، ويكفر عنهم سيئاتهم : أي يغطيها ولا يظهرها ، والسوء : (بالضم والفتح) : المساءة ، وظن السوء : أي ظن الأمر السوء فيقولون فى أنفسهم : لا ينصر اللّه رسوله والمؤمنين ، عليهم دائرة السوء. الدائرة فى الأصل الحادثة التي تحيط بمن وقعت عليه ، وكثر استعمالها فى المكروه ، والسوء : العذاب والهزيمة والشر (وهو بالضم والفتح لغتان) وقال سيبويه : السوء هنا الفساد ، أي عليهم ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم ، لعنهم : أي طردهم طردا نزلوا به إلى الحضيض ، عزيزا : أي يغلب ولا يغلب.(26/87)
ج 26 ، ص : 85
المعنى الجملي
بعد أن أخبر سبحانه بأنه سينصر رسله - بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينا إلى يقينهم ، ثم أخبر بأن من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض ، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس ، وقد وعد المؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار وأوعد عباده الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربصون الدوائر بالمؤمنين - بالعذاب الأليم ، وغضب عليهم وطردهم من رحمته.
روى أحمد عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه قال : نزلت على النبي صلّى اللّه عليه وسلم « لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ » مرجعه من الحديبية ، فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم « لقد أنزلت علىّ آية أحب إلىّ مما على وجه الأرض » ثم قرأها عليهم ، فقالوا هنيئا مريئا يا رسول اللّه ، لقد بيّن لك ماذا يفعل بك ، فماذا يفعل بنا ؟ فنزلت عليه « لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ - حتى بلغ - فَوْزاً عَظِيماً » وأخرجه الشيخان من رواية قتادة.
الإيضاح
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الذي أنزل فى قلوب المؤمنين طمأنينة وثبات أقدام عند اللقاء ومقاتلة الأعداء (وهو المسمى فى العصر الحديث الروح المعنوية فى الجيوش) ليزدادوا يقينا فى دينهم إلى يقينهم برسوخ عقيدتهم واطمئنان نفوسهم بعد أن دهمهم من الحوادث ما من شأنه أن يزعج ذوى الأحلام ، ويزلزل العقائد بصدّ الكفار لهم عن المسجد الحرام ورجوعهم دون بلوغ مقصدهم ، ولكن لم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن هاج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا حتى إن عمر بن الخطاب لم يكن راضيا عن هذا الصلح وقال : ألسنا على الحق(26/88)
ج 26 ، ص : 86
وهم على الباطل ؟ وكان للصديق من القدم الثابتة ورسوخ الإيمان ما دل على أنه لا يجارى ولا يبارى.
(وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي يدبر أمر العالم ، ويسلط بعض جنده على بعض ، فيجعل جماعة يجاهدون لإعلاء كلمة الحق ، ويجعل آخرين يقاتلون فى سبيل الشيطان ، ولو شاء لأرسل عليهم جندا من السماء فأباد خضراءهم ، لكنه سبحانه شرع الجهاد والقتال ، لما فى ذلك من مصلحة هو عليم بها ، وحكمة قد تغيب عنا ، وهذا ما عناه بقوله :
(وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) فهو لا يعزب عنه مثقال ذرة فى السموات ولا فى الأرض.
(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً) أي وإنما دبر ذلك ليعرف المؤمنون نعمة اللّه ويشكروها فيدخلوا الجنة ماكثين فيها أبدا ، وليكفر عنهم سيئات أعمالهم بالحسنات التي يعملونها ، شكرا لربهم على ما أنعم به عليهم ، وكان ذلك ظفرا لهم بما كانوا يرجون ويسعون له ، ونجاة مما كانوا يحذرونه من العذاب الأليم ، وهذا منتهى ما يرون من منفعة مجلوبة ، ومضرة مدفوعة.
(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي وليعذب هؤلاء فى الدنيا بإيصال الهمّ والغمّ إليهم بسبب علو كلمة المسلمين ، وبما يشاهدونه من ظهور الإسلام وقهر المخالفين ، وبتسليط النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عليهم قتلا وأسرا واسترقاقا ، وفى الآخرة بعذاب جهنم.
وهم قد كانوا يظنون أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم سيغلب ، وأن كلمة الكفر ستعلو كلمة الإسلام ، ومما ظنوه ما حكاه اللّه بقوله : « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً » .
وإنما قدم المنافقين على المشركين ، لأنهم كانوا أشد ضررا على المؤمنين من الكفار المجاهرين ، لأن المؤمن كان يتوقى المجاهر ، ويخالط المنافق لظنه إيمانه ،(26/89)
ج 26 ، ص : 87
وكان يفشى سره إليه ، وفى هذا دلالة على أنهم أشد منهم عذابا ، وأحق منهم بما أوعدهم اللّه به.
والخلاصة - إن الفريقين ظنوا أن اللّه لا ينصر رسوله ولا المؤمنين على الكافرين.
وقد دعا سبحانه عليهم بأن ينزل بهم ما كانوا يظنونه بالمؤمنين من الدوائر وأحداث الزمان فقال :
(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي عليهم تدور الدوائر ، وسيحيق بهم ما كانوا يتربصونه بالمؤمنين من قتل وسبى وأسر لا يتخطاهم.
ثم بين ما يستحقونه من الغضب واللعنة فقال :
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) أي ونالهم غضب من اللّه وأبعدهم فأقصاهم من رحمته ، وأعدّ لهم جهنم يصلونها يوم القيامة ، وساءت منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن ، والصيحة والرجفة والحجارة والزلازل والخسف والغرق ونحو ذلك - أنصارا على أعدائه إن أمرهم بإهلاكهم أهلكوهم وسارعوا مطيعين لذلك.
وفائدة إعادة هذه الجملة - بيان أن للّه جنودا للرحمة وجنودا للعذاب ، فذكرهم أوّلا بيانا لإنزالهم للرحمة ، وأنهم يدخلون الجنة مكرمين معظمين ، وذكرهم ثانيا بيانا لإنزال العذاب على الكافرين فى نار جهنم كما قال : « عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ » .
روى أنه لما جرى صلح الحديبية قال ابن أبىّ : أ يظن محمد أنه إذا صالح أهل مكة أو فتحها لا يبقى له عدوّ ، فأين فارس والروم - فبيّن سب
وجازى الكفار بأربعة أشياء :
(1) العذاب.
(2) الغضب.
(3) اللعنة.
(4) دخول جهنم.
[سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)(26/90)
ج 26 ، ص : 89
تفسير المفردات
شاهدا : أي على أمتك لقوله تعالى : « لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ » ومبشرا : أي بالثواب على الطاعة ، ونذيرا : أي بالعذاب على المعصية ، وتعزروه :
أي تنصروه ، وتوقروه : أي تعظموه ، بكرة : أي أول النهار ، وأصيلا : أي آخر النهار ، والمراد جميع النهار ، إذ من سنن العرب أن يذكروا طرفى الشيء ويريدوا جميعه ، كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا ، يبايعونك : أي يوم الحديبية إذ بايعوه على الموت فى نصرته والذبّ عنه كما روى عن سلمة بن الأكوع وغيره ، أو على ألا يفروا من قريش كما روى عن ابن عمر وجابر ، إنما يبايعون اللّه ، لأن المقصود من بيعة الرسول وطاعته طاعة اللّه وامتثال أوامره ، يد اللّه فوق أيديهم : أي نصرته إياهم أعلى وأقوى من نصرتهم إياه ، كما يقال اليد لفلان : أي الغلبة والنصرة له ، نكث : أي نقض ، يقال أوفى بالعهد ووفى به : إذا أتمه ، وقرأ الجمهور (عليه) بكسر الهاء ، وضمها حفص ، لأنها هاء هو وهى مضمومة فاستصحب ذلك كما فى له وضربه.
المعنى الجملي
بعد أن أتم الكلام على ما لكلّ من النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين من الثمرات التي ترتبت على عمله - أعقبه بما يعمهما معا ، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدا على أمته ، ومبشرا لها بالثواب ، ومنذرا إياها بالعقاب ، ثم أبان أن فائدة هذا الإرسال هو الإيمان باللّه وتعظيمه وتسبيحه غدوة وعشيا ونصرة دينه ، ثم ذكر بيعة الحديبية (قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة ، سميت باسم بئر هناك) وأن الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا اللّه ونصروا دينه ، وأن من نقض منهم العهد فوبال ذلك عائد إليه ، ولا يضرنّ إلا نفسه ، ومن أوفى بهذا العهد فسينال الأجر العظيم ، والثواب الجزيل.(26/91)
ج 26 ، ص : 90
بيعة الرضوان - بيعة الشجرة
سبب هذه البيعة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا خراش بن أمية الخزاعي حين نزل الحديبية ، فبعثه إلى قريش بمكة ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا جمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأرادوا قتله ، فمنعه الأحابيش (واحدهم أحبوش ، وهو الفوج من قبائل شتى) فخلوا سبيله حتى أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره ، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضى اللّه عنه ليبعثه ، فقال إنى أخافهم على نفسى ، لما أعرف من عداوتى إياهم وما بمكة عدوىّ (قبيلته بنو عدى) ولكنى أدلّك على رجل هو أعز بها منى وأحب إليهم - عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة فجعله فى جواره حتى فرغ من رسالته لعظماء قريش ، ثم احتبسوه عندهم ، فشاع بين المسلمين أن عثمان قد قتل ،
فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : لا نبرح حتى نناجز القوم ،
ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وبايعه القوم على ألا يفرّوا أبدا إلا جدّ بن قيس الأنصاري ، فأرعب ذلك المشركين وأرسلوا داعين إلى الموادعة والصلح ، وكان قد أتى رسول اللّه أن الذي بلغه من أمر عثمان كذب ، فتمّ الصلح ومشى بعضهم إلى بعض على أن يحج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى العام القابل ويدخل مكة.
روى البخاري من حديث قتادة قلت لسعيد بن المسيّب : كم كان الذين شهدوا بيعة الرضوان ؟ قال خمس عشرة مائة ، والمشهور الذي رواه غير واحد أنهم كانوا أربع عشرة مائة.(26/92)
ج 26 ، ص : 91
الإيضاح
(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا) أي إنا أرسلناك أيها الرسول شاهدا على أمتك بما أجابوك فيما دعوتهم إليه مما أرسلتك به إليهم ، مبشرا لهم بالجنة إن أجابوك إلى ما دعوتهم إليه من الدين القيم ، ونذيرا لهم عذاب اللّه إن تولّوا وأعرضوا عما جئتهم به من عنده ، فآمنوا باللّه ورسوله وانصروا دينه وعظموه وسبحوه فى الغدوّ والعشىّ.
(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ) أصل البيعة العقد الذي يعقده الإنسان على نفسه من بذل الطاعة للامام والوفاء بالعهد الذي التزمه له ، والمراد بها هنا بيعة الرضوان بالحديبية ، وقد بايعه جماعة من الصحابة على ألا يفروا ، منهم معقل بن يسار ، أي إن الذين يبايعونك بالحديبية من أصحابك على ألا يفروا عند لقاء العدو ، ولا يولّوهم الأدبار ، إنما يبايعون اللّه ببيعتهم إياك ، وقد ضمن لهم الجنة بوفائهم له بذلك.
ثم أكد ما سلف بقوله :
(يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) أي نعمة اللّه عليهم بالهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ » .
(فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) أي فمن نقض العهد الذي عقده مع النبي صلى اللّه عليه وسلّم فإن ضرر ذلك راجع إليه ولا يضرّنّ إلا نفسه.
(وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) أي ومن وفّى بعهد البيعة فله الأجر والثواب فى الآخرة ، وسيدخله جنات يجد فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.(26/93)
ج 26 ، ص : 92
[سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 14]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)
تفسير المفردات
المخلفون : واحدهم مخلّف ، وهو المتروك فى المكان خلف الخارجين منه ، يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم : أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما فى القلب فهو كذب صراح ، والملك : إمساك بقوة وضبط تقول ملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما ، ومنه لا أملك رأس بعيري : إذا لم تستطع إمساكه إمساكا تاما ، والمراد بالضر : ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما ، وبالنفع : ما ينفع من حفظ المال والأهل ، ينقلب : أي يرجع ، إلى أهليهم : أي عشائرهم وذوى قرباهم ، بورا :
أي هالكين لفساد عقائدكم وسوء نياتكم ، سعيرا : أي نارا مسعورة موقدة ملتهبة.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حال المنافقين فيما سلف وبين أن اللّه غضب عليهم ولعنهم وأعدّ لهم عذاب السعير - أردف ذلك ذكر قبائل من العرب جهينة ومزينة وغفار(26/94)
ج 26 ، ص : 93
وأشجع والدّيل وأسلم - تخلفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لما استنفرهم عام الحديبية حين أراد السير إلى مكة معتمرا ، وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حربا ، واعتلوا بأن أموالهم وأهليهم قد شغلتهم ، لكنهم فى حقيقة أمرهم كانوا ضعاف الإيمان خائفين من مقاتلة قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش ، وقالوا : كيف نذهب إلى قوم قد غزوه فى عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم ؟ وقالوا : لن يرجع محمد ولا أصحابه من هذا السفر ، ففضحهم اللّه فى هذه الآية وأخبر بأنه أعدّ لهؤلاء وأمثالهم نارا موقدة تطّلع على الأفئدة ، وأعدّ للمؤمنين جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، وهو ذو مغفرة لمن أقلع من ذنبه ، وأناب إلى ربه.
الإيضاح
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي أيها الرسول سيقول لك الذين تخلفوا عن صحبتك والخروج معك فى سفرك حين سرت إلى مكة معتمرا زائرا بيت اللّه الحرام وعاقبتهم على التخلف : شغلنا عن الخروج معك معالجة أموالنا وإصلاح معايشنا وأهلونا ، إذ لم يكن لنا من يقوم بتدبير شئونهم وقضاء حاجهم ، فاطلب لنا المغفرة من ربك ، إذ لم يكن تخلفنا عن عصيان لك ، ولا مخالفة لأمرك.
فرد اللّه عليهم وكذبهم بقوله :
(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي إنهم لم يكونوا صادقين فى اعتذارهم بأن الامتناع كان لهذا السبب ، لأنهم إنما تخلفوا اعتقادا منهم أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والمؤمنين يغلبون بدليل قوله بعد : « بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ».(26/95)
ج 26 ، ص : 94
ثم أمر رسوله أن يرد عليهم حين اعتذروا بتلك الأباطيل فقال :
(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ؟ ) أي قل لهم :
إنكم بعملكم هذا تحترسون من الضرّ وتتركون أمر اللّه ورسوله وتقعدون طلبا للسلامة ، ولكن لو أراد اللّه بكم ضرا لا ينفعكم قعودكم شيئا ، أو أراد بكم نفعا فلا رادّ له ، إذ من ذا الذي يمنع من قضائه ؟
وهذا ردّ عليهم حين ظنوا أن التخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يدفع عنهم الضر ويجلب لهم النفع.
ثم أبان لهم أنه عليم بجميع نواياهم وأن ما أظهروه من العذر هو غير ما أبطنوه من الشك والنفاق فقال :
(بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيعلم أن تخلفكم لم يكن لما أظهرتم من المعاذير ، بل كان شكا ونفاقا كما فصل ذلك بقوله :
(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي إن تخلفكم لم يكن لما أبديتم من الأسباب ، بل إنكم اعتقدتم أن الرسول والمؤمنين سيقتلون وتستأصل شأفتهم ، فلا يرجعون إلى أهليهم أبدا ، وزين لكم الشيطان ذلك الظن حتى قعدتم عن صحبته ، وظننتم أن اللّه لن ينصر محمدا وصحبه المؤمنين على أعدائهم ، بل سيغلبون ويقتلون ، وبلغ الأمر بكم أن قلتم : إن محمدا وأصحابه أكلة رأس (قليلو العدد) فأين يذهبون ؟
وقد صرتم بما قلتم قوما هلكى لا تصلحون لشىء من الخير ، مستوجبين سخط اللّه وشديد عقابه.
ثم أخبر سبحانه عما أعدّه للكافرين به فقال :
(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي ومن لم يصدق بما أخبر اللّه به ويقرّ بصدق ما جاء به رسوله من الحق من عنده ، فإنا أعتدنا له سعيرا من النار تستعر عليه فى جهنم إذا وردها يوم القيامة جزاء كفره.(26/96)
ج 26 ، ص : 95
ثم بين قدرته على ذلك وأنه يفعل ما يشاء لا رادّ لحكمه ، ولا معقّب لقضائه فقال :
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) أي وللّه السلطان والتصرف فى السموات والأرض ، فلا يقدر أحد أن يدفعه عما أراد بكم من تعذيب على نفاقكم إن أصررتم عليه ، أو منعه من العفو عنكم إن أنتم تبتم من نفاقكم وكفركم.
وهذا حسم لأطماعهم فى استغفاره صلّى اللّه عليه وسلّم لهم وهم على هذه الحال.
ثم أطمعهم فى مغفرته وعفوه إن تابوا وأنابوا إليه فقال :
(وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان اللّه كثير المغفرة والرحمة ، يختص من يشاء بمغفرته ورحمته دون من عداهم من الكافرين فهم بمعزل عن ذلك.
وفى الآية حثّ لهؤلاء المتخلفين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على التوبة والمراجعة إلى أمر اللّه فى طاعة رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وطلب المبادرة بها ، فإن اللّه يغفر للتائبين ويرحمهم إذا أنابوا إليه ، وأخلصوا العمل له.
[سورة الفتح (48) : آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15)
تفسير المفردات
المراد بالمغانم : مغانم خيبر ، فإنه عليه الصلاة والسلام رجع من الحديبية فى ذى الحجة من سنة خمس وأقام بالمدينة بقيتها وأوائل المحرم ، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية(26/97)
ج 26 ، ص : 96
ففتحها وغنم أموالا كثيرة خصهم بها والمراد بتبديل كلام اللّه الشركة فى المغانم دون أن ينصروا دين اللّه ويعلوا كلمته ، يفقهون : أي يفهمون والمراد بالفهم القليل فهمهم لأمور الدنيا دون أمور الدين.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه اعتذارهم عن التخلف فيما سلف بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم وصلاح أموالهم ، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته - أعقب ذلك بما يكذبهم فى هذه المعذرة ، فإنهم قد طلبوا السير مع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فى وقعة خيبر لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها ، ولو كانت التعلّة السالفة حقا ما طلبوا السير معه بحال.
ثم أخبر بأن اللّه سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول اللّه إلى خيبر ، فقالوا إن ذلك حسد من المؤمنين لهم أن ينالوا شيئا من الغنيمة ، فرد اللّه عليهم ما قالوا ، وأبان أنهم قوم ماديون لا يسعون إلا للدنيا ، ولا يفهمون ما يعلى شأن الدين ويرفع قدره.
الإيضاح
(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي سيقول لك الذين تخلفوا عنك فى عمرة الحديبية واعتلوا بشغلهم بأموالهم وأهليهم : دعونا نتبعكم ونسر معكم إلى غزو خيبر ، حين توقعوا ما سيكون فيها من مغانم. وفى هذا وعد للمبايعين الموافقين بالغنيمة ، وللمتخلفين المخالفين بالحرمان.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ) فإنه تعالى وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب ، فقد جاء فى صحيح الأخبار « إن اللّه وعد(26/98)
ج 26 ، ص : 97
أهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم إقناطا وتيئيسا من الذهاب معه إلى خيبر.
(قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا) أي لا تأذن لهم فى الخروج معك معاقبة لهم من جنس ذنبهم فإن امتناعهم عن الخروج إلى الحديبية ما حصل إلا لأنهم كانوا يتوقعون المغرم وهو جلاد العدو ومصاولته ، ولا يتوقعون المغنم ، فلما انعكست الآية فى خيبر طلبوا ذلك فعاقبهم اللّه بطردهم من المغانم.
ثم أكد هذا المنع بقوله :
(كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ) أي هكذا قال اللّه لنا من قبل مرجعنا من الحديبية إليكم : إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية معنا ، ولستم ممن شهدها ، فليس لكم أن تتبعونا لأن غنيمتها لغيركم.
ثم أخبر بأنهم سيردون عليك مقالك السابق « كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ » فقال :
(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي إن اللّه ما قال ذلك من قبل ، بل أنتم تحسدوننا أن نصيب معكم مغنما ، ومن ثم منعتمونا.
فردّ عليهم اتهام رسوله وصحبه بالحسد فقال :
(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي ما الأمر كما يقول هؤلاء المنافقون من الأعراب من أنكم تمنعونهم عن اتباعكم حسدا منكم لهم على أن يصيبوا معكم من العدو مغنما ، بل إنما كان لأنهم لا يفقهون من أمر الدين إلا قليلا ، ولو فقهوا ما قالوا ذلك لرسوله وللمؤمنين ، بعد أن أخبرهم بأن اللّه منعهم غنائم خيبر.
وفى هذا إشارة إلى أن ردّهم حكم اللّه ، وإثبات الحسد لرسوله والمؤمنين - ناشىء من الجهل وقلة التدبر.(26/99)
ج 26 ، ص : 98
[سورة الفتح (48) : الآيات 16 الى 17]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)
تفسير المفردات
قال الزهري ومقاتل وجماعة : المراد بالقوم أولى البأس الشديد بنو حنيفه أصحاب مسيلمة الكذاب ، وقال قتادة : هم هوازن وغطفان ، وقال ابن عباس ومجاهد : هم أهل فارس ، وقال الحسن : هم فارس والروم ، قال ابن جرير : إنه لم يقم دليل من نقل ولا من عقل على تعيين هؤلاء القوم ، فلندع الأمر على إجماله دون حاجة إلى التعيين اه.
والبأس : النجدة وشدة المراس فى القتال ، والحرج : الإثم والذنب.
المعنى الجملي
بعد أن رفض سبحانه إشراك المتخلفين فى قتال خيبر عقابا لهم على تقاعدهم عن نصرة اللّه ورسوله فى الحديبية - أردف ذلك بيان أن باب القتال لا يزال مفتوحا أمامكم ، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاء فى ميدان القتال فاستعدوا فستندبون إلى مواجهة قوم أولى بأس ونجدة ، فإما أن يسلموا وإما أن تبارزوهم حتى تبيدوا خضراءهم ولا تبقوا منهم ديّارا ولا نافخ نار ، فإن أجبتم داعى اللّه أثابكم على ما فعلتم جزيل الأجر ، وإن نكصتم على أعقابكم كما فعلتم من قبل فستجزون العذاب الأليم ،(26/100)
ج 26 ، ص : 99
ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد ، ومنها ما هو لازم كالعمى والعرج ، ومنها ما هو عارض يطرأ ويزول كالمرض ، ثم أعقب ذلك بالترغيب فى الجهاد والوعيد بالعذاب الأليم من مذلة فى الدنيا ، ونار موقدة فى الآخرة لمن نكل عنه وأقبل على الدنيا ، وترك ما يقرّ به من ربه.
الإيضاح
(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي قل لهؤلاء المخلفين الذين تقدم ذكرهم - إنكم ستندبون إلى قتال قوم من أولى البأس والنجدة ، فعليكم أن تخيّروهم بين أمرين : إما السيف ، وإما الإسلام.
وهذا حكم عام فى مشركى العرب والمرتدين يجب اتباعه.
ثم وعدهم إذا أجابوا بقوله :
(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً) أي فإن تستجيبوا وتنفروا للجهاد وتؤدوا ما طلب منكم أداؤه - يؤتكم ربكم الأجر الحسن ، والثواب الجزيل ، فتنالوا المغانم فى الدنيا ، وتدخلوا الجنة فى الآخرة.
كما أوعد من نكص على عقبه بقوله :
(وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وإن تعصوا ربكم فتدبروا عن طاعته ، وتخالفوا أمره ، فتتركوا قتال أولى النجدة والبأس إذا دعيتم إلى قتالهم ، كما عصيتموه فى أمره إياكم بالمسير مع رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم إلى مكة يعذبكم العذاب الأليم بالمذلة فى الدنيا ، والنار فى الآخرة.
ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلف عن القتال فقال :
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي لا إثم على ذوى الأعذار إذا تخلفوا عن الجهاد وشهود الحرب مع المؤمنين إذا هم لقوا عدوهم للعلل التي بهم ، والأسباب التي تمنعهم من شهودها كالعمى والعرج والمرض(26/101)
ج 26 ، ص : 100
روى أنه لما نزل قوله « وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ » الآية. قال أهل الزمانة :
كيف بنا يا رسول اللّه ؟ فأنزل اللّه : « لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ » الآية.
وقال مقاتل : عذر اللّه أهل الزمانة الذين تخلفوا عن المسير إلى الحديبية بهذه الآية.
ثم رغّب سبحانه فى الجهاد وطاعة اللّه ورسوله ، وأوعد على تركه بقوله :
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) أي ومن يطع اللّه ورسوله فيجيب الداعي إلى حرب أعدائه أهل الشرك دفاعا عن دينه وإعلاء لكلمته - يدخله يوم القيامة جنات تجرى من تحتها الأنهار ، ومن يعص اللّه ورسوله فيتخلف عن القتال إذا دعى إليه - يعذبه عذابا موجعا فى نار جهنم.
[سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19)
تفسير المفردات
الرضا : ما يقابل السخط ، يقال رضى عنه ورضى به ورضيته ، والمراد بالمؤمنين أهل الحديبية ، ورضاه عنهم لمبايعتهم رسوله صلّى اللّه عليه وسلم ، والشجرة : سمرة (شجرة طلح - وهى المعروفة الآن بالسنط) بايع المؤمنون تحت ظلها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ما فى قلوبهم : أي من الصدق والإخلاص فى المبايعة ، والسكينة :
الطمأنينة والأمن وسكون النفس ، فتحا قريبا : هو فتح خيبر عقب انصرافهم من(26/102)
ج 26 ، ص : 101
الحديبية كما علمت ، مغانم كثيرة : هى مغانم خيبر ، وكانت خيبر أرضا ذات عقار وأموال قسمها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بين المقاتلة فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما ، عزيزا : أي غالبا ، حكيما : أي يفعل على مقتضى الحكمة فى تدبير خلقه.
المعنى الجملي
بعد أن بيّن حال المخلّفين فيما سلف - عاد إلى بيان حال المبايعين الذين ذكرهم فيما تقدم بقوله : « إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ » فأبان رضاهم عنه لأجل تلك البيعة ، لما علم من صدق إيمانهم ، وإخلاصهم فى بيعتهم ، وأنزل عليهم طمأنينة ورباطة جأش وجازاهم بمغانم كثيرة أخذوها من خيبر بعد عودتهم من الحديبية ، وكان اللّه عزيزا : أي غالبا على أمره ، موجدا أفعاله وأقواله على مقتضى الحكمة.
عن سلمة بن الأكوع قال : « بينا نحن قائلون ، إذ نادى منادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، أيها الناس : البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، فثرنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قوله تعالى : « لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ » الآية. فبايع لعثمان بإحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس هنيئا لابن عفان ، يطوف بالبيت ونحن هنا ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لو مكث كذا وكذا سنة ما طاف حتى أطوف » أخرجه ابن جرير وابن أبى حاتم وابن مردويه.
وأخرج البخاري عن سلمة أيضا قال : « بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تحت الشجرة ، قيل على أىّ شىء كنتم تبايعون يومئذ ؟ قال : على الموت » .
وعن جابر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي.(26/103)
ج 26 ، ص : 102
الإيضاح
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أخبر سبحانه عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة بيعة الرضوان ، وقد عرفت أنهم كانوا أربع عشرة مائة ، كما عرفت أسباب هذه البيعة.
ولما أراد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يعلّموا هذه الشجرة بعد ذلك كثر اختلافهم فيها ، فلما اشتبهت عليهم وصار كل واحد يشير إلى شجرة غير التي يشير إليها الآخر ، قال عمر : سيروا ذهبت الشجرة ،
فسير المراغي ، ج 26 ، ص : 103
[سورة الفتح (48) : الآيات 20 الى 24]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)
تفسير المفردات
المغانم الكثيرة : ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة ، فعجل لكم هذه : أي مغانم خيبر ، أيدى الناس : أي أيدى اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول منها إلى الحديبية ، آية : أي أمارة للمؤمنين يعرفون بها : (1) صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلم.
(2) حياطة اللّه لرسوله وللمؤمنين وحراسته لهم فى مشهدهم ومغيبهم. (3) معرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد أن كلاءته تعالى ستعمهم أيضا ماداموا على الجادّة ، الصراط المستقيم : هو الثقة بفضل اللّه والتوكل عليه فيما تأتون وما تذرون ، وأخرى : أي مغانم أخرى هى مغانم فارس والروم ، أحاط اللّه بها : أي أعدها لكم وهى تحت قبضته يظهر عليها من أراد ، لولّوا الأدبار : أي لانهزموا ، والولىّ الحارس الحامى ، والنصير : المعين والمساعد ، سنة اللّه : أي سنّ سبحانه غلبة أنبيائه سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال : « لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي » أيديهم عنكم : أي أيدى كفار مكة ، وأيديكم عنهم(26/104)
ج 26 ، ص : 104
ببطن مكة ، يعنى بالحديبية ، أظفركم عليهم : أي على كلمته وجعلكم ذوى غلبة عليهم ، فإن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالد بن الوليد على جند فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد.
المعنى الجملي
بعد أن وعدهم فيما سلف بمغانم خيبر - أردف ذلك بيان أن ما آتاهم من الفتح والمغانم ليس هو الثواب وحده ، بل الجزاء أمامهم ، وإنما عجل لهم هذه لتكون علامة على صدق رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وحياطته له ، وحراسته للمؤمنين وليثبتكم على الإسلام ، وليزيدكم بصيرة ، وسيؤتيكم مغانم أخرى من فارس والروم وغيرهما ما كنتم تقدرون عليها لو لا الإسلام ، فقد كانت بلاد العرب شبه مستعمرات لهذه الدول فأقدرهم اللّه عليها بعز الإسلام.
ثم ذكر أنه لو قاتلكم أهل مكة ولم يصالحوكم لانهزموا ولم يجدوا وليّا ولا نصيرا يدافع عنهم ، وتلك هى سنة اللّه من غلبة المؤمنين ، وخذلان الكافرين ، ثم امتنّ على عباده المؤمنين بأنه كفّ أيدى المشركين عنهم ، فلم يصل إليهم منهم سوء ، وكف أيدى المؤمنين من المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، فصان كلّا من الفريقين عن الآخر ، وأوجد صلحا فيه خيرة للمؤمنين ، وعافية لهم فى الدنيا والآخرة
الإيضاح
(وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ، فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ ، وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي وعدكم اللّه مغانم كثيرة من غنائم أهل الشرك إلى يوم القيامة ، ولكن عجل لكم مغانم خيبر ، وكف أيدى اليهود عن(26/105)
ج 26 ، ص : 105
المدينة بعد خروج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم إلى الحديبية وخيبر قاله قتادة واختاره ابن جرير الطبري ، لتشكروه ولتكون أمارة للمؤمنين يعلمون بها أن اللّه حافظهم وناصرهم على أعدائهم على قلة عددهم ، وليهديكم صراطا مستقيما بانقيادكم لأمره ، وموافقتكم رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، ويزيدكم يقينا بصلح الحديبية وفتح خيبر.
روى إياس بن سلمة قال : حدثنى أبى قال : « خرجنا إلى خيبر مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فجعل عمّى عامر يرتجز بالقوم ثم قال :
تاللّه لو لا اللّه ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا ونحن عن فضلك ما استغنينا فثبّت الأقدام إن لاقينا وأنزلن سكينة علينا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : من هذا ؟ قال : أنا عامر ، قال : غفر لك ربك (وما استغفر لأحد إلا استشهد) قال : فنادى عمر بن الخطاب وهو على جمل له ، يا نبى اللّه لو أمتعتنا بعامر ، فلما قدمنا خيبر خرج قائدهم مرحب يخطر بسيفه ويقول :
قد علمت خيبر أنى مرحب شاكى السلاح بطل مجرّب إذا الحرب أقبلت تلتهب فبرز له عامر بن عثمان فقال :
قد علمت خيبر أنى عامر شاكى السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين ، فوقع سيف مرحب فى ترس عامر ، فرجع سيف عامر على نفسه ، فقطع أكحله (الأكحل : عرق فى اليد) فكانت فيها نفسه ، قال فأتيت النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأنا أبكى فقلت يا رسول اللّه بطل عمل عامر ، فقال من قال ذلك ؟
قلت ناس من أصحابك ، قال من قال ذلك ؟ بل له أجره مرتين ، ثم أرسلنى إلى علىّ وهو أرمد وقال : لأعطينّ الراية رجلا يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله ، فأتيت(26/106)
ج 26 ، ص : 106
عليّا فجئت به أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتفل فى عينيه فبرىء وأعطاه الراية فخرج مرحب وقال :
أنا الذي سمتنى أمي مرحب شاكى السلاح بطل مجرّب فقال علىّ كرم اللّه وجهه :
أنا الذي سمتنى أمي حيدره كليث غابات كريه المنظرة أكيلكم بالسيف كيل السّندره « 1 » قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه » .
(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها) أي ووعدكم اللّه فتح بلاد أخرى لم تقدروا عليها ، قد حفظها لكم حتى تفتحوها ، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها كفارس والروم ، أقدركم عليهم بعز الإسلام وقد كنتم قبل ذلك مستضعفين أمامهم لا تستطيعون دفعهم عن أنفسكم.
(وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) أي وكان اللّه على كل ما يشاء من الأشياء ذا قدرة لا يتعذر عليه شىء.
(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) يقول سبحانه مبشرا عباده المؤمنين بأنه لوناجزهم المشركون لنصرهم عليهم ولا نهزم جيش الكفر فارّا مدبرا لا يجد وليّا يتولى رعايته ويكلؤه ويحرسه ، ولا نصيرا يساعده ، لأنه محارب للّه ولرسوله ولحزبه المؤمنين.
(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) أي هذه هى سنة اللّه فى خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان فى موطن فيصل إلا نصر اللّه المؤمنين على الكافرين
__________________________________________________
(1) السندرة : مكيال واسع ، وكيلهم بها : قتلهم قتلا واسعا ذريعا.(26/107)
ج 26 ، ص : 107
ورفع الحق ووضع الباطل كما نصر يوم بدر أولياءه المؤمنين على قلة عددهم وعددهم ، وكثرة المشركين وكثرة عددهم.
(وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي إن اللّه كفّ أيدى المشركين الذين كانوا خرجوا على عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالحديبية يلتمسون غرّتهم ليصيبوا منهم ، فبعث رسول اللّه سريّة ، فأتى بهم أسرى ، ثم خلى سبيلهم ولم يقتلهم منة منه وفضلا.
روى أحمد وابن أبى شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي فى آخرين عن أنس قال : « لما كان يوم الحديبية هبط على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ثمانون رجلا من أهل مكة فى السلاح من جبل التنعيم (التنعيم : موضع بين مكة وسرف) فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية : « وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ » إلخ.
وروى أحمد عن عبد اللّه بن مغفل المزني رضى اللّه عنهما قال : « كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فى أصل الشجرة التي قال اللّه فى القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، وكان على بن أبى طالب وسهيل بن عمرو بين يديه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لعلىّ رضى اللّه عنه - اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فأخذ سهيل بيده وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب فى قضيتنا ما نعرف. قال اكتب باسمك اللهم - وكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول اللّه أهل مكة ، فأمسك سهيل بن عمرو بيده وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله ، اكتب فى قضيتنا ما نعرف ، فقال اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابّا عليهم السلاح فثاروا فى وجوهنا ، فدعا عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخذ اللّه بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم. هل جئتم فى عهد أحد ؟ وهل جعل لكم أحد أمانا ؟(26/108)
ج 26 ، ص : 108
فقالوا لا ، فخلّى سبيلهم فأنزل اللّه تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) الآية.
(وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي وكان اللّه بأعمالكم وأعمالهم بصيرا لا يخفى عليه شىء منها ، وهو مجازيكم ومجازيهم بها.
[سورة الفتح (48) : الآيات 25 الى 26]
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26)
تفسير المفردات
الهدى : ما يقدّم قربانا للّه حين أداء مناسك الحج أو العمرة ، معكوفا : أي محبوسا تقول عكفت الرجل عن حاجته : إذا حبسته عنها ، محله : أي المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو منى ، والوطء : الدوس ، والمراد به الإهلاك ،
وفى الحديث « اللهم اشدد وطأتك على مضر » ،
والمعرة : المكروه والمشقة ، من عرّه إذا عراه ودهاه بما يكره والتنزيل : التفرق والتميز ، والحميّة : الأنفة ، يقال حميت من كذا حميّة إذا أنفت منه وداخلك منه عار ، والمراد بها ثوران القوة الغضبية ، وحمية الجاهلية : حمية فى غير(26/109)
ج 26 ، ص : 109
موضعها لا يؤيدها دليل ولا برهان ، وكلمة التقوى هى : لا إله إلا اللّه ، وأهلها : أي المستأهلين.
المعنى الجملي
بعد أن أبان فيما سلف أن اللّه كف أيدى المؤمنين عن الكافرين ، وكف أيدى الكافرين عن المؤمنين - عيّن هنا مكان الكف وهو البيت الحرام الذي صدّوا المؤمنين عنه ، ومنعوا الهدى معكوفا أن يبلغ محله ، والسبب الذي لأجله كفوهم هو كفرهم باللّه ، ثم أخبرهم بأنه لو لا أن يقتلوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لا علم لهم بهم فيلزمهم العار والإثم - لأذن لهم فى دخول مكة ، ولقد كان الكف ومنع التعذيب عن أهل مكة ليدخل اللّه فى دين الإسلام من يشاء منهم بعد الصلح وقبل دخولها ، وليمنعنّ الأذى عن المؤمنين منهم ، ولو تفرقوا وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما بالقتل والسبي حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية التي تمنع من الإذعان للحق ، ولكن أنزل اللّه الثبات والوقار على رسوله وعلى المؤمنين فامتنعوا أن يبطشوا بهم ، وألزمهم الوفاء بالعهد وكانوا أحق بذلك من غيرهم إذ اختارهم اللّه لدينه وصحبة نبيه.
روى أنه لما همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بقتالهم بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزّى ومكرز بن حفص ليسألوه أن يرجع فى عامه على أن تخلى قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام فأجابهم وكتبوا بينهم كتابا ، فقال عليه الصلاة السلام لعلىّ ورضى اللّه عنه : اكتب بسم اللّه الرحمن الرحيم ، فقالوا لا نعرف هذا : اكتب باسمك اللّه ، ثم قال عليه السلام : اكتب هذا ما صالح عليه رسول اللّه أهل مكة ، فقالوا كنا نعلم أنك رسول اللّه ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه أهل مكة ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم اكتب ما يريدون ،(26/110)
ج 26 ، ص : 110
فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك وأن يبطشوا بهم ، فأنزل اللّه السكينة عليهم فتوقّروا واحتملوا كل هذا
، وقد تقدم ذلك برواية أخرى.
الإيضاح
(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي هم الذين جحدوا توحيد اللّه وصدوكم أيها المؤمنون باللّه عن دخول المسجد الحرام وصدوا الهدى محبوسا أن يبلغ محلّ نحره وهو الحرم عنادا منهم وبغيا ، وكان رسول اللّه ساق معه حين خرج إلى مكة فى سفرته تلك سبعين بدنة.
(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي ولو لا هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم - وهم بين أظهرهم - لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات من لا تعرفونهم حين القتل ، ولو قتلتموهم للحقتكم المعرة والمشقة ، بما يلزمكم فى قتلهم من كفارة وعيب.
والخلاصة - إنه لو لا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم - لوقع ما كان جزاءهم لصدهم وكفرهم ، ولو حصل ذلك لزمكم العيب إذ يقول المشركون إن المسلمين قتلوا أهل دينهم.
(لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي وقد حال بينكم وبين قتالهم لدخول مكة :
إخراج المؤمنين من بين أظهرهم ، وليدخل فى ذينه من يشاء منهم قبل أن تدخلوها.
عن أبى جمعة جنيد بن سبع قال : « قاتلت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أول النهار كافرا وقاتلت معه آخر النهار مسلما ، وفينا نزلت : ولو لا رجال إلخ. وكنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين » ، وفى رواية ابن أبى حاتم : « كنا ثلاثة رجال وتسع نسوة » أخرجه الطبراني وأبو يعلى وابن مردويه.(26/111)
ج 26 ، ص : 111
(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم لسلّطناكم عليهم فقتلتموهم قتلا ذريعا.
ولما بين شرط استحقاقهم للعذاب بيّن وقته فقال :
(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي لعذبناهم حين جعلوا فى قلوبهم أنفة الجاهلية ، فامتنع سهيل بن عمرو أن يكتب فى كتاب الصلح الذي بين رسول اللّه والمشركين (بسم اللّه الرحمن الرحيم) وأن يكتب فيه (محمد رسول اللّه) وامتنع هو وقومه أن يدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عامه هذا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه الصبر والطمأنينة على رسوله ، ففهم عن اللّه مراده وجرى على ما يرضيه ، وأنزله على المؤمنين فألزمهم أمره وقبلوه ، وحماهم من همزات الشياطين ، وألزمهم كلمة التوحيد والإخلاص للّه فى العمل ، وكانوا أحق بها ، وكانوا أهلها ، إذ هم أهل الخير والصلاح.
(وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) سواءا كان من المؤمنين أم من الكفار فيجازى كلا بما عمل.
[سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28)(26/112)
ج 26 ، ص : 112
تفسير المفردات
الرؤيا : هى رؤيا منام وحلم ، وصدق اللّه رسوله الرؤيا : أي صدقه فى رؤياه ولم يكذبه ، محلقين رءوسكم ومقصرين : أي يحلق بعضكم ويقصّر بعض آخر بإزالة بعض الشعر ، ليظهره على الدين كله : أي ليعليه على سائر الأديان حقها وباطلها ، وأصل الإظهار جعل الشيء باديا ظاهرا للرائى ثم شاع استعماله فى الإعلاء.
المعنى الجملي
رأى عليه الصلاة والسلام فى المنام. وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل المسجد الحرام هو وأصحابه آمنين ، منهم من يحلق ومنهم من يقصر ، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا وحسبوا أنهم داخلون مكة عامهم هذا ، فلما انصرفوا لم يدخلوا شق ذلك عليهم ، وقال المنافقون : أين رؤياه التي رآها ؟ فأنزل اللّه هذه الآية ودخلوا فى العام المقبل.
ومما
روى « أن عمر بن الخطاب قال : أتيت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت :
ألست نبى اللّه حقا ؟ قال بلى ، قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا إذن ؟ قال إنى رسول اللّه ولست أعصيه وهو ناصرى ، قلت : أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتى البيت ونطوف به ؟
قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر : أليس هذا نبى اللّه حقا ؟ قال بلى ، قلت ألسنا على الحق ، وعدونا على الباطل ؟ قال بلى. قلت فلم نعطى الدنية فى ديننا ؟ قال : أيها الرجل إنه رسول اللّه وليس يعصى ربه وهو ناصره ، فاستمسك بغرزه (سر على نهجه) فو اللّه إنه لعلى الحق ، قلت : أليس كان يحدثنا أنه سيأتى البيت ويطوف به ؟
قال بلى. قال فأخبرك أنه آتيه العام ؟ قلت لا ، قال فإنك تأتيه وتطوف به » .(26/113)
ج 26 ، ص : 113
الإيضاح
(لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) أي لقد صدق اللّه رسوله محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه البيت الحرام آمنين لا يخافون أهل الشرك ، محلقا بعضهم ومقصرا بعضهم الآخر ، فعلم جل ثناؤه ما لم تعلموا ، وذلك هو علمه تعالى بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين الذين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها هذا العام لوطئوهم بالخيل والرّجل ، فأصابتهم منهم معرة بغير علم ، فردهم اللّه عن مكة من أجل ذلك ، فجعل من دون دخولهم المسجد فتحا قريبا هو صلح الحديبية وفتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين إلى أن يتيسر اليوم الموعود.
ثم أكد صدق الرسول فى الرؤيا بقوله :
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أي هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام ، ليبطل به المثل كلها بنسخ سائر الديانات ، وإظهار فساد العقائد الزائفات ، حتى لا يكون دين سواه.
ولما كان هذا وعدا لا بد من تحققه أعقبه بقوله :
(وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً) على أن ما وعده من إظهار دينه على جميع الأديان كائن لا محالة.
وفى هذا تسلية له على ما وقع من سهيل بن عمرو ، إذ لم يرض بكتابة « محمد رسول اللّه » وقال ما قال.(26/114)
ج 26 ، ص : 114
[سورة الفتح (48) : آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
تفسير المفردات
أشداء : واحدهم شديد ، رحماء : واحدهم رحيم ، فضلا : أي ثوابا ، والسيماء والسيمياء من السومة (بالضم) وهى العلامة قال :
غلام رماه اللّه بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر
مثلهم : أي وصفهم العجيب الجاري مجرى الأمثال فى الغرابة ، والشطء : فروخ الزرع ، وهو ما خرج منه وتفرع فى شاطئيه : أي جانبيه وجمعه أشطاء ، وشطأ الزرع وأشطأ : إذا أخرج فراخه ، وهو فى الحنطة والشعير والنخل وغيرها ، وآزره : أعانه وقوّاه وأصله من المؤازة وهى المعاونة ، واستوى على سوقه : أي استقام على قصبه وأصوله ، والسوق ، واحدها ساق.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الإسلام ، ليعلى شأنه على سائر الأديان أردف هذا بيان حال الرسول والمرسل إليهم ، فوصفهم بأوصاف كلها مدائح لهم ، وذكرى لمن بعدهم ، وبها سادوا الأمم ، وامتلكوا الدول ، وقبضوا على ناصية العالم أجمع ، وهى :
(1) إنهم غلاظ على من خالف دينهم وناوأهم العداء ، رحماء فيما بينهم.
(2) إنهم جعلوا الصلاة والإخلاص للّه ديدنهم فى أكثر أوقاتهم.
(3) إنهم يرجون بعملهم الثواب من ربهم والزلفى إليه ورضاه عنهم.(26/115)
ج 26 ، ص : 115
(4) إنّهم لهم سيمى يعرفون بها ، فلهم نور فى وجوههم ، وخشوع وخضوع يعرفه أولو الفطن.
(5) إن الإنجيل ضرب بشأنهم المثل فقال : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
ذاك أنهم فى بدء الإسلام كانوا قليلى العدد ثم كثروا واستحكموا وترقى أمرهم يوما قيوما حتى أعجب الناس بهم ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قام وحده ثم قوّاه اللّه بمن معه كما يقوّى الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها مما يتوالد منها.
الإيضاح
(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) أي إن محمدا صلى اللّه عليه وسلم رسول اللّه بلا شك ولا ريب مهما أنكر المنكرون ، وافترى الجاحدون.
(وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي إن صحابته الذين معه غليظة قلوبهم على الكفار ، رقيقة قلوب بعضهم على بعض ، لينة أنفسهم لهم ، هينة عليهم.
ونحو الآية قوله : « فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ » وقوله : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً »
وفى الحديث « مثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر »
وقوله صلى اللّه عليه وسلم « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وشبك بين أصابعه »
وعلى هذا جاء قوله :
حليم إذا ما الحلم زين أهله على أنه عند العدو مهيب(26/116)
ج 26 ، ص : 116
(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً) أي تراهم دائبين على الصلاة مخلصين للّه محتسبين فيها الأجر وجزيل الثواب عنده طالبين رضاه عنهم « ورضوان من اللّه أكبر » .
(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي لهم سمت حسن وخشوع وخضوع يظهر أثره فى الوجوه ، ومن ثم قيل : إن للحسنة نورا فى القلب ، وضياء فى الوجه وسعة فى الرزق ، ومحبة فى قلوب الناس. وقال عثمان بن عفان رضى اللّه عنه : ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها اللّه تعالى على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه.
روى عن عمر أنه قال : من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ،
وعن أبى سعيد رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال « لو أن أحدكم يعمل فى صخرة صماء ليس لها باب ولا كوّة لخرج عمله للناس كائنا ما كان » .
والخلاصة - إن كل ما يفعله المرء أو يتصوره يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع اللّه أصلح اللّه عز وجل ظاهره للناس.
ثم أخبر سبحانه أنه نوّه بفضلهم فى الكتب المنزلة والأخبار المتداولة فقال :
(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي هذه الص
(و الخلاص
ذه أوصاف الأمة الإسلامية أيام عزها ، فانظر الآن وتأمل فى تخاذلها وجهلها حتى أصبحت مثلا فى الخمول والجهل ، وأصبحت زرعا هشيما تذروه الرياح ، فكيف يجتمع عصفه وتبنه ؟
ولعل اللّه يبدل الحال غير الحال ويخضرّ الزرع بعد ذبوله ، وتعود الأمة سيرتها الأولى مهيبة مرعية الجانب مخشية القوة.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) أي وعد سبحانه هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم أن يغفر ذنوبهم ويجزل أجرهم بإدخالهم جنات النعيم ، ووعد اللّه حق وصدق لا يخلف ولا يبدل.
وكل من اقتفى أثر الصحابة فهو فى حكمهم ، ولهم السبق والفضل والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد.
روى مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « لا تسبوا أصحابى ، فو الذي نفسى بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه (نصفه) »
رضى اللّه عنهم وأرضاهم.
[خاتمة] هذه السورة آخر القسم الأول من القرآن الكريم وهو المطول ، وسيأتى القسم الثاني ، وهو المفصل.(26/117)
ج 26 ، ص : 118
خلاصة مقاصد هذه السورة
(1) بشارة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بالفتح وإعزاز دين اللّه.
(2) وعد المؤمنين ووعيد الكافرين والمنافقين.
(3) ذم المخلّفين من عرب أسلم وجهينة ومزينة وغفار.
(4) رضوان اللّه على المؤمنين الذين بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تحت الشجرة ، ووعده إياهم بالنصر فى الدنيا ، وبالجنة فى الآخرة.
(5) البشرى بتحقق رؤيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، وقد تمّ لهم ذلك فى العام المقبل.
(6) وصف النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والذين آمنوا معه بالرحمة والشدة.
(7) وعد اللّه للذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر العظيم.(26/118)
ج 26 ، ص : 119
سورة الحجرات
هى مدنية آيها ثمانى عشرة ، نزلت بعد سورة المجادلة.
ومناسبتها لما قبلها من وجوه :
(1) ذكر فى هذه قتال البغاة ، وفى تلك قتال الكفار.
(2) إن السابقة ختمت بالذين آمنوا ، وافتتحت هذه بهم.
(3) إن كلا منهما تضمن تشريفا وتكريما للرسول صلّى اللّه عليه وسلّم ولا سيما فى مطلعيهما.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
تفسير المفردات
لا تقدموا : أي لا تتقدموا ، من قولهم مقدمة الجيش لمن تقدم منهم ، قال أبو عبيدة : العرب تقول : لا تقدّم بين يدى الإمام وبين يدى الأب : أي لا تعجل بالأمر دونه ، وقيل إن المراد لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة ، ورجّح هذا ، لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي : أي إذا كلمتموه ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء(26/119)
ج 26 ، ص : 120
الحد الذي يبلغه بصوته ، يغضون أصواتهم : أي يخفضونها ويلينونها ، امتحن اللّه قلوبهم :
أي طهّرها ونقاها كما يمتحن الصائغ الذهب بالإذابة والتنقية من كل غشّ.
المعنى الجملي
ذكرت سورة الفتح بعد سورة القتال لأن الأولى كالمقدمة والثانية كالنتيجة وذكرت هذه بعد الفتح ، لأن الأمة إذا جاهدت ثم فتح اللّه عليها والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم بينها ، واستتبّ الأمر ، وجب أن توضع القواعد التي تكون بين النبي صلى اللّه عليه وسلّم وأصحابه ، وكيف يعاملونه ؟ وكيف يعامل بعضهم بعضا ؟ فطلب إليهم ألا يقطعوا أمرا دون أن يحكم اللّه ورسوله به ولا أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا أن يجهروا له بالقول كما يجهر بعضهم لبعض ، لما فى ذلك من الاستخفاف الذي قد يؤدى إلى الكفر المحبط للأعمال.
الإيضاح
أدب اللّه المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين : أحدهما فعل ، وثانيهما قول ، وأشار إلى أولهما بقوله :
(1) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي يا أيها المؤمنون لا تعجلوا بالقضاء فى أمر قبل أن يقضى اللّه ورسوله لكم فيه ، إذ ربما تقضون بغير قضائهما ، وراقبوا اللّه أن تقولوا ما لم يأذن لكم اللّه ورسوله به ، إن اللّه سميع لما تقولون ، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم ، لا يخفى عليه شىء من ضمائر صدوركم.
وبنحو هذا
أجاب معاذ بن جبل رضى اللّه عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن قال له « بم تحكم ؟ قال بكتاب اللّه تعالى ، قال صلّى اللّه عليه وسلّم فإن لم تجد ، قال بسنة رسوله ، قال صلّى اللّه عليه وسلّم فإن لم تجد ، قال أجتهد رأيى ،(26/120)
ج 26 ، ص : 121
فضرب فى صدره وقال : الحمد للّه الذي وفق رسول رسوله لما يرضى رسوله » رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
فتراه قد أخر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة ، ولو قدمه لكان من المتقدمين بين يدى اللّه ورسوله.
والخلاصة - إنه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر اللّه ونواهيه ، ولا يعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو أن يفعل ، فلا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح ، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهى عنه.
وأشار إلى ثانيهما بقوله :
(2) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) أي إذا نطق ونطقتم فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته ، ولا تبلغوا بها وراء الحد الذي يبلغه ، لأن ذلك يدل على قلة الاحتشام ، وترك الاحترام.
روى البخاري بسنده عن ابن أبى مليكة « أن عبد اللّه بن الزبير رضى اللّه عنه أخبره أنه قدم ركب من تميم على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال أبوبكر رضى اللّه عنه :
أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس ، فقال أبو بكر رضى اللّه عنه : ما أردت إلا خلافى ، فقال عمر رضى اللّه عنه : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) الآية. فكان أبوبكر بعدها لا يكلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلا كأخى السرار ، وما حدّث عمر النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يستفهمه مما يخفض صوته » .
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) أي وإذا كلمتموه وهو صامت فإياكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم ، أو أن تقولوا يا محمد ، يا أحمد ، بل خاطبوه بالنبوة مع الإجلال والتعظيم ، خشية أن يؤدى ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب فتكفروا من حيث لا تشعرون.(26/121)
ج 26 ، ص : 122
ولما نزلت هذه الآية تخلف ثابت بن قيس عن مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فدعاه إليه صلّى اللّه عليه وسلم ، فقال يا رسول اللّه : لقد أنزلت هذه الآية وإنى رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملى قد حبط ، فقال عليه الصلاة والسلام :
لست هناك ، إنك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنك فى أهل الجنة ، فقال : رضيت ببشرى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، لا أرفع صوتى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أبدا ، فأنزل اللّه :
(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ)
أي إن الذين ضرب اللّه قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة حتى طهرت وصفت بما كابدت من الصبر على المشاقّ ، لهم مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم لغضهم أصواتهم ولسائر طاعاتهم.
روى أحمد فى الزهد عن مجاهد قال : كتب إلى عمر ، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهى المعصية ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل يشتهى المعصية ولا يعمل بها ؟ فكتب عمر رضى اللّه عنه ، إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).
[سورة الحجرات (49) : الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
تفسير المفردات
من وراء الحجرات : أي من خارجها سواء كان من خلفها أو من قدامها ، إذ أنها من المواراة وهى الاستتار ، فما استتر عنك فهو وراء ، خلفا كان أو قداما ، فإذا رأيته(26/122)
ج 26 ، ص : 123
لا يكون وراءك. ويرى بعض أهل اللغة أن وراء من الأضداد فتطلق تارة على ما أمامك ، وأخرى على ما خلفك ، والحجرات (بضم الجيم وفتحها وتسكينها) واحدها حجرة : وهى القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه ، والمراد بها حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام ، وكانت تسعة لكل منهن حجرة من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود ، وكانت غير مرتفعة يتناول سقفها باليد ، وقد أدخلت فى عهد الوليد بن عبد الملك بأمره فى مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبكى الناس لذلك.
وقال سعيد بن المسيّب يومئذ : لوددت أنهم تركوها على حالها لينشأ ناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فى حياته ، فيكون ذلك مما يزهد الناس فى التفاخر والتكاثر فيها.
المعنى الجملي
ذم اللّه تبارك وتعالى الذين ينادون رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من وراء الحجرات وهو فى بيوت نسائه كما يفعل أجلاف الأعراب ، ثم أرشدهم إلى ما فيه الخير والمصلحة لهم فى دينهم ودنياهم ، وهو أن ينتظروا حتى يخرج إليهم.
روى ابن جرير بسنده عن زيد بن أرقم رضى اللّه عنه قال : « اجتمع ناس من العرب فقالوا انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبيا فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكا نعش بجناحه ، قال : فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبرته بما قالوا ، فجاءوا إلى حجرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فجعلوا ينادونه وهو فى حجرته يا محمد يا محمد ، فأنزل اللّه تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) قال.
فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأذنى فمدها وجعل يقول : لقد صدق اللّه تعالى قولك يا زيد. لقد صدق اللّه قولك يا زيد » .(26/123)
ج 26 ، ص : 124
وقال قتادة : نزلت فى وفد تميم وكانوا سبعين رجلا منهم الزّبرقان بن بدر وعطارد ابن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم ، جاءوا إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم للمفاخرة ، فنادوا على الباب : اخرج إلينا يا محمد ، فإن مدحنا لزين ، وإن ذمنا لشين ، فخرج إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو يقول : إنما ذلكم اللّه الذي مدحه زين ، وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول اللّه : ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا فقام شاب منهم فذكر فضله وفضل قومه ، فقال صلّى اللّه عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس وكان خطيب النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، قم فأجبه فأجابه ، وقام الزّبرقان بن بدر فقال :
نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
إلى أن قال :
فلا ترانا إلى حىّ يفاخرهم إلا استفادوا فكانوا الرأس يقتطع
فمن يفاخرنا فى ذاك نعرفه فيرجع القوم والأخبار تستمع
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لحسان بن ثابت أجبه فقال :
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بيّنوا سنة للناس تتّبع
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم أو حاولوا النفع فى أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع
فى قصيدة طويلة ، فلما فرغ حسان من قوله ، قال الأقرع بن حابس : وأبى إن هذا الرجل لمؤتّى له ، لخطيبه أخطب من خطيبنا ، ولشاعره أشعر من شاعرنا ، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا ، ثم دنا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال : أشهد(26/124)
ج 26 ، ص : 125
أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ما يضرك ما كان من قبل هذا ، ثم جوّزهم فأحسن جوائزهم.
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) أي إن الذين ينادونك من وراء حجرات نسائك أكثرهم جهال بما يجب لك من الإجلال والتعظيم.
والمراد بالحجرات موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) أي ولو أن هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا ولم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم عند اللّه ، لأنه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي واللّه ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك ، وراجع أمر اللّه فى ذلك وفى غيره ، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
والخلاصة - إن اللّه سبحانه هجّن الصياح برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فى حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدرا ، لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه ، لأن من رفع اللّه قدره عن أن يجهر له بالقول يكون صنيع مثل هؤلاء معه من المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغا لا يقدر قدره.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)(26/125)
ج 26 ، ص : 126
تفسير المفردات
الفاسق : هو الخارج عن حدود الدين ، من قولهم : فسق الرطب إذا خرج من قشره والتبين : طلب البيان ، والنبأ : الخبر ، قال الراغب : ولا يقال للخبر نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة وبه يحصل علم أو غلبة ظن بجهالة : أي جاهلين حالهم ، فتصبحوا : أي فتصيروا ، نادمين : أي مغتمّين غما لازما متمنين أنه لم يقع فإن الندم الغم على وقوع شىء مع تمنى عدم وقوعه ، لعنتّم : أي لوقعتم فى الجهد والهلاك ، والكفر : تغطية نعم اللّه تعالى بالجحود لها ، الفسوق : الخروج عن الحد كما علمت ، والعصيان : عدم الانقياد ، من قولهم : عصت النواة : أي صلبت واشتدت ، والرشاد : إصابة الحق واتباع الطريق السوىّ.
المعنى الجملي
أدب اللّه عباده المؤمنين بأدب نافع لهم فى دينهم ودنياهم - أنه إذا جاءهم الفاسق المجاهر بترك شعائر الدين بأيّ خبر ، لا يصدقونه بادى ذى بدء حتى يتثبتوا ، ويتطلبوا انكشاف الحقيقة ولا يعتمدوا على قوله ، فإن من لا يبالى بالفسق لا يبالى بالكذب الذي هو من فصيلته - كراهة أن يصيبوا بأذى قوما هم جاهلون حالهم ، فتندموا على ما فرط منكم ، وتتمنوا أنه لو لم يكن قد وقع.
روى عن ابن عباس « أن الآية نزلت فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وكان قد بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى بنى المصطلق ليأخذ الصدقات ، فلما أتاهم الخبر فرحوا به وخرجوا يستقبلونه ، فلما حدّث بذلك الوليد حسب أنهم جاءوا لقتاله ،(26/126)
ج 26 ، ص : 127
فرجع قبل أن يدركوه وأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنهم منعوا الزكاة ، فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غضبا شديدا ، وبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذ أتاه الوفد فقالوا يا رسول اللّه : إنا حدّثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أنه إنما رده كتاب جاء منك لغصب غضبته علينا ، وإنا نعوذ باللّه من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل اللّه عذرهم فى الكتاب فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) الآية » . أخرجه أحمد وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه ،
وقال ابن كثير : وهذا من أحسن ما روى فى سبب نزول الآية.
وقال الرازي : هذه الرواية ضعيفة لأن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد بعيد ، لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقا ، كيف والفاسق فى أكثر المواضع يراد به من خرج من ربقة الإيمان لقوله : « إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » اه.
ثم بين أن صحبه كانوا يريدون أن يتبع رأيهم فى الحوادث ، ولو فعل ذلك لوقعوا فى العنت والهلاك ، ولكن اللّه حبب إلى بعضهم الإيمان وزينه فى قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وهؤلاء أهل الرشاد والسالكون الطريق السوىّ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي يا أيها المؤمنون إن جاءكم الفاسق بأى نبإ فتوقفوا فيه وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا على قوله ، فإن من لا يبالى بالفسق فهو أجدر ألا يبالى بالكذب ولا يتحاماه - خشية إصابتكم بالأذى قوما أنتم جاهلون حالهم ، فتندموا على ما فرط منكم وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.
ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها فقال :
(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) أي واعلموا أن بين أظهركم رسول اللّه فعظموه(26/127)
ج 26 ، ص : 128
ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم كما قال تعالى :
« النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ » .
ثم بين أن رأيه أنفع لهم وأجدر بالرعاية فقال :
(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء لوقعتم فى الجهد والإثم ، ولكنه لا يطيعكم فى غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له ، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه.
عن أبى سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية وقال : هذا نبيكم يوحى إليه ، وخيار أئمتكم لو أطاعهم فى كثير من الأمر لعنتوا ، فكيف بكم اليوم ، أخرجه الترمذي.
ثم استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين فقال :
(وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) أي ولكنّ جمعا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبرىء وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم ، لأن اللّه تعالى جعل الإيمان أحب الأشياء إليهم ، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه ويقتضيه من الأمور الصالحة وترك التسرع فى الأخبار ، وكرّه إليهم هذه الأمور الثلاثة : الكفر والفسوق والعصيان.
والخلاصة - إن الإيمان الكامل إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، فكراهة الكفر فى مقابلة محبة الإيمان ، وتزيينه فى القلوب هو التصديق بالجنان ، والفسوق وهو الكذب فى مقابلة الإقرار باللسان ، والعصيان فى مقابلة العمل بالأركان.
(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي هؤلاء الذين هذه صفاتهم هم السالكون طريق السعادة ولم يميلوا عن الاستقامة.
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي هذا العطاء الذي منحكموه تفضل منه عليكم وإنعام من لدنه(26/128)
ج 26 ، ص : 129
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي واللّه عليم بمن يستحق الهداية ، ومن يستحق الغواية ، حكيم فى تدبير شئون خلقه وصرفهم فيما شاء من قضائه.
والخلاصة - إن رسول اللّه بين أظهركم وهو أعلم بمصالحكم ، لو أطاعكم فى جميع ما تختارونه لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم فى مهاوى الردى ، ولكنّ بعضا منكم حبّب إليهم الإيمان فى قلوبهم ، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان ، وأولئك هم الذين أصابوا الحق ، وسلكوا سبيل الرشاد.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
تفسير المفردات
الطائفة : الجماعة أقل من الفرقة بدليل قوله : « فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ » فأصلحوا بينهما : أي فكفوهما عن القتال بالنصيحة أو بالتهديد والتعذيب ، بغت : أي تعدّت وجارت ، تفيء : أي ترجع ، وأمر اللّه : هو الصلح ، لأنه مأمور به فى قوله : « وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ » فأصلحوا بينهما بالعدل : أي بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات بحيث يكون الحكم عادلا حتى لا يؤدى النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى ، وأقسطوا : أي واعدلوا فى كل شأن من شئونكم وأصل الإقساط : إزالة القسط (بالفتح) وهو الجور ، والقاسط : الجائز كما قال : َ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً »(26/129)
ج 26 ، ص : 130
والإخوة فى النسب ، والإخوان فى الصداقة ، واحدهم أخ ، وقد جعلت الأخوّة فى الدين كالأخوّة فى النسب وكأن الإسلام أب لهم قال قائلهم :
أبى الإسلام لا أب لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
المعنى الجملي
بعد أن حذر سبحانه المؤمنين من النبأ الصادر من الفاسق - بين هنا ما ربما ترتب على خبره من النزاع بين فئتين وقد يئول الأمر إلى الاقتتال ، فطلب من المؤمنين أن يزيلوا ما نتج من كلامه ، وأن يصلحوا بينهما ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى ترجع إلى الصلح بدفعها عن الظلم مباشرة إن أمكن ، أو باستعداء الحاكم عليها ، وإن كان الباغي هو الحاكم فالواجب على المسلمين دفعه بالنصيحة فما فوقها بشرط ألا تثير فتنة أشدّ من الأولى.
ثم تمم الإرشاد وأبان أن الصلح كما يلزم بين الفئتين - يجب بين الأخوين ، ثم أمرهم بتقوى اللّه ووجوب اتباع حكمه وعدم الإهمال فيه رجاء أن يرحمهم إذا هم أطاعوه ولم يخالفوا أمره.
روى قتادة أن الآية نزلت فى رجلين من الأنصار كان بينهما مدارأة فى حق ، فقال أحدهما للآخر : لآخذنّ حقى منك عنوة ، لكثرة عشيرته ، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم فأبى أن يتّبعه ، فلم يزل الأمر بينهما حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضا بالأيدى والنعال ، ولم يكن قتال بالسيوف.
الإيضاح
(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) أي وإن اقتتلت طائفتان من أهل الإيمان ، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم اللّه والرضا بما فيه ، سواء كان لهما أو عليهما ، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.(26/130)
ج 26 ، ص : 131
(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ) أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم اللّه وتعدت ما جعله اللّه عدلا بين خلقه ، وأجابت الأخرى فقاتلوا التي تعتدى وتأبى الإجابة إلى حكمه حتى ترجع إليه وتخضع طائعة له.
(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) أي فإن رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم اللّه - فأصلحوا بينهما بالإنصاف والعدل حتى لا يتجدد بينهما القتال فى وقت آخر.
ثم أمرهم سبحانه بالعدل فى كل أمورهم فقال :
(وَأَقْسِطُوا إِن
وفَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)
فى الدين كما تصلحون بين أخويكم فى النسب.(26/131)
ج 26 ، ص : 132
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) فى كل ما تأتون وما تذرون ، ومن ذلك ما أمرتم به من إصلاح ذات البين.
(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن يرحمكم ربكم ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه واتبعتم أمره ونهيه.
[سورة الحجرات (49) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
تفسير المفردات
السخرية : الاحتقار وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه ، يقال سخر به وسخر منه ، وضحك به ومنه ، وهزىء به ومنه والاسم السخرية والسخرى (بالضم والكسر) وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلظ فيه ، أو على صنعته ، أو على قبح صورته.
والقوم : شاع إطلاقه على الرجال دون النساء كما في الآية وكما قال زهير :
وما أدرى وسوف إخال أدرى أقوم آل حصن أم نساء
ولا تلمزوا أنفسكم : أي لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة باليد أو العين أو نحوهما ، والمؤمنون كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنما عاب نفسه ، والتنابز : التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب ، والاسم : الذكر والصيت ، من قولهم :
طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم.(26/132)
ج 26 ، ص : 133
المعنى الجملي
بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع اللّه تعالى ومع النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق ، بيّن ما ينبغى أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ، فذكر أنه لا ينبغى أن يسخر منه ولا أن يعيبه بالهمز واللمز ، ولا أن يلقبه باللقب الذي يتأذى منه ، فبئس العمل هذا ، ومن لم يتب بعد ارتكابه فقد أساء إلى نفسه وارتكب جرما كبيرا.
روى أن الآية نزلت فى وفد تميم إذ كانوا يستهزئون بفقراء أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم كعمار وصهيب وبلال وخبّاب وابن فهيرة وسلمان الفارسي وسالم مولى أبى حذيفة فى آخرين غيرهم لما رأوا من رثاثة حالهم.
وروى أنها نزلت فى صفيّة بنت حيىّ بن أخطب رضى اللّه عنها : أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم فقالت : « إن النساء يقلن لى : يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها :
هلّا قلت : أبى هارون ، وعمى موسى ، وزوجى محمد » .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) أي لا يهزأ ناس من المؤمنين بآخرين :
ثم ذكر العلة فى ذلك فقال :
(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي فقد يكون المسخور منهم خيرا عند اللّه من الساخرين كما
جاء فى الأثر « فربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على اللّه تعالى لأبرّه » .
فينبغى ألا يجترىء أحد على الاستهزاء بمن تتقحمه عينه لرثاثة حاله ، أو لكونه ذا عاهة فى بدنه ، أو لكونه غير لبق فى محادثته ، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته ، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره اللّه تعالى.(26/133)
ج 26 ، ص : 134
(وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ) أي ولا يسخر نساء من نساء عسى أن يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات ، وأتى بالجمع فى الموضعين ، من قبل أن الأغلب فى السخرية أن تكون فى مجامع الناس ، وكم من متلذذ بها ، وكم من متألم منها.
روى الترمذي عن عائشة قالت : حكيت للنبى صلّى اللّه عليه وسلّم رجلا فقال :
« ما يسرنى أنى حكيت رجلا وأن لى كذا وكذا ، قالت فقلت يا رسول اللّه إن صفية امرأة وقالت « 1 » بيدها هكذا تعنى أنها قصيرة ، فقال : لقد مزحت بكلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته » .
وروى مسلم عن أبى هريرة قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « إن اللّه لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم »
وفى هذا إيماء إلى أن المرء لا يقطع بمدح أحد أو عيبه كما يرى عليه من صور أعمال الطاعة أو المخالفة ، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم اللّه من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال ، ولعل من رأينا منه تفريطا أو معصية يعلم اللّه من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه ، فالأعمال أمارات ظنية ، لا أدلة قطعية.
(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة على وجه الخفية.
وفى قوله : « أنفسكم » تنبيه إلى أن العاقل لا يعيب نفسه ، فلا ينبغى أن يعيب غيره لأنه كنفسه ، ومن ثم
قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى »
وقال عليه الصلاة والسلام : « يبصر أحدكم القذاة « 2 » فى عين أخيه ويدع الجذع فى عينه » .
__________________________________________________
(1) تطلق العرب القول على جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان توسعا فى الاستعمال.
(2) ما يقع فى العين والماء والتراب من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك.(26/134)
ج 26 ، ص : 135
وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر :
لا تكشفن من مساوى الناس ما ستروا فيهتك اللّه سترا عن مساويكا
واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب الذي يسوءه ويكرهه كأن يقول لأخيه المسلم : يا فاسق ، يا منافق ، أو يقول لمن أسلم : يا يهودى ، أو يا نصرانى.
قال قتادة وعكرمة عن أبى جبيرة بن الضحاك قال : فى بنى سلمة نزلت (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا واحدا باسم من تلك الأسماء قالوا : يا رسول اللّه إنه يكرهه فنزلت. أخرجه البخاري فى الأدب وأهل السنن وغيرهم.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب وراجع الحق ، فنهى اللّه تعالى أن يعيّر بما سلف من عمله.
أما الألقاب التي تكسب حمدا أو مدحا وتكون حقّا وصدقا فلا تكره كما قيل لأبى بكر : عتيق ، ولعمر : الفاروق ، ولعثمان : ذو النورين ، ولعلى : أبو تراب ، ولخالد سيف اللّه.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم فى الإيمان واشتهارهم به.
وفى هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين كما تقول بئس الصبوة بعد الشيخوخة أي معها.
(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى اللّه عن نبزه من الألقاب ، أو لمزه إياه ، أو سخريته منه ، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها عقاب اللّه بعصيانهم إياه.(26/135)
ج 26 ، ص : 136
[سورة الحجرات (49) : آية 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
تفسير المفردات
اجتنبوا : أي تباعدوا ، وأصل اجتنبته : كنت منه على جانب ، ثم شاع استعماله فى التباعد اللازم له ، والإثم : الذنب ، والتجسس : البحث عن العورات والمعايب والكشف عما ستره الناس ، والغيبة : ذكر الإنسان بما يكره فى غيبته ،
فقد روى مسلم وأبو داود والترمذي « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : أ تدرون ما الغيبة ؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم ، قال : ذكرك أخاك بما يكره ، قيل : أ فرأيت لو كان فى أخى ما أقول ؟
قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه » .
المعنى الجملي
أدب اللّه عباده المؤمنين بآداب إن تمسكوا بها دامت المودة والوئام بينهم : منها ما تقدم قبل هذا ، ومنها ما ذكره هنا من الأمور العظام التي تزيد توثيق رباط المجتمع الإسلامى قوة وهى :
(1) البعد عن سوء الظن بالناس وتخوّنهم فى كل ما يقولون وما يفعلون ، لأن بعض ذلك قد يكون إثما محضا فليجتنب كثير منه ،
وقد روى عن عمر رضى اللّه عنه أنه قال : ولا تظننّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا ، وأنت تجد لها فى الخير محملا.
(2) البحث عن عورات الناس ومعايبهم.
(3) عدم ذكر بعضهم بعضا بما يكرهون فى غيبتهم ، وقد مثل الشارع المغتاب بآكل لحم الميتة استفظاعا له.(26/136)
ج 26 ، ص : 137
قال قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة ممدودة أن تأكل منها ، كذلك فاكره لحم أخيك وهو حىّ.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) أي يا أيها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين ، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلا ،
ففى الحديث « إن اللّه حرم من المسلم دمه وعرضه ، وأن يظن به ظن السوء » .
ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح ، وأونست منه الأمانة ، أما من يجاهر بالفجور كمن يدخل إلى الخانات أو يصاحب الغواني الفواجر فلا يحرم سوء الظن به.
أخرج البيهقي فى شعب الإيمان عن سعيد بن المسيّب قال : كتب إلىّ بعض إخوانى من أصحاب رسول صلّى اللّه عليه وسلم. أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظننّ بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها فى الخير محملا ، ومن عرّض نفسه للتهم فلا يلومنّ إلا نفسه ، ومن كتم سرّه كانت الخيرة فى يده ، وما كافأت من عصى اللّه تعالى فيك بمثل أن تطيع اللّه فيه ، وعليك بإخوان الصدق فكن فى اكتسابهم ، فإنهم زينة فى الرخاء ، وعدّة عند عظيم البلاء ، ولا تتهاون بالحلف فيهينك اللّه تعالى ، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه ، وعليك بالصدق وإن قتلك ، واعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين ، ولا أمين إلا من خشى اللّه ، وشاور فى أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
ثم علل الأمر باجتناب كثير من الظن بقوله :
(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) أي إن ظن المؤمن بالمؤمن الشرّ إثم ، لأن اللّه قد نهاه عنه ففعله إثم. ونحو الآية قوله : « وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً » .(26/137)
ج 26 ، ص : 138
قال ابن عباس فى الآية : نهى اللّه المؤمن أن يظن بالمؤمن سوءا اه.
ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن نهاهم عن التجسس فقال :
(وَلا تَجَسَّسُوا) أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض ، ولا يبحث عن سرائره يبتغى بذلك الظهور على عيوبه ، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره ، وبه فاحمدوا أو ذموا ، لا على ما تعلمون من الخفايا.
و
فى الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال : « إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد اللّه إخوانا ، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام »
التجسس : البحث عما يكتم عنك ، والتحسس : طلب الأخبار والبحث عنها ، والتناجش :
البيع على بيع غيرك (الزيادة عليه) والتدابر : الهجر والقطيعة.
وعن أبى برزة الأسلمى قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم « يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من اتبع عوراتهم يتبع اللّه عورته ، ومن يتبع اللّه عورته يفضحه فى عقر بيته » .
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضى اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم « ثلاث لازمات لأمتى : الطّيرة والحسد وسوء الظن ، فقال رجل وما يذهبهن يا رسول اللّه ممن هن فيه ؟ قال صلّى اللّه عليه وسلم : إذا حسدت فاستغفر اللّه ، وإذا ظننت فلا تحقّق ، وإذا تطيرت فامض » .
وقال عبد الرحمن بن عوف : حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة ، إذ تبين لنا سراج فى بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة ولغط ، فقال عمر : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب ، فما ترى ؟ قلت : أرى أنا قد أتينا ما نهى اللّه عنه ، قال تعالى : « وَلا تَجَسَّسُوا » وقد تجسسنا ، فانصرف عمر وتركهم.(26/138)
ج 26 ، ص : 139
وقال أبو قلابة : حدّث عمر بن الخطاب أن أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له فى بيته ، فانطلق عمر حتى دخل عليه ، فإذا ليس عنده إلا رجل ، فقال أبو محجن : إن هذا لا يحل لك ، قد نهاك اللّه عن التجسس. فخرج عمر وتركه.
(وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أي ولا يذكر بعضكم بعضا بما يكره فى غيبته ، والمراد بالذكر الذكر صريحا أو إشارة أو نحو ذلك مما يؤدى مؤدى النطق ، لما فى ذلك من أذى المغتاب ، وإيغار الصدور وتفريق شمل الجماعات ، فهى النار تشتعل فلا تبقى ولا تذر ، والمراد بما يكره ما يكره فى دينه أو دنياه أو خلقه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ملبسه أو غير ذلك مما يتعلق به.
قال الحسن : الغيبة ثلاثة أوجه كلها فى كتاب اللّه : الغيبة ، والإفك ، والبهتان.
(1) فأما الغيبة : فهى أن تقول فى أخيك ما هو فيه.
(2) وأما الإفك : فأن تقول فيه ما بلغك عنه.
(3) وأما البهتان : فأن تقول فيه ما ليس فيه.
ولا خلاف بين العلماء فى أن الغيبة من الكبائر وأن على من اغتاب أحدا التوبة إلى اللّه أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه.
وعن شعبة قال : قال لى معاوية بن قرّة : لو مرّ بك رجل أقطع (مقطوع اليد) فقلت هذا أقطع كان غيبة ، قال شعبة فذكرته لأبى إسحاق فقال صدق.
ثم ضرب سبحانه مثلا للغيبة للتنفير والتحذير منها فقال :
(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) أي أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ؟ فإذا كنتم لا تحبون ذلك بل تكرهونه لأن النفس تعافه ، فكذلك فاكرهوا أن تغتابوه فى حياته.
والخلاصة - إنكم كما تكرهون ذلك طبعا فاكرهوا ذلك شرعا لما فيه من شديد العقوبة.(26/139)
ج 26 ، ص : 140
وقد شبهت بأكل اللحم لما فيها من تمزيق الأعراض المشابه لأكل اللحم وتمزيقه ، وقد جاء هذا على نهج العرب فى كلامهم. قال المقنّع الكندي :
فإن أكلوا لحمى وفرت لحومهم وإن هدموا مجدى بنيت لهم مجدا
وقد زادت الآية فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعا.
سمع على بن الحسين رضى اللّه عنهما رجلا يغتاب آخر فقال : إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس ،
وقيل لعمرو بن عبيد : لقد وقع فيك فلان حتى رحمناك ، قال :
إياه فارحموا.
وقال رجل للحسن البصري : بلغني أنك تغتابنى ، فقال : لم يبلغ قدرك عندى أن أحكمك فى حسناتى.
وقد ثبت فى الصحيح من غير وجه أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال حين خطب فى حجة الوداع : « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا » .
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاكرهوا الغيبة ، واتقوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وراقبوه واخشوه.
ثم علل هذا بقوله :
(إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أي إن اللّه يتوب على من تاب إليه عما فرط منه من الذنب ، رحيم به أن يعذبه بعد توبته.
ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه ، بأن يقلع عنها ويندم على ما فرط منه ، ويعزم عزما مؤكدا على ألا يعود إلى مثل ما فرط منه.
ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعا لا يتوصل إليه إلا بها ، وينحصر ذلك فى ستة أمور :(26/140)
ج 26 ، ص : 141
(1) التظلم ، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.
(2) الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
(3) الاستفتاء ، فيجوز للمستفتى أن يقول للمفتى : ظلمنى فلان بكذا فهل يجوز له ذلك.
(4) تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمتصدّين للافتاء مع عدم أهليتهم لذلك ، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج أو مخالطة غيره فى أمر دينى أو دنيوى ويقتصر على ما يكفى ، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين ذكر ذلك.
(5) أن يجاهروا بالفسق كالمدمنين على شرب الخمور وارتياد محالّ الفجور ، ويتباهوا بما يفعلون.
(6) التعريف بلقب أو نحوه ، كالأعور والأعمش ونحو ذلك إذا لم تمكن المعرفة بغيره.
والأمة مجمعة على قبح الغيبة وعظم آثامها مع ولوع الناس بها حتى إن بعضهم ليقولون : هى صابون القلوب ، وإن لها حلاوة كحلاوة التمر ، وضراوة كضراوة الخمر.
[سورة الحجرات (49) : آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
تفسير المفردات
من ذكر وأنثى : أي من آدم وحواء ، قال إسحاق الموصلي :
الناس فى عالم التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حوّاء
فإن يكن لهم فى أصلهم شرف يفاخرون به فالطين والماء(26/141)
ج 26 ، ص : 142
والشعوب : واحدهم شعب (بفتح الشين وسكون العين) وهو الحي العظيم المنتسب إلى أصل واحد كربيعة ومضر ، والقبيلة دونه كبكر من ربيعة ، وتميم من مضر.
وحكى أبو عبيدة أن طبقات النسل التي عليها العرب سبع : الشعب ، ثم القبيلة ، ثم العمارة ، ثم البطن ، ثم الفخذ ، ثم الفصيلة ، ثم العشيرة ، وكل واحد منها يدخل فيما قبله ، فالقبائل تحت الشعوب ، والعمائر تحت القبائل ، والبطون تحت العمائر ، والأفخاذ تحت البطون ، والفصائل تحت الأفخاذ ، والعشائر تحت الفصائل ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة (بفتح العين وكسرها) وقصىّ بطن ، وعبد مناف فخذ ، وهاشم فصيلة ، والعباس عشيرة ، وسمى الشعب شعبا لتشعب القبائل منه كتشعب أغصان الشجرة.
المعنى الجملي
بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن السخرية بالناس والازدراء بهم ، وعن اللمز والتنابز بالألقاب - ذكر هنا ما يؤكد النهى ويؤيد ذلك المنع ، فبين أن الناس جميعا من أب واحد وأمّ واحدة ، فكيف يسخر الأخ من أخيه ؟ إلى أنه تعالى جعلهم شعوبا وقبائل مختلفة ، ليحصل بينهم التعارف والتعاون فى مصالحهم المختلفة ، ولا فضل لواحد على آخر إلا بالتقوى والصلاح وكمال النفس ، لا بالأمور الدنيوية الزائلة.
ذكر أبو داود أن الآية نزلت فى أبى هند وكان حجام النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمر بنى بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : نزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل اللّه عز وجل :
« إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ » الآية.(26/142)
ج 26 ، ص : 143
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ) أي إنا أنشأناكم جميعا من آدم وحواء ، فكيف يسخر بعضكم من بعض ، ويلمز بعضكم بعضا وأنتم إخوة فى النسب ، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه.
وعن أبى مليكة قال : لما كان يوم فتح مكة رقى بلال فأذّن على ظهر الكعبة فقال عتّاب بن أسيد بن أبى العيص : الحمد للّه الذي قبض أبى حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا ، وقال سهيل بن عمرو :
إن يرد اللّه شيئا يغيره ، فأتى جبريل النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وأخبره بما قالوا ، فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا ، فأنزل اللّه الآية زجرا لهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال والازدراء بالفقراء ، وبين أن الفضل بالتقوى.
وروى الطبري قال : « خطب رسول اللّه بمنى فى وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال :
يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربى على عجمى ، ولا لعجمى على عربى ، ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت ؟ قالوا نعم ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب » .
وعن أبى مالك الأشعري قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : « إن اللّه لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ، فمن كان له قلب صالح تحنن اللّه عليه ، وإنما أنتم بنو آدم ، وأحبكم إليه أتقاكم » .
(وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) أي للتعارف لا للتناكر ، واللمز والسخرية والغيبة تفضى إلى ذلك.(26/143)
ج 26 ، ص : 144
ثم ذكر سبب النهى عن التفاخر بالأنساب بقوله : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) أي إن الأكرم عند اللّه الأرفع منزلة لديه عز وجل فى الآخرة والدنيا هو الأتقى ، فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى ، فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها.
روى ابن عمر رضى اللّه عنهما « أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم خطب الناس يوم فتح مكة وهو على راحلته فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل برّ تقى كريم على اللّه ، ورجل فاجر شقى هيّن على اللّه تعالى ، إن اللّه عز وجل يقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ) ثم قال : أقول قولى هذا ، وأستغفر اللّه لى ولكم.
(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي إن اللّه عليم بكم وبأعمالكم ، خبير بباطن أحوالكم ، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم.
[سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)(26/144)
ج 26 ، ص : 145
تفسير المفردات
الأعراب : سكان البادية ، آمنّا : أي صدقنا بما جئت به من الشرائع ، وامتثلنا ما أمرنا به ، فالإيمان هو التصديق بالقلب. أسلمنا : أي انقدنا لك ، ودخلنا فى السّلم وهو ضد الحرب : أي فلسنا حربا للمؤمنين ، ولا عونا للمشركين ، لا يلتكم : أي لا ينقصكم ، يقال : لاته يليته إذا نقصه ، حكى الأصمعى عن أم هشام السلولية « الحمد للّه الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمّه الأصوات » يمنون عليك : أي يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة ، وأسدى إليك نعمة.
المعنى الجملي
بعد أن حثّ الناس على التقوى - وبّخ من فى إيمانه ضعف من الأعراب الذين أظهروا الإسلام وقلوبهم وغلة ، لأنهم كانوا يريدون المغانم وعرض الدنيا ، إذ جاءوا فى سنة مجدبة ، وكانوا يقولون لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم : جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، يريدون بذكر ذلك الصدقة والمنّ على النبي صلّى اللّه عليه وسلم ، فأطلع اللّه نبيه على مكنون ضمائرهم ، وأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا ، وهو الذي وافق القلب فيه اللسان ، وأمرهم أن يقولوا : استسلمنا وخضعنا ، ثم أخبرهم بأنهم إن اتقوا اللّه حق تقاته وفّاهم أجورهم كاملة غير منقوصة ، ثم بين أن من علامة الإيمان الكامل التضحية بالنفس والمال فى سبيل اللّه ببذلهما فى تقوية دعائم الدين وإعلاء شأنه وخضد شوكة العدو بكل السبل الممكنة ، ثم أعقب هذا بأن اللّه يعلم ما هم عليه من إيمان ضعيف(26/145)